المحيط البرهاني في الفقه النعماني

الفصل العاشر في نكاح الصغار والصغائر وتسليمهنإلى الأزواج وتصرف الأولياء في المهر
قال محمد رحمه الله في «الأصل» بلغنا أن رسول الله عليه السلام «بنى بعائشة وهي ابنت تسع سنين» فيه دليل أن للزوج أن يدخل بامرأة صغيرة إذا بلغت تسع سنين،

(3/47)


وإن لم تبلغ فإن بلوغها لم ينقل في الحديث، وبه أخذ المشايخ، ومن المشايخ من قال: ليس للزوج أن يدخل بها ما لم تبلغ، وأكثر المشايخ على أنه لا عبرة للسن في هذا الباب، وإنما العبرة للطاقة إن كانت صحة سمينة تطيق الرجال ولا يخاف عليها المرض من ذلك؛ كان للزوج أن يدخل بها وإن لم تبلغ تسع سنين. فإن كانت نحيفة مهزولة لا تطيق الجماع ويُخاف عليها المرض لا يحل للزوج أن يدخل بها، وإن كبر سنها وهو الصحيح.
وكذلك المشايخ اختلفوا على نحو هذا في ختان الصغيرة، بعضهم اعتبروا البلوغ وبعضهم اعتبروا تسع سنين وبعضهم عشر سنين، وبعضهم يعتبر أن الطاقة إن كان قوياً بحيث يطيق ألم الختان يختتن قبل سنة أو أكثر. وإذا نقد الزوج المهر فطلب من القاضي أن يأمر أبا المرأة بتسليم المرأة فقال أب المرأة: إنها صغيرة لا تصلح للرجال، ولا تطيق الجماع. وقال الزوج: لا بل هي تصلح للجماع وتطيق الرجال، قال ننظر؛ إن كانت ممن يخرج أخرجها القاضي وأحضرها ونظر إليها فإن صلحت للرجال أمر برفعها للزوج، وإن لم تصلح لم يأمر، وإن كانت ممن لا يخرج أمر من يثق بهن من النساء أن ينظرن إليها فإن قلن: إنها تطيق الرجال وتحتمل الجماع أمر الأب برفعها إلى الزوج، وإن قلن لا تحتمل الجماع لا يؤمر بتسليمها إلى الزوج.

في «أدب القاضي» للخصاف في باب المطالبة بالمهر: وإن ادعى الزوج أنها بلغت مبلغ النساء وقال الأب: هي صغيرة لم تبلغ ولا تحتمل الرجال وهي ممن يشك في بلوغها، إذا قلن إنها تحتمل الرجال دفعت إلى الزوج في هذا الباب، وإن للزوج بينة تشهد على سنها قد عرفت مولدها. فإن كانت قد أتى عليها خمس عشر سنة دفعت إلى الزوج؛ لأن الظاهر أن المرأة إذا بلغت هذا المبلغ تصلح للرجال فتدفع إليه إلاّ إذا تبين بخلافه، ألا ترى أن البالغة إذا كانت لا تحتمل لا يؤمر بدفعها إلى الزوج كذا هنا.
صغيرة لا يُستمتع بها زفها أبوها فللأب أن يطالب الزوج بمهرها بخلاف النفقة في هذا الباب، وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله أيضاً. والفرق: وهو أن النفقة بإزاء الاحتباس في حق الزوج وهي غير محبوسة لحق الزوج؛ لأن الزوج لا يستمتع بها بخلاف المهر؛ لأن المهر بإزاء الملك والملك ثابت، وفي «البقالي» قيل: ليس للأب أن يطالب الزوج بمهر ابنته الصغيرة إلى أن تصير بحال ينتفع بها (......) الزوج مهر ابنته البكر، وإن كانت كبيرة استحساناً إلا إذا نهته عن القبض فحينئذ ليس له علاقة بمطالبته، فليس لأحد من الأولياء ذلك إلا بوكالة منها، وإن كانت بنتاً كانت كبيرة فليس للأب المطالبة بالمهر.

وفي «المنتقى» إبراهيم عن محمد رحمه الله وبشر عن أبي يوسف رحمهم الله: إذا أقر الأب بقبض المهر والبنت بكر صُدّق وعنه أيضاً إبراهيم عن محمد رحمه الله: رجل

(3/48)


تزوج امرأة بكراً ودفع المهر إلى الأب برىء وليس للأب أن يأخذ الزوج بالمهر إلا بوكالة منها، ولو قبض الهبة وهدية الزوج لم يكن قبضه قبضاً لها، وللزوج أن يأخذ ذلك من الأب معنى المسألة: إذا وهب الزوج لامرأته قبل أن يبني بها هبة وأهدى إليها بهدية فقبض الأب ذلك والمرأة بكر فقبض الأب لا يكون قبضاً لها حتى كان للزوج أن يأخذ ذلك من الأب بخلاف قبض الأب المهر، فإنه جعل قبضاً لها إذا كانت بكراً حتى برىء الزوج عنه.
وفيه أيضاً: بشر عن أبي يوسف رحمه الله: إذا زوج الرجل ابنته وهي بكر وكان الزوج مقراً بالنكاح والمهر، فللأب أن يخاصم بالنفقة والمهر وإن كان جاحداً للنكاح أو المهر فليس له أن يخاصم إلا بالوكالة، وفي «فتاوى الفضلي» : وللرجل أن يخاصم في مهر ابنته البكر البالغة بغير وكالة منها لما أن له أن يقبض المهر، ثم في حق البكر البالغة إنما تملك قبض مهرها المسمى حتى لو كان المسمى بيضاً لا تملك قبض السود وكذا على العكس، هكذا ذكر في «أدب القاضي» للخصاف في باب المطالبة بالمهر، وهذا تنصيص على أنه لا يملك قبض الصاع بدلاً عن الدراهم، وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله الأب إذا قبض ضيعة بمهر ابنته البكر إن كان ذلك في بلد لم يَجْرِ التعارف بدفع الضيعة بالمهر لم يجز لأن هذا إسراف وليس بقبض للمهر، وليس للأب أن يشتري على ابنته البالغة. وإن كان في بلدة جرى التعارف بذلك جاز إذا كانت بكراً؛ لأن هذا قبض للمهر. وللأب قبض مهر ابنته البكر وإن كانت بالغة، وإن كانت صغيرة، وأخذ الأب ضياعاً بمهرها وإن كان يساوي المهر فهو جائز سواء كان في بلدة جرى التعارف بدفع الضيعة بالمهر، أو كان في بلدة لم يَجرِ التعارف بدفع الضيعة بالمهر لأن هذا إما أن يعتبر قبضاً للمهر أو شراء، وأيَّا ما كان فللأب ملك ذلك على ابنته الصغيرة. وإن كانت الضيعة لا تساوي المهر إن كان في بلدة جرى التعارف بدفع الضيعة بالمهر بأضعاف قيمتها جاز؛ لأن هذا قبض للمهر، وإن كان في بلد لم يَجْرِ بذلك التعارف لا يجوز؛ لأن هذا شراء وليس للأب ولاية الشراء على ابنته الصغيرة بأضعاف القيمة. وفي «البقالي» : وللقاضي أن يقبض (196ب1) مهر البكر البالغة كالأب والجد والوصي، رواه هشام عن محمد رحمه الله وأطلق الخصاف أنه لا يقبض إلا الأب يعني من غير وكالة منها. وفيه أيضاً: وأما الشراء بالمهر فالأشبه أنه لا يجوز، قال: وقد قيل أنه يعتبر فيه العادة، وفيه أيضاً: ولا يجوز إقرار الأب

بعد بلوغها بقبض المهر في صغرها، ولا يضمن للزوج؛ لأن الزوج قد صدقه إلا أن يقول وقت القبض أقبضه على أن أبرئك من ابنتي.
معنى المسألة: إذا زوج الرجل ابنته وهي صغيرة ثم أدركت وطالب زوجها بالمهر فقال الزوج: دفعت إلى أَبيْك وأنت صغيرة وصدقه الأب في ذلك؛ فإن إقرار الأب اليوم لا يجوز على ابنته، ولها أن ترجع بالمهر على الزوج، ولا يرجع به الزوج على الأب من قبل أنه مقر أنه دفعه إليه، ودفعه جائز.
وإن كان الأب قال: أخذت منك المهر على أن أبرئك من ابنتي وباقي المسألة

(3/49)


بحالها كان للزوج أن يرجع على الأب؛ لأنه قبضه على أن يبرئه من صاحبه.
قال في «المنتقى» : والحكم (فيهما كالحكم) فيما بين الوكيل والمديون، وإن الدين في مثل هذا نظير الحكم فيما بين المرأة والأب. (والأب) إذا قبض مهر ابنته البالغة من الزوج ثم ادعى عليه الرد؛ فإن كانت البنت بكراً لم يصدق إلا ببينة لأن له حق القبض وليس له حق الرد فقد ادعى ما ليس حقه فلا يصدق، وإن كانت ثيباً يصدق؛ لأنه ليس له حق قبض مهر الثيب البالغة إلا بوكالة منها ولم توجد الوكالة فلا يقع قبضه للبنت وإنما يقع قبضه للزوج وكان المهر أمانة للزوج في يده، فإذا قال: رددت على الزوج فقد ادعى رد الأمانة على صاحبها فيصدق.
الأب إذا زوج ابنته من إنسان فطلبوا منه أن يقر بقبض بعض الصداق أو يهب شيئاً من الصداق فالإقرار بالقبض باطل؛ لأن أهل المجلس يعرفون أنه كذب حقيقة، وأما الهبة فإن كانت الابنة كبيرة فالأب يقول: أهب بإذن البنت كذا وكذا ثم يضمن للزوج عنها ويقول: إن أنكرت الإذن بالهبة ورجعت عليك فأنا ضامن لك عنها، ويكون هذا الضمان صحيحاً لكونه مضافاً إلى سبب الوجوب، وإن كانت البنت صغيرة فالحيلة أن يباشرا العقد على ما وراء ... الملتمس هيئته، فلا يحتاجان إلى الهبة، أو يحيل الزوج بعض الصداق على أن الصغيرة فيفرغ ذمته إن كان أب الصغيرة أملى من الزوج.
إذا جعل الأب بعض المهر لابنته البالغة معجلاً أو البعض مؤجلاً والبعض هبة كما هو المعهود ثم قال الأب: إن لم تجز البنت الهبة فهي عليّ لا يلزم الأب بهذا شيء.
في شهادات «فتاوى أبي الليث» رحمه الله، ذكر الخصاف في «أدب القاضي» : لو أن رجلاً قدم رجلاً إلى القاضي، وقال إني زوجت هذا ابنتي على صداق كذا وكذا بأمرها وهي بكر....... فإن أمر الزوج بالتزويج والمهر وقال: لم أدخل بها أَمَرَهُ بدفع المهر إلى الأب، ولا يشترط إحضار المرأة للاستيفاء عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، وقال زفر رحمه الله: يشترط إحضارها وهو قول أبي يوسف رحمه الله آخراً، هو يقول إنّ النكاح معاوضة فكان بمنزلة البيع، ثم البائع إنما يملك مطالبة المشتري بالثمن إذا أحضر المبيع مع نفسه ليسلمه عقيب قبض الثمن فكذا في النكاح، وإنا نقول بأن العادة جرت فيما بين الناس بتسليم الصداق أولاً وبتجهيز الولي المرأة بذلك وتسليمها إلى الزوج مع جهازها، فصار الزوج راضياً بتأخير تسليم المرأة فلا معنى لاشتراط إحضار المرأة ولا كذلك البيع.
وإذا قال الزوج للقاضي: من الأب فليقبض المهر مني ويُسلِّم الجارية إليّ، قال له القاضي: اقبض المهر وادفع الجارية إليه، فإن قال الأب: ليس عليّ دفعها فهو يطلبها حيث هي فالقاضي يقول: إن المهر الذي تريد أخذه ثمن بضعها، وعليها إذا كانت كبيرة وقبضت المهر أن تُسلّم نفسها إلى الزوج، فإذا قبضت أنت المهر لها كان عليك تسليمها

(3/50)


إليه إن كانت في منزلك فإن قال الأب: ليست ابنتي في منزلي ولا أقدر عليها فأنا أقبض المهر، وهو يطلبها حيث هي، ليس له ذلك. وإن قال: هي في منزلي فأنا أقتصر المهر وأجهزها به أسلمها إليه فالقاضي يأمر الزوج بدفع المهر إليه.

فإن قال الزوج: هو يدافعني عنها ويريد أن يأخذ المهر ولا يسلمها إليّ فمُرْهُ فليوثق لي من المهر بكفيل، فالقاضي يأمر الأب أن يوثق من المهر للزوج بكفيل فيعطيه بالمهر، فيأمر الزوج بدفع المهر حتى إذا سلّم له البنت إليه برىء الكفيل، وإن عجز عن ذلك توصل الزوج إلى حقه بالكفيل فيعتدل النظر في الجانبين، وهكذا كان يقول أبو يوسف رحمه الله أولاً، ثم رجع وقال: القاضي يأمر إلا أن تجعل المرأة مهيأة للتسليم ويحضرها ويأمر الزوج بدفع المهر، وللأب بتسليم البنت فيكون دفع الزوج المهر عند تسليمها نفسها إلى الزوج؛ لأن النظر لا يحصل للزوج بالكفالة لأنه لا يصل إلى المرأة بإمهاله بالكفالة، وإنما النظر في تسليم المهر بحضرتها، وقال الخصاف: وهذا أحسن القولين.
وإن كان الأب إنما قدم الزوج إلى قاضي الكوفة والخصومة بينهما على ما وصفنا (قال) الأب: ابنتي بالبصرة وثمة كان عقدة النكاح؛ أو قال: كانت ابنتي بالكوفة إلا أنها انتقلت إلى البصرة فأنا أسلمها إليه بالبصرة فإن الأب لا يُجبر على حملها إلى الكوفة، ولكن يقال للزوج: ادفع المهر إلى الأب واخرج إلى البصرة مع الأب وخذ المرأة هناك من الأب، فقد ذكرنا قبل هذا أن إحضار المرأة ليس بشرط لتسليم المهر. فإن اتهم الزوج الأب بما قُلنا من قبل، فالقاضي يأمر الزوج أن يأخذ من الأب كفيلاً بالمهر على أنه إن سلم الأب البنت بالبصرة يرى الكفيل، فإذا أتى البصرة وسلم الأب البنت إليه يرى الكفيل والأب، وإن عجز عن تسليم البنت إليه يخاصم الكفيل ويستوفي حقه منه فيعتدل النظر من الجانبين.

وإن قال الزوج: لا يمكنني الخروج إلى البصرة ولكن أوجه وكيلاً يحولها إلى منزلي بالبصرة فذلك له، فإن قال الزوج يحملها وكيلي إليّ فإن كان الوكيل محرماً فله ذلك بناء على أن المرأة إذا استوفت صداقها كان للزوج أن ينقلها حيث أحب، وستأتي المسألة بعد هذا مع قول الفقيه أبي القاسم الصفار رحمه الله إن شاء الله، وإن لم يكن الوكيل محرماً لم يؤمن بالخروج معه وإن رضي الزوج بذلك، لأنه رضي بما لا يرضى به الشرع وهو خروج المرأة إلى السفر من غير محرم هذا هو الكلام في الأب.
جئنا إلى الوكيل بقبض المهر من جهة المرأة فنقول: إذا وكلت المرأة رجلاً بقبض مهرها من الزوج كان الأمر في اشتراط حضرة المرأة وأخذ الكفيل بالمهر من الوكيل عند التهمة، ورجوع أبي يوسف رحمه الله كالكلام في الأب، وهذه المسألة على هذا التفصيل استفيدت من جهة الخصاف رحمه الله. وإن كان الزوج قد دخل بامرأته فليس للأب أن يقبض مهرها إلا بوكالة منها (فيما) ذكرنا.
فإن طالب الأب الزوج بالمهر وقال: ابنتي بكر في منزلي، وقال الزوج (197أ1) دخلت بها فالقول في ذلك قول الأب لأنه متمسك بالأصل فينكر العارض، وإن قال

(3/51)


الزوج للقاضي حلف الأب أنه لم يسلّم أني قد دخلتُ بها؛ ذكر الصدر الشهيد رحمه الله هذه المسألة في «الواقعات» في الباب المعلّم بعلامة النون وقال: لم يذكر جواباً عن هذه المسألة في «الكتاب» ويحتمل أن يحلف؛ لأن الأب لو أقر بذلك صح إقراره في حق نفسه حتى لم يكن له أن يطالبه بالمهر، وكانت المطالبة إلى البنت فكان التحليف معتبراً.

ونص الخصاف في «أدب القاضي» في باب المطالبة بالمهر: لا يحلف إنما لا يحلف لوجهين: أحدهما: ما أشار إليه الخصاف فقال: لأنه لو أقرّ بالدخول لم يَجْرِ ذلك عليها؛ لأنه إقرار على الغير إلا أنه يبطل حقه في القبض ما لم يوجد التوكيل منها وكان بمنزلة الوكيل بقبض الدين. إذا ادعى المديون أن الموكل أبرأه أو استوفى الدين منه فإنه لا يحلف الوكيل، وإن كان الإبراء أو الاستيفاء من الموكل لو ثبت يبطل حق الوكيل.
والثاني: أن الزوج لا يدعي على الأب شيئاً، وإنما يدعي عليها معنى وهو الدخول، حتى لو ثبت ذلك يسقط حق الأب في قبض الصداق، فهذا بمنزلة ما لو اشترى جارية ثم ادعى أنها ذات زوج وطلب يمين البائع لا يمين (عليه) لأنه لا يدعي على البائع شيئاً، وإنما يدعي علبها معنى وهو النكاح، حتى إذا ثبت النكاح ثبت للمشتري حق الرد بالعيب، كذا هنا. فإن قال الزوج للقاضي: مُر الأب بإحضارها وسلها عما أقول من دخولي بها، فإن كانت المرأة ممن تخرج في حوائجها أَمَرَهُ بإحضارها ليسألها عن دعوى الزوج؛ لأن الزوج لو ادعى عليها شيئاً آخر وهي ممن يخرج في حوائجها فالقاضي يحضرها مجلسه كذا هنا.
وإن كانت ممن لا يخرج في جوانحها فالقاضي يبعث إليها أميناً من أمنائه، ويدخل عليها الأب رجلين عدلين ممن يعرفها مع الأمين والزوج، ويسألها الأمين عن دعوى الزوج، فإن أقرت بذلك شهد الشاهدان بذلك عند القاضي وأجبرها القاضي على المصير إلى منزل زوجها ويطالبه بمهرها.
ولو أنكرت الدخول فالقول قولها، فإن قال الزوج لأمين القاضي حلّفْها أني لم أدخل بها حلفها الأمين، إن كان القاضي أمر الأمين باستحلافها إن أنكرت.

وإن قال الزوج: دخلت بها برضاها وقالت هي: لم أرض بذلك ولكنه استكرهني على نفسي؛ فالقول قولها مع يمينها على ذلك أنه لم يدخل بها برضاها؛ لأن حق حبس النفس كان ثابتاً لها فالزوج يدعي سقوط ذلك أقرّ بالدخول بها برضاها وهي تنكر فكان القول قولها.

وهو نظير ما إذا قبض المشتري المبيع قبل نقد الثمن وادعى القبض برضا البائع وأنكر البائع ذلك كان القول قول البائع، وطريقة ما قلنا.
ولو قالت المرأة: قد خلا بي إلا أنه لم يقع علي ولم أمكنه (من) ذلك حتى أقبض مهري، فالقول قولها لما قلنا، وليس للزوج أن يحتجّ على القاضي ويقول: إن الخلوة أقيمت مقام الجماع، ولو كنت جامعتها أليس يلزمها الذهاب إلى منزلي ثم تطالبني بالمهر فهنا كذلك؛ لأن من حجة القاضي أن يقول: الخلوة ليست بجماع حقيقة وإنما أقيمت

(3/52)


مقامه في حق بعض الأحكام دون البعض، ألا ترى أنه (إن) طلقها بغير الخلوة لا يملك مراجعتها في هذه العدة، وإن كان أهل الصغيرة دفعوها إلى الزوج أو كان أبوها قد دفعها إلى زوجها ثم رجعت إلى منزل أبيها فطلبها الزوج وقال: قد دخلت بها وقال أهلها: نعم قد دخلت بها إلا أنك قد عقرتها لما أنها لا تحتمل الرجال، وقال الزوج: إنها تحتمل الرجال إلا أنها نشزت عليّ فالقاضي يريها النساء، فإن قلن: إنها تصلح للرجال دفعت إلى الزوج.
وإذا كان أبوها دفعها إليه وهي ممن لا تطيق الرجال ولا تحتمل الوطء فصارت في منزل زوجها، ثم إنها رجعت إلى منزل أبيها، وقال أبوها: لا أدفعها إلى أن تصير إلى الحالة التي تحتمل الرجال، وقال الزوج: قد كنتَ دفعتَها إليّ فصارت في منزلي فليس لك منعها عني بعد ذلك فللأب ذلك، هكذا ذكر الخصاف رحمه الله، وأشار إلى المعنى وقال: لأن الزوج لا ينتفع بها في هذه الحالة.

سئل شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله عمن تزوج صبية ومضى على ذلك مدة هل لأب الصبية أن يطالب الزوج بدفع المهر والزفاف؟ قال: أما دفع المهر فنعم، وأما الزفاف فكذلك إن كانت تصلح للرجال، وإن كانت لا تصلح فلا. وإذا زوج ابنته الصغيرة وضمن لها المهر عن الزوج صح، بخلاف ما لو باع شيئاً من مالها وكفل الثمن عن المشتري حيث لا يصح، والفرق: أن المطالبة بالثمن مملوكة للأب؛ لأن حقوق العقد في باب البيع والشراء ترجع إلى العاقد عقدها، ولهذا لو بلغت الصغيرة كان حق القبض للأب؛ لأنها لو نهت الأب عن القبض لا يصح نهيها ولو صحت الكفالة لاستوجب الأب المطالبة على نفسه بنفسه وهذا لا يجوز.
أما المطالبة بالمهر غير مملوك الأب؛ لأن حقوق العقد في باب النكاح ترجع إلى من وقع له العقد لا إلى العاقد، ولهذا لو بلغت كانت المطالبة بالمهر لها (لأب ونهت) عن القبض يصح نهيها، وإذا لم تكن المطالبة مملوكة الأب صار الأب في هذه وأجنبي آخر سواء، وإذا صح الضمان عندما بلغت البنت كان لها الخيار إن شاءت طالبت الزوج بالمهر بحكم النكاح، وإن شاءت طالبت الأب بحكم الضمان، وإذا أدّى الأب لا يرجع على الزوج بشيء إن ضمن بغير أمر الزوج، وإن ضمن بأمره رجع عليه بما أدى.

في شرح «الكافي» وفي «أدب القاضي» للخصاف في باب في نكاح الصغيرة: وإن كان هذا الضمان من الأب في مرض موته كان باطلاً، وإذا زوج ابنه الصغير امرأة وضمن عنه المهر، وكان ذلك في صحته جاز، ومعناه: إذا قبلت المرأة الضمان، وإذا أدى الأب ذلك إن كان الأداء في حالة الصحة لا يرجع على الابن بما أدى استحساناً إلا إذا كان شرط الرجوع في أصل الضمان، وفي «المنتقى» عن محمد رحمه الله: إذا أشهد عند الأداء أنه يرجع به في مال أبيه فله أن يرجع، وإن لم يشهد على الرجوع حين ضمن. وذكر إبراهيم هذه المسألة في «نوادره» ووضَعَها فيما إذا كبر الابن وأدى الأب وأشهد عند الأداء، وذكر الجواب على نحو ما ذكرنا.

(3/53)


وفي «المنتقى» في موضع آخر: إذا لم يشهد عند العقد لا يرجع وإنما لا يرجع بدون الشرط بحكم العرف والعادة، فإن العادة أن الآباء يتحملون المهر عن الأبناء الصغار، وهو نظير ما لو أنفق على ابنه الصغير في طعامه وكسوته من مال نفسه؛ فإنه لا يرجع في مال الصغير بذلك إلا إذا اشترط الرجوع وقت الانفاق، وإنما لا يرجع بحكم العرف والعادة. هذا بخلاف ما لو اشترى لابنه الصغير شيئاً آخر سوى الطعام والكسوة ونقد الثمن من مال نفسه، فإنه يرجع على الصغير بذلك وإن لم يشترط الرجوع؛ لأنه لا عُرف؛ لأن الآباء يتحملون الثمن عن الأبناء ولو كان (197ب1) مكان الأب وصيٌ أو غيره من الأولياء وضمن المهر عن الصغير وأدى من ماله رجع في مال الصغير وإن لم يشترط الرجوع؛ لأنه لا عرف في الأوصياء والأباعد من الأولياء أنهم يتحملون المهور عن الصغار، هذا إذا كان الضمان والأداء من الأب في حالة الصحة.

وإن كان الضمان في حالة الصحة والأداء في حالة المرض؛ ذكر الخصاف في «أدب القاضي» : أنه لا يكون متبرعاً عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما، ويحتسب ذلك في ميراث الابن، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله يكون متبرعاً حتى لا يرجع هو ولا ورثته بعد موته على الابن بشيء. هذا إذا أدى الأب ذلك في صحة أو مرض.

وأما إذا لم يؤد الأب ذلك حتى مات الأب فهذه صلة لم تتم للابن، ثم المرأة بالخيار إن شاءت أخذت الصداق من الزوج وإن شاءت أخذت من تركة الأب، فإن أخذت من تركة الأب رجع سائر الورثة بذلك في نصيب الابن أو عليه إن كان قبض نصيبه عند أصحابنا الثلاثة رحمهم الله في شرح «الكافي» باب نكاح الصغير والصغيرة، وذكر الخصاف أن على قول أبي يوسف رحمه الله: سائر الورثة لا يرجعون بذلك في نصيب الابن ولا عليه إن كان قد قبض نصيبه. ووجه ذلك: أن هذا الضمان انعقد غير موجب للرجوع، ألا ترى أن الأب لو أدى ذلك في حياته وصحته لا يرجع بذلك في مال الابن فلا ينقلب موجباً للرجوع بعد ذلك، وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا: إذا جعلت الأداء في حالة الصحة، وهذا كله إذا حصل الضمان في حالة الصحة.
أما إذا حصل الضمان في مرض الموت؛ فباطل لأنه قصد بهذا الضمان إيصال النفع، والمريض محجور عن ذلك فلا يصح. وكذلك كل دين ضمن عن وارثه أو لوارثه في مرض موته فهو باطل لما قلنا، وفي «البقالي» : إذا قال الأب: اشهدوا أني زوجت ابنتي فلانة بألف من مالي لم تلزمه إلا أن يؤدي وتكون صلة قال: كأنه عن أبي يوسف رحمه الله.
امرأة زوجت ابنتها وهي صغيرة وقبضت صداقها ثم أدركت فإن كانت الأم وصيتها فللبنت أن تطالب أمها بالصداق دون الزوج، وإن لم تكن وصيتها فلها أن تطالب زوجها، والزوج يرجع على الأم؛ لأنها قبضت وليس لها حق القبض، وكذا هذا الجواب في سائر الأولياء سوى الأب والجد.

ذكر رحمه الله في الباب الأول من نكاح «واقعاته» : غير الأب والجد إذا زوج

(3/54)


الصغير فالاحتياط أن يعقد مرتين؛ مرة بمهر مسمى ومرة بغير تسمية لأمرين: أحدهما أنه لو كان في التسمية نقصان لا يصح النكاح الأول ويصح النكاح الثاني بمهر المثل.

والثاني: أن الزوج لو كان حلف بطلاق امرأته يتزوجها بلفظ أي، أو بلفظ كل امرأة يتزوجها فينعقد النكاح الثاني ويحل وطؤها، وإن كان الأب والجد زوجها فكذلك الجواب عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله للمعنيين جميعاً، وعند أبي حنيفة رحمه الله: للمعنى الثاني في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله.
وأما إذا لم يؤد الأب ذلك حتى مات الأب فهذه صلة لم تتم للابن، ثم المرأة بالخيار إن شاءت أخذت الصداق من الزوج وإن شاءت أخذت من تركة الأب، فإن أخذت من تركة الأب رجع سائر الورثة بذلك في نصيب الابن أو عليه إن كان قبض نصيبه عند أصحابنا الثلاثة رحمهم الله في شرح «الكافي» باب نكاح الصغير والصغيرة، وذكر الخصاف أن على قول أبي يوسف رحمه الله: سائر الورثة لا يرجعون بذلك في نصيب الابن ولا عليه إن كان قد قبض نصيبه. ووجه ذلك: أن هذا الضمان انعقد غير موجب للرجوع، ألا ترى أن الأب لو أدى ذلك في حياته وصحته لا يرجع بذلك في مال الابن فلا ينقلب موجباً للرجوع بعد ذلك، وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا: إذا جعلت الأداء في حالة الصحة، وهذا كله إذا حصل الضمان في حالة الصحة.
أما إذا حصل الضمان في مرض الموت؛ فباطل لأنه قصد بهذا الضمان إيصال النفع، والمريض محجور عن ذلك فلا يصح. وكذلك كل دين ضمن عن وارثه أو لوارثه في مرض موته فهو باطل لما قلنا، وفي «البقالي» : إذا قال الأب: اشهدوا أني زوجت ابنتي فلانة بألف من مالي لم تلزمه إلا أن يؤدي وتكون صلة قال: كأنه عن أبي يوسف رحمه الله.

امرأة زوجت ابنتها وهي صغيرة وقبضت صداقها ثم أدركت فإن كانت الأم وصيتها فللبنت أن تطالب أمها بالصداق دون الزوج، وإن لم تكن وصيتها فلها أن تطالب زوجها، والزوج يرجع على الأم؛ لأنها قبضت وليس لها حق القبض، وكذا هذا الجواب في سائر الأولياء سوى الأب والجد.

ذكر رحمه الله في الباب الأول من نكاح «واقعاته» : غير الأب والجد إذا زوج الصغير فالاحتياط أن يعقد مرتين؛ مرة بمهر مسمى ومرة بغير تسمية لأمرين: أحدهما أنه لو كان في التسمية نقصان لا يصح النكاح الأول ويصح النكاح الثاني بمهر المثل.
والثاني: أن الزوج لو كان حلف بطلاق امرأته يتزوجها بلفظ أي، أو بلفظ كل امرأة يتزوجها فينعقد النكاح الثاني ويحل وطؤها، وإن كان الأب والجد زوجها فكذلك الجواب عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله للمعنيين جميعاً، وعند أبي حنيفة رحمه الله: للمعنى الثاني في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله.

الفصل الحادي عشر في نكاح الأبكار
اعلم بأن السكوت من البكر البالغة جعل رضاً بالنكاح سواء استأمرها الولي قبل النكاح أو زوجها الولي قبل الاستئمار، فبلغها الخبر فسكتت. والأصل فيه قوله عليه السلام: «البكر تستأمر في نفسها فسكوتها رضاها» والحكمة في ذلك صيانة مصلحة النكاح عن الفوات في حق الأبكار وهذا لأن النكاح لا ينفد على البكر البالغة من غير رضاها، إنما يعرف من جهتها وهي تستحيي عن الرضا صريحاً لما فيه من إظهار الرغبة في الحال لو لم يكتف بسكوتها لجواز النكاح فإن مصالح النكاح (تتعطل) . وإنما جعل السكوت من البكر البالغة إذناً إذا كان المستأمر وليّاً، أو كان ولياً إلا أن هناك وليٌّ وآخر وهو أقرب إلى المرأة من هذا الولي المستأمر، فالسكوت لا يكون إذناً في حق الولي المستأمر إلا إذا كان الولي المستأمر رسول الولي.

وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أن المستأمر أو المخبر عن النكاح إذا لم يكن وليّاً ولم يكن رسول الولي فسكتت كان سكوتها رضا في ظاهر الرواية، وذكر الكرخي رحمه الله أنه لا يكون رضاً.
وفي «البقالي» : وأكثر المتأخرون على أن الرسول كالولي وقيل عن أبي حنيفة رحمه الله خلافه في «النوادر» وهو ظاهر قول الكرخي، وقيل في الرسول بعد النكاح إنه كالولي، و (في) «مجموع النوازل» : أن المخبر بالنكاح إذا كان أجنبياً فسكتت هل يكون رضاً؟ فيه اختلاف المشايخ؛ والمختار أنه رضا، وفي «فتاوى شمس الأئمة السرخسي» رحمه الله وشمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله أنه لا يكون رضاً، وهذا إذا سمى الزوج عندها تسمية تقع لها المعرفة به فكان الزوج كفؤاً والمهر وأما إذا أبهم الزوج لم يكن السكوت رضاً، وكذلك إذا سمى الزوج وسمى المهر والزوج ليس بكفء والمهر ليس بوافر إن كان الزوج كفئاً والمهر ليس بوافر أو كان المهر وافراً إلا أن الزوج ليس بكفء فالسكوت لا يكون رضاً في حق جميع الأولياء إلا في حق الأب والجد عند أبي

(3/55)


حنيفة رحمة الله عليه؛ لأنهما وليّان عنده، أجنبيان عندهما، والمسألة معروفة، وإن كان المخبر أجنبياً ليس بولي والرسول عنه فإن كان المخبر رجلين عدلين أو غير عدلين أو كان رجلاً واحداً عدلاً لا يثبت النكاح، حتى لو سكتت ولم ترد يلزمها النكاح.

وإن كان المخبر رجلاً واحداً غير عدل فإن صدقته (في) ذلك ثبت النكاح وإن كذبته لا يثبت وإن ظهر صدق الخبر عند أبي حنيفة، وعندهما يثبت النكاح إذا ظهر صدق الخبر، وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: البكر البالغة إذا استأمرها أبوها في التزويج فسكتت فزوجها أبوها ثم قالت: لا أرضى ينظر إن كان الأب وقت الاستئمار لم يذكر ممن يزوجها ولم يذكر أنه بكم يُزوجها لا ينعقد النكاح ولها أن ترد. وإن كان الأب ذكر الزوج والمهر جميعاً بعد النكاح فلا يصلح الرد. وإن كان ذكر الزوج ولم يذكر المهر فإن وهبها بعد النكاح بمهر المثل، وإن زوجها بمهر مسمى لا ينعقد لأنه إذا وهبها فتمام العقد الزوج والمرأة عالمة بالزوج (وثم بالرضا) بهذا العقد.

