المحيط البرهاني في الفقه النعماني

كتاب المناسك
هذا الكتاب يشتمل على عشرين فصلاً.
1 * في بيان شرائط الوجوب.

2 * في بيان ركن الحج، وكيفية وجوبه.
3 * في تعليم أعمال الحج.
4 * في بيان مواقيت الإحرام وما يلزم بمجاوزتها بغير إحرام.
5 * فيما يحرم على المحرم بسبب إحرامه، وما لا يحرم وهو أنواع:
منها في الصيود والدلالة على الصيد، ومنها في المحرم يضطر إلى الصيد، ومنها في المحرم شاركة غيره في فعل المفسد، ومنها لبس المخيط، ومنها في الجماع، ومنها في حلق الشعر والأظفار، ومنها في الدهن والطيب والخضاب.

6 * في صيد الحرم وشجره وحشيشه، وحكم أهل مكة.
7 * في بيان وقت الحج والعمرة.
8 * في الطواف والسعي.
9 * في القارن.
10 * في التمتع.
11 * في الإحصار.
12 * في معرفة فائت الحج، وبيان أحكامه.
13 * في الجمع بين إحرامين.
14 * في الحلق والتقصير.

(2/415)


15 * في الرجل يحج عن آخر.
16 * في الوصية بالحج.
17 * في إحرام المرأة والمماليك.
18 * في التزام الحج والتزام الهدي والبدن، وما يتصل بذلك.
19 * في الخطأ في الوقوف بعرفة، والشهادة فيه.
20 * في المتفرقات.

(2/416)


الفصل الأول: في بيان شرائط الوجوب
شرائط وجوب الحج: العقل، والبلوغ، والحرية، والاستطاعة، وتكلموا في تفسير الاستطاعة.
قال أبو حنيفة رحمه الله في «ظاهر الرواية» : تفسيرها ملائمة البدن وملك الزاد والراحلة، وهو رواية عن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.
وقال أبو يوسف ومحمد في «ظاهر الرواية» : تفسيرها ملك الزاد والراحلة لا غير، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله، حتى إن في «ظاهر الرواية» عن أبي حنيفة رحمه الله: لا يجب الحج على الزّمِن، والمفلوج، والمقطوع الرجلين، وإن ملكوا الزاد والراحلة وهو رواية عنهما، وفي ظاهر روايتهما يجب الحج على هؤلاء، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة إذا كان ملكه من الزاد والراحلة قدر ما يحج به، ويحج معه من يرفعه ويقوده إلى المناسك وإلى حاجته، وفائدة هذا الخلاف إنما تظهر فيما إذا ملك هؤلاء الزاد والراحلة، ففي ظاهر رواية أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يجب عليهم الإحجاج بمالهم؛ لأن الإحجاج بالمال بدل عن الحج بالبدن ولم يجب (167ب1) عليهم الحج بالبدن لمكان العجز فكيف يجب عليهم البدل؟ وفي ظاهر روايتهما يجب؛ لأنه لزمهم الأصل وهو الحج بالبدن في الذمة، وقد عجزوا عنه فيلزمهم البدل.

ولو ملك الزاد والراحلة وهو صحيح البدن فلم يحج حتى صار زمناً أو مفلوجاً، لزمه الإحجاج بالمال بلا خلاف؛ لأن الحج قد لزمه في الذمة بلا خلاف لوجود الشرط، وهو الاستطاعة، وقد وقع العجز عن الأداء بنفسه فيلزمه البدل.
وأما الأعمى إذا وجد الزاد والراحلة ولم يجد قائداً يقوده، أجمعوا على أنه لا يلزمه الأداء بنفسه.
وهل يلزمه الإحجاج بالمال؟ فهو على الخلاف بين أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله.
وفي «المنتقى» : عن أبي عاصم قال: سمعت أبا عصمة الكبير قال: سمعت إبراهيم بن رستم وأبا سليمان في المرأة والأعمى لهما مال ليس لهما من يخرجهما إلى الحج قال أحدهما عن محمد: الحج واجب عليهما ويستأجر الأعمى من يخرجه ويقود المرأة المحرم حتى يخرجها، وقال الآخر: ليس عليها حج، وإذا وجد الأعمى قائداً يقوده إلى الحج ووجد مؤنة القائد فعلى قول أبي حنيفة في المشهور لا يلزمه على قياس الجمعة،

وذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» أنه يلزم الحج عنده، فأما على قولهما فقد ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» أن على قياس قولهما في الجمعة يلزمه، وهكذا ذكره

(2/417)


ابن سماعة في «نوادره» عن محمد، قال محمد في رواية ابن سماعة: ولا يشبه الأعمى عندي المقعد والذي يفسده الريح حتى لا يستطيع القيام؛ لأن الأعمى هو الذي يقوم ويقعد ويمشي، وإنما هو بمنزلة رجل لا: يعرف الطريق، فيحتاج إلى مرشد يدله عليه.
قال: والحاصل من قول محمد في حق أهل الآفات إنَّ كل من كان من أهل آفة يعمل مع ذلك الآفة إلا أنه يحتاج إلى معونة لو وجد تلك المعونة، فعليه الجمعة والجماعة والحج، وكل من كان من أهل آفة لا يقدر أن يجد تلك ويقوم ويمشي وإن أُعِين على ذلك حتى يحمل ويوضع، فليس عليه جمعة ولا جماعة ولا حج.

وذكر القدوري في «شرحه» : أن في وجوب الحج عليهما في هذه الصورة روايتان: فعلى إحدى الروايتين يحتاجان إلى الفرق بين الجمعة والحج، والفرق: أن القدرة على أداء الحج بالغير نادر، فلم يعتبر، والقدرة على أداء الجمعة بالغير ليس بنادر، فجاز أن يعتبر.
وإن كان صحيح البدن إلا أنه لا يملك الزاد والراحلة لكن بذل له غيره الزاد والراحلة في طريق الحج، ومعناه أنه أباح له ذلك غيره لا تثبت الاستطاعة به عندنا، وكان الكرخي يقول: إنما تشترط الراحلة في حق من بَعُد عن مكة، فأما أهل مكة ومن حولها لا تشترط الراحلة في حقهم، ثم المراد من الاستطاعة بملك الزاد والراحلة أن يكون عنده مال فاضل عن حوائجه الأصلية قدر ما يشتري أو يكري به شقّ محمل أو راحلة، وقدر نفقته ونفقة عياله مدة ذهابه ومجيئه من غير سرف ولا تقتير، وكان الشيخ أبو عبد الله الجرجاني يقول: وأن يكون عنده قدر نفقة يوم بعدما رجع إلى وطنه؛ لأنه بعدما رجع إلى وطنه لا يمكنه أن يشتغل بالكسب لنفقة يومه، وعن أبي يوسف أنه شرط نفقة شهر بعد رجوعه.
وفي «الأصل» : إذا كان له دار يسكنها، وعبد يستخدمه وثياب يلبسها، ومتاع يحتاج إليه، لا تثبت به الاستطاعة، وذكر القدوري في «شرحه» : إذا كان له دار لا يسكنها وعبد لا يستخدمه، فعليه أن يبيعه ويحج به، وكل ذلك يشير إلى اعتبار الفراغ عن الحاجة الأصلية.
وفي «القدوري» أيضاً: إذا كان له منزل يسكنه، ويمكنه أن يبيع ويشتري بثمنه منزلاً دون منه، ويحج بالفضل لم يلزمه ذلك، لأنه محتاج إلى منزله للسكنى، ولا يعتبر في الحاجة قدر ما لا بد منه، ألا ترى أنه لا يلزمه بيع المنزل والاقتصار على السكنى؟

وفي «المنتقى» بشر بن الوليد عن أبي يوسف في «الأمالي» إذ كان له مسكن وخادم، وكفاف من ملبس ومتاع لنفسه وعياله فوق شهر أو سنة، وأي ذلك باع كان فيه جهاز للحج، فليس عليه حج إلا أن يكون في شيء من ذلك فضل على الكفاف ويبلغه إلى الحج، ولو لم يكن له مسكن ولا شيء من ذلك، وعنده دراهم تبلغه الحج، وتبلغه من مسكن وخادم وطعام وقوت كان عليه أن يحج، وإن جعلها في غير الحج أثم، فإن كان ذلك قبل شهر الحج وقبل أن يخرج أهل بلده إلى الحج، فهو في سعة من صرفها إلى أي الأصناف التي سمّينا إن شاء.

(2/418)


قالوا في كتب الفقه: إذا كانت لفقيه وهو يحتاج إلى استعمالها أنه لا تثبت بها الاستطاعة، وإن كان لجاهل تثبت الاستطاعة وإذا كان كتب الطب والنجوم، ثبتت له الاستطاعة سواء كان يحتاج إلى استعماله والنظر فيه، أو لا يحتاج.
وحكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله أنه كان يقول: اختلف الناس في وجوب الحج على الرجل إذا كان عنده طعام، قال بعضهم: إذا كان عنده طعام سنة فهو فقير، ولا يلزمه الحج؛ لأن هذا القدر من الطعام مباح له إمساكه، وإن كان أكثر فهو من المحتكرين، وعليه الحج، وقال بعضهم: إذا كان عنده قوت شهر، فهو فقير لا يلزمه الحج، وإن كان أكثر من ذلك فهو غني، ويلزمه الحج.

وأما أمن الطريق، فقد روى أبو شجاع عن أبي حنيفة أنه من جملة الاستطاعة لا يثبت الوجوب بدونه كالزاد والراحلة، ومن أصحابنا من جعله شرط الأداء، وثمرة الخلاف إنما تظهر في حق وجوب الوصية بالحج، فمن جعله شرط الوجوب قال: لا تجب عليه الوصية، ومن جعله شرط الأداء يقول: تجب عليه الوصية.

وجه من جعله شرط الوجوب ظاهر أنه لا وصول إلى الحج إلا بأمن الطريق، كما لا وصول إليه إلا بالزاد والراحلة، ومن جعله شرط الأداء، وهو الفرق بين الزاد والراحلة أن بالزاد والراحلة (168أ1) يثبت التمكن من الأداء، فلا تثبت الاسطتاعة بدونهما، فأما خوف الطريق مبني بعجزهما عن الأداء، فهو في معنى المعارض والمانع، فلا تنعدم به الاستطاعة يعتبر هذا بالمحسوسات، فإن المقيد الممنوع عن المشي لا يكون نظير المريض الذي لا يقدر.
والمحرم في حق المرأة شرط، شابة كانت أو عجوزاً إذا كان بينها وبين مكة مسيرة ثلاثة أيام، واختلفوا في كون المحرم شرط الوجوب، أو شرط الأداء حسب اختلافهم في أمن الطريق، والمحرم: الزوج، ومن لا يجوز له مناكحتها على التأبيد برضاع أو صهريه؛ لأن المقصود من المحرم الحفظ؛ لأن النساء عرضة للفتنة، والزوج يحفظها، وكذا سائر محارمها يحفظونها، ولا يطمع فيها إذا لم تجز له مناكحتها على التأبيد، والحر والعبد والمسلم والذمي سواء؛ لأن كل ذي دين يقوم بحفظ محارمه، ولا يطمع فيها إذا لم تجز له مناكحتها على التأبيد.
قال القدوري في «شرحه» : إلا أن يكون مجوسياً يعتقد إباحة المناكحة، فلا تسافر معه؛ لأنه لا ينقطع طمعه عنها، ولهذا لا يجوز لها أن تخلو به، فكذا لا يجوز لها أن تسافر معه؛
قال القدوري أيضاً: وكذا المسلم إذا لم يكن مأموناً لا تسافر معه؛ لأن ما هو الغرض من المحرم لا يحصل به، والصبي الذي لم يحتلم لا غيرة له، وكذا المجنون الذي لا يفيق؛ لأن ما هو المقصود من المحرم وهو الحفظ لا يحصل بهما، ولا يجب عليها أن تتزوج إذا لم يكن لها زوج.
وإذا وجدت محرماً، ولا يأذن لها زوجها أن تخرج، فلها أن تخرج بغير إذنه في حجة الإسلام دون التطوع؛ لأن حق الزوج لا يظهر في العبادات المفروضة.

(2/419)


حكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله في المرأة القادرة على نفقة نفسها ونفقة المحرم أن الحج يفرض عليها، واضطربت الروايات عن محمد في هذا، وأكثر المتأخرين على أنها إن وجدت محرماً لا يكون عليها نفقته يفترض عليه الحج، وإلا فلا.

الفصل الثاني: في بيان ركن الحج وكيفية وجوبه
فنقول: ركن الحج شيئان: الوقوف بعرفة، وطواف الزيارة إلا أن الوقوف بعرفة في الركنية فوق طواف الزيارة؛ لأن الوقوف يؤدى في حال قيام الإحرام من كل وجه، والطواف يؤدى حال قيام الإحرام من وجه؛ لأنه يؤدى بعد الحلق، وقد حصل التحلل بالحلق عن جميع المحظورات إلا النساء، ولأجل ذلك قلنا: إذا جامع قبل الوقوف بعرفة فسد حجه، وعليه القضاء، ولو جامع بعد الوقوف بعرفة قبل طواف الزيارة لا يفسد حجه، ولا قضاء عليه.
وأما كيفية وجوبه، فنقول: ذكر الحسن الكرخي رحمه الله أنه يجب على الفور ولا يجوز التأخير عن أول أوقات الإمكان، وهذا قول أبي يوسف روى عنه بشر والمعلى، قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهو قول أبي حنيفة رحمه الله في أصح الروايتين.
وقال محمد: يجب على التراخي، وهو قول الشافعي.
محمد احتج بتأخير رسول الله عليه السلام الحج من غير عذر، بيانه: فيما روي أن فرضية الحج نزلت في سنة ثلاث من الهجرة ورسول الله حج سنة عشر، وما كان به عذر. وأبو يوسف يحمل ذلك على العذر التأخير بعذر جائز.

الفصل الثالث: في تعليم أعمال الحج
في «المنتقى» روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله: الأحسن للحاج أن يبدأ بمكة فإذا قضى نسكه أتى المدينة، قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذ أراد الرجل الإحرام ينبغي له أن ينوي بقلبه الحج والعمرة أيَّ ذلك أراد الإحرام له، ويلبي ولا يصير داخلاً في الحرام بمجرد النية، ولم يضم إليها التلبية، أو يسوق هدياً.

واعلم بأن الروايات قد اختلفت في هذا الفصل في رواية ابن سماعة بمجرد النية، لا يصير محرماً إلا أن يلبي أو يكبر أو يذكر الله، يريد به الإحرام.
وفي رواية أخرى عنه: أنَّ بتقليد الهدي والسوق والتوجه معه يصير محرماً كما يصير محرماً بالتلبية وبذكر الله تعالى، وروى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف أن من نوى الدخول في الإحرام، فهو محرم.

(2/420)


وذكر هذه الروايات في الباب الرابع من حج «المنتقى» ، وفي باب الخامس من حج «المنتقى» داود بن رشيد عن محمد رجل خرج يريد الحج، فأحرم لا ينوي شيئاً، فهو حج بناءً على أن العبادات لصيرورته سابقة عليها جائز، وهذه المسألة دليل على أن التلبية والذكر ليس بشرط لصيرورته محرماً.
وفي هذا الباب أيضاً الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: رجل أتى الحج، وهو يريد العمرة وأتى بالعمرة وهو يريد الحج فهو كان ما نواه، وإن قال: لبيك بحجة وهو ينوي الحج والعمرة كان قارناً، وفي المسألة إشكال من وجهين:
أحدهما: أنه اعتبر النية، ولم يعتبر اللفظ. والثاني: أن الحج في قوله: لبيك بحجة يكره في موضع الإثبات، فكيف جعله قارناً إذا نوى الحج والعمرة جميعاً؟ الجواب.
أما الأول: قلنا: الحج اسم لزيارة أماكن مخصوصة قصد الزائر تعظيمها، والعمرة كذلك، فإنها تسمى حجة صغرى، فالمنوي من محتملات اللفظ، فيكون هذا اعتبار اللفظ فيما يحتمله اللفظ لاعتبار النية بانفرادها.

وأما الثاني قلنا: القارن حاج كما أن المفرد حاج لكن القارن حاج بأبلغ جهات الحج، ففي الحقيقة هذا يرجع إلى صيغة الملتزم، ولا يرجع إلى العموم، والإحرام (168ب1) عندنا شرط جواز الحج حتى جاز تقديمه على أشهر الحج؛ لأن تقديم شرط العبادات على أوقاتها جائز، كتقديم الطهارة على وقت الصلاة، والمحرمون أنواع أربعة:
مفرد بالحج، ومفرد بالعمرة، وقارن، ومتمتع.
فالمفرد بالحج: أن يحرم بالحج من الميقات، أو قبل الميقات في أشهر الحج، أو غير أشهر الحج، ويذكر الحج بلسانه عند التلبية مع القصد بالقلب، ويقول: لبيك بحجة، أو ينوي الحج بقلبه، ولا يذكر بلسانه، والذكر باللسان أفضل، وركنه الوقوف بعرفة من وقت الزوال يوم عرفة، وطواف الزيارة يوم النحر، وواجباته أربعة: الوقوف بمزدلفة، ورمي الجمار، والسعي بين الصفا والمروة، وطواف الصدر.
وأما المفرد بالعمرة، فإنه يحرم للعمرة من الميقات أو قبل الميقات في أشهر الحج، ويذكر العمرة بلسانه عند التلبية مع القصد بالقلب، فيقول: لبيك بعمرة، أو يقصد العمرة بقلبه ولا يذكرها بلسانه، والذكر باللسان أفضل، وركنه الطواف، وواجبه السعي بين الصفا والمروة.
وأما القارن أن يحرم بالحج والعمرة معاً، ويذكرهما بلسانه عند التلبية مع القصد بالقلب، فيقول: لبيك بحجة وعمرة، أو يقصدهما بالقلب، ولا يذكرهما بلسانه، والذكر باللسان أفضل، فإذا لبى على هذا الوجه يصير محرماً بإحرامين، فيعتمر في أشهر الحج، أو قبله ويحج من عامه ذلك.
أما المتمتع: فهو أن يحرم بالعمرة من الميقات، أو قبله في أشهر الحج، أو قبله ويعتمر، ويحرم للحج، ويحج من عامه ذلك من غير أن يلم بأهله إلماماً صحيحاً، وسيأتي بيان المواقيت بعد هذا إن شاء الله تعالى.

(2/421)


ويستحب لمن أراد الإحرام أن يقص شاربه وأظفاره، ثم يغتسل أو يتوضأ، والغسل أفضل، فقد صح «أن رسول الله عليه السلام اغتسل» وهذا الاغتسال للنظافة، وليس بواجب، ويلبس ثوبين جديدين أو غسيلين إزار ورداء؛ لأنه منهي عن لبس المخيط، ولا بد من ستر العورة مما يحصل به دفع الحر والبرد،

وإذا لبس إزار ورداء، فقد حصل ستر العورة ودفع الحر والبرد، وقد صح برواية جابر وأبي بريدة رضي الله عنهما «أن رسول الله عليه السلام أحرم ولبس إزاراً ورداء» ، غير أن الجديد أفضل لقوله عليه السلام لأبي ذر «تزين لعبادة ربك» وبالإزار يحصل ستر العورة، ويدهن شاربه؛ لأن الغالب من أحوال أهل الحجاز الحرارة والنتونة والدهن يزيل ذلك، ويتطيب بأي طيب شاء في المشهور، وروي عن محمد أنه لا يتطيب بطيب تبقى عينه بعد الإحرام بأن يلطخ رأسه أو جبهته بالغالية أو المسك،
والصحيح ما ذكر في المشهور لحديث عائشة رضي الله عنها، فإنها قالت: «كنت أطيب رسول الله عليه السلام؛ لإحرامه قبل أن يحرم» لأن الحج أمر مهم، ومن قصد أمراً مهماً يطلب التيسير من الله تعالى، ثم يلبي في دبر صلاته، وإن شاء بعدما يستوي بعيره، والأفضل أن يلبي بعد صلاته، ثم يصلي ركعتين، ويقرأ فيها بما شاء، وإن قرأ في الركعة الأولى بفاتحة الكتاب و «قل يا أيها الكافرون» ، وفي الركعة الثانية بفاتحة الكتاب و «قل هو الله أحد» تبركاً بفعل رسول الله عليه السلام، فهو أفضل.
ثم إذا فرغ من صلاته يطلب من الله التيسير، فيدعو: «اللهم، إني أريد الحج، فيسره لي وتقبله مني» من قبل أن يزور بالبيت ذكرت الطيب مطلقاً من غير فصل.

وصفة التلبية أن يقول: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، وروي عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما أن «النبي لبى كذلك» ، وقوله إن الحمد والنعمة لك مروي بفتح الألف حتى روي أنه كان ينشد في حرمه شعر وبين يائسين سام.... إن تصديق الطير قل ... فقلى له أثر....

(2/422)


ى وأنت محرم فقال إنما أ.... النساء مروي بفتح الألف وبكسرها، وبالكسر أصح لأنه ابتداء الذكر قال الكرخي: يأتي بها ولا ينقص؛ لأن التعيين وجد.... إن لم يوجد.... إن لم يوجد قضاء؛ لأن الظاهر أن الإنسان لا يتحمل المشقة العظيمة للتنقل إذا كان عليه حجة الإسلام والتعين النهاية قضاء سواء على ما عرف ههنا؛ لأن النبي عليه السلام أتى بها وإن زاد عليها فهو حسن، فإذا لبى ونوى بقلبه يصير محرماً.
قال القدوري في «شرحه» : ويصير داخلاً في الإحرام بكل ذكر يحصل به التعظيم سواء كان بالعربية أو بالفارسية، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: لا يصير داخلاً في الإحرام إلا بالتلبية، فقد فرّق محمد رحمه الله بين الصلاة والإحرام، فقيد بالعربية ثمة، ولم يقيد بالعربية ههنا؛ لأن باب الحج أوسع.
ألا يرى أن غير الذكر، وتقليد الهدي يقام مقام الذكر، فكذا غير العربية يقام مقام العربية بخلاف الصلاة؟ وإذا أتى ينوي الإحرام، ولم تحضره نية في حج أو عمرة مضى في أيهما شاء ما لم يطف بالبيت، فإذا طاف بالبيت شوطاً واحداً كان إحرامه إحرام عمرة؛ لأن طواف العمرة ركن، وطواف التحية في الحج ليس بركن، ولا معارضة بين الركن وغير الركن.
ومن كان عليه حجة الإسلام، فأحرم بحجة لا ينويها فريضة ولا تطوعاً، فهي عن حجة الإسلام استحساناً، وهو المراد من النسيء المذكور في قوله: {إنما النسيء زيادة في الكفر} (التوبة: 37) .

ثم إذا صار محرماً يتقي ما نهى الله عنه من الرفث والفسوق والجدال في قوله: {فلا رفث ولا فسوق لا جدال في الحج} (البقرة: 197) واختلفوا في تفسير الرفث المذكور ههنا، بعضهم قالوا: إنه الجماع، وبعضهم قالوا: الكلام الفاحش، وهو الذي فيه الكلام عن الجماع. غير أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يقول: «الكلام الفاحش رفث بحضرة النساء» (من عيتهن للصلاة، لتكبير التشريق، فقلنا: الأفضل أن يلبي بعد صلاته؛ لأن التلبية ذكر فيسن له أوقاتها وما أتى بها إلا في مصلاه وأخذ بالرواية ابن عباس ذلك قوم آخرون، فظنوا (169أ1) أنه أول تلبيته فتتلوا، وأيم الله وظنوا أنه أول تلبيته فيقبلوها، ثم أتى حين علا البيداء، فسمع ذلك القوم في دبر صلاته، فسمع قوم من أصحابه فيقبلوا، وكان القوم الله عليهم وأخذه، فقال لبى رسول الله عليه السلام اختلف الناس في وقت تلبية رسول الله عليه السلام ورسول البيداء) ، قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس كيف لبى «حين استوت به راحلته» وعن جابر «أنه لبى

(2/423)


حين علا» ، وروى ابن عباس أنه لبى بعدما صلى، وعن عمر رضي الله عنه، وروى ابن عباس، واختلفت الرواية في وقت التلبية من رسول الله صلى الله عليه وسلّم
والفسوق المعاصي وإنه منهي عنه في الإحرام وغيره إلا أن الحرمة في الإحرام أشد.
فأما الجدال فقد قيل: المراد منه المخاصمة مع رفيقه بسبب كأنه السفر وضيق الصدر، وقيل: المراد المجادلة مع المشركين في تحرمة العباد في التقديم والتأخير في أشهر الحج، وذلك لأن العرب في الجاهلية كانوا يحجون في ذي الحجة إذا فرغوا، وإذا لم يفرغوا أخّروه وحجوا عاماً في صفر وعاماً في شهر ربيع الأول، وهو المراد من النسيء المذكور في قوله: {إنما النسيء زيادة في الكفر} (التوبة: 37) ، فلما حج رسول الله عليه السلام في شهر ذي الحجة استقر الوقت وحرم المجادلة فيه، وههنا أشياء أخر يأتي بيانها في الفصل الذي يلي هذا الفصل.
h

ويكثر من التلبية ما استطاع في أدبار الصلوات، وكلما لقي ركباً علا شرفاً أو هبط وادياً وبالأسحار وحين يستيقظ من منامه، ثم يتوجه نحو مكة.
وإذا ركب البعير يقول: باسم الله وبالله الحمد لله الذي هدانا للإسلام، ومنَّ علينا بمحمد عليه السلام، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون.
وإذا دخل الحرم يقول: اللهم هذا البيت بيتك والحرم حرمك والعبد عبدك، فوفقني لما تحب وترضى، وإذا وقع بصره على البيت يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام وإليك يرجع السلام جئنا يا ربنا بالسلام اللهم زد بيتك تعظيماً وتشريفاً ومهابة، وزد من عظمه ممن حج واعتمر تعظيماً ومهابة، ويبدأ بالحجر الأسود، فيستلمه، والاستلام أن يضع كفيه على الحجر ويقبله، يفعل ذلك إن أمكنه من غير أن يؤذي أحداً، ويقول عند الاستلام: بسم الله الرحمن الرحيم اللهم اغفر لي ذنوبي، وطهر لي قلبي، واشرح لي صدري ويسر لي أمري، وعافني فيمن عافيته. وإن لم يقدر على الاستلام والتقبيل من غير إيذاء أحد لا يستلمه، ولا يقبله بل يستقبله، ويشير إليه بباطن كفه، ويكبر ويهلل، فيقول: الله أكبر الله أكبر اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك، ووفاءً بعهدك، واتباعاً لسنّتك وسنّة نبيك، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، آمنت بالله، وكفرت بالجبت والطاغوت.
وإن أمكنه الاستلام من غير إيذاء أحد، ولكن لم يمكنه التقبيل من غير ذلك لا يقبله، بل يستلمه، ويقبل يديه، ثم يأخذ من يمينه على باب الكعبة، ويطوف بالبيت سبعة

(2/424)


أشواط كل شوط من الحجر إلى الحجر، فهذا الطواف يسمى طواف التحية، وله أسامي أخرى يأتي بعدها إن شاء الله تعالى، ويرمل في هذا الطواف في الثلاث الأول ويمشي على هينته في الأربع.

وفسّر الرمل بأن يسرع في المشي ويتبختر كهيئة مشية المبارز يتبختر بين الصفين، ويكون الرمل من الحجر إلى الحجر، وكلما انتهى إلى الحجر الأسود استلمه، وينبغي أن يكون طوافه من وراء الحطيم؛ لأن الواجب هو الطواف حول البيت والحطيم من البيت وجعلت له بابين باباً شرقياً للبيت (والعنت القبعة بالباب الله عليه، وأوصلت الحطيم في وأظهرت قواعد الخليل صلوات ببناء الكعبة البيت، ولو لأحد ثان عمد قومك قد لهم وأخرجوه من وقال صلي؟ فإن الحطيم من البيت) ، إلا أن أخذ رسول الله عليه السلام يدها وأدخلها الحطيم ركعتي إن فتح الله تعالى مكة على رسوله، فبعد الفتح بدليل ما روي عن عائشة رضي الله عنها «نذرت أن تصلي في البيت» وإن زحمه الناس في الرمل قام جانباً، فإن وجد فرجة رمل.
ولم يذكر محمد رحمه الله في «الأصل» استلام الركن اليماني في الطواف، وذكر الكرخي في «مختصره» ، ويستلم الركن اليماني.
وذكر هشام في «نوادره» عن محمد: أن الركن اليماني في الاستلام والتقبيل كالحجر الأسود، وعن أبي حنيفة رحمه الله في «المجرد» أن استلامه حسن وتركه لا يضره، ثم إن محمداً رحمه الله ذكر في «الأصل» أنه يفتح الطواف من غيره وباباً غربياً هل يجزئه؟
وقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا يجزئه، وهكذا ذكر في «الرقيات» والمذكور في «الرقيات» : لو افتتح الطواف من الركن اليماني، وختم به لا يجوز، وعامة المشايخ على أنه يجوز؛ لأن المأمور به هو الطواف بالبيت، وقد طاف بالبيت ذكر في بعض المواضع أن الطائف يقول في طوافه: اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر والذل، وموقف الخزي في الدنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
في «المنتقى» روى الفهر الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قال: لا ينبغي للرجل أن يقرأ في طوافه، ولا بأس بذكر الله تعالى،

فإذا فرغ من الطواف أتى مقام إبراهيم، ويصلي ركعتين، وإن لم يقدر على الصلاة

(2/425)


في المقام بسبب الزحمة يصلي حيث تيسر له عليه من المسجد، وهاتان ركعتان واجبتان عندنا قال عليه السلام: «ويصلي الطائف كل أسبوع ركعتين» ويقرأ في الركعة الأولى {قل يا أيها الكافرون} ، وفي الركعة الثانية {قل هو اأحد} تبركاً بفعل رسول الله فإذا فرغ من الصلاة يدعو للمؤمنين والمؤمنات، ثم يقول: اللهم وفقني لما تحب وترضى، وجنبني ما تسخط وتكره وثبتني على ملة حبيبك وخليلك عليهما السلام، ثم يعود إلى الحجر بعد ركعتي الطواف.
أما كل طواف ليس بعده سعي، فلا عود (169ب1) فيه إلى استلام الحجر، ويدعو تحت الميزاب: اللهم أظلني تحت ظلك يوم لا ظل إلا ظلك لا إله غيرك يا أرحم الراحمين، ثم يخرج إلى الصفا من أي باب شاء، ويصعده ويستقبل البيت، ويحمد الله تعالى ويثني عليه ويصلي على النبي عليه السلام، ويكبر ويهلل، ويدعو الله لخاصته ويلبي.
وقد روى جابر أن النبي عليه السلام لما صعد الصفا استقبل البيت، وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده» ، ثم ينزل من الصفا ويتوجه نحو المروة ويقول: اللهم استعملني لسنّة نبيك وتوفني على ملة رسولك، وأعذني من معضلات الفتن برحمتك يا أرحم الراحمين، ويمشي على هينته حتى يصل إلى بطن الوادي، فإذا وصل إليه سعى بين الميلين الأخضرين، ويقول في سعيه: «رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم اهدني للتي هي أقوم، فإنك تعلم وأنا لا أعلم» ، فإذا جاوز بطن الوادي يمشي على هينته حتى يأتي المروة ويصعدها، ويستقبل البيت ويقول مثل ما قال على الصفا، ثم ينزل من المروة، ويتوجه إلى الصفا.

يطوف هكذا بينهما سبعة أشواط يسعى بين الميلين الأخضرين كل شوط، اتفق على هذا رواة نسك رسول الله، وإن لم يقف على الصفا والمروة يجزئه سعيه رواه عيسى بن أبان عن محمد.
وعنه أيضاً: لو ابتدأ السعي من الصفا، وسعى حتى إذا بقي بينه وبين المروة مقدار ثلاثة رجع إلى الصفا حتى سعى هكذا بين الصفا والمروة سبع مرات، ثم رجع إلى أهله لم يكن عليه دم، قال: لأنه طاف الأكثر، وعليه صدقة يتصدقها، والسعي بين الصفا والمروة عندنا واجب وليس بركن، حتى لو ترك يقوم الدم مقامه، ويتحلل عن جهة النساء بدونه لحديث جابر «أن النبي عليه السلام طاف بينهما سبعة أشواط، بدأ بالصفا، وختم بالمروة» أي بدأ بالشوط الأول بالصفا وختم بالمروة الشوط السابع بالمروة؛ لأنه ذكر

(2/426)


بداية واحدة وختماً واحداً لجميع السبعة، ولم يقل: بدأ بالصفا وختم بالمروة في كل مرة، وإنما يستقيم ذكر بداية واحدة، وختم واحد لجميع السبعة إذا اعتبرنا بالذهاب من الصفا إلى المروة شوطاً، والرجوع من المروة إلى الصفا شوطاً.
ثم لا خلاف بين أصحابنا أن الذهاب من الصفا إلى المروة شوط محسوب من أشواط السبعة، أما الرجوع من المروة إلى الصفا هل هو شوط؟ لم يذكر محمد هذا الفصل في «الكتاب» نصاً، ولكن أشار إلى أنه شوط آخر.
وقال الطحاوي: لا يعتبر الرجوع من المروة إلى الصفا شوطاً آخر، والصحيح ما أشار إليه في «الكتاب» ، ثم إذا فرغ من ذلك يقيم بمكة حراماً حتى يجيء يوم التروية يطوف بالبيت كلما بدا له، ويصلي لكل أسبوع ركعتين، ولكن لا يسعى عقيب سائر الأطواف في هذه المدة، ثم إذا جاء يوم التروية خرج من مكة بعدما طلعت الشمس.

روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله: إذا صلى الصلاة بمنى غدا إلى عرفة، ونزل به في أي موضع شاء، إلا أنه لا ينزل على الطريق كيلا يضر بالمارة، وينتظر زوال الشمس، فإذا زالت الشمس يصعد الإمام المنبر، ويجلس ويؤذن، ويخطب الإمام خطبتين بينهما جلسة خفيفة، فإذا فرغ من الخطبة يقيم المؤذن، ويصلي الإمام بالناس الظهر ركعتين إن كان مسافراً، ثم يقوم المؤذن، ويقيم ثانياً، ويصلي الإمام بهم العصر في وقت الظهر من غير أن يشتغل بالنافلة بين الصلاتين يعني غير سنّة الظهر، وإنما قدمنا الخطبة على الصلاة ههنا؛ لأن المقصود من الخطبة ههنا تعليم الناس المناسك.
ومن جملة المناسك الجمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر، وإذا اشتغل بالنافلة بين الصلاتين يعيد الأذان للعصر، إلا رواية شاذة عن محمد.
وإن لم يدرك الجمع مع الإمام الأكبر، فأراد أن يصلي وحده في رحله أو بجماعة بدون الإمام الأكبر صلى كل صلاة في وقتها عند أبي حنيفة.
وقال أبو يوسف ومحمد: كما فعل مع الإمام الأكبر، فالحاصل أن عند أبي حنيفة شَرْط جواز الجمع بين صلاة الظهر والعصر في وقت الظهر يوم عرفة إحرام الحج، والإمام الأكبر، وعندها إحرام الحج لا غير.
وههنا فصل لا بد من معرفته أن إمام مكة إمام الحاج في صلاة الظهر والعصر، فإن كان مقيماً يصلي بهم صلاة المقيمين، ويصلي العصر في وقت الظهر، والإمام عند أبي حنيفة رحمه الله شرط جواز الجمع، أما القصر ليس بشرط جواز الجمع، وإن كان مسافراً يصلي صلاة المسافرين، ويقول لأهل مكة: أتموا صلاتكم يا أهل مكة، ولا يجوز للإمام بمكة أن يقصر الصلاة؛ إذا لم يكن مسافراً، ولا للحجاج أن يقتدوا به إذا كان يقصر الصلاة لأنه إذا لم يكن مسافراً كانت صلاته أربعاً، والمسافر إذا اقتدى بالمقيم يصير فرضه أربعاً، فإذا قصروا لا تجوز صلاتهم.

قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: كان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يقول: العجب من أهل الموقف أنهم يتابعون إمام مكة في قصر

(2/427)


الظهر والعصر بعرفات، وبينهم وبين مكة فرسخات، ثم يقفون للدعاء فأنى يستجاب لهم، وأنى يرجى لهم الخير وصلاتهم غير جائزة، قال شمس الأئمة هذا: كنت مع أهل الموقف، فاعتزلت وصليت كل صلاة في وقتها كما هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وأوصيت بذلك أصحابي وإخواني والجهال كانوا يقصرون معه، وقد سمعت أن إمام مكة يتكلف كذلك، ويخرج مسيرة السفر، ثم يأتي عرفات ويقصر بهم، لو كان هكذا كان القصر جائزاً، ولو كان بخلافه لا يجوز، فيجب الاحتياط فيه.
ثم إذا فرغ من العصر راح إلى موقف، ويقف في أي مكان شاء إلا بطن عرنة لقوله عليه السلام «عرفات كلها موقف إلا بطن عرنة» (170أ1) . والأفضل أن يقف الإمام، ويقف بأي صفة شاء، والأفضل أن يقف راكباً، ويقف بمستقبل القبلة، ويحمد الله تعالى، ويهلل ويصلي على النبي عليه السلام، ويدعو الله لحاجته رافعاً يديه نحو السماء، فقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «قال رسول الله عليه السلام واقفاً بعرفات يدعو رافعاً يديه» الحديث، كالمستطعم المسكين، وليكن عامة دعائه بعرفات لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير، وهو على كل شيءٍ قدير، لا نعبد إلا إياه، ولا نعرف ما سواه، اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، اللهم اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، اللهم هذا مقام المستجير العائذ من النار أجرني من النار بعفوك، وأدخلني الجنة برحمتك، اللهم إذا هديتني للإسلام، فلا تنزعه عني حتى تقبضني وأنا عليه.

ويلبي في هذا الموقف عندنا، فقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه «أنه لبى في هذا الموقف، فقيل له: ليس هذا موضع التلبية، فقال: أجهل الناس أم طال بهم العهد لبيك عدد التراب لبيك، حججت مع رسول الله عليه السلام، فما زال يلبي حتى أتى جمرة العقبة» والأفضل أن يقف بقرب الإمام، ويقف بأيّ صفةٍ شاء، والأفضل أن يقف راكباً، ويقف مستقبل القبلة ويحمد اللَّه تعالى، ويهلل ويصلي على النبي عليه السلام، ويدعو الله لحاجته رافعاً يديه نحو السماء، ويكون الوقوف إلى غروب الشمس، ولم يرد به بيان امتداد وقت الوقوف يمد إلى طلوع الفجر من يوم النحر، حتى إن من لم يقف عرفة، ووقف ليلة النحر، فقد تم حجه، وإنما أراد به بيان امتداد نفس الوقوف، يعني: إذا وقف بعد الزوال ينبغي أن يقف إلى وقت غروب الشمس، فإذا غربت الشمس مشى على هينته حتى يأتي المزدلفة، فإن خاف الزحام، فتعجل في الذهاب قبل غروب الشمس، فلا بأس به إذا لم يخرج من حدود عرفات قبل غروب الشمس، فإذا خرج من حد عرفة قبل غروب الشمس، فعليه عندنا دم.

(2/428)


فإن عاد إلى عرفة قبل أن يرفع الإمام سقط عنه الدم، وإن عاد بعدما رفع الإمام لا يسقط عنه الدم في رواية «الأصل» ، وروى ابن شجاع عن أبي حنيفة أنه يسقط.
ولا يصلي المغرب في طريق المزدلفة قال عليه السلام «مزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر» ، ثم إذا أتى المزدلفة ينزل حيث شاء مع القوم إلا في وادي محسر، ولا ينزل على الطريق أيضاً كيلا يضر بالمارة، ثم يؤذن المؤذن، ويقيم، ويصلي الإمام المغرب بالناس، ثم يتبعها العشاء ولا يعيد الأذان والإقامة للعشاء، بخلاف القصر بعرفات، والفرق أن العصر بعرفات مقدمة على وقتها، فلا بد من تجديد الإقامة لها إعلاماً للناس، أما العشاء ههنا مؤداة في وقتها، فلا يحتاج إلى تجديد الإقامة لها، ولا يتطوع بين المغرب والعشاء، فإن تطوع بينهما أعاد الإقامة للعشاء، وإن صلى المغرب والعشاء وحده جاز بلا خلاف. فرق أبو حنيفة رحمه الله بين هذا وبين الجمع بعرفات،
الفرق أن أداء المغرب ههنا يقع بعد وقته، وهذا غير مقيد بشيء، وهناك أداء العصر يقع قبل وقته، وإنه تقيد بالجماعة مع الإمام الأكبر.
وإذا فرغ من العشاء يبيت ثمة، فإذا انشق الفجر من الغد صلى الفجر بغلس لحديث ابن مسعود، ويقف حيث شاء من المزدلفة يحمد الله تعالى في وقوفه ويهلل، ويصلي على النبي عليه السلام يدعو الله تعالى لحاجته رافعاً يديه إلى السماء، وليكن عامة دعائه بالمزدلفة مثل دعائه بعرفات، ويقول: اللهم حرّم شعري ولحمي ودمي وعظمي، وجوارحي على النار يا أرحم الراحمين، وهذا الوقوف من الواجبات عندنا، وليس بركن حتى لو تركها أصلاً يلزمه الدم، ولكن يجزئه الحج بخلاف الوقوف بعرفة، فإذا أسفر جداً ذهب قبل أن تطلع الشمس حتى نزل منى، وروي عن محمد رحمه الله أنه حد الإسفار فقال: إذا أسفر النهار بحيث لم يبق إلى طلوع الشمس إلا مقدار ما يصلي ركعتين يذهب.
ثم إذا أتى منى يرمي الجمرة بسبع حصيات مثل حصى الخذف.
والكلام في الرمي في مواضع:

أحدها: في وقته، فنقول: اتفق العلماء على أن وقت الرمي يوم النحر وثلاثة أيام بعدها غير أن عند علمائنا رحمهم الله أول وقته من حين يطلع الفجر الثاني من يوم النحر،
وعند سفيان الثوري أول وقته من حين تطلع الشمس من يوم النحر، وبكل ذلك ورد الأثر، فأصحابنا عملوا بالآثار كلها، وقالوا: يجوز الرمي بعد طلوع الفجر، والأولى تأخيره إلى وقت طلوع الشمس، قال الحسن في «مناسكه» من حين تطلع الشمس من يوم النحر هو الوقت المستحب للرمي، ومن حين زالت الشمس إلى ما قبل طلوع الفجر الثاني من غده هو وقت جمار الرمي مع الكراهة والإساءة، هذا هو الكلام في اليوم الثاني والثالث، فوقت الرمي ما بعد الزوال ولو رمى قبل الزوال لا يجزئه هكذا ذكر في «الأصل» و «المجرد» ، وذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» قال محمد رحمه الله: كان أبو

(2/429)


حنيفة يقول: أحب إليّ أن لا يرمي في اليوم الثاني والثالث حتى تزول الشمس، وإن رمى قبل ذلك أجزأه، فصار في اليوم الثاني والثالث روايتان.
وذكر في «المجرد» عن أبي حنيفة لو أراد أن ينفر في اليوم الثالث، فله أن يرمي قبل الزوال، وإنما لا يجوز الرمي قبل الزوال لمن لا يريد النفر فيه، وروى ابن أبي مالك عن أبي يوسف أنه لا يرمي في اليوم الثالث قبل الزوال، وإن أراد أن ينفر فيه، وأما في اليوم الرابع فلا رمي فيه إلا بعد الزوال، ولو رمى قبل الزوال أجزأه في قول أبي حنيفة، وعندهما لا يجوز إلا بعد الزوال.
الثاني: فيما يرمي به، فنقول: يرمي بكل ما كان من جنس الأرض (170ب1) كالحديد والعنبر، وما أشبهه.
والثالث: في مقدار ما يرمي، فنقول: يرمي بالصغار مثل حصى الخذف، قال عليه السلام «عليكم بحصى الخذف لا يؤذي بعضكم بعضاً» ، قال الحسن في «مناسكه» : حصى الخذف تكون مثل النواة وأقصر، ولو رمى بحصاً أكبر من حصى الخذف يجزئه، ولكن لا يستحب ذلك.

والرابع: في بيان صفة الرمي، فنقول: ينبغي أن تكون الحصاة مغسولة، وينبغي أن تكون مأخوذة من قوارع الطريق لا من موضع الرمي، فقد جاء في الأثر «أن ما بقي من الحصى في موضع الرمي حصى من لم يقبل حجه» ، فلا يأخذ من موضع الرمي تعافياً.
والخامس: في كيفية الرمي، وقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: يأخذ الحصى على إبهامه، ويضع إبهامه على طرف سبابته كأنه عاقد، ويرميها، وقال بعضهم: يرمي رمية الخلف المعروفة، واختار مشايخ بخارى أنه كيفما رمى فهو جائز؛ لأن المنصوص عليه في الأحاديث الرمي، فبأي طريق أتى بالرمي، فقد أتى بالمنصوص، فيجوز.
قالوا: وينبغي أن يكون بينه وبين وقوع الحصى خمسة أذرع فصاعداً؛ لأن ما يكون دونه يكون وضعاً أو طرحاً، والسنة جاءت بالرمي، وذكر في «الأصل» : لو قام عند الجمرة ووضع الحصى عندها وضعاً لا يجزئه، ولو طرحها طرحاً أجزأه؛ لأن الطرح رمي لكنه مسيء لمخالفة فعل رسول الله.
والسادس: في صفة الرامي راكباً وماشياً، وله أن يختار أيهما شاء عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: كل رمي بعده وقوف، فالرمي ماشياً أفضل، وكل رمي لا وقوف بعده، فالرامي راكباً أفضل؛ وهذا لأن كل رمي لا وقوف بعده، والمستحق على الرامي الوقوف بعد الرمي، والماشي أمكن للوقوف من الراكب فمكان الرمي ماشياً أفضل. وفي «مناسك الحسن» : ويستحب له أن يمشي إلى الجمار إذا أراد أن يرميها، وإن ركب فلا بأس، والمشي أفضل.

(2/430)


والسابع: في محل الرمي فنقول: محل الرمي الجمار الثلاث أولها التي تلي مسجد الخيف والوسطى والأخيرة، وهي جمرة العقبة.
والثامن: أنه في أي موضع يرمي فنقول: الرمي من بطن الوادي يعني من أسفله إلى أعلاه به ورد الأثر، وإذا وقف للرمي جعل منى عن يمينه والكعبة على يساره ويرمي حيث يرى موضع الحصى.

والتاسع: في موضع وقوع الحصاة فنقول: ينبغي أن تقع الحصاة عند الجمرة أو قريباً منها حتى لو وقعت بعيداً منها لم يجزه؛ لأنا إنما عرفنا الرمي قربة بالشرع بخلاف القياس في مكان مخصوص إلا أن قريب الشيء حكمه حكم ذلك الشيء، فيعمل بالبعيد عن الجمرة بقضية القياس.
في «المنتقى» عن أبي يوسف: إذ رمى الجمرة، فوقعت الحصاة على ظهر رجل، أو على محمل وثبتت عليه كان عليه أن يعيدها، وإذا سقط عن المحمل أو عن ظهر الرجل في المرمى ذلك أجزأه، وهكذا روى إبراهيم بن رستم عن محمد.
والعاشر: في عدد الحصاة فنقول: يرمي كل جمرة بسبع حصيات، ولو رمى إحدى الجمار بسبع حصيات جملة لا يجزئه؛ لأن المنصوص عليه تفريق الأفعال.
والحادي عشر: أن يكبر عند كل حصاة فيقول: بسم الله والله أكبر رغماً للشيطان وحزبه اللهم اجعل حجي مبروراً وسعي مشكوراً وذنبي مغفوراً.
والثاني عشر: أنه في اليوم الأول يرمي جمرة العقبة لا غير، وفي بقية الأيام يرمي الجمار كلها يبدأ بالأولى، ثم بالوسطى، ثم بجمرة العقبة، وإذا رمى جمرة العقبة في اليوم الأول يقطع التلبية عند أول حصاة يرميها، هكذا روي عن رسول الله، وإذا لم يرم حتى حلق، فقد انقطعت التلبية، وهذا بلا خلاف؛ لأن التلبية إنما شرعت في الإحرام، وبالحلق حصل التحلل، فيقطع التلبية ضرورة، وكذلك إذا لم يحلق حتى زالت الشمس، فقد انقطعت التلبية أيضاً عند أبي يوسف.
وروي عن أبي حنيفة: أنه لا يقطع التلبية حتى يرمي جمرة العقبة إلى أن تغيب الشمس، فحينئذٍ (يقطع) التلبية، وهو رواية عن محمد، وهذا بناءً على أن عند أبي حنيفة جمرة العقبة لا يفوت وقتها إلا بغروب الشمس، فإذا غربت الشمس وفات وقتها وكأنها سقطت بالفعل، وعند أبي يوسف جمرة العقبة يفوت وقتها بزوال الشمس.
وإن طاف قبل الرمي والذبح والحلق قطع التلبية في قول أبي حنيفة، روي عن أبي يوسف أنه يلبي ما لم يحلق أو تزول (171أ1) الشمس يوم النحر، ثم إذا رمى جمرة العقبة في اليوم الأول لا يقف عندها، يعني لا يقف للدعاء عند جمرة العقبة التي رماها في اليوم الأول، بل يأتي منزله، فبعد ذلك ينظر إن كان مفرداً بالحج يحلق أو يقصر؛ لأنه جاء أوان التحلل، والتحلل بالحلق والتقصير، وإن كان قارناً أو متمتعاً يذبح، ثم يحلق أو يقصر، لما روي عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «إن أول نسكنا بمنى أن نرمي،

(2/431)


ثم نذبح، ثم نحلق» ورسول الله عليه السلام كان قارناً، والحلق أفضل، وإذا حلق أو قصر حل كل شيء له إلا النساء.h
ثم يدخل مكة من يومه ذلك إن استطاع، ويطوف طواف الزيارة، أو من الغد أو بعد الغد، ولا يؤخر إلى ما بعد الغد، فيطوف بالبيت أسبوعاً ويصلي ركعتين، وهذا الطواف هو الحج الأكبر المذكور في قوله تعالى: {وأذان من اورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر} (التوبة: 3) ووقته أيام النحر أفضلها أولها، ولا سعي بعد هذا الطواف إن كان قد سعى بعد طواف التحية إذ ليس على الحاج إلا سعي واحد، وإن لم يكن سعى بعد طواف التحية يسعى بعد هذا الطواف، وكذلك لا رمل في هذا الطواف إن كان قد سعى بعد طواف التحية، وكل طواف ليس بعده سعي، فلا رمل فيه.

وإذا طاف بالبيت على نحو ما بينا حل له النساء أيضاً، ثم لا يبيت بمكة، بل يعود إلى منى ويبيت ثمة، فإذا كان من الغد، وهو اليوم الثاني من أيام النحر يرمي الجمار الثلاث بعد الزوال كل جمرة بسبع حصيات على نحو ما بيّنا، ثم يأتي المقام الذي يقوم فيه الناس، فيقوم يحمد الله تعالى، ويثني عليه، ويصلي على النبي عليه السلام، ويدعو الله بحاجته، يريد بقوله: يأتي المقام الذي يقوم فيه الناس أعلى الوادي؛ لأن الرمي كان من بطن الوادي، فيعود إلى أعلاه، ويقف للدعاء، ثم يرمي الجمرة الوسطى بسبع حصيات على نحو ما بينا، ثم يقوم حيث يقوم فيه الناس، فيصنع في قيامه مثل ما صنع عند الأولى، ويرفع يديه بالدعاء في قيامه، ثم يرمي جمرة العقبة، ويرميها بسبع حصيات، ولا يقف عندها للدعاء أي الجمرة، وعن أبي يوسف: في الرجل يرمي الجمار الثلاث في اليوم الثاني، فيأتيهن غداً جاز ولا يعيد شيئاً، وقال أبو حنيفة: لا يجوز إلا أن يرمي التي عند المسجد، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة، فإذا كان من الغد وهو اليوم الثالث من أيام النحر يرمي الجمار الثلاث أيضاً على نحو ما بينا، ثم يرجع في يومه إن أحب، وإن أقام من الغد، وهو اليوم الرابع رمى الجمار الثلاث أيضاً بعد زوال الشمس على نحو ما بينا.
قال في «الجامع الصغير» : ولو رمى الجمرة الوسطى والأخيرة في اليوم الثاني، ولم يرم الجمرة الأولى، واستغنى في يومه ذلك، فإن رمى الأولى، ثم أعاد على الوسطى، ثم على الأخيرة، فحسن ليصير آتياً بالترتيب المسنون، وإن رمى الأولى فحسب أجزأه؛ لأنه هو المتروك.
وفي «الأصل» : إذا بدأ في اليوم الأول بجمرة العقبة ثم بالوسطى، ثم بالأولى وقد ذكر ذلك في يومه يؤمر بأن يعيد على الوسطى، ثم على جمرة العقبة ليأتي بها اليوم الثاني مسنوناً مرتباً، ولا يعيد على الأولى؛ لأنه قد رماها لكن لا مرتباً وبالإعادة على الأولى والوسطى يحصل الترتيب، فلا حاجة إلى الإعادة على الأولى.

وفي «الأصل» أيضاً: إذا رمى من كل جمرة ثلاث حصيات، ثم ذكره بعد ذلك،

(2/432)


فإنه يبدأ من الأولى بأربع حصيات، فيتمها، ثم يعيد على الوسطى سبع حصيات وكذلك على جمرة العقبة، ولا يعيد جماراً في الوسطى وجمرة العقبة؛ لأنه أتى بهما قبل ما يأتي بأكثر رمي عند الجمرة الأولى، فكأنه لم يرم من الأولى شيئاً، حتى لو رمى من كل جمرة أربع حصيات، فإنه يرمي لكل واحدة بثلاث حصيات؛ لأنه أتى بأكثر الرمي عند كل جمرة بثلاث، وإن استقبل رميها، فهو أفضل.
وفي «مناسك الحسن» : إذا رمى الجمرة الأولى بحصاة، ثم رمى الجمرة الوسطى بحصاة، ثم رمى الجمرة الأخيرة بحصاة، ثم رجع فرماهن بحصاة حصاة حتى رمى كل واحدة منهن على ما وصفت لك، فقد تم رميه على الجمرة الأولى، ورمى أربع حصيات على الجمرة الوسطى فعليه أن يتمها برمي ثلاث حصيات، ورمى جمرة العقبة بحصاة فيها، فرمى ست حصيات.
وإن نقص حصاة لا يدري من أيتهن نقصها أعاد على كل واحدة منهن حصاة أخذاً بالاحتياط، وإن لم يرم يوم النحر جمرة العقبة حتى جاء الليل رماها ولا شيء عليه، وإن لم يرمها حتى أصبح من الغد رماها، وعليه للتأخير دم عند أبي حنيفة خلافاً لهما، وإن ترك منها حصاة أو حصاتين إلى الغد يرمي ما تركه ويتصدق لكل حصاة بنصف صاع إلا أن يبلغ دماً، فيتصدق بما شاء.
وفي «المجرد» قال أبو حنيفة رحمه الله: لو ترك رمي جمرة الوسطى والأولى فعليه دم، ولو ترك رمي جمرة العقبة أطعم لكل حصاة نصف صاع حنطة.

وفي «الأصل» : لو ترك رمي الجمار كلها في سائر الأيام إلى اليوم الرابع قضاها على التأليف في اليوم الرابع؛ لأن وقت الرمي والحبس واحد، وإن لم يرم حتى غابت الشمس من اليوم الرابع سقط عنه الرمي لفوات الوقت وعليه دم واحد بالإجماع؛ لأن الرمي كله نسك واحد، ثم إذا فرغ من الرمي أتى الأبطح، وينزل به ساعة، والأبطح اسم موضع نزل به رسول الله عليه السلام حين انصرف من منى إلى مكة ويطوف طواف الصدر إن أراد الرجوع، ويسمى هذا طواف واجب عندنا، حتى لو تركه يلزمه الدم.
قال مشايخنا: يستحب للحاج إذا أراد الرجوع أن يأتي باب الكعبة، فيقبل العتبة، ويأتي الملتزم، فيلزمه ساعة ويبكي، ويتشبث بأستار الكعبة، ويلصق خده بالجدار إن تمكن، ثم يأتي زمزم (171ب1) ويشرب من مائه، ويصب على جسده، ويقول: اللهم إني أسألك رزقاً واسعاً وعلماً نافعاً وشفاءً من كل داء يا أرحم الراحمين، ثم ينصرف ويمشي وراءه، ووجهه إلى البيت متبكياً متحسراً على فراق البيت، ويقول عند رجوعه: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون صدق الله وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، اللهم فكما هديتنا لذلك فتقبله منا، ولا تجعله آخر العهد منا، وارزقنا العود إليه حتى ترضى برحمتك يا أرحم الراحمين.
فهذا هو بيان عام للحج الذي أراده رسول الله عليه السلام في قوله «من حج هذا

(2/433)


البيت فلم يرفث فيه ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» ثم يأتي المدينة، ويقوم قريباً من قبر النبي عليه السلام، ويقول: اللهم رب البلد الحرام والركن والمقام ورب المشعر الحرام بلغ روح محمد منا في هذا اليوم التحية والسلام، اللهم أعط محمد الدرجة والوسيلة والرفيعة والفضيلة، اللهم أوردنا حوضه واسقنا بكأسه، واجعلنا من رفقائه، ثم يدعوا بما أحب، والله الموفق.

الفصل الرابع: في بيان مواقيت الإحرام وما يلزم بمجاوزتها من غير إحرام
إنّ رسول الله عليه السلام جعل للحج والعمرة مواقيت منها يحرم العبد، وهي خمسة في حديث عائشة رضي الله عنها: ذو الحليفة لأهل المدينة، والجحفة لأهل الشام، وقرن لأهل نجد، ويلملم لأهل اليمن، وذات عرق لأهل العراق. وقال: «هن لهن ولمن مر عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة» وهذا الحديث ورد في حق أهل الآفاق.
والناس أصناف ثلاثة: أهل الآفاق، ومن كان أهله في الآفاق، ومن كان أهله في الميقات أو دخل الميقات إلا أنه في الحل دون الحرم. وأهل الحرم وهم أهل مكة.
وأما أهل الآفاق، فالأفضل لهم الإحرام من دويرة أهلهم جاء في التفسير قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة} (البقرة: 196) إتمامها أن يحرم بها الرجل من دويرة أهله، وذكر هشام عن محمد إذا كان الرجل أول ما يحج، فالأفضل أن يحرم من أهله، وإن أخّر حتى أحرم من ميقات مصره، فهو حسن، وذكر الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله إن أحرم الرجل من مصره، فهو أفضل بعد أن يملك نفسه في الإحرام أن لا يقع في المحظورات.
وإذا لم يحرم الآفاقي من دويرة أهله حتى بلغ الميقات، فعليه أن يحرم من الميقات.
وأما من كان أهله في الميقات، أو داخل الميقات إلى الحرم، فميقاتهم للحج والعمرة الحل الذي بين المواقيت والحرم حتى لو أخّر الإحرام إلى الحرم جاز؛ لأنه جاز لهم الإحرام من دويرة أهلهم وميقاتهم للعمرة الحل فيخرج الذي يريد العمرة إلى الحل من أي جانب شاء، وأقرب الجوانب التنعيم وعنده مسجد عائشة رضي الله عنها.

(2/434)


قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا أراد الآفاقي دخول مكة ينبغي له أن يحرم من الميقات بحجة أو عمرة سواء دخل مكة مريداً النسك، أو دخلها لحاجة من الحوائج، ومن كان أهله في الميقات، أو داخل الميقات جاز له دخول مكة بغير إحرام لحاجة من الحوائج، وكذا من كان من أهل مكة وخرج منها لحاجة من الحوائج، وكذا من دخل مكة منها لحاجة له إلى ذلك نحو الاحتطاب، وما أشبهه جاز له أن يدخلها بغير الإحرام.
والأصل فيه ما روي أن رسول الله عليه السلام قال في خطبته عام فتح مكة: «ألا إن مكة حرام حرّمها الله تعالى يوم خلق السموات والأرض لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ثم عادت حراماً إلى يوم القيامة» ، وأراد بقوله: «لا تحل لأحد من بعدي» حلّ الدخول بغير إحرام، لأن قوله: «لا تحل لأحد بعدي» الصرف إلى ما انصرف إليه المراد من قوله: «أحلت لي ساعة من نهار» حلّ الدخول بغير إحرام، فإنه دخلها بغير إحرام؛ لأجل القتال في الحرم؛ لأن القتال مع أهل الحرب في الحرم حلال على كل حال، فهذا الحديث لا يوجب الفصل بين الآفاقي، وبين أهل مكة، ومن كان أهله داخل الميقات لكن دخل عنه أهل الميقات وأهله بمكة لمكان الحرج، فإنه يتكرر دخول أهل الميقات، ومن كان داخل الميقات بمكة لإقامة الحرج بمكة، وكذا يتكرر دخولهم؛ لأنه مكرر خروجهم لإقامة المصالح خارج مكة، فلو أوجبت الإحرام عند كل دخول لوقعوا في الحرج، فأما أهل الآفاق فلا يتكرر دخولهم مكة، فإيجاب الإحرام عليهم عند الدخول لا يوقعهم في الحرج، ويبقى أهل الآفاق داخلين تحت الحديث.

ثم إذا دخل الآفاقي مكة بإحرام، وهو لا يريد الحج ولا العمرة، فعليه الدخول مكة إما حجة أو عمرة لزمه الإحرام إذا بلغ الميقات على قصد دخول مكة، والإحرام إنما يكون بحجة أو عمرة، فلزمه الإحرام بأحدهما، وما وجب على الإنسان لا يسقط إلا بأدائه، فإن أحرم بالحج أو العمرة من غير أن يرجع إلى الميقات، فعليه دم لترك حق الميقات، وإن عاد إلى الميقات، وأحرم فهذا على وجهين:
إن أحرم بحجة أو عمرة عما لزمه خرج عن العهدة، وإن أحرم بحجة الإسلام، أو عمن كاتب عليه إن كان ذلك في عامه أجزأه عما لزمه لدخول مكة بغير إحرام استحساناً، وإن تحولت السنة وباقي المسألة بحالها لم يجزئه عما لزمه لدخول مكة بغير إحرام، وهذا لأن حق الوقت ينادي بإحرام حجة الإسلام جاز فيما بقي وقت لإحرام حجة الإسلام، فوقت ما يجب بسبب الوقت باقي فلا يصير ديناً في ذمته، فإن عاد إلى الميقات، وأحرم بحجة الإسلام فقد أدى حق الوقت، فأما إذا تحولت السنة، فقد فات وقت الإحرام بحجة الإسلام، وفات (172أ1) وقت ما يجب بسبب الوقت، فيصير ذلك ديناً عليه مقصوداً،

(2/435)


فلزمه الأداء بإحرام آخر له مقصوداً، وإن جاوز الآفاقي الميقات بغير إحرام، وهو يريد الحج والعمرة، فإن عاد إلى الميقات وأحرم سقط عنه الدم، وإن أحرم من مكانه ذلك، وعاد إلى الميقات محرماً، فإن لبى سقط عنه الدم، وإن لم يلب وجاوز الميقات، واشتغل بأعمال ما عقد الإحرام له لا يسقط عنه الدم.
وقال أبو يوسف ومحمد: إذا عاد إلى الميقات سقط عنه الدم لبى أو لم يلب، فوجه قولهما: أن حق الميقات في كونه محرماً فيه لا في أشياء الإحرام منه لا يرى أنه لو أحرم من دويرة أهله، وجاوز الميقات محرماً ولبى بالميقات أو لم يلب لا يلزمه شيء، فإذا عاد إلى الميقات محرماً، فقد يدرك حقه، وإن لم يلب فيه لا يلزمه شيء.

ولأبي حنيفة رحمه الله إن ميقات الآفاقي بطريق العزيمة دويرة أهله حتى كان الإحرام من دويرة أهله أفضل، وله التأخير بطريق الترخيص إلى الميقات، فمن أحرم وراء الميقات فحق الميقات عليه المرور فيه محرماً، ومن أخر الإحرام إلى الميقات عليه إنشاء الإحرام فيه، والإنسان لا يكون (محرماً) إلا بالتلبية إلا أن نفس الإنشاء لا يعقل له زيادة حرية، فلا يستحق الميقات صفة الإنشاء، بل يستحق الإحرام، ووجود التلبية فيه لكون التلبية من شعائر الإحرام، فإذا عاد محرماً ملبياً، فقد قضى حقه المستحق، فصار متداركاً للفائت فيسقط، وأما إذا لم يلب فما قضى حقه المستحق، ولم يصر مدركاً للفائت، فلا يسقط عنه الدم، فلو أن هذا الرجل حين أحرم لم يعد إلى الميقات، واشتغل بأعمال ما عقد الإحرام له، ثم عاد إلى الميقات ولبى أو لم يلب يسقط عنه الدم؛ لأنه ما لبى به وقع مفيداً، فلا يصير متداركاً الفائت بالعود إلى الميقات.
قال في «الجامع الصغير» : مكي خرج من الحرم يريد الحج وأحرم ولم يعد إلى الحرم حتى وقف بعرفة، فعليه شاة وهذا لما ذكرنا أن ميقات المكي دويرة أهله، فإذا خرج من الحرم حلالاً، فقد جاوز الميقات بغير إحرام، فإذا اشتغل بأعمال الحج، فعليه الدم عاد إلى الحرم أو لم يعد، وإن لم يشتغل بأعمال الحج حتى عاد إلى الحرم إن عاد ملبياً سقط عنه الدم بلا خلاف،
وإن عاد غير ملبٍ لا يسقط عنه الدم عند أبي حنيفة خلافاً لهما، وصار الكلام فيه نظير الكلام في الآفاقي إذا جاوز الميقات بغير إحرام.
وفيه أيضاً: رجل دخل بستان بني عامر لحاجة له، فله أن يدخل مكة بغير إحرام، وهو وصاحب المنزل سواء، وبستان بني عامر موضع هو داخل الميقات إلا أنه خارج الحرم، ومعنى المسألة: الآفاقي إذا جاوز الميقات لا يريد دخول مكة، وإنما أراد موضعاً آخر وراء الميقات خارج الحرم نحو بستان بني عامر، وما أشبه ذلك، ثم بدا له أن يدخل مكة لحاجة، فله أن يدخلها بغير إحرام، وهذا هو الحيلة لمن أراد دخول مكة بغير إحرام أن لا يقصد دخول مكة، وإنما يقصد مكاناً آخر وراء الميقات خارج الحرم لحاجة له، ثم إذا وصل إلى ذلك المكان يدخل مكة بغير إحرام، وهذا لأن الذي لا يقصد دخول مكة، وإنما يقصد مكاناً آخر لا يلزمه الإحرام لا يلزمه لحق الميقات نفسه،

(2/436)


بل تعظيماً للبيت، حتى لا يكون القدوم عليه لقصد الزيارة وكأنه تمام التعظيم بالقصد للزيارة مر في البيت وحريمه وهو المواقيت، فإذا لم يرد دخول مكة لو لزمه الإحرام لزمه لحق المواقيت نفسه، وهو لا يلزم لحق المواقيت نفسه، وبعدما وصل إلى ذلك المكان التحق بأهل ذلك المكان، ولأهل ذلك المكان دخول مكة بغير إحرام، فكذلك لهذا الرجل الذي التحق بهم.
وعن أبي يوسف أنه شرط نية الإقامة بذلك المكان خمسة عشر يوماً؛ لأن نية الإقامة خمسة عشر يوماً يصير متوطناً به، فيلتحق بأهله، فأما إذا نوى الإقامة أقل من خمسة عشر يوماً فهو ماض على سفره، فلا يلتحق بأهل ذلك المكان؛ فلا يدخل مكة بغير إحرام.
وفيه أيضاً: إذا جاوز الميقات بغير إحرام ثم أحرم بعمرة وأفسدها قضى فيها؛ لأن الإحرام عقد لازم لا يخرج المرء عنه إلا بأداء الأفعال، وقضائها بعد ذلك؛ لأنه التزمها بوصف الصحة، ولم يؤدها ولا دم عليه لترك الوقت إذا نقضها من الوقت كله، والقضاء يقوم مقام الأداء، فكأنه لم يفسد العمرة.