وإذا زوجها بمهر مسمى فتمام العقد بالزوج، فيذكر البدل وهي غير عالمة بالبدل فلا يتم الرضا بهذا العقد، قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في شرح كتاب النكاح: إن اشتراط تسمية المهر عند الاستئمار قول المتأخرين من المشايخ لأن رغبتها تختلف باختلاف الصداق في القلة والكثرة. والكبيرة على ما عليه إشارات محمد رحمه الله في كتاب النكاح تسمية المهر عند الاستئمار ليس بشرط، إنما الشرط تسمية الزوج فعلى ما عليه إشارات محمد ينفذ نكاح الأب في هذا الوجه وإن كان بمهر مسمى. وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «شرحه» : أنه إذا لم يسم لها الزوج أو المهر فسكتت، ففيه اختلاف المشايخ المتأخرين، فمنهم من رآه رضاً ومنهم من أبى مطلقاً من غير فصل بينما إذا وهبها أو زوجها بمهر مسمى، هذا إذا أخبرها بالنكاح (قبل) العقد. وأما إذا أخبرها به بعد العقد فسكتت ففيما إذا لم يذكر المهر أو الزوج.
قال الفقيه أبو نصر رحمه الله: ينفذ هو فرّق بين الماضي (واللاحق) (198أ1) .

وقال الفقيه أبو الليث رحمه الله لا ينفذ، قال الصدر الشهيد رحمه الله وهو الصحيح وعليه الفتوى، وفيما إذا ذكر الزوج والمهر ينفذ وفيما إذا ذكر الزوج، ولم يذكر المهر فالمسألة على التفصيل الذي ذكرنا، وهو اختيار الصدر الكبير برهان الأئمة تغمده الله بالرحمة والرضوان، قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله إن أصحابنا رحمهم الله جعلوا السكوت رضاً في مسائل معدودة:
أحدها: في البكر إذا استأمرها وليها في التزويج.
الثانية: إذا قبض الأب أو الجد مهر البكر البالغة فسكتت كان سكوتها رضاً حتى برىء الزوج.
ولو قبض المهر غير الأب والجد فسكتت أو قبض الأب أو الجد سائر..... فسكتت لا يكون سكوتها رضاً.

(3/56)


الثالثة: إذا سكت الشفيع بعدما علم بالبيع ساعة بطلت شفعته كما لو سلم الشفعة.
الرابعة: إذا تواضعا في السر أن يظهر البيع تلجئه ثم قال أحدهما علانية، بمحضر من صاحبه قد بدا لي أن أجعله بيعاً صحيحاً فسكت صاحبه ولم يقل شيئاً.... كان البيع جائزاً.
الخامسة: عبدٌ أسره المشركون فوقع بعد ذلك في غنيمة المسلمين وساقه في قسم واحد من الغانمين فباعه الذي وقع في سهمه ومولاه الأول حاضر عند البيع فسكت لا سبيل له على أخذ العبد بعد ذلك.
السادسة: إذا قبض المشتري البيع والبائع يراه فسكت ولم يمنعه من القبض بطل حقه في الحبس، ذكره الطحاوي رحمه الله في باب المأذون، وهو مخالف لما ذكر محمد رحمه الله في باب الإكراه.
السابعة: مجهول النسب إذا بيع وهو ساكت كان ذلك إقراراً منه بالرق ذُكر في كتاب الإقرار، زاد الطحاوي رحمه الله وقيل له بعد البيع قم مع مولاك فقام فذلك منه إقرار بالرّق.
الثامنة: إذا رأى المولى عبده يبيع ويشتري فسكت صار العبد مأذزوناً في التجارة.

قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «شرحه» في النكاح: وكذلك الولي إذا رأى الصبي المحجور يبيع ويشتري..... والتكثير فسكت جعل فكاً للحجر.
التاسعة: وهب لرجل جارية والجارية حاضرة فقبلها وقبضها في المجلس بمحضر من الواهب ولم يأذن له الواهب بالقبض، ولم ينهه عنه بل هو ساكت، فإنه يثبت له إذن بالقبض استحساناً ويثبت الملك للموهوب له.
h
ولو قام الواهب عن المجلس قبل قبض الموهوب له لم يصح قبضه حتى يأمره بذلك.
العاشرة: إذا باع بيعاً فاسداً والمبيع حاضر عند العقد فقبضه المشتري بحضرة البائع ولم يمنعه من قبضه وسكت كان إذناً له بالقبض حتى يملكه المشتري، دفع الثمن أو لم يدفع.
الحادي عشر: إذا قال: والله (لا) أُسْكِنُ فلاناً في داري، أو قال: والله لا أتركه في داري وفلان في دار الحالف فسكت الحالف بعد اليمين ولم يقل: اخرج منها حنث. ولو قال اخرج منها فأبى (أن) يخرج فسكت عنه لا يحنث في يمينه.

الثاني عشر: إذا كان الخيار للمشتري فرأى عبده الذي اشتراه يبيع ويشتري فسكت فهو اختيار للبيع وإبطال لخياره، ولو كان الخيار للبائع لا يكون إبطالاً لخياره.
والثالث عشر: إذا سكت عن نفي الولد حتى مضى على ذلك زيادة على يومين لزمه الولد في قول أبي حنيفة رحمه الله، وروى ابن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله إذا هنىء بالولد فسكت لزمه الولد، وزاد شمس الأئمة الحلواني رحمه الله على هذه المسائل، ما إذا قال لغيره: بع عبدي فلم يقبل ولم يرد بل سكت ثم قام وباع جُعل بائعاً بتوكيل، وجعل السكوت منه قبولاً، وكذلك رآه غيره شق زقه فسكت حتى سال

(3/57)


ما فيه لم يضمن الشاق ما سال منه واحتج على صاحب الزق بسكوته.

وهنا مسألة أخرى من هذا الجنس: إنّ غير الأب والجد إذا زوج الصغيرة فبلغت وهي بكر فسكتت ساعةً بطل، وجعل سكوتها بمنزلة الرضا صريحاً، ولو ضحكت البكر عند الاستئمار أو بعدما بلغها الخبر فهو رضاً، هكذا ذكر القدوري وشيخ الإسلام رحمهما الله، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أنها إذا ضحكت كالمستهزئة لمّا سمعت لا يكون رضاً، وإن ابتسمت فهو رضاً، هو الصحيح من المذهب، ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، ولو بكت ذكر هشام في «نوادره» : أنه يكون رضاً، وذكر المعلى عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يكون رضاً، وذكر القدوري رحمه الله في «شرحه» : أن عند أبي يوسف رحمه الله فيه روايتان: في رواية لا يكون رضاً وهو قول محمد رحمه الله، ومن المشايخ من قال: إن كان النكاح عن سكوت وإقرار فهو رضاً، وإن كان عن صياح ولطمِ وجهٍ فهو ردّ، ومنهم من قال: إن كان الدمع حارّاً فهو رد، وإن كان بارداً فهو رضاً.

وإذا زوج البكر وليان كل واحد منهم رجل وهما في الدرجة على السواء، فبلغها العقدان فأجازتهما بطلا، ولو سكتت ذكر القدوري في «شرحه» : أن عند محمد رحمه الله في هذا روايتين: في رواية سكوتها بمنزلة رضاها بالعقدين فبطلا، وفي رواية: هو ليس برد ولا إجازة، والأمر موقوف.
وإذا زوج البالغة أبوها من رجل وأخوها بعد ذلك من رجل آخر وأجازت نكاح الأخ كان جائزاً، وبطل نكاح الأب؛ لأن النكاح لا ينعقد على البالغة بغير رضاها فتوقف النكاحان على إجازتها، فإذا أجازت نكاح الأخ وجد شرط النفاذ في هذا النكاح فينفذ، ومن ضرورته بطلان الآخر ويكون هذا نكاحاً بلا ولي؛ لأن الأخ مع الأب ليس بولي فيكون على الاختلاف على ما مرّ.

وفي «فتاوى الفضلي» : صغيرة زوجها عمها لأبيها ثم زوجها عمها لأبيها وأمها فبلغت فأجازت نكاح العم لأب قال: نكاح العم لأب باطل، ولا يبطل نكاح العم لأب وأم بردّها حتى يفرق القاضي بينهما؛ لأن نكاح العم لأب موقوف على إجازة العم لأب وأم (و) نكاح العم لأب وأم ثابت فقد نفذ، لكن لها حق فسخه، والفسخ لا يكون إلا عند القاضي ولم يوجد، والنافذ متى ورد على الموقوف أبطله.
البكر إذا بلغها الخبر فقالت: لا أرضى ثم قالت قد رضيت فلا نكاح بينهما؛ لأن النكاح قد بطل بردها، فالرضا صادَف عقداً مفسوخاً، وعن هذا استحسن المشايخ تجديد العقد عند الزفاف؛ لأن البكر في المرة الأولى تظهر الرد وغير ذلك لم.... منها لو لم يجدد العقد لكانت تزف إلى أجنبي.
في «المنتقى» : ابن سماعة عن محمد رحمه الله: إذا قال الرجل لابنته الكبيرة وهي

(3/58)


بكر: فلان وفلان خطباك إليّ وأنا مزوجك، أو لم يقل: وأنا مزوجك فسكتت فله أن يزوجها أيهما شاء، وكذلك إذا قال لها: إن بني فلان يخطبونك وهم يحصون ويعرفون ولم يذكر قبيلة ولا فخذاً. وكذلك إذا قال: جيراني يخطبونك، وهم يحصون.

ولو قال: إن بني تميم يخطبونك وأصحاب فلان يخطبونك وهم لا يحصون لم يكن سكوتها عند هذا الذِّكر رضاً. قال الحاكم الشهيد أبو الفضل رحمه الله: وهكذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم الله في المسلمين جميعاً.
المعلى عن أبي يوسف رحمه الله في بكر كبيرة استأذنها وليُّها أن يزوجها فسكتت ولم يخبرها ممن يزوجها ثم زوجها من نفسه فذلك جائز.
ابن سماعه عن محمد رحمه الله في رجل وكَّل رجلاً يزوّج ابنته الكبيرة فزوجها (198ب3) ولم يبلغها حتى زوجها الأب من آخر بلغها فلها أن تجيز نكاح أيهما شاءت.

رجل خطب امرأة من أبيها وهي بكر فقال الأب مراكد خدا بسر راست برجه واكررواست، فزوج الابن أخته من رجل فبلغها فسكتت، ثم زوجها أبوها من آخر، فبلغها فسكتت يجوز نكاح الأب ولا يجوز نكاح الأخ، ولم يجعل سكوتها عن نكاح الأخ إجازة؛ لأن السكوت إنما جعل إجازة لنكاح الولي لا لنكاح غير الولي، والأخ مع الأب ليس بولي. هكذا ذكر المسألة في «فتاوى أهل سمرقند» وفيه نظر، ينبغي أن يجوز نكاح الأخ ولا يجوز نكاح الأب لأن الابن وكيل عن الأب في هذا العقد قائم مقام الأب فكأنّ الأب باشره بنفسه فيجعل سكوتها رضاً به.

قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا قالت البكر: لم أرض بالنكاح حين بلغني وادعى الزوج رضاها فالقول قولها عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله؛ لأنها تنكر تملك بضعها، وبمثله لو وقع الاختلاف في خيار البلوغ فقالت المرأة: اخترت نفسي ورددت النكاح لمّا بلغت وقال الزوج: لا بل سكت وسقط خيارك فالقول قول الزوج لأنه ينكر زوال ملكه عن بضعها، فإن أقام الزوج بينة على سكوتها حين بلغها الخبر فهي امرأته وإلا فلا نكاح بينهما ولا يمين عليها في قول أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما: عليها اليمين، وإذا نكت يقضى عليها بالنكول. وإن أقام الزوج بينة على سكوتها حين بلغها الخبر وأقامت هي بنية على الرد فبينتها أولى، قال «البقالي» : وقد روي أنه إذا كان بحضرتها قوم حين بلغها النكاح فلم يسمعوها تكلمت لم تُصدّق في دعوى الرد.
ولو كانت البكر قد دخل بها زوجها ثم قالت: لم أرض لم تصدق على ذلك وكان تمكينها إياه من الدخول بها رضاً منها إلا إذا دخل بها وهي مكرهة فحينئذ لا يثبت الرضا، فإن أقامت بنية على الرد في هذه الصورة ذكر في «فتاوى الفضلي» أنه تقبل بينتها، قيل: والصحيح أنه لا تقبل بينتها لأن التمكين منها في معنى الإقرار بالرضا. ولو أقرت بالرضا ثم ادعت الرد لا تصح دعواها ولا تقبل بينتها لمكان التناقض كذا هنا.

وذكر الخصاف في «أدب القاضي» في باب الشفعة: إذا زوج ابنته البكر البالغة ثم

(3/59)


خاصمت مع الزوج فقال الزوج: بلغك الخبر وسكّت فقالت المرأة: بلغني الخبر ورددت فالقول قولها، ولو قالت بلغني الخبر يوم كذا ورددت أو قالت وقت كذا ورددت أو قالت: علمت يوم كذا ورددت، وقال الزوج: بل سكتّ فالقول قول الزوج.
وفي «المنتقى» : هشام سألت محمداً رحمه الله عن بكر زوجها وليُّها فقالت بعد سنة: قد كان بلغني النكاح يوم زوجني فلم أسكت قلت: لا أرضى وادعى الزوج أنها كانت رضيت فالقول قول المرأة وإنه خالف ما ذكر الخصاف.

ومن جنس هذه المسائل: روى ابن سماعة في «نوادره» عن أبي يوسف: امرأة خاصمت زوجها فزعمت أن أخاها زوجها وهي صغيرة وبنى بها أي: دخل بها وهي صغيرة كارهة له فجاءت تخاصمه وتريد فراقه وقالت...... وقال الزوج بنيت بها وهي كبيرة وقد أدركت فالقول قول الزوج.
وعنه أيضاً برواية ابن سماعة في رجل زوج ابنتاً له كبيرة بغير أمرها فمات زوجها فجاءت (تريد) الميراث وقالت: قد كنت أجزت النكاح لم تصدق إلا ببينة. وإن قالت: زوجني بأمري فالقول قولها. وعنه أيضاً برواية خالد بن صبيح: رجل زوج ابنة له.... وهو وليها قال الزوج للمرأة بعدذلك: أنت قد علمت وما رضيت، وقالت المرأة لا بل أجزت ورضيت، لا تكون هذه المقالة من الزوج فرقة وهي امرأته فالقول قولها وكذلك إذا قال الزوج: لم تعلمي، وقالت المرأة لا بل علمت وأجزت فالقول قولها، ولو مات الزوج قبل هذه المقالة فقالت الورثة وهم كبار: قد علمت وما رضيت وقالت المرأة: لا بل رضيت فالقول قولها، وهذه الرواية بخلاف رواية ابن سماعة، وبخلاف رواية «فتاوى أبي الليث» رحمه الله فالمذكور في «الفتاوى» في هذه الصورة: أن القول قول ورثة الزوج فلا مهر لها ولا ميراث.

وإن كانت الورثة قالوا للمرأة بعد موت الزوج: لم تعلمي...... حتى تقيم البينة على سكوتها بعد...... إن كانت بكراً أو على رضاها إن كانت ثيباً، هكذا رواه خالد.
وإن كانت المرأة لم تقل: بلغني النكاح وأجزت لكن قالت زوجني أخي بأمري.... الميراث والمهر وعليها العدة، ولو كانت هي الميتة وكان الطالب للميراث هو الزوج، والأخ المزوج هو الوارث فقال الأخ: لم تكن أمرتني ولم تعلم حتى ماتت وادعى الزوج رضاها بهذا الزوج أو أنها أمرته بذلك فعلى الزوج البينة على ذلك والله أعلم بالصواب.

(3/60)


الفصل الثاني عشر في النكاح بالكتاب والرسالة وفي النكاح مع الغائب
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا كتب إليها يخطبها فزوجت نفسها منه كان صحيحاً والأصل في ذلك أن الكتابة من الغائب بمنزلة الخطاب من الحاضر، وقد صح أن رسول الله عليه السلام كتب إلى النجاشي يخطب أم حبيبة فزوجها النجاشي له...... منه إلا أن الكتاب من الغائب مع الخطاب مع الحاضر يفترقان من وجه، فإن الحاضر إذا خطبها فلم تجبه في مجلس الخطاب وإنما أجابته في ملجس آخر لا يصح النكاح، وإذا بلغها الكتاب وقرأت الكتاب ولم تزوج نفسها منه في ذلك المجلس وإنما زوجت نفسها في مجلس آخر بين يدي الشهود وقد سمع الشهود كلامها وما في الكتاب يجوز النكاح وإذا بلغها الكتاب فقالت زوجت نفسي من فلان، فكان ذلك بمحضر من الشهود لا ينعقد النكاح وإن بلغه الخبر، وأجاز عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لأن سماع الشهود كلامَ المتعاقدين شرط انعقاد النكاح والشهود إن سمعوا كلامها لم يسمعوا كلام الزوج.
ولو قرأت الكتاب على الشهود أو قالت: إن فلاناً كتب إلي يخطبني فاشهدوا أني قد زوجت نفسي منه صح النكاح؛ لأن الشهود سمعوا كلامها بإيجاب العقد، وسمعوا كلام الخاطب بإسماعها إياهم إما بقراءة الكتاب أو العبارة عنه، وإن جاء الزوج بالكتاب مختوماً وقال: هذا كتابي إلى فلانة فاشهدوا عليه لا يصح عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله حتى يقرأ عليهم الكتاب، أو يعلمهم ما في الكتاب خلافاً لأبي يوسف رحمه الله. ثمرة الخلاف تظهر فيما إذا جحد الزوج الكتاب فشهدوا أن هذا كتابه إلى فلانة ولم يشهدوا بما في الكتاب لا تقبل الشهادة عندهما ولا يقضي بالنكاح.
وإذا أرسل إليها رسولاً فالحر والعبد والصغير والكبير والعدل والفاسق في ذلك على السواء؛ لأن الرسالة تبلغ عبارة المرسل إلى المرسل إليه، ولكل واحد من هؤلاء عبارة مفهومة فيصح تبليغ الرسالة منهم.

وإذا بلغ الرسالة وقال: إن فلاناً يسألك أن تزوجي نفسك منه، فأشهدت أنها قد زوجت كان ذلك جائزاً إذا أقرّ الزوج بالرسالة أو قامت عليه البينة؛ لأن الرسول بلغها عبارة المرسل فكأنّ المرسل حضر بنفسه، وعبّر عن نفسه بين يدي الشهود، وإن كان الرسول قد خطبها وضمن لها (199ب) المهر وقال: أمراني بذلك فزوجت نفسها ثم حضر الزوج وصدّق الرسول في الرسالة، والأمر بالضمان صح النكاح وصح الضمان إذا كان الرسول من أهل الضمان، فإذا أدّى الضامن رجع بذلك على الزوج، وإن كذبه في الأمر بالضمان وصدّقه في الرسالة صح النكاح، وصح الضمان فيما بين المرأة والرسول،

(3/61)


لا في حق المرسل، حتى كان للمرأة أن ترجع على الرسول بالصداق فلا يرجع الرسول على الزوج بما أدى من ذلك، وإن كذبه في الرسالة والأمر بالضمان ولا بينّة له على ذلك، فالنكاح باطل والمهر على الزوج، ولها أن تطالب الرسول بالمهر؛ لأن في زعمها أن النكاح صحيح وأن الضمان صحيح.

بعد هذا اختلفت الروايات، ذكر في نكاح «الأصل» وفي بعض روايات كتاب الوكالة أن المرأة تطالب الرسول بنصف الصداق، وذكر في بعض روايات كتاب الوكالة أن المرأة تطالب الرسول بجميع المهر، فقيل: في المسألة روايتان، وقيل: اختلف الجواب لاختلاف الموضوع وهو الصحيح، وقد ذكرناه في فصل الوكالة.
وإن قال الرسول: لم يأمرني فلان ولكني أزوجه وأضمن عليه المهر ففعل ثم أجاز الزوج النكاح جاز عليه ولزم الرسول الضمان، وإن أبى الزوج أن يجيز النكاح (لم) يكن على الرسول شيء من الضمان لأنه أصل السبب فلا يبقى الزوج النكاح فينتفي حكمه، وهو وجوب الصداق فبراءة الأصيل حقيقة توجب براءة الكفيل. وإذا عَقَدَ عَقْدَ النكاح واحد وهو وليّ من الجانبين بولاية أصلية نحو الملك أو القرابة أو بولاية عارضة نحو الوكالة صح العقد.

بيان الأول: إذا زوج ابنة أخيه الصغيرة من ابن أخيه الصغير وليس لهما أقرب، أو زوّج ابنة عمه وهي صغيرة من نفسه (وليس) لها أقرب منه، أو كانت بنت العم كبيرة قال لها: إني أريد أن أزوجك من نفسي فسكتت وهي بكر فذهب وتزوجها.
بيان الثاني: إذا وكلّه رجل أن يزوجه فلانة ووكّلته فلانة أن يزوجها من ذلك الرجل، أووكلّت امرأةٌ رجلاً أن يزوجها من نفسه فتزوجها، ولا يتوقف شطر العقد على ما وراء المجلس عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، خلافاً لأبي (يوسف) رحمه الله، حتى إن فضولياً لو قال: زوجت فلانة من فلان وهما غائبان ولم يقبل عنه أحد، أو قالت امرأة زوجت نفسي من فلان الغائب ولم يقبل عنه أحد وقال رجل: تزوجت فلانة وهي غائبة ولم يجب عنها أحدٌ، وعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لا يقف هذا على إجازة الغائب وعلى قول أبي يوسف رحمه الله يقف، وكذلك إن كان فضولياً من أحد الجانبين، وكيلاً من الجانب الآخر، وفي توقف كلامه اختلاف.

ولو قال فضولي: زوجت فلانة من فلان، وقبل عن فلان فضولي آخر، وقال رجل: تزوجت فلانة فقال رجل فضولي: زوجتها منك أو قالت امرأة: زوجت نفسي من فلان، فقال فضولي قبلت عنه.
وفي هذه المسائل يتوقف العقد على الإجازة بالاتفاق، هذا هو الكلام في النكاح، واتفق علماؤنا رحمهم الله أن العقد في باب البيع لا يقف على ما وراء المجلس، حتى إن الرجل إذا قال لقوم: اشهدوا أني قد بعت عبدي فلاناً فبلغ ذلك فلاناً وقال: قد اشتريته لم يجز بالاتفاق، قال محمد رحمه الله: ولو كتب رجل إلى رجل: بعني عبدك بألف فقال: بعت كان جائزاً، قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهذا لا يكاد يصح لأن

(3/62)


الحاضر لو قال لغيره: بعني عبدك بكذا فقال: بعت لا يتم البيع ما لم يقل قبلت فكذلك إذا كتب، فلا بُدّ من زيادة بعني وذلك بأن يكتب: قد اشتريت عبدك بكذا فبعه مني، فإذا قال الآخر بعت حينئذ يتم البيع بينهما كما لو كان حاضراً، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله وجه تصحيح ما ذكر محمد رحمه الله أن قول الحاضر: بعني يكون استياماً عادة، ومن الغائب إذا كتب يكون أحد شطري العقد عادة، فإذا انضم إليه الشطر الثاني يتم البيع والله أعلم.

الفصل الثالث عشر في بيان أسباب التحريم
فنقول: أسباب التحريم كثيرة، من جملة ذلك النسب، ومسائله معروفة، ومن جملة ذلك المصاهرة.

قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا وطىء الرجل امرأة بنكاح أو ملك أو فجور حرمت عليه أمُّها وابنتها، وهو محرم لهما؛ لأنه لا يجوز له نكاحهما، وحرمت هي على آبائه وأبنائه، وكما ثبتت هذه الحرمة بالوطء تثبت بالمسّ والتقبيل والنظر إلى الفرج بشهوة سواء كان بنكاح أو ملك أو فجور عندنا إذا كان المحل مشتهاه، ولا تثبت هذه الحرمة بالنظر إلى سائر الأعضاء وإن كان عن شهوة وحد، والشهوة: أن تنتشر آلته إليه بالنظر إلى الفرج أو المس إذا لم يكن منتشراً قبل هذا، وإذا كان منتشراً فإن كان يزداد قوة و..... بالنظر والمسّ كان ذلك عن شهوة وما (لا) فلا، وهذا إذا كان شاباً قادراً على الجماع، وإن كان شيخاً أو عنيناً فحدُّ الشهوة أن يتحرك قلبه بالاشتهاء إن لم يكن متحركاً قبل ذلك، ويزداد الاشتهاء إن كان متحركاً فهذا هو حدّ الشهوة التي حكاها.... عن أصحابنا رحمهم الله، وإليه مال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده وشمس الأئمة السرخسي رحمهما الله.
وكثير من المشايخ لم يشترطوا الانتشار، وجعلوا حدّ الشهوة أن يميل قلبه إليها ويشتهي جماعها. وكان الفقيه محمد بن مقاتل الرازي رحمه الله لا يعتبر تحرك القلب، وإنما يعتبر تحرك الآلة، وكان لا يفتي بثبوت الحرمة في الشيخ الكبير العنين والذي ماتت شهوته حتى لم يتحرك عضوه بالملامسة.
وروى ابن رستم عن محمد رحمه الله: أنه إذا لمسها بشهوة فلم ينتشر عضوه أو كان منتشراً فلم يزدد انتشاره حتى تركها ثم ازداد انتشاره بعد لم تثبت به الحرمة، وإنما تثبت الحرمة إذا انتشر بالمس وهو بعدُ لامسها، أو يزداد انتشاره وهو لامسها بعد.

جئنا إلى حدّ المشتهاة: حكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل

(3/63)


رحمه الله: أنها إذا كانت بنت تسع سنين أو أكثر فهي مشتهاة من غير تفصيل، وإذا كانت بنت خمس سنين أو دونه لم تكن مشتهاة. وإن كانت بنت سبع سنين أو بنت ست سنين أو بنت ثماني ينظر إن كانت عبدة ضخمة كانت مشتهاة وما لا فلا.
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله في «أيمان الفتاوى» : المشايخ سكتوا في الثمان والتسع والغالب أنها لا تشتهى ما لم تبلغ تسع سنين.
قال الصدر الشهيد رحمه الله في شرح كتاب النفقات وعليه الفتوى، وحكي عن الشيخ الإمام أبي بكر هذا رحمه الله أنه كان يقول: ينبغي للمفتي أن يفتي في السبع، والثمان أنها لا تحرم إلا إذا بالغ السائل أنها عبلة ضخمة وجسيمة فحينئذ يفتي بالحرمة.
وفي «البقالي» عن محمد رحمه الله، في بنت ثمان أو تسع إذا كانت ضخمة سمينة أنه تثبت به الحرمة، وإن لم تكن بهذه الصفة فإلى ثنتي عشرة
وعن أبي يوسف رحمه الله: إذا كانت الصبيّة بنت خمس ويشتهى مثلها فهي مشتهاة فلا توقيت فيه، ورواه عن أبي حنيفة رحمه الله، وإذا جامعها ولم يُفْضِها فهي ممن يجامع مثلها، وإذا أفضاها لم تثبت به الحرمه خلاف أبي يوسف رحمه الله استحساناً. قال محمد رحمه الله وربما أفضت التي يفضى مثلها، وأطلق أبو يوسف رحمه الله في رواية ابن سماعة في بنت سبع وخمس أشهر وطئها فيما دون الفرج بشهوة ماتت ولا يُدرى هل كان يُشتهى مثلها في حسنها وجمالها، لم تحل له الأم.
وفي «الفتاوى» : سئل الفقيه أبو بكر عمن: قبّل امرأة ابنه وهي بنت خمس سنين أو ست سنين عن شهوة، قال: لا تحرم على ابنه؛ لأنها (199ب1) غير مشتهاة، وإن اشتهاها هذا فلا ينظر إلى ذلك. قيل له: فإن كبرت حتى خرجت عن حد الاشتهاء والمسألة بحالها؟ قال تخرج؛ لأن الكبيرة دخلت تحت الحرمة فلا تخرج وإن كبرت، ولا كذلك الصغيرة.

وسئل ابن سلمة عن امرأة أدخلت ذكر صبي في فرجها، والصبي ليس من أهل الجماع قال: تثبت به حرمة المصاهرة، وقال أصحابنا رحمهم الله: وتثبت الحرمة بالتقبيل والمس والنظر إلى الفرج بشهوة في جميع النساء؛ الدميمة وغيرها في ذلك سواء، بخلاف العقد ثم المسّ إنما يوجب حرمة المصاهرة إذا لم يكن بينهما ثوب، أما إذا كان بينهما ثوب فإن كان صفيقاً لا يجد حرارة الممسوس لا تثبت حرمة المصاهرة، وإن انتشرت آلته إليه بذلك، وإن كان رقيقاً بحيث تصل حرارة الممسوس إلى يده تثبت حرمة المصاهرة.
وفي طلاق «المنتقى» : الحسن بن زياد عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا لمس الرجل شيئاً من جسد امرأة من فوق الثياب عن شهوة؛ فإن كان يجد مس جسدها حرمت عليه امرأته، وكذلك إذا مسّ رجلها فوق الخف أو ساق الخف أو أسفل الخف.
وفيه أيضاً: المعلى عن أبي يوسف رحمه الله: إذا قبّل الرجل المرأة وبينهما ثوب، إن كان يجد برد إليها أو برد الشفه فهو تقبيل ومس.

(3/64)


m
ويعتبر في النظر: النظر إلى داخل الفرج، وكذلك إنما يكون إذا كانت متكئة، أما إذا كانت قاعدة مستوية أو قائمة لا تثبت حرمة المصاهرة، قال شيخ الإسلام رحمه الله: هو الصحيح. وقال أبو يوسف في رواية ابن سماعة: النظر إلى المدخل والركب سواء، وتحرم بذلك أمُّها إذا كان بشهوة، وروى إبراهيم عن محمد رحمه الله: أن النظر إلى موضع الجماع من الدبر في حرمة المصاهرة نظير النظر إلى الفرج، ثم رجع وقال: لا يحرمه إلا النظر إلى الفرج من الداخل.

وروى ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله أن النظر إلى دبر المرأة لا يوجب حرمة المصاهرة، وكذلك ذكر محمد رحمه الله في «الزيادات» في باب: إتيان المرأة في غير الفرج، وإنما وقع الفرق بين النظر إلى موضع الجماع من الدبر وبين النظر إلى موضع الجماع من القبل؛ لأن النظر إلى القبل سبب يفضي إلى الوطء في القبل؛ الذي تحصل به الحرمة والتعصيب؛ إذ السبب يقوم مقام المسبب خصوصاً في باب الحرمات، وأما النظر إلى الدبر يفضي إلى الجماع في الدبر، وبه لا تحصل الحرمة والتعصيب، ولا تثبت به الحرمة.
والجماع في الدبر لا يثبت حرمة المصاهرة، ذكره محمد رحمه الله في «الزيادات» في باب إتيان المرأة في غير الفرج، وبه أخذ بعض مشايخنا، وبعض مشايخنا قالوا: يوجب حرمة المصاهرة، وبه كان يفتي شمس الإسلام محمود الأوزجندي رحمه الله.
ووجهه: أن الجماع في الدبر لا يخلو عن اللمس بشهوة، ومجرد اللمس بشهوة تثبت حرمة المصاهرة عندنا، فهذه الزيادة إن كانت لا توجب زيادة حرمة لا توجب خلافها، وما ذكر محمد رحمه الله أصح؛ لأن المس بشهوة إنما يوجب حرمة المصاهرة، لكونه سبباً مفضياً إلى الوطء في القبل، الذي تحصل به الحرمة، وبالإتيان في غير المأتى تبيّن أن ذلك المس لم يكن مفضياً إلى الوطء الذي تحصل به الحرمة، فلا تثبت به حرمة المصاهرة، وكذلك ألا ترى أن من مس امرأة بشهوة وأمنى لا تثبت حرمة المصاهرة؛ إذا نظر إلى فرج امرأة بشهوة وأمنى لا تثبت حرمة المصاهرة؛ لأن المس المجرد والنظر المجرد إنما يوجب حرمة المصاهرة، لكونه سبباً للوطء الذي هو سبب للحرمة، وباتصال الإنزال تبيّن أن ذلك المس لم يكن بهذه الصفة، فلا ثبتت به حرمة المصاهرة.

وكذلك إذا قبلها ثم قال: لم تكن عن شهوة، أو لمسها أو نظر إلى فرجها (وقال) : لم يكن عن شهوة فقد ذكر الصدر الشهيد رحمة الله: أن في القبلة يفتى ثبوت الحرمة ما لم يتبين أنه قبّل بغير شهوة، وفي المس والنظر إلى الفرج لا يفتى بالحرمة، إلا إذا تبين أنه فعل بشهوة؛ لأن الأصل في التقبيل الشهوة، بخلاف المس والنظر.
الدليل عليه: أن محمداً رحمه الله في أي موضع ذكر التقبيل لم يقيده بشهوة، وفي أي موضع ذكر المس والنظر فيه قيدهما بالشهوة.
وفي بيوع «العيون» بخلاف هذا قال: إذا اشترى جارية على أنه بالخيار وقبلها أو نظر إلى فرجها ثم قال لم يكن شهوة وأراد ردّها، فالقول قوله، ولو كانت مباشرة، وقال لم يكن عن شهوة لم يصدق.

(3/65)


ومن المشايخ من فصّل في التقبيل بينما إذا كان على الفم وبينما إذا كان على الجبهة والرأس فقال: إن كانت القبلة على الفم يفتى بالحرمة ولا يصدق إن كان بغير شهوة، وإذا كان على الرأس أو على الذقن أو على الخد لا يفتى بالحرمة، إلا إذا ثبت أنه فعل بشهوة. ويصدق إن لم يكن بشهوة وهكذا ذكر في «مجموع النوازل» .
وكان الشيخ الإمام ظهير الدين رحمه الله يفتي بالحرمة في القبلة على الفم والذقن والخد والرأس وإن كان على المقنعة وكان يقول: لا يصدق في أنه لم يكن بشهوة، وظاهر ما أطلق في «بيوع العيون» يدل على أنه يصدق في القبلة سواء كانت على الفم أو على موضع آخر.
وفي «البقالي» : ويصدق إذا أنكر الشهوة، يعني في المس إلا أن يقوم منتشراً فيعانقها قال: له، وكذا قال في «المجرد» : وانتشاره دليل الشهوة وهذا إشارة إلى أن في المس لا يُفتى بالحرمة ما لم ينضم إليه دليل آخر يدل على الشهوة.