الفصل الخامس: فيما يحرم على المحرم بسبب إحرامه وما لا يحرم
هذا الفصل يشتمل على أنواع:

نوع منه في الصيود. قال الكرخي في كتابه في بيان حد الصيد: أن الصيد هو الحيوان المتوحش بأصل الخلقة، وهو المذكور في كتاب اللغة، قال محمد رحمه الله: صيد البحر حلال للمحرم قال الله تعالى: {أحل لكم صيد البحر} (المائدة: 96) وأما صيد البر، فجنسه حرام على المحرم إلا ما استثناه رسول الله عليه السلام، قال الكرخي في «كتابه» : صيد البرّ ما يكون مثواه وتوالده في البرّ، وصيد البحر ما يكون توالده ومثواه في البحر، والمعتبر هو التوالد دون الكينونة؛ لأن الأصل هو التوالد، والكينونة تكون بعارض، فيعتبر الأصل، فيتناول جنسه مأكول اللحم.
وفي «المنتقى» عن محمد رحمه الله: أن كلّ حيوان يعيش في الماء، فهو صيد البحر، وكل حيوان يعيش في البرّ إذا أخرج من الماء، فهو صيد البر، وينطوي في صيد البرّ مأكول اللحم وغير مأكول اللحم؛ لأن الله ذكر الصيد في آية التحريم بلام التعريف حيث قال: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} (المائدة: 95) فتناول جنسه، واسم الصيد فما يتناول مأكول اللحم ويتناول غير مأكول اللحم لما ذكرنا من حد الصيد إلا أن البعض صار مستثنى عن التحريم ببيان رسول الله عليه السلام، حيث قال: «خمس من الفواسق يقتلن في الحرم الفأرة والحية والعقرب والحدأة والكلب (172ب1) العقور» ، وفي بعض الروايات

(2/437)


«الغراب» مكان الحية، وفي بعض الروايات مكان الكلب العقور، فإذا صارت هذه الأشياء مستثناة عن التحريم صارت مستثناة عن وجوب الجزاء بقتلها؛ لأن المحرم بقتل هذه الأشياء لا يصير جانياً على إحرامه بارتكابه شيئاً من محظورات إحرامه،
بعد هذا قال الشافعي رحمه الله: استثناءً لما عداها من السباع نحو الفهد، والأسد، والبازي، والصقر، وابن آوى، لأن استثناء الخمس؛ لأنهن مؤذيات طبعاً، وقد وجد الإيذاء طبعاً في هذه الأشياء، وإنا نقول: استثناء الخمس لوجود الأذى منهن عادة؛ لأن سكنى الخمس فيما بيننا إما مزارعاً، أو مساكناً كالفأرة والحية والعقرب والكلب العقور أو مزارعاً لا مساكناً كالحدأة، والغراب، والذئب، ومن طبعهن الأذى فيوجد الأذى عادة، فأما الفهد والبازي والصقر وأشباهها من السباع بعيد منا مساكناً ومزارعاً؛ لأن من عادتهن التباعد من الناس، ولا يوجد الأذى منهن، فاستثناء الخمس لا يدل على استثناء سائر السباع مستثناة عندما تجب الحماية بقتلها ولا يجاور به الدم عند علمائنا البيت، والأصل فيه قوله عليه السلام «الضبع صيد» ، وفيه شاة إذا قتله المحرم،
هذا إذا قتل المحرم السبع ابتداء من غير أذى من جهته، فأما إذا قتله بناءً على أذى من جهته فلا جزاء، فقد صح عن عمر رضي الله عنه أنه قتل ضبعاً فأدى جزاءه، وقال: إنا ابتدأناها.... بالابتداء منه يدل على أن الابتداء إذا كان من السبع أنه لا يلزمه الجزاء،
والمعنى أن حالة الأذى تصير من جملة الفواسق؛ لأن الفسق اسم مشتق من الخروج، وقد خرج علينا، وعلى حقوقنا، فإنما قتل صيد هو ليس بمحرم أصلاً، فلا يلزمه الجزاء.
وفي «المنتقى» إبراهيم عن محمد رحمه الله: محرم أصاب بازياً أو عقاباً كَفَّر ابتداء بالإيذاء أو لم يبتدي وكذا الطير إذا ذبحه المحرم، فعليه الكفارة، وإن ابتدأنا لأذى في طعام أو ما أشبهه إلا أن يكون طعاماً له ثمن، وابتدأه بالأذى، فحينئذٍ لا كفارة.
قال الكرخي رحمه الله في «كتابه» : وليس في هوام الأرض كالقنفذ والخنافس شيء على المحرم؛ لأنه ليس بصيد، وفي اليربوع والسنور الكفارة إذا لم يبتدىء بالأذى؛ لأنه صيد، وكذلك الذئب والثعلب والفيل، وكذلك الخنزير والقرد.

قال: والفيل إذا كان وحشياً، ففيه الجزاء، وإن كان أهلياً، فلا جزاء؛ لأنه ليس بصيد، وذكر في «المنتقى» عن أبي حنيفة رحمه الله: الفيل مطلقاً وأوجب فيه الجزاء إذا لم يبتدى بالأذى قال: إلا أنه لا يجاوز فيه شاة، وعن أبي حنيفة لا شيء في السنور الأهلية والوحشية، والكلب العقور؛ لأن الجنس واحد.

(2/438)


وروى هشام عن محمد الكفارة في السنور الوحشي، وفي الضب الجزاء، وكذلك في الأرنب؛ لأن كل واحدة منهما صيد، ولا يوجد منه الأذى عادة وفي العقعق الجزاء؛ لأنه صيد ولا يوجد منه الأذى عادة.
قال: وفي «المنتقى» هشام عن محمد: إنما أمر بقتل الغراب في الحرم؛ لأنه يقع على ذنب، وقال أبو حنيفة: الغراب الزرعي لا ينبغي أن يقتله المحرم، وروى مثله ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله.
وذكر في «المنتقى» بعد هذه المسائل لو قتل غراباً، وقد ابتدأه بالأذى، أو لم يبتدىء، فلا كفارة إن كان أبقع، أو من السود التي تأكل الجيف،
فإن كان صغير لا يأكل الجيف، ويأكل الزرع الذي يسمى الزاغ فعليه كفارة، وإن كان أمامه غراب يخلط يأكل الزرع ويأكل الجيف فلا كفارة. قال الكرخي في «كتابه» : ولا يقوم المحرم في الجزاء إلا قيمته لحماً.
ومعنى المسألة: أن المحرم إذا قتل بازياً صيوداً لا يقوم عليه في الجزاء معلماً؛ لأن المعتبر في وجوب الجزاء معنى الصيدية، وكونه معلماً ليس من الصيدية في شيء.
قال في «المنتقى» : عن أبي يوسف رحمه الله: ولا يجاوز بقيمته شاة، وأشار أبو يوسف إلى العلة، فقال: لأنه ذو مخلب، فليس فيه وفيما أشبهه، ولا في شيء من السباع أكثر من الشاة، قال أبو يوسف رحمه الله: وما لم يكن نحو البازي من النعام والحمام وحمام الوحش، فعليه قيمته بالغة ما بلغت.
j
وكذلك لو قتل حمامة تجيء من بعيد لا تعتبر تلك في إيجاب الجزاء، بل تقوم الحمامة على اللحم أو على القيمة بقيمة الزارع الذي يؤكل.
قال في «المنتقى» : وكذلك ما يتخذ في البيوت من أصناف الصيود لصاحبه، وغير ذلك، وفيه أيضاً لو قتل ظبية حاملاً يقوم في الفداء حاملاً.
وفيه أيضاً: محرم أصاب ظبياً في مدينة السلام، وقيمته قيمة أكثره، قال أبو يوسف: يقوم عليه في الكفارة قيمة ظبي الحرم وفي الضمان لصاحبه قيمته التي يشترى بها أي: بمدينة السلام.
وفي «الجامع الصغير» : محرم ذبح بطَّة من بطّ الناس أو دجاجة، فلا جزاء عليه أما الدجاجة، فلأنها ليست بصيد، وأما البط قال مشايخنا: ما ذكر من الجواب في «الكتاب» محمول على البط الذي يكون في المنازل والخاص؛ لأنه يستأنس بجنسه، فأما البط الذي يطير، فهو صيد يجب على المحرم الجزاء بذبحه.
وإن ذبح حماماً مسرولاً فعليه جزاؤه؛ لأنه صيد بجنسه، فإن جنس الحمام متوحش بأصل الخلقة وأراد بالمسرول الذي على قوائمه الريش سمي بذلك؛ لأن الريش بمنزلة السراويل له.
وفي «الجامع الصغير» أيضاً: محرم قتل برغوثاً أو قملة أو بقة، فلا شيء عليه، وإن قتل قملة على يديه أطعم شيئاً، أما إذا قتل قملة على يديه قائماً أطعم شيئاً؛ لا لأنها

(2/439)


صيد، ولكن لأنها ما دامت على البدن، فقتلها من قضاء التفث؛ لأنها متولدة من البدن، ويتأذى بها ويرتفق بإزالتها، وقضاء التفث حرام على المحرم، فإذا قتلها مقدار مكثه محرماً، فيؤاخذ به؛ حتى لو كانت القملة ساقطة على الأرض فقتلها، فلا شيء عليه؛ لأن قتلها في هذه الصورة ليس من قضاء التفث بخلاف البرغوث (173أ1) والنملة وأشباهها؛ لأن هذه الأشياء ليست بصيد، وقتلها ليس من جملة قضاء التفث أيضاً لأنها لا تنمو من البدن، ثم إن محمداً رحمه الله قال في «الجامع الصغير» : في قملة أطعم شيئاً، وفي «الأصل» قال: تصدق بشيء، وفي «القدوري» : أوجب فيها الصدقة بكف من طعام.

وفي «عيون المسألة» : محرم أخذ قملة من رأسه وقتلها، أو ألقاها أطعم بها كسرة خبز، وإن كانتا اثنتين أو ثلاثاً أطعم قبضة من طعام وإن كان كثيراً أطعم بنصف صاع، وما ذكر في «الجامع الصغير» و «العيون» يشير إلى أنه لا يشترط التمليك، ويكتفى بالإباحة، وهو الصح.
وفي «الفتاوى» : محرم وقع في ثيابه قمل كثير، فألقى ثيابه في الشمس ليقتل القمل من الشمس، فمات القمل، فعليه الجزاء نصف صاع من حنطة إذا كان القمل كثيراً، ولو ألقى ثوبه ولم يقصد أن يقتل القمل من حر الشمس، فلا شيء عليه؛ لأنه في الوجه الأول سبب، وفي الوجه الثاني لا إنما قصد إلقاء الثوب لا غير.... أنه لو غسل ثيابه، فمات القمل لم يكن عليه جزاء.
وفي «المنتقى» : عن محمد: محرم دفع ثوبه إلى حلال لغسيله قال: إذا علم أنه قتل قملاً، فعليه الكفارة.
وفي «الفتاوى» : إذا دفع المحرم ثوبه إلى حلال ليقتل ما فيه من القمل، فقتله كان على الآمر جزاء، وكذلك لو أشار إلى قملة، فقتلها المشار إليه كان على المشير الجزاء.
وفي «المنتقى» إذا قال المحرم لحلال: ارفع هذا القمل عني، ففعل فعليه الكفارة.
وإذا قتل المحرم بعوضاً أو ذباباً أو حَلَماً فلا شيء عليه لما قلنا في البرغوث قد ذكرنا أن ما لا يؤكل من صيود البر لا يجاور في جزاءه الدم.
وأما ما يؤكل من صيود البر يجب في جزائه قيمتها بالغة ما بلغت، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، ويستوي أن يكون المقتول صيداً له مثل من النعم خلقة أولا مثل له من النعم خلقة.
وقال محمد والشافعي: ماله مثل من النعم خلقة وصورة يجب في جزائه المثل خلقة، فيجب في النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة، وفي الظبي شاة، وفي الأرنب عناق، وكذلك قالا فيما لا يؤكل ماله مثل من النعم يجب في جزائه المثل خلقه حتى قالا: يجب في الضبع شاة، وفيما لا مثل له من النعم خلقة وصورة وتجب القيمة،

(2/440)


والمنصوص عليه في كتاب الله المثل بعد هذا قال محمد والشافعي رحمهما الله: المثل حقيقة هو المثل صورة ومعنى، والقيمة مثل معنى الصورة، فيكون مجازاً، ولا يصار إلى المجاز إلا عند تعذر العمل بالحقيقة،
وأبو حنيفة وأبو يوسف قالا: المثل معنى وهو القيمة، أريد بهذا النص فيما لا مثل له خلقة وصورة، فلا يبقى المثل صورة مراداً كيلا يؤدي إلى الجمع بين الحقيقة والمجاز، وما روي عن الصحابة في هذا الباب أنهم أوجبوا بالمثل صورة، فتأويله أنهم أوجبوا ذلك باعتبار القيمة لا باعتبار الصورة والأعيان، وإذا وجب المثل معنى، وهو القيمة عند أبي حنيفة وأبي يوسف مطلقاً، وعندهما فيما لا مثيل له صورة، فعلى رواية «الجامع الصغير» يعتبر مكان القتل في اعتبار قيمة الصيد لا غير، فيُقوِّم الحَكَمان الصيد المقتول في المكان الذي قتله إن كان الصيد يباع ويشترى في ذلك المكان، وإن كان لا يباع ولا يشترى في ذلك المكان ففي أقرب الأماكن من ذلك المكان مما يباع فيه الصيد ويشترى والواحد يكفي للتقويم على قصد القياس، لكن اعتبرنا بالمثنى اتباعاً للنص.
وعلى رواية «الأصل» اعتبر المكان والزمان في اختيار قيمة الصيد، وهو الأصح؛ لأن قيمة الصيد كما تختلف باختلاف المكان تختلف باختلاف الزمان، ثم إذا ظهرت قيمة الصيد ينظر إن بلغت ثمن هدي كان القاتل بالخيار إن شاء أهدى، وإن شاء اشترى بها طعاماً، وأطعم كل مسكين نصف صاع من حنطة، أو صاعاً من تمر أو شعير، وإن شاء نظر كم يؤخذ بها من الطعام؟ فيصوم عن كل نصف صاع من حنطة يوماً، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وقال محمد رحمه الله: الخيار إلى الحكمين، فأي نوع عيناه لزمه ذلك، والأصح قولهما؛ لأن الاختيار إنما يثبت نظراً لمن عليه، ونظره في أن يكون التعيين معوضاً إليه، ويجوز اختيار الصوم مع القدرة على الهدي والإطعام؛ لأن الله تعالى ذكر بكلمة «أو» وإنها للتخيير.

ثم إن اختار الهدي ذبح بمكة، قال الله تعالى: {هدياً بالغ الكعبة} (المائدة: 95) وإن ذبح الهدي بالكوفة أجزأه عن الطعام ولم يجزىء عن الهدي، معنى قوله: أجزأه عن الطعام إذا تصدق باللحم، وفيه بقية الطعام؛ لأن جواز الهدي يختص بمكة، وإن اختار الطعام أو الصيام يجوز في غير مكة، وإذا اختار الهدي يهدي بما يجوز به، وهو الجذع من الضأن إذا كان عظيماً، والشيء من غيره،
وإن اختار الهدي، وفضل عنه شيء نحو إن قتل شيئاً تزيد قيمته على قيمة شاة، ولا تبلغ قيمته قيمة بدنه أو بقرة، والزيادة على قيمة الشاة لا تبلغ قيمة شاة أخرى، فهو في الزيادة مخير إن شاء صرفها إلى الطعام، وإن شاء صرفها إلى الصوم؛ لأن تلك الزيادة إذا لم تبلغ هدياً، فهي في الحكم كالصيد الصغير الذي يبلغ هدياً، وثمة الجواب هكذا، وإن اختار الصوم قُوِّم المقتول طعاماً، وصام عن كل نصف صاع حنطة يوماً، وإن فضل عن الطعام أقل من نصف صاع كان مخيراً إن شاء صام عنه، وإن شاء أخرج طعاماً؛ لأن الصوم لا يكون أقل من يوم.

(2/441)


قال في «الأصل» : والعامد والخاطىء في قتل الصيد سواء؛ لأن الله تعالى حرم على المحرم قتل الصيد مطلقاً، والتقييد بالعمد في قوله تعالى: {ومن قتله منكم متعمداً} (المائدة: 95) ليس لأجل بل للوعيد المذكور في آخر الآية المستفاد بقوله: {ليذوق وبال أمره} (المائدة: 95) قال: (173ب1) والمملوك والمباح في ذلك سواء؛ لأن اسم الصدقة يتناول الكل، ولا يحل أكل الصيد الذي ذبحه المحرم؛ لأن الصيد لا يحل وقتل الصيد غير مشروع، فلا يفيد إباحة التناول، فإن أتى المحرم الجزاء، ثم أكل منه ضمن قيمة ما أكل منه عند أبي حنيفة، وعندهما لا يلزمه سوى الاستغفار شيء، وأجمعوا على أنه لو أكل منه محرم آخر، وأكل منه حلال أنه لا يلزمه شيء سوى الاستغفار.

ولو أصاب الحلال صيداً في الحل وذبحه، لا بأس للمحرم أن يأكله به ورد «الأثر عن رسول الله عليه السلام» ، هذا بيان حكم قتل الصيد.

جئنا إلى بيان حكم الجراحة، قال محمد في «الأصل» : المحرم إذا جرح صيداً إن علم بموته بعد الجراحة، وهذا ظاهر، وإن علم أنه برأ من الجراحة، فهو على وجهين:
إن لم يبق للجراحة أثر، فلا شيء عليه هكذا ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» ، وذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» : أن هذا قول أبي حنيفة ومحمد، أما على قول أبي يوسف يلزمه صدقة باعتبار ما أوصل من الألم إلى الصيد، وهذا اختلاف نظير اختلافهم في الصيد المملوك إذا جرحه إنسان، وبرأ من الجراحة على وجه لا يبقى لها أثر.
وأما إذا بقي لها أثر ضمن النقصان عندنا، وإذا غاب عنه، ولم يعلم أنه مات بعد الجراحة أو برأ، فالقياس لا يلزمه النقصان، وفي الاستحسان يلزمه النقصان لا غير كما في الصيد المملوك؛ لأنه وقع الشك فيما زاد على النقصان، وفي الاستحسان يلزمه جميع قيمة الصيد؛ لأن ضمان الصيد يسلك مسلك العبادة حتى وجب على المعذور، والعبادة إذا وجبت من وجه دون وجه ترجح جانب الوجوب احتياطاً، بخلاف الصيد المملوك؛ لأن الواجب هناك في حق العبد، وحق العبد لا يجب مع الشك.
في «المنتقى» : بشر بن الوليد عن أبي يوسف: محرم ضرب على عين صيد، فانتصب ثم ذهب البياض، أو نتف صيد لم ينبت ريشه، فعليه طعام يتصدق به.
في «الجامع الصغير» : محرم شوى بيض صيد، فعليه الجزاء لابتدائه بالشيء، وهو أصل الصيد، فيعطى حكم الصيد احتياطاً، فيلزمه قيمته صيداً، قالوا: هذا إذا لم يكن البيض إذا كان قدر، فهو ليس بأصل الصيد، وكذلك لو كسرها، فعليه الجزاء ذكر مسألة الكسر في «الأصل» ، فإن كان فيها فرج ميتاً إن علم أنه كان ميتاً قبل الكسر فلا شيء عليه، وإن علم أنه كان حياً قبل الكسر، فعليه قيمته؛ لأنه أتلف ما هو صيد، وإن لم يعلم أنه كان حياً أو ميتاً فعليه قيمته استحساناً احتياطاً.

(2/442)


قال في «الأصل» : وكذا إذا ضرب بطن ظبية، وطرحت ظبياً ميتاً، ثم ماتت، فعليه جزاء، وهما جميعاً أخذ فيه بالثقة؛ لأن الضرب سبب صالح لموتهما، وقد ظهر عقيبه، فيحال به عليه، وإنما أراد بقوله: أخذ فيه بالثقة إشارة إلى الفرق بين هذا وبين الضمان الواجب حقاً للعباد، فإن من ضرب بطن امرأة، فألقت جنيناً ميتاً، وماتت كما وجب هناك ضمان الأم لا يجب ضمان الجنين، لأن الجنين في حكم جزء من أجزاء الأم من وجه، وفي حكم النفس من وجه، وجزء الصيد مبني على الاحتياط، فرجحنا جانب النفسية وأما..... الجنين احتياطاً، فأما الضمان الواجب لحق العباد فغير مبني على الاحتياط، فلم يترجح جانب النفسية في الجنين، فلم يوجب ضمانه.
وفي «الجامع الصغير» : إذا حلب لبن صيد يلزمه الجزاء قيمته؛ لأن اللبن سبب لتربية الصيد فيعطى حكم الصيد، وإذا شوى جرادة، فعليه الجزاء.
وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف: إذا حلب عيراً من الظباء، فعليه ما نقص العير قيمته، وقد صح عن عمر رضي الله عنه أنه قال «ثمره خير أده» ، وإذا أدى قيمة البيضة والجراد ملكه إذ المضمون يملك عند أداء الضمان كما في ضمان الأموال، فلو أنه باع هذه الأشياء بعد ذلك جاز ولكن يكره، أما الجواز، فرق بين هذه الأشياء وبين الصيد إذا ذبحه المحرم وأدى قيمته، ثم باع اللحم حيث لا يجوز.

والفرق أن الصيد محل الذبح، وقد تعلق حله بذبح شرعي، ولم يوجد فصار ميتة وبيع الميتة لا يجوز، أما هذه الأشياء لم يتعلق حلها بذبح شرعي، فلا تصير ميتة، وقد ملكها بالجزاء فَثَمَّ رافع، وأما الكراهة، فلأنه لو أطلق في بيعها يتطرق الناس إلى مثله وذلك قبيح، ولا بأس للمشتري أن ينتفع به من حيث التناول، بخلاف البائع، فإنه لا يحل له؛ لأن الحل في حق البائع إنما لم يثبت لا لأنها ميتة بل لئلا يطرق الناس إلى مثله، وهذا المعنى لا يتأتى في حق المشتري، ولو كان القاتل للصيد قارناً، فعليه جزاءان؛ لأن القارن محرم بإحرامين، فبقتل الصيد يصير جانياً عليهما، فيلزمه جزاءان لهذا.
نوع آخرهو في معنى قتل الصيد، وهو الدلالة على الصيد
فنقول: كما يحرم على المحرم قتل الصيد يحرم عليه الدلالة على الصيد؛ لأن الدلالة تفويت للأمن عن الصيد؛ لأن الصيد يأمن عند القدرة و....... حتفه وعند العجز، والبوم باختفائه عن أعين الناس، وبالدلالة يزول الاختفاء، فيزول ما به الأمن، فصار الدلالة نظير الأخذ والقتل، وإذا ثبت أن الدلالة في معنى قتل يتعلق بها من الجزاء ما يتعلق بالقتل، ولأجل هذا المعنى يتعلق بها حرمة الصيد حتى حرم الصيد الذي دل المحرم عليه كما حرم الصيد الذي قتله المحرم، هكذا ذكر في «الأصل» ، وإليه أشار عليه السلام في «قصة أصحاب أبي قتادة» .

(2/443)


وفي «المنتقى» : المحرم إذا دلّ حلالاً على صيد، وقتله الحلال، فلا ينبغي للدال أن يأكل منه، وإن حل من إحرامه، وكذلك غيره من المحرمين، ولا بأس للحلال أن يأكله بأربع شرائط:
أحدها: أن يتصل بها القتل؛ لأن كونها مفوتة للأمن على شرف الزوال بترك المدلول أخذه، وقراره عن ذلك المكان، فكان كالمغصوب قبل الهلاك.
والثاني: بأن لا يكون المدلول عالماً بمكان الصيد؛ لأنه إذا كان عالماً به ففوات الأمن لا يكون مضافاً إلى الدلالة.

الثالث: أن يصدقه (174أ1) المدلول في دلالته، ويتبع أثره، أما إذا كذبه في دلالته وإن تبع أثره حتى دله آخر، فصدقه واتبع أثره، فقتله، فلا جزاء على الدال الأول؛ لأن فوات أمن الصيد لا يكون مضافاً إلى دلالته إذا كذبه في دلالته.
الرابعة: أن يأخذ المدلول الصيد، والدال محرم، فأما إذا حل الدال من إحرامه قبل أن يأخذه المدلول، فلا جزاء على الدال؛ لأن الدلالة إنما تتم جناية عند فوات الأمن عن الصيد بإثبات الآخذ يده عليه، فإذا لم يكن الدال محرماً وقت الأخذ لا يتم فعله جناية.
ومسائل الدلالة أقسام:
أحدها: محرم دل محرماً على صيد، فقتله المدلول، فعلى كل واحد منهما جزاء كامل، ذكره في «الأصل» .
والثاني: محرم دل حلالاً على الصيد، فقتله المدلول، فعلى الدال قيمته، ولا شيء على الحلال ذكره في «الأصل» أيضاً.
والثالث: حلال دل محرماً على صيد، والحلال في الحرم فقتل المحرم الصيد، فليس على الدال الجزاء في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وقولهما ذكر في «الجامع الكبير» ، وهكذا ذكر في «المجرد» عن أبي حنيفة، وفي «الهارونيات» قال: على الحلال نصف قيمته.
محرم رأى صيداً في موضع لا يقدر عليه، فدله محرم آخر على الطريق إليه، فذهب فقتله كان على الدال الجزاء؛ لأن دلالته على الطريق كدلالته على الصيد.
وكذلك لو أن محرماً رأى صيداً دخل غاراً، فأقبل رجل يطلبه، فدله المحرم على باب الغار فأخذه وقتله، فعلى المحرم جزاؤه، وكذلك لو رأى محرم صيداً في موضع لا يقدر عليه بوجه من الوجوه إلا أن يرميه بشيء، فدله محرم آخر على قوس، ونشاب ودفع ذلك إليه فرماه وقتله، فعلى كل واحد منهما الجزاء.
محرم استعار من محرم سكيناً ليذبح صيداً له، فأعاره فذبح به الصيد، فلا جزاء على صاحب السكين،

وفي «السير» : إن عليه الجزاء، قال الشيخ أبو العباس الناطفي رحمه الله: ما ذكر في «الأصل» محمول على ما إذا كان المستعير يقدر على ذبحه بغيره، أما إذا لم يقدر على ذبحه بغيره يضمن كما ذكر في «السير» .

(2/444)


وفي «الأصل» : ولو أمر المحرم محرماً بقتل صيد ودله عليه، فأمر الثاني ثالثاً بقتله فقتله، فعلى كل واحد منهم جزاء كامل قيمته.
ولو أخبر محرم محرماً بصيد، فلم يره حتى أخبره محرم آخر، فلم يصدق الأول، فلم يكذبه، ثم طلب الصيد وقتله كان على كل واحد الجزاء. ولو أرسل محرم محرماً إلى محرم فقال: قل له: إن فلاناً يقول لك: في هذا الموضع صيد فذهب فقتله، فعلى الرسول والمرسل والقاتل على كل واحد قيمة الصيد، وإن كان المرسل إليه يراه، ويعلم به فلا شيء على أحد إلا القاتل، فإن عليه الجزاء.
ولو أن محرماً أشار إلى صيد، وقال لرجل: خذ ذلك الصيد من وكره، وهو يرى صيداً واحد في (المشار إليه) ، فانطلق ذلك الرجل، وأخذ ذلك الصيد، وصيد آخر كان في الوكر، فإن على الآمر جزاء الذي أمر به، ولا شيء عليه في الآخر ذكره هشام عن أبي يوسف، وذكر هشام أيضاً عن محمد في محرم أشار إلى جراد، ولم يكونوا رأوها إلا من دلالته، فأخذوها، فعلى الدال لكل جرادة تمرة، إلا أن يبلغ ذلك دماً، فعليه دم.
نوع منه فى المحرم يضطر إلى الصيد
روى الحسن بن زياد: اضطر إلى ميتة وإلى صيد ذبحه قال أبو يوسف رحمه الله: يذبح الصيد ويكفر، وبه أخذ الراوي.
وقال أبو حنيفة ومحمد وزفر: يأكل الميتة ويذبح الصيد؛ لأن في أكل الصيد ارتكاب محظورين الذبح وارتكاب أكل الميتة الحسن؛ لأنه ميتة حكماً وإن اضطر إلى ميتة، وإلى صيد ذبحه محرم، فعلى قول أبي حنيفة، وهو قول محمد أكل الصيد ولم يأكل الميتة، وإن وجد صيداً حياً ولحم كلب أكل لحم الكلب وترك الصيد؛ لأن في أكل الصيد ارتكاب محظورين.

وإن كان وجد صيداً، ومال مسلم ذبح الصيد، ولا يأخذ مال المسلم؛ لأن الصيد حرام حقاً لله تعالى، ومال المسلم حرام حقاً للعبد وكان الترجيح لحق العبد لحاجته، وإن وجد لحم إنسان وصيداً يذبح الصيد، ولا يأكل لحم الإنسان استحساناً؛ لأن الصيد حرام حقاً لله تعالى، ولحم الإنسان حرم حقاً لله تعالى والإنسان، فما استويا في الحرمة.
نوعفي المحرم شاركه غيره في قتل الصيد
إذا أشرك محرماً في قتل صيد، فعلى كل واحد منهما قيمة كاملة؛ لأن الواجب على المحرم جزاء وكفارة، والكفارة لا تتجزأ، وإن كان الصيد مملوكاً للآدمي، فكذلك الجواب فيما يعود إلى حق الله تعالى، ويصرف إلى..... ويغرمان قيمة واحدة للمالك

(2/445)


بدل المحل والمتلف في حقه محل واحد، وهو نظير رجلين قتلا عبداً لرجل خطأ، فعلى كل واحد منهما كفارة على حدة وقيمة واحدة للمالك عليهما، ولهذا قلنا: ما لزم المحرمين لله يسقط بالصوم، وهذا كفارة كونه كفارة.
محرم أخذ صيداً، وقتله محرم آخر في يده، فعلى كل واحد منهما الجزاء أما الآخذ؛ فلأنه جان على الصيد بإزالة الأمن، فإنه أثبت يده عليه، وأخذه وهو يخاف منه، وأما القاتل؛ فلأنه بالقتل قرر فوات الأمن؛ لأن فوات الأمن بالآخر كان يوحي الزوال بانفلات الصيد أو بإرسال الأخذ، وبالقتل يتقرر ذلك الفوات، وللتقرير حكم الإنشاء على ما عرف، ثم الآخذ يرجع على القاتل بما ضمن؛ لأن سبب ملك الصيد في حق الأخذ قد وجد، وهو الأخذ لكن لم يثبت له الملك المانع، وهو إحرام الصيد، وهذا المانع خص الصيد، فلا يصير الامتناع في حق بدله، كان الأصل صار مملوكاً له.
نوع منه فى لبس المخيط

قال محمد رحمه الله في «الأصل» : لا يلبس المحرم قميصاً ولا قباء ولا سراويلاً ولا قلنسوة ولا خفين به ورد «الأثر (174ب1) عن رسول الله عليه السلام» رواه ابن عمر رضي الله عنهما، وما ذكر من الجواب في الفتيا محمول على ما إذا وضعه على منكبه وأدخل يديه في كميه وزره أو لم يزره، فأما إذا وضع على منكبيه ولم يدخل يديه في كميه، ولم يزره فلا بأس به عندنا؛ لأنه بمعنى التردي.
والأصل أن المحرم ممنوع عن لبس المخيط على وجه المعتاد حتى لو اتزر بالسراويل وارتدى بالقميص إذا فسخ به فلا بأس به؛ لأن المنع عن لبس المخيط في حق المحرم لما فيه من معنى الترفيه، وذلك في اللبس المعتاد لا في غيره؛ لأن غير المعتاد يحتاج إلى تكلف حفظه عند استعماله كما يحتاج إلى تكلف حفظ الأزرار، ويكره له أن يزر ليس أن يعقده على إزاره بحبل أو نحوه؛ لأنه لا يحتاج في حفظه إلى تكلف، فيشبه المخيط مع هذا لو فعل لا شيء عليه لأن المحرم عليه لبس المخيط ولم يوجد، ولا يلبس الجوربين كما لا يلبس الخفين وإذا لم يجد نعلين، وله خفان قطعهما أسفل الكعبين، وتعتبر الكعب هنا العظم المربع في وسط القدم عند معقد الشراك، وإنما أمر بذلك ليصيرا في معنى النعلين، وإذا لبس المحرم المخيط على وجه المعتاد يوماً إلى الليل فعليه دم، وإن كان أقل من ذلك فعليه صدقة، وفسر الكرخي الصدقة ههنا فقال: نصف صاع من بر، قال: وكذلك كل صدقة في الإحرام غير مقدرة فيفسرها بهذا إلا في قتل القمل والجراد.

(2/446)


d

وفي «المنتقى» : إذا لبس قميصاً أكثر اليوم، فعليه دم في قول أبي حنيفة الأول ثم رجع، وقال: حتى يكون يوماً كاملاً وهو قول محمد، وعن محمد إذا لبس بعض اليوم، فإني أرى أن أحكم عليه من الدم مقدار لبسه، وعن أبي يوسف رحمه الله إذا لبس قميصاً أكثر من نصف يوم أو أكثر من نصف ليلة فعليه دم، وإن لبس ما لا يحل لبسه من المخيط يوماً أو أكثر بضرورة، فعليه أي الكفارات شاء وذلك إما النسك أو الصوم أو الصدقة، فإن اختار النسك أو الصوم أو الصدقة، فإن اختار النسك ذبح في الحرم، وإن اختار الصوم صام ثلاثة أيام في أي مكان شاء، وإن اختار الصدقة تصدق بثلاثة أصوع حنطة على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، والأفضل أن يتصدق على فقراء مكة، ولو تصدق على غير فقراء مكة جاز، وإن أطعم طعام الإباحة جاز عند أبي يوسف، وعند محمد لا يجوز قيل: قول أبي حنيفة كقول محمد رحمهم الله، ووجه ذلك أن هنا حق مالي شرع بلفظ الصدقة، فلا يتأدى بالتمليك قياساً على الزكاة.

وإن لبس ما لا يحل له لبسه من غير ضرورة أراق كذلك دماً، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام، وإن اضطر إلى لبس قميص فلبس قميصين، فعليه كفارة الضرورة؛ لأن الزيادة في موضع الضرورة، فلا تصير جناية مبتدأة، وهذا هو الأصل في جنس هذه المسائل: أن الزيادة في موضع الضرورة لا تعتبر جناية مبتدأة، بل يجعل الكل للضرورة لا ينصب له الميزان، ويختلف الناس باختلاف أبدانهم وباختلاف الهواء في ذلك الوقت، والزيادة في غير موضع الضرورة تعتبر جناية مبتدأة حتى إنه إذا اضطر إلى لبسه قميصاً، فلبس قميصاً، ولبس معه عمامة أو قلنسوة، فعليه دم في لبس القلنسوة، وفي لبس القميص يخير في الكفارات يختار أي ذلك شاء؛ لأنهما مختاران، فيعتبر لكل لبس الحكم اللائق به، وإذا اضطر إلى لبس قميص، فلبسه فلما مضى اليوم ذهبت الضرورة، فتركه عليه حتى مضى يوم أو يوماً، فما دام في شك من الضرورة، فذلك ضرورة، وليس عليه إلا كفارة الضرورة، وإذا جاء اليقين أن الضرورة قد ذهبت عنه من قبل ... فلبس بعد ذلك، فعليه كفارتان كفارة الضرورة على قدر ما لبس، والكفارة الأخرى على قدر ما لبس.
ذكر هذه الجملة عيسى بن أبان عن محمد المحرم إذا لبس قميصاً أو جبة بالنهار، ونزعه بالليل لليوم ولبس من الغدو لم يعزم على ترك اللباس إنما نزعه لأجل اليوم، فعليه كفارة واحدة.
والحاصل أن لبس شيء واحد ما لم يتركه، ويعزم على الترك، فإذا تركه وعزم على الترك ثم لبسه، فهو لبس آخر أما بدون العزم على الترك، فهو لبس واحد، ومن هذا الجنس إذا لبس مخيطاً للضرورة أياماً، وكان ينزع بالليل للاستغناء من ذلك، فهذا كله جناية واحدة، بخلاف ما إذا نزع لزوال الضرورة، ثم اضطر إليه بعد ذلك ولبس، فإنه تلزمه كفارة أخرى؛ لأن حكم الضرورة الأولى قد انتهى بالرد، وكان اللبس الثاني جناية

(2/447)


مبتدأة، بخلاف ما نحن فيه، وهو نظير ما لو داوى جرحه بدواء فيه طيب مراراً كان عليه كفارة واحدة ما لم يبرأ، وإذا برأ، ثم جرحت له جراحة أخرى، فداواها بالطيب كان عليه كفارة أخرى.
في «المنتقى» : إذا كان كان المحرم يحمُّ يوماً، وتتركه الحمى يوماً، قد عرف ذلك، وكان يلبس في يوم الحمى ويترك اللبس في اليوم الآخر، فعليه كفارة واحدة ما لم يذهب ذلك الحمى، وتأتيه حمى أخرى، وكذلك المحرم إذا عرض له عدو، واحتاج إلى لبس السلاح والدرع وما أشبه ذلك لمقاتلتهم، ثم تفرقوا ونزع ما عليه من السلاح، ثم عادوا فلبس ثانياً وثالثاً، فعليه في ذلك كفارة واحدة حتى يذهب العدو، ويأتيه عدو آخر، ولو لبس قميصاً يوماً أو أكثر من غير ضرورة وأراق كذلك دماً، ثم ترك القميص عليه بعد ما كفر أياماً كثيرة، فعليه كفارة أخرى.
ولو أحرم، وعليه مخيط، وتركه على نفسه يوماً أو أكثر عليه الكفارة؛ لأنه لبس مستدام، فيكون لدوامه حكم الابتداء.

ولا يغطي المحرم رأسه ولا وجهه، والمحرمة لا تغطي وجهها، وإن فعل ذلك إن كان يوماً (175أ1) إلى الليل، فعليه دم، وإن كان أقل من ذلك، فعليه صدقة، وكذلك لو غطى ربع رأسه، فصاعداً يوماً، فعليه دم وإن كان أقل من ذلك، فعليه صدقة، هكذا ذكر في المشهور، وعن محمد رحمه الله أنه قال: لا يجب الدم حتى يغطي الأكثر من الرأس، والصحيح ما ذكر في المشهور؛ لأن ما يتعلق بالرأس من الجناية، فللربع حكم الكل لما تيسر بعد هذا.

ولو حمل المحرم شيئاً على رأسه، فإن كان شيئاً من جنس ما لا يغطى به الرأس كالطست، والإجانة وعدل بر ونحوها، فلا شيء عليه، وإن كان من جنس ما يغطى به الرأس من الثياب، فعليه الجزاء؛ لأن ما لا يغطى به الرأس، فالمحرم يكون حاملاً له لا مستعملاً ألا ترى أن الأمين لو فعل ذلك لا يصير ضامناً؟
قال في «الأصل» : وإن استظل المحرم بفسطاط فلا بأس به، وكذلك إذا دخل تحت ستر الكعبة حتى غطاه والستر لا يصيب رأسه لا وجهه لا بأس به، لأن التغطية إنما تحصل بماس بدنه، وإن كان يصيب رأسه ووجهه كرهت له ذلك لمكان التغطية، وإن كان المحرم نائماً، فغطى رجل رأسه ووجهه بثوب يوماً كاملاً، فعليه دم؛ لأن فعل غيره كفعله بنفسه في حق حصول الارتفاق.
نوع منه في الجماع

حرام على المحرم بالنص قال الله: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} (البقرة: 197) والرفث هو الجماع عند بعض المفسرين، وإن جامع وكان مفرداً بالحج إن كان جامع قبل الوقوف بعرفة فسد حجه، وعليه دم، تكفيه الشاة، وعليه المضي في فاسده يفعل جميع ما يفعله في الحج الصحيح، وعليه الحج من قابل، وإن كان جامع ثانياً قبل الوقوف بعرفة، فعليه شاة أخرى في قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن الثاني من محظورات

(2/448)


الإحرام، وقال محمد رحمه الله: يكفيه كفارة واحدة، إلا أن يكون كفر عن الأولى، فيلزمه كفارة أخرى؛ لأن الجناية من جنس واحد، والمجني عليه واحد، فيثبت الاتحاد في الواجب كما في كفارة الصوم، فإن جامع في مجلس واحد مرتين تكفيه كفارة واحدة بلا خلاف.
وإن جامع بعد الوقوف بعرفة لا يفسد حجة، وعليه جزور، فإن جامع جماعاً آخر، فعليه شاة مع الجزور؛ لأن الجناية الثانية تقاصرت عن الجناية الأولى لتمكن النقصان لوجود الجناية الأولى، فتكفيه الشاة، فإن كان الجماع الثاني على وجه الرفض فلا دم عليه للثاني.
ذكر القدوري في «شرحه» : وإن جامع وكان مفرداً بالعمرة إن جامع قبل الطواف فسدت عمرته ومضى في فاسده، وعليه عمرة مكانها، وعليه دم تجزؤه الشاة، وإن جامع بعد الطواف لا تفسد عمرته فعليه دم تجزؤه الشاة، وكذلك إذا جامع بعد ما طاف لعمرته أربعة أشواط لا تفسد عمرته؛ لأنه أتى أكثر الطواف، وللأكثر حكم الكل.

وإن كان قارناً، وجامع قبل أن يطوف لعمرته فسدت عمرته وحجه ويمضي فيها، وعليه دمان، وعليه حجة وعمرة من قابل، وسقط عنه دم القران؛ لأن دم القران وجب شكراً على ما اتفق له من نسكين صحيحين في سفرة واحدة، ولم يتفق له نسكان صحيحان، وإن جامع بعدما طاف لعمرته قبل الوقوف فسد حجه، ولم تفسد عمرته، وعليه دمان، وعليه قضاء الحج من قابل، وسقط عنه دم القران، وكذلك إذا جامع بعدما طاف لعمرته أربعة أشواط فسد حجه ولم تفسد عمرته، وإن كان جامع بعدما وقف بعرفة لا تفسد عمرته ولا حجته، وعليه جزور لحجته وشاة لعمرته، ولزمه دم القران؛ لأنه اتفق له نسكان صحيحان في سفر واحد.
وإن كان متمتعاً، فإن لم يسق الهدي مع نفسه، فالجواب في المفرد بالعمرة، وإن ساق الهدي مع نفسه، فهو والقارن سواء، هكذا ذكر الشيخ الإمام الأجل شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله، لم يرد بهذه التسوية في حق جميع الأحكام.
ألا ترى أن القارن إذا جامع قبل أن يطوف لعمرته فسد عمرته وحجه، لأنه في إحرام الحج والعمرة جميعاً، والمتمتع قبل أن يطوف لعمرته تفسد عمرته لا غير؛ لأنه لم يصر شارعاً في إحرام الحج؟ وإنما أراد به التسوية في حق بعض الأحكام، وهو سقوط دم المتعة متى جامع قبل الطواف لعمرته، أو قبل الوقوف بعرفة، ولزوم بعده الدمين متى جامع قبل الوقوف بعرفة. فإن ساق الهدي مع نفسه لمتعة من التحلل بمتعة من التحلل بين النسكين، على ما تبين، فيبقى في إحرام العمرة كما كان، فإذا شرع في إحرام الحج، وجامع قائماً جنى على إحرامين.

والوطء في الدبر لا يفسد الحج ولا العمرة في إحدى الروايين عن أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن معنى الوطء متقاصر، ولهذا لم يجب الحد عنده، وفي رواية أخرى يفسد؛ لأنه كامل من حيث إنه ارتفاق.

(2/449)


وإذا أتى بهيمة لا يفسد حجة ولا عمرته أنزل، أو لم ينزل، غير أنه إن أنزل فعليه الدم، وإن لم ينزل فلا شيء عليه، وإذا جامع فيما دون الفرج وأنزل أو لم ينزل، أو قبل بشهوة أو لمس بشهوة وأنزل، أو لم ينزل لا يفسد حجة؛ لأن القياس أن لا يفسد الحج بالجماع وبدواعيه كما لا يفسد بسائر المحظورات لكن عرفنا الفساد بالجماع بالنص، والنص الوارد بالجماع لا يكون وارداً في هذه الأشياء؛ لأن الاستمتاع والارتفاق بالجماع أكمل وعليه دم أنزل أو لم ينزل لوجود أصل الاستمتاع.
وفي «المنتقى» : بشر عن أبي يوسف: محرم قَبَّل امرأة بشهوة فعليه دم، وإن اشتهت هي فعليها دم أيضاً، وإن لم تشته هي فلا شيء عليها، ولو قبلها بغير شهوة فلا شيء عليه، ولو نظر إلى فرج (175ب1) . امرأته بشهوة، قلت: ذكر في «الجامع الصغير» : أنه لا شيء عليه، وذكر في «المنتقى» الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله: إذا نظر إلى فرج امرأته بشهوة، فعليه دم، وإن جومعت المرأة مكرهة أو نائمة، أو كان جامع صبياً أو مجنوناً، فعليها الدم لحصول معنى الارتفاق لها.
نوع منه فى حلق الشعر وقلم الأظافير
يجب أن يعلم بأن حلق الشعر وقلم الأظافر حرام على المحرم؛ لأنه من جملة قضاء التفث وأوان قضاء التفث أوان التحليل، وهو ما بعد الرمي في اليوم الأول من أيام النحر وبعد الذبح والحلق.
قال محمد رحمة الله عليه في «الجامع الصغير» : محرم حلق موضع المحاجم، فعليه دم، وقال أبو يوسف ومحمد: عليه صدقة، فهما يقولان إن موضع المحاجم لا يحلق لقضاء التفث ولا يقصد به ذلك، وإنما يقصد به الحجامة فمن حيث إنه حصل به قضاء التفث حقيقة أوجبنا الصدقة، ومن حيث إنه لا يقصد به قضاء التفث لم يوجب الدم، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: حلق هذا الموضع قضاء التفث حقيقة، وإنه مقصود لمن يقصد الحجامة، وقضاء التفث حقيقة (من) محظورات الإحرام، وإنما يسقط اعتباره إذا لم يكن مقصوداً أصلاً، وإنه ليس بهذه الصفة، فلا يسقط اعتباره.
ولو حلق الإبطين، أو حلق أحدهما فعليه دم، وكذلك إذا نتفه أو طلى بنورة؛ لأن حلق كل واحد منهما مقصود لمعنى الراحة، وإن حلق الرقبة كلها، فعليه دم؛ لأنه حلق مقصود للراحة.
قال في «الجامع الصغير» : إذا حلق من رأسه أو لحيته ثلثاً أو ربعاً، فعليه دم، وقال في «الأصل» : إذا أخذ ثلث لحيته أو رأسه فعليه دم، وذكر في «الأصل» لفظة الأخذ، وإنها تتناول الحلق والتقصير، وذكر حكم الثلث ولم يذكر حكم ما دونه، وفي «الجامع

(2/450)


الصغير» ذكر لفظة الحلق، وإنها لا تتناول التقصير، وذكر حكم ما دون الثلث، وهو الربع، وإنما أوجب الدم بحلق الربع؛ لأنه يعمل عمل حلق الكل في المعنى الموجب للدم، وهو الارتفاق الكامل و (هو) المقصود.
أما في الرأس؛ فلأن عامة العرب يحلقون النواصي ويتركون الباقي، والأتراك يحلقون وسط الرأس قدر الربع، وبه يقع رفقهم عادة.
وأما في اللحية؛ فلأن اللحية إذا طالت قد يؤخذ منها الربع والثلث حتى لا يبقى إلا قدر قبضة، وإنه مطلوب للزينة، وهو عادة أهل العراق فيكون رفقاً كاملاً.

وإن أخذ من شاربه، فعليه حكومة عدل هكذا ذكر في «الجامع الصغير» ، ومعناه أنه ينظر أن هذا المأخوذ كم يكون من ربع اللحية؟ فيجب عليه الصدقة بقدر ذلك، حتى إنه إذا كان قدر ربع اللحية يلزمه ربع قيمة الشاة يتصدق به، هكذا ذكر في «الجامع الصغير» ، وذكر في «الأصل» عن هذه المسألة، وقال: عليه الصدقة يحتمل أن يكون المراد الصدقة على التفسير الذي قلنا، ولو حلق الشارب كله يلزمه الدم، كذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله، وبه أخذ بعض أصحابنا.
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: والأصح عندي أنه لا يلزم الدم؛ لأنه طرف من أطراف اللحية، وهو تبع اللحية فالعضو واحد، وإنه دون ربع الكل، وما دون الربع ليس له حكم الكل، فلا يجب به الدم بل يكفيه الصدقة.
قال في «الجامع الصغير» عقيب هذه المسائل: وإذا حلق عضواً كاملاً فعليه الدم، وإن حلق بعضه فعليه الصدقة، وأراد به الفخذ والساق والإبط دون الرأس واللحية، وقد ذكرنا أن بحلق ربع الرأس واللحية يجب الدم، وهذا لأن الربع في الساق والفخذ والإبط لا يعمل عمل الكل في العادة؛ إذ العادة في هذه الأعضاء ليس هو الاقتصار على الربع، ولا كذلك الرأس واللحية على ما بينا.
وفي «المنتقى» : إذا نتف المحرم من إبطيه وهو كثير الشعر قدر ثلث أو ربع فعليه دم، وإن كان إبطه قليل الشعر، فنتف الأكثر فيه فعليه دم، فإن نتف الأقل منه أطعم كذلك نصف صاع. وفي كل موضع قلنا بوجوب الصدقة لا ينقص عن طعام مسكين واحد نصف صاع من حنطة، وقد مر هذا.

ولو حلق رأس حلال أو من شارب حلال شيئاً أطعم ما شاء عندنا خلافاً للشافعي رحمه الله، وعلى هذا الخلاف إذا حلق رأس محرم، أو أخذ من شارب محرم يجب على المحلوق رأسه إذا كان محرماً الجزاء بالإجماع؛ لأن ما هو المقصود من الحلق، وهو الراحة قد حصل له. وإذا ألبس المحرم محرماً أو حلالاً مخيطاً أو طيبه بطيب، فلا شيء عليه بالإجماع، وكذلك إذا قتل قملة على غيره لا يلزمه شيء.
في «الأصل» : حلق المحرم رأسه بغير عذر أراق دماً، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام، وإن فعل ذلك بعذر يخير بين الكفارات الثلاث على ما مر.
في «المنتقى» هشام عن محمد: إذا سقط من شعر رأس المحرم أو لحيته عند

(2/451)


وضوئه ثلاث شعرات، فعليه كف من طعام، قال: وإن كان قدر جزء، فعليه دم، قال هشام: قلت لمحمد رحمه الله: ما قدر الجزء؟ قال: قدر العشر من شعر اللحية أو الرأس، عنه أيضاً: إذا خبز العبد المحرم، فاحترق بعض شعر بدنه في التنور، فعليه الدم إذا عتق.
فيه أيضاً: أبو سليمان عن محمد رحمه الله: رجل جهل، وهو حاج فحلق رأسه قبل أن يرمي الجمر، فلا شيء عليه.
فيه أيضاً: إذا حلق رأسه وأخذ من لحيته ثلثاً أو ربعاً فإن فعل ذلك في مقام واحد فعليه دم واحد، وإن فعل كل شيء من ذلك في مقام، فعليه في كل شيء من ذلك دم واحد وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: المقام والمقامات عندي على السواء، وإن حلق رأسه وأراق لذلك دماً وهو بعد في مقام واحد، ثم حلق لحيته أو شاربه فعليه دم آخر بلا خلاف (176أ1) .
الحسن بن زياد في كتاب «الاختلاف» ، فيمن أخر الحلق حتى مضى أيام النحر، فعليه دم، وكذلك القارن أو المتمتع إذا أخر الذبح حتى مضت أيام النحر.

إذا قلم المحرم جميع أظافيره، فعليه دم واحد هكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وإن قلم أظافير كف، فعليه دم؛ لأنه ربع الجملة، وهو رفق كامل وزينة تامة، وإن قلم أقل من كف فعليه صدقة؛ لأنه دون الربع قلم من كل كف أربعاً، فعليه الطعام إلا أن يبلغ دماً، فيطعم ما شاء معناه، فينقص من الدم ما شاء، وقال محمد رحمه الله: إذا قلم خمسة أظافير من يد واحد أو يدين أو يد ورجل، فعليه دم؛ لأنها ربع الجملة، وإذا قلم الأظافير كلها في مجالس متفرقة بأن قلم أظافير يد واحدة، ثم قلم أظافير اليد الأخرى في مجلس آخر، ثم قلم أظافير إحدى الرجلين في مجلس آخر، فإن كان حين قلم أظافير إحدى اليدين كَفَّر، ثم قلم أظافير اليد الأخرى لزمه كفارة أخرى، وعلى هذا حكم الرجلين. وإن كان لم يكفر حتى قص الأظافير كلها فعليه دم واحد في قول محمد رحمه الله، وعندهما يلزمه لكل فعل دم؛ لأن الفعل الواحد في مجالس مختلفة ينزل منزلة أفعال مختلفة.
ولو قامت الأفعال حقيقة بأن جامع وتطيب ولبس المخيط أنه يلزمه لكل فعل دم، وإذا انكسر ظفراً محرم وانقطع منه شطره، فقلمه فلا شيء؛ لأن ما انقطع لا شيء سئموا فقلمه لا يكون جناية.
في «المنتقى» : الحسن بن أبي مالك عن أبي حنيفة، إذا قلم أصبعاً واحد، فعليه طعام مسكين، وقال أبو يوسف: عليه في ذلك قبضة من طعام، المحرم إذا قلم أظافر حلال أو محرم أطعم ما شاء عندنا، وعلى المقلوم أظافيره الدم إذا كان محرماً لما ذكرنا في الحلق، والله أعلم.

(2/452)


نوع منه فى الدهن والطيب والخضاب
يجب أن يعلم بأن المحرم ممنوع عن استعمال الدهن والطيب، قال عليه السلام في صفة الحاج «الحاج الشعث التفل» ، وقال عليه السلام «يأتون شعثاً غبراً من كل فج عميق» واستعمال الدهن والطيب لهذا، فإذا استعمل الطيب، فإن كان كثيراً فاحشاً، فعليه الدم، وإن كان قليلاً فعليه الصدقة.

واختلف المشايخ في الحد الفاصل بين القليل والكثير، وإنما اختلفوا لاختلاف عبارات محمد رحمه الله، ففي بعض المواضع جعل حد الكثرة عضواً كثيراً، فقال: إذا خضب الرجل لحيته أو رأسه بالحناء، أو خضبت المرأة يدها أو رأسها بالحناء ففيه الدم، وفي بعض المواضع جعل حد الكثرة الكثيرة في نفس الطيب فقال: إذا اكتحل المحرم كحلاً فيه الطيب يكفيه الصدقة ما لم يفعل ذلك مراراً، فإذا فعل ذلك مراراً فعليه الدم، وقال في المحرم: إذا مس الطيب أو استلم الحجر فأصاب يده خلوق، إن كان ما أصابه كثير فعليه الدم، فبعض مشايخنا اعتبروا الكثرة بالعضو الكبير نحو الفخذ والساق، فقالوا: إذا طيب الساق أو الفخذ بكماله يلزمه الدم، وبعضهم اعتبروا الكثرة بربع العضو الكثير فقالوا: إذا طيب رب الساق، والفخذ يلزمه الدم، وإن كان أقل من ذلك يلزمه الصدقة.
والفقيه أبو جعفر رحمه الله اعتبر القلة والكثرة في نفس الطيب، فقال: إن كان الطيب في نفسه بحيث يستكثره بكفيه الناس، لكفين من ماء الورد، والكف من المسك أو الغالية، فهو كثير وما لا فلا، قال الشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: إن كان الطيب في نفسه قليلاً، إلا أنه طيب عضواً كاملاً، فإنه يكون كثيراً، أو تكون العبرة في هذه الحالة للعضو، وإن كان الطيب في نفسه كثيراً لا يعتبر العضو مكانه سلك فيه طريق الاحتياط، وإن مس طيباً إن لم يلزق بيده شيء منه، فلا شيء عليه، وإن لزق بيده منه إن كان كثيراً يلزمه الدم، وإن كان قليلاً لا يلزمه الدم، ويكفيه الصدقة.
وفي «المنتقى» : عن محمد رحمه الله: إذا أصاب المحرم طيباً فعليه دم، فقلت: ما فرق بين القميص والطيب فإن يلبس القميص لا يجب الدم حتى يكون أكثر اليوم؟ قال: لأن الطيب تعلق به، فقلت: وإن اغتسل من ساعته؟ قال: وإن.

وفيه: هشام عن محمد رحمه الله: خلوف الفرد إذا أصاب ثوب المحرم غسله، ولا شيء عليه فإن كان كثيراً أو أصاب جسده منه كثير، فعليه دم.

(2/453)


قال في «الأصل» : الوسمة ليست بطيب.... والحناء طيب لأن لها....، وذكر في «المنتقى» هشام عن محمد رحمه الله: إذا خضب رأسه بالوسمة يطعم نصف صاع مسكيناً.
وفيه أيضاً: ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله: إذا طيب المحرم شاربه كله، فعليه دم، وكذلك مثل موضع الشارب من اللحية والرأس، وأما الجسد فإن أصابه شيء كثير فعليه دم، وإن كان يسيراً فعليه طعام، ولم يوقت في الجسد شيئاً.
وفيه أيضاً: هشام عن محمد إذا مس طيباً كثيراً يجب عليه فيه الدم، فأراق لذلك دماً ولو ترك الطيب على حاله يجب عليه لأجل ترك الطيب دم آخر، ولا يشبه هذا الذي تطيب قبل أن يحرم، ثم أحرم وترك الطيب عليه بعد إحرامه، فإنه لا يكون عليه شيء.
وفيه أيضاً: الحسن عن أبي حنيفة إذا أحرم في إزار أو رداء، وفيه طيب أو دهن، ووجد فيه ريح، فإن كان كثيراً فاحشاً قدر شبر في شبر، فمكث عليه ساعة أطعم كذلك مسكيناً نصف صاع.
ويكره للمحرم أن يشم الريحان والطيب والثمار الطيبة، كذا روي عن ابن عمر رضي الله عنهما، ولكن لا يلزمه بالشم شيء، ولو أكل زعفران من غير أن يكون في الطعام إن كان كثيراً، فعليه دم، وإن جعل الزعفران في طعام وطبخ، فأكل فلا شيء عليه، فإن (176ب1) جعل في طعام لم تمسه النار كالملح، فلا بأس به، إلا أن يكون الزعفران هو الغالب، فحينئذٍ يلزمه الدم اعتباراً للغالب.
k

وإذا خضب الرجل رأسه ولحيته بالحناء، فعليه الدم هكذا ذكر في «الأصل» ، وجمع بين الرأس واللحية في إيجاب الدم. وفي «الجامع الصغير» أفرد الرأس بالذكر وبإيجاب الدم وتبيين ما ذكر في «الجامع الصغير» أن كل واحد منهما مضمون بالدم المسألة على وجهين: إن خضب رأسه بالمائع حتى لم يصير ملبداً رأسه يلزم دم واحد لاستعمال الطيب، ولو خضب رأسه بغير المائع يلزمه دمان، دم لاستعمال الطيب، ودم لتغطية الرأس.
محرم دهن رأسه بزيت قبل أن يحلق أو يقصر، فإن كان الزيت قد ألقي فيه شيء من الطيب، ففيه الدم بالإجماع، وإن كان الزيت خالصاً لم يلزمه شيء من الطيب، ففيه الدم عند أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف ومحمد: فيه الصدقة. قال شيخ الإسلام رحمه الله: هذا إذا استكثر منه، فأما إذا قل، فعليه الصدقة بالإجماع، وجه قولهما: أن غير الطيب لا يساوي الطيب في الزينة، فكانت جناية قاصرة فلا يلزمه الدم، ولأبي حنيفة رحمه الله أن الدهن أصل الطيب؛ لأن الروائح تلقى فيه، ويصير طيباً، فيلحق بحقيقة الطيب في حق وجوب الجزاء احتياطاً.
ولو داوى جرحه أو شقوق رجله بدهن ليس فيه طيب، فلا شيء عليه؛ لأن الدهن

(2/454)


ليس بطيب حقيقة، لكن ألحق بالطيب من حيث إنه أصل الطيب؛ إذا استعمل استعمال الطيب بخلاف الكافور والمسك والزعفران؛ لأنه طيب حقيقة، فكيف ما استعمله يجب الدم به. ولو ادهن بشحم أو سمن، فلا شيء عليه؛ لأنه مأكول وليس بطيب، ولا أصل للطيب، ولو وجب الجزاء هنا لوجب باستعمال الطيب، ولو غسل رأسه ولحيته بالخطمي، فعليه الدم عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما عليه الصدقة.

وفي «المنتقى» هشام عن محمد رحمه الله: إذا غسل المحرم يده بأشنان فيه طيب، فإن كان إذا نظروا إليه قالوا: هذا أشنان ففيه الصدقة، وإن قالوا: هو طيب فعليه الدم. وعنه أيضاً: لا بأس أن يأكل المحرم الزيت ودهن الشح، وأن يقطر في أذنه الزيت قال: لأن هذا طعام وطيب يعني الزيت طعام وطيب من حيث إنه أصل الطيب، فإذا لم يستعمله على وجه الطيب لا يظهر حكم الطيب بخلاف البنفسج، وأمثاله؛ لأنه طيب بنفسه.

الفصل السادس: في صيد الحرم وشجره وحشيشه وحكم أهل مكة
أما حكم الصيد فنقول: قتل صيد الحرم حرام إلا ما استثناه رسول الله عليه السلام في قوله «خمس من الفواسق» ، هذا لأن الصيد يستفيد الأمن بسبب الحرم قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} (العنكبوت: 67) وأثر ثبوت الأمن حرمة التعرض.
وقال عليه السلام في الحديث المعروف «ولا ينفر صيدها» وفي القتل تنفير الصيد، فيكون حراماً، فإن قتله حلال، فعليه جزاؤه؛ لأنه أتلف محلاً أمناً ويجوز فيه الإطعام، فإذا أراد القاتل إخراج الطعام عن قيمته قوَّمه، ثم أخرج إلى كل فقير نصف صاع من حنطة أو صاعاً من شعير، ولا يجوز الصوم عندنا، وهو مذهب عثمان رضي الله عنه؛ لأن ضمان صيد الحرم بدل محض؛ لأنه وجب باعتبار وصف في المحل، وهو الأمن الثابت للصيد بسبب الحرم وصار الأمن الثابت للصيد بسبب الحرم بمنزلة ملك الآدمي في المحل، ولا مدخل للصيام في إبدال المحل؛ لأن بدل المحل يجب أن يكون مثلاً، ولا مماثلة بين الصوم والمال بخلاف ما يجب على المحرم؛ لأن جزء العادة فيه معنى البدلية، والصوم إن لم يصلح بدلاً يصلح كفارة، وأما الهدي فقد ذكر القدوري أن فيه روايتين: في رواية لا يجوز، وفي رواية يجوز.

وذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن في ظاهر رواية أصحابنا يجوز، وفي غير رواية «الأصول» لا يجوز، فعلى ظاهر الرواية كما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله، وعلى إحدى الروايتين كما ذكره القدوري، سوى بينه وبين المحرم في حق الهدي، فيجوز الهدي

(2/455)


فيهما، وعلى غير رواية «الأصول» كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله، وعلى إحدى الروايتين كما ذكره القدوري فرق بينه وبين المحرم والصحيح هو التسوية.
ووجه ذلك أن جواز الهدي في حق المحرم على موافقة القياس؛ لأن الجناية من المحرم من حيث إراقة الدم، وفي الهدي إراقة الدم فيمكن تجويزه في حق صيد الحرم قياساً عليه بخلاف الصوم؛ لأن جواز الصوم في حق المحرم كان على مخالفة القياس؛ لأن الجناية من المحرم بإراقة دم ما هو مال، ولا إراقة في الصوم، ولا مالية، فلا يمكن قياس صيد الحرم على المحرم؛ لأن الواجب على المحرم كفارة، والصوم شرع في الكفارات؛ لأن المماثلة بين الكفارات وشبهها ليس بشرط، والواجب في صيد الحرم بدل محض والمماثلة في الأبدال المحضة شرط.
وصورة الهدي في هذا الباب: أن يشتري بقيمة الصيد هدياً ويذبحها، ويتصدق بلحمها على الفقراء، وقد فسر الحسن بن زياد رحمه الله في «مناسكه» ، فقال: ينظر إن كان في لحمه وفاء بقيمته حياً جاز، وإن لم يكن في لحمه وفاءٌ بقيمته حياً فعليه أن يتصدق بتمام القيمة، ويجزئه.