وإذا أخذ بدنها وقال كان ذلك عن غير شهوة ففيه كلام. وإذا ركبت على ظهره وعبر بها الماء ثم قال لم يكن عن شهوة صُدّق. ولو أخذت امرأة ذكر ختنها في الخصُومة وشدته وقالت: كان عن غير شهوة صدّقت، وفي «كراهة الحاوي» : أن مسّ شعر المرأة عن شهوة لا يوجب حرمة المصاهرة.
وفي «الأجناس» : إن مسّ شعر رأس المرأة عن شهوة يوجب حرمة المصاهرة والرجعة، وأنكر القاضي الإمام علي السغدي رحمه الله ما ذكره في «الأجناس» قال: لأن الرأس تحت الشعر فيصير ماساً شعرها لا بدنها، فهو بمنزلة ما لو مسّ يدها من وراء الكم، وتقبل الشهادة على الإقرار باللمس بشهوة. وعلى الإقرار بالتقبيل بشهوة.
وهل تقبل الشهادة على نفس اللمس والتقبيل عن شهوة؟ اختلف فيه المشايخ قال بعضهم: لا تقبل وإليه مال الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله، وهذا لأن الشهوة أمر باطن لا يوقف عليها عادة، وقال بعضهم تُقبل وإليه مال الشيخ الإمام الزاهد علي البزدوي رحمه الله، وهكذا ذكر محمد رحمه الله في «نكاح الجامع» ؛ لأن الشهوة مما يوقف عليها في الجملة إما لتحرك العضو من الذي يتحرك عضوه أو آثار أخرى ممن لا يتحرك عضوه.
ابن سماعة في «نوادره» : عن أبي يوسف رحمه الله: رجل نظر إلى فرج ابنته (200أ1) من غير شهوة فتمنى أن تكون جارية: فوقعت له الشهوة مع وقوع نظره قال: إن كانت الشهوة منه على ابنته حرمت عليه امرأته، وإن كانت الشهوة وقعت على ما تمنى لم تحرم؛ لأن النظر إلى فرج ابنته حينئذ لا يكون عن شهوة.

في «واقعات الناطفي» : إذا قصد أن يقيم امرأته إلى فراشه أو يجامعها وهي نائمة ومعها ابنتها المشتهاة، فوصلت يده إلى الابنة فقرصها بإصبعه وظنّ أنها امرأته؛ إن كانت يده إلى الابنة وهو تشتهي لها، حرمت عليه امرأته وإن كان يحسبها امرأته؛ لأنه مسها بشهوة، وإن كان لا شهوة له في وقت ملامستها لا تحرم؛ لأنه لم يوجد مسها بشهوة،

(3/66)


وإن اختلفا فالقول قول الزوج؛ لأنه ينكر ثبوت الحرمة فالقول قول المنكر.
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: زوج جدة المرأة محرم لها؛ إن كان قد دخل بالجدة سواء كانت الجدة من قبل أبيها أو من قبل أمها، وزوج بنت البنت محرم للجدة دخل الزوج بها أو لم يدخل؛ لأن البنت لا تحرم بنفس نكاح الأم، فكذا بنفس نكاح الجدة والأم تحرم بنفس نكاح البنت، فكذا بنفس نكاح بنت البنت.
في «العيون» : نظر إلى فرج امرأة من خلف ستر أو زجاجة وتبيّن من خلفها فرجها وكان النظر بشهوة؛ حرمت عليه أمها وابنتها، بخلاف ما لو نظر في المرآة، والفرق: أن المرئي في المرآة عكس الفرج لا عين الفرج، ولا كذلك المرئي من خلف الستر والزجاجة.
أقر بحرمة المصاهرة يؤاخذ به ويفرق بينهما. وكذلك إذا أضاف ذلك إلى ما قبل النكاح بأن قال لامرأته: كنت جامعت أمك قبل نكاحك يؤاخذ به ويفرق بينهما، ولكن لا يصدق في حق المهر حتى يجب المسمّى دون العقر، ولكن إذا كان قبل الدخول بها يجب نصف المسمَّى، وإن كان بعد الدخول بها يجب كمال المسمى، والإقرار على الإقرار ليس بشرط في القضاء، حتى لو أقر بجماع أم امرأته أو مسها، ثم رجع عن ذلك وقال كذبت؛ فالقاضي لا يصدقه، ولكن فيما بينه وبين الله تعالى إن كان كاذباً فيما أقرّ لا تحرم عليه امرأته، والدوام على المس ليس بشرط لثبوت الحرمة، حتى قيل إذا مدّ يده إلى امرأته بشهوة فوقعت على كف ابنتها فازدادت شهوته حرمت عليه امرأته، وإن نزع من ساعته.

في نكاح «المنتقى» في باب ما يبطل المهر بعقد أحد الزوجين: إذا قبل امرأة ابنه بشهوة، أو قبل الأب امرأة ابنه بشهوة وهي مكرهة، وأنكر الزوج أن يكون ذلك عن شهوة فالقول قول الزوج؛ لأنه ينكر بطلان ملكه، وإن صدقه الزوج أنه كان عن شهوة وقعت الفرقة ويجب المهر على الزوج، ويرجع الزوج بذلك على الذي فعل ذلك إن تعمد الفاعل الفساد؛ لأنه وجب الحد بالوطء، والمال مع الحد لا يجتمعان.
قال: ولو كان جامعها بشبهة وهي مكرهة وبين وجه الشبهة فقال: بأنّ زوّجها أبوها منه بغير أمرها فلا حدّ عليه، ورجع الأب عليه بنصف المهر في قول أبي حنيفة رحمه الله. وقال أبو يوسف رحمه الله: عليه الحدّ ولها على الأب نصف المهر ولا يرجع به على الابن من قبل الحد الذي لزمه، قال أبو يوسف رحمه الله فلا أحفظه عن أبي حنيفة رحمه الله. وينبغي في قياس قوله أن لا يرجع الأب عليه بذلك من قبل المهر الذي وجب عليه بالدخول بناءً على شبهة النكاح، فلا يجب مهر آخر في هذا الباب أيضاً.
وفيه أيضاً: رجل تزوج بأمةِ رجل ثم إن الأمة قبّلت ابن زوجها قبل الدخول بها، فادعى الزوج أنها قبلته بشهوة، وكذبه المولى فإنها تبين من زوجها، لإقرار الزوج أنها قبّلت بشهوة، ويلزمه نصف الصداق؛ لتكذيب المولى إيّاه أنها قبّلت بشهوة، ولا يقبل قول الأمة في ذلك ولو قالت قَبَّلْتُه بشهوة. قيل لرجل: ما فعلت بأمِّ امرأتك؟ قال:

(3/67)


جامعتها، قال: تثبت حرمة المصاهرة، قيل: إن السائل والمسؤول هازلان، قال: لا يتفاوت ولا يصدق أنه كذب. في أيمان «مجموع النوازل» : والشهوة من أحد الجانبين في فصل المس تكفي لثبوت هذه الحرمة.
ومن جملة أسباب التحريم: الرضاع، فالرضاع في إيجاب الحرمة كالنسب والصهرية. والأصل فيه: قوله عليه السلام «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» والمعنى في ذلك: أن الماء أصل في التكوين، واللبن أصل في النشوء والزيادة، فجرى النشوء من أصل التكوين مجرى الوصف من الأصل مجرى الحق من الحقيقة، والحرمان يختلط في أنسابها، فالحق ألحق بالحقيقة والوصف بالأصل.
قال أصحابنا رحمهم الله: وما يتعلق به التحريم في النسب يتعلق في الرضاع إلا في مسألتين: أحدهما: أنه لا يجوز للرجل أن يتزوج أخت ابنه من النسب ويجوز في الرضاع، وإنما كان كذلك؛ لأن أخت ابنه من النسب إن (كانت) منه فهي ابنته، وإن لم تكن منه فهي ربيبته، فإنما حرمت لهذا المعنى، وهذا المعنى لا يتأتى في الرضاع حتى إن في النسب لو لم يوجد أحد هذين المعينين فإن كانت جارية بين شريكين جاءت بولد فادعياه، حتى يثبت النسب منهما ولكل واحد منهما ابنة من امرأة أخرى جاز لكل واحد من الموليين أن يتزوج ابنة شريكه، وإن كل واحد من الموليين متزوجاً بأخت من النسب.
والمسألة الثانية: لا يجوز للزوج أن يتزوج بأم أخته من النسب ويجوز في الرضاع، وإنما كان كذلك؛ لأن في النسب إن كانا أخوين لأم؛ فأم الأخ أمه، وإن كانا أخوين لأب فأم الأخ امرأة أبيه، وهذا المعنى معدوم في الرضاع، وأما فيما عدا هاتين المسألتين حكم الرضاع وحكم النسب سواء.
والتحريم بالرضاع كما يثبت من جانب المرأة يثبت من جانب الرجل وهو الزوج الذي نزل لبنها بوطئه ويسميه الفقهاء: لبن الفحل.
وبيانه: أن المرأة إذا أرضعت بلبن حدث من حمل رجل فذلك الرجل أب الرضيع، لا يحل لذلك الرجل نكاحها وإن كانت أنثى. وكذلك إذا كان الرجل امرأتان وحملتا منه، فأرضعت كل واحدة منهما صغيراً فقد صارا أخوين لأب، فإن كانت إحداهما أنثى لا يحل النكاح بينهما، وإن كانتا ابنتين لا يحل الجمع بينهما؛ لأنهما أختان لأب.

وإن كانت للرجل امرأة واحدة فحملت منه، وأرضعت صبيين صارا أخوين لأب وأم، وأخوات الزوج عمات المرضع ولا يحل له مناكحتهن، ويجوز له مناكحة أولادهن، وأم الزوج جدة المرضع تحرم عليه ولا يحل لهذا المرضع أن يتزوج امرأة وطئها الزوج، ولا

(3/68)


للزوج أن يتزوج امرأة وطئها المرضع. فهذا تفسير «لبن الفحل» والدليل على ثبوت هذه الحرمة من جانب الرجل قوله عليه السلام: «يحرم من الرضاع ما يحرم (200ب1) من النسب» .
وقال عليه السلام: «إن الرضاعة تحرم ما تحرّم الولادة» وسألت عائشة رضي الله عنها وقالت: يا رسول الله: إن أفلح بن أبي العقيس يدخل عليّ وأنا في ثياب فضلٍ تقيني فقال عليه السلام: «ليلج عليك أفلح فإنه عمك من الرضاعة، فقالت عائشة رضي الله عنها: إنما أرضعتني المرأة لا الرجل فقال عليه السلام: إنه عمك فليلج عليك» .
والعم من الرضاعة يكون لا الأمر لبن الفحل.
وفي النكاح للحسن بن زياد رحمه الله: في امرأة ولدت من زوج وأرضعت ولدها ثم تيبس لبنها ثم درّ لها اللبن بعد ذلك، فأرضعت صبيّاً إن لهذا الصبي أن يتزوج بابنة هذا الرجل من غير هذه المرأة، قال: وليس هذا بلبن الفحل، وكذلك إذا تزوج امرأة ولم تلد منه قط ثم نزل لها اللبن فإن هذا اللبن من هذه المرأة دون زوجها حتى لو أرضعت صبية لا تحرم على ولد هذا الزوج من غير هذه المرأة.
ولو زنى بامرأة فولدت منه فأرضعت بهذا اللبن صبيّة لا يجوز لهذا الزاني أن يتزوج بهذه الصبّية ولا لأبيه ولا لآبائه ولا لأبناء أولاده لوجود التعصيب بين هؤلاء، وبين الزاني، فلما لم يجز للزاني أن يتزوجها فكذا لا يجوز لهؤلاء.
والرضاع الموجب للتحريم ما كان في حالة الصغر دون الكبر قال عليه السلام: «الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم» وقال عليه السلام: «لا رضاع بعد الفصال» ولأن الحرمة بالرضاع من حيث إنه سبب للنشوء والزيادة، وذلك في حالة الصغر؛ لأن الصغير لا يتربى بغيره بخلاف الكبير.
وقليل الرضاع وكثيره في إثبات التحريم سواء؛ لأن المنصوص عليه فعل الإرضاع دون العدد، قال الله تعالى: {وَأُمَّهَتُكُمُ الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ} (النساء: 23) ولمدة الرضاع ثلاثة أوقات: أدنى وأوسط وأقصى.
فالأدنى: حول ونصف، والأوسط: حولان، والأقصى: حولان ونصف، حتى لو نقص عن الحولين لا يكون شططاً، ولو زاد على الحولين لا يكون تعدياً. والوسط هو حولان فلو كان الولد يستغني عنها دون الحولين ففطمه في حول ونصف يحل ولا تأثم بالإجماع، ولو لم يستغن عنها بحولين فلها أن ترضعه بعد ذلك ولا تأثم عند عامة

(3/69)


العلماء، خلافاً لخلف بن أيوب رحمه الله.
وإنما الكلام في ثبوت الحرمة: بالرضاع وفي استحقاق الأجر، فأما الكلام في ثبوت الحرمة، قال أبو حنيفة رحمه الله: يثبت بحكم الرضاع في الصغير إلى ثلاثين شهراً، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله إلى سنتين.
حجتهما: قوله تعالى: {وَالْولِدتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (البقرة: 233) وقال عليه السلام: «لا رضاع بعد الحولين» ولأبي حنيفة رحمه الله قوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} (البقرة: 33) اعتبر التراضي والتشاور.
في الفصال بعد الحولين ورفع الجناح عن الفصال بعد الحولين بالتراضي والتشاور فهذا دليل على أن ما بعد الحولين مدة الرضاع، ولأن الرضاع يتعلق باللبن في حق الصغير؛ لأنه سبب للنشوء والزيادة وهو الغذاء الأصلي في حقّه، والغذاء لا يتغير إلا بعد زمان فلا بدّ من اعتبار مُدّة بعد ذلك حتى يتغير به الغذاء، فقدّر أبو حنيفة رحمه الله تلك المّدة بستة أشهر لأنها مدّة تغيّر الغذاء، فإن الولد يبقى في النظر ستة أشهر ويتغذى بغذاء الأم، ثم ينفصل ويصير أصلاً في الغذاء، فإنما قدّر المدّة بستة أشهر لهذا.

أما الكلام في استحقاق الأجر؛ قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: هو على هذا الخلاف، حتى إن المطلقة تستحق أجرة رضاع الولد على الأب إلى تمام حولين ونصف عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهم الله: تستحق إلى تمام حولين ولا تستحق فيما دون الحولين.
وكثير من المشايخ قالوا: إن مدة الرضاع في حق استحقاق الأجرة على الأب مقدرة بحولين عند الكل حتى لا تستحق المطلّقة أجرة الرضاع بعد الحولين بالإجماع، وتستحق في الحولين بالإجماع.
ولو فطم الرضيع في مدة الرضاع ثم سقي بعد ذلك في المدة فهو رضاع على قول من يرى الرضاع في تلك المدة؛ لوجود الإرضاع والظاهر من المذهب، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه قال: هذا إذا لم يتعود الصبي الطعام حتى لا يكتفي بالطعام بعد الفطام، وأما إذا صار بحيث يكتفي بالطعام لا تثبت الحرمة بعد ذلك؛ لأنه إذا صار بحيث يكتفي بالطعام فاللبن يفسده بعده ذلك ولا يغذيّه ولا يحصل به النشوء، وهو المعنى المعوّل عليه في إثبات الحرمة بعد الرضاع. وفي «البقالي» : إذا فطم في الحولين واستغنى بالطعام فأرضع بعد ذلك؛ فعن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله روايتان.
والبكر إذا نزل لها اللبن تعلق به الحرمة ما تتعلق بلبن الثيب. قال في «الأجناس» :

(3/70)


وفائدته لو تزوجت بزوج فطلقها قبل أن يدخل بها له أن يتزوج بهذه الصبية؛ ولو دخل بها، والمسألة بحالها لا يجوز له أن يتزوج بهذه الصبية لأنها ربيبته المدخولة. ولبن الحية والميتة سواء في التحريم؛ لاستوائهما في المعنى الموجب للحرمة وهو حصول التسوية.
وتثبت حرمة الرضاع بالسعوط والوجور لأنه مما يغذي الصبي، فالسعوط يصل إلى الدماغ فيتقوى به، والوجور يصل إلى الجوف فيحصل به النشوء.

والإقطار في الأذن لا يثبت الحرمة؛ لأن الظاهر أنه لا يصل إلى الدماغ لضيق ذلك الثقب. وكذلك الإقطار في الإحليل؛ لأن أكثر ما فيه أن يصل إلى المثانة فلا يتغذى به الصبي عادة، وكذلك الحقنة في ظاهر الرواية لا يوجب الحرمة.
وإذا وُضِعَ لبن المرأة في طعام فأكله صبي، فإن كانت النار قد مسته وأنضج الطعام حتى يتغير لا تثبت الحرمة، سواء كان اللبن غالباً أو مغلوباً. وإن كانت النار لم تمسه فإن كان الطعام هو الغالب لا تثبت به الحرمة، وإن كان اللبن هو الغالب فعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: تثبت الحرمة اعتباراً للغالب. وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لا تثبت.
وشرط القدوري رحمه الله على قول أبي حنيفة أن يكون الطعام مستبيناً معناه إذا كان بمنزلة الثريد، وهذا لأن الطعام إنما كان مستبيناً فهو الأصل، واللبن وإن كان غالباً فهو كالتَّبَعِ للطعام فيما هو المقصود، فإن اللبن يغلب الثريد، ويكون الأصل هو الثريد.
قيل إنما لا تثبت الحرمة على قول أبي حنيفة رحمه الله إذا كان لا يتقاطر اللبن (201أ1) عند حمل اللقمة، وأما إذا كان يتقاطر تثبت به الحرمة وقيل لا تثبت به الحرمة، وقيل: لا تثبت الحرمة على قول أبي حنيفة رحمه الله على حال، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله، أن على قول أبي حنيفة رحمه الله إنما لا تثبت الحرمة إذا أكل لقمةً لقمةً. أما إذا حَسَا حسواً تثبت الحرمة، وقيل: إذا وصل اللبن منفرداً فلا خلاف، وإذا تناول الثريد فلا خلاف. وفي كتاب الرضاع للخصاف: إذا ثردت له خبزاً في لبنها حتى نشف الخبز ذلك اللبن، أو بلّت به سويقاً أو شيئاً ثم أطعمته إيّاه؛ إن كان طعم اللبن يوجد فهو رضاع؛ وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهما الله، هكذا ذكر صاحب «الأجناس» .

ولوخلط لبن المرأة بالماء أو بالدواء أو بلبن البهيمة فالعبرة للغالب. في «المنتقى» : فسّر الغلبة في رواية ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله فقال: إذا جعل في لبن المرأة دواء فغيّر اللون ولم يتغيّر الطعم أو على العكس فأوجرته صبيّاً حرم، وإن غيّر اللون والطعم فلم يوجد طعم اللبن وذهب لونه لم يحرم، وفسّر الغلبة في رواية ابن الوليد عن محمد رحمه الله فقال: إذا لم يتغير الدواء من أن يكون لبناً تثبت به الحرمة، وإن خُلط بلبن امرأة أخرى فكذلك عند أبي يوسف، وعند محمد رحمها الله: تثبت الحرمة بينهما وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله.
وإذا طلق الرجل امرأته ولها منه لبن فتزوجت بزوج آخر بعدما انقضت عدتها

(3/71)


ووطئها الثاني؛ أجمعوا أنها إذا ولدت من الثاني، فاللبن من الثاني وينقطع عن الأول، وأجمعوا على أنها إذا لم تحبل من الثاني فاللبن من الأول. وأما إذا حبلت من الثاني ولكن لم تلد منه؛ قال أبو حنيفة رحمه الله: اللبن يكون من الأول حتى تلد من الثاني، وقال أبو يوسف رحمه الله: إن علم أن اللبن من الثاني بأمارة أو علامة فهو من الثاني، وإن علم أنه من الأول فهو من الأول، وإن لم يعلم أنه من الأول أو من الثاني فهو من الأول، وذكر في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله: أن على قول أبي يوسف رحمه الله: اللبن من الثاني على كل حال.l
فروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف رحمهما الله: أن اللبن من الأول كما هو قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال محمد رحمه الله: اللبن منهما.
نوع منه ولا فرق في التحريم بين الرضاع الطارىء والمقدم
بيانه: إذ تزوج رضيعة فأرضعتها أمه، حرمت عليه؛ لأنها صارت أختاً له؛ وهذا لأن المحرمية إنما تمنع النكاح لعلة المنافاة، فإن بين الحل والحرمة تنافٍ، والمنافي كما يؤثر إذا اقترن بالسبب يؤثر إذ جرى عليه.

وكذلك: إذا تزوج رضيعتين فأرضعتهما امرأة معاً، أو واحدة بعد أخرى حرمتا عليه؛ لأنهما صارتا أختين من الرضاعة، ويجب لها نصف الصداق؛ لأن الفرقة ثبتت بفعل غيرهما، فإن الأخوة إنما ثبتت بينهما بواسطة الأمومة والأمومة، حصلت بفعل الكبيرة؛ والإضافة إلى فعلها أولى من الإضافة إلى فعل الصغيرة؛ لأن اختيارها معتبر، واختيار الصغيرة ساقط الاعتبار شرعاً، فيرجع الزوج على المرضعة بذلك إن تعمدت الفساد، ويعتبر القصد مع العلم بالحكم.
وإن أخطأت وأرادت الخير؛ بأن خافت على الرضيع الهلاك من الجوع فلا يرجع عليها، وهذا لأن المرضعة مسببة إلى الفرقة وليست بمباشرة، والمسبب إنما يضمن إذا كان متعدياً في تسببه، فإذا تعمدت الفساد فهي متعدية، وإذا أخطأت أو أرادت الخير فهي ليست بمتعدية، وتصدق المرضعة أنها لم تتعمد الفساد إذا لم يظهر خلافه.
في «البقالي» : وعن محمد رحمه الله: أنه يرجع عليها بكل حال؛ لأن من أصله أن المسبب كالمباشر. أصله: مسألة فتح باب القفص والإصطبل وأشباه ذلك.
في «العيون» : رجل تزوج رضيعتين فجاءت امرأتان ولهما منه لبن، فأرضعت كل واحدة منهما إحدى الصبيتين معاً، وتعمدتا الفساد، لا ضمان على كل واحدة منهما؛ لأن كل واحدة منهما غير مفسدة بصنعها وبنفسها خاصةً هكذا وضع المسألة في «العيون» .

وفي «المنتقى» : وضع المسألة فيما إذا جاءت امرأتان برجل أجنبي، لهما من ذلك الرجل الأجنبي لبنٌ، وأرضعت كل واحدةٍ منهما إحدى الصبيتين معاً وتعمدتا الفساد، وأجاب: أنه لا ضمان على واحدة منهما لأن كل واحدة منهما غير مفسدة بنفسهما وبصنعها خاصة، قال: هو بمنزلة مريض قال لامرأتين: إن دخلتما هذه الدار فأنتما

(3/72)


طالقان، أو قال لهما: أنتما طالقان إن شئتما فشاءتا معاً، وما ذكر في «العيون» وقع سهواً؛ لأن الفساد في تلك الصغيرة بعلّة البنتية، فإن المرضعة تصير ابنةً للزوج، وبإرضاع كل واحدة من الكبيرتين صارت الصغيرة التي أرضعتها هذه الكبيرة ابنةً للزوج، من غير أن يتوقف ذلك على إرضاع الكبيرة الأخرى، فصارت كل واحدة من الكبيرتين مفسدة نكاح الصغيرة، التي أرضعتها بصنعتها خاصة.
أما موضوع «المنتقى» صحيح؛ لأن الفساد في تلك الصغيرة بعلّة الأجنبية، والأجنبية إنما يثبت بصنعتها فلم يصر لكل واحدة منهما مفسدة بصنعها خاصة.
وفي «المنتقى» : رجل تحته كبيرة ورضيعة، جاء رجل وأخذ من لبن الكبيرة وأوجر الصغيرة بانتا؛ لأنهما صارتا أمّاً وابنةً، وللصغيرة نصف المهر، وكذا الكبيرة إن لم يكن الزوج دخل بها، ويرجع الزوج بذلك على ذلك الرجل إن تعمّد الفساد.
وفي «العيون» : لو كانت عنده كبيرة مجنونة أو معتوهة وصغيرة، وأرضعت الكبيرة الصغيرة حتى بانتا، لا رجوع للزوج على الكبيرة؛ لأن فعل المجنونة والمعتوهة لا يوصف بالجناية.
وفي «المنتقى» : إذا كان تحت رجل صغيرتان جاءتا إلى امرأة نائمة وشربتا منها لبناً بانتا، ولكل واحدة نصف الصداق ولا يرجع الزوج على النائمة.
وفي «الأصل» : إذا تزوج الرجل صبية، ثم تزوج عمّتها وفرّق بينه وبين العمّة لا تحرم الصغيرة، فإن جاءت أم العمّة وأرضعت الصغيرة لا يفسد نكاح الصغيرة، وإن ثبتت الأختية بينها وبين العمة؛ لأن نكاح العمّة وقع باطلاً فلم يتحقق الجمع المحرم.

وفي «المنتقى» : إذا تزوج امرأة نكاحاً فاسداً ووطئها وفرّق بينهما، ثم تزوج صبية رضيعة فأرضعت أم الكبيرة الصغيرة فسد نكاح الصغيرة، يريد به: إذا كان الإرضاع في عدة الكبيرة بدليل أنه علّل وقال: من قبل أنها صارت أخت الكبيرة، والكبيرة في العدة، فعلى هذا إذا كان الإرضاع بعد انقضاء عدّة الكبيرة لا تحرم الصغيرة.
تزوج رجل ثلاث صبيات فجاءت امرأة وأرضعتهن معاً بأن حلبت لبنها في قارورة وألقمت إحدى ثدييها إحداها والأخرى الأخرى وأوجرت الثالثة معاً بِنَّ جميعاً؛ لأنهن صِرْنَ أخوات معاً، وإن أرضعتهن واحدة بعد أخرى بانت (201ب1) الأوليتان والثالثة امرأته؛ لأنه لما أرضعت الثانية ثبتت الأختية بين الثانية وبين الأولى، فتقع الفرقة بينه وبينهما، فإذا أرضعت الثالثة صارت الثالثة أختاً لهما إلا أنه لم يبق الجمع فلا يفسد نكاح الثالثة لهذا.
ولو أرضعت الأولى ثم أرضعت الثنتين معاً حرمن عليه؛ لأن رضاع الأولى لم يتعلق به تحريم، فإذا أرضعت الثنتين صرن أخوات وقد تحقق الجمع فيهن فيحرمن، ولو كنّ أربع صبيات فأرضعتهن واحدة بعد أخرى حرمن عليه.
وطريقه: أن بإرضاع الثانية حرمت الأولى والثانية، وبإرضاع الرابعة حرمت الرابعة والثالثة، وكذلك لو أرضعت واحدة ثم أرضعت الثلاث معاً حرمن عليه جملة، وكذلك

(3/73)


ولو أرضعت الثلاث منهن معاً ثم أرضعت الرابعة لا تحرم الرابعة.
ولو تزوج صغيرة وكبيرة فأرضعت الكبيرة الصغيرة بانتا، ولا مهر للكبيرة إن كان قبل الدخول بها، وللصغيرة نصف المهر، وله أن يتزوج بالصغيرة إن لم يكن دخل بالكبيرة، ولا يتزوج الكبيرة؛ لأن الصغيرة ربيبته من الرضاع ولم يدخل بها، والكبيرة أم امرأته.

ولو تزوج كبيرة وصغيرتين، وأرضعتهما الكبيرة واحدة بعد أخرى؛ فإن لم يكن دخل بالكبيرة حرمت الكبيرة والصغيرة الأولى؛ لأنه حين أرضعتها فقد صارتا أماً وابنة، فوقعت الفرقة بينهما، فحين أرضعت الثانية فليس في نكاح فبقي نكاحهما؛ لأن السابق مجرد العقد على الأم، ولا تحل له هذه الكبيرة أبداً، وتحل له الصبية إذا فارق التي عنده، وإن كان ذلك بعدما دخل بالكبيرة حرمن عليه جميعاً؛ لأنهما صارتا ابنتيها من الرضاعة، ولا تحل له واحدة منهن أبداً؛ لوجود الدخول بالأم، وصحة العقد ما لا يثبت.
ولو تزوج كبيرة وثلاثاً صفاراً فأرضعتهن واحدة بعد أخرى حرمن عليه، دخل بالكبيرة أو لم يدخل، أما حرمة الكبيرة والصغيرة الأولى؛ لأنهما صارتا أماً وبنتاً، وأما حرمة الصغيرة الثانية والثالثة إن لم يدخل بالكبيرة، فلثبوت الأختية بينهما، وإن دخل بالكبيرة؛ لأن كل واحدة منهما ربيبته وقد دخل بالأم.
ولو تزوج كبيرتين وصغيرتين، ولم يدخل بالكبيرتين بعد، حتى عمدت الكبيرتان إلى إحدى الصغيرتين وهي زينب، فأرضعتاها إحداهما بعد الأخرى، ثم أرضعتا الصغيرة الثانية وهي عمرة إحداهما بعد الأخرى، بانت الكبيرتان، والصغيرة الأولى وهي زينب، والصغيرة الثانية وهي عمرة امرأته؛ لأن إحدى الكبيرتين حين أرضعت زينب بانتا؛ لأنهما صارتا ابنةً وأماً، فحين أرضعت الكبيرة الأخرى زينب صارت أم امرأته فحرمت أيضاً، فإن أرضعتا عمرة صارت عمرة ربيبته ولم يدخل بأمها فلا يحرم.
ولو أنّ إحدى الكبيرتين أرضعت الصغيرتين واحدة بعد أخرى، ثم أرضعت الكبيرة الأخرى الصغيرتين واحدة بعد أخرى، فإن كانت الكبيرة الثانية بدأت بالتي بدأت بها الكبيرة الأولى وهي زينب بانت، الكبيرتان والصغيرة الأولى وهي زينب، والصغيرة الأخرى وهي عمرة امرأته، ولو بدأت الكبيرة الثانية بالصغيرة الأخرى حَرُمْنَ عليه جُملة.

ولو كانت تحته صغيرة وكبيرة، فأرضعت أم الكبيرة الصغيرة بانتا؛ لأنهما صارتا أختين. وكذلك لو أرضعتهما أخت الكبيرة؛ لأن الصغيرة صارت بنت أخت الكبيرة، والجمع بين المرأة وابنة أختها لا يجوز، ولو أرضعتها عمة الكبيرة أو خالتها لم تبن واحدة منهما؛ لأن الجمع بين المرأة وابنة عمها أو ابنة عمتها أو ابنة خالها جائز.
وإذا كانت تحت الرجل كبيرة وصغيرة فطلّق الكبيرة، ثم إن أخت الكبيرة أرضعت الصغيرة والكبيرة في العدة بعد؛ بانت الصغيرة؛ لأن حرمة الجمع في حالة العدة كحرمتها حال قيام النكاح.

(3/74)


ولو زوج رجل ابنه الصغير امرأة لها لبن فارتدت وبانت من الصبي، ثم أسلمت فتزوجها رجل فحبلت منه، وأرضعت بلبنها ذلك الصبي الذي كان زوجها، حرمت عليه زوجها الثاني؛ لأن الصبي صار ابناً لزوجها، فكانت هذه امرأة الابن فحرمت عليه.
ولو زوج رجل أم ولده مملوكاً له وهو صغير فأرضعته بلبن السيد حرمت على زوجها وعلى مولاها؛ لأن المملوك صار ابناً لمولاه، فحرمت على المولى لأنها امرأة ابنه وحرمت على الزوج لأنها موطوءة ابنه.
ولو تزوج صغيرة وطلقها، ثم تزوج كبيرة فأرضعت هذه الكبيرة تلك الصغيرة بلبنها أو لبن غيرها حرمت عليه؛ لأنها أم امرأته.
نوع منه ولا تقبل في الرضاع إلا شهادة رجلين أو شهادة رجل وامرأتين عدول
هكذا روي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما. والمعنى: أن ثبوت الحرمة لا تقبل الفصل عن زوال الملك في باب النكاح، وإبطال الملك عن المحل لا يثبت إلا بشهادة شاهدين، وهذا بخلاف ما إذا اشترى لحماً فأخبره مسلم أنه ذبحه مجوسي، فإنه لا يحل تناوله؛ لأن حرمة التناول تقبل الفصل عن زوال الملك، فكان هذا من باب الدين، فقبل قول الواحد فيه، وإن كان المخبر واحداً ووقع في قلبه أنه صادق فالأولى أن يتنرّه ويأخذ بالثقة، وحط الإخبار قبل العقد أو بعده، ولا يجب عليه ذلك. وإذا شهد بذلك رجلان أو رجل وامرأتان وهم عدول لم يتسع لكل واحد منهما المقام مع صاحبه؛ لأن الحجة قد تمّت.
صبيّة أرضعها بعض أهل القرية فهو في سِعَةٍ من المقام معها في الحكم؛ لأنه لم يظهر المانع في «فتاوى أهل سمرقند» . وفيه أيضاً: أدخلت المرأة حلمة ثديها فم رضيع ولم تدر أدخل اللبن في حلقه أم لا فإنه لا يحرم النكاح؛ لأن في المانع شك.
وفي آخر «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل تزوج امرأة رضيعة ومضى على ذلك زمان فقالت أم الزوج أو أختها: إني قد أرضعتها، إن قالت قد أرضعتها قبل النكاح لا يحل للزوج أن يتزوج أختها ما لم تُطلّق الرضيعة؛ لأن إقدام الزوج على النكاح إقرار منه بصحة النكاح، وإقراره حجة في حقّه. وإن قالت: أرضعتها بعد النكاح جاز له أن يتزوج بأختها قبل أن يطلقها والله أعلم.
نوع منه
إذا قال الزوج: هذه المرأة أمي من الرضاعة أو قال: ابنتي أو قال: أختي، ثم أراد أن يتزوجها بعد ذلك وقال: أو همت أو أخطأت أو لبست، وصدقته المرأة فهما مصدقان في ذلك وله أن يتزوجها، وهذا استحسان وإن ثبت على قوله الأول وقال: هو حق كما قلت، ثم تزوجها فرّق بينهما قياساً واستحساناً.
وجه القياس: أن الرجوع عن الإقرار فيما هو على المقرّ غير عامل؛ لأن الإقرار ملوم بنفسه على ما عرف.

(3/75)


وجه الاستحسان: أن هذا أمر قد تسببه، وقد وقع عند الناس أن بينه وبين امرأة رضاع، فيخيّر بذلك ثم يتفحص عن حقيقة الحال فيتبيّن (202أ1) أنه غلط في ذلك، وفيما يقع فيه الاشتباه إذا أخبر بالغلط وليس هناك من يكذبه يجب قبول خبره، ولم يوجد المكذب هنا.
وإذا أقرت المرأة أن هذا أبي من الرضاعة أو أخي أو ابن أخي وأنكر الرجل، ثم كذبت المرأة نفسها فقالت أخطأت فتزوجها فالنكاح جائز، وكذلك لو لم يتزوجها قبل تكذيب نفسها.
ولو قالت المرأة بعد النكاح: قد كنت أقررت: أنك أخي وقد قلت: إن ما أقررت به حق حين أقررت بذلك وقد وقع النكاح فاسداً، فإنه لا يفرق بينهما، ولو كان هذا القول من الزوج يفرق بينهما.
وإذا أقرّ الرجل أن هذه المرأة أخته من الرضاعة، وثبت على ذلك وأشهد عليه شهوداً، ثم تزوجها ولم تعلم المرأة بذلك، ثم جاءت بهذه الحجة بعد النكاح فرقت بينهما، ولو أقرّا بذلك جميعاً ثم أكذبا أنفسهما وقالا: أخطأنا، ثم تزوجها كان النكاح جائزاً، وكذلك هذا في النسب، ليس يلزم من ذلك إلا ما ثبتا عليه؛ لأن الغلط والاشتباه فيه مما يتحقق، ولو تزوج امرأة ثم قال بعد النكاح هي أختي من الرضاعة أو ما أشبه، ثم قالت المرأة: أُوهمت، ليس الأمر كما قلت لا يفرق بينهما استحساناً، ولو ثبت على هذا المنطق وقال: هو حق كما قلت، يفرق بينهما، ولو جحد بعد ذلك لا ينفعه جحوده.
والحاصل: أنّ مثل هذا الإقرار إنما يوجب الفرقة بشرط الثبات عليه، فإذا قال: أُوهمتُ فقد انعدم ما شرطه فلا يوجب الفرقة. وإذا قال بعد الإقرار: هو حق كما قلت: هذه أختي أو هذه ابنتي، وليس لها نسب معروف ثم قال: أُوهمت يصدق، وهذا بخلاف ما لو قال لعبده: هذا ابني، أو قال لأمته: هذه ابنتي ثم قال: أُوهمت، لا يصدق ويحكم بعتق العبد والأمة.
والفرق: أن الأشتباه لا يقع بين العبد وبين ابنه إلا نادراً لأن العبد في الغالب.... لابنه في المطعم والملبس والمجلس، والنادر لا عبرة له، فلا يُعتد بقوله: أوهمت، والاشتباه بين ابنته وبين زوجته ليس بنادر بل هو غالب، لتفارقهما في المطعم والملبس والمجلس، والغالب معتبر شرعاً، ولهذا تعلّل إذا قال: أوهمت فهو الفرق بين الصورتين.
ولو قال: هذه ابنتي من النسب، قال ذلك لامرأته وثبت عليه، ولها نسب معروف لم أفرق بينهما، وكذلك لو قال: هذه أمي والأم معروفة وثبت عليه، ذلك لا يفرق بينهما؛ لأنه مكذب شرعاً فيما قال.
ولو صار مكذباً من جهة نفسه بأن قال: أوهمت لم يفرق بينهما، فكذا إذا صار

(3/76)


مكذباً شرعاً. ولو قال: هي ابنتي وليس لها نسب معروف ومثلها يولد لمثله، وثبت على ذلك يفرق بينهما، فبعد ذلك إن صدقته المرأة أنها ابنته ثبت النسب وما لا فلا، وإن كان مثلها لا يولد لمثله لا يثبت النسب منه ولا يفرق بينهما؛ لأنه ثبت كذب إقراره حقيقةً، والله أعلم.

الفصل الرابع عشر في بيان ما يجوز من الأنكحة وما لا يجوز
قال أصحابنا رحمهم الله: لا يجوز للرجل أن يتزوج بأم امرأته دخل بها أو لم يدخل بها، وهذا لقوله تعالى: {وَأُمَّهَتُ نِسَآئِكُمْ} (النساء: 23) حرم أمهات النساء مطلقاً، وهو معنى قول ابن عباس رضي الله عنه أم المرأة.... في القرآن أي: مطلقة.
ولا يجوز أن يتزوج بابنة امرأته إن كان قد دخل بها، وإن لم يدخل بها فلا بأس لقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّتِى فِى حُجُورِكُمْ مّن نِّسَآئِكُمُ اللَّتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} (النساء: 23) .

وإذا جمع بين امرأتين في النكاح فالأصل في جنس هذه المسائل: أن كل امرأتين لو صورنا إحداهما من هذا الجانب أو من ذلك الجانب ذكراً لم يجز النكاح بينهما، برضاع أو نسب لم يجز الجمع بينهما، ولو جاز لواحد منهما أن يتزوج بالأخرى، والجمع جائز كالجمع بين المرأة وابنة زوج كان لها من قبل، وإن كانت ابنة الزوج لو كان ذكراً لا يجوز النكاح بينهما، إلا أن امرأة الأب لو كانت ذكراً يجوز النكاح بينهما، وهذا لأن الأصل في هذا الباب ذواتي رَحِمٍ محّرم، وهناك الحرمة بائنة من الجانبين، لو صورنا إحداهما رجل أي جانب كان، وكل امرأتين هما في معناهما، ثبت هذا الحكم في حقهما وما لا فلا.
وكما لا يجوز للزوج أن يتزوج بأخت امرأته في عدة امرأته فكذا لا يجوز له أن يتزوج أحداً من ذوات محارمها في عدتهما؛ لأنهما في معنى الأجنبي في حرمة الجمع بينهما، فلا يجوز له أن يتزوج أمّه على الحرمة؛ الحرّ والعبد في ذلك سواء عندنا، بعموم قوله عليه السلام «لا تنكح الأمة على الحرة» .
ولو جمعهما في عقد صحّ نكاح الحرة وبطل نكاح الأمة؛ لأن الأمة ليست بمحلٍ حالة الضم إلى الحرة، وهذا لما عرف أن الرق في جانب النساء منقصٌ للحل كما في جانب الرجال، غير أن في جانب النساء لا يمكن إظهار النقصان في حق العدد، فأظهر بالنقصان في حق الأحوال، فجعلناها من المحللات قبل الحرة، ومن المحرمات بعد

(3/77)


الحرة ومع الحرة، وهذا إذا كان يصح نكاح الحرة وحدها.
وأما إذا كانت الحرة لا يصح (نكاحها) وحدها فضمهما إلى الأمة لا يوجب بطلان نكاح الأمة، كما لو جمع بين حرة وأمة وللحرة زوج، فإنه لا يبطل نكاح الأمة.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : أختان قالت كل واحدة منهما لرجل واحد قد زوجت نفسي منك بكذا، وخرج الكلامان معاً، فقبل الزوج نكاح إحداهما فهو جائز، لأن كلامهما منفصل في الأصل فلم يتحقق الجمع لا في حق الحكم ولا في حق النسب.
وفيه أيضاً: رجل له بنت كبيرة وأمة كبيرة فقال الرجل: قد زوجتهما كل واحدة منهما بكذا، فقبل الزوج نكاح الأمة كان باطلاً؛ لأن الموجب جمع بين والأمة والحرة في الإيجاب، وذلك يوجب بطلان نكاح الأمة، لكون نكاح الأمة دافعاً نكاح الحرة فإن قبل بعد ذلك نكاح الحرة جاز؛ لأن نكاحها توقف على قبوله ولم يرتد بقبول نكاح الأمة؛ لأن الإيجاب في حق الأمة باطل.
وفيه أيضاً: رجل وكّل رجلاً أن يزوجه امرأة، ووكّل رجلاً آخر يمثل ذلك، فزوجه كل واحد منهما امرأة بغير أمرها، وهما أختان من الرضاعة، وخرج الكلامان معاً فهما باطلان، وكذلك لو كان أحد النكاحين برضا المرأة أو كان كلاهما برضاهما لما ذكرنا.
وقال أبو حنيفة رحمة الله: عليه لا يتزوج الأمة في عدة الحرة، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يتزوج في عدة المبتوتة.
هما يقولان: المحرم إدخال الأمة في نكاح الحرة لا الجمع، بدليل أن نكاح الأمة إذا كان سابقاً يجوز، ولا يتحقق الإدخال إذا كانت الحرة مبتوتة.
وأبو حنيفة يقول: بأن العدّة حق من حقوق النكاح ... من ... فيتحقق الإدخال (202ب1) . على الحرة من وجه، فيعتبر بالإدخال من كل وجه احتياطاً لأمر الحرمة.
ولو تزوج أمة وحرّة والحرة في عدة من نكاح فاسد أو عن وطىء بشبهة ذكر الحسن أنه على هذا الخلاف وغيره. قال: يجوز نكاح الأمة هنا بالاتفاق، ويجوز له أن يتزوج أخت أمته التي وطئها، وأخت أم ولده، ولكن لا يطأ الزوجة حتى تحرم الأمة وأم الولد على نفسه، بنكاح أو ببيع الأمة، فلا يجوز له أن يتزوج أخت أم ولده في عدة أم الولد، بأن أعتق أم الولد ثم أراد أن يتزوج بأختها في عدتها فإنه لا يجوز، ويجوز له أن يتزوج أربعاً، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يجوز نكاح الأخت والأربع؛ لأن العدة أثر ذلك الفراش، وذلك الفراش لم يكن مانعاً نكاح الأخت ولا نكاح الأربع فكذا أثره.

وأبو حنيفة رحمه الله يقول في الفرق: أن المقصود من النكاح الوطىء، وهذا الرجل باختيار عدة أم الولد غير ممنوع عن وطىء الأربع بالنكاح؛ بأن يعتقها وتحته أربع

(3/78)


نسوة، فإن له أن يظاهر، فكذا لا يكون ممنوعاً من العقد على الأربع، وهو باعتبار عدتها ممنوع عن وطىء أختها بالنكاح، فيكون ممنوعاً من العقد عليها أيضاً، بمنزلة العدة من النكاح. وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: يجوز أن يتزوج امرأة حاملاً من الزنا، ولا يطأها حتى تضع، وقال أبو يوسف وزفر رحمهما الله: لا يصح النكاح، والفتوى على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله؛ وهذا لأن المنع من النكاح إذا كان الحمل من النكاح لأجل الحق المحترم لصاحب.... يدخل على فراشه غيره، وأما فيما يرجع إلى الحمل بنفسه فأثره في حق المنع من الوطىء؛ كيلا يصير ساقياً زرع غيره بمائة.
وفي «مجموع النوازل» : إذا تزوج امرأة قد زنى هو بها وظهر بها، حبل فالنكاح جائز عندالكل، وله أن يطأها عند الكل، ويستحق النفقة عند الكل.
في «المنتقى» : قال هشام سألت محمداً رحمه الله: رجل تزوج امرأة لم يكن لها زوج قبل ذلك وزنى بها فجاءت بولد لأم لأقل من ستة أشهر من يوم تزوجها، قال: النكاح فاسد في قولي وقول أبي يوسف رحمه الله؛ لأنه تزوجها وهي حامل، وإن جاءت بسقط استبان خلقه أو بعض خلقه لأربعة أشهر منذ تزوجها أو أكثر، النكاح جائز، وإن جاءت به لأقل من ذلك فالنكاح فاسد، قال: لأنه بلغنا أنه يكون نطفة أربعين يوماً ثم علقة أربعين يوماً ثم مضغة أربعين يوماً، فإذا أسقطت لأربعة أشهر منذ تزوجها أو أكثر من ذلك فهو ابن الزوج والنكاح جائز، قال محمد رحمه الله: والأربعة الأشهر وجبت عندي في السقط الذي استبان خلقه مثل الستة الأشهر في الولد التام.
e
قال: ولا نحفظ عن أبي حنيفة رحمه الله في السقط؛ الذي استبان (من) خلقه شيئاً. قال محمد رحمه الله: وإن نقص عدد الأربعة الأشهر من عشرين ومائة يعني في السقط لم أنظر فيه إلى الشهور يعني إلى الأهلّة، وإنما أنظر فيه على عدد الأيام على ما جاء في الحرمة والوقت فيه تمام مائة وعشرين يوماً، وأما الولد التام فعلى عدد الشهور.
فإن تزوجها على رأس عشرة أيام من شهر عددت لها عشرين يوماً من هذا الشهر. وخمسة أشهر بالأهلة، وعشرة أيام من الشهر السادس.
وقال أبو حنيفة رحمه الله في الحربية إذا هاجرت إلى دار الإسلام مسلمة جاز تزوجها ولا عدة عليها. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: عليها العدة لأن البنيونة إنما وقعت بعد دخول دار الإسلام فيلزمها حكم الإسلام، ولأبي حنيفة رحمه الله قوله تعالى في آية المهاجرات: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} (الممتحنة: 10) ومتى حكمنا بوجوب العدة كان حكماً ببقاء العصمة.
والفقه فيه: أن العدة أثر النكاح. حكم الشرع به: إظهار الخطر، وهذا المعنى لا يمكن تحقيقه في نكاح الحربي الذي لا خطر لملكه، ألا ترى أنها لو سُبيت لا تجب العدة، حتى يحل للثاني وطئها بعد الاستبراء، فإن كانت حاملاً، فعن أبي حنيفة رحمه

(3/79)


الله فيه روايتان، روى أبو يوسف عنه: أنه يجوز النكاح فلا يطأها حتى تضع، وهو اختيار الكرخي رحمه الله، وروى محمد رحمه الله عنه: أنه لا يتزوجها؛ لأن النسب ثابت وظهر الفراش في حق النسب، فكذا في حق المنع عن النكاح.

ولا يجوز وطىء كافرة بنكاح ولا ملك يمين، إلا الكتابيات، فنكاح غير الكتابية لا يجوز للمسلم بحال، ونكاح الكتابية يجوز للمسلم سواء كانت حربية أو غير حربية، غير أنها إذا كانت حربية وتزوجها المسلم في دار الإسلام جاز نكاحها من غير كراهة، وإن تزوجها في دار الحرب يجوز نكاحها ويكره هذا، هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» واختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: إنما يكره إذا كان من قصده، وقال بعضهم: إنما يكره إذا كان من قصده أن يطأها ثمة كما قال محمد رحمه الله المغازي: إذا دخل دار الحرب بأمته يكره أن يطأها ثمة، وقال بعضهم: إنما يكره إذا كان من قصده أن يستولدها ثمة.
والمرتدة لا يجوز نكاحها على أحد، وكذا المرتد لا يجوز نكاحه مع أحد. وإذا تزوج الرجل بجارية من اكتساب مكاتبه لا يجوز. ولو تزوج بجارية ثم استبرأه المكاتب لا يفسد النكاح، وكذا المكاتب إذا تزوج بجارية من اكتسابه لا يجوز. ولو تزوج بجارية ثم اشتراها بنفسه لا يفسد النكاح.
والفرق: أن الثابت للمولى في اكتساب المكاتب حق الملك لا حقيقة الملك، وحق الملك يمنع ابتداء النكاح ولا يمنع بقاؤه؛ لأن حق الملك ليس إلا الملك الثابت من وجه دون وجه، فاعتبار شبه الوجود إن كان يبقى النكاح، فاعتبار شبه العدم لا يبقى، فلا يجوز نكاح لم يكن بالشك، ولا يبطل نكاح قد كان بالشك.
وإذا زوج الرجل ابنته وهي بالغة برضاها من مكاتبه أو من عبده يجوز، وقد مرّ هذا فيما تقدم. وإن مات المولى ولم يدع مالاً آخر سوى هذا المكاتب وترك ابنته هذه وعصبته لا يفسد النكاح؛ لأن المرأة لا تملك شيئاً من رقبة زوجها، ولو فسد النكاح في هذه الصورة لفسد من هذا الوجه.

بيانه: أن المكاتب لا يملك بسائر أسباب الملك حقاً للمكاتب، فلا يملك بالإرث أيضاً، فإن طلقها المكاتب فإن كان الطلاق رجعياً كان له أن يراجعها، وإن كان الطلاق بائناً ليس له أن يتزوجها، وهذا لأنه ثبت للمرأة في رقبة المكاتب حق الملك، ولهذا لا يملك المكاتب التزوج إلا برضاها، والطلاق البائن يزيل النكاح، فهذا حال ابتداء النكاح، وحق الملك يمنع ابتداء النكاح، وأما الطلاق الرجعي لا يزيل ملك النكاح، والرجعة في حكم استدامة الملك، وحق الملك لا ينافي استدامة ملك النكاح.
ولو لم يكن شيء من ذلك، ولكن مات المكاتب بعد موت المولى وترك ثلاثة آلاف درهم ومهرها على المكاتب ألف درهم، وبدل الكتابة ألف درهم ابتداء (203أ1) بالمهر ثم يستوفي بدل الكتابة ويحكم بعتقه في آخر جزء من أجزاء حياته، فيكون ذلك ميراثاً عن مولى المكاتب، النصف للبنت والنصف للعصبة.

(3/80)


بقي هنا ألف آخر يكون ميراثاً عن المكاتب لورثته فيكون المثبت الرابع بحكم الزوجية والباقي للعصبة، وإن لم تكن الابنة في نكاح فلا شيء لها من هذه الألف وهي لعصبة المولى، وعليها عدة الوفاة ولو لم ... المكاتب، ولكن عجز فسد النكاح؛ لأنها ملكت نصف رقبة زوجها.
بيانه: أن بالعجز ينفسخ عقد الكتابة وهو المانع من الإرث، وسقط كل الصداق وإن لم يدخل بها لوقوع الفرقة بمعنى من قبلها وهو يملكها شيئاً من رقبة زوجها قبل الدخول بها والله أعلم.

الفصل الخامس عشر: في الأنكحة التي لا تتوقف على الإجازة
والتي تتوقف على الإجازة ثم تنفذ بدون الإجازة وما يحتاج فيه إلى الإجازة.

قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : عبد أو مكاتب تزوج امرأة بغير إذن المولى يوقف ذلك؛ لأن له مجيز حال وقوعه وهو المولى، فإن عتق قبل إجازة المولى ينفذ ذلك العقد عليه من غير إجازة. والصبي إذا تزوج امرأة ثم بلغ إن أجاز ذلك العقد نفذ عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، وإن لم يجز لا يجوز. والفرق: أن امتناع النفاذ في حق العبد والمكاتب مع كمال أهليتهما لحقّ المولى، وحق المولى قد زال بالعتق.
وأما امتناع النفاذ في حق الصبي لقصور أهليته فلا بُدّ من الخبر........ الولي (أو) القاضي أو إجازته بعد البلوغ، فلا ينفد إلا بإجازة الولي والقاضي قبل البلوغ أوإجازته بعد لبلوغ.
مكاتب زوج عبده امرأة لم يجز ولم يتوقف؛ لأنه لا مجيز له حال وقوعه. أما المكاتب لأن تزويج العبد ليس بتجارة ولا كسب، بل هو تغييب وتنقيص للمالية، والداخل تحت ولاية المكاتب التجارة والكسب. وأما المولى؛ فلأنه اغتنى عن اكتساب مكاتبه.
ولو وكَّل المكاتب بذلك وكيلاً كان التوكيل باطلاً؛ لأن المكاتب لا يملك المباشرة بنفسه فلا يملك التعويض إلى غيره، فلو زوجه الوكيل قبل عتق المكاتب لم يجز ولم يتوقف، ولو زوجه بعد عتق المكاتب يوقف على إجازته؛ لأن الوكالة لما بطلت كان هذا فضولياً، زوج عبد الغير وذلك الغير من أهل الإجازة وقت المباشرة فيتوقف على إجازته، ولو تزوج عبد المكاتب بنفسه بغير أم المكاتب لم يتوقف حتى لو عتق المكاتب وأجاز ذلك لا يجوز لأنه لا مجيز له. ولو تزوج بعدما عتق المكاتب جاز.
وإذا وكّل الصبي رجلاً أن يزوجه امرأة فزوجه الوكيل قبل البلوغ؛ يتوقف على

(3/81)


إجازة الولي أو القاضي قبل البلوغ أو إجازته بعد البلوغ.
وإن زوّجَهُ الوكيل امرأة بعد البلوغ يتوقف النكاح على الإجازة أيضاً، ولكن على إجازة الصبي لا غير، وهذا لأن الوكالة حصلت عن رأي.... فلا تكون لازمة، فصار الوكيل كالفضولي فيتوقف نفاد تصرفه على الإجازة.

قال في «الجامع» عبد زوجه رجل امرأتين في عقد بغير إذنه وإذن مولاه، ثم زوجه أيضاً امرأتين في عقد كذلك، ولم يبلغه حتى عتق، فأي العقدين أجازه نفذ. وكذلك لو أجاز إحدى الأوليين ونكاح إحدى الأخريين جاز أيضاً، وهذا لأن نكاح كل واحدة وقع موقوفاً، ألا ترى أن المولى لو أجاز نكاح واحدة منهن قبل العتق جاز، وكذلك إذا أجاز العبد، إلا أن إجازة العبد كانت لا تعمل قبل العتق بحق المولى، وحق المولى قد أسقط بالاعتبار، ولو أجاز نكاحهن جملة بطل الكل؛ لأن العقد ينفد، إلا موقوفاً على إجازة اثنين، فلا يصح إجازة الكل ويصير بإجازة الكل معرضاً عن العقد فيبطل العقدان لعدم الفائدة في اتفاقهما.
ولو أجاز نكاح الثلاث منهن بأعيانهن بطل نكاحهن، وإن أجاز نكاح الواحدة الباقية بعد ذلك صح لأن عقدها بقي موقوفاً فلا يكون إجازة نكاح الثلاث فسخاً لنكاحها؛ لأن الإجازة إنما تعمل في إبطال النكاح الموقوف بعد صحة الإجازة، وإجازة الثلاث لم تصح فبقي نكاح الرابعة موقوفاً على الإجازة فتنفذ بالإجازة.
وفيه أيضاً: حرُّ تحته امرأة زوجه رجل أربع نسوة بعقد بغير أمره، فبلغه الخبر فأجاز نكاح بعضهن لم يجز؛ لأن أصل الخطاب وقع فاسداً، أو زوجه أربع نسوة في عقود متفرقة فأجاز نكاح بعضهن جاز لأن هناك الخطاب ما وقع فاسداً، وإن أجاز نكاحهن في هذه الصورة لم يجز وبطل نكاح الكل، حتى لو أجاز بعد ذلك نكاح بعضهن لا يجوز، ولو بانت امرأته قبل الإجازة في العقد الواحد وفي العقود المتفرقة، ثم أجاز نكاح الكل لم يجز. أما في العقد الواحد فظاهر، وأما في العقود المتفرقة؛ فلأن الموقوف على الإجازة نكاح الثلاثة لا غير.

وفي نكاح «الأصل» رجل تزوج أمة بغير إذن المولى، ثم تزوج حرّة ثم أجاز مولى الأمة نكاحها لم يجز؛ لأن الإجازة لاقت عقداً مفسوخاً؛ لأن نكاح الأمة واقع بعد نكاح الحرة باعتبار النظر إلى ما هو المقصود من العقد وهو الملك والمحل، فانفسخ بنكاح الحرة، أو لأنه أعترض بعد عقد الأمة قبل الإجازة ما يمنع ابتداء عقد الأمة، فمنع الإجازة أيضاً، ألا ترى أنه لو تزوج امرأة نكاحها موقوفاً ثم تزوج أختها، ثم إن الأولى أجازت لم يجز، أرأيت إذا تزوج أم هذه الأمة أو ابنتها، وهي حرة قبل إجازة مولاها، ثم أجاز مولاها أكان يجوز؟ لا شك أنه لا يجوز.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: عبد تزوج أمة ثم تزوج حرة ثم

(3/82)


تزوج أمة ثم أجاز المولى، نكاحهن جاز نكاح الأمة الآخرة، ولو كان دخل بكل واحدة منهن لم يجز نكاح شيء منهن.
وفي «نوادر ابن رستم» عن محمد رحمه الله: عبد تزوج أمة ثم حرة بغير إذن المولى، فبلغ المولى فأجاز النكاحين، فنكاح الحرة جائز ونكاح الأمة باطل.
ولو كان تزوج حرة ثم أمة بغير إذن المولى، فأجاز المولى، فنكاح الحرة جائز ونكاح الأمة باطل في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال محمد رحمه الله: نكاح الأمة جائز ونكاح الحرة باطل؛ لأن محمداً رحمه الله يقول: نكاح الأمة في عدة الحرة جائز.
ومما يتصل بهذا الفصل: انتقال الإجازة إلى غير من توقف العقد عليه. يجب أن يعلم أن العقد قد يتوقف على إجازة الغير ثم تنتقل الإجازة إلى غيره وتصح بإجازته وقد لا يصح انتقال الإجازة إلى غيره.

بيان الأول: إذا زوج رجل ابنة أخيه من ابنه وهما صغيران.... أخيه، إن مات الأب قبل إجازة النكاح وأجاز العم هذا النكاح قبل بلوغها صحت الإجازة ونفد النكاح، وكذلك إذا زوج الرجل ابنه البالغ بغير إذن الابن فلم يبلغه حتى صار معتوهاً فأجاز الأب ذلك النكاح جاز، وكذلك العبد إذا تزوج بغير إذن المولى ثم خرج عن ملكه إلى ملك غيره فأجاز الثاني النكاح صحت إجازته ونفذ العقد.
وكذلك به: أمة زوجت نفسها بغير إذن المولى، ثم خرجت عن ملكه إلى ملك غير البيع أو بالهبة أو بالإرث، فإن لم يحل فزوجها للمالك الثاني بأن ورثها جماعة أو ... أبيه وكان الميت قد وطئها أو باعها أو وهبها (203ب1) . من جماعة أو من أبيه وكان الأب قد وطئها فللوارث الإجازة.
وبيان الثاني: إذا كانت الجارية تحل للثاني في هذه الصورة بأن وهبها من أجنبي، أو باعها من أجنبي، أو وهبها من أجنبي، أو من أبيه ولم يكن الأب قد وطئها، أو ورثها ابنه ولم يكن الأب وطئها، فإنه لا تصح الإجازة من الثاني، ولا يصح النكاح بإجازة الثاني.
والأصل في جنس هذه المسائل: أن الإجازة إنما لا يصح انتقالها إلى غير من توقف العقد عليه؛ إذا ثبت الحل لذلك الغير، وهو يعني ما نقل عن مشايخنا: أن الحل الثابت إذا طرأ على الحل الموقوف أبطله، أما إذا لم يثبت الحل لذلك الغير صح الانتقال إلى غير من وقع عليه، وعن هذا قلنا: إن الجارية إذا زوجت نفسها بغير إذن المولى، ووطئها الزوج ثم باعها الولي من رجل صحّت الإجازة من الثاني؛ لأن وطىء الزوج يمنع ثبوت الحل للمشتري فلم يرتفع الحل الموقوف والله أعلم.

(3/83)


الفصل السادس عشر في المهور
وهذا الفصل يشتمل على أنواع، منه في بيان ما يصح مهراً، وفي بيان مقداره وكميتّه. قال الكرخي رحمه الله في كتابه: المهر لا يكون إلا ما هو مال أو ما هو يوجب تسليم المال، فإن سمى في العقد مالاً كان المملوك في العقد مضموماً بالمسمى، وإن لم يسمّ كان مضموماً مهر المثل حتى لو مات عنها قبل الدخول بها وجب مهر المثل عندنا، بناء على أن النكاح لم يشرع إلا معاوضة البيع بالمال عندنا.
والأصل فيه قوله (تعالى) : {تَبْتَغُواْ بِأَمْولِكُمْ} (النساء: 24) أحلّ ما وراء المحرمات بشرط الابتغاء بالمال، فإذا سمى في العقد ما هو مَعْدوم في الحال بأن تزوجها على ما تثمر أو على ما تخرج أرضه العام، أو على ما يكتسب غلامه العام لا تصح التسمية وكان لها مهر المثل؛ لأن المعدوم لا يوصف بالمالية، ولا يصح ذكره مهراً، وكذا إذا سمى ما ليس بمال للحال من كل وجه بأن تزوجها على ما في بطون غنمها، وعلى ما في بطن جاريته لا تصح التسمية، وكان لها مهر المثل، وكذا لو تزوجها على طلاق امرأة أخرى، أو عفو عن قصاص فلها مهر مثلها؛ لأن المسمى ليس بمال.
وإذا تزوجها على أن لا مهر لها صح النكاح ووجب لها مهر المثل. والنساء التي يعتبر مهرها بمهور من قوم أتها أخواتها لأبيها وأمها، أو لأبيها وعماتها وبنات عماتها، ولا يعتبر مهرها بمهر أمها وقوم أمها، إلا أن تكون أمها من قوم أبيها بأن كانت ابنة عم أبيها فحينئذ يعتبر مهرها؛ لا لأنها أمها؛ بل لأنها ابنت عم أبيها، وإنما يعتبر من.... من هي مثلها في الحسن والجمال والسّن والمال والبكارة، وكذلك يعتبر أن تكون تلك المرأة من بلدتها؛ لأن المهر يختلف باختلاف البلدان.

ومن المشايخ من قال: لا يعتبر الجمال في المرأة إذا كانت من أهل بيت الحسب والشرف والنسب. فإن لم توجد من قوم أبيها امرأة بهذه الصفة؛ ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في أول باب المهر أنه يعتبر مهرها بمهر مثلها من الأجانب في بلدها ولا تعتبر بمهر مثلها من قوم أمها.
وذكر هو أيضاً في مسألة اختلاف الزوجين في هذا الباب: أن على قول أبي حنيفة رحمه الله تقدير مهرها بأقرانها من الأجانب، فكان المذكور في أول باب قولهما، وإذا تزوجها ولم يُسمِّ لها مهراً ثم سمى لها مهراً، أو فرض لها مهراً، أو رافعته إلى القاضي ففرض لها مهراً جاز ويكون ذلك تقديراً لمهر المثل.
وفي «الفتاوى» : سئل أبو القاسم عن امرأة زوجت نفسها بغير مهر، وليس لها مثل في قبيلة أبيها في المال والجمال؛ قال: ننظر إلى قبيلة أخرى مثل قبيلة أبيها فيقضي لها

(3/84)


مهر مثلها من نساء تلك القبيلة، وإنما يعتبر حالها في السن والجمال حالة التزوج.
وفي المهر حقوق ثلاثة:
حق الشرع: وهو أن لا يكون حق من عمر.
وحق الأولياء: وهو أن لا يكون أول من مهر مثلها. وحق المرأة: وهو كونه ملكاً لها، غير أن حق الشرع وحق الأولياء يعتبر وقت العقد لا في حالة البقاء، حتى لو زوجت نفسها من رجل بعشرة ثم أراد أنه عن كلها أو عن بعضها جاز، وكذلك إذا زوجت نفسها من رجل بمقدار مهر مثلها، ثم أراد أنه عن كلها أو بعضها، لا يكون للأولياء حق الاعتراض. وعن هذا قلنا: إذا تزوجها على ثوب قيمته ثمانية فلم يقبضه حتى صارت قيمته عشرة فلها الثوب ودرهمان.
ولو كانت قيمة الثوب عشرة فلم يقبضه حتى صارت قيمته ثمانية فلها الثوب لا غير؛ لأن في الوجه الثاني حق الشرع صار.... إذ قيمة الثوب وقت العقد كانت عشرة، فالانتقاص بعد ذلك لا يصير بخلاف الوجه الأول؛ لأن حق الشرع لم يصر.... لأن قيمة الثوب يوم العقد ثمانية.

وقد ذكرنا أن حق الشرع إنما تداعى وقت العقد، فروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: أن في الثوب وما ليس من ذوات الأمثال تعتبر القيمة يوم التسليم، وفي المكيل والموزون تعتبر القيمة يوم العقد، وهذه الرواية إنما يتضح وجهها؛ إذا لم يكن الثوب معيباً في العقد، ووجه ذلك: أن القيمة أصل في التسليم ألا ترى أنه لو أجبرت على القبول، فتعتبر القيمة يوم التسليم، وأما المكيل والموزون فقد استحكم الوجوب في الذمة، وذكرها الدراهم سواء، فتعتبر القيمة يوم الوجوب.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: إذ تزوج امرأة على قطعة فضة.... عشرة ولا تساوي عشرة مضروبة، جاز ولا يلزمه فضل ما بينهما.
ولو شرط تعليم القرآن مهراً لا يصح؛ لأنه ليس بمال. ولو تزوجها على أن يخدمها سنة لم يجز.
ولو تزوجها على أن يرعى غنمها سنة لم يجز على رواية الأصل. وروى ابن سماعة أنه يجوز في الرعي، وقد اختلف أصحابنا رحمهم الله في هذا؛ فمنهم من يقول: بأن المنفعة صلحت مهراً؛ لأنها متقومة بالعقد، إلا أن الزوج يمنع عن الخدمة لما فيه من الاستهانه ولا استهانة في رعي الغنم فيجوز شرطه.
ومنهم من قال بأن منفعة الحر لا تصلح مهراً، وعلى هذا الأصل قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله: إذا تزوجها على خدمته سنة فلها مهر المثل. وقال محمد رحمه الله: لها قيمة خدمته، فمحمد رحمه الله يقول: بأنّ المنفعة تصلح عوضاً في سائر العقود فتصلح عوضاً في باب النكاح أيضاً، لا أنه منع من التسليم شرعاً لما فيه من الاستهانة به مع صلاحيته مهراً فيصار إلى قيمته، كما لو تزوجها على عبد الغير ولم يجز ذلك

(3/85)


الغير...... بأن المنافع في الأصل ليست.... ولهذا لا يضمن بالغصب، وإنما يظهر لها حكم المالية والتقويم شرعاً بالعقد ضرورة الحاجة إليها، فإذا تمّ يجب التسليم بالعقد ... لا تندفع له الحاجة فبقي حكم الأصل، فلم تظهر المالية والتقويم فيجب مهر المثل.

وفي «المنتقى» عن محمد رحمه الله: إذا تزوجها على خدمت نفسه يجوز، ولو تزوجها على خدمة عبده سنة جاز بلا خلاف (204أ1) .
وإذا تزوجها على هذا العبد وهو ملك الغير، أو على هذه الدار (التي) هي ملك الغير، فالنكاح جائز والتسمية صحيحة، فتسمية مال الغير صداقاً صحيح؛ لأن المسمى مال معدوم، فبعد ذلك ينظر؛ إن أجاز صاحب الدار فصاحب العبد ذلك فلها غير المسمى، وصار الجواب في النكاح مع ... المستحق التسمية نظير الجواب في البيع.
وإن.... المستحق لا يبطل النكاح ولا التسمية، حتى لا يجب مهر المثل، وإنما تجب قيمة المسمى بخلاف البيع، فإن في باب البيع متى لم يجز المستحق التسمية ينفسخ البيع من كل وجه حتى لا تجب قيمة المسمى.
وفي «المنتقى» ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله: رجل تزوج امرأة على عبد لها فلها مهر مثلها، ولم يجعل هذا بمنزلة من تزوج امرأة على عبد غيره؛ لأن الذي له العبد لو أجاز كان جائزاً وليس كذلك المرأة.
وفيه أيضاً: إذا تزوج امرأة على عبد ورفعه إليها ووهبته للزوج، ثم استحق فالمرأة ترجع على الزوج بقيمة العبد.
وفي «الأصل» : إذا تزوجها على شيء بعينه، وهلك قبل التسليم أو استحق؛ فإن كان ذلك من ذوات الأمثال رجعت على الزوج بالمثل وإلا بالقيمة، وإذا تزوجها على ألف درهم على أن ترُدّ ألفاً عليه فلها مهر المثل لأن الألف المشروط بمقابلة الألف المسمى حتى لا تؤدي إلى..... فيبقى النكاح بلا تسمية، حتى تزوجها على ألف درهم على أن تردّ عليه مائة دينار بقيمة الألف على المائة دينار وعلى مهر مثلها؛ فما أصاب الدنانير كان صرفاً يشترط فيه التقابض في المجلس، وما يخص مهر المثل يكون صداقاً وكذلك إذا تزوجها على ألف درهم على أن ردت عليه عبداً بعينه فهو جائز، وتقسم الألف على قيمة العبد ومهر مثلها، فما أصاب قيمة العبد يكون شراءً........ العبد قبل التسليم أو وجد الزوج به عيباً بطل ذلك القدر، وما أصاب مهر مثلها فهو صداقها.