المحيط البرهانى
قال الفقيه أبو العباس الناطفي رحمه الله: وذكر شيخنا أبو عبد الله الجرجاني رحمه الله في مسائل أصحابنا روي عن أبي حنيفة كما فسره الحسن، قال: وكان يقول في الدرس: إن كان قيمة الهدي عند الذبح قدر قيمة الصيد، ثم نقص بالذبح قيمته عن قيمة الصيد جاز، ولا شيء عليه بالنقصان في ظاهر رواية «الأصل» ، وإن كان محرماً واختار الهدي إن كان الذبح قيمة الهدي حياً قدر قيمة الصيد المقتول ولا شيء عليه من النقصان، وإن كان أقل منها ذبحها، وعليه تمام القيمة، فما ذبح جازه بقدره (177أ1) والزيادة يتصدق بها على الفقراء دراهم أو طعام أو صيام بقدره، وإن اختار الهدي ذبحه في الحرم.
ولو ذبح حاج الهدي ذبحه في الحرم، ولو ذبح خارج الحرم يجزئه، إلا أنه إذا سرق لحمه بعد الذبح، وقد كان الذبح في الحرم، فليس عليه بدله، وإن كان الذبح خارج الحرم، فعليه بدله إذا سرق، هكذا ذكره الناطفي رحمه الله في «أجناسه» ، وإذا قتل المحرم صيداً في الحرم لا يجب عليه لأجل الحرم شيء، ويجب عليه ما يجب على المحرم، وإذا اشترك حلالان في قتل الصيد بالحرم فعليهما جزاء واحد، وكذلك إذا اشتركا في قطع شجر الحرم.
ولو اشترك حلال ومحرم في قتل صيد الحرم، فعلى المحرم جزاء كامل، وهو جميع القيمة، وعلى الحلال النصف؛ لأن الواجب في حق المحرم ضمان الإحرام، وأنه لا يتجزأ، والواجب في حق الحلال بدل المحل وإنه متجزىء، وإذا أخذ حلال صيداً في الحرم، فقتله حلال آخر في يده، فعلى كل واحد منها جزاء كامل؛ لأن كل واحد منهما متلف للصيد أحدهما بالأخذ المفوت للأمن، والآخر بالقتل. وإذا رمى صيداً على غصن شجرة في الحرم أصلها في الحل أو في الحرام لم ينظر إلى أصلها، وإنما ينظر إلى موضع

(2/456)


الصيد، فإن كان في الحل فلا جزاء عليه، وإن كان في الحرام، فعليه الجزاء.

ولو رمى صيداً بعضه في الحل وبعضه الحرم، فالعبرة لقوائمه؛ لأن قوامه بالقوائم، ولو كان بعض القوائم في الحل والبعض في الحرم يرجح جانب الحرمة احتياطاً، وهذا إذا لم يكن الصيد نائماً، فإن كان نائماً، وقوائمه في الحل ورأسه في الحرم، فهو صيد الحرم؛ لأن قوامه في حالة النوم بجميع البدن، فإذا كان جزءاً من بدنه في الحرم احتياطاً.
وإذا أرسل الحلال كلبه على صيد في الحل فاتبعه الكلب وأخذه في الحرم لم يكن على المرسل شيء لكن لا يؤكل الصيد، وهذا الحل يتعلق بالذكاة، والذكاة فعل الكلب غير أن فعل الكلب صار مضافاً إلى المرسل باعتبار الإرسال، فاعتبر في حق إيجاب الضمان حالة الإرسال، وفي حق الحل حالة الأكل عملاً بالشبهتين جميعاً.
ولو رمى الحلال إلى صيد في الحل، فدخل الصيد الحرم وأصابه السهم في الحرم لا يلزمه الجزاء؛ لأن أصل الرمي لم يكن جناية منه، ولكن لا يؤكل الصيد، وهذه المسألة هي المسألة المستثناة من أصل أبي حنيفة رحمه الله، فإن عنده العبرة في حق الحل لحالة الرامي، إلا في هذه المسألة اعتبر حالة الإصابة وكان فعل ذلك احتياطاً.

حلال أخرج عنزاً من الظباء من الحرم الذي مولد في يده أولاد، ثم ماتت هي وأولادها، فعليه جزاء الكل، وهذا لأن الإمام مستحق للإعادة إلى الحرم؛ لأن إخراجها وقع محظوراً من حيث إنه يتضمن تفويت ما استحق من الإعادة إلى الحرم لأن إخراجها وقع محظوراً من حيث إنه يتضمن تفويت ما استحق من الأمن بسبب الحرم ... بالفعل المحظور مستحق، والإعادة إلى الحرم سبب لقود الأمان، فصار الأمان ثابتاً لها قصد للسبب، وهو إعادة الاستحقاق إلى الحرم، والأمان وصف شرعي، والأوصاف الشرعية تسري من الأم إلى ولدها، فيسري الأمان إلى ولدها ثبت اليد على الولد، ولم يرده إلى الحرم، فقد فوت الأمن على ولد مقصود، أفيجب ضمان الولد بسبب صادفه مقصوداً بخلاف ولد المغصوب في حقوق العباد؛ لأن ضمان الغصب فيما بين العباد لا يجب بإثبات اليد؛ لأن إثبات اليد يقع في حق المالك؛ لأن الأموال إنما تصان عن الهلاك بالأيدي.
وإنما وجوب ضمان الغصب لتفويت اليد، ولم يوجب تفويت الولد في حق الولد، فلم يجب ضمانه، فإن أدى جزاء الأم وولدت بعد ذلك لم يكن عليه ضمان الولد؛ لأن الواجب بمقابلة صيد الحرم بدل محض، والبدل يقوم مقام المبدل فيصير بأداء الأم يرد المبدل، ولهذا قلنا: بعد أداء الجزاء لا يجب إعادة الأم إلى الحرم، وإذا صارت ... الأم فلم يبق الأمان صفة لهذه الصورة أصلاً، فلا يحدث الولد نصف الأمان، فلا يجب بإثبات اليد عليه شيء.
وأما حكم الشجر فنقول: قطع شجر الحرم حرام، قال عليه السلام في الحديث

(2/457)


المعروف، «ولا يقطع شجرها» والمعنى: أن في تبقية أشجار الحرم عمارة البقعة، فقلعها يتضمن خرابها؛ ولأن صيد الحرم يأوي إلى أشجار الحرم، ويستظل بظلها، ويأخذ الوكر في أغصانها؛ ففي قلعها إيحاش صيد الحرم، واعلم بأن الشجر الحرام أنواع أربعة: ثلاث منها يحل قطعها والانتفاع بها من غير جزاء، وواحدة لا يحل قطعه منها ولا الانتفاع بها من غير جزاء، وإذا قطعها رجل فعليه الجزاء.

بيان الثلاث: كل شجر أنبته الناس، وهو من جنس ما ينبته الناس، وكل شجر أنبته الناس، وهو ليس من جنس ما ينبته الناس، وكل شجر نبت بنفسه، وهو من جنس ما ينبته الناس.
بيان الواحدة: كل شجر نبت بنفسه وهو ليس من جنس ما ينبته الناس، ويستوي في الواحدة أن تكون مملوكة لإنسان، أو لم تكن، حتى قالوا في رجل نبت في ملكه أم غيلان، فقطعه إنسان فعليه قيمة لما أهلكه، وعليه قيمة أخرى لحق الشرع بمنزلة ما لو قتل صيداً مملوكاً في الحرم، وبعد ما أدى جزاء الشجرة يكره للقاطع الانتفاع بها، وإنما كره كيلا يتطرق الناس إلى مثله، فلا يؤدي إلى استئصال شجر الحرم.
وفي «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله: لا بأس لغيره من محرم أو حلال أن ينتفع به قال: وما جف من شجر الحرم أو تكسّر، فلا بأس بالانتفاع به؛ لأنه ليس شجر الحرم حقيقة؛ لأنه لا نمو له بل هو حطب الحرم، ولا حرمة لحطب الحرم.
قال هشام: قلت لمحمد: ما تقول في شجرة يابسة في الحرم القلع؟ قال: إن كانت عروقها لا تسقها فلا بأس بأن تقطع يعني العروق اليابسة، قال: لأنها حطب معنى قلع شجرة في الحرم حتى وجب عليه قيمتها فغرس المقلوع ... (177ب1) فلأن يقطع ويصنع به ما شاء من غير جزاء، والعبرة في هذا الباب لأصل الشجر لا للأغصان حتى أنه لو كان الأصل في الحرم وعلى قاطع أغصانها، وهذا لأن الأغصان تابعة؛ لأن قواها بأصل الشجرة والعبرة للأصل النفع، وإن كان بعض الأصل في الحل، والبعض في الحرم، فهي شجر الحرم، وعلى قطع الأغصان القيمة سواء كان الغصن من جانب الحل أو من جانب الحرم، ثم إذا وجبت القيمة في شجر الحرم يتصدق بها، ولا يجزىء فيه الهدي ولا الصوم، وعن أبي يوسف في «المنتقى» : وإن شاء اشترى به هدياً.

وأما حكم الحشيش قال محمد رحمه الله في «الأصل» : لا يختلى حشيش الحرم ولا يقطع إلا الإذخر بلا خلاف، فإنه بلغنا أن رسول الله عليه السلام رخص في الإذخر، فكان يحرم قطع الحشيش، وهو القطع بالمنجل، يحرم إرسال البهيمة على

(2/458)


الحشيش في الرعي، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وقال أبو يوسف: لا بأس بالرعي، ولا بأس بأخذ كمأة الحرم ليس من نبات الأرض بل هو مودع فيه، ولا بأس بإخراج حجارة الحرم؛ لأن الانتفاع به جائز في الحرم، وما جاز الانتفاع به في الحرم جاز إخراجه عن الحرم.
وفي «المنتقى» : هشام عن محمد رحمه الله: لا بأس بإخراج تراب الحرم إلى الحل، ألا ترى أنه يخرج القدور والأراك، وتراب البيت وماء زمزم يستسقي به؟ قيل: هذا إذا أخرج قدراً يسيراً لطلب التبرك بحيث لا يفوت به عمارة المكان، فأما إذا أراد أن ينقل ما هو خارج عن العادة ويعمق المكان، فذلك من باب التخريب لا من باب التبرك فليس له ذلك، وليس للمدينة حرمة الحرم في حق الصيود، والأشجار ونحوها إنا ذلك ملكة خاصة، ألا ترى أنه لم تظهر حرمتها في حق إحرام الداخلين حتى جاز الدخول فيها من غير إحرام؟ فكذا في حق الصيود والأشجار،
وأما حكم أهل مكة في «المنتقى» هشام عن أبي يوسف قال: سمعت أبا حنيفة رحمه الله يقول: أكره إجارة بيوت مكة في أيام الموسم، وأرخص فيها في غير أيام الموسم، وهكذا روى هشام عن محمد عن أبي حنيفة رحمهم الله، قال: وكان يقول يعني أبا حنيفة رحمه الله لهم: يعني للحاج أن ينزلوا عليهم في دورهم إذا كان لهم فضل، وإذا لم يكن لهم فضل فلا.

قال هشام: وإنما قال لهم أن ينزلوا عليهم في دورهم لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِى جَعَلْنَهُ لِلنَّاسِ سَوَآء الْعَكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج: 25) ، قال: وإنما فرق أبو حنيفة بين أيام الموسم وغيرها في كراهيته الإجارة والرخصة فيها؛ لأن في أيام الموسم يزدحم الخلق، وتقع الضرورة إلى النزول في مساكنهم، فأنزل منازلهم كالمملوكة للنازلين من وجه نظراً ورحمة لهم، وبعد أيام الموسم ترفع الضرورة، ثم هذه المسألة دليل على جواز إجارة البناء بدون الأرض؛ لأن الإجارة لا ترد على الأرض عند أبي حنيفة كالبيع، وإنما ترد على البناء ورخص فيها في غير أيام الموسم، قال هشام: وكان أبو حنيفة رحمه الله يكره الجوار بمكة؛ لأنها ليست بأرض هجرة، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: أكره الجوار بمكة والمقام بها، وكان يقول: هاجر رسول الله عليه السلام منها.
وفي «المنتقى» أيضاً: هشام عن محمد رحمه الله: ليس لهم أن يبنوا بمنى شيئاً؛ لأنه مباح، قال عليه السلام: «منى مباح من سبق» وقوله: مباح لبيان الانتفاع كأنه يقول في صفة منى إنما ينبغي أن تكون مباحاً للخلق؛ وبه يتبين أن منى كاسمه لإراقة الدماء وإراقة الدماء مظنة على الصراط، والبناء ينقص عليهم كونه مباحاً. والله أعلم بالصواب.

(2/459)


الفصل السابع: في بيان وقت الحج والعمرة
وقت الحج أشهر معلومات قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يأُوْلِي الالْبَبِ} (البقرة: 197) والمراد وقت الحج، والأشهر المعلومات شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي حجة، فإذا عمل شيئاً من أعمال الحج من طواف أو سعي قبل أشهر الحج لا يجوز، وإذا عمل في أشهر الحج يجوز.
ولو أحرم قبل أشهر الحج ينقض إحرامه، قد ذكرنا في صدر الفصل الثاني أن الإحرام عندنا شرط، وتقديم شرط العبادة على وقتها جائز ولكن يكره الإحرام قبل أشهر الحج؛ لأنه لا يؤمن الوقوع في محظورات الإحرام لو قدمه، فإن أمن ذلك لا يكره.
ووقت العمرة السنة كلها؛ لأنه لم يرد فيها توقيت، ولكن يكره في يوم عرفة، وأيام التشريق هكذا روي عن عائشة رضي الله عنها؛ ولأن هذه الأيام وقت أداء الحج، فيجب تجريدها لأداء الحج، وعن أبي يوسف: أنه لا يكره إحرام للعمرة يوم عرفة قبل الزوال؛ لأن ما قبل الزوال ليس وقت أداء أعمال الحج، فإن الوقوف بعد الزوال.
في «المنتقى» : بشر عن أبي يوسف في «الأمالي» : رجل أهل بعمرة في أول العشر، ثم قدم في أيام التشريق، فأحب أن يؤخر الطواف حتى تمضي أيام التشريق، ثم يطوف، وليس عليه أن يرفض إحرامه، ولو طاف لها في تلك الأيام أجزأه ولا دم عليه، ولو أهل بعمرة في أيام التشريق، فإنه يؤمر بأن يرفضها، وإن لم يرفض، ولم يطف حتى مضت أيام التشريق، ثم طاف لها أجزأه، ولا دم عليه، وهذا بناءً على ما قلنا: أن العمرة في يوم عرفة وأيام التشريق مكروهة، وإذا لم يكن الإحرام بالعمرة في يوم عرفة، فالإحرام وجد في وقت لا كراهة فيه، وانعقد لا بصفة الكراهة، فلم يؤمر بالرفض، وأمر بتأخير الطواف لتجريد هذه الأيام للحج.

وأما إذا كان الإحرام بالعمرة في يوم عرفة، أو في أيام التشريق فالإحرام (178أ1) وجد في وقت مكروه، فانعقد بصفة الكراهة، فأمر برفضها إزالةً لهذه الصفة (وقال) ، وفيه عمرو بن أبي عمرو في «الأمالي» بالرفض، وإذا طاف المعتمر بين الصفا والمروة راكباً وهو يقدر على المشي قال أبو حنيفة رحمه الله: عليه الدم، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: عليه لكل طواف طعام مساكين إلا أن يبلغ ذلك دماً، فينتقص منه شيء.

(2/460)


الفصل الثامن: في الطواف والسعي
وقد ذكرنا قبل هذا أنه ينبغي للطائف أن يفتتح الطواف عن يمينه إلى باب الكعبة، ولو أخذ عن يساره على باب الكعبة، وطاف كذلك سبعة أشواط يعيد طوافه في حكم التحلل عندنا، وعليه الإعادة ما دام بمكة. وإن رجع إلى أهله قبل الإعادة فعليه دم.
وقال الشافعي رحمه الله: لا يعتد بطوافه، ولعل المسألة إذا طاف بالبيت معكوساً، وأما إذا سعى معكوساً بأن بدأ بالمروة، فمن أصحابنا رحمهم الله من قال: يعتد به ولكن يكره، والصحيح أنه لا يعتد بالشوط الأول لا لكونه معكوساً لكن؛ لأن الواجب هناك صعود الصفا أربع مرات، وصعود المروة ثلاث مرات، فإذا بدأ بالمروة، فإنما صعد الصفا ثلاث مرات، فعليه أن يصعده مرة أخرى فلا يمكنه ذلك إلا بإعادة شوط واحد بين الصفا والمروة، فأما ها هنا ما ترك شيئاً من أصل الواجب عليه، وقد دار حول البيت سبع مرات فلهذا كان طوافه معتداً به.

وينبغي أن يطوف بالبيت ماشياً، ولو طاف راكباً أو محمولاً، أو سعى بين الصفا والمروة راكباً أو محمولاً إن كان كذلك من عذر يجزئه، ولا يلزمه شيء، وإن كان من غير عذر، فما دام يمكنه، فإنه يعيد، وإذا رجع إلى أهله، فإنه يريق لذلك دماً عندنا، ولو كان الذي حمل هذا الشخص محرماً هل يجزئه بذلك عن طوافه؟ ذكر القاضي الإمام جلال الدين محمود بن مسعود النسفي أن عندنا يجزئه، وعلّل فقال: إن المقصود من الطواف حضور الطائف في جميع مكان الطواف ليصير زائراً لجميع البيت، وقد حضر في مختلفاته في جميع أماكن الطواف، فيسقط عنه الفرض كما في الوقوف بعرفات.
بعض مشايخنا قالوا: إنما يجوز الحامل عن طوافه إذا نوى الطواف أما إذا لم ينوِ لا يجزئه، واستدل هذا القائل بما ذكر القدوري في «شرحه» : إذا طاف بالبيت طالباً الغريم، أو هارباً من عدو أو سبع، ولا ينوي الطواف لا يجزىء عن طوافه بخلاف الوقوف بعرفة، وبعضهم قالوا: وإن لم ينوِ الحامل الطواف جاز إن لم يرد به الحمل، ويستدل هذا القائل بما ذكر القدوري أيضاً.
وكل من وجب عليه طواف، فأتى به وفيه وقع عنه سواء نواه أو لم ينوه، أو نوى به طوافاً آخر، ومثاله المحرم بالحجة والعمرة إذا قدم مكة، وطاف، ولم ينوِ شيئاً أو نوى التطوع، فإن كان معتمراً وقع عن العمرة، ولو كان حاجاً وقع عن طواف القدوم، فالحاصل أن على قول هذا القائل نية الطواف ليست بشرط وقت الطواف، إنما الشرط أن لا يكون ناوياً شيئاً آخر، وخرج على هذا ما إذا طاف بالبيت طالباً الغريم؛ لأن هناك قصد شيئاً آخر سوى الطواف، وفي مسألتنا لو كان قصد الحامل ونيته حمل المحمول لا يجزئه عن الطواف أيضاً.
وفي «المنتقى» : بشر عن أبي يوسف رحمه الله: طاف المحرم بالحج يوم النحر

(2/461)


طوافاً كان ... لله على نفسه أجزأه من طواف الزيارة يوم النحر. أحد عينيه من حيث الزمان، فنزل من هذا الوجه منزلة صوم رمضان.

إذا طاف طواف الواجب في جوف الحجر فإن كان بمكة أعاد الطواف كله، هكذا ذكر في «الجامع الصغير» ، وذكر في «الأصل» : يطوف ما ترك يعني ما يطوف بالحجر، ولا يعيد الطواف على البيت، وليس في المسألة اختلاف الروايتين فما ذكر في «الأصل» جواب الجواز، معناه لو طاف بالحجر وحده أجزأه؛ لأنه أتى بالمتروك، وذكر في «الجامع الصغير» جواب الاستحسان والأولية، يعني المستحب، والأولى أن يعيد الكل ليحصل الطواف على الولاء والترتيب، ثم طريق الطواف بالحجر أن يأخذ من يمينه خارج الحجر حتى ينتهي إلى آخر الحجر، ثم يدخل في الحجر، ويخرج من الجانب الآخر، ثم يطوف وراء الحجر هكذا سبع مرات، ويتصور بطريق آخر من خارجه وهو أنه إذا انتهى إلى آخر الحجر يرجع إلى أوله، ثم يبتدىء لكن لا يعد الخروج إلى أوله شوطاً.
وإن لم يعد الطواف على الحطيم حتى يرجع إلى أهله أجزأه وعليه دم عندنا؛ لأنه ترك واجباً من واجبات الحج، فيقوم الدم مقامه.
بيانه: أن كون الحطيم من البيت ثبت بالخبر الواحد، وإنه يوجب العمل، أمالا يوجب العلم، فجعلنا الطواف به واجباً لا ركناً وترك الواجب يجبر بالدم.
قال محمد في «الجامع الصغير» : إذا طاف طواف الزيارة على غير وضوء، وطاف طواف الصدر في آخر أيام التشريق بالوضوء، فعليه دم، ويجزئه الطواف، ولو كان طاف للزيارة جنباً، وطاف للصدر في آخر أيام التشريق على الطهارة، فعليه دمان عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهم الله عليه دم واحد.

يجب أن يعلم بأن الطواف عندنا صحيح بدون الطهارة، فالطهارة ليست من شرائط الطواف عندنا، بل هي من واجباته، وترك الواجب لا يمنع الاعتداد، أما يوجب النقصان إلا أن في الجنب يجب الإعادة، ما دام بمكة، وفي المحدث صحت الإعادة ولا تجب؛ لأن النقصان المتمكن في الطواف (178ب1) بسبب الجنابة، وصار طواف الجنب كالمعدوم من وجه، ولم...... عن النقصان في الطواف بسبب الحدث، فلم يعتبر طواف بسبب الحدث فلم يعتبر طواف المحدث كالمعدوم من وجه، فاستحب الإعادة في طواف المحدث، ووجبت الإعادة في طواف الجنب، لهذا فإن أعاد طواف الزيارة، إن أعاده في وقته فلا شيء عليه.
ووقت طواف الزيارة أيام النحر أوله ما بعد طلوع الفجر من يوم النحر، فإذا أعاده في أيام النحر فلا شيء عليه؛ لأنه أيام النحر أداه في وقته، وكان المعتبر في حق المحدث الطواف الأول، والطواف الثاني جابر له اتفق عليه مشايخنا رحمهم الله.
واختلفوا في الجنب إذا أعاد طواف الزيارة أن المعتبر أيهما؟ في الكرخي كان

(2/462)


يقول: المعتبر هو الأول والثاني جابر له، ويستدل بفصل المحدث وبفصل أقرانه لو طاف جنباً لعمرته في رمضان، ثم أعاد طوافه في أشهر الحج، ثم حج من عامه ذلك لا يكون متمتعاً.

ولو كان المعتبر هو الطواف الثاني لكان متمتعاً، وكان الفقيه أبو بكر الرازي رحمه الله يقول: المعتبر هو الطواف الثاني، ويستدل بفصل ذكره محمد رحمه الله: أنه لو طاف للزيارة جنباً في أيام النحر، ثم أعاد طوافه بعد أيام التشريق، فعليه دم عند أبي حنيفة رحمه الله لتأخير الطواف عن وقته، ولو كان المعتد به هو الأول، والثاني جابر لما لزمه التأخير؛ لأن الأول موجود في وقته، هذا إذا أعاد طواف الزيارة في أيام النحر، فإن أعادها بعد أيام النحر، فعلى الجنب الدم عند أبي حنيفة؛ لأنه أخر الطواف عن وقته، والتأخير عنده يوجب الدم وكذلك في الابتداء، لتأخير طواف الزيارة عن أيام النحر، فعليه دم عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا دم عليه في هذه الفصول.
فتأخير النسك عندهما لا يوجب الدم بحال، وأما المحدث إذا عاد طواف الزيارة بعد أيام النحر فلا ذكر له في «الأصل» ، قال مشايخنا: وينبغي أن يكون بالصدقة كفاية على مدينه.
وفي «المنتقى» : الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله: إذا طاف طواف الزيارة على غير وضوء، ثم قضاه بعد أيام النحر لم يكن عليه شيء، وروي عنه أن عليه صدقة؛ لأن طواف الزيارة مؤقت بأيام النحر، فقد أخره، وبالقضاء خفت جنايته، أما لم تسقط، فلهذا وجبت الصدقة.
فلو أنه لم يعد الطواف حتى رجع إلى أهله، فعليه إن كان جنباً بدنة، وإن كان محدثاً شاة.

إذا عرفنا هذه الجملة جئنا إلى مخرج المسألة التي ذكرها في «الجامع الصغير» فنقول: فإذا طاف للصدر في آخر أيام التشريق طاهراً وقع طواف الصدر عن طواف الزيارة، وصار تاركاً طواف الصدر، فيجب عليه الدم لترك طواف الصدر، وهذا بلا خلاف، ويجب عليه دم آخر لتأخير طواف الزيارة عند أبي حنيفة، فإذا طاف للزيارة محدثاً، ثم طاف للصدر في آخر أيام التشريق طاهراً لم يقع طواف الصدر عن طواف الزيارة حتى يصير تاركاً طواف الزيارة، فيلزمه الدم بسبب ترك طواف الصدر إنما أخر طواف الزيارة له لا غير فيكفيه دم واحد، فقد فرق بين المحدث والجنب من حيث إنه أوقع طواف الصدر عن طواف الزيارة في حق الجنب، وما أوقعه عن طواف الزيارة في حق المحدث.
والفرق من وجهين: أحدهما: إن إعادة طواف الزيارة في حق المحدث مستحبة وليست بواجبة، وطواف الصدر واجب، ولا يقام الواجب مقام المستحب، أما إعادة طواف الزيارة في حق الجنب واجب، فجاز أن يقام طواف الصدر مقامه؛ ولأن إيقاع طواف الصدر عن طواف الزيارة في حق المحدث غير مفيد؛ لأنه يلزمه الشاة في

(2/463)


الحالين، أما في حق الجنب يعيد؛ لأنه يلزمه الجزور لو لم يقع طواف الصدر عن طواف الزيارة، وإذا وقع يكفيه شاة، فلهذا افترقا.
هذا هو الكلام في طواف الزيارة.
طواف العمرة
جئنا إلى طواف العمرة، فنقول: إذا طاف للعمرة محدثاً أو جنباً، فما دام بمكة يعيد الطواف ركن في العمرة كطواف الزيارة في الحج، فإن رجع إلى أهله ولم يعد، ففي المحدث يلزمه البدنة، وفي الاستحسان يكفيه؛ لأنه لا مدخل للبدنة في العمرة إلا أن المعتمر لو جامع قبل الفراغ من العمرة لا يلزمه بدنه، بخلاف الحاج إذا جامع.
طواف الصدر

جئنا إلى طواف الصدر، فنقول: إذا طاف للصدر جنباً أو محدثاً، فما دام بمكة يعيده، وإن رجع إلى أهله، فعلى الجنب الشاة، وأما المحدث، فقد ذكر في رواية أبي سليمان أنه يكفيه الصدقة، حتى لا تقع التسوية بين الحدث والجنابة، وذكر في رواية أبي حفص أن عليه الدم؛ لأن الجنابة والحدث مما سوى طواف الزيارة على السواء، ألا ترى أنهما استويا في طواف العمرة؟ فكذا هنا.
وفي «المنتقى» : وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لكل شوط طعام مسكين إلا أن يبلغ دماً فينتقص عنه، ولو طاف طواف الزيارة وفي ثوبه نجاسة أكثر من قدر الدرهم أجزأه ولكن مع الكراهة، ولا يلزمه شيء، ولو طاف منكشف العورة قدر ما لا يجوز معه الصلاة أجزأه، وعليه دم، ذكره القدوري في «شرحه» .
وفي «المنتقى» الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: إذا طاف طواف الزيارة في ثوب كله نجس، فهذا وما لو طاف عريان سواء، فيلزمه دم إن لم يعد، وإن كان من الثوب قدر يواريه طاهراً (179أ1) والباقي نجس جاز طوافه، ولا شيء عليه.
وليس على المكي، وأهل المواقيت، ومن دونهم طواف الصدر كما هو مشروع لتوديع البيت، فهو مشروع لحكم المناسك، وكذلك ليس على الحائض والنفساء طواف الصدر.
ابن سماعة عن محمد رحمه الله في «الرقيات» : إذا طهرت الحائض والنفساء قبل أن تخرج من بيوت مكة، فعليها طواف الصدر، ولو جاوزت البيوت حتى تكون في وضع لو خرج المكي إليه يريد سفراً قصر الصلاة، وطهرت في ذلك الموضع فليس عليها الطواف الصدر.
وفي «الجامع الصغير» : طاف لعمرته، وسعى على غير الوضوء له حل بمكة أعاد الطواف ويسعى، وإنما أعاد السعي؛ لأن السعي وإن صح مع الحدث بوصف التمام؛ لأنه لا تعلق له بالبيت، إلا أن السعي تابع للطواف ومرتب عليه، ألا ترى أنه لا يعد قربة بدون الطواف، وقد أمر بإعادة السعي بطريق التبعية؟ وإن رجع إلى أهله، ولم يعد يصير حلالاً وعليه الدم لإدخال النقصان في طواف العمرة، وليس عليه للسعي شيء، وكان ينبغي أن يلزمه دم لأجل السعي كما لو عاد طواف العمرة طاهراً ولم يعد السعي.

(2/464)


والجواب: إذا أعاد الطواف ولم يعد السعي إنما يلزمه الدم؛ لأن بالإعادة يرتفع المؤدى، ويصير كأن لم يكن بقي السعي قبل الطواف، فيلزمه الدم لترك السعي، بخلاف ما إذا لم يعد الطواف، ولكن أراق الدم؛ لأن بإراقة الدم لا يرتفع المؤدى، ولا يصير كأن لم يكن؛ لأنه ليس من جنسه بل يرتفع النقصان، فيبقى الطواف في محله والسعي بعده، فلا يلزمه شيء.
ومن طاف للصدر، ثم أقام بمكة لشغل، فليس عليه إذا انصرف أن يطوف، وتأويل قوله عليه السلام «من حج هذا البيت فليكن آخر عهده الطواف» فليكن آخر مناسكه الطواف دون مقامه، وعند أبي حنيفة رحمه الله إذا طاف للصدر، ثم أقام إلى العشاء، فأحب إليّ أن يطوف طوافاً آخر ليكون توديع البيت متصلاً بالخروج من غير فصل، وإذا رجع الحاج قبل طواف الصدر، فعليه أن يرجع قبل أن يجاوز الميقات، وإن جاوز الميقات لم يرجع.
وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: لا يجمع بين أسبوعين لا يصلى بينهما، وإن فعل صح ويكره، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يكره إذا انصرف عن وتر القارن.

إذا طاف طوافين لعمرته وحجته، وسعى سعيين بعد ذلك لعمرته وحجته جاز، وقد أساء وإنما لزمته الإساءة لترك السنّة المتواترة والترتيب المشروع، فإن الترتيب المشروع في حق القارن أن يقدم أفعال العمرة على أفعال الحج، فيطوف بالبيت سبعة أشواط لعمرته، ويسعى من الصفا والمروة سبع مرات لعمرته، ثم يطوف طواف التحية لحجته وعمرته، فقد ترك الترتيب المشروع، فيلزمه الإساءة لهذا، ولا شيء عليه؛ لأنه ما ترك واجباً، ولا أخر واجباً إنما ترك مجرد الترتيب وإنه سنّة، وترك السنّة يوجب الإساءة، أما لا يوجب الدم ولا الصدقة.

الفصل التاسع: في القارن
اعلم بأن القران في حق الآفاقي أفضل من التمتع والإفراد، والتمتع في حق الآفاقي أفضل من الإفراد، وهذا هو المذكور في ظاهر رواية أصحابنا رحمهم الله، وذكر الحسن في «المجرد» عن أبي حنيفة رحمه الله أن القران أفضل من التمتع، والإفراد أفضل من التمتع، فصار في التمتع روايتان.
وفي حق المكي الإفراد أفضل من القران؛ لأنه لا يمكنه إحراز فضل القران لا يترك واجباً وهو الإحرام من الميقات، أما ميقات الحج إن أحرم بها من الحل؛ لأن ميقاته

(2/465)


للحج من دويرة أهله، أو ميقات العمرة إن أحرم بها من فوق مكة؛ لأن ميقاته للعمرة من التنعيم والإحرام من الميقات واجب، وإحراز فضل القران مستحب، ولا شك أن مراعاة الواجب أولى.
والقارن هو الجامع بين الحج والعمرة سواء أحرم بهما معاً أو أحرم بالحجة، وأضاف إليها العمرة، أو أحرم بالعمرة، ثم أضاف إليها الحجة إلا أنه إذا أحرم بالحجة وأضاف إليها العمرة، فقد أساء فيما صنع، لأن الله تعالى جعل العمرة بداية، وجعل الحج نهاية، وعليه فمن أضاف العمرة إلى الحج، فقد جعل الحج بداية، وإنه مخالف ما في الكتاب، وعليه أن يقدم أعمال العمرة على أعمال الحج هذا هو دأب القارن، وعليه دم شكراً لما أنعم الله تعالى عليه من التوفيق للجمع بين العبادتين بسفره، ولهذا يحل له التناول ولغيره من الأغنياء؛ لأنه دم شكر، وإن لم يأت بأفعال العمرة حتى وقف بعرفات يصير رافضاً لعمرته؛ لأن بالوقوف تم حجة، فلو لم ترتفض عمرته يصير بانياً أفعال العمرة على أفعال الحج، وإنه غير مشروع، وكذلك لو طاف لعمرته شوطاً أو شوطين أو ثلاثة، ثم وقف بعرفة يصير رافضاً لعمرته؛ لأن المأتي به من أعمال العمرة أقل، فيجعل وجودها كعدمها، وإذا ارتفض عمرته لزمه دم لرفض العمرة، ولكن يسقط عنه دم القران.
وأما إذا توجه إلى عرفات، وأخذ في السير قبل أن يأتي بأفعال العمرة، هل يصير رافضاً لعمرته؟ ذكر في «الجامع الصغير» أنه لا يصير رافضاً، وذكر المسألة في «الأصل» في موضعين، وذكر في أحد الموضعين أنه يصير رافضاً لعمرته، وذكر في موضع آخر: القياس على قول أبي حنيفة أن يصير رافضاً، وفي الاستحسان لا يصير رافضاً، وهو لم (179ب1) يذكر القياس، والاستحسان في «الأصل» في أحد الموضعين أن ما ذكر في «الأصل» في الموضع الآخر أنه يصير رافضاً استحساناً.