نوع منه: فيما إذا سمى لهامالاً وضمّ إليه ما ليس بمال
وفي «الأصل» : إذا تزوجها على ألف وعلى أرطال معلومة من خمر فليس لها الألف؛ لأن ذكر الخمر جعل كالعدم، فكأنه تزوجها على ألف، ولو تزوجها

(3/86)


على......... وأرطال من خمر معلومة؛ بأن تزوجها قبلاً على خمسة أو ستة وأرطال معلومة من خمر فلها تمام عشرة دراهم؛ لأن ذكر الخمر يعد كالعدم فكأنه تزوجها على خمسة.
ولو تزوجها على هذا الدّن من الخمر وقيمة الطرف عشرة؛ فعن محمد رحمه الله في ذلك روايتان: إحداهما أنه يجب لها الدّن لا غير لأنه جمع بينهما.
d
... يصلح مهراً وبينهما لا يصلح مهراً فهو كما لو جمع بين الخل والخمر على ما يأتي بعد هذا إن شاء الله. وفي رواية أخرى عنه: أنه يجب مهر المثل؛ لأن الطرف لا يقصد بالعقد وإنما يقصد ما فيه، وقد لغت تسمية ما في الطرف فبلغوا تسمية الطرف بطريق التبعية.
فإذا تزوجها على ألف وعلى طلاق فلانة وقع الطلاق على فلانة؛ بنفس العقد، بخلاف ما إذا تزوجها على ألف وعلى أن يطلق فلانة؛ لأن في الفصل الأوّل أوجب الطلاق عوضاً بالعقد، والعوض ثبت بنفس العقد، وفي القصد ما أوجب الطلاق عوضاً، إنما شرط التطليق فلا يقع الطلاق ما لم تطلق. ثم إذا شرط التطليق ولم يطلق فلانة كان لها....... مهر مثلها؛ لأنها إنما رضيت بالنقصان عن مهر المثل ليحصل لها منفعة طلاق الضرة، فإذا لم يسلم لها ذلك كان لها تمام مهر مثلها كما لو تزوجها على ألف درهم وعلى كرامتها، أو تزوجها على ألف درهم وعلى أن هذي لها هدية فلم يف بالشرط والمعنى ما ذكرنا، وكذلك في كل شرط لها فيه منفعة، إذا لم يف الزوج بالشرط.
ولو تزوجها على ألف درهم وعلى طلاق ضرتها فلانة على إن ردت عليه عبداً وقع الطلاق بنفس العقد، وانقسم الألف والطلاق على بعضها وعلى العبد، وهذا لأن الزوج بذل شيئاً: الألف والطلاق. والمرأة بذلت شيئين أيضاً: البضع والعبد

فانقسم الطلاق والألف على البضع وقيمة العبد، فإذا كانت قيمة العبد وقيمة البضع سواء كان نصف الألف ونصف الطلاق عوضاً عن العبد، ونصف الألف ونصف الطلاق عن البضع صداقها، وانقسم البضع والعبد على الطلاق والألف أيضاً، وصار بمقابلة الطلاق نصف العبد ونصف البضع، ويكون طلاق فلانة في هذه الصورة بائناً؛ لأن بمقابلة الطلاق نصف العبد ونصف البضع فيكون طلاقاً يحصل.
ثم إنما جعلنا نصف العبد ونصف البضع بمقابلة الطلاق؛ لأن المجهول إذا لم يضم إلى المعلوم فالانقسام باعتبار الذات دون القيمة، وجعل الطلاق الذي ليس بمتقوم ولا مقدر متقوماً ومقدراً بانضمام ما هو متقوم ومقدر إليه.
فإن استحق العبد أو هلك قبل التسليم رجع بخمس مائة حصة العبد، ورجع بنصف قيمة العبد أيضاً؛ لأن نصف العبد بمقابلة نصف الطلاق. واستحقاق الجعل وهلاكه قبل التسليم يوجب قيمته على من كان...... تسليمه.
وإن كان تزوجها على ألف وعلى أن يطلق ضرتها فلانة على إن ردت عليه

(3/87)


عبداً.... لا يقع الطلاق على الضرّة ما لم يطلقها فصار نصف الألف صداقاً لها، والنصف ثمن العبد إذا كان قيمة البضع، وقيمة العبد على السواء، فبعد ذلك ينظر؛ إن وفّى لها بالشرط بأن يطلق فلانة فلها الخمسمائة لا غير، فإن لم يطلق فلانة فلها تمام مهر مثلها لأنها، إنما نقصت عن مهر المثل رغبة في طلاق ضرتها.... عدم حصول المرغوب كان لها تمام مهر مثلها والله أعلم.
نوع منه: في المهر يدخل الجهالة
الأصل: أن جهالة المسمى إذا كانت جهالة جنس تمنع صحة التمسية ويجب مهر المثل. وإن كانت جهالة وصف لا يمنع صحة التسمية وللمرأة الوسط من ذلك.

بيان الأول: إذا تزوج امرأة على دابة أو ثوب فلها مهر مثلها بالغاً ما بلغ. وكذلك إذا تزوجها على دار، لأن المسمى مجهول الجنس.... أجناس مختلفة، لاختلاف أصولها من القطن والكتاب والإبريسم والخز. وكذلك الدابة؛ لأن اسم الدابة يقع على الخيل والبغال والحمير، وأنها أجناس، وكذلك الدار؛ لأنها في معنى الأجناس المختلفة، فإنها تختلف باختلاف البلدان والمحالّ، وباختلاف الضيق والسعة وكثرة المرافق وقلتها.
بيان الثاني: إذا تزوج امرأة على عبد أو ثوب هروي ولم يصف، فالتسمية صحيحة ولها الوسط من ذلك نظراً للجانبين، والزوج بالخيار إن شاء أعطاها الوسط؛ وإن شاء أعطاها القيمة لأن الوسط لا يعرف إلا بالقيمة، فتسليم الغير تسليم ما هو المستحق بالعقد فصارت القيمة أصلاً في التسليم والسوط من.... في زماننا أدنى التركي وأرفع الهندي، وتعتبر قيمة الوسط في الوسط على قدر غلاء السعر والرخص عندهما وهو الصحيح، وهذا (204ب1) إذا ذكر العبد والثور مطلقاً غير مضاف إلى نفسه، أما إذا ذكره مضافاً إلى نفسه فإن قال: تزوجتك على عبدي، أو قال.... ليس له أن يعطي القيمة؛ لأن الإضافة من أسباب التعريف كالإشارة، ولو كان العبد والثوب مشار إليه في العقد ليس له أن يعطيها القيمة فكذا هنا، والمسألة مذكورة في «السير» في أبواب الإمام.
ولو تزوجها على ثوب موصوف فكذلك الجواب في ظاهر الرواية للزوج الخيار إن شاء أعطاها غير الثوب، وإن شاء أعطاها القيمة، فروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يجبر على تسليم عين الثوب، وهو قول زفر رحمه الله؛ لأن الثوب بذكر الصفة يلتحق بذوات الأمثال، ألا ترى أن يجوز السلم فيه، وعن أبي يوسف رحمه الله: إن ذكر الأجل مع ذلك يجبر على التسليم، وإن لم يذكر الأجل كان للزوج الخيار؛ لأنه إذا ذكر الأجل صار نظير السلم فيجبر على التسليم كما في السلم.
وذكر «البقالي» : إن في الثياب الموصوفة روايتان.

(3/88)


ولو تزوجها على كر حنطة ولم يصف، فإن شاء أعطى كراً وسطاً، وإن شاء أعطى القيمة، فروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يجبر على تسليم الكر، وهو قول زفر رحمه الله بخلاف العبد على هذه الرواية، فإن هناك لا يجبر على تسليم العبد مع أن الواجب في الصورتين جميعاً الوسط؛ لأن العبد من ذوات الأمثال، فطريق معرفة الوسط فيه القيمة فكانت القيمة أصلاً في التسليم فلا كذلك الحنطة؛ لأنها من ذوات الأمثال، فيمكن معرفة الوسط منها بدون القيمة فلم تكن القيمة أصلاً في التسليم ثمة.
والجواب في سائر المكيلات والموزونات نظير الجواب في الحنطة. وإذا تزوجها على شيء مما يكال أو يوزن فسمى منه كيلاً أو وزناً معلوماً من صنف معلوم فلما ما سمى من ذلك، وإن جاء بقيمته دراهم أو دنانير لم تجبر المرأة على القبول بخلاف الحيوان والثوب الهروي، هكذا ذكر الشيخ الإسلام رحمه الله في «النوادر» .
إذا تزوجها على مكيل ووصفه بحيث يكفي مثله في السلم لا يجبر على قبول القيمة، وإن قصر في الوصف وترك شيئاً مما يشترط في السلم أجبرت على قبول القيمة، وهو قول زفر رحمه الله.
ولو تزوجها على بيت فاسم البيت في عرفنا ينصرف إلى المبني من المدر، فإنه لا يصلح صداقاً إذا لم يكن تعينه. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: إذا تزوجها على ألف رطل خل فإن كان الغالب في ذلك البلد خل التمر فهو عليه، إن كان الغالب خل الخمر فهو عليه، وكذلك لو تزوجها على كذا رطل لبن فهو على الغالب من ذلك، فإن لم يكن واحد منهما غالباً فلما مهر المثل، لأن هذا من جنسين، ألا ترى أنه لو اشتراه على أنه خل خمر، فإذا هو خل تمر كان البيع فاسداً.
ولو تزوجها على كر تمر فلها كر تمر وسط، قال: لأن هذا جنس واحد.

وفي «المنتقى» عن محمد رحمه الله، قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا تزوج امرأة على ما له من الحق من هذه الدار، قال: أفرض لها مهر المثل لا أجاوزنه قيمة الدار، وفي قولنا: لها ما كان من الحق في الدار لا غير، إذا بلغ ذلك عشرة.
وفي «المنتقى» : أيضاً عن أبي حنيفة رحمه الله: إذا تزوجها بنصيبه من هذه الدار، فلها الخيار إن شاءت أخذت النصيب، وإن شاءت أخذت مهر المثل لا يجاوزنه قيمة الدار.
وفيه أيضاً: إذا تزوجها على دراهم ولم يسم كم هي فلها مهر مثلها، قال: لا يشبه هذا الخلع، ولو قال: تزوجتك على ثوب يساوي خمسين درهماً فلها مهر المثل، وقال أبو حنيفة: إذا تزوجها على قيمة هذا الثوب فلها مهر المثل عن محمد رحمه الله: إذا تزوجها على ألف فهذا على أقربهما على مهر مثلها من الدراهم والدنانير، وإذا تزوجها على ألف دينار ولم يسم نيسابورياً أو تجارياً أو ملكنا فقد قيل: يجب مهر

(3/89)


المثل لأن اسم الدينار يقع على جميع هذه الأنواع، وكان المسمى مجهولاً، وقيل لها الوسط، وهو التجاري؛ لأن هذه جهالة نوع، فلا تمنع صحة التسمية وينصرف إلى الوسط، كما في العبد والثوب الهروي.
وفي «الجامع الأصغر» : إذا تزوجها على دراهم وفي البلد نقود مختلفة ينصرف إلى الغالب، وإن لم يكن نظر إلى مهر مثلها وإلى تلك النقود ما بها وافق مهر المثل حكم لما به.
وإذا تزوجها على ناقة من إبله هذه فلها مهر مثلها في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: يعطيها ما شاء من تلك الإبل.
روى بشر في «نوادره» : وكذا لو تزوجها على ملأ هذا البيت أو هذا الجوالق أو هذا الرطل حنطة، فلها مهر المثل عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند أبي يوسف رحمه الله لها المسمى فإن أو الجوالق صدق في مقداره.

قال في «البقالي» : عقب ذكر مسألة ... وكذلك إذا تزوجها بوزن هذا الحجر، أو بقية هذا العبد، أو بجميع ما يملك أو على مهر فلانة ولو تزوجها على حكمها أو حكم أجنبي أو حكمه فالتسمية فاسدة، فبعد ذلك ينظر، إن شرط حكمه وحكم مهر المثل أو أكثر فلما ذلك، وإن حكم بالأول فلها مهر المثل إلا أن ترضى المرأة، وإن شرط حكمها وحكمت بمهر المثل، أو أقل فلها ذلك، وإن حكمت باأكثر فلها مهر المثل إلا أن يرضى الزوج. وإن شرط حكم أجنبي، فإن حكم بأقل من مهر المثل لم يجز إلا برضى المرأة، وإن حكم بأكثر من مهر المثل لم يجب إلا برضى الزوج، وإن حكم بمهر المثل جاز حكمه ولا يتوقف على الرضى والله أعلم.
نوع منه في الرجل يتزوج امرأة على مهر فهو حد على خلاف ما سمى
قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا تزوج امرأة على عبد معين، أو دن من خل معين، أو شاة ذكية معينة، فوجد العبد حراً أو الخل خمراً أو الشاة ميتة، فلها مهر المثل في جميع ذلك.
وقال أبو يوسف رحمه الله: لها مهر مثل ذلك العبد عندنا ومثل ذلك الدن من خل وسط، ومثل تلك الشاة ذكية.
وقال محمد رحمه الله: في الميتة كما قال أبو حنيفة. في الخمر الخمر كما قال أبو يوسف رحمه الله.
هذه المسألة في الحاصل، بناء على أصل معروف في البيوع: أن الإشارة مع التسمية إذا اجتمعوا والمشار إليه من خلاف جنس المسمى، فالعبرة للتسمية. وإن كان

(3/90)


المشار إليه من جنس المسمى إلا أنهما يختلفان وصفاً فالعبرة للإشارة بعد هذا. قال أبو يوسف رحمه الله: الحر مع العبد والخل مع الخمر جنسان مختلفان؛ لأن أحدهما مال يصلح صداقاً، والآخر ليس بمال لا يصلح صداقاً، يتعلق الحكم بالتسمية والمسمى حال، فاعتبرت الإشارة لبيان وصف المسمى، كأنه قال: علي مثل هذا العبد في الوصف فكذا في الخل والشاة. محمد رحمه الله يقول: الخل من الخمر جنسان مختلفان؛ لأن المطلوب من كل واحد منهما غير المطلوب من الآخر، وأما الحر مع العبد جنس واحد؛ لأن منفعة الحر مع العبد تحصل على نمط واحد، فكانت العبرة للإشارة. والمشار إليه لا يصلح مهراً، فصار كأنه قال: تزوجتك على هذا، أو سكت.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول: اختلاف الجنس باختلاف الصورة والمعنى؛ لأن قيام الشيىء (205أ1) بالصورة والمعنى، وصورة الخل والخمر تنفي معنى المجانسة من وجه، فلم يسقط حكم الإشارة فيجب مهر المثل.
ولو سمى حراماً وأشار إلى حلال بأن قال: تزوجتك على هذا الخمر، وأشار إلى الخل.
وتزوجتك على هذا الحر وأشار إلى العبد، فلها المشار إليه في ظاهر قول أبي حنيفة رحمه الله، وهو قول أبي يوسف رحمه الله اعتبار الإشارة.
عن محمد عن أبي حنيفة رحمها الله: أن يجب مهر المثل لأنه.... التسمية مسقط حكم التسمية أصلاً، وعن محمد رحمه الله: أن لها المشار إليه، وفي رواية أخرى عنه أن لها مهر المثل.
ولو جمع بين حر وعبد وخل وخمر فقد روي عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله: إن لها الحلال المشار إليه لا غير، إذا بلغ عشرة وإلا....، وفي رواية مهر المثل أخرى عنه إذا كان الحلال أقل من مهر المثل، فإنه يبلغ.

وقال أبو يوسف رحمه الله: لها العبد، وقيمة الحر لو كان عبداً، وقال محمد رحمه الله: لها الحلال المسمى لا غير.
في «نوادر ابن سماعة» : رجل تزوج امرأة على شيء، وأشار إلى شيء بعينه وسمى شيئاً سواه وكانا جميعاً حلال فلها مثل الذي سمى، وإن كان أحدهما حراماً، إما الذي سمى، وإما الذي أشار إليه فلها مهر المثل، قال: لا يشبه: إذا كانا حلالين، إذا كان أحدهما حراماً، معنى قوله في ابتداء المسألة: أشار إليه بعينه وسمى شيئاً سواه، وسمى نوعاً آخر. الحاصل: في النوعين يعتبر المسمى على ما ذكرنا فإذا كانا حلالين يجب مثل المسمى، وإذا كان أحدهما حراماً يجب مهر المثل.
بيانه: إذا تزوجها على هذا الثوب الهروي، فذا هو مروي فلها ثوب هروي مثل جودة التي رأته، وكذلك إذا تزوجها على هذا الدن الخل، فإذا هو طلاء فلها خل مثل كيل الطلي.

(3/91)


وإن قال: على هذا الدن من الخمر فإذا هو خل فلها مهر المثلها، قال.... جعلنا على التسمية.... نوعان وهما إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله على ما ذكرنا.
ولو تزوجها على هذه الشاة الميتة فإذا هي ذكية أو هي حية، قال: هذا نوع واحد فيقع العقد على المشار إليه ولا تعتبر فيه التسمية، وكان المشار إليه ميتة فلها مهر مثلها، وإن كان قد سمى ذكية، وإن المشار إليه ذكية أو حية فلها ذلك، وإن كان قد سمى ميتة.
وذكر الحسن عن أبي يوسف رحمه الله في «كتاب الأختلاف» : إذا تزوج امرأة على عبد وهو لا يعلم حاله، فإذا هو حر فلها قيمته، وإن كانت تعلم أنه حر فلها مهر مثلها، وإن كان مدبراً أو مكاتباً أو أم ولد وهي تعلم بذلك، أو لم تعلم وكان مشكلاً وقت العقد فلها قيمته.
وفي «نوادر إبراهيم» عن محمد رحمه الله: إذا تزوج امرأة على هذه الشاة، فإذا هي خنزير فلها مهر مثلها في قول أبي حنيفة رحمه الله، وفي قول أبي يوسف رحمه الله.
وقولنا عليه قيمة شاة وسط.

وفي «نوادر ابن سماعة» : عن محمد رحمه الله: إن عليه شاة وسط.
وقال محمد رحمه الله في «الإملاء» : إذا تزوجها على هذه الشاة فإذا هي خنزيراً، أو على هذا الخنزير، فإذا هي شاة وهي تعلم حالة المشار إليه، فالنكاح على المشار إليه، ولا تعتبر فيه التسمية فبعد ذلك ينظر إن كانت المشار إليه حلالاً فلها ذلك مهراً وليس لها غير ذلك، وإن كان حراماً فلها مهر مثلها.
قال: ألا ترى أن رجلاً لو قال لآخر: ابتعتك هذا الخنزير بألف، وأشار إلى الشاة وهما يعلمان أنها شاة، فالبيع جائز وكذلك إذا قال لغيره: ابتعتك هذا الخنزير بألف وأشار إلى عبد وهما يعلمان أنه عبد فالبيع جائز، وإن كان مشكلاً فالبيع باطل في قولهم، وهذه المسألة مع أجناسها بناء على أصل أن الإشارة مع التسمية إذا اجتمعنا والمشار إليه خلاف جنس المسمى، إنما يتعلق العقد بالمسمى: إذا لم يعلم المتعاقدان حال المشار إليه، أما إذا علم المتعاقدان حال المشار إليه فالعقد يتعلق بالمشار إليه، وسائل هذا الأصل مذكورة في «الزيادات» في باب الوكالة بالشيء يكون على غير ما أمرته.
وفي «المنتقى» عن محمد رحمه الله: إذا تزوج امرأة على أرض وحددها على أن فيها نخلاً فيها عشرة، أجرته ببعضها المرأة فإذا تبينت أجرته وكان ذلك مثل أن يزرعها فلها الخيار؛ إن شاءت أخذت الأرض ولا شيء لها غيرها، وإن شاءت ردت الأرض وأخذت أو وهبتها وسلمتها ثم علمت أنها سنة أجرتها فلا شيء لها غير الأرض؛ لأن الزوج يقول لها: ردي الأرض وخذي قيمة عشرة أجرته، وكذلك اللؤلؤة إذا انتقصت من وزنها، والثياب إذا انتقصت من ذراعها، ولو لم يكن باعها فلا.... ولكن غلب عليها

(3/92)


دجلة أو نحوها من الأنهار مجرى فيها فصارت مستهلكة ثم ملحت لها سنة أجرته رجعت على الزوج بتمام قيمة الأرض.

وكذلك إذا تزوجها على عشر أثواب هروية ... على أن كل ثوب منها عشاري فوجد كلها.... فهي بالخيار إن شاءت أخذتها وإن شاءت ردتها وأخذت قيمتها لو كانت عشارية على مثل حالة التي هي عليه، فإن وجدت كلها عشارية إلا واحدة منها فإنها.... فهي بالخيار، إن شاءت أخذت الثياب العشارية وردت الثوب الذي وجدته ساعيا وأخذت قيمته لو كانت عشارية على مثل جودته ورفعته.
وإذا تزوج امرأة على الأرض على أن فيها ألف نخلة وحددها، أو تزوجها على دار وحددها على أنها مبنية بالآجر والجص والساج، فإذا الأرض لا يخيل منها، والدار لا بناء فيها، فهي بالخيار، إن شاءت أخذت الدار والأرض ولا شيء غير، وإن شاءت أخذ مهر مثلها، وإن طلقها قبل أن يدخل بها لم يكن لها إلا نصف الأرض ونصف الدار على وحدتها عليه إلا أن تكون متعتها أكثر من ذلك فيكون الخيار للمرأة، إن شاءت أخذت نصف الأرض ونصف الدار لا شيء غير ذلك، وإن شاءت أخذت المتعة والله أعلم.
نوع منه في الشروط ف يالمهر
إذا تزوج امرأة على ألف درهم أو على ألفي درهم فالنكاح جائز ويحكم مهر المثل عند أبي حنيفة رحمه الله، فإن كان مهر مثلها ألف أو أقل فلها ألف، وإن كان ألفان أو أكثر فلها الألفان، وإن كان أكثر من ألف أو أقل من ألفي فلها مهر مثلها.
فالحاصل: أن عنده لا ينقص عن الأقل، ولا يزاد على الأكثر، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لها الألف في الوجوه كلها، وهذه المسألة بناء على أن الموجب الأصل في باب النكاح عند أبي حنيفة رحمه الله مهر المثل، وإنما يصار إلى المسمى عند صحة التسمية من كل وجه، وعندهما الموجب الأصلي المسمى، وإنما يصار إلى مهر المثل عند فساد التسمية من كل وجه وعلى هذا الأصل مسألة ذكرها محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» وصورتها:
إذا تزوج امرأة على ألف حالة أو على ألف إلى سنة فعلء قول أبي حنيفة رحمه الله: يحكم مهر المثل، وإن كان مهر مثلها ألف درهم أو أكثر فلها ألف حالة، وإن كان أقل من ألف فلها إلى سنة وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: لها ألف إلى سنة على حال، وهذا لأن تأخير الأجل في نقصان المالية، ولهذا التجار يشترون بالنقد بأقل مما يشترون بالنسيئه ولما كان هكذا كان الزوج على ألف حالّة أو ألف نسيئة بمنزلة ... الزوج على ألف أو على ألفين.

(3/93)


وهناك الجواب على الاختلاف كذا هنا، فلو كان تزوجها على ألف حالة أو على ألفين إلى سنة، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله إن كان مهر مثلها ألفي درهم أو أكثر كانت المرأة بالخيار؛ إن شاءت أخذت ألفي درهم إلى سنة وإن شاءت أخذت ألفاً حالة؛ لأن المرأة رضيت عن نقصان مهرها على كل حال.
بعد هذا نقول: الألف أزيد وصفاً وأنقص قدراً، والألفان أزيد قدراً أو أنقص وصفاً لما من أن المؤجل أنقص من المال والإنسان مدة يختار هذا لتعجله، ومدة يختار داراً لكبرته. وإن كان مهر مثلها أول من الألف فالخيار إلى الزوج يعطيها أي المال شاء لأنه..... إحدى الزيادتين، فكان الخيار كما في جانب المرأة.
وإن كان مهر مثلها أكثر من ألف، أو أقل من ألفين فلها مهر مثلها في قول أبي حنيفة رحمه الله لما ذكرنا: أنه إنما يعدل عن مهر المثل عنده عند استقرار التسمية، وعندهما الخيار إلى الزوج في الوجوه كلها؛ لأنه لا يلزمه للأول، والأول مما يختاره الزوج.
فرّق أبو حنيفة رحمه الله بين هذا وبين الخلع على ألف أو ألفين، والإعتاق على ألف أو ألفين، فإن هناك جوابه كجوابهما.

والفرق أنه ليس للخلع موجب أصلي يُصار إليه فيجب المتيقن من المسمّي، فالنكاح موجب أصلي، وهو مهر المثل لا يعدل عنه إلا بعد استقرار التسمية. إذا تزوجها على ألف إن لم يخرجها من البلدة، وعلى ألفين إن أخرجها فالنكاح جائز، والمعتبر في المهر الشرط. فإن وفّى به الأول فلها المسمى على ذلك الشرط، وإن لم يف فلها مهر المثل لا ينقص عن الأول، ولا يزاد على الأكثر، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: الشرطان جائزان.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا تزوج امرأة على ألف إن كانت قبيحة وعلى ألفين، إن كانت جميلة. فإن كانت جميلة؛ فلها الألفان. وإن كانت قبيحة فلها الألف، وهذا بلا خلاف، وفرّق أبو حنيفة رحمه الله بين هذا وبين ما إذا تزوج على ألف وبينما إذا تزوجها على ألفين إن أخرجها من القرية، وعلى ألفين إن لم يخرجها فإن الشرط الأول جائز عنده، والشرط الثاني فاسد. والفرق أن في مسألة الإخراج دخلت المخاطرة في التسمية فإنه لا يدري أن الزوج يخرجها أو لا يخرجها.
وفي مسألة القبح والجمال والمخاطرة أصلاً، فإن المرأة على صفة واحدة قبيحة كانت أو جميلة، لكن الزوج لا يعرف وجهالته لا توجب الخطر. وذكر نجم الدين النسفي رحمه الله في شرح «الشافي» : أن من تزوج امرأة على ألف إن كانت أعجمية وعلى ألفين إن كانت عربية وجعلها بمنزلة شرط الإخراج من البلدة. وما ذكر من الفرق يشكل بهذه المسألة.

(3/94)


وإذا تزوجها على هذا العبد أو على هذا العبد بحكم مهر المثل عند أبي حنيفة رحمه الله فإن كان مهر مثلها مثل ذويها قيمة فلها الأدون إلا أن يرضى الزوج بالأرفع، فإن كان مثل أرفعها قيمة فلها الأرفع إلا أن ترضى المرأة بالأدون، وإن كان فيما بين ذلك فلها مهر المثل.
وفي «المنتقى» : إذا قال لامرأة: أتزوجك على ألف على أن تزوجيني فلانة بمهر من عندك يعطها إيّاه وتزوجها على ذلك كان النكاح بحصتها من الألف إذا قسم على مهرها فليس (لها) أن تزوجه فلانة.

ولو قال: أتزوجك على أن تزوجيني فلانة بألف، فقبلت ذلك وتزوجت، فهذه امرأة قد تزوجت بغير مهر مسمى فلها مثل نسائها. كرجل تزوج امرأة على ألف على أن تردّ عليه ألف درهم، ولو أن المرأة التي شرط نكاحها ووجب....... بخمس مائة جاز، ونكاح الأولى على ما وضعت لك بغير مهر مسمى.
وفيه أيضاً: لو تزوج امرأة على أن يهب لأبيها ألف درهم، فهذا الألف لا يكون مهراً ولا يجبر على أن يهب، ولها مهر مثلها، وإن سلّم الألف فهو للواهب وله أن يرجع فيها إن شاء.
ولو قال له: على أن أهب له عنك ألف درهم فالألف مهر إن طلقها قبل الدخول، وقد وقع الهبة.... عليها بنصف ذلك وهي الواهبة.
وفيه أيضاً: لو تزوجها على أن يعطيها عبد فلان، فالنكاح جائز والشرط باطل.
ابن سماعة عن محمد رحمه الله: رجل تزوج امرأة على ألفين، ألفاً لها وألفاً لأبيها، أو قالت المرأة زوجت نفسي منك على ألفين ألفاً لي وألفاً لأبي فذلك جائز والألفين لها.
وعنه أيضاً: رجل تزوج ابنة من رجل على ألفي درهم وأشهد على نفسه أنه زوج فلانة من فلان بألفي درهم على أن عليّ ألف درهم من مالي، وعلى فلان ألف درهم، فقبل الزوج بالمهر فالمهر كله على الزوج والأب ضامنٌ عنه من ألف درهم. فإن أخذت المرأة ذلك من أبيها أو ميراثها كان للأب أو لورثته أن يرجع بذلك على الزوج؛ لأن قول الأب على أنّ ألف درهم عليّ من مالي بمنزلة الضمان لذلك، والزوج لما قبل العقد بالمهر فقد أجاز ذلك الضمان فصار كأنه أمره به.
وفي «نوادر ابن هشام» عن محمد رحمه الله: أولياء المرأة إذا قالوا للذي يريد أن يتزوجها: زوجناك على ألف درهم على أن مائة منها لك فهو جائز، والمهر تسعمائة ولو قالوا: زوجناك على ألف درهم على أن لنا خمسين ديناراً فالدراهم والدنانير كلها للمرأة.

وعنه أيضاً: رجل تزوج امرأة على خادم على أن يخدم الخادم الزوج ما عاش، قال: إن كان مهر ... المرأة مثل قيمة الخادم فلها مهر مثلها إلا أن يشاء...... الزوج لها الخادم بغير خدمة.

(3/95)


فروى بشر عن أبي يوسف رحمه الله: رجل تزوج امرأة على جارية على أن له خدمتها ما عاش أو في بطنها، قال: الجارية وما في بطنها وخدمتها كلّه للمرأة وكذلك الغنم، ولو قال: على أن أصوافها لي فالصوف له استحساناً.
الحسن بن زياد في كتاب «الاختلاف» عن أبي يوسف رحمه الله. رجل (قال) لامرأته أتزوجك على ألف على أن أهب لك عبدي فداء، فتزوجها على ذلك قال: إن دفع الذي سمى فهو مهرها، وإن أبى (أن) يزيد لا يجبر عليه، فكان عليه مهر مثلها لا يجاوز بذلك الألف، ولا قيمة العبد، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله.
ابن سماعة عن محمد رحمه الله: امرأة زوجت نفسها من رجل على أن أبرأ فلاناً ممّا له عليه من (الدين) بدين: ... فلان منه، ولها على الزوج مهر مثلها، وعن أبي يوسف رحمه الله في «الأمالي» : إذا زوج ابنته على أن يبرئه من الدين الذي له عليه أو زوجت المرأة نفسها على أن يبرئها من الدين الذي له عليها وهو كذا فالبراءة جائزة ولها مهر مثلها.
نوع منه في الزيادة في المهر وما في معنى الزيادة
الزيادة في المهر صحيحة، قال: قيام النكاح عند علمائنا الثلاثة خلافاً لزفر رحمه الله والخلاف فيه نظير الخلاف في الزيادة في الثمن. هكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرحه.
وفي «المنتقى» ذكر أبو سليمان عن أبي يوسف رحمه الله أن الزيادة في المهر جائزة (206أم) عند أبي حنيفة رحمه الله، وفي قول أبي يوسف رحمه الله لا يجوز.

وفي «فتاوى» أبي الليث رحمه الله: أن الزيادة في المهر بعد الفرقة باطلة، وهكذا روى بشر عن أبي يوسف رحمه الله، وصورة ما روى بشر: إذا طلق امرأته ثلاثاً قبل الدخول بها أو بعده، ثم رادّها في المهر لم يصح، وكذلك إذ انقضت عدة المطلقة طلاقاً رجعياً ثم رادّها في المهر بعد ذلك لم تصح الزيادة.
وفي القدوري: أن الزيادة في المهر بعد موت المرأة جائزة عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا يجوز.
وفي «فتاوى» أبي الليث إذا وهب المرأة مهرها من زوجها، ثم إن الزوج بعد ذلك أشهد أن عليه لها كذا من المهر تكلموا فيه. واختار الفقيه أبو الليث رحمه الله: أنه يجوز إقراره لأنه أمكن تجويز إقراره بأن يجعل الزوج زائداً لها في مهرها فينقضي هذا الإقرار وأمكن جعله زائداً لها، فإن الزيادة في المهر بعد هبة المهر صحيحة.
وإذا تزوجها بألف درهم، ثم جدّد العقد بألفي درهم، فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لا تثبت الزيادة، فيكون مهرها ألف درهم. وعلى قول محمد رحمه

(3/96)


الله: تثبت الزيادة ويكون مهرها ألفا درهم. هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في شرح النكاح، وذكر شمس الأئمة السرخسي في شرحه: أن على قول أبي حنيفة رحمه الله تثبت زيادة المهر، وعلى قولهما لا تثبت الزيادة. وفي شرح «مختصر الطحاوي» : أن على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تثبت الزيادة، وعلى قول: لا تثبت الزيادة. وفي «إقرار المختصر» : أنه لا تثبت الزيادة من غير خلاف.
وإذا تزوج امرأة على صداق في السّر وسمع في العلانية بأكثر، من ذلك فالمسألة على وجهين:

الأول: أن يتواضعا في السر على مهر ثم يتعاقدا في العلانية بأكثر فيقول: إن كان ما تعاقدا عليه في العلانية من.... عليه في السر، إلا أنه أكثر مما تواضعا عليه في السر، فإن اتفقا على المواضعة وأشهد الرجل عليها أو على وليها أن المهر هو المسمى في السر والزيادة سمعه والمهر ما تواضعا عليه في السر. وإن اختلفا وادعى الزوج المواضعة في السر على ألف وأنكرت المرأة المواضعة على ذلك فالمهر هو المسمى في العقد ويكون القول قول المرأة إلا أن يقوم الزوج ببينة.
وذكر ابن سماعة في «نوادره» عن محمد رحمه الله: إذا أشهد الزوج على نفسه في السّر أن المهر (الذي) يريد أن يتزوج عليه ألف، ثم أشهد على نفسه من الغد بألفين قال أبو حنيفة رحمه الله: المهر ألفان.
وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا أشهدت الشهود أنه قد أشهدها في السّر أن المهر ألف وأنه يسمع بألفين فالمهر ألف، قالوا: هذا خلاف ما حكي عن أبي حنيفة رحمه الله في الأصل، وإن كان ما تعاقدا عليه في العلانية من خلاف جنس ما تواضعا عليه؛ فإن لم يتفقا على المواضعة فالمهر (هو) المهر المسمى في العقد، وإن اتفقا على المواضعة ينعقد النكاح (على) مهر المثل.
الوجه الثاني: أن يتعاقدا في السر ثم أقرّ في العلانية بأكثر من ذلك فإن اتفقا على.... في السر أو أشهد أن الزيادة في العلانية سمعه والمهر هو المذكور عند العقد في السر.
وأما إذا لم يشهد أن الزيادة في العلانية سمعه. ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أن على قول أبي حنيفة: المهر مهر العلانية فيكون هذا منه زيادة لها في المهر، وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله هو الأول.

وفي «شرح مختصر الطحاوي» : أن على قول أبي يوسف رحمه الله المهر هو الأول، وعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: المهر مهر العلانية، فيكون زيادة على المهر الأول سواء كان من جنسه أو من خلاف جنسه، غير أنه كان من خلاف جنسه فجميعه يكون زيادة على المهر الأول. وإن كان من جنسه فتقدر الزيادة على المهر الأول تكون زيادة.

(3/97)


فروى ابن سماعة في «نوادره» : وإنما تتأكد الزيادة إما بالدخول بها أو بالخلوة الصحيحة أو بموت أحدهما، حتى لو وقعت الفرقة بينهما قبل وجود واحد من هذه الأشياء بطلت الزيادة وينتصف الأصل دون الزيادة.
وذكر شيخ الإسلام رحمه الله: أنهما إذا تعاقدا في السر بألف وأظهرا في العلانية خلاف ذلك ثم اختلفا فقال الزوج: ما أوردت به في العلانية هزل. وقالت المرأة: لا بل جد، فالقول قول المرأة، والمهر هو المذكور في العلانية إلا أن يقوم الزوج ببيّنة على ما ادعى.
إبراهيم عن محمد رحمه الله: قالت لِرَجلٍ: زوجتك نفسي على ألف فقال الزوج قبلت النكاح بألفين، فالنكاح جائز على الفين كأنه زادها ألفاً.
إبراهيم عن محمد رحمه الله: رجل زوج أمته من رجل على مهر معلوم ثم أعتقها ثم زادها الزوج في المهر شيئاً معلوماً؛ فالزيادة للمولى؛ لأن الزيادة في أصل النكاح. فروى ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله أن الزيادة لها، ولا أجبر الزوج على دفع الزيادة............
وفي «فتاوى الفضلي» : إذا طلّق امرأته ثم راجعها فقال لها: زدت في مهرك لا يصلح لمكان الجهالة ولو قال لها: راجعتك بمهر ألف درهم فإن قبلت المرأة ذلك وإلا فلا؛ لأن هذه زيادة في المهر فيتوقف على قبولها.

قال محمد رحمه الله في «الجامع» : عبد تزوج أمة بغير إذن مولاها على مائة درهم فقال الزوج للمولى: أخِّر النكاح فقال المولى: أخرته على أن تزيد في الصداق خمسين درهماً، فإن رضي الزوج فذلك صح وتثبت الزيادة، وإن لم يرض به لم تثبت الإجازة. الأصل في جنس هذه المسائل: أن تعليق الإجازة في النكاح الموقوف بقبول الزوج زيادة مال على المسمى صحيح، وكذلك بقبول مال آخر سوى المسمى، وتعليقه بسائر الشروط لا يصح، وهذا لأن الإجازة لها حكم ابتداء العقد على ما عرف في مواضع كثيرة، وتعليق أصل العقد بقبول الزوج المال صحيح، ولا يصح تعليق سائر الشروط فكذا تعليق الإجازة.
إذا ثبت هذا جئنا إلى تخريج المسألة فنقول: المولى أثبت الإجازة معلقة بشرط رضا الزوج بزيادة خمسين درهماً؛ لأن كلمة «على» كلمة شرط، وقد صحّ التعليق لما ذكرنا.
فإن رضي الزوج بالزيادة ثبتت الإجازة لوجود شرطها. قال: ولا يكون كلام المولى ردّاً للعقد بمائة حتى لو أجاز النكاح بمائة قبل رضا الزوج بالزيادة صح، ولو ردّه ينفسخ؛ لأن هذا التماس الزيادة في الصداق، وذلك يقتضي تقدير الأصل لا ردّه.
وكذلك الجواب فيما إذا قال المولى: لا أجيز النكاح إلا بزيادة خمسين درهماً أو

(3/98)


قال: لا أجيز النكاح حتى تزيدني خمسين درهماً. ولو قال: لا أجيز النكاح ولكن زدني خمسين درهماً أو قال: لا أجيزه إن زدتني خمسين درهماً كان هذا من المولى نقضاً للنكاح حتى لو أجاز بعد ذلك بالمائة لا يجوز، وكل جواب عرفته في المولى مع الأمة فهو الجواب في الولي يزوج البالغة بغير أمرها فيبلغها فتجيز في جميع ما بيّنا.

وفي «الجامع» أيضاً: (206ب1) : أمة منكوحة أعتقت حتى ثبت لها الخيار على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى فقال لها زوجها: زدتك في صداقك خمسين درهماً على أن تختاريني ففعلت، صح الاختيار وثبتت الزيادة وتكون الزيارة للمولى، وبمثله لو قال لها: ... على خمسين درهماً على أن تختاريني ففعلت فلا شيء لها وبطل خيارها؛ لأن في الوجه الأول جعل الخمسين بإزاء بضعها، فإنه جعله زيادة في الصداق، ولكن علل هذا الجمل باختيارها زوجها، فإذا وجد الاختيار (صارت) الزيادة عوضاً عن منافع بضعها لا للحاقها بأصل العقد ولا كذلك الوجه الثاني لأن في الوجه الثاني؛ ما جعل الخمسين بإزاء البضع، إنما جعله بإزاء اختيارها زوجها، وإنه غير مستقيم؛ لأن اختيارها زوجها ليس بمال والتزام المال بمقابلة ما ليس بمال غير مستقيم.
وفي نكاح «المنتقى» : رجل ادعى نكاح امرأة وهي تجحد، ثم إن الزوج مع المرأة اصطلحا على أن أعطاها ألف درهم على أن أجازت له النكاح الذي ادعى فهو جائز. وكذلك إذا قال لها: أزيدك مائة على أن تقرِّي بالنكاح ففعلت. وإن وجد بينة على أصل النكاح الأول لم يكن له أن يرجع في المائة لأنها بمنزلة زيادة في المهر. والبيع نظير النكاح؛ لأن الزيادة في الثمن صحيحة كالزيادة في المهر.
ولو كان هذا منه في الطلاق بأن ادعت امرأة على زوجها أنه طلقها بألف درهم وأنها نقدته المال، فجحد الزوج فصالحته على مائة أخرى على أن يقرّ بالطلاق بالجعل الأول ففعل، ثم إنها وجدت بينة على الطلاق بالجعل الأول فلها أن ترجع بالمائة لأن الزيادة في جعل الطلاق بعد وقوعه لا يصلح، والصلح في القصاص في العتاق كالصلح في الطلاق. والكتابة كالبيع يعني: إذا ادعى المملوك الكتابة والله أعلم:
نوع منه
في المرأة نفسها بمهرها.... جعل في المهر ومايتصل به. قال الكرخي رحمه الله: وللمرأة أن تمنع الزوج عن الدخول بها حتى يوفيها جميع المهر، قال: وليس للزوج أن يمنعها من السفر والخروج من منزله وزيارة أهلها حتى يوفيها المهر.
وإن كان المهر مؤجلاً لم يكن لها أن تمنع نفسها منه وله أن يمنعها من السفر وزيارة بعض أهلها بغير إذنه، قال أبو يوسف رحمه الله: القياس كذلك، كما في البيع، لكن استحسنا وقلنا: لها أن تمنع نفسها منه، وليس له أن يمنعها من السفر وزيارة بعض أهلها حتى يوفيها المهر. قال: وليس هذا كالبيع، وهذا آخر قوله.

(3/99)


قال أبو يوسف رحمه الله: إذا كان بعض المهر حالاً وبعضه مؤجلاً فله أن يدخل بها إذا أعطاها الحال. وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا كان المهر مؤجلاً فإن دخل بها الزوج حتى تحل الأجل فمنعت نفسها عن الزوج حتى يوفيها المهر فليس لها ذلك من قبل أن أصله لم يكن حالاً.
ثم لا خلاف لأحد أن تأجيل المهر إذا كان إلى غاية معلومة نحو شهر أو سنة إنه صحيح، وإن كان لا إلى غاية معلومة فقد اختلف المشايخ (فيه) . بعضهم قالوا: لا يصح، وبعضهم قالوا: يصح وهو الصحيح، وهذا لأن الغاية معلومة في نفسها وهو الطلاق أو الموت، ألا ترى أن تأجيل البعض صحيح وإن لم يتفقا على غاية معلومة نحو الشهر أو السنة، وإنما يصح بالطريق الذي قلنا. قال مشايخنا رحمهم الله: وفي عرف ديارنا ليس للمرأة أن تمنع نفسها من زوجها حتى تستوفي جميع المهر؛ لأن في عرفنا؛ البعض مؤجل والبعض معجّل والمعجل يسمى دست بيمان والمؤجل يسمى كابين برني والمعروف كالمشروط، فإن بينا مقدار المعجل ومقدار المؤجل فهو على ما بينا، وإن لم يبينا شيئاً ننظر إلى المسمى وإلى المرأة إن مثل هذه المرأة كم يكون لها من مثل هذا المسمى معجلاً، وكم يكون لها مؤجلاً في العرف فنقضي بالعرف.

وما ذكر في «مجموع النوازل» أنه يقضي لها نصف المهر معجلاً فإنما ذلك بناء على عرف أهل سمرقند أنهم يعجلون النصف من المسمى، وهو اختيار الفقيه أبي الليث رحمه الله إلا أن ذلك يختلف باختلاف البلاد، والصحيح ما ذكرنا. وإن شرطا تعجيل الكل في العقد فهو كما شرطا، ووجب تعجيل الكل، إذ لا تعتبر دلالة العرف إذا جاء الصريح بخلافها. ولو دخل الزوج بها خلا بها برضاها فلها أن تمنع نفسها منه وتمنعه عن السفر بها حتى تستوفي جميع المهر على جواب «الكتاب» والمعجل في عرف ديارنا في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمهما الله: ليس لها ذلك وأجمعوا على أنه لو دخل بها كارهة أو دخل بها وهي صغيرة أو مجنونة إنه لا يبطل حقها في المنع والحبس.
ووجه قولهما: أن المقصود عليه صار مُسَلَّماً بالوطأة الواحدة، ألا ترى أن المهر كله يتأكد الوطآة واحدة، فلو ثبت لها حق المنع تصير مستردة، والثابت لها حق المنع عن التسليم لا حق الاسترداد بعد التسليم، ولأبي حنيفة رحمه الله: أن المستوفى بالوطء وإن كثر فهو مستحق بعقد فلا يجوز اخلاؤه عن العوض إبانةً لخطره لأن في حق تأكد المهر أقيم وطأه واحدة مقَامَ جميع الوطآت لأنه لا يمكن تأكيده بقدره؛ لأنه لا يعرف مقدار عدده لكن إذا وجد وطآت أُخر فالبدل مقابل الكل فكانت ممتنعة عن تسليم ما قابله البدل لا مستردة.
وكان الشيخ الفقيه أبو القاسم الصّفار رحمه الله، يُفتي في السفر بقول أبي حنيفة رحمه الله وفي منع النفس بقولهما، واستحسن بعض مشايخنا اختياره.
في «العيون» : تزوج امرأة على ألف درهم إلى سنة فأراد الزوج الدخول بها قبل السنة قبل أن يعطيها شيئاً، وإن كان شرط الزوج في العقد أن يدخل بها قبل السنة فله

(3/100)


ذلك وليس لها أن تمنع نفسها منه بلا خلاف، وإن لم يشترط ذلك، فله ذلك عند محمد رحمه الله وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله ليس له ذلك استحساناً وقد مَرَّ هذا.
قال الصدر الشهيد رحمه الله: وبهذا يفتى وإنه حسن، قال رحمه الله ففي ديارنا إذا ادعى المعجّل ولم يؤدّ المؤجل فله أن يبني بلا خلاف؛ لأن الدخول عند أداء المعجل مشروط عرفاً فصار كما لو كان مشروطاً نصاً.
فأما إذا كان الكل مؤجلاً فالدخول غير مشروط لا عرفاً ولا نصاً فلم يكن له أن يبني على (قول) أبي يوسف رحمه الله استحساناً. قال القدور في «كتابه» : قال أبو يوسف رحمه الله: لو كان المهر حالاً فأخرته مدة فأراد الدخول بها قبل مضي المدة فليس له ذلك، ولها أن تمنع نفسها منه، وهذا مستقيم على قول أبي يوسف آخراً، وهو استحسان؛ لأن الأصل لو كان مقارناً للعقد كان لها أن تمنع نفسها منه على قوله استحساناً، فكذا إذا كان طارئاً.
وذكر في «المنتقى» : أن الزوج إذا كان شرط الدخول قبل مضي المدة فله ذلك، وإن لم يشترطا لدخول قبل مضي المدة فليس له ذلك إلا برضاها وهذا مستقيم على قول (207أ) أبي يوسف رحمه الله استحساناً.
وفي «المنتقى» أيضاً: إذا كان المهر حالاً فأحالت عليه غريماً لها بالمهر فلها أن تمنع نفسها منه حتى يأخذ غريمها بمنزلة وكيلها، ولو أن الزوج أحالها بالمال على غريم له على أن أبرأته منه ففي القياس له أن يدخل بها، وفي الاستحسان: لا يدخل حتى تأخذ المهر، وعن أبي حنيفة رحمه الله روايتان.
روى الحسن بن زياد رحمهما الله عنه: أن له أن يدخل بها قبل ذلك، فروى الحسن ابن أبي مالك عنه: أنه ليس له ذلك.
ولو باعها بالمهر متاعاً فلها أن تمنع نفسها منه حتى تقبض المتاع، وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا قبضت المهر فإذا هو زيوف أو دراهم لا تنفق فلها أن تمنع نفسها منه حتى يبدلها.

ولو كان دخل بها برضاها ثم وجدت المهر المقبوض زيوفاً أو ما أشبه ذلك أو كان متاعاً اشترت منه وقبضته فاستُحق بعدما دخل بها فليس لها أن تمنع نفسها منه؛ لأن من أصله أنها لو سلمت نفسها من غير قبض ليس لها حق المنع والحبس فهنا أولى.

وفي «واقعات الناطفي» : إذا زوج ابنته البالغة فأراد أبوها التحول إلى بلد آخر بعياله فله أن يحملها معه وإن كره الزوج ذلك إذا لم يكن أعطاها المهر، وإن كان قد أعطاها المهر فليس له ذلك إلا برضا الزوج.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : بأن صغيرة زوجت وذهبت إلى بيت زوجها بدون أخذ تمام مهرها كان لمن كان (له) حق بإمساكها قبل التزوج أن يمنعها حتى تأخذ جميع المهر ويأخذ من له حق الأخذ؛ لأن هذا الحق ثابت للصغيرة. ولو بطل بطل برضاها وهي ليست من أهل الرضا.

(3/101)


ولو زوج العم بنت أخيه وهي صغيرة بصداق مسمى وسلمها إلى الزوج قبل قبض جميع الصداق فالتسليم فاسد، وترد إلى بيتها لأنه ليس للعم ولاية إبطال حقها.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: وإذا أراد الزوج (أن) يخرج المرأة من بلد إلى بلد وقد أوفاها مهرها فجواب «الكتاب» : أن له ذلك، اختيار الفقيه أبي الليث رحمه الله على أنه ليس لها ذلك. ولو أراد أن يخرجها من البلد إلى القرية أو من القرية إلى البلد فله ذلك.
t
وفي «المنتقى» : إذا تزوجها على أن ينقدها عليه والباقي إلى.... قال: كله إلى سنة إلا أن يقيم بيّنة أنه.... عليه شيء منه أو كلّه فيأخذه.
طلق امرأته طلاقاً رجعياً ثم راجعها هل لها أن تطالب الزوج بالمهر المؤجل؟ فيه اختلاف المشايخ، فكذلك لو ارتدت والعياذ بالله ثم أسلمت وأجبرت على النكاح هل لها أن تطالبه ببقية المهر؟ فيه اختلاف المشايخ.
نوع منه في وجود العيب في المهر، وفي تغيره عن وصف
ويرد الصداق بالعيب الفاحش وهل يرد بالعيب اليسير إن لم يكن من ذوات الأمثال لا يرد، فإن كان من ذوات الأمثال يرد، والعيب اليسير ما يدخل تحت تقويم المقومين فهو أن يقومه مقوِّم وهو صحيح بألف. ويقومه مقوم آخر وبه هذا العيب بألف، وهذا لأن الرد بالعيب اليسير في غير ذوات الأمثال لا يفيد لأنها ترجع بقيمته. ولا فرق بين عين الشيء وبه عيب يسير وبين قيمته وبه فارق أما إذا كان من ذوات الأمثال؛ لأن هناك يرجع بمثله صحيحاً ويقيم الفرق بين شيئين: أحدهما صحيح والآخر معيب.
وإذا كان العيب يسيراً فالرد مفيد، وكذلك إذا كان العيب فاحشاً فالرد مفيد لأنه يرجع بقيمته صحيحاً فيقع الفرق بين عين الشيء وبه عيب فاحش وبين قيمته صحيحاً.
قال الكرخي رحمه الله في «كتابه» : إذا انتقص الصداق في يد الزوج بفعل أجنبي فالمرأة بالخيار إن شاءت أخذت وابتعت الجاني بالأرش، وإن شاءت أخذت من الزوج يوم العقد قيمته واتبع الزوج الجاني بالأرش؛ لأن الصداق قد تغيّر في ضمان الزوج لأنه كان عيناً والآن صار قيمةً، فيثبت لها الخيار كما يثبت الخيار للمشتري إذا تغيّر المبيع في ضمان البائع، وإن انتقص بآفة سماوية فالمرأة بالخيار إن شاءت أخذته ناقصاً ولا شيء لها وإن شاءت أخذت القيمة يوم العقد.
أما الخيار: فلما ذكرنا، وأما لا شيء لها إذا اختارت الأخذ لأن الصداق مضمون على الزوج بالعقد فلا تظهر في حق الأوصاف؛ لأن العقد لا يرد على الوصف، وهذا إذا كان العيب فاحشاً، وأما إذا كان يسيراً فلا خيار لها كما لو كان موجوداً حالة العقد. وإن

(3/102)


كان النقصان بفعل الزوج فالمرأة بالخيار إن شاءت أخذته فضمنته النقصان وإن شاءت أخذت القيمة يوم العقد.
هذا هو المشهور من الرواية، مروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا ضمان عليه في الأرش ولكنها بالخيار إن شاءت أخذته ناقصاً ولا شيء لها، وإن شاءت أخذت القيمة.

وسوّى بين هذا والبيع، فإن البائع إذا جنى على المبيع قبل القبض لم يكن عليه ضمان. وجه المشهور من الرواية: أن الوصف صار مقصوداً بالإتلاف فيجب ضمانه كما لو أتلفه أجنبي وإنما لم يجب الضمان على البائع؛ لأن المبيع مضمون على البائع بالثمن وضمان الثمن يمنع ضمان المهر؛ لأن المحل الواحد لا يصير مضموناً بضمانين، والصداق غير مضمون على الزوج بضمان آخر ينافي ذلك ضمان القيمة ألا ترى أنه لو أتلفه يضمن قيمته فكذا إذا تلف والبائع إذا أتلف المبيع لا يضمن قيمته بل ينفسخ البيع ويسقط الثمن.
وإن كان النقصان بفعل المهر بأن جنى المهر على نفسه ففيه روايتان: أحدهما: أنها كالآفة السماوية؛ لأن جناية الإنسان على نفسه هدر، والرواية الأخرى أنها في حكم جناية الزوج لأن المحل مضمون في يده فصار كالمغصوب إذا جنى على نفسه في يد الغاصب.
وإن كان النقصان بفعل المرأة صارت قابضة بالجناية ويدخل في ضمانها، كالمشتري إذا جنى على المبيع في يد البائع.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا تزوج امرأة على ألف درهم من الدراهم التي من نقد البلد فكسدت قبل القبض فصار النقد غيرها كان على الزوج قيمتها يوم كسدت. قال الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» : هو المختار، وهذا قول محمد رحمه الله.
وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله: على الزوج قيمتها يوم الخصومة. ولو كان مكان النكاح بيعٌ فسد البيع، والفرق: أن الكساد بمنزلة الهلاك، وهلاك البدل في باب البيع قبل القبض يوجب فساد البيع، أما هلاك البدل في باب النكاح لا يوجب فساد النكاح، فتجب قيمته كان مشايخ ما وراء النهر قبل هذا يقولون بجواه لكون عقد النكاح بما وراء النهر بالفطر يفي لا بالعدلي لأن العدلي يتغير والفطر يفي لا يتغير، وهذا إذا كان في الزمان الماضي. أما في زماننا يجب أن يكون العقد بالذهب أو بالفضة. والحكم في الانقطاع كالحكم في الكساد.
وإن غلت الدراهم بأن ازدادت قيمتها فلها تلك الدراهم ولا خيار للزوج، وإن رخصت بأن انتقصت قيمتها فقد اختلف فيه المتأخرون. (207ب1) بَعْضهم قالوا لها من تلك الدراهم وليس لها أن تطالبه بالتفاوت وإن فحش، وبعضهم قالوا: إن كان يوجد من تلك الدراهم بالعيار الذي ورد العقد عليه تطالبه بذلك، وإن كان لا يوجد تطالبه بقيمة ما ورد عليه العقد. وإن تزوجها بكذا من العدليان وهي كاسدة ماذا يجب لها؟ قالوا: يجب

(3/103)


لها مهر المثل لأنها إذا كانت كاسدة وقت النكاح كان المهر مجهولاً لأنها إذا كانت كاسدة كانت سلعة وزنية، والسلعة الوزنية إنما تعرف بالإشارة أو بذي الوزن وهو ما ذكر الوزن إنما ذكر العدد.
ولو كانت رائجة وقت العقد وهي نوعان من الضرب أولاً وآخراً ينبغي بيان نوعه وقت العقد، ولو لم يبين ننظر إلى مهر مثلها فأي نوع من ذلك وافق مهر مثلها، يقضى لها بذلك النوع. وقد مرّ جنس هذا النوع.
وفي «المنتقى» : بشر عن أبي يوسف رحمه الله: رجل تزوج امرأة على أمة بعينها ودفعها إليها وماتت عندها، ثم علمت أنها كانت عمياء رجعت عليه بنقصان العمى وهذا ظاهر. ولو كان تزوجها على خادم بغير عينها وأعطاها جارية وسطاً وماتت عندها، ثم علمت أنها كانت عمياء فإنها تضمن قيمتها عمياء، ويضمن الرجل قيمة خادم وسط فيتقاصان إن صار كأن لم يكن بينهما فضل ويترادان الفضل والله أعلم.
نوع منه في اختلاف الزوجين في المهر
إذا ادعت المرأة أن المهر ألفان وادعى الزوج أنه ألف درهم، فأيهما أقام البيّنة قبلت بينته، فإن أقاما البينة فالبينة بينة المرأة؛ لأنها تثبت زيادة في المهر، وإن لم يكن لهما بينة فإنهما لا يتحالفان عندنا. هكذا ذكر في «الأصل» . بعد هذا قال أبو يوسف رحمه الله: القول قول الزوج إلا أن يأتي بشيء مستنكر جدّاً ولذلك تفسيران:
أحدهما: أن يدعي أنه تزوجها بأقل من عشرة، وبه أخذ بعض المشايخ؛ لأن ما دون العشرة مستنكر شرعاً.

والثاني: أنه يدعي أنه تزوجها بما لا يتزوج مثل تلك المرأة بمثل ذلك المهر، وبه أخذ عامة المشايخ وهو الصحيح.
وذكر ابن سماعة في «نوادره» عن أبي يوسف رحمه الله في المرأة يموت عنها زوجها فتدعي مهراً وهو مهر مثلها والورثة يقولون قد تزوجها على (شي) إلا أنا لا ندري ما هو قال: أجعل لها مهر مثلها، قال ابن سماعة: وقد كان قال قبل ذلك بخلاف هذا، قال: هذا في رجب سنة ثلاث وتسعين ومائة.
وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: يحكم مهر مثلها فإن كان مهر مثلها، ما قال الزوج ألفاً أو أقل فلها ما قال الزوج مع يمينه بالله ما تزوجتها على ألفين على الغبن، فإن كان مثل ما قالت المرأة ألفين أو أكثر فلها ما قالت مع يمينها بالله ما زوجت نفسها منه بألف درهم، وإن كان مهر مثلها بين الدعوتين فإنهما يتحالفان ثم يقضى لها بمهر المثل، وهو نظير ما ذكر في كتاب الإجارات، إذا وقع الاختلاف بين رب الثوب وبين الصباغ في الأجرِ يحكم في ذلك قيمة الصبغ، فإن كانت قيمة الصبغ بين الدعوتين فإنهما يتحالفان كذا هنا.

(3/104)


وذكر الكرخي رحمه الله في «كتابه» : إذا لم يكن لهما بينّة فإنهما يتحالفان أولاً، فإذا حلفا حينئذ يحكم مهر المثل عندهما. قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: والأصلح ما ذكره الكرخي رحمه الله؛ لأن ظهور مهر المثل عند انعدام التسمية، وإنما تنعدم التسمية بالتحالف وإنما يدعي كل واحد منهما ... بيمين صاحبه فيبقى نكاحاً بلا تسمية، فيكون موجبه مهر المثل، وغيره من المشايخ صححوا ما ذكر في «الأصل» ؛ لأنه إنما يصار إلى التحالف إذا لم يكن ترجيح قول أحدهما على الآخر بشهادة الظاهر له وإذا كان مهر المثل يشهد لأحدهما فالظاهر شاهد له فلا يصار إلى التحالف.
وإن وقع الاختلاف بينهما على هذا الوجه بعد الطلاق. فإن كان قد دخل بها فهذا والأول سواء، فإن لم يدخل بها فقد ذكر في كتاب النكاح: أن القول قول الزوج وعليه نصف ما أقرّ به. وقد ذكر في «الجامع» : أن القول قول تشهد له المتعة، فمن مشايخنا من قال: ما ذكر في النكاح قول أبي يوسف رحمه الله وما ذكر في «الجامع» قولهما ومنهم من قال: ما ذكر في النكاح قولهما، أيضاً، وإنما اختلف قولهما لاختلاف الموضوع موضوعَ المسألة في «الجامع» في الاختلاف في العشرة والمائة فالزوج يدعي الزواج بالعشرة فيكون مقراً لها بالخمسة وذلك لا يبلغ متعتها فأفاد تحكيم المتعة. موضوع المسألة في النكاح في الاختلاف في الألف والألفين فيكون الزوج مقراً لها بالخمس مائة وذلك يزيد على متعتها عادة فلا يفيد تحكيم المتعة.
ومن المشايخ من قال: ما ذكر في «الجامع» قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وما ذكر في النكاح قول أبي يوسف رحمه الله، فصار في تحكيم المتعة في الطلاق قبل الدخول روايتان عن أبي حنيفة رحمه الله على قول هذا القائل.
وحكى القاضي أبو القاسم عن القضاة الثلاثة رحمهم الله أن ما ذكر في النكاح قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وما ذكر في «الجامع» قول محمد رحمه الله، فصار الحاصل على قول هذا القائل أن على قول أبي يوسف رحمه الله القول قول الزوج قبل الطلاق وبعده إلا أن يأتي بشيء مستنكرٍ جداً، وعلى قول محمد رحمه الله يحكم مهر المثل قبل الطلاق والمتعة بعد الطلاق، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله يحكم مهر المثل قبل الطلاق ولا تحكم المتعة بعد الطلاق فيكون القول قول الزوج بعد الطلاق.

والفرق له: أن مهر المثل (واجب) لأن الزوج استوفى بدله حين دخل بها، فأما المتعة ليست ببدل على البضع؛ لأن الزوج (لم) يدخل بها فلا يجب اعتبار المعادلة فنصير فيه إلى الأصل، والأصل: أن من ادعى على آخر شيئاً وأنكر الآخر فالقول قول المنكر، والمنكر هنا الزوج.

ولو مات أحدهما ثم وقع الاختلاف بين ورثة الميت وبين الحي فهذا وما لو اختلفا وهما حيّان سواء. ولو ماتا فههنا فصلان.

(3/105)


أحدهما: أن يتفق الورثة أنه لم يكن في العقد تسمية، وفي هذا الفصل القياس أن يقضى لها مهر المثل وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، قال أبو حنيفة رحمه الله: أستحسن في هذا أن أبطل المهر، وله في ذلك طريقان: أحدهما: يشير إلى أنه إنما يقول ببطلان مهر المثل إذا تقادم العهد وانقرض أهل ذلك العصر، حتى تعذر على القاضي الوقوف على مقدار مهر المثل. أما إذا لم يتقادم العهد وأمكن للقاضي الوقوف على مقدار مهر المثل لا يبطل مهر المثل فيقضى لها بمهر المثل كما هو مذهبهما.
والثاني: يشير إلى أنه يقول ببطلان مهر المثل لموتهما على كل حال تقادم العهد أو لم يتقادم.
الفصل الثاني إذا وقع الاختلاف بين قولهما في مقدار المسمّى

فعلى قول محمد رحمه الله يحكم مهر المثل، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: القول قول ورثة الزوج إلا (أن) يأتوا بما هو مستنكر جداً، وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله فهو المثل لا يبقى بعد موتهما على أحد الطريقين مطلقاً، وعلى أحد الطريقين إذا تقادم العهد فيكون القول (208أ1) قول ورثة الزوج إلا أن يقوم لورثة المرأة بينة على ما ادعوا. قال الكرخي رحمه الله في «مختصره» : لو ادعى الزوج أن المهر هذا العبد، وقالت المرأة: هذه الجارية فالكلام فيه كالكلام في الألف والألفين إلا في فَصلٍ واحد؛ أنه إذا كان مهر مثلها مثل قيمة الجارية أو أكثر فلها قيمة الجارية، لأن بملك الجارية لا يكون إلا بالتراضي، وإذا لم يتفقا على ذلك فقد تعذر التسليم فوجبت القيمة.
وعلى هذا: إذا قال الزوج: تزوجتك على عبدي الأسود هذا وقيمته ألف، وقالت المرأة: تزوجتني على عبدك الأبيض هذا وقيمته ألفي درهم فهو نظير الاختلاف في الألف والألفين إلا في فصل واحد؛ أنه إذا كان مهر مثلها مثل قيمة الأبيض أو أكثر فلها قيمة الأبيض لما قلنا في فصل العبد والجارية.
ولو اختلفا في طعامٍ بعينه فقال الزوج: تزوجتك على هذا الطعام بشرط أنه كرّ، وقالت المرأة: لا بشرط أنه كرّين فهو مثل الاختلاف في الألف والألفين. والأصل في جنس هذه المسائل: أن الزوجان إذا اتفقا على تسمية شيء بعينه في النكاح واختلفا في مقداره أنه كان شيئاً لا يضره التبعيض كالمكيل والموزون يحكم فيه مهر المثل، فيتحالفان إذا كان مهر المثل بين الدعوتين.

بيانه في هذه المسألة: فيما إذا تزوجها على نُقرة فضة بعينها واختلفا فقال الزوج: تزوجتك على هذه النُقرة بشرط أنها مائتي درهم، وقالت المرأة: لا بشرط أنها ثلاثمائة وإن كان شيئاً يضرّه التبعيض كما لو تزوجها على ثوب خز بعينه ثم اختلفا فقال الزوج: تزوجتك على هذا الثوب على أنه عشرة أذرع، وقالت المرأة: لا بل على أنها تسعة أذرع؛ ففي هذه الصورة القول قول الزوج ولا يتحالفان.

(3/106)


وكما لو تزوجها على إبريق فضة بعينه ثم اختلفا في وزنه فالقول قول الزوج، فإذا وقع الاختلاف في الصفة في مسمى بعينه، كما لو قال الزوج: تزوجتك على هذا الكر على أنه رديء، وقالت المرأة: لا بل على أنه جيد فالقول قول الزوج ولا يتحالفان كما في....
فإن الاختلاف في الصفة في باب البيع لا يوجب التحالف، كما لو اختلفا في اشتراط صفة البكارة. وإن كان المهر ديناراً واختلفا في صفته أو جنسه أو نوعه بأنه يحكم مهر المثل ويتحالفان؛ لأن الدين إنما يعرف بالصفة، والأوصاف تختلف فكان الاختلاف في الوصف اختلافاً في أصل التسمية.

وإن اختلفا فيما يضرّه التبعيض في القدر والصفة جميعاً؛ ففي القدر بحكم مهر المثل، وفي الصفة قول الزوج مع يمينه اعتباراً لحالة الاجتماع بحالة الانفراد. هذا إذا اختلفا حال قيام النكاح فأما إذا اختلفا بعد الطلاق وكان الطلاق بعد الدخول فيمكن تحكيم مهر المثل. وإن كان الطلاق قبل الدخول بها إن اتفقا على مسمىً بعينه واختلفا في صفة ذلك أو في قيمته فالقول قول الزوج بالإجماع، ولا يحكم متعة مثلها؛ لأنهما اتفقا على ما يوجب سقوط المتعة؛ لأن مع تسمية شيء بعينه لا تجب المتعة بالطلاق قبل الدخول بها، فيقدر بحكم المتعة فوجب اعتبار الدعوى والإنكار.

وإن اختلفا في جنس المهر أو مقداره أو في صفته والمهر دين، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: يحكم متعة مثلها فالقول قول من تشهد له المتعة، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: القول قول الزوج إلا أن يأتي بشيء مستنكرٍ جداً.
ولو تزوجها على عبد بعينه وملك العبد في يد الزوج، واختلفا في قيمته فالقول قول الزوج ولا يحكم مهر المثل؛ لأنهما اتفقا على تسمية صحيحة وذلك يوجب العدول عن مهر المثل بعيب وهي مدعية الزيادة والزوج ينكر، فيكون القول قوله مع يمينه.
ولو قال: تزوجتك على عبدي الأسود وقيمته ألف، ومات في يدك فإنه يحكم مهر المثل ويتحالفان إن كان مهر المثل بين الدعوتين.
ولو تزوجها على كرّ بعينة وهلك واختلفا في مقداره أو في صفته، أو تزوجها على ثوب بعينه أو نقرة فضة بعينها أو إبريق فضة بعينه وهلك، واختلفا في الذرعان أو الوزن؛ ففي كل ما ذكرنا أن القول قول الزوج قبل الهلاك كان القول قوله بعد الهلاك أيضاً.