وإنما تظهر فائدته فيما إذا توجه إلى عرفات، ثم بدا له، فرجع عن الطريق قبل الوقوف بعرفة، وطاف لعمرته، وسعى لها، ثم وقف بعرفة، هل يكون قارناً؟ على جواب الاستحسان يكون قارناً، وأراد بما ذكر في «الأصل» في آخر الموضعين من القياس على قول أبي حنيفة رحمه الله القياس على مسألة معروفة في كتاب الصلاة: إن من صلى الظهر في منزله، ثم توجه إلى الجمعة هل ينتقض ظهره بمجرد التوجه؟
ولو أحرم بالعمرة، ثم طاف لحجة، وسعى لحجة يريد به طواف التحية، ولم يطف لعمرته حتى وقف بعرفة هل يصير رافضاً لعمرته؟ ذكر القاضي الإمام علاء الدين رحمه الله في «مختلفاته» أنه لا يصير رافضاً؛ لأن ما أتى به من الطواف وقع لعمرته، وإن نوى به الحجة؛ لأن الطواف الأول في حق القارن مستحق للعمرة، فيقع عن العمرة على ما مر قبل هذا، وإذا وقع عن العمرة تمت عمرته ولا رفض بعد التمام، وإن كان هذا الرجل أحرم بالحج، وطاف للحج طواف التحية، ثم أحرم بالعمرة لزمته، وعليه لجمعه بينهما دم؛ لأن طواف التحية سنّة وليس بركن، فلا يصير به مؤدياً شيئاً من الحج، فصار بمنزلة ما لو أحرم بالعمرة قبل هذا الطواف إلا أن في هذا الفصل يستحب له رفض العمرة،

(2/466)


وفيما إذا لم يطف لحجته أصلاً عملان لا يستحب له رفض العمرة.
والفرق أن هذا لو مضى على عمرته يصير بانياً عمل العمرة على عمل الحج، ولكن عملاً هو مسنون لا عمل هو ركن، والمشروع ترتيب جميع أفعال الحج على أفعال العمرة، فإذا فات هذا الترتيب في عمل هو مسنون لا في عمل هو ركن يستحب له الرفض من حيث فوات الترتيب في عمل هو مسنون، ولم يؤمر من حيث إنه لم يفت الترتيب في عمل هو ركن، أما إذا لم يطف لحجته أصلاً فإن مضى عليها لا يكون بانياً أعمال العمرة على أعمال الحج أصلاً، وقد ذكر الاستحسان هذا، ولم يذكر ثمة لهذا.

في «المنتقى» : ابن سماعة عن محمد رحمه الله: قارن طاف وسعى لعمرته، ثم حلق رأسه فعليه دمان، وهذا لأن العمرة في حق القارن تبع للحج، فما دام إحرامه للحج باقياً لا يتحلل عن إحرام العمرة، وإن أتى بأفعالها، وكان الحلق جناية على إحرامين، وبه فارق المتمتع؛ لأن العمرة في حق المتمتع أصل، فيقع التحلل عنها بإتيان أفعالها، فلا يصير بالحلق جانياً على إحرام العمرة، فلا يلزمه دم العمرة.
وفيه أيضاً: رجل جمع بين حجة وعمرة، ثم قدم مكة، وطاف لعمرته في شهر رمضان كان قارناً، ولكن لا هدي عليه؛ لأن الهدي إنما يجب على من طاف للعمرة في أشهر الحج؛ لأن الهدي إنما يجب على القارن شكراً لما أنعم لله عليه من تجوز الجمع بين الحجة الصغرى والكبرى في وقت الحجة الكبرى.
وفيه أيضاً: ابن أبان عن محمد رحمه الله: قارن طاف لعمرته، وسعى ينوي أن تكون لحجته كان سعيه عن العمرة؛ لأنه أولهما فصار السعي مستحقاً لها فيقع عنها، وإذا لم يجد القارن الهدي صام ثلاثة أيام، فإن صام ثلاثة أيام، ثم وجد الهدي قبل أن يحلق، فعليه أن يذبح.

الفصل العاشر في التمتع
قدمت في صدر الكتاب أن المتمتع: هو الذي اعتمر في أشهر الحج، وحج من عامه ذلك في سفر، ولم يُلمّ بأهله فيما بينهما إلماماً صحيحاً، والأصل فيه قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ

(2/467)


إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (البقرة: 196) جعل الحج في حق المتمتع مفصلاً بالعمرة؛ لأنه بدأ بالعمرة إحراماً وسفراً، وقد يوصل بها سفراً لا إحراماً، فالأول: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ويأتي بأكبر أفعال العمرة، ثم يحرم بالحج، ويأتي بباقي أفعال العمرة بتمامها، ثم يحرم بالحج في ذلك السفر، فيتحقق الوصل

(2/468)


سفراً إن كان لا يتحقق إحراماً، وإنما يتحقق الوصل سفراً إذا كان السفر واحداً، وإنما يتخذ السفر إذا لم يلم بأهله فيما بينهما إلماماً صحيحاً حتى لا ينتهي حكم السفر الأول، وعن هذا قلنا: إنه لا يمنع لأهل مكة وأهل المواقيت ومن دونها إلى مكة، أما أهل مكة؛ فلأن من شرط المتمتع أن لا يلم بأهله فيما بين عمرته وحجته إلماماً صحيحاً، وذلك لا يتصور في حق أهل مكة؛ لأنه كلما فرغ من العمرة، فقد حصل ملماً بأهله إلماماً صحيحاً، وأما أهل المواقيت ومن دونها إلى مكة؛ فلأنهم ألحقوا بأهل مكة، ولهذا جاز لهم دخول مكة بغير إحرام، فألحقوا بهم في حق هذا الحكم أيضاً.

ويفسر الإلمام الصحيح أن يرجع إلى أهله، ولا يكون العود إلى مكة مستحقاً عليه، والعمرة للجمع بين أفعال العمرة وبين إحرام الحج في أشهر الحج لا للجمع بين إحرامين.
ثم المتمتع نوعان:
متمتع ساق الهدي مع نفسه، ومتمتع لم يسق الهدي مع نفسه. فالذي لم يسق الهدي، أو فرغ من أعمال العمرة يتحلل بالحلق، والذي ساق الهدي مع نفسه لا يتحلل بالحلق، وإن فرغ من أفعال العمرة؛ لأن للسوق أثراً في ابتداء الإحرام، فيكون له أثر في استدامته من الطريق الأولى، وعلى المتمتع دم إذا وجد ذلك، قال الله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (البقرة: 196) سئل رسول الله عليه السلام عن ذلك فقال: «أدناه شاة» .

وإنه دم شكر حتى جاز للغني التناول منه، وإن لم يجد (180أ1) فصيام ثلاثة أيام في الحج أي في وقت الحج، حتى لو صام بعدما أحرم بالعمرة في أشهر الحج جاز عندنا خلافاً للشافعي، والأفضل له أن يصوم ما قبل يوم التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة؛ لأن الصوم بدل عن الهدي، وكان الأفضل له أن يؤخر الصوم إلى آخر الوقت الذي يفوته الصوم بمضي ذلك الوقت، وهذه الأيام الصوم، فإن مضت يعني هذه الأيام ولم يصم سقط الصوم، وعاد إلى الهدي عندنا، فإن لم يقدر على الهدي كان عليه دمان دم التمتع ودم التحلل قبل الهدي، وإنما سقط الصوم، وعاد حكم الهدي باعتبار أن كون الصوم بدلاً عن الهدي عرف عن الكتاب، والكتاب وقت كونه بدلاً بهذه الأيام. فإن المراد من قوله: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (البقرة: 196) في وقت الحج، فبعد فوات هذه الأيام يظهر حكم الأصل، وبنحوه ورد الأثر عن عمر وابن عباس.
f

وأما صوم السبعة، فيجوز إذا فرغ من أفعال الحج وإن لم ينصرف إلى أهله، ولا يجوز قبل أفعال الحج؛ لأن صوم السبعة معلق بالرجوع بقوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (البقرة: 196) إلا أنا أقمنا سبب الرجوع، وهو الفراغ من أعمال الحج مقام الرجوع، فبقي ما وراءه على أصل التعليق.
ولو قدر على الهدي في خلال الصوم الثلاث أو بعدها قبل يوم النحر لزمه الهدي، وسقط حكمه؛ لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل؛ لأن المقصود هو التحلل، ولم يحصل فسقط حكم البدل، كالمقيم إذا وجد الماء قبل الفراغ من الصلاة، ولو وجد الهدي بعدما حلق قبل أن يصوم السبعة، فلا هدي عليه؛ لأن المقصود قد حصل بالحلق، وهو التحلل فيسقط حكم البدل.
وفي «المنتقى» : رواية البشر عن أبي يوسف: إذا صام المتمتع ثلاثة أيام، ثم وجد هدياً قبل أن يحل انتقض صومه، وإن وجد الهدي بعدما حل جاز صومه، ولا هدي عليه.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : كوفي قدم بعمرة في أشهر الحج، ففرغ منها، وحلق أو قصر، ثم أخذ مكة والبصرة داراً، ثم حج من عامه، فهو متمتع.
اعلم أن هذه المسألة على أربعة أوجه:

الأول: إذا أقام بمكة بعدما فرغ من العمرة وحلق، ثم حج من عامه ذلك، وفي هذا الوجه متمتع لما ذكرنا من صورة المتمتع.
الوجه الثاني: إذا خرج من مكة، ولكن لم يجاوز الميقات حتى حج من عامه ذلك، وفي هذا الوجه هو متمتع أيضاً؛ لأن لداخل الميقات حكمه جوف مكة، فكأنه لم يخرج من مكة.
الوجه الثالث: إذا خرج من المواقيت وعاد إلى أهله، ثم حج من عامه ذلك، وفي هذا الوجه ليس بمتمتع؛ لأنه ألم بأهله بين العمرة وبين الحج إلماماً صحيحاً؛ لأن العود إلى مكة غير مستحق عليه، فإن رجع إلى أهله بعدما حصل له التحلل بالحلق، حتى إن هذا الكوفي لو ساق مع نفسه هدياً، والباقي بحاله كان متمتعاً عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله؛ لأن الإلمام بأهله غير صحيح؛ لأن سوق الهدي يديم الإحرام، ولا يقع التحلل بالحلق، ولو أدام الإحرام كان العود مستحقاً لأجل الإحرام، فلا يصح الإلمام.

(2/469)


الوجه الرابع: إذا خرج من الميقات، فأتى البصرة واتخذها داراً، ثم حج من عامه ذلك؛ قال في «الكتاب» : هو متمتع، ولم يذكر فيه خلافاً، وروى الحاكم الشهيد عن أبي عصمة سعد بن معاذ أن ما ذكر في «الكتاب» قول أبي حنيفة رحمه الله، وعلى قولهما لا يكون متمتعاً، وهكذا ذكر الطحاوي في «كتابه» ، وذكر الجصاص أنه لا يكون متمتعاً على قول الكل.
وجه أن لا يصير متمتعاً: أنه لما اتخذ البصرة داراً، فقد انتهى السفر الأول نهايته، واتخاذ السفر شرط التمتع.
وجه أن يصير متمتعاً: أن شبهة السفر الأول قائمة؛ لأنه حاصل في سفر واحد حقيقة؛ لأنه لم يعد إلى وطنه الذي أنشأ السفر منه، ودم المتمتع نسك، فيجب احتياطاً إلحاقاً للشبهة بالحقيقة.

قال القدوري: لو أحرم بعمرة وفرغ منها وتحلل، وأقام بمكة حتى دخل عليه أشهر الحج، فأحرم بعمرة أخرى لم يكن متمتعاً؛ لأنه بمنزله، ولا تمتع في حق أهل مكة، فإن خرج من مكة، ثم عاد محرماً بالعمرة لم يكن متمتعاً إلا إذا رجع إلى أهله في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا خرج إلى موضع لأهله التمتع والقران، وهو ما وراء الميقات فهو متمتع، وإذا خرج قبل دخول أشهر الحج إلى موضع لأهله التمتع والقران، فأحرم بالعمرة كان متمتعاً في قولهم.
إذا خرج المكي إلى الكوفة وقرن صح قرانه، ولو خرج بالكوفة وأهلّ بالعمرة واعتمر، ثم حج لم يكن متمتعاً؛ لأنه صار ملماً بأهله بين الحج والعمرة، ولو أن المكي خرج إلى الكوفة، وأحرم بعمرة، وساق الهدي لم يكن متمتعاً، وصح إلمامه مع سوق الهدي، بخلاف الكوفي؛ لأن العود مستحق على المكي، فلا يمنع صحة الإلمام.
مكي وكوفي مجاور بمكة أحرم بعمرة وطاف لها شوطاً، ثم أحرم بحجة، قال: يرفض الحجة، وعليه لرفضها دم، وإن مضى عليهما أجزأه، وكان عليه لجمعه بينهما دم، وهذا قول أبي حنيفة، وهذا بناءً على ما قلنا: إنه لا يمنع في حق أهل مكة، فلأنه من رفض أحدهما، فإذا لم يطف بعمرته رفض العمرة؛ لأنه لم يتصل الأداء بالعمرة، كما لم يتصل بالحجة، والعمرة أخف النسكين، فكان رفضها أولى، وإن طاف لعمرته رفض الحجة بلا خلاف، وكذلك إذا أتى بأكثر طواف العمرة رفض العمرة بلا خلاف، وإن طاف أقلها بأن طاف لها شوطاً أو شوطين أو ثلاثاً، قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إنه يرفض العمرة، وقال أبو حنيفة: يرفض الحجة، ثم إذا رفض الحجة قال: عليه دم لرفضها، وعليه حجة وعمرة، الحجة بالدخول، والعمرة؛ لأنه لم يأت بأفعال الحج في السنة التي أحرم فيها، فصار كفائت الحج، فإن حج من عامه ذلك، فلا عمرة عليه، وإن لم يرفض (180ب1) ذلك، ومضى منها خرج عن العهد وعليه دم؛ لأجل الجمع، ولكن هذا دم جبر لارتكاب المنهي حتى لا بد له من تناول المعنى.

(2/470)


الفصل الحادي عشر: في الإحصار
المحصر لغة: هو الممنوع عن الوصول إلى بيت الله تعالى بعد الإهلال بحجة أو عمرة، وحكمه في الشرع: أن يتحلل بشاة يبعث بها إلى الحرم، فتذبح هناك.

قال أهل التفسير: معنى قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (البقرة: 196) فإن أحصرتم فلكم التحلل بالهدي، ولا خلاف لأحد أن المحصر بالعدو يتحلل بالهدي.
وأما المحصر بالمرض هل يتحلل بالهدي؟ عندنا يتحلل، وعند الشافعي لا يتحلل، والمرض الذي يثبت الإحصار عندنا أن يقعده عن الركوب إلا بزيادة مرض، وهذا لأن التحلل للحصر بالعدو إنما يثبت كيلا يلزمه الزيادة على موجب إحرامه؛ لأنه إن اختار المضي خاف على نفسه وماله، وإن اختار الترك يبقى في الإحرام زماناً مديداً، وهو بالإحرام التزم الكف إلى وقت معلوم، فإذا اختار الترك يزداد الكف على ذلك الوقت، فيشرع له التحلل، لتبقى لك الزيادة هذا المعنى موجود في المريض؛ لأنه متى لم يمض يزداد الكف عن المحظورات، ولو أمضى تلحقه زيادة مرض، فشرع له التحلل لتبقى الزيادة.

ولا يلزم الذي ضل الطريق؛ لأن التحلل في حق المحصر بالهدي ينحر عنه في الحرم، وهو لا يجد من يبعث بالهدي إلى الحرم، ولو وجد لا يبقى محصراً؛ لأنه وجد الطريق، حتى قال مشايخنا رحمهم الله: لو كان الذي وجده فارساً، وهو لا يقدر على الذهاب معه جاز له أن يبعث بالهدي على يديه ليتحلل، ولا يلزم المحبوس بالدين؛ لأن المديون إنما يحبس إذا كان مليئاً مماطلاً وإذا كان مليئاً مماطلاً، (وإذا كان بهذه الصفة) ، فهو غير ممنوع؛ لأنه قادر على أن يقضي الدين ويخرج، حتى لو حبس ظلماً كان له أن يتحلل بالهدي كالممنوع بالعدو والمرض.
والمهِلَّة بالحج والعمرة إذا فقدت المحرم، وبينها وبين مكة مسيرة سفر تصير محصرة عندنا؛ لأنها صارت ممنوعة عن الذهاب شرعاً، وكذلك إذا أحرمت بحجة التطوع، ومنعها زوجها فهي محصرة؛ لأن حق المنع ثابت للزوج شرعاً وكان أولى بالاعتبار من المنع الباطل، وهو المنع من العدو، وله أن يحللها بما هو من محظورات الإحرام، وإذا حلله فعليها هدي وحجة وعمرة.
فرق بين حجة التطوع، وبين حجة الإسلام إذا صارت محصرة لانعدام زوجها معها لا يتحلل إلا بالهدي؛ لأن هناك المنع لحق الزوج، بل شرعا لعقد المحرم، فصار نظير

(2/471)


المنع بسبب المرض، حتى لو كان لها زوج يحلها زوجها عن حجة الإسلام، وعليها دم.
وفسر القدوري في «كتابه» فقال: شاة أو بقرة أو بدنة أو شرك بقرة أو بدنة والبُدْن أفضل، ثم هذا الدم وجميع ما يجب من الدماء يختص جوار الهدي بها بالحرم باتفاق بين العلماء، وهل يختص جوازها بيوم النحر؟ ففي دم الإحصار اختلاف قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يختص، وقالا: يختص.

ودم المتعة والقران يختص جوازها بيوم النحر بلا خلاف، وما سواهما من الدماء لا يختص جوازه بيوم النحر بلا خلاف، ثم المحصر بالحج إذا بعث بالهدي يواعد صاحبه أن ينحر عنه في يوم كذا عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الإحصار عنده غير مؤقت بوقت، فاحتيج إلى المواعدة ليصير وقت الإحلال معلوماً له، فأما عندهما دم الإحصار في الحج مؤقت بيوم النحر، ولا حاجة إلى المواعدة عندهما في المحصر بالعمرة؛ لأن دم الإحصار فيها غير مؤقت بيوم النحر عندهما كدم الإحصار في الحج عند أبي حنيفة، فإذا بعث المحصر بالهدي وذبح عنه لا حلق عليه عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن الحلق شرع للتحلل، وفي حق المحصر التحلل بذبح الهدي، فسقط الحلق عنه.
في «المنتقى» : ابن سماعة عن محمد: في المحرم يسرق بعضه أنه ليس بمحصر إذا كان يقدر على المشي يلبي ويسأل الناس، وإن كان لا يقدر على المشي فهو محصر، وكذلك إذا كان يومه ذلك يقدر، ولكنه يخاف أن يعجز في نصف الطريق أو بعضه عن ذلك، ولا يقدر على المضي ولا على الرجوع، ولا يبق على نفسه بقوة على ذلك فهو محصر، ثم إذا تحلل المحصر بالهدي، وكان مفرداً بالحج، فعليه حجة وعمرة من القابل.
أما الحجة فظاهرة، وأما العمرة؛ فلأنه في معنى فائت الحج؛ لأنه كان خروجه عنها بعد صحة الشروع قبل أداء الأعمال، وعلى فائت الحج أعمال العمرة، ولم يأت بها، وإن مفرداً بالعمرة، فعليه عمرة مكانها، وإن كان قارناً، فإنما يتحلل بذبح هديين، وعليه عمرتان وحجة، حجة وعمرة أخرى بسبب فوات الحج، وإن كان المحصر معسراً لا يجد الهدي أقام حراماً حتى يطوف ويسعى، كما يفعله فائت الحج.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في محرم بالحج يقف بعرفة، ثم يخرج إلى الحل لحاجة له فيحصر، لا يكون محصراً حتى لا يتحلل بالهدي، وهو محرم عن النساء حتى يطوف طواف الزيارة، وإنما ليكون محصراً على التفسير الذي قلنا: لأن معظم أركان الحج الوقوف بعرفة.

ألا ترى أن الوقوف يؤتى به حال قيام الإحرام من كل وجه وطواف الزيارة يؤتى به في حال قيام الإحرام من وجه؟ إلا أنا لو شرعنا الهدي لإحلال لا يبقى الطواف معتبراً، وكان ذلك سعياً لإبطال (181أ1) ما هو الأصل لا من دونه، وإنه لا يجوز، ثم قال: وهو محرم في حق النساء (حتى النساء) حتى يطوف طواف الزيارة؛ لأنه في الحج بعد؛ لأن طواف الزيارة باقٍ عليه، وإنه ركن، وإن لم يكن أصلياً، فإذا ذهب أيام التشريق، ووجد سبيلاً إلى البدن بعد ذلك يطوف طواف الزيارة، ويطوف طواف الصدر؛ لأن هذا الإحصار لما

(2/472)


لم يعتبر شرعاً صار وجوده وعدمه بمنزلة، ولو عدم الإحصار حتى ذهب أيام التشريق كان عليه أن يطوف طواف الزيارة وطواف الصدر كذا هنا، ثم هل يحلق يوم النحر حيث أحصر أو يؤخر الحلق إلى أن يجد سبيلاً إلى البيت فيحلق في الحرم؟ أشار في «الجامع الصغير» إلى أنه يحلق يوم النحر حيث أحصر، وذكر في «الأصل» أنه يؤخر الحلق.
ولو أحرم بالحج، وأتى مكة قبل الوقوف بعرفة، فأحصر بها لا يكون محصراً بالإحصار بمكة، وفي الحرم ليس بإحصار عندنا، واختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: إنما لا يكون إحصاراً إذا منع من الوقوف بعرفة دون البيت، أو منع عن البيت دون الوقوف بعرفة؛ لأنه إذا منع عن أحدهما لا يزداد عليه موجب إحرامه، أو لم يتحلل بالهدي؛ لأنه لو منع عن البيت يقف بعرفة، ثم يحلق ويتحلل، وإن منع عن الوقوف يطوف بالبيت، ثم يحلق ويتحلل، فإن فائت الحج يتحلل بالطواف.

وإلى هذا أشار القدوري في «كتابه» حيث قال: ولا يكون محصراً في الحرم إذا أمكنه الطواف، فأما إذا منع عنها كان محصراً يتحلل بالهدي؛ لأنه لو لم يتحلل يزداد عليه موجب إحرامه. وبعضهم قالوا: لا يعتبر محصراً بأن منع عنها؛ لأن الإحصار بمكة عنها بعدما صارت مكة دار السلام نادر، والنادر لا عبرة له، فصار وجوده والعدم بمنزلة، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: سألت أبا حنيفة هل على أهل مكة إحصار؟ قال: لا، قلت: فإن رسول الله أحصر بالحديبية، قال: كانت مكة يومئذٍ في حكم أهل الحرب، واليوم هو في حكم أهل الإسلام؛ أشار إلى ما قلنا.
وفي «المنتقى» عن أبي يوسف: إذا كان بمكة حائل بينه وبين الدخول، كما حال المذكور بين رسول الله وبين دخول مكة يكون محصراً، والله أعلم بالصواب.

الفصل الثاني عشر: في معرفة فائت الحج وبيان أحكامه
الفائت الحج من فاته الوقوف بعرفة، ووقت الوقوف بعرفة من حين تزول الشمس من يوم عرفة إلى أن يطلع الفجر من يوم النحر على ما مرَّ، إذا لم يقف في شيء من هذا الوقت، فقد فاته الحج، وعليه أن يتحلل بأفعال العمرة عندنا، يطوف ويسعى ويحلق، قال عليه السلام: «فائت الحج يحل بالعمرة» ، ولا دم عليه عندنا، بخلاف المحصر؛ لأن الدم في حق المحصر إنما يجب للتحلل، وفائت الحج يتحلل بأفعال العمرة، فلا حاجة له إلى الدم، هذا إذا كان فائت الحج مفرداً بالحج.
وإن كان قارناً طاف للعمرة وسعى لها أولاً؛ لأن العمرة لا تفوت، ثم يطوف طوافاً آخر، ويسعى لفوات الحج ويحلق، وإن كان فائت الحج متمتعاً قد ساق الهدي بطل

(2/473)


تمتعه لما ذكرنا من صورة المتمتع قبل هذا، ويصنع بهديه ما شاء؛ لأن الدم في حق المتمتع للجمع، وقد انعدم الجمع.

فائت الحج إذا تحلل بأفعال العمرة هل ينقلب إحرامه إحرام عمرة؟ ذكر في غير رواية «الأصول» أن على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لا ينقلب بل يبقى إحرام، وعند أبي يوسف رحمه الله لا يرفضها بل يمضي فيها؛ لأنه محرم بعمرة أضاف إلى إحرامه حجة، وعند محمد رحمه الله لا يصح الثاني كما لو أحرم قبل الفوات.
وفي «نوادر» : بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمه الله أنه يرفضها كما هو قول أبي حنيفة، وفي بعض المواضع في كتاب «المنتقى» يشير إلى أنه ينقلب إحرامه إحرام عمرة من غير ذكر خلاف، وثمرته تظهر فيما إذا أهلّ بعد فوت الحج بحجة أو عمرة رفضها، حتى لا يصير محرماً بعمرتين، وفي بعض المواضع يشير إلى أن إحرام الحج يبقى من وجه دون وجه من غير ذكر خلاف، وثمرته تظهر فيما إذا أهل بعد فوت الحج بحجة أو عمرة رفضها أياً ما كان، والصحيح قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الحاجة إلى الخروج عن إحرام الحج بأفعال العمرة، ولو صار إحرامه إحرام عمرة لم يكن التحلل واقعاً عن إحرم الحج.

الفصل الثالث عشر: في الجمع بين الإحرامين
يجب أن يعلم بأن الجمع بين إحرامي الحج أو إحرامي العمرة بدعة، ولكن إذا جمع بينهما لزمتاه عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد يلزمه أحدهما؛ لأن الإحرام ما شرع إلا للأداء فلا يتصور إلا وجه يتصور الأداء، وأداء حجتين أو عمرتين معاً لا يتصور، فلا يتصور الإحرام لها أيضاً كالتحريمة في باب الصلاة لما شرعت للأداء، لا تتصور التحريمة للصلاتين كما لا يتصور أداء الصلاتين معاً، وهما قالا: الإحرام بالحج التزام محض في الذمة بدلالة أنه يصح منفصلاً عن الأداء، والذمة متسع لحجج كثيرة، فصارت في هذا الوجه نظير النذر بخلاف التحريمة للصلاة؛ لأنها لا تصح إلا على وجه يتصل بهما الأداء، والأداء لا يتصور، فانعدم الإحرام لانعدام الاتصال، إلا أنه لا بد من رفض أحدهما تورعاً عن المنهي.

بعد هذا (181ب1) قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا توجه إلى أحدهما يصير رافضاً الأخرى، وقال أبو يوسف رحمه الله: كما فرغ عن الإحرامين يصير رافضاً لأحديهما.
وفائدة الاختلاف: تظهر فيما إذا قتل صيداً قبل أن يتوجه إلى أحدهما، قال أبو حنيفة رحمه الله: عليه قيمتان، وقال أبو يوسف: قيمة واحدة، وكذلك إذا حصر في هذه الحالة، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله يحتاج إلى هديين للتحلل، وعلى قول أبي يوسف يكفيه هدي واحد، والصحيح ما قاله أبو حنيفة رحمه الله؛ لأن الالتقاء لا يحتاج فيه إلى

(2/474)


الدليل، وإنما هو لعدم الرفع، والرافع بعذر الجمع أداء، وذلك لا يكون قبل الأداء ما لم يأخذ في الأداء للرفض أحدهما، ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله في رواية: لا يصير رافضاً حتى يبتدىء الطواف؛ لأن الأداء عنده يتحقق، إلا أن في ظاهر الرواية جعل السير إلى أحدهما قائماً مقام الأداء، كما في مصلي الظهر إذا توجه إلى الجمعة، وكما أن الجمع بين إحرامي الحج، أو بين إحرامي العمرة بدعة، فكذلك بناء أعمال العمرة على أعمال الحج على إحرام العمرة، فليس ببدعة حتى إن من أحرم بحجة، وطاف لها شوطاً، ثم أهل بعمرة رفض العمرة؛ لأنه إذا طاف للحجة، فقد أتى بفعل من أفعال الحج، فلو مضى في العمرة يصير بانياً العمرة على الحج وإنه غير مشروع.
ولو أحرم بحجة، ثم أحرم بعمرة قبل أن يطوف لحجته شوطاً، فإنه لا يرفض العمرة؛ لأنه لم يأت بفعل من أفعال الحج؛ لأن الإحرم ليس من أفعال الحج، ولا يصير بانياً العمرة على الحج بل بنى إحرام العمرة على إحرام الحج، وإنه غير منهي عنه.
في «المنتقى» عن محمد: أحرم بشيء لا ينوي به حجاً ولا عمرة، أحرم بحجة، فالأول عمرة إن شاء وإن أبى، وإن أحرم بعمرة، فالأول حجة إن شاء وإن أبى، وإن كان الإحرام الثاني لا يريد به شيئاً أيضاً، فهو قارن، وإن كان الذي أحرم بها أولاً عمرة، فهذا حج.

ولو أحرم بشيئين، وأراد أن يكون مخيراً فيها إن شاء حجتين، وإن شاء عمرة وحجة قال: هذا عمرة وحجة إن شاء وإن أبى، وهذا على الصحة لا يكون على غير ذلك، وإن أحرم لا ينوي حجاً ولا عمرة، ثم أحرم بعد ذلك بإحرام آخر لا ينوي حجة لا عمرة، فهذا كلّه حجة وعمرة. ولو أحرم بإحرامين لا نية له فيهما، ثم أحرم بإحرامين لا نية له فيهما، قال محمد رحمه الله: الأوّلان حجة وعمرة والآخران باطل، والله أعلم.

الفصل الرابع عشر: في الحلق والتقصير
الحلق والتقصير مشروعان في حق الرجل للتحلل عن الإحرام، والحلق أفضل من التقصير.
وأما المرأة فلا حلق عليها؛ لأن الحلق في حقها نوع مثلة، ولكنها تقصر، تأخذ شيئاً من أطراف الشعر مقدار أنملة هكذا قال ابن عمر، والأفضل أن تقصر من كل شعر مقدار أنملة؛ لأن التقصير في حقها قائم مقام الحلق في حق الرجل، والأفضل في حق الرجل حلق جميع الرأس، وكذا الأفضل في حقها الأخذ من كل شعر. وإن قصرت بعض رأسها وتركت البعض أجزأها إذا كان ما قصرت مقدار ربع الرأس فصاعداً، وإن كان أقل من ذلك لا يجزأها اعتباراً للتقصير في حقها بالحلق في حق الرجل.
وإذا جاء وقت الحلق، ولم يكن على رأسه شعر بأن كان حلق قبل ذلك، أو بسبب

(2/475)


آخر، ذكر في «الأصل» أنه يجري الموس على رأسه؛ لأنه لو كان على رأسه شعر كان المأخوذ عليه إجراء الموس، وإزالة الشعر فما عجز عنه سقط وما لم يعجز عنه يلزمه، ثم اختلف المشايخ أن إجراء الموس مستحب أو واجب، والأصح أنه واجب لما ذكرنا، والحلق في حق الحاج يتوقت بالمكان، وهو الحرم، وبالزمان وهو يوم النحر عند أبي حنيفة رحمه الله، حتى لو أخرّه عن يوم النحر، أو عن الحرم يلزمه الدم، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله لا يتوقت بالزمان، ولا بالمكان حتى لا يلزمه الدم أخرّه عن المكان أو عن الزمان، وعلى قول محمد رحمه الله يتوقت بالزمان حتى يلزمه الدم بالتأخير عن الزمن.

وفي حق المعتمر لا يختص بالمكان ولا بالزمان بلا خلاف.
وفي «المنتقى» : ابن سماعة عن محمد رحمه الله: حاج أو معتمر برأسه قروح لا يستطيع معها إمرار الموس على رأسه، ولا يصل إلى تقصير شعره، وهذا مما يطمع في برئه قريباً أو مما لا يدري هل يبرأ أو لا يبرأ؟ قال: إذا لم يبق إلا الحلق، ولم يقدر عليه ولا أن يمر الموس على رأسه، فقد حل في العمرة والحج، بمنزلة ما لو حلق رأسه، فإن أخرّ الإحلال حتى يمر الموس على رأسه قبل مضي أيام النحر، فقد أحسن، وإن لم يؤخر فلا شيء عليه. هذا إذا عجز عن الحلق بقروح في رأسه، وإن عجز عن ذلك؛ لأنه لم يجد الموس، أو لم يجد من يحلقه، فهذا ليس بعذر، ولا يجوز له إلا الحلق أو التقصير، والله أعلم.

الفصل الخامس عشر: في الرجل يحج عن آخر
اختلفت عبارة المشايخ في المأمور بالحج عن الغير إذا حج، فعبارة الشيخ الإمام الزاهد شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده أن على قول أصحابنا رحمهم الله أصل الحج يقع عن المأمور، وللآخر ثواب النفقة إلا أن أصل الحج يقع عن الآمر، وهذا لأن أصل الحج لو وقع عن الآمر إنما يقع إذا صار المأمور نائباً عن الآمر في أصل الحج عبادة بدنية، والنيابة لا تجزىء في العبادات البدنية، والدليل عليه أنه يشترط أهلية المأمور، وهذا يدلّك أن الفعل ما وقع عن الآمر، ولكن (182أ1) للآمر ثواب النفقة، وصار إنفاق المأمور كإنفاق الآمر بنفسه، فأمكن القول به؛ لأن النيابة تجري في الإنفاق، ولكن يسقط أصل الحج عن الآمر؛ لأن الإنفاق أقيم مقام الأفعال في حق سقوط الأفعال حالة العجز عن الفعل، كما أقيم الفداء مقام الصوم في حق الشيخ الفاني في حق سقوط الصوم.