ولو ادعى على أحدهما ألف درهم والآخر مائة دينار فهو نظير الاختلاف في الألف والألفين. إذا بعث إلى امرأته دقيقاً أو عسلاً أو تمراً ثم قال: بعثت من المهر، وقالت المرأة: بعتث هدية فالقول قول الزوج لأنه هو المملّك، فيكون القول قوله في جهة التمليك إلا فيما صار مكذباً عرفاً وذلك في شيء يفسد ولا يبقى.
في «عيون المسائل» وإليه أشار محمد رحمه الله في «السير الكبير» ، وفي «نوادر»

(3/107)


ابن رستم عن محمد رحمه الله: إلا أن يكون الخبيص واللحم والشاة المذبوحة والثريد ونحو هذا من الطعام مما لا يبقى، فحينئذ القول قول المرأة استحساناً. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: بعث إلى امرأته متاعاً وبعث أن المرأة.... متاعاً ثم ادعى الزوج أن الذي بعث كان صداقاً كان القول قوله مع يمينه؛ لأنه هو المملك، فإن حلف والمتاع قائم فللمرأة أن ترد وترجع بما بقي منه، إن كان هالكاً لم يكن على الزوج شيء، وإن كان قائماً وقد بعثه الأب من مال نفسه فله أن يرجع فيه؛ لأن الواهب في هذه الصورة.... وقد وهبت من زوجها.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله ( «وفتاوى) أهل سمرقند» : تزوج امرأة وبعث إليها عبداً وعوضته المرأة على ذلك عوضاً، ثم زفت إليه ثم فارقها وقال: إنما بعثت إليك عارية وأراد أن يسترد ذلك وأرادت المرأة أن تسترد العوض فالقول قوله في الحكم لأنه أنكر التمليك وإذا استردّ ذلك من المرأة كان للمرأة أن تسترد منه ما عوضته عليه.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: اشترى لامرأته أمتعة بأمرها بعدما بيّن لها، ودفع إليها دراهم حتى اشترت هي أيضاً، ثم اختلفا فقال الزوج: هو من المهر، وقالت المرأة: هدية. فالقول قول الزوج أنه من المهر إلا أن يكون شيئاً مأكولاً.

قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: المختار أن ننظر إن كان ذلك من متاع سوى ما يجب على الزوج فالقول قوله أنه من المهر، وإن كان ذلك يجب على الزوج من الخمار والدرع ومتاع الليل ليس له أن يحتسبه من المهر؛ لأن الظاهر يكذبه. والخف والملاءة لا تجب عليه؛ لأنه ليس عليه إن نهى لها أمر الخروج.

بعث إلى امرأة ابنه ثياباً ثم ادعى أنه بعث أمانة صُدِّق، وكذا لو ادعى بعد موت المرأة. وفي «مجموع النوازل» : بعث إلى امرأته أيام العيد دراهم وقال: إنها عيدي أو قال سم سكر فيصير متناقضاً في دعواه بعد ذلك أنه من المهر.
امرأة ادعت على زوجها بعد وفاته أن لها عليه ألف درهم من مهرها، تُصدق في الدعوى إلى تمام مهر مثلها في قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن عنده يحكم مهر المثل فمن شهد له به بمهر المثل كان القول قوله مع يمينه.
في «المنتقى» : بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمه الله: إذا اختلف الزوج..... فإن أمر بشيء مسمىً وحلف عليه فالقول....، وإن لم يقرّ بشيء وحلف على ما ادعت جعلت لها وكثير من مهر مثلها ومما ادعت، قال وكذلك.... وورثتهما بعد موتهما.
وفيه أيضاً: إذا قالت المرأة لزوجها: تزوجتني بغير شيء، وقال الزوج: تزوجتك على هذا العبد، فإن كان قيمة العبد مثل مهر مثلها أو أقل؛ مقدار ما يتغابن (208ب) الناس فيه فالمرأة بالخيار؛ إن شاءت أخذت عين العبد وإن شاءت أخذت قيمة العبد أقل

(3/108)


من مهر مثلها مقداراً ما لا يتغابن الناس فيه فلها مهر مثلها.

وفيه أيضاً: قال هشام: قلت لمحمد رحمه الله: رجل أقام بينّة أنه تزوج هذه المرأة وكان عقد النكاح على ألفين وقال: المهر ألف. قلت: ولِمَ وقد يكون أن تقع عدة النكاح على ألف ثم يزيد بها يقيم البينة على الزيادة، قال هشام:....... محمد رحمه الله بأن القاضي لو كان حضر العقد على ألف وجاءت المرأة بألفين قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله في «المنتقى» وفي هذا الجواب نظر، وذكر في «المنتقى» : بعد هذه المسألة نورد ما يشبه الخلاف.

قال هشام: سألت محمداً رحمه الله عن امرأة ادعت أن هذا الرجل تزوجها بالكوفة منذ سنة على ألفين، وأقامت على ذلك بينة، وأقام الزوج بينّة أنه تزوجها بالبصرة منذ سنتين على ألف، قال: البينة بينة المرأة، قلت وإن كان معها..... سنتين قال: وإن كان.
نوع في بيان ما يستحق به جميع المهر
المهر كما يتأكد بالدخول يتأكد بالخلوة الصحيحة عندنا؛ لأن البدل في عقود المعاوضات يُقدّر بتسليم من له البدل، لا بحقيقة استبقاء المبدل ألا ترى أن البائع إذا خلّى بين المبيع وبين المشتري، أو الآجر إذا اخلّى بين المستأجَر والمستأجر يتأكد البدل وإن لم يوجد القبض حقيقة، والمعنى فيه: أنا لو وقفنا بقدر البدل على استيفاء المبدل حقيقة؛ فمن عليه البدل يمنع عن الاستيفاء قاصداً الإضرار بمن له البدل، والضرر مدفوع شرعاً.
وتعتبر الخلوة الصحيحة لأن ثمة مانع يمنعها لا حقيقة ولا شرعاً حتى لو كان أحدهما مريضاً مرضاً يمنع الجماع لا تصح الخلوة، وإن كان مريضاً مرضاً لا يمنع الجماع تصح الخلوة. والحاصل: أن المرض من جانبها مسوّغ بلا خلاف، وأما المرض من جانبه فقد قيل: إنه مسوغ أيضاً، وقيل: إنه غير مسوغ وأنه غير ممنوع، وأنه يمنع صحة الخلوة على كل حال، جميع أنواعه في ذلك على السواء.

قال الصدر الشهيد رحمه الله: هو الصحيح، وكذا لو كان أحدهما محرماً بحجة فرض أو نافلة أو كانت المرأة حائضاً لا تصح الخلوة. وكذا إذا كان أحدهما صائماً في رمضان لا تصح الخلوة، واختلفت الرواية في غير صوم رمضان.

قال القدوري رحمه الله: الصحيح أن الصوم للتطوع والقضاء والنذر لا يمنع، ولو كان معهما ثالث لا تصح الخلوة إلا أن يكون الثالث ممن لا يشعر بذلك، كصغير لا يعقل أو مغمى عليه، والمجنون كالصبي، وفي بعض المواضع: لو كان معهما مجنون أو مغمىً عليه لا تصح الخلوة ولو كان معهما أعمى أو نائم لا تصح الخلوة، ولو كانت ثمة أمته كان محمد رحمه الله أولاً يقول: تصح الخلوة، بخلاف ما إذا كانت ثمة أمتها، ثم

(3/109)


رجع وقال: لا تصح الخلوة، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، ولو خلا بها ومعها امرأة أخرى لهذا الزوج فقد أفتى محمد رحمه الله بالرقة أنه خلوة ثم رجع عنه وقال: ليس بخلوة.
قال هشام: كان محمد رحمه الله يقول أولاً: للرجل أن يطأ امرأته بين يدي امرأة أخرى له، فجعل ذلك خلوة ثم رجع وقال: ليس له أن يطأها بين يدي امرأة أخرى له فلم يجعلها خلوة.
والمكان الذي تصح فيه الخلوة: أن يأمنا فيه اطلاع غيرهما بغير إذنهما كالبيت والدار وما يشبهه. ولهذا لا تصح الخلوة في المسجد، والطريق الأعظم، والحمام، وكان شداد رحمه الله يقول: في المسجد والحمام إنه خلوة إذا كان ظلمة لأن الظلمة كالسترة إذ لا يراهما أحد.
وفي «المنتقى» : إبراهيم عن (محمد) رحمه الله: رجل ذهب بامرأته إلى رستاق.... أو ما أشبه ذلك، وكان ذلك بالليل قال إن سار بها في طريق الجادة لا تكون خلوة، وإن عدل بها عن الطريق في موضع خالٍ كان خلوة.

ولو حج بها ونزل المفازة من غير خيمة فليس بخلوة، وكذلك لو خلا بها في جبل. ولو خلى بها في بيت غير مسقوف فهو خلوة، وكذلك الكوخ ولو خلى بها على سطح من الدار فهو خلوة، ذكر مسألة السطح في «المنتقى» مطلقاً. قالوا: إذا لم يكن على جوانب السطح سترة لا تكون خلوة، وعلى قياس ما قاله شداد في مسألة المسجد والحمام أنه يكون خلوة. إذا كان في ظلمة يجب أن تكون خلوة في مسألة السطح إذا كان في ظلمة أيضاً.

هشام عن محمد رحمه الله: إذا خلا بها في بستان ليس عليه باب يغلق فليس بخلوة، وإن كان لها باب وأغلق فهو خلوة. ولوخلا بها في محمل عليه قبة مضروبة ليلاً أو نهاراً، فإن كان يقدر أن يطأها فهو خلوة ولو خلا بها وبينها وبين النساء سترة من ثوب رقيق يرى منه؛ قال أبو يوسف رحمه الله: ليس هذا بخلوة، قال وكذلك لو كانت سترة قصيرة. قدرها لو قام إنسان رآهم، رواه بشر.
المرأة إذا دخلت على الزوج ولم يكن معه أحد ولم يعرفها الزوج لا يكون هذا خلوة ما لم يعرفها، هكذا اختارٍ الفقيه أبو الليث رحمه الله؛ لأن الخلوة إنما تقام مقام الوطء إذا تحقق التسليم بالخلوة، وإذا لا يحصل بدون المعرفة، وقال الفقيه أبو بكر رحمه الله: تكون خلوة وكذلك إذا كانت نائمة. وإن عرفها الزوج ولم تعرفه فهو خلوة.
هذه الزيادة من «مجموع النوازل» ، وفي «مجموع النوازل» أيضاً: سئل شيخ الإسلام رحمه الله عمن تزوج امرأة فأدخلتها عليه أمها وخرجت وردت الباب إلا أنها لم تغلقه والبيت في خان يسكنها أناس كثيرة، ولهذا البيت طوائق مفتوحة، والناس قعود في ساحة

(3/110)


الخان ينظرون من بعيد هل تصح هذه الخلوة؟ قال: إن كانوا ينظرون في الطوائق يترصدون لهما وهما يعلمان بذلك لا تصح الخلوة، وأما النظر من بعيد والعقود في الساحة فغير مانع من صحة الخلوة، فإنهما يقدران أن ينتقلا في هذا البيت إلى زواية لا تقع أنظارهم عليهما، فقد قيل: إن الزوجين إذا اجتمعوا في بيت بابه مفتوح، والبيت في دار لا يدخل عليهما أحد إلا بإذن؛ فالخلوة صحيحة وإلا فلا.

هذه جملة ما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله وعلى قياس ما روى بشر عن أبي يوسف رحمه الله، في السترة القصيرة ينبغي أن يقال في هذ المسألة: إذا كان البيت والطوائق بحيث لو نظر فيهما إنسان رآهما لا تصح الخلوة، ولو كان معهما كلب معقور لا تصح الخلوة وقيل في الكلب: إذا لم يكن عقوراً؛ إن كان كلب المرأة يمنع صحة الخلوة، وإن كان كلب الزوج لا يمنع. ولو خلا بها ولم تمكنه من نفسها فقد اختلف المتأخرون فيه.
وفي طلاق «النوازل» : إذا قال لامرأته: إن خلوت بك فأنت طالق، فخلى بها يقع الطلاق وعليه نصف المهر؛ لأن الطلاق وقع عقيب الخلوة فلا فصل، فلم يكن متمكناً من الوطىء ليقام مقام الوطىء والخلوة بالرتقاء ليست بخلوة، وخلوة المجبوب خلوة صحيحة عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما ليست بخلوة، هكذا ذكر الكرخي في مختصره.
وفي «المنتقى» ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: لا توجب خلوة المجبوب بامرأته مهراً تاماً إلا أن تجيء بولد، فإن جاءت بولد لزمه وعليه المهر لأنهم زعموا أنه يحتمل.
وخلوة العنين والخصي خلوة صحيحة، ثم إن أصحابنا رحمهم الله أقاموا الخلوة مقام الوطىء في حق بعض الأحكام دون البعض.

أما الأحكام التي أقاموا الخلوة فيها مقام الوطىء تأكد جميع المسمى إن كان في العقد تسمية، وتأكد (209أ1) مهر المثل إن لم يكن في العقد تسمية، وثبوت النسب ووجوب العدة، ووجوب النفقة والسكنى في هذه العدة، وحرمة نكاح أختها ما دامت العدة قائمة، وحرمة نكاح أربع سواها، وحرمة نكاح الأمة عليها على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله في حرمة نكاح الأمة على الحرة في العدة عن الطلاق البائن، ومراعاة وقت الطلاق في حقها. وأما الأحكام التي لا تقوم الخلوة فيها مقام الوطء: فالإحصان حتى لا يصير محصناً بالخلوة، وحرمة البنات والإحلال للزوج الأول، والرجعة، والميراث حتى لو طلقها ثم مات في العدة لا ترث. أما وقوع طلاق آخر في هذه العدة فقد قيل: لا يقع، وقيل: يقع وهو أقرب إلى الصواب؛ لأن الأحكام لمّا اختلفت في هذا الباب يجب القول بالوقوع احتياطاً. وكام يتأكد جميع المهر بالدخول، وبالخلوة الصحيحة يتأكد بموت أحدهما.
ولو فقلت الحرة نفسها فلها المهر عندنا، ولو كانت أمة فقتلها المولى فلا مهر عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: يجب المهر للمولى. ولو

(3/111)


قتلت الأمة نفسها فعن أبي حنيفة رحمه الله روايتان: في رواية لا يجب، وفي رواية يجب، وهو قولهما. وإذا تأكد المهر لم يسقط وإن جاءت الفرقة من قبلها بأن.... أو طاوعت ابن زوجها بعدما دخل بها أو خلى بها وقبل ذلك يسقط جميع المهر لمجيء الفرقة من قبلها والله أعلم.
نوع منه في بيان حكم المهر وما يجب لها بالطلاق قبل الدخول
وللمطلقة قبل الدخول بها نصف المفروض لقوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (البقرة: 237) وإن لم يكن في النكاح مفروضاً وفرض لها بعد العقد مهراً فرضيت به أو رفعت الأمر إلى القاضي ففرض لها مهراً ثم طلقها قبل الدخول بها؛ فعلى قول أبي يوسف الأول رحمه الله: لها نصف المفروض بعد العقد، وهذا أو المسمى في العقد سواء ثم رجع وقال: المتعة، وهو قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله؛ لأن الفرض لمهر المثل. وعلى اعتبار الطلاق قبل الدخول لا يجب مهر المثل فلا يجب نصف المفروض. وعلى هذا إذا سمى لها مهراً ثم زاد لها في مهرها ثم طلقها قبل الدخول بها فلها نصف المسمى مع نصف الزيادة. وعلى قوله الآخر وهو قول أبي حنيفة رحمه الله: ثم المتعة واجبة للمطلقة قبل الدخول إذا لم يسم لها مهراً. وكذلك في كل فرقة جاءت من قبل الزوج قبل الدخول بها ولم يسم لها مهراً فإنها مستحقة لكل مطلقة، يريد به المطلقة بعد الدخول بها إذا لم يكن في النكاح تسمية أو كان فيه تسمية والمطلقة قبل الدخول بها إذا كان في النكاح تسمية. وفي القدوري: وكل فرقة جاءت من قبل المرأة فلا متعة فيها، وإن كان من قبل الزوج ففيها المتعة.
وفيه أيضاً: وكل فرقة من جهة الزوج بعد الدخول يُستحب فيها المتعة إلا أن ترتدّ أو تأبى عن الإسلام وفيه أيضاً: ولو خيّر المرأة فاختارت فهي فرقة من قبل الزوج، والمتعة ثلاث أثواب؛ قميص وملحفة ومقنعة وسطاً لا جيداً غاية الجودة فلا ولا رديء غاية الرداءة فيجب لها ذلك إلا (إذا) زاد ذلك على نصف مهر مثلها فلها الأثواب إلا أن تنقص قيمتها عن خمس دراهم.

والحاصل: أن لها الأقل من نصف مهر المثل ومن المتعة إلا أن تكون قيمة المتعة أقل من خمس دراهم، فحينئذ لا تنقص عن خمسة، وهذا لأن مهر المثل هو للعوض الأصلي، ولكن تعذر بنصفه لجهالته، فيصير إلى المتعة خلفاً عنه فلا يجوز أن يزيد على نصف مهر المثل، فلا ينقص عن خمسة دراهم لأن المهر لا يكون أقل من عشرة دراهم.
وإن كانت المتعة مثل نصف مهر المثل فلها المتعة، ويعتبر فيها حال الدخول لقوله تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} (البقرة: 236) أي: على قدره. وكان الكرخي رحمه الله يقول هكذا في المتعة المستحبة. وفي المتعة الواجبة يقول: يعتبر حالها؛ لأنها خلف عن مهر

(3/112)


المثل، وفي مهر المثل المعتبر حالها فكذا في خلفه.
ولا متعة للمتوفى عنها زوجها سمى لها مهراً أو لم يسم، دخل بها زوجها أو لم يدخل، وكذلك كل نكاح فاسد فرق فيه بينهما قبل الدخول بها، وقبل الخلوة وبعد الخلوة، والزوج منكرٌ للدخول فلا متعة فيها؛ لأن المتعة خلف عن مهر المثل، وما هو الأصل لا يجب في النكاح الفاسد قبل الدخول، فكذلك ما هو خلف عنه، والعبد بمنزلة الحر في وجوب المتعة إذا كان النكاح بإذن المولى؛ لأنه مساوٍ الحر في سبب الوجوب وهو النكاح فيساويه في الموجب.
ولو شرط مع المسمى ما ليس بمال نحو طلاق الضرة أو على أن لا يخرجها من البلدة، ثم طلقها قبل الدخول بها فلها نصف المسمى وسقط الشرط، وكذا إذا شرط مع المسمى كرامتها، ولو تزوجها على أقل من عشرة ثم طلقها قبل الدخول بها فلها نصف ما سمى وتمام خمسة دراهم، لأن العشرة في كونها مهراً لا تتجزأ، وذكر بعض ما لا يتجزأ كذكر الكل فكأنه سمى عشرة، وكذا إذا تزوجها على ثوب يساوي خمسة دراهم وطلقها قبل الدخول فلها نصف الثوب ودرهمان ونصف.
وإذا كان المهر في يدي الزوج وغنياً وطلقها قبل الدخول بها عاد الملك في النصف إلى الزوج بنفس الطلاق، حتى لو كانت أمة فأعتقها بعد العتق في النصف ولو كان مقبوضاً لم ينفسخ الملك بنفس الطلاق ولم يعد إلى ملك الزوج حتى يقضي القاضي عليها برد النصف أو تسلم هي النصف إلى الزوج، وذكر القدوري رحمه الله: لو كان الطلاق مقبوضاً لم ينفسخ الملك بنفس الطلاق حتى يفسخه الحاكم أو تسلمه المرأة أو يقول الزوج: قد فسخت، إلا رواية رويت عن أبي يوسف رحمه الله، فقد روي عنه في «النوادر» : أنه ينفسخ الملك في النصف بنفس الطلاق وإن كان الصداق مقبوضاً وهو قول زفر رحمه الله.
والفرق: أن سبب ملكها في النصف يفسد بالطلاق قبل الدخول فيفسخ من وجه دون وجه؛ لأن الطلاق قبل الدخول إن كان قطعاً صورة فهو فسخ معنىً؛ لأن المقصود عليه يعود إلى ملكها بكماله كما خرج، فجعل فسخاً من وجه دون وجه.
والأصل: أن العقد متى انفسخ من وجه دون وجه يعتبر فاسداً؛ لأنه لو انفسخ من كل وجه ارتفع أصل العقد وصفة الجواز جميعاً، ولو لم ينفسخ أصلاً بقي أصل العقد والجواز جميعاً، فإذا انفسخ من وجه دون وجه يرتفع الجواز ويبقى أصل العقد اعتباراً للمعنيين.
وإذا ثبت أن سبب ملكها يفسد بالطلاق قبل الدخول فنقول: فساد السبب لا يمنع ثبوت الملك في البدل بعد القبض فأولى أن لا يمنع البقاء.

أما فساد السبب قبل القبض يمنع ثبوت الملك في البدل فيمنع البقاء. وإنما ينتقض الملك بعد القبض بالقضاء أو بالرضا كما في المقبوض بحكم العقد الفاسد. وكذلك ينتقض بقول الزوج قد فسخت على (ما) ذكره القدوري رحمه الله لما ذكرنا أنه فسد سبب ملكها، ولكل واحد من المتعاقدين، فلأنه فسخ السبب الفاسد كما في البيع الفاسد، وبعدما وجد القضاء أو الرضا أو انتقض الملك يعتبر الانتقاض على حالة القضاء أو

(3/113)


الرضا حتى لو كان المهر مملوكاً أو اكتُسِبَ اكتساباً بعد الطلاق فالكسب يكون للمرأة، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في شرحه وفي «الجامع» ما يدل عليه.
ولو كان المهر دراهم أو دنانير أو مكيلاً أو مقروناً في الذمة فقبضت وطلقها قبل الدخول (209ب1) بها، فعليها رد مثل نصف ما قبضت، وليس عليها رد عين المقبوض، لأن الدراهم والدنانير لا يتعينان في عقد النكاح فلا يتعينان في فسخه. ولو كان المهر عبداً في الذمة، أو إبلاً في الذمة، أو ثوباً في الذمة، ثم عيّنه ودفعه إليها ثم طلقها قبل الدخول فعليها رد نصف عين ما قبضت. من المشايخ من أبى ذلك وقال: إذا لم يكن العبد أو الإبل متعيناً وقت العقد فالمرأة لا تستحق عين العبد وعين الإبل، وإنما المستحق لها أحد الشيئين الوسط من المسمى أو قيمته، والخيار إلى الزوج، فعند فسخ النكاح بالطلاق قبل الدخول كيف يستحق الزوج عليها نصف العبد ونصف الإبل.

ومنهم من صحَّحَ ذلك وقال: العبد والإبل إن لم يكن معيّناً وقت العقد إلا أن ما بعد تعيينه التحق بالمعين وقت العقد، وجعل كأن العقد من الابتداء ورد على هذا المعين وإنما التحق بالمعين وقت العقد ضرورة أنه لو لم يلتحق وجب عليها بالطلاق قبل الدخول ما وجب على الزوج بالعقد فلا وجه إليه؛ لأنه يقع التفاوت بين مثل نصف المقبوض؛ وبين نصف المقبوض لأن الحيوان ليس من ذوات الأمثال وكذا يقع التفاوت بين مثل نصف المقبوض وبين قمته لأن القيمة إنما تعرف بالحزر والظن وعليها رد مثل نصف المقبوض بلا زيادة ولا نقصان والتحرز عن هذا التفاوت ممكن بإيجاب رد نصف المقبوض وإلحاق المقبوض بالعين وقت العقد، وألحقنا المقبوض بالمعين وقت العقد فأوجبنا رد نصف المقبوض بخلاف ابتداء العقد؛ لأن الاحتراز عن هذا التفاوت في ابتداء العقد بإيجاب المعين غير ممكن رده ... حالة العقد غير متعين.
أما بعد الطلاق تعين المقبوض بالقبض، فأمكن إيجاب نصفه احترازاً عن التفاوت، فأوجبنا ذلك، وهذا بخلاف الدراهم والدنانير؛ لأن الدراهم والدنانير بالتعيين لا تلتحق بالمعين وقت العقد وكيف تلتحق وإن تعيينها وقت العقد لا يصح. إذا وقعت الفرقة بين الزوجين بمعنى من قبل الزوج قبل الدخول بها إن وقعت بالطلاق لفظاً وحكماً أو حكماً لا لفظاً يوجب سقوط نصف الصداق. وإن وقعت بما هو فسخ من كل وجه بأن لم يوجد لفظ الطلاق ولا حكمه يوجب سقوط كل الصداق، وهذا لأن الفرقة من قبل الزوج قد تكون بماهو فسخ من كل وجه، ألا ترى أن غير الأب والجد إذا زوج الصغير امرأة ثم بلغ قبل الدخول واختار الفرقة وفسخ القاضي العقد بينهما كان ذلك فسخاً من كل وجه حتى يسقط الصداق، ففي كل موضع وجد الطلاق لفظاً أو ثبت حكمه كانت الفرقة بالطلاق قد سقط نصف الصداق.

وفي كل موضع لم يوجد الطلاق لفظاً أو لم يتثبت حكمه كانت الفرقة بحكم الفسخ

(3/114)


فيوجب سقوط كل الصداق، وصارت الفرقة الواقعة من قبل الزوج بحكم الفسخ نظير الفرقة الجائية من قبل المرأة قبل الدخول بها، وإنها فسخ من كل وجه؛ لأنه تعذر أن تُجعل ذلك الفرقة بالطلاق؛ لأنها لا تملك الطلاق وتملك الفسخ؛ لأنها تفسخ النكاح بخيار البلوغ وعدم الكفاءة فاعتبر فسخاً من كل وجه فيوجب سقوط كل الصداق، وهذا لأن سقوط نصف المهر بالطلاق قبل الدخول عرف بخلاف القياس بالشرع، فإنه فسخ معنى لأن به يعود المعقود عليه إلى مُلك العاقد كما خرج عن ملكه من غير سبب جديد طلاقاً حقيقة وحكماً، وكل ما كان في معناه من كل وجه أو من وجه يلتحق به وما (لا) فلا.
ولهذا قلنا: إذا ارتد الزوج أو قبّل أم امرأته بشهوة قبل الدخول بها سقط نصف الصداق لأنه فسخ معنى وطلاق حكماً، فإن حكم الطلاق ثبوت الحرمة وقد ثبتت الحرمة والزوج يملك إثبات الحرمة بالطلاق فيعتبر طلاقاً في حق المرأة فيوجب سقوط النصف.
وإذا اشترى منكوحته قبل الدخول بها سقط كل الصداق، والفرقة جاءت من قبل الدخول بها، ومع هذا سقط الصداق كله؛ لأن الفرقة وقعت بما هو فسخ من كل وجه؛ لأنه لم يوجد الطلاق لا لفظاً ولا حكماً، فإن الحرمة لم تثبت هنا، هذه الجملة في «شرح الجامع» .
وفي «المنتقى» : رجل وكل رجلاً بشراء امرأته فاشتراها الوكيل من المولى حتى فسد النكاح، فلا مهر للمولى.
ولو باعها المولى من رجل ثم إن الزوج اشتراها من المشتري فعليه نصف المهر للمولى الأول لأن في هذا الوجه لم يكن من قبله معونة على فساد النكاح.
ولو وكل الرجل من يشتريها له ووكل المولى من يبيعها فاشتراها وكيل الزوج من وكيل المولى فقد بطل المهر. ولو باعها المولى من أجنبي وخرج المشتري بها إلى بلدة أخرى وعلى الزوج في السفر إليها مؤنة فلا مهر لها على الزوج حتى يؤتى بها في قول أبي حنيفة رحمه الله، وكذلك في قول أبي يوسف رحمه الله.

نوع منه
في المهر يزيد أو ينقص في يد الزوج أو في يد المرأة فطلقها الزوج قبل الدخول بها أو أخذت الزيادة في يد الزوج في المهر، فإن كانت متصلة كالسمن والجَمَال فإنها تنصف مع الأصل بالطلاق قبل الدخول بالإجماع، وإن كانت منفصلة فإن كانت متولدة من العين كالولد أو كانت مستفادة بسبب العين كالعفو والأرش فإنها تنصف مع الأصل بالإجماع لأن هذه الزيادة صداق بمنزلة الزيادة المتولدة من مبيع المبيع على ما يأتي بيانه في تلك المسألة. وللقبض شبه بالعقد فكانت الزيادة الموجودة لدى العقد، وإن كانت الزيادة مستفادة بسبب المنافع كالكسب والغلّة. والأصل يتنصف بالطلاق قبل الدخول بالإجماع.
وأما الزيادة فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لا تتصف بل تكون كلها للمرأة. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تنصف الزيادة مع الأصل. قال القدوري رحمه الله في

(3/115)


شرحه: ولو أخر الزوج المهر فالأجرة له ويتصدق بها، وهذا لأن المنافع إنما تتقوم بالعقد عندنا، والعقد كان من الزوج غير أنه يتصدق بالأجرة لأنها حصلت عن محل مملوك للغير فدخل الخبث هذا إذا حدثت الزيادة في يد الزوج.
وإن حدثت الزيادة في يد المرأة ثم طلقها قبل الدخول فهذه الزيادة لا تنصف بلا خلاف وهل منع تنصف الأصل، فإن كانت الزيادة منفصلة وقد استفيدت بسبب المنافع كالكسب والغلة يمنع تنصف الصداق. وإن كانت الزيادة متولدة من العين كالولد أو كانت مستفادة سبب العين كالإرث يمنع تنصف الأصل، وعلى المرأة نصف قيمة الأصل يوم قبضت، فكذلك لو لم يطلقها الزوج في هذه الصورة، لكنها ارتدت أو قبّلت ابن زوجها فعليها رد جميع القيمة يوم القبض فصار أثر الردة في حق الكل بمنزلة أثر الطلاق في حق الطلاق.

فروي عن أبي يوسف رحمه الله في الردة والتقبيل أنه يجب عليها رد الأصل والزيادة. فرّق (210أ1) بين الزيادة والتقبيل وبين الطلاق، وإن كانت الزيادة الحادثة في يد المرأة متصلة؛ كالسمن والجمال فإنها تمنع تنصف الأصل عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وعلى المرأة نصف قيمة الأصل يوم القبض. وقال محمد رحمه الله لا يمنع تنصف الأصل. ولو هلكت هذه الزيادة ثم طلقها كان لها نصف الأصل لأن المانع من التنصيف قد ارتفع، ولو حدثت هذه الزيادة في يد المرأة بعد الطلاق أو الزيادة ثبت حق الزوج في الزيادة. هكذا ذكر القدوري رحمه الله؛ لأن الصداق في يدها في هذه الصورة بمنزلة المقبوض بحكم العقد الفاسد، فيجب عليها الرد بزوائدها المتصلة والمنفصلة جميعاً.
وفي «المنتقى» : قال هشام: سألت محمداً رحمه الله عن رجل تزوج امرأة على نخيل صغار طول النخلة قدر شبر وسلمها إليها، فمكثت حتى صارت النخيل طول الرماح إلا أنها لم تحمل ثم طلقها قبل الدخول بها قال: له أن يأخذ بعضها بالعدد.
فقد أشار إلى الزيادة المتصلة في يد المرأة تنصف، وأنه يخالف رواية الأصل كما بيّنا.
قال هشام: قلت: فإن تزوجها على زرع حنطة بعل ودفعه إليها، وأعارها الأرض حتى بلغ الزرع وانعقد الحب قال: إن كان الحب قد استبدَ فلا سبيل للزوج على الزرع؛ لأنه قد خرج من الحالة التي تزوجها عليها. قلت: فإن تزوجها على عشرين شاة عجاف فأحسنت إليها حتى حملت ودرّ اللبن من ضروعها ثم طلقها قبل أن يدخل بها قال: يأخذ بعضها على حالها. هذا هوالكلام في الزيادة.
جئنا إلى النقصان فنقول: إذا انتقص المهر في يد الزوج ثم طلقها قبل الدخول بها فهذا على وجوه:

أحدها: أن يكون النقصان بآفة سماوية وأنه على وجهين: إن كان النقصان يسيراً كان لها نصف الخادم معيناً من غير ضمان النقصان، ليس لها غير ذلك، وإن كان النقصان فاحشاً فلها الخيار؛ إن شاءت تركت المهر على الزوج وضمنته نصف قيمته يوم العقد، وإن شاءت أخذت نصف الخادم معيناً من غير أن يضمن الزوج ضمان النقصان.

(3/116)


الوجه الثاني: أن يكون بفعل الزوج فإنه على وجهين أيضاً: إن كان النقصان يسيراً فإنها تأخذ نصف الخادم على الزوج وتضمنه قيمة الخادم، وإن كان النقصان فاحشاً إن شاءت أخذت نصف قيمة الخادم يوم العقد وتركت الخادم، وإن شاءت أخذت نصف الخادم وضمن الزوج نصف قيمة النقصان.
الوجه الثالث: أن يكون النقصان بفعل المرأة، وفي هذا الوجه لها نصف الخادم لا شيء لها غير ذلك، فلا خيار لها سواء كان النقصان يسيراً أو فاحشاً.
الوجه الرابع: أن يكون النقصان بفعل الصداق، ففي ظاهر الرواية كالنقصان بآفة سماية، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه بمنزلة تعييب الزوج.
الوجه الخامس: أن يكون النقصان بفعل الأجنبي وأنه على وجهين: إن كان يسيراً فإنها تأخذ نصف الخادم ويضمن الأجنبي نصف قيمة النقصان ليس لها غير ذلك. وإن كان فاحشاً إن شاءت أخذت نصف الخادم وأتبعت الأجنبي بنصف قيمة النقصان وإن شاءت تركت الخادم على الزوج وأخذت من الزوج نصف قيمة الخادم يوم العقد، ثم الزوج أتبع الجاني علة النقصان. هذا إذا حصل النقصان في يد الزوج.