وعبارة الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: «أن أصل الحج يقع عن الآمر، وبنحوه ورد الأثر، فإن النبي عليه السلام قال للخثعمية «حجي عن أبيك» وأنه

(2/476)


يدل على أن أصل الحج يقع عن المحجوج عنه، والدليل عليه أنه لا يسقط حجة الإسلام عن المأمور ولو وقع أصل الحج عن المأمور يسقط عنه حجة الإسلام، والدليل عليه أن المأمور، يحتاج إلى إسناد الإحرام إلى الآمر، والإحرام عقد على الأداء، فهذا يدلك أن الحج يقع عن المحجوج عنه بذلك الإحرام هذا هو في حجة الفرض» ا. هـ.
جئنا إلى حجة التطوع، فنقول: من أمر غيره بحجة التطوع جاز، ويصير للآمر ثواب النفقة في طريق الحج من حيث أنه سبب إلى الحج بالإنفاق، أو يصير المأمور جاعلاً ثواب فعله للآمر، وهذا جائز عند أهل السنّة، ومن الناس من ينكر جعل الثواب لغيره عملاً بظاهر قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَنِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 39) وأهل السنّة يحتجون بما روي أن النبي عليه السلام «ضحى بكبشين أملحين أحدهما: عن نفسه، والأخرى عن أمته» ولا حجة له في الآية؛ لأن العامل لما جعل سعيه لغيره صار ذلك الغير.
الجواب الذي ذكرنا في حجة التطوع صحيح على عبارة جميع المشايخ، أما على عبارة شيخ الإسلام رحمه الله فظاهر، وأما على عبارة شمس الأئمة؛ فلأن وقوع أصل الحج عن الآمر عرف بحديث الخثعمية، وحديث الخثعمية ورد في الفرض لا في النفل، ثم إنما تسقط حجة الفرض عن الإنسان بإحجاج غيره إذا كان الحج وقت الأداء عاجزاً عن الأداء بنفسه، ودام عجزه إلى أن مات، أما لو زال عجزه بعد ذلك، فلا يسقط عنه حجة الفرض؛ لأن الأصل في هذا الباب حديث الخثعمية، وإنه ورد في حق الشيخ الفاني، فيبقى غيره على أصل القياس، والقياس يأبى ذلك.

بيان هذا فيما ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» : رجل أحج رجلاً وهو مريض، فلم يزل مرضه حتى مات، فهو جائز عن حجة الإسلام، وإن صح لا يجزئه عن حجة الإسلام. وروى المعلى عن أبي يوسف أنه إن برأ من مرضه قبل فراغ المأمور عن الحج، فعليه الإعادة، وإن برأ بعد ما فرغ المأمور عن الحج فلا إعادة، وجعل هذا نظير المكفر بالصوم إذ قدر على التحرير، ونظير المصلي بالتيمم إذا قدر على الماء.
وإن أحج رجلاً، وهو صحيح أجزأه عن التطوع؛ لأن فرض الحج يتأدى بالإحجاج حالة العذر، وكل عبادة جاز أداء فرضها بجهة حالة العذر جاز أداء نفلها بتلك الجهة في غير حالة العذر كالصلاة قاعداً وراكباً. وكل من كان عاجزاً لا يرجى زواله ظاهراً وغالباً يجب عليه أن يحج رجلاً إذا قدر عليه.
ومن كان عاجزاً عجزاً يرجى زواله كالمرض والحبس لا يجب عليه ذلك؛ لأن العبرة للغالب والظاهر في حق الأحكام، فإذا كان عجزاً لا يرجى زواله غالباً وظاهراً الحق الإحجاج، وإذا كان عجز يرجى زواله غالباً وظاهراً الحق بالصحة في حق عدم وجوب الإحجاج عملاً بالغالب، والظاهر في الفصلين جميعاً، ومن كان عاجزاً، وأحج رجلاً إن كان عاجزاً لا يرجى زواله ظاهراً أو غالباً كان حكمة موقوفاً، فإن استمر به

(2/477)


العجز إلى وقت الموت حكم بوقوعه موقع المرض.
والأفضل للإنسان إذا أراد أن يحج رجلاً عن نفسه أن يحج رجلاً قد حج عن نفسه؛ لأنه أهدى إلى إقامة الأعمال؛ ولأنه أبعد عن الخلاف، فإن الذي لم يحج عن حجة الإسلام عن نفسه لم تجز حجته عن غيره عند بعض الناس، ومع هذا لو أحج رجلاً لم يحج عن نفسه حجة الإسلام يجوز عندنا، وسقط الحج عن الآمر؛ لأن النبي عليه السلام حين أمر الخثعمية، قال الحج عن أبيها لم يستفسر أنها هل حجت عن نفسها أم لا؟ وإذا أمر غيره بالإفراد بحجة أو عمرة فقرن، فهو مخالف ضامن في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يجزىء عن الآمر استحساناً.

وهذا الخلاف فيما إذا قرن عن الآمر ما لو نوى بأحدهما عن شخص آخر وعن نفسه، فهو مخالف ضامن بلا خلاف. لهما: لأنه أتى بالمأمور به وزيادة ... ، لأبي حنيفة رحمه الله أنه أمره بقطع جميع المسافة، وهو قطع بعض المسافة للعمرة، فيصير مخالفاً.
ولو أمره بالحج فاعتمر، ثم حج من مكة، فهو مخالف في قولهم؛ لأنه أمره بأن يؤدي بالسفر الحجة، وقد أدى الحجة من غير سفر. ولو أمره بالعمرة فاعتمر أولاً، ثم حج عن نفسه لم يكن مخالفاً، وإن كان حج أولاً، ثم اعتمر فهو مخالف، ولو أمره بالحج مطلقاً فحج المأمور ماشياً فهو مخالف؛ لأن مطلق الأمر بالحج فيما بين العباد ينصرف إلى فرض الله تعالى على عباده، وذلك الحج راكباً، ولو حج على حمار كره له ذلك، والجمل أفضل؛ لأن النفقة في ركوب الجمل أكثر.
ولو أقام بمكة بعد أداء الحج إن كانت إقامة معتادة، فالنفقة في مال الآمر، وإن كانت غير معتادة، فالنفقة في مال المأمور، والمعتبر في زماننا أن يقيم إلى وقت خروح الناس إذ لا يمكنه أن يستقيم في الخروج. ولو عزم أن يقيم بمكة زيادة على القدر المعتاد، ثم عزم على الخروج عادت نفقته في مال الآمر، إلا أن يكون قد اتخذ مكة داراً، فلا تعود النفقة بعد ذلك؛ لأن ذلك السفر قد انقطع باتخاذ مكة داراً، فلا يعود حكمه بعد ذلك. وكذلك إذا اتخذ موضعاً آخر وطناً له، ثم بدا له الانصراف لم يكن له أن ينفق من مال الآمر.

ابن سماعة عن محمد رحمه الله: المأمور بالحج إذا حج عن الآمر، ثم أحرم بعمرة ينفق من مال نفسه ما دام معتمراً؛ لأنه في العمرة عامل لنفسه، فإذا انصرف أنفق من مال الآمر؛ لأنه مأمور بالانصراف، ولو عجل المأمور الإحرام، فوصل مكة محرماً في شهر رمضان أو بعده، فإنه محرم ينفق من مال نفسه إلى عيد الأضحى أو قبله بيوم أو يومين على اختلاف ما يدخل الناس مكة، وإن أحصر المأمور بالحج، فالهدي على الآمر عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وعند أبي يوسف على المأمور.

(2/478)


واعلم بأن الدماء ثلاثة: دم قربة، وهو دم الإحصار، وإنه على الخلاف، ودم نسك وهو دم المتعة والقران، وإنه على المأمور، ودم جبر وهو ما يجب بالجناية على الإحرام بارتكاب محظور (182ب1) من قتل صيد أو قَلْم أظافر، أو ما أشبه ذلك، أو يجب بنقصان تمكن في مناسك الحج بأن طاف بالبيت منكوساً أو محدثاً أو جنباً، وإنه على المأمور بلا خلاف.
وإذا أمر رجلان أن يحج عن كل واحد منهما حجة، فأهل بحجة فهي عن الحاج النفقة وإن كان أنفق من مالهما، وإنما كان الحج عن الحاج، ويضمن الحاج؛ لأن كل واحد منهما أمره أن يخلص له الحجة والسفرة من غير إشراك، فإذا أحرم عنهما صار مخالفاً، فيقع فعله عنه، وأما ضمان النفقة؛ لأنه صرف مالهما إلى حج نفسه، وهما لم يأمراه بذلك، فإن عين بعد ذلك عن أحدهما لا يصح التعيين.

فرق بين هذا وبينما إذا أهل بحجة عن أبويه، فإنه يجوز أن يجعله عن أحدهما، هذا إذا أحرم عنهما، فإن أحرم عن أحد منهما فإن مضى ذلك صار مخالفاً، وإن عين لأحدهما قبل المضي أي قبل الطواف وقبل الوقوف صح التعيين استحساناً، وقول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ... ؛ لأن الإحرام عندنا ليس من الأركان مقصوداً، بل شرع وسيلة إلى أداء الأفعال، ولهذا صح تقديمه على وقت الأداء، وهو أشهر الحج، فكان بمنزلة الشرط، فإنما يشترط منه ما يقع التمكن به من الأداء، والمبهم الذي يحتمل التعيين يصلح للأداء بواسطة التعيين، فالنفي به شرطاً بخلاف ما إذا اشتغل بالأفعال؛ لأن الفعل مقصود، والفعل لا يصح مع الجهالة، وليس أحدهما لأن يقع الفعل عنه بأولى من الآخر، فتعين إحرامه عن نفسه، فلا يمكنه أن يجعله بعد ذلك لغيره.
ومما يتصل بهذا الفصل ما ذكر في «الجامع الصغير» : رجل توجه يريد حجة الإسلام، فأغمي (عليه) فأهل عنه أصحابه أجزأه، ويصير المغمى عليه محرماً حتى لو وقفوا به وطافوا به جاز، وسقط عنه حجة الإسلام، وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجزئه، واختلفت عبارة المشايخ في تخريج المسألة، قال بعضهم: لا خلاف بين أصحابنا أن الإحرام يتأدى بالنائب، حتى أن من أمر أهل رفقته أن يحرموا عنه متى عجز عن الإحرام بنفسه، فأغمي عليه، وأحرم عنه واحد من أهل رفقته يجوز، ويصير المغمى عليه محرماً، وإنما وقع الخلاف في هذه المسألة لاختلافهم في أنه هل وجدت الإنابة من المغمى عليه في الإحرام عنه؟ فهما تمسكا بالحقيقة والصريح، وقالا: لم توجد الإنابة من حيث الحقيقة والصريح، وأبو حنيفة رحمه الله يتمسك بالدلالة، وقال الناس فيما بينهم: إنما يقصدون عقد الرفقة للإستعانة بعضهم ببعض فيما يحتاج إليه في سفره، هذا هو الكلام في الإحرام وأما سائر المناسك هل تتأدى بأهل رفقته، فمن المشايخ من قال: تتأدى، إلا أن الأولى أن يطوفوا به ويقفوا به ليكون أقرب إلى أدائه لو كان مفيقاً،

(2/479)


وإليه مال شمس الأئمة السرخسي، فعلى هذا القول لا يقع الفرق بين سائر المناسك وبين الإحرام.
ومنهم من فرق بين الإحرام وسائر المناسك، والفرق أن الاستعانة تتحقق عند العجز، وفي أصل الإحرام تحقق العجز، فأما في الأعمال لم يتحقق العجز، فإنهم إذا حضروه المواقف كان هو الواقف والطائف بمنزلة ما لو طاف راكباً بعذر، ومن المشايخ من قال: لا خلاف بين العلماء أن عقد الرفقة استعانة من كل واحد منهم بأصحابه فيما يعجز عن الفعل بنفسه.

والخلاف في هذه المسألة بناءً على اختلافهم في أن الإحرام هل يتأدى بالنائب؟ على قول أبي حنيفة يتأدى، وعلى قولهما: لا يتأدى وهذا القائل يقول: لا رواية عنهما فيما إذا أمر أصحابه بالإحرام عنهما صريحاً، وإنما الرواية في بدنة بين سبعة نفر قلّدها واحد منهم بأمر أصحابه محرمين، فالرواية عنهما في التقليد، والرواية في التقليد لا تكون رواية في التلبية فيما يقولان بأن الإحرام فعل من أفعال الحج، فلا تجري فيه النيابة قياساً على الطواف وسائر الأفاعيل، والمعنى في الكل أن أفعال الحج عبادة بدنية، وهذا بخلاف ما لو أغمي عليه بعد الشروع، وطافوا ووقفوا به؛ لأن ذلك إعانة وليس بنيابة؛ لأن المغمى عليه يصير طائفاً وواقفاً لكن بإعانتهم، والإعانة جائزة، وبخلاف النفل؛ لأنه فعل مأتيّ والنيابة تجري في نفله.
وأبو حنيفة يقول: الإحرام عنه ليس بمقصود تحريم المحظورات، وهذا المقصود يحصل بالنائب، فتصح النيابة كما في باب الزكاة بخلاف الوقوف والطواف؛ لأن المقصود من الطواف والوقوف تعظيم البيت وحصوله في ذلك المكان، هذا المقصود لا يحصل بفعل النائب وأما إذا أحرم عنه من ليس من رفقته، لا شك أن على قولهما لا يجوز، وأما على قول أبي حنيفة، اختلف المشايخ، بعضهم قالوا: يجوز لوجود الإذن دلالة؛ لأنه أنفق مالاً عظيماً حتى بلغ الميقات، فالظاهر أنه يكون مستعيناً بكل واحد من آحاد الناس بالإحرام عنه إذا لم يحرم عنه أهل رفقته.

في «المنتقى» : عيسى بن أبان عن محمد رحمهم الله: رجل أحرم بالحج، وهو صحيح ثم أصابه عته، فقضى به أصحابه المناسك ووقفوا به، فلبث كذلك سنين، ثم أفاق أجزأه ذلك عن حجة الإسلام، قال: وكذلك الرجل إذا قدم مكة أو صحيح أو مريض، إلا أنه يعقل أغمي عليه بعد ذلك، فحمله أصحابه وهو مغمى عليه، وطافوا به فلما قضوا الطواف أو بعضه أفاق، وقد أغمي عليه ساعة من نهار لم يتم ذلك يوماً، أجزأه ذلك عن طوافه، قال: لأنه حين ما أغمي عليه فقد صار في حال من يجزئه أن يطاف به من غير تعيين منه، فهو بمنزلة ما لو أصابه وجع، ولعجزه عن القيام فصلى قاعداً، فلما فرغ منها قدر على القيام.
وفيه أيضاً: ولو أن مريضاً لا يستطيع الطواف إلا محمولاً، وهو يعقل نام من غير غشية، فحمله أصحابه وهو نائم فطافوا به، أو أمرهم أن يحملوه ويطوفوا به، فلم يفعلوا

(2/480)


حتى نام، ثم احتملوه وهو نائم، فطافوا به أو حملوه حين أمرهم بحمله، وهو مستيقظ فدخلوا به الطواف حتى نام على رؤوسهم، فطافوا به على تلك (183أ1) الحالة، ثم استيقظ. روى ابن سماعة عن محمد رحمه الله: أنه إذا طافوا به من غير أن يأمرهم لا يجزئه، ولو أمرهم، ثم نام بعد ذلك، فطافوا به أجزأه، وكذلك إن دخلوا به الطواف أو توجهوا به نحوه فنام وطافوا به أجزأه.
ولو قال لبعض من عنده: استأجر لي من يحملني فيطوف بي، ثم غلبت عيناه ونام، ولم يحضر الذي أمره بذلك من فوره، بل لبث على تحين طويلاً، ثم استأجر أجراء فحملوه فأتوه، وهو نائم، فطافوا به، قال: استحسن إذا كان في فوره ذلك أنه يجوز، فأما إذا طال ذلك ونام، فأتوه واحتملوه، وهو نائم لا يجزئه عن الطواف، ولكن لا جرم لازم بالأمر قال: والقياس في هذه المسألة لا يجزئه حتى يدخل الطواف، وهو مستيقظ ينوي الدخول فيه، لكن يستحسن إذا أحضر كذلك فنام، وقد أمر بأن يحمل فيطاف به أن يجزئه؛ لأنه على تلك النية.

قال محمد رحمه الله في «الأصل» : والصبي الذي يحج به أبوه يقضي المناسك ويرمي الجمار وإنه على وجهين:
الأول: إذا كان صبياً لا يعقل الأداء بنفسه، وفي هذا الوجه إذا أحرم عنه أبوه جاز، والأصل فيه ما روي أن امرأة أخرجت صبياً من هودجها، وقالت يا رسول الله: ألهذا حج؟ فقال النبي عليه السلام: «نعم ولك أجره» .
وإن كان يعقل الأداء بنفسه يقضي المناسك كلها يفعل مثل ما يفعله البالغ؛ لأن نوافل الصلاة مشروعة في حق الصبي نظراً له، حتى يثاب عليه لو أتى به، ولو تركه لا يعاقب عليه، ولو ترك هذا الصبي بعض أعمال الحج نحو الرمي وما أشبهه لم يكن عليه شيء؛ لأنه لو ترك الكل لا شيء عليه، فكذا إذا ترك البعض.
قال في «الكتاب» : وهو الأصل أيضاً، وكل جواب عرفته في الصبي يحرم عنه الأب، فهو الجواب في المجنون؛ لأن المجنون أشد حالاً من الصبي، ثم الأب إذا أحرم عن ابنه الصغير، وارتكب بعض محظورات الإحرام لم يلزمه بسبب إحرام الصغير شيء؛ لأنه في حق الإحرام جعل نائباً عن الصغير حكماً، ألا ترى أنه يقف بالصغير ليحرم بنفسه، لو أحرم الصغير بنفسه لا يلزم الأب شيء؟ فكذا ههنا.

(2/481)


الفصل السادس عشر: في الوصية بالحج
إذا أوصى بأن يحج عنه، وهو في منزله، إن بين مكاناً، يحج عنه من ذلك المكان بالإجماع، وإن لم يبين مكاناً بالحج عنه من وطنه عند علمائنا رحمهم الله؛ لأن الوصية بالإحجاج أمر بإقامة غيره مقام نفسه في الحج، فإنما ينصرف مطلق هذا الأمر إلى ما كان واجباً على المنوب عنه، والواجب على المنوب عنه الحج من وطنه، حتى لا يجب عليه ما لم يملك من الزاد والراحلة قدر ما يحمله من وطنه إلى مكة ويرده إلى بلده، وهذا إذا كان ثلث ماله يكفي الحج من وطنه، فأما إذا كان لا يكفي كذلك، فإنه يحج عنه من حيث يمكن الإحجاج عنه؛ لأنه يقدر صرف مطلق الأمر ههنا إلى الإحجاج من وطنه، هكذا ذكر في «الجامع» وإليه أشار في «الأصل» .

وذكر في «شرح القدوري» أن القياس أن تبطل الوصية في هذه الصورة، وفي الاستحسان أن لا تبطل ويحج عنه من حيث يبلغ، وليس هذا كما إذا كان له أوطان شتى؛ فإن في تلك الصورة يحج عنه من أقرب أوطانه إلى مكة؛ لأنه إذا حج من أقرب أوطانه إلى مكة كان النائب نائباً بجميع ما على المنوب عنه أن يحج من أي وطن شاء، ولا كذلك ما إذا كان له وطن واحد.
هشام عن محمد رحمه الله في «نوادره» : مكي قدم خراسان، ومات بها، وأوصى أن يحج عنه، قال: يحج عنه من مكة، وإذا خرج من بلده يريد الحج، فمات فأوصى بأن يحج عنه حجة، فإنه يحج عنه من حيث مات في قول أبي يوسف ومحمد، وفي قول أبي حنيفة يحج عنه من وطنه، هكذا ذكر المسألة في «الجامع الكبير» القياس أن يحج عنه من وطنه، وفي الاستحسان يحج عنه من حيث مات.
وذكر في وصايا «المبسوط» أنه يحج عنه من حيث أوصى ومات، ولم يذكر الخلاف والقياس والاستحسان، وبعض مشايخنا قالوا: يجعل ما ذكر في الجامعين تفسير لما أبهم في المبسوط، ويجعل بعض ما ذكر في «الجامع الصغير» تفسيراً لبعض ما ذكر في «الجامع الكبير» ، وبعض ما ذكر في «الجامع الكبير» تفسيراً لبعض ما ذكر في «الجامع الصغير» ، فصار حاصل الجواب على قول هذا القائل أنه يحج من وطنه قياساً، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، ومن حيث مات وأوصى استحساناً وهو قولهما، وهذا إذا خرج من وطنه يريد الحج، فأدركه الموت في الطريق، وأوصى بأن يحج عنه حج عنه من وطنه لا من حيث إنه مات عندهم جميعاً.

وكذلك على هذا الخلاف إذا أحج الوصي عن الميت رجلاً، ومات النائب في بعض الطريق حتى وجب على الوصي أن يحج رجلاً آخر عن الميت، فعلى قول أبي حنيفة يحج آخر عنه من وطنه لا من حيث مات الأول، وعندهما من حيث مات الأول، وحاصل الخلاف في هذه المسألة راجع إلى أن ما أدي من السفر بنية الحج هل يبطل

(2/482)


بالموت أم لا؟ عند أبي حنيفة يبطل، وهو القياس فلا يجوز البناء عليه، وعندهما لا يبطل وهو استحسان فيجوز البناء عليه.
وإذا أوصى أن يحج عنه، فأحجوا عنه رجلاً، فسرقت نفقته في بعض الطريق أو هلكت أو سرقت النفقة، أو هلكت بعدما دفع إليه قبل أن يسافر، فعلى قول أبي حنيفة عليهم أن يحجوا آخر من ثلث ما بقي في أيديهم من حيث أوصى الميت؛ لأن الأول لم يتم، ألا ترى أن الميت لو كان أوصى أن يعتق كان عليهم أن يعتق الآخر من ثلث ما بقي في أيديهم إلى أن يبقى من المال حقه؟
وقال محمد رحمه الله: إذا قاسم الوصي الورثة، ودفع حقوقهم (183ب1) وأخذ الوصية، ثم دفعها إلى النائب أو دفع الورثة النفقة إلى النائب، فسرقت أو هلكت في يد النائب لم يجب عليهم أن يحجوا عن الميت رجلاً آخر، وقال أبو يوسف رحمه الله: يحج الوصي رجلاً آخر إن بقي من الثلث الأول شيء، وإن لم يبق من الثلث الأول شيء فلا يحج آخر.

وصورة هذه المسألة إذ هلك الرجل وترك ثلاثة آلاف درهم، وقد كان أوصى أن يحج عنه، فدفع الوصي إلى رجل ألف درهم ليحج عنه فسرق ذلك من يده، فعلى قول أبي حنيفة حج عنه من ثلث ما بقي، وذلك ست مائة وستة وستون وثلثان، وعلى قول أبي يوسف ومحمد تبطل الوصية، ولا يحج عنه، ولو ترك أربعة آلاف درهم، فقاسم الوصي مع الورثة، وأخذ ألفاً ودفع ثلاثة آلاف إلى الورثة، ثم دفع الألف إلى رجل ليحج عن الميت، فهلكت الألف في يده أو سرقت، فإن على قول أبي حنيفة رحمه الله يحجون عنه من ثلث ما بقي، وذلك ألف درهم؛ لأن ما بقي ثلاثة آلاف درهم، وقال أبو يوسف: يحج عنه بما بقي من الثلث الأول، وذلك ثلثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث، وعلى قول محمد رحمه الله بطلت الوصية، ولا يحج آخر عنه.
في «المنتقى» : بغدادي أوصى أن يحج عنه حجة الإسلام بثلث ماله يبلغ من بغداد، فأحج الوصي رجلاً من الكوفة، فالموصى ضامن، وإن أحج الوصي رجلاً من نهر صرصر، ونهر صرصر قريب من بغداد، فالقياس أن يصير الوصي مخالفاً، وفي الاستحسان: إذا كان أحج من موضع من مصره يمكن للرجل أن يذهب من ذلك الموضع، ويرجع إلى المصر عند الليل يجوز، وإن كان أكثر من ذلك لا يجوز؛ لأن المسافة إذا كانت بهذه الصفة، فهي ساقطة الاعتبار شرعاً، عرف ذلك في أحكام كثيرة أقربها المطلقة إذا أرادت التحول بالولد.
إذا أوصى أن يحجوا عنه وارثاً له، فإن ذلك لا يجوز إلا أن يخيره الورثة عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله؛ لأن هذه وصية الوارث؛ لأنه قصد إيصال يقع إليه من ماله بمجرد قوله، وهذا هو معنى الوصية للوارث، فالوصية للوارث لا تجوز إلا بإجازة الورثة. إذا أوصى أن يحج عنه بثلثه، وثلثه يبلغ حجاً، فهذا على وجهين:

أما إن قال: أحجوا عني بثلث مالي ولم يزد على هذا، وفي هذا الوجه على

(2/483)


الوصي أن يحج عنه حجاً إلى أن لا يبقى من ثلث ماله شيء، وإن كان الأمر بالإحجاج أمر بالفعل، والأمر بالفعل لا يقتضي التكرار ما ثبت مقتضى الأمر بالفعل هنا، وإنما ثبت بدلالة الحال أو بدلالة العرف؛ لأن ثلث المال شيء كان كثيراً بحيث يبلغ حججاً يراد بالإيصاء بالحج به الإيصاء بالحجج إلى أن لا يبقى من الثلث شيء، ثم الوصي بالخيار في هذه الصورة إن شاء أحج عنه في سنة واحدة، بأن أتى برجال ودفع إليهم نفقتهم حتى يحجوا عنه في سنة واحدة، وإن شاء أحج عنه رجلاً في كل سنة مرة، والأول أفضل؛ لأن في التأخير توهم هلاك باقي المال، فإن أحج الوصي بالثلث حجاً، وبقي من الثلث شيء قليل لا يفي الحج من وطنه، ويفي الحج من أقرب المواقيت أو من مكة، أو ما أشبه ذلك يأتي بذلك، وإلا رد الباقي على الورثة.

وفي «المنتقى» : هشام عن محمد رحمه الله إذا قال: حجوا عني من ثلثي حج عنه من ثلثه حجة واحدة، والفضل للورثة، وأما إذا قال: أحجوا عني بثلث مالي حجة واحدة، وقال: حجة، ولم يقل: واحدة، فإن الوصي يحج عليه حجة واحدة؛ لأنا إنما أثبتنا التكرار في الفصل الأول بدلالة الحال، أو بحكم العرف، ولا عبرة لهما إذا جاء الصريح بخلافه، فلو أن الوصي في هذه الصورة دفع إلى رجل مالاً مقدراً لينفق المال على نفسه في الطريق ذاهباً وجائياً ومدة مقامه بمكة، فأنفق، وبقي من ذلك شيء، ينظر إن كان الباقي كثيراً بحيث يمكن للمأمور الاحتراز عنه يصير مخالفاً، ويضمن ما أنفق على نفسه قياساً واستحساناً؛ لأنه مأمور خالف إلى شر، لأنه أمر أن ينفق كل المال في طريق الحج ليكون أكبر الأجر، فهذا إذا ترك البعض، والمتروك كثير بحيث يمكن المأمور الاحتراز عنه اعتبر مخالفاً، فصار منفقاً ما أنفق على نفسه بغير أمر ضامناً، وإن كان الباقي قليلاً بحيث لا يمكن الاحتراز عنه عرفاً وعادة، فالقياس أن يصير ضامناً لما أنفق على ... وفي الاستحسان لا يصير ضامناً؛ لأن هذا خلاف لا يمكن الاحتراز عنه للمأمور، فيكون عفواً، كالوكيل بالشراء إذا اشترى بغبن يسير، بيانه: أنه لا يمكنه أن ينفق الكل بحيث لا يبقى شيء يسير، ولا يفيض منه شيء يسير، بخلاف ما إذا كان الباقي شيئاً كثيراً؛ لأن التحرز عنه ممكن، فلا يجعل عفواً، كالغبن الفاحش إذا كان الباقي شيئاً قليلاً بحيث لا يمكن الاحتراز عنه حتى لا يصير مخالفاً، فالباقي لا يسلم للمأمور؛ لأن المستحق قدر النفقة مدة ذهابه ومجيئه ومقامه بمكة، فما زاد على ذلك لا يكون له فيرد على الورثة؛ لأنه مال الميت وقد خلا عن وصيته.
فإن كان الميت قال: ما بقي من النفقة فذلك يكون للمأمور، فهذا على وجهين:

إن لم يعين رجلاً ليحج عنه كانت الوصية بالباقي باطلة؛ لأن الموصى له مجهول، وجهالة الموصى له تمنع صحة القسمة للوصية، والحيلة في ذلك أن يقول الموصي للوصي: أعط ما بقي من النفقة من شئت فإذا أعطى الموصي الباقي من النفقة للمأمور

(2/484)


كان جائزاً، كما لو أوصى أن يعطى ثلث ماله من شاء الوصي. وإن عين رجلاً ليحج عنه كانت الوصية بالباقي جائزة؛ لأن الموصى له معلوم.
في «المنتقى» : إذا أوصى أن يحج عنه، فأحج الوصي رجلاً، فأحرم الرجل بالحج عن الميت، ثم قدم وقد فاته الحج، قال محمد: يحج عن الميت من بلده إن بلغت النفقة، وإلا فمن حيث تبلغ، وعلى المحرم قضاء الحجة التي فاتت عن نفسه ولا ضمان عليه فيما أنفق، ولا نفقة له بعد الفوت. وفيه أيضاً إبراهيم عن محمد رحمه الله: دفع دراهم إلى رجل ليحج عن الميت مرض في الطريق، قال: ليس له أن يدفعها إلى غيره إلا يكون قال وقت الدفع: إصنع ما شئت، فحينئذٍ له أن يدفع إلى غيره ليحج عن الميت مرض أو لم يمرض، وفيه دفع إلى رجل دراهم، وأمره أن يحج عنه، فلما أحرم المأمور بدا للآمر أن يأخذ منه المال، وطلب منه المأمور نفقة الرجوع إلى أهله فله ذلك (184أ1) استحساناً.
وفي «فتاوى أبي الليث» : الوصي إذا دفع الدراهم إلى رجل ليحج بها عن الميت، ثم أراد أن يسترد المال منه كان له ذلك ما لم يحرم؛ لأن المال أمانة في يده، فإذا استرد وطلب المأمور نفقة الرجوع إلى بلده، قال: ينظر إن استرد المال منه بجناية ظهرت منه، فالنفقة في ماله خاصة. وإن استرد لضعف رأيه أو لجهله بأمور المناسك، فالنفقة في مال الميت؛ لأن منفعة الاسترداد راجعة إلى الميت، فتكون نفقة الرجوع في ماله، وإن استرد لا لجناية ولا لتهمة، فالنفقة في مال الوصي.

رجل دفع إليه في مدينة السلام مال ليحج عن الميت، فأخذه في طريق البصرة، وسلك طريق الكوفة: قال محمد رحمه الله: لا بأس بذلك؛ لأن الحاجَّ يسلكه من غير عذر، وكذلك إن دفع إليه في مصر له طريقان إلى مكة أحدهما أشد وأبعد فأخذ فيه، قال: إن كان الحاج يسلكه، فله ذلك.
دفع إلى رجل خمسمائة ليحج بها عن الميت، فأنفق منها مائة في أهله وحج بأربعمائة منها، جاز الحج عن الميت، ويضمن المائة التي أنفقها في أهله.
الحاج عن الميت إذا مرض، وأنفق المال كله، فليس على الوصي أن يبعث بالنفقة إليه ليرجعه.
إذا قال الوصي للحاج: إن فني المال، فاستقرض وعلي قضاء الدين، فهو جائز.
إذا استأجر المأمور بالحج خادماً ليخدمه، ينظر إن كان مثله لا يخدم نفسه، فهو في مال الميت؛ لأنه يكون مأذوناً فيه، وللمأمور بالحج أن يدخل الحمام، ويعطي أجر الحارس وغير ذلك ما يفعله الحاج؛ لأن ذلك معروف، وقدر المعروف كالمنصوص.
الحاج عن الميت إذا اشترى ببعض المال المدفوع إليه حماراً ركبه أجزأه، ولو اشترى بالدراهم المدفوع إليه متاعاً للتجارة، وحج بمثلها عن الميت، فإنه يرد المال، والحجة عن نفسه، قال هشام: سمعت أبا يوسف يقول في هذا الفصل: يتصدق بالفضل يعني بالربح، وأجزت الحجة عن الميت في قول أبي حنيفة، وفي قولهما إليه: يحج.

(2/485)


أوصى أن يحج عنه بثلثه، وثلثه لا يبلغ للحج من بلده إلا ماشياً، فقال رجل: أنا أحج من بلده ماشياً لم يجز ذلك، ويدفع إلى رجل يحج راكباً من حيث يبلغ.
أوصى أن يحج عنه فلان فمات فلان رد المال إلى ورثته.
هشام عن محمد رحمه الله أوصى أن يحج عنه بألف درهم، وذلك النقد لا يجوز في الحج، قال: يخرجه الوصي بقدر ما أوصى، ويصرفها بدراهم تجوز في الحج، وإن شاء دفع دنانير بقيمتها.

الحاج عن الميت إذا ضاعت نفقته في الطريق، فأنفق من عند نفسه حتى قضى حجة ينوي عن الميت. قال محمد رحمه الله: فهي للميت تطوع وعليهم (أن) يحجوا عن الميت من حيث فمات الموصى؛ لأن الشرع أقام السبب مقام الحج وذلك بالإنفاق في كل الطريق من مال الميت، وليس للذي أنفق من ماله أن يرجع بذلك على أحد، وأما من أنفق قبل ذلك، فقد ذهب من مال الميت. ولو كانت النفقة ضاعت بعد ما أحرم عن الميت جازت الحجة عن الميت، ولم يرجع بالنفقة على أحد.
المأمور بالحج لا بأس له بالثمر في الطريق، وتفسيره أن يخلط دراهم الآمر مع دراهم الرفقة أن ينفقوا جملة من المخلوط، سواء كان الآمر أمره بذلك أو لم يأمره لمكان العرف.
الوصي إذا أمر رجلاً أن يحج عن الميت في هذه السنة، فأخّر الحج عن وقته حتى مضت السنة، وحج من قابل جاز عن الميت، ولا يضمن النفقة، وذكر السنة في هذا للاستعجال لا ليفيد الآمر بها.
المأمور بالحج عن الميت إذا رجع عن الطريق، وقال: مُنِعْتُ، وقد أنفق من مال الميت في الرجوع لم يصدق، وهو ضامن جميع النفقة، إلا أن يكون أمراً ظاهر.
المأمور بالحج عن الميت إذا قال: حجه عن الميت وأنكر الورثة والوصي، فالقول قوله مع يمينه؛ لأنهم أرادوا الرجوع عليه بالنفقة، وهو منكر، فيكون القول قوله مع يمينه، إلا أن يكون للميت على المأمور دين، فقال له: حج عني بهذا المال حجة، فحج عنه بعد موته، فعليه أن يقيم البينة أنه حج بها؛ لأنه يدعي الخروج عن عهدة ما عليه، والورثة منكرون.

في «المنتقى» : عن محمد رحمه الله: رجل دفع إلى رجل دراهم ليحج بها عن الميت، فادعى الدافع أنه لم يحج، وأقام البينة أنه كان يوم النحر بالكوفة، وقال المدفوع إليه: قد حججت، فالقول قوله، وليست تلك الشهادة بشيء، ألا ترى أنه لو كان عند رجل وديعة لرجل فقال المودع: دفعتها إليك بمكة، وأقام رب الوديعة أن المودع في اليوم الذي يدعي الدفع بمكة كان بالكوفة لم تجز هذه الشهادة؟ وإن أقاما جميعاً البينة في النائبين على إقرار المدفوع والمودع أنه كان بالكوفة، وأنه لم يدفع الوديعة ولم يحج قبلت.
أوصى أن يعطى بعيره هذا رجلاً يحج عنه، فدفع إلى رجل، فأكراه الرجل وأنفق

(2/486)


الكراء لنفسه في الطريق، وحج ماشياً جاز عن الميت استحساناً، وإن خالف أمره، قال الصدر الشهيد رحمه الله: هو المختار؛ لأنه لما ملك أن يملك رقبته بالبيع ويحج بالثمن ملك أن يملك منفعته بالإجارة، ويحج بالأجرة بطريق الأولى؛ إذ لو لم يملك ذلك على هذا التقدير يكون بالكراء عاصياً، فيكون الكراء له والحج له، فيتضرر، وكان نظير الميت فيما قلنا، ثم يرد البعير على الورثة؛ لأنه ملك الميت، وقد فرغ عن وصيته.
في مناسك «المنتقى» : ابن سماعة في «نوادره» : عن محمد رحمه الله إذا قال: أحجوا عشرة يعني عشر حجج فأحجوا عنه رجلاً عشر حجج جاز، وهو نظير ما لو قال: أطعموا عني عشرة مساكين، فأطعموا عنه مسكيناً واحداً عشرة أيام، وعلى هذا إذا قالوا: تصدقوا عني بهذه العشرة على عشرة مساكين، فتصدق على مسكين واحد أجزأه، وإن قال: على مسكينين، أو قال: على مسكين، فتصدقوا على عشرة أجزأه، وهذا وأجناسه على الأجر لا على العدد.
وأعاد هذه المسائل في وصايا «المنتقى» بعينها، وزاد عليها لو قال: تصدقوا بها على مساكين مكة، فتصدقوا بها على مساكين الكوفة ضمنوا، لأنه سمى لهم قوماً ووصفهم ولا يشبه هذا العدد.

في «الجامع الكبير» إذا قال: أوصيت بثلث مالي في الحج يحج عني كل سنة (184ب1) بمائة درهم أو قال: يحج من ثلثي كل سنة بمائة درهم، فإنه يحج عنه بالثلث كل سنة واحدة حتى يأتي على جميعه كل حجة بمائة درهم كما سمى، وكذلك إذا قال: أوصيت بثلث مالي في المساكين يتصدق منه كل سنة بمائة درهم، أو قال: أوصيت بأن يتصدق من ثلثي كل سنة بمائة درهم فإنهم يتصدقون بجميع الثلث في السنة الأولى، ولا يوزع على السنين، وكذلك إذا قال: أوصيت بثلثي يشترى منه كل سنة نسمة بمائة درهم فيعتق أو قال: أوصيت أن يشترى من ثلثي كل سنة نسمة، فإنه يشترى ذلك بكله في السنة الأولى ويعتق عنه ولا يوزع على السنين.
فَرْق بين هذه المسائل وبينما إذا أوصى أن يعطى لفلان كل سنة من ثلث ماله، فالثلث يوقف على فلان، ويعطى له كل سنة ما سمى، والفرق أنه إنما يراعى من الشروط ما يفيد لا ما لا يفيد، والأمر بإنفاق الثلث موزعاً على السنين يفيد؛ لأنه ربما يموت الموصى له قبل أن يستكمل الثلث، فيعود ما بقي من الثلث إلى ورثة الموصي، ونفع الوارث كنفع المورث، فأما في المسائل الثلاث الأمر بالتوزيع على السنين لا يفيد؛ لأنه لا يتوهم أن يفضل شيء من وصيته في المسائل، بل ثلث؛ لأن هذه جهات لا تنقطع إلى يوم القيامة، فلا يعود شيء إلى ورثته.
بقي من هذه الجنس مسألة لا بد من معرفتها: أن من مات، وعليه فرض الحج، ولم يوص به لم يلزم الوارث أن يحج عنه، وإن أحب أن يحج عنه حج، وأرجو أن يجزئه إن شاء الله، هكذا ذكر القدوري في «شرحه» ؛ لأن رسول الله عليه السلام شبه ديون الله تعالى بديون العباد في الحج في حديث الخثعمية، ثم في ديون العباد من قضى دين غيره

(2/487)


بغير أمره يجوز، ولكن موقوفاً على مشيئة رب الدين، فكذا في دين الله تعالى.

وذكر في «الزيادات» : فيمن مات وعليه صيام وأوصى أن يطعم عنه، فأطعم عنه الوارث، قال: يجزئه إن شاء الله، قرن الجواب بالمشيئة في باب الصوم، ولو حصل الإطعام بأمر من عليه، وفي باب الحج قصر الاستثناء على الحج بغير الأمر، والفرق: أن تشبيه دين الله تعالى بديون العباد في الحج منصوص عليه؛ لأن حديث الخثعمية ورد في الحج مجرى الحج يجري ديون العباد على النيّات إن كان بأمر من عليه، ومعلقاً بالمشيئة إن كان بغير أمر من يلي على ذلك، أما في باب الصوم لم يرد نص يوجب تشبيه دين الله بدين العبد، وإنما جوّز الإطعام بدلاً عن الصوم بقوله عليه السلام: «من مات وعليه صيام أطعم عنه وليه» ، وهذا الخبر من جملة أخبار الآحاد، وخبر الواحد يوجب العمل دون العلم، فمن حيث إنه يوجب العمل قلنا بالجواز، ومن حيث إنه لا يوجب العلم قرن الجواز في الوجهين جميعاً، والله أعلم.

الفصل السابع عشر: في إحرام المرأة والمماليك
المرأة إذا أحرمت بحجة تطوع بغير إذن زوجها له أن يحللها في قول علمائنا رحمهم الله، والتحليل بارتكاب محظور والمحظور نوعان: إما حلق شعر أو تطييب عضو أو جماع، غير أن الأولى أن يكتفي بأقلها وأهونها حظراً، أو عليه الدم؛ لأجل التحلل، فإن أذن لها زوجها بعد ذلك، يعني: بعد ما حللها وكان ذلك قبل فوت الحج، وإن شاءت حجت من عامها ذلك، فطالما شرعت فيه، وإذا حجت من عامها ذلك فلا عمرة عليها لأن وجوب العمرة لأجل فوات الحج والدم عليها على حاله، وإن شاءت حجت في العام القابل وعليها العمرة، وكذلك إن كان ذلك بعد ما فات الحج، فعليها الحجة، والعمرة في العام القابل.

ابن سماعة عن محمد: في رجل أذن لامرأته في الحج، فأحرمت بالحج قبل أشهر الحج يحللها، وإن أحرمت في أشهر الحج، فليس له أن يحللها، وإن كانت في بلاد بعيدة يخرجون منها قبل أشهر الحج أو في أشهر الحج، فله أن يحللها ويكره له ذلك. وإحرام الأمة في حق هذا الحكم يفارق إحرام المنكوحة.
الرجل إذا أحرمت امرأته أو أمته بغير إذنه، فجامعها أو قبلها مع علمه بإحرامها فذلك تحليل، أراد به التحليل، أو لم يرد.
الحسن بن زياد ذكر في كتاب «الاختلاف» : امرأة أحرمت بحجة تطوعاً تزوجت،

(2/488)


ولها ذو رحم محرم، فلزوجها أن يحللها، وأن يمنعها من الحج عند أبي يوسف خلافاً لزفر، وذكر عيسى بن أبان في «نوادره» : عن محمد: امرأة أحرمت بحج تطوعاً، ثم طلقها ولم يدخل بها، فزوجت رجلاً آخر في إحرامها، فليس له أن يحللها، قال: وليست هذه كالأمة إذا باعها المولى، وقد كانت أحرمت بإذن المولى، فإن للمشتري أن يحللها.
وفرق في حق الأمة بين المشتري والبائع، فإنه يكره للبائع أن يحللها إذا كانت أحرمت بإذنه، ولا يكره للمشتري أن يحللها، والفرق أن التحليل من البائع خلف في الميعاد بخلاف التحليل من المشتري، وقد اختلفت ألفاظ نسخ «الجامع الصغير» في مسألة الأمة في حق المشتري، وقع في بعضها، للمشتري أن يحللها ويجامعها، وقع في بعضها وللمشتري أن يحللها أو يجامعها.
وفي «الأصل» قال: للمشتري بأن يحللها، ولم يرد عليه، فإن كان الصحيح، فللمشتري أن يحللها ويجامعها، فمعناه يحللها بمس أو قص شعر، ويجامعها بعد ذلك، وإن كان الصحيح يحللها أو يجامعها، فمعناه يحللها بقص شعر أو مس أو جماع، واختلف المشايخ في تحليلها بالجماع فبعضهم كره ذلك كيلا يلاقي الجماع إحرامها، وبعضهم لم يكره ذلك؛ لأن المواقعة لا تخلو عن سابقة مس يقع به التحلل، فتقع المواقعة بعد التحلل، والله أعلم بالصواب.

الفصل الثامن عشر: في التزام الهدي والبدنة وما يتصل بذلك
إذا قال: عليّ المشي إلى بيت الله أو إلى مكة لزمه حجة أو عمرة استحساناً، ولو قال: عليّ المشي إلى الحرم وإلى المسجد الحرام، فعلى قول أبي حنيفة (185أ1) لا يصح النذر، ولا يلزمه شيء خلافاً لهما، ولو قال: عليّ المشي إلى زمزم أو إلى أسطوانة الكعبة، في غير رواية الأصول أنه على هذا الخلاف أيضاً، ولو قال: عليّ الذهاب إلى مكة، أو قال: عليّ السفر إلى مكة، أو قال: عليّ الركوب إلى مكة لا يلزمه شيء، بلا خلاف هذه الجملة في «الأصل» .
وفي «المنتقى» ابن سماعة عن محمد: رجل قال: لله عليّ المشي إلى بيت الله تعالى ثلاثين سنة، قال: عليه ثلاثون حجة أو ثلاثون عمرة، ولو قال: عليّ المشي إلى بيت الله ثلاثين شهراً، أو قال: أحد عشر شهراً، فإنما عليه عمرة واحدة. قال هشام: استحسن في السنتين؛ لأن عليه أيمان الناس، ولو قال: لله عليّ في هذه السنة حجتان، فعليه حجتان يعني في سنتين، ولو قال: لله عليّ عشر حجات في هذه السنة، فعليه عشر حجات في عشر سنين، فرق بينه وبين الصوم، فإنه إذا قال: لله عليّ صوم يومين في هذا اليوم لا يلزمه صوم يومين.
أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله: إذا قال الرجل بخراسان: إن كلمت فلاناً

(2/489)


فعليّ المشي إلى بيت الله تعالى، فكلمه بالكوفة، فعليه أن يمشي من خراسان.
الحسن بن زياد عن أبي حنيفة إذا قال: أنا محرم بحجة بل بعمرة إن فعلت كذا ففعل، فعليه حجة وعمرة. الحسن بن زياد: إذا نذر المشي إلى بيت الله، ثم قرن بين حجة الإسلام وبين عمرة نواها بالمشي الذي أوجبه، ومشى فيهما إلى مكة أجزأه، ولا يلزمه شيء.
ابن سماعة عن أبي يوسف: رجل قال وهو في غير أشهر الحج: لله عليّ حجة في أشهر الحج، فمات قبل أن يجيء لم يجب عليه شيء، وإن قال: وهو في غير أشهر الحج، فالحجة واجبة عليه من قبل أنه أوجبها على نفسه الساعة، فإذا قال: في أشهر الحج، فكأنه قال: إذا جاء فلان.

«الجامع الصغير» : رجل جعل على نفسه أن يحج ماشياً، فإنه لا يركب حتى يطوف للزيارة، وفي «الأصل» يشير إلى خلافه وموضع ما ذكر في «الأصل» : إذا حلف بالمشي إلى بيت الله تعالى، فعليه حجة أو عمرة استحساناً، فإن عنى حجة أو عمرة كان عليه أن يحج أو يعتمر ماشياً، ويصير تقدير كلامه عند تعيين أحدهما لله عليّ أن أحج ماشياً، أو لله عليّ أن أعتمر ماشياً، ولو نص على هذا لزمه كذلك، ولكن إن ركب يجزئه، ويريق لذلك دماء.
الأصل فيه حديث عقبة بن عامر الجهني حيث قال: «يا رسول الله إن أختي نذرت أن تحج ماشية، فقال عليه السلام: إن الله تعالى غني عن تعذيب أختك، مُرها فلتركب ولترق دماً» .
ثم إذا حج أو اعتمر ماشياً متى يبتدىء، ومتى يترك المشي؟
أما الترك: ففي الحج يترك المشي متى طاف الزيارة؛ لأن الحج ينتهي بطواف الزيارة، فينتهي المشي أيضاً بطواف الزيارة، وفي العمرة يترك المشي متى طاف وسعى.
وفي «البداية» : اختلف المشايخ، بعضهم قالوا: يمشي من حين يحرم؛ لأنه التزم الحج ماشياً، فإنما يلزمه المشي متى أخذ في أفعال الحج، وإنما يصير أخذ في أفعال الحج متى أحرم، ومنهم من قال: يمشي حين يخرج من بيته؛ لأن المشي من بيته من أفعال الحج؛ لأنه لا يتوصل إلى الأعمال إلا به.
في «العيون» : إذا قال: لله عليّ حجة الإسلام مرتين لا يلزمه شيء؛ لأنه التزم غير المشروع، وفي «فتاوى أبي الليث» إذا قال: أن أحج فلا شيء عليه، ولو قال: إذا دخلت الدار، فأنا أحج فدخلها لزمه الحج.
وفيه أيضاً: إذا قال: لله عليّ مئة حجة لزمها كلها، ويظهر الوجوب فيما زاد على عمره في حق وجوب الإيصاء، وفي الأيمان من «فتاوى أبي الليث» إذا قال: لله عليّ ثلاثين حجة لزمه بقدر عمره؛ لأن ما زاد على عمره إيجاب بعد الموت، والإيجاب بعد الموت لا يعمل.

(2/490)


في «فتاوى أبي الليث» أيضاً إذا قال: لله عليّ ثلاثين حجة ثلاثين نفساً في سنة واحدة إن مات قبل أن يجيء وقت الحج جاز الكلّ؛ لأنه لم يستطع بنفسه، فتبين أن شرط الإحجاج كان موجوداً، وإن (جاء) وقت الحج، وهو حي قادر على الحج بطلب حجة واحدة؛ لأنه استطاع، فتبين أن شرط الإحجاج وهو الناس لم يكن موجود، وكذلك كل سنة عليّ هذا.
إذا قال المريض: إن عافاني الله من مرضي هذا فعليّ حجة، فبرأ من مرضه، فعليه حجة، وإن لم يقل: فلله حجة، فبرأ وحج جاز ذلك عن حجة الإسلام؛ لأن الغالب من أمور الناس أنهم يريدون بهذا الكلام حجة الإسلام إذا لم يكن حج قبل ذلك، فإن نوى حجة غير حجة الإسلام أجزأه؛ لأنه نوى ما يحتمله.
d
إذا قال: إن فعلت كذا فعليّ هدي، أو قال: فعليّ بدنه، فهذه المسألة لا بد لمعرفتها من أصل أن اسم الهدي عند الإطلاق يتناول الهدي، فنقول: اسم البدنة عند الإطلاق يتناول الإبل والبقر، قال عليه السلام «البدن من الإبل والبقر» قال علي رضي الله عنه: الهدي من ثلاثة، فهي من الإبل والبقر والشاة، ولأن الهدي اسم لما تهدى إليها كالإبل والبقر تحدياً البدنة؛ لأن البدن مشتقة من الضخامة والضخامة للإبل والبقر دون الشاة.
إذا عرفنا هذا جئنا إلى تخريج المسألة؛ فنقول: إذا قال: لله عليّ هدي نوى شيئاً من الأنواع الثلاثة فهو على ما نوى، وإن لم ينو شيئاً ينصرف إلى الشاة لأنه أدنى الأنواع الثلاثة، وإن قال: لله عليّ بدنة، فإن نوى شيئاً من النوعين فهو على ما نوى، وإن لم ينو شيئاً فله أن يختار أي النوعين شاء.

ثم في البدن إن نوى أن ينحرها بمكة لزمه أن ينحرها بمكة، وإن لم ينو ذلك نحرها في أي مكان شاء، وقال أبو يوسف (185ب1) ومحمد: يلزمه أن ينحرها بمكة، وفي الهدي يلزمه النحر بمكة، وإن لم ينو النحر بمكة بلا خلاف، ولا يجزي في الهدايا والضحايا إلا الجذع من الضأن إذا كان عظيماً والثني من غيره، والجذع من الضأن عند الفقهاء الذي أتى عليه أكثر الحول سبعة أشهر، فصاعداً، وعند أهل اللغة الذي أتى عليه ستة أشهر، والثني من الإبل الذي طعن في السنة السادسة، ومن البقر الذي طعن في السنة الثالثة ومن الغنم الذي طعن في السنة الثانية.
قال في «الأصل» : ويستحب للرجل أن يأكل من هدي المتعة والتطوع والقران، وكذلك يستحب له التصدق، وما أكثر من التصدق فهو أفضل، ولا يستحب له أن يتصدق بأقل من الثلث، وإذا بلغ هدي التطوع الحرم وعطب فيه قبل يوم النحر فإن كان قد تمكن منها نقصان يمنع أداء الواجب ذبحه وتصدق بلحمه، لأنه لما عينه للهدي فقد لزمه شيئان قربة الإراقة فيه والتصدق باللحم، فإذا تمكن فيه عيب يمنع قربة الإراقة إن عجز عن قربة

(2/491)


الإراقة ما عجز عن التصدق باللحم، فيلزمه ما قدر عليه ولا يأكل منه لأن إباحة الأكل من الهدي، معلقة بقربة الإراقة كما في الأضحية وقربة الإراقة لا تتأدى بمثل هذا العيب كما لا تتأدى قربة الأضحية، فإذا لم توجد قربة الإراقة لا يحل الأكل، وإن كان النقصان المتمكن يسيراً بحيث لا يمنع أداء الواجب ذبحه ويتصدق بلحمه وأكله، لأن قربة الإراقة قد وجدت لأن ما لا يمنع أداء الواجب لا يمنع أداء التطوع، وهذا بخلاف هدي المتعة، فإنه لو عطب في الحرم قبل يوم النحر فذبحه لا يجزئه؛ لأن هدي المتعة مؤقت بيوم النحر فلا يجزئه الذبح قبل يوم النحر بخلاف هدي التطوع.

قال في «الأصل» : وإذا سرق هدي رجل فاشترى مكانها أخرى وقلدها وأوجبها، ثم وجد الأول فإن نحرها، فهو أفضل؛ لأنه أوجبها الأول على نفسه مطلقاً وأوجبها الثاني بنية إسقاط الواجب، وتبين أنه ليس عليه حين وجد الأول، فالأفضل في مثل هذا المعنى، كما إذا شرع في صوم أو صلاة على ظن أنه عليه ثم تبين أنه ليس عليه، فإن نحر الأول وباع الآخر أجزأه، وإن نحر الآخر وباع الأول، فإن كان قيمة الآخر مثل قيمة الأول وأكثر فلا شيء عليه، وإن كان أقل يتصدق بفضل ما بينهما.
قال في «الأصل» : عقيب هذه المسائل: وهدي المتعة والتطوع في هذا، قالوا: وما ذكر محمد رحمه الله يبطل قول من قال بأن من الفقير إذا اشترى شاة بنية الأضحية فضلت فاشترى بأخرى، ثم وجد الأولى، أنه يلزمه أن يضحي بهما لأن الشراء بنية الأضحية بمنزلة النذر فكأنه نذر أن يضحى بالأخرى ووجه الإبطال أن محمد رحمه الله نص هنا على أن له بيع الآخر، وإن كان هذا في التطوع في هذا الواجب سواء.
وفي «المنتقى» : قال عيسى بن أبان في «نوادره» : قلت لمحمد: رجل قلد بدنة تطوعاً فضلّت منه، ثم اشترى مكانها أخرى هي أفضل منها وقلدها وأوجبها، ثم وجد الأولى قال: إن نحر الأولى تصدق بفضل الثانية عليها، وكذلك في الأضحية قلت: لو قلد بدنة تطوعاً وأوجبها فضلت منه، ثم اشترى مكانها بدنتين كل واحدة منهما أفضل من الأولى فقلدهما جميعاً، ثم وجد الأولى، قال: أحب إليّ أن ينحرهن جميعاً، وإن لم يفعل ينحر الأولى وإحدى هاتين، وأمسك إحداهما، والله أعلم.

الفصل التاسع عشر: في الخطأ في الوقوف
ذكر ابن سماعة في «نوادره» عن محمد رحمه الله في الإمام يخطىء، ويقف بالناس بعرفة يوم التروية لم يجز للناس حجتهم.

وفي «الجامع الصغير» : أهل عرفة وقفوا في يوم شهد قوم أنهم وقفوا في يوم النحر أجزأتهم حجتهم. وصورة المسألة: أن يشهد قوم برؤية هلال ذي الحجة في ليلة كان اليوم الذي وقفوا اليوم العاشر من ذي الحجة، وهذا لأن التحرز عن الخطأ غير ممكن،

(2/492)


فإذا ظهر الخطأ، والتدارك غير ممكن، وجب أن يسقط التكليف صيانة لجميع المسلمين، ولأن هذه شهادة قامت على النفي، وعلى أمر لا يدخل تحت الحكم والإلزام، ومثل هذه الشهادة لا تقبل.
وذكر الكرخي رحمه الله: إذا التبس على الناس هلال ذي الحجة، فأكملوا عدة ذي القعدة ثلاثين يوماً، ووقفوا في اليوم التاسع من ذي الحجة ثم تبين أن اليوم الذي كان وقوفهم صحيحاً وحجهم تاماً استحساناً، والقياس: أن لا يجوز.
وفي «المنتقى» : عمرو بن أبي عمرو عن محمد رحمه الله: إذا قيل الحجاج..... بريدون، فأبصر بعضهم هلال ذي الحجة، فرد الإمام شهادتهم، وعدّ الإمام ذا القعدة ثلاثين يوماً، ووقف يوم التاسع بعرفة وهو اليوم العاشر في شهادة الشهود، ووقف الشهود معه، فحجهم تام، هم وغيرهم في الحج سواء، وإن استيقنوا أن هذا اليوم يوم النحر. ولو أن هؤلاء الشهود بعدما رد الإمام شهادتهم وقفوا بعرفات على ما رأوا عليه الهلال قبل وقوف الإمام بيوم ولم يقفوا مع الإمام من الغد، فقد فاتهم الحج، وعليهم أن يحلوا بعمرة، وعليهم الحج من قابل.

وفيه أيضاً: ولو أن قوماً من الحجاج أو من غيرهم أتوا الإمام وشهدوا عنده في صبيحة يوم عرفة أنهم رأوا الهلال قبل عدد الثلاثين بيوم، وهذا اليوم يوم النحر وهم عدول لا تقبل شهادتهم، ووقف بالناس على عدده الذي عدّوا، ووقف معه هؤلاء الشهود أجزأهم؛ لأن الإمام لا ينبغي له أن يبطل الحج في سنة من السنين، حتى لا يكون فيها حج. وكذلك لو كانوا شهدوا بذلك في آخر ليلة عرفة في ساعة، إن طلب (186أ1) الإمام المسلمين أن يأتوا عرفة، فيقفوا بها لم يدركوها حتى يطلع الفجر لا تقبل هذه الشهادة، وإن شهد في أول الليل أو في عشي اليوم الذي هو يوم عرفة في شهادتهم، وكان الإمام والمسلمون يقدرون على أن يمضوا إلى عرفات حتى يقفوا بها قبل الإمام شهادتهم، قال: ولا ينبغي أن يقبل في هذا شهادة الواحد والاثنين ونحو ذلك في الاستحسان.
وأما في القياس فتقبل فيه شهادة العدلين، وأما الذي تقبل فيه شهادة العدلين قياساً واستحساناً إذا كان القوم يقدرون على الوقوف على ما أمروا به، معناه: أن الشهود إذا شهدوا في زمان يمكّنهم الوقوف بعرفة نهاراً تقبل شهادة عدلين، وإذا شهدوا في زمان لا يمكنهم الوقوف بعرفة نهاراً، ويحتاجون إلى الوقوف بها ليلاً لا تقبل فيه شهادة العدلين، لأن الوقوف يتحول بشهادته حتى يوقف بالليل مكان النهار، فلا يقبل فيه الأمر الظاهر.

وفيه أيضاً: لو شهدوا عند الإمام عدلان على رؤية الهلال في أول العشر من ذي الحجة أو شهود عدول، فرأى أن لا يقبل ذلك حتى يراه العامة، يعني حتى يشهد عنده جماعة كذلك، ومضى ما رأى ووقف في يوم هو يوم النحر في شهادة الشهود، ووقف

(2/493)


الناس معه والشهود أجزأهم: قال: لأن هذا أمر يختلف فيه الفقهاء، وإن خالفه الشهود، ووقفوا قبله لا يجزئه، قال: إنما هذا بمنزلة الأحكام التي يختلف فيها المسلمون يريد بقوله: إن هذا أمر يختلف فيه الفقهاء، إن الفقهاء اختلفوا في هلال ذي الحجة، بعضهم جعلوه بمنزلة هلال رمضان، فتقبل فيه شهادة عدلين، وبعضهم جعلوه بمنزلة هلال شوال، فلا تقبل فيه إلا شهادة الجمع العظيم.
وفي «الرقيات» : ابن سماعة، قلت لمحمد رحمه الله: أرأيت لو غُمَّ على الناس هلال ذي الحجة بمكة قعدوا لأيام حتى إذا أصبحوا في اليوم الذي يرونهم يوم عرفة أتاهم تعين الخبر أن ذلك اليوم يوم النحر أيجزئهم أن يقفوا؟ أرأيت إن أتاهم الخبر وهم بمنى ليلة النحر في وقت إن أرادوا إتيان عرفة أصبحوا دونها، أو في وقت يلحق المسرع عرفة بمثل طلوع الفجر، فأما المشاة وأصحاب الثقل، فلا يلحقوا بها إلا بعد الفجر، قال محمد رحمه الله: لا ينبغي للإمام أن يقبل على هذا بينة، ولا يلتفت إلى شيء من ذلك إذا كان أمراً إن فعله كان القوم فاتهم الحج، فإن كان الإمام، ومن أسرع فيه يدركون الحج تقبل فيه شهادة الشهود، وإن فات بعضهم الحج.
وفي صورة أخرى من هذا الجنس يقول: إذا جاء الإمام، وذلك أمر مكشوف معروف، وهو يقدر على الذهاب إلى عرفة، ومن أسرع معه في المشي، فليذهب هو وليقف، ومن لم يقف معه فاته الحج، وإن كان لا يدري هو، ولا غيره، فلا ينبغي له أن يقبل شهادتهم على هذا وإن كثروا، ولا يقف إلا من الغد.
والحاصل أن في كل موضع لو قبلت الشهادة لفات الحج على الكل، فالإمام لا يقبل الشهادة، وإن كثر الشهود في كل موضع لو قبلت الشهادة لفات الحج على البعض دون البعض قبلت الشهادة.

الفصل العشرون: في المتفرقات
ذكر في «واقعات الناطفي» أن المرأة المحرمة ترخي على وجهها خرقة، وتجافي عن وجهها، ودلت هذه المسألة على أن المرأة منهية عن إظهار وجهها للرجال من غير ضرورة؛ لأنها منهية عن تغطية الوجه لحق نسك، لولا أن الأمر كذلك، وإلا لما عرف بهذا الإرخاء في النواهي.
البالغ إذا جن بعد الإحرام، ثم ارتكب شيئاً من المحظور، فإن عليه فيها الكفارة. فرق بينه وبين الصبي؛ لأن ابتداء إحرام المجنون قبل أن يجن كان صحيحاً لازماً؛ بخلاف إحرام الصبي. حكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله أن المرأة إذا لم تجد محرماً لم تحج عن نفسها إلى أن تبلغ الوقت الذي تعجز، فلا تقدر على السير، فحينئذٍ تبعث من يحج عنها، وقبل ذلك لا يجوز لها ذلك لتوهم وجود

(2/494)


المحرم، فإن بعثت رجلاً، فإن دام عدم المحرم إلى وقت الموت فذلك جائز، كالمريض إذا أحج عنه فدام به المرض.
ولو بلغ الصبي أو أسلم الكافر في وقت لا يقدر على الحج ثم مات، ذكر في اختلاف زفر ويعقوب أن على قول أبي يوسف: يجب الحج، وعلى قول زفر: لا يجب، قال البلخي: وقد روي عن أبي يوسف أنه يجب قضاءً، وعن أبي يوسف رحمه الله روايتان، قيل: وكان عن أبي حنيفة روايتان أيضاً.
وكذلك على هذا إذا أصاب مالاً، واستهلكه أو هلك المال في وقت لا يقدر على الحج. والفتوى: على أنه لا يجب عليه الحج وهو الأظهر. وروى الحسن عن أبي حنيفة إذا أتى بالإحرام في الميقات يعني الحاج يقول: اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبل مني عن فلان.

إذا حج الرجل مرة، ثم أراد أن يحج مرة، فالحج مرة أخرى أفضل له أم الصدقة، فالمختار أن الصدقة أفضل له؛ لأن نفع الصدقة يعود إلى الفقير، ونفع الحج يقتصر عليه.

في «العيون» : إذا أراد الرجل أن يخرج إلى الحج وأبوه كاره، فإن كان الأب مستغنياً عن خدمته لا بأس بذلك؛ وإن لم يكن مستغنياً لا يسعه الخروج.
وذكر في «السير الكبير» إذا كان لا يخاف عليه لذلك الضيْعة فلا بأس بالخروج، وكذلك إن كره خروجه زوجته وأولاده ومن سواهم ممن يلزمه نفقتهم، وهو لا يخاف الضيْعة عليهم، فلا بأس بأن يخرج، ومن لا يلزمه نفقته لو كان حاضراً، فلا بأس بالخروج مع كراهيته، وإن كان يخاف الضيعة عليه.
وذكر في «فتاوى أبي الليث» : إذا كان الابن أمرداً صبيح الوجه فلا بأس أن يمنعه عن الخروج حتى يلتحي، وإن لم يكن كذلك إلا أن أبواه يحتاجان إلى النفقة، ولا يمكنه أن يخلف لهما نفقة كاملة، أو يمكنه إلا أن الغالب هو الخوف في الطريق، فلا يخرج مع كراهيته، وإن كان الغالب هو السلامة، فلا بأس بالخروج.
في «فتاوى أبي الليث» : الخروج إلى الحج راكباً أفضل من الخروج ماشياً؛ لأن المشي يجهد الإنسان، ويسيء خلقه، فلا يأمن أن يأثم في إحرامه.
فيه أيضاً: رجل وجب عليه الحج، فحج من عامه فمات في الطريق، فليس عليه أن يوصي بالحج إلا أن يتطوع؛ لأنه لم يؤخر بعد الإيجاب، شكَّ الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله عمن قال: اللهم نريد الإحرام هل يصير محرماً؟ قال: على قياس قول أبي حنيفة يجب أن يصير محرماً؛ لأنه يجوز الشروع في الصلاة بقوله: اللهم، فأولى أن يجعله محرماً به، روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله قال: أقل ما يجب أن يكون بين الناس وبين الجماعة في حال ما بين من عشرة أذرع، والله أعلم بالصواب. ويتلوه كتاب النكاح (186ب1) .

(2/495)