فإن حصل النقصان في يد المرأة ثم طلقها قبل الدخول بها، فإن كان بآفة سماوية والنقصان يسيراً أخذ الزوج نصف المهر معيباً ليس له غير ذلك. وإن كان النقصان فاحشاً إن شاء أخذ النصف كذلك معيباً من غير ضمان النقصان، وإن شاء ترك ذلك على المرأة وضمنها نصف قيمته صحيحاً يوم القبض؛ لأن قبضها غير مضمون عليها؛ لأنها قبضت ملك نفسها، فما أخذت من النقصان لا يكون مضموناً عليها، لكن الزوج يتخير لأنه وجب عليها الرد كما قبضت وإن كان النقصان في يد المرأة بعد الطلاق ذكر الحاكم الشهيد رحمه الله: أن هذا وما لو كان النقصان قبل الطلاق سواء، وعامة المشايخ على أن للزوج أن يأخذ بعضها مع نصف النقصان وهكذا ذكر القدوري رحمه الله في شرحه وهو الصحيح لما ذكرنا أن الصداق في يد المرأة بعد الطلاق بمنزلة المقبوض بحكم يقع فاسداً فيكون مضموناً بجميع أجزائه، وإن شاء أخذ نصف قيمته يوم قبضت.
وإن كان النقصان قبل الطلاق أو بعد الطلاق بفعل المرأة فهذا وما لو كان النقصان بآفة سماوية سواء. وإن كان النقصان بفعل المهر فكذلك الجواب أيضاً. وإن كان النقصان قبل الطلاق بفعل الأجنبي ينقطع الرجوع عن المهر وعليها نصف القيمة للزوج يوم قبضت؛ لأن الأجنبي قد ضمن الأرش فتصير هذه زيادة منفصلة إلا أن تكون هي أبرأت الزوج عن الجناية أو هلك الأرش في يدها قبل الطلاق، فحينئذ يتنصف المهر لزوال المانع. وإن كان النقصان بعد الطلاق: ذكر الحاكم الشهيد رحمه الله: أن هذا وما لو حصل النقصان قبل الطلاق سواء، وذكر القدوري رحمه الله: في شرحه أن الزوج يأخذ نصف الأصل وهو بالخيار في الأرش، إن شاء أتبع الجاني وأخذ منه نصف الأرش، وإن شاء أخذ من المرأة لما ذكرنا أن الصداق في يدها بعد الطلاق بمنزلة المقبوض بحكم عقد فاسد فيكون مضموناً عليها.

(3/117)


وإن كان النقصان قبل الطلاق بفعل الزوج فهذا وما لو كان النقصان بفعل الأجنبي سواء؛ لأن الزوج ضمن الأرش كالأجنبي، فصار الجواب في حقه كالجواب في حق الأجنبي.
وإن هلك الصداق في يد الزوج ثم طلقها قبل الدخول بها فلها على الزوج نصف القيمة يوم العقد. وإن هلك في يد المرأة وطلقها قبل الدخول بها فله على المرأة نصف القيمة يوم القبض والله أعلم بالصواب.
نوع منه في المرأة تهب الصداق من زوجها ثم يطلقها الزوج قبل الدخول بها
الصداق لا يخلو أن يكون ديناً، كالدراهم والدنانير والمكيل والموزون في الذمة لها، فلا رجوع له عليها بشيء سواء وهبت قبل القبض أو بعد القبض؛ لأن عين ما وجب رده عاد إلى الزوج، وكذلك لو كان المهر حيواناً في الذمة أو عروضاً في الذمة فأعطاها حيواناً وسطاً أو عرضاً وسطاً ثم وهبته من الزوج لما مر أنه يلتحق بالمعين وقت العقد، ولو كان المهر ديناً فوهبته منه قبل القبض ثم طلقها قبل الدخول بها لا يرجع عليها بشيء عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله.
ولو قبضت ذلك منه ثم وهبته منه رجع عليها بنصف المقبوض؛ لأن رد العين ليس بواجب، ألا ترى أن لها أن تمسك المقبوض وترد مثله، فصار كأنها وهبته مالاً آخر. ولو قبضت النصف ووهبت منه النصف الباقي ثم طلقها قبل الدخول بها؛ قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يرجع عليها بشيء. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يرجع بنصف المقبوض، هكذا ذكر في «الأصل» وفي «القدوري» ، ولم يذكر ما إذا وهبت النصف المقبوض. ذكر في «المنتقى» إبراهيم عن (210ب) محمد رحمها الله إذا تزوج امرأة على ألف ودفع إليها خمس مائة ثم إنها وهبت من الزوج الخمس مائة المقبوضة ثم طلقها الزوج قبل الدخول بها فلا رجوع له عليها، ولو دفع إليها ست مائة ووهبتها منه ثم طلقها قبل الدخول بها رجع عليها بمائة. علل فقال: لأن ما وقع إليها بينهما نقصان: وما بقي بينهما نقصان بيانه: أن رد عين المقبوض ليس بواجب عيلها بل لها أن تمسك المقبوض وتردّ مثله مكانها، وهبت بالآخر وبقيت الستمائة المقبوضة مهراً في يدها على حالها، فتنصفت الستمائة بالطلاق قبل الدخول بها كما تنصفت الأربعمائة التي بقيت في الذمة، فمئتان بمائتين وبقيت له مائة. ولو كانت الستمائة التي دفعها إليها والأربعمائة الباقية رجع عليها بثلاث مائة وهو بناءً على ما قلنا.
وفيه أيضاً: لو دفع الألف كلها إليها ثم اختلعت منه بألف قبل أن يدخل بها رجع عليها في القياس بخمس مائة.
وفي الاستحسان: لا يرجع عليها بشيء. وفي الأصل: إذا وهبت الصداق من أجنبي وسلطته على قبضه فقبض ثم طلقها قبل الدخول بها رجع عليها بنصفه. ولو قبضت الصداق ووهبته من أجنبي ثم الأجنبي وهبه من الزوج، ثم طلقها قبل الدخول بها رجع

(3/118)


عليها بالنصف الدين والعين فيه على السواء، وهذا لأن المستحق للزوج بالطلاق قبل الدخول سلامة نصف المهر من جهة المرأة من غير عوض ولم يوجد ذلك هنا.

وفي القدوري: لو باعته المهر ووهبته على عوض ثم طلقها قبل الدخول بها رجع عليها بنصف القيمة، وتعتبر القيمة يوم البيع، ولو كانت قبضت ثم باعت اعتبرت القيمة يوم القبض.
نوع منه
في وجوب المهر بلا نكاح إذا وطىء جارية الابن مراراً فعليه مهر واحد، وإذا وطىء جارية الأب مراراً أو ادعى الشبهة فعليه بكل وطئة مهر، وهذا لأن الثابت في حق الأب شبهة ملك فكان الوطىء الثاني استيفاء بملكه. ومن استوفى منفعة ملكهِ مراراً لا يلزمه إلا بَدَلٌ واحدفي ابتداء.... والثابت في حق الابن بشبهة اشتباه فكان كل وطىء استيفاء ملك الغير فيجب بكل وطء مهر.
وعلى هذا إذا وطىء جارية امرأته مراراً يجب بكل وطىء مهر؛ لأن له شبهة اشتباه. ولو وطىء مكاتبته مراراً فعليه مهر واحد لأن له شبهة ملك. هذه الجملة في «واقعات» الناطفي وإذا وطىء أحد الشريكين الجارية المشتركة مراراً يجب بكل وطئة نصف مهر إذ ليس له في النصف الثاني شبهة ملك فصار بمنزلة جارية ووطئها مراراً ثم استحقت فعليه مهر واحد.
وإذا استحق نصفها فعليه نصف مهر. وفي «نوادر» هشام أيضاً عن محمد رحمه الله في صبي ابن أربع عشر سنة جامع امرأة ثيباً وهي نائمة لا تدري فلا مهر عليه. وإن كانت بكراً فأفضاها فعليه المهر. وكذلك المجنون.
وفي آخر حدود شيخ الإسلام رحمه الله: الصبي إذا زنى بصبيّةٍ فعليه المهر؛ لأنه مؤاخذ بأفعاله، فإن أُمر الصبي بذلك فلا مهر عليه.
وإذا زنى الصبي بامرأة حرة بالغة فأذهب عذريتها؛ إذا كانت مكرهة ضمن الصبي المهر، وإن كانت طائعة دعته إلى نفسها فلا مهر عليه. والصبية إذا دعت صبيّاً إلى نفسها فأذهب عذريتها فعليه المهر؛ لأن أمرها لم يصح في إسقاط حقها بخلاف البالغة. والأمة إذا دعت صبيّاً وزنى بها لزمه المهر؛ لأن أمرها لا يصح في حق المولى.

وفي «واقعات الناطفي» : إذا وطىء منكوحته مراراً ثم ظهر أنه كان حَلَفَ بطلاقها يلزمه مهر واحد؛ لأن له شبهة ملك.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: رجل طلّق امرأته وهو يجامعها ثم تم على جماعه إياها حتى قضى حاجته منها فلا حدّ عليه ولا مهر، إلا أن يكون أخرجه بعد الطلاق ثم عاد إلى المخالطة فيكون ذلك جماعاً مستقبلاً؛ لأن الجماع ليس بجماع

(3/119)


تام إلا بابتداء إدخاله ثم بإخراجه.
فإذا كان الجماع أوّله وآخره حلالاً فهذا ليس بجماع تام على الحرمة فدرأت عنه الحد ولم ألزمه، قال: وكذلك ثم تم على جماعه ثم طلقها فإني أدرأ عنه الحد وألزمه مهرين؛ مهر بابتداء الغشيان ومهر آخر بالتزوج لأن مكثه على الجماع لا يكون أولى من الخلوة في إيجاب المهر. ألا ترى أنها لو حملت من جماعه ذلك كان ابنه، ولا أجعل هذا منه إحصاناً. وفي «نوادر المعلى» عن أبي يوسف رحمه الله: رجل غصب امرأة وجامعها فيما دون الفرج وجاءت بولد، فإن كانت بكراً فعليه المهر، وإن كانت ثيبّاً فلا مهر عليه.
وعنه أيضاً: إذا وطىء الرجل امرأته أبيه من قبل أن يدخل بها الأب وإن كان علم أنها امرأة أبيه فعليه لها مهر بالدخول، ونصف المهر للأب بما أفسد عليه، فإن كان لا يعلم أنها امرأة أبيه فعليه لها مهر الدخول، وعلى الأب لها نصف المهر في قولي وفي قول أبي حنيفة رحمه الله.

قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله. ذكر هذه المسألة بخلاف هذا في رواية بشر. وفي «المنتقى» : بشر عن أبي يوسف رحمه الله لو أن أخوين تزوج أحدهما بامرأة، والآخر بابنتها فأدخلت كل واحدة منهما على غير زوجها منهما ودخل بها فقد بانت منهما امرأتاهما، وعلى كل واحد منهما نصف المهر، وللتي وطئها مهر مثلها وليس لواحد منهما أن يتزوج بامرأته بعد ذلك، ولزوج الأم أن يتزوج بالابنة التي وطئها وإن كانت هي ربيبته إلا أنه لم يدخل بالأم. وليس لزوج الابنة أن يتزوج الأم التي وطئها لأنها أم امرأته، وكذلك لو لم يكن بين الزوجين قرابة.

وفي «المنتقى» : رجل وابنه تزوجا امرأتين أجنبيتين فأدخلت كل واحدة منهما على زوج صاحبتها، فعلى كل واطىء مهر التي وطئها ولا شيء عليه لامرأته؛ لأن الوطء كان بمطاوعةٍ منها والآخر بابنتها فأدخلت امرأة الأب على الابن وأدخلت امرأة الابن على الأب فوطئاهما فإن على الواطىء الأوّل نصف مهر امرأته وجميع مهر الموطوءة فلا شيء على الواطىء الآخر من مهر امرأته فإن كان الوطء منهما معاً فلا شيء على واحد منهما لامرأته. وفيه أيضاً: إذا قال لامرأته ولم يدخل بها: أنت طالق حين أخلو بك أو قال: إذا خلوت بك، فخلى بها وجامعها فعليه مهر ونصف مهر بالدخول، ونصف مهر بالطلاق قبل الدخول، ولا أثر للخلوة في هذه الصورة في تأكيد المهر؛ لأن المهر إنما يتأكد بالخلوة إذا كانت فيها مُدّة يمكنه الدخول فيها. وإن لم يكن جامعها بعد الخلوة فعليه نصف المهر.
وفيه أيضاً: إذا قال لأجنبية: إذا تزوجتك وخلوت بك ساعة فأنت طالق فتزوجها وخلى بها وقع الطلاق عليها ولها مهران: مهر بالخلوة، ومهر بالدخول بعد الخلوة

(3/120)


بساعة. وإن كان الدخول مع الخلوة لم يكن عليه إلا مهرٌ لأن الطلاق وقع بعد الدخول.

في «العيون» : إذا قال لامرأة: كلما تزوجتك فأنت طالق، فتزوجها في يوم واحد ثلاث مرات ودخل بها في كل مرّة (211أ1) فهي امرأته وعليه مهران ونصف وقد وقعت تطليقتان على قياس قول أبي حنيفة، وهو قول أبي يوسف رحمهما الله؛ لأنه لما تزوجها أولاً وقعت تطليقة ووجب نصف مهر، فلما دخل بها وجب مهر كامل؛ لأن هذا وطىء عن شبهة في المحل ووجبت العدة، فإذا تزوجها ثانياً وقع طلاق آخر. وهذا الطلاق بعد الدخول معنى، فإن من تزوج المعتدة وطلقها قبل الدخول بها عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله يكون هذا الطلاق بعد الدخول معنى فيجب مهر كامل فصار مهران ونصف.
فإذا دخل بها فقد دخل بها وهي معتدة عن طلاق رجعي فصار مراجعاً، ولا يجب بالوطىء شيء، فإذا تزوجها ثالثاً لا يصح النكاح؛ لأنه تزوجها وهي منكوحة. ولو قال: كلما تزوجتك فأنت طالق بائن والمسألة بحالها بانت بثلاث وعليه خمس مهور ونصف مهر في قياس قولهما يخرج على الأصل الذي بينّا.
ذكر نجم الدين النسفي رحمه الله تفسير العقر الواجب بالوطء في بعض المواضع حاكياً عن القاضي الإمام الإسبيجابي رحمه الله: أن ينظر بكم يستأجر هذه المرأة بالوطء لو كان الاستئجار بالوطء حلالاً.
وفي «واقعات الناطفي» في آخر كتاب البيوع أن تفسيره عند أبي حنيفة رحمه الله أن ينظر بكم يتزوج به مثلها وأحاله إلى اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى رحمهما الله.

الفصل السادس عشر في النكاح الفاسد وأحكامه
إذا وقع النكاح فاسداً وفرق القاضي بين الزوج وبين المرأة فإن لم يكن دخل بها فلا مهر لها ولا عدة، وإن كان قد دخل بها فلها الأول (إن) لم يكن دخل مما سمى لها ومن مهر المثل إن كان ثمة مسمى، وإن لم يكن ثمة مسمى فلها مهر المثل بالغاً ما بلغ وتجب العدة. ويعتبر الجماع في القبل حتى يصير مستوفياً المعقود عليه، وتعتبر العدة من حين يفرق بينهما عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، ولكل واحد من الزوجين فسخ هذا النكاح بغير محضر من صاحبه عند بعض المشايخ، وعند بعضهم إن لم يدخل بها فكذلك الجواب.
وإن دخل بها فليس لواحد منهما حق الفسخ إلا بمحضر من صاحبه، كما في البيع الفاسد لكل واحد من المتعاقدين حق الفسخ بغير محضر من صاحبه قبل القبض فليس له ذلك بعد القبض.

وإن فرّق القاضي بين الزوج وامرأته بحكم فساد النكاح وكان ذلك بعد الدخول بها وجبت عليها العدة، ثم تزوجها في العدة نكاحاً صحيحاً، ثم طلقها قبل الدخول بها فلها

(3/121)


المهر الثاني كاملاً وعليها العدة مستقبلة عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وعند محمد رحمه الله: يجب نصف المهر الثاني وتلزمها بقية العدة الأولى.

وكذلك لو كان النكاح الأول صحيحاً وطلقها تطليقة بائنة بعد ما دخل بها، ثم تزوجها في العدة ثم طلقها في النكاح الثاني قبل الدخول بها فلها المهر الثاني كاملاً عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. فالحاصل: أن في الدخول في النكاح الأول دخول في النكاح الثاني إذا حصل النكاح الثاني في العدة، وأجمعوا على النكاح الثاني لو كان فاسداً وفرق بينهما قبل الدخول بها في النكاح الثاني أنه لا يجب المهر الثاني؛ لأن الدخول في النكاح الأول إنما اعتبر دخولاً في النكاح لتمكنه من الدخول شرعاً، وذلك بالعقد الفاسد لا يكون. وبهذا الطريق قلنا: إن الخلوة في العقد الفاسد لا توجب المهر والعدة، هذه الجملة في نكاح «الأصل» في باب الأكفاء. ذُكر في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل تزوج امرأة نكاحاً فاسداً وجاءت بولد أتى بستة أشهر ثبت النسب، فالنكاح الفاسد بعد الدخول في حق النسب بمنزلة النكاح الصحيح ويعتبر أقله وذلك ستة أشهر من وقت النكاح عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وعند محمد رحمه الله من وقت الدخول.
قال الفقيه أبو الليث: والفتوى على قول محمد رحمه الله؛ لأن النكاح الصحيح إنما يقام مقام الوطء؛ لأنه داعٍ إليه شرعاً، والنكاح الفاسد ليس بداعٍ فلا يقام مقام الوطء.

وذكر في كتاب الدعوى في «الأصل» : إذا تزوجت الأمة بغير إذن مولاها ودخل الزوج ثم ولدت لستة أشهر منذ تزوجها، فادعاه المولى والزوج فهو ابن الزوج؛ لأن النكاح الفاسد عند اتصال الدخول به في حق النسب ملحق بالنكاح الصحيح، والجواب في النكاح الصحيح ما قلنا فكذا هنا، فقد اعتبر المدة من وقت النكاح فإنه وضع المسألة فيما إذا ولدت لستة أشهر منذ تزوجها، ولم يحك خلافاً.
قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: هذه المسألة دليل على أن الفراش ينعقد بنفس العقد في النكاح الفاسد، خلافاً لما يقوله بعض مشايخنا لا ينعقد إلا بالدخول. وذكر شيخ الإسلام رحمه الله أيضاً: أن الفراش لا ينعقد بالنكاح الفاسد إلا بالدخول.
وتأويل هذه المسألة على (ما) ذكره شيخ الإسلام: أن الدخول كان عقيب النكاح بلا فصل، فتكون المدة في وقت النكاح وفي وقت الدخول سواء. إذا تزوجها نكاحاً فاسداً وخلا بها وجاءت بولد وأنكر الزوج الدخول فعن أبي يوسف رحمه الله روايتان، في رواية قال: يثبت النسب ووجب المهر والعدة، وفي رواية قال: لا يثبت النسب ولا يجب المهر ولا تجب العدة وهو (قول) زفر رحمه الله، وإن لم يخل بها لا يلزمه الولد.
في «مجموع النوازل» الطلاق في النكاح الفاسد ليس بطلاق على الحقيقة بل هو متاركة، حتى لا ينتقص من عدد الطلاق، والمتاركة في النكاح الفاسد لا تتحقق بعدم

(3/122)


مجيء كل واحد منهما إلى صاحبه، وإنما تتحقق بالقول بأن يقول الزوج مثلاً: تركتك، تركتها خليت سبيلك، خليت سبيلها والله أعلم بالصواب.

الفصل السابع عشر في ثبوت النسب
قال محمد رحمه الله في كتاب الدعوى: إذا تزوج الزوج جارية وجاءت بولد فقال الزوج: تزوجتك منذ شهر، وقالت المرأة: لا بل منذ سنة فإن الولد ثابت النسب، وإن كانا تصادقا أنه تزوجها منذ شهر لم يثبت نسب الولد منه. وإن قامت البيّنة بعدما تصادقا أنه تزوجها منذ سنة قبلت. أما إذا كان الولد كبيراً وقد أقام البينة بنفسه فهذا الجواب ظاهر؛ لأن هذه بينة قامت من خصم على خصم.
وأما إذا كان الولد صغيراً فقد تكلّم المشايخ في تخريج المسألة، بعضهم قالوا: القاضي ينتصب خصماً عن الصغير لأن النسب حق الصغير، فينتصب عنه خصماً لتكون البينة قائمة ممن هو خصم، ثم الخصم إنما يقيم البينة على الزوج هنا؛ لأن النسب ثابت منهما على كل حال.

وبعضهم قالوا: يسمع البينة من غير أن ينتصب عنه خصماً بناء على أن الشهادة على النسب هل (211ي1) يقبل جنسه من غير دعوى، وقد اختلف مشايخنا فيه منهم من قال يقبل. وزعم أن هذه المسألة تدل عليه، وإذا كان الصبي في يدي امرأة فقال رجل للمرأة: هذا ابني من نكاح وقالت المرأة: هو ابنك من زنى لم يثبت نسبه، لإنكارها ما ادعاه من الفراش. وإن قالت بعد ذلك: هو ابنك من نكاح ثبت نسبه منهما؛ لأنها أقرّت له بالنكاح بعدما أنكرت، والإقرار بعد الانكار صحيح، فثبت النكاح بينهما، فمن ضرورته ثبوت نسب للولد منهما.
وإذا كان الولد في يد رجل وامرأته فقال الزوج: هذا الولد من زوج كان لك قبلي، وقالت المرأة: بل هو منك فهو منه؛ لأن السبب بينهما ظاهر وهو الفراش، وما ادعاه الرجل غير معلوم.
رجل تحته امرأة وفي يدي المرأة ولد والولد ليس في يد الزوج فقالت المرأة: تزوجتني بعدما ولدت هذا الولد من زوج قبلك، وقال الزوج: لا بل ولدته في ملكي فهو ابن الزوج لما بيّنا أن السبب ظاهر بينهما.

ولو كان الولد في يد الزوج دون المرأة فقال: هو ابني من غيرك، فقالت هو ابني منك فالقول قول الزوج، ولا تصدق المرأة، بخلاف ما سبق. والفرق أن قيام الفراش بينه وبينها لا يمنع فراشاً آخر على غيرها إما بنكاحٍ أو ملك.
فإذا كان الولد في يده كان بيان نسبته إليه في أي فراش حصل. أما ثبوت الفراش له

(3/123)


عليها يمنع فراشاً لغيره عليها فكان هذا الفراش في حقها متعيناً، وباعتباره ثبت النسب من هذا الزوج.d
قال أصحابنا رحمهم الله: لثبوت النسب مراتب ثلاثة
أحدها: النكاح الصحيح وما هو من معناه في الزواج الفاسد، والحكم فيه أنه يثبت النسب من غير دعوى، ولا ينتفي بمجرد النفي وإنما ينتفي باللعان، فإن كانا ممن لا لعان بينهما لا ينتفي نسب الولد.
والثاني: الولد والحكم فيه أن نسب ولدها ثبت بدون الدعوى ولكن ينتفي لمجرد النفي.
الثالث: الأمة والحكم فيه أن نسب ولدها لا يثبت بدون الدعوى، قالوا وإنما يثبت نسب ولد أم الولد بدون الدعوى إذا كانت بحال يحل للمولى وطئها، وأما إذا كانت بحال لا يحل للمولى وطئها لا يثبت النسب بدون الدعوى حتى أن المولى إذا كانت أم ولده فجاءت بولد بعد ذلك لا يثبت نسبه بدون الدعوى. وكذلك الجارية إذا كانت بين رجلين جاءت بولد.... حتى يثبت النسب منهما ثم جاءت بولد آخر لا يثبت نسب هذا الولد بدون الدعوى.

وفي «الواقعات» إذا غاب عن امرأته وهي بكر أو بنت عشر سنين فتزوجت وجاءت بالأولاد فالأولاد من الزوج الأول عند أبي حنيفة رحمه الله، ووضع المسألة في «الأصل» فيما إذا نُعِيَ إلى المرأة زوجها فاعتدت وتزوجت وولدت من الزوج الثاني ثم جاء الزوج الأول حيّا فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله الولد للزوج الأول على كل حال؛ لأنه صاحب الفراش الصحيح؛ لأنه بغيبته لا يفسد فراشه. وفراش الزوج الثاني فاسد، ولا معارضة بين الصحيح والفاسد بوجه ... الفاسد مدفوع بالصحيح. وروى عبد الكريم الجرجاني عن أبي حنيفة رحمه الله أن النسب من الزوج الثاني وهو قول ابن أبي ليلى رحمه الله.
وكان أبو يوسف رحمه الله يقول: إن جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها فالأولاد للزوج الأول. وإن جاءت بالولد لستة أشهر فصاعداً منذ تزوجها فالأولاد للزوج الثاني وقال محمد رحمه الله: إن جاءت بالولد لأقل من سنتين منذ دخل بها الزوج الثاني فالأولاد للأول. وإن جاءت بالولد لأكثر من سنتين منذ دخل بها الزوج الثاني فالأولاد للثاني وكذلك لو ادعت الطلاق فاعتدت وتزوجت والزوج الأول جاحد لذلك فهو على الخلاف الذي قلنا.

هكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله شرح في كتاب «الدعوى» . وفي نكاح «المنتقى» : رجل له زوجة تزوجت وهو حاضر فجاءت بولد، فإن الولد للأول في هذا الموضع. قال ثمة: بهذا يحتج أبو حنيفة رحمه الله في فصل الغيبة قال وقول أبي يوسف رحمه الله كقول أبي حنيفة رحمه الله إذا كان الزوج حاضراً أو غائباً غيبة منتهية، وإن كان

(3/124)


غائباً غيبة منقطعة معروفة فالولد للآخر.
ذكر الحسن بن زياد عن أبي يوسف رحمه الله في مجبوب تزوج امرأة وبقيت عنده زماناً ثم جاءت بولد قال: لزمه الولد وأجعل ذلك إحصاناً، ويحلها ذلك لزوج كان قبله، وبهذا طلاقه.

وفي نوادر هشام قال: سمعت أبا يوسف رحمه الله في رجل اشترى أمة فولدت منه، ثم أقام رجل البينة أنها امرأته زوجها مولاها منه قال: أجعلها وأجعل الولد ولد الزوج لأنه صاحب الفراش، وأعتق الولد بدعوة المولى يعني: لو ادعاه بحكم يعتقه.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: رجل زوج ابنه وهو صغير لا يجامع مثله ولا تحمل المرأة (منه) فجاءت امرأته (بولد) لا يلزمه الولد ولا ترد المرأة ما أنفق أب الزوج عليها عن ابنه لأنها إن زنت وحملت فلها النفقة وهي على ذلك؛ لأنه لا يعرف أبوه، يعني أب الولد، وإن أقرّت أنها تزوجت ردت على الزوج نفقه ستة أشهر مقدار مدة الحمل، وإن كان زوّجه أمة فجاءت بولد فادعاه السيد فهو ابنه؛ لأنه عبده لا يعرف له نسب فيجوز دعوته فيه.
رجل زنى بامرأة فحملت منه فلما استبان حملها تزوجها الذي زنى بها فالنكاح جائز، فإن جاءت بالولد بعد النكاح لستة أشهر فصاعداً يثبت النسب منه وترث منه، لأنها جاءت به في مدة حمل بأنه عقيب نكاح صحيح، فإن جاءت به لأقل من ستة أشهر لا يثبت النسب ولا ترث منه إلا أن يقول: هذا الولد مني ولم يقل من الزنى.

في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله. وفيه أيضاً: رجل له جارية يطأها يعزل عنها فجاءت بولد، فإن كانت الجارية غير محصنة تخرج وتدخل وأكثر ظن الرجل أن الولد ليس منه فهو في سعة من نفيه وإن كانت محصنة لا يسعه نفيه ولا يعتمد العزل؛ لأنه قد يعزل في الفرج الخارج ويظن أنه لا يدخل ويدخل ومتى عزل وعاد وجامع (من غير) أن يبول تحبل لأنه يبقى الماء في ذكره فالعزل مما لا يعتمد عليه. وهذا أيضاً في كتاب العتاق.
جارية هربت من مولاها يوماً ثم وجدها، ويطأها ويعزل عنها وظهر بها حبل وولدت بعد ستة أشهر منذ هربت ومات الولد فإن كانت الجارية قد ذهبت إلى متهم بها (212أ1) فالمولى في سعة من بيعها إلا أن الغالب أن الولد كان من فجور، وإن كانت الجارية عفيفة لم يظهر منها فجور لا ينبغي له أن يبيعها، وينبغي أن يشهد أنها أم ولده حتى لا تباع بعد موته، هذا حق لازم ديانةً لأن الغالب أنه منه، فالعزل مما لا يعتمد عليه على ما ذكرنا.
وإذا طلق امرأته طلاقاً بائناً وجاءت بولد ما بينهما وبين سنتين ثبت النسب منه. وإن جاءت به لأكثر من سنتين لا يثبت. وأما المطلقة الرجعية فيثبت نسب ولدها بينها وبين سنتين ولم يصر الزوج مراجعاً. وإن جاءت به لأكثر من سنتين ثبت النسب وصار مراجعاً، وهذا كله إذا لم تقر بانقضاء العدة، فأما إذا أقرت بانقضاء العدة ثم جاءت بولد

(3/125)


لستة أشهر فصاعداً من وقت الإقرار لم يثبت نسبه من الزوج في الفصول كلها. وإن جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت الإقرار؛ ففي فصل الموت والطلاق البائن يثبت النسب إلى سنتين من وقت الموت والطلاق.
وفي الطلاق الرجعي يثبت النسب من الزوج وإن جاءت به لأكثر من سنتين من وقت الطلاق.
وإذا طلق الرجل امرأته الصغيرة تطليقة بائنة أو مات عنها زوجها فعلى هذا ثلاثة أوجه: الأول: أن تدعي حملاً بعد الموت والبينونة في هذه العدة، وفي هذا الوجه الحكم فيها والحكم في الكسوة سواء.

الوجه الثاني: أن تقر بانقضاء العدة عند مضي ثلاثة أشهر من البينونة أو عند مضي أربعة أشهر وعشراً من الموت، ثم جاءت بولد، إن جاءت بالولد لتمام ستة أشهر من وقت الإقرار لا يثبت النسب، وإن جاءت به لأقل من ذلك يثبت، وإن كانت لم تدع الحبل ولم تقر بانقضاء العدة فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله إن جاءت بالولد لأقل من تسعة أشهر من وقت الطلاق أو لأقل من عشرة أشهر وعشراً من وقت الموت يثبت النسب. وإن كان لتسعة أشهر فصاعداً من وقت الطلاق ولعشرةِ أشهر وعشراً من وقت الموت لا تثبت. وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: يثبت النسب إذا جاءت به لأقل من سنتين، وإن كان الطلاق رجعياً ثبت النسب إذا جاءت بالولد لأقل من سبعة وعشرين شهراً لا بالحكم؛ لأن العلوق كان في مدة العدة فصار به مراجعاً، وأما المتوفى عنها زوجها إذا كانت كبيرة فيثبت نسب ولدها إلى سنتين.

الفصل الثامن عشر في نكاح العبيد والإماء
لا يتزوج العبد أكثر من ثنتين، الحرتان والأمتان في ذلك على السواء، ولا يتزوج أمة على حرّة عندنا، والمكاتب والمدبر وابن أم الولد بمنزلة العبد، فكما لا يجوز للعبد أن يتزوج بغير إذن المولى فكذا لا يجوز للمكاتب والمدبر وابن أم (الولد) ، وكذلك معتق البعض عند أبي حنيفة رحمه الله، وكذلك الأمة والمكاتبة وأم الولد والمدبرة لا يصح نكاحهن بغير إذن المولى، ولا يجوز للمولى أن يزوج المكاتبة والمكاتب بغير رضاهما، ويجوز نكاحه على الأمة بغير رضاها، وكذا على العبد إلا رواية عن أبي حنيفة رحمه الله فيجوز للمكاتب والمكاتبة أن يزوجا ابنيهما من غير رضى المولى وتزوجهما أمتهما يخالف تزوجهما أنفسهما.

وإذا تزوج العبد أو المكاتب أو المدبر وابن أم الولد بغير إذن المولى ثم طلقها

(3/126)


ثلاثاً قيل إجازة المولى فهذا الطلاق مشارك للنكاح وليس بطلاق حقيقةً، حتى لا ينتقص من عدد الطلاق ولكن لو وطئها بعد الطلاق يلزمه الحدّ، فإن أجاز المولى هذا النكاح بعد ذلك لا تعمل إجازته؛ لأنه قد ارتفع بالطلاق.
وإن أذن له أن يتزوجها بعد هذا الطلاق كرهت له أن يتزوجها، ولم أفرق بينهما إن فعل. وقال أبو يوسف رحمه الله لا أكرهه، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله الخلاف على هذا الوجه في شرحه.
وفي «المنتقى» بشر عن أبي يوسف رحمه الله: أمة تزوجت بغير إذن مولاها وطلقها الزوج ثلاثاً كان فرقة لا طلاقاً، غير أني أكره أن يتزوجها حتى تنكح زوجاً غيره. وإذا أذن له سيده في النكاح مطلقاً فتزوج امرأتين في عقدة لم تجز واحدة منهما عليه، وهذا بناء على أن الإذن بالنكاح مطلقاً ينصرف إلى امرأةٍ واحدة إلا إذا اقترن به ما يدل على التعميم بأن قال: تزوج ما شئت من النساء أو ما أشبهه فحينئذ يتعمم ويتزوج ثنتين. وإن قال المولى: عنيت به امرأتين جاز نكاحهما عليه؛ لأنه نوى ما عمله لفظه، لأنه نوى كل الفعل في حقه، ونية الكل في اسم الجنس صحيحة، وكل مهر وجب للأمة بعقد أو دخول فهو للمولى. أما المكاتبة ومعتقة البعض فالمهر لهما لأن ما لزم من مهر العبد بإذن الولي يباع فيه لأنه ظهر وجوبه في حق المولى.
وأما المكاتب والمدبر فيستبقيان فيه؛ لأنه تعذر الاستيفاء من غير الرقبة فيستوفى من الكسب، وما لزمهم بغير إذن المولى اتبعوا به بعد العتق؛ لأنه لم يظهر الوجوب في حق المولى فصار بمنزلة الدين الثابت بالإقرار.

وإذا أذن لعبده في النكاح مطلقاً فتزوج امرأة نكاحاً فاسداً ودخل بها لزمه المهر في الحال على قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يتأخر إلى ما بعد العتق، وهذا بناء على أن الإذن بالنكاح مطلقاً ينصرف إلى الجائز والفاسد عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما إلى الجائز وحده.
وثمرة الخلاف إنما تظهر في مسألتين إحداهما: هذه المسألة
الثانية: لو أن العبد بعدما تزوج هذه المرأة نكاحاً فاسداً أَوَلَهُ أن يتزوج هذه أو أخرى بعد ذلك نكاحاً صحيحاً؟ لا يملك عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الإذن انتهى، وعندهما يملك.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : عبد تزوج امرأة بغير إذن المولى ثم إن المولى أذن له في النكاح فأجاز ذلك النكاح، فإن أبا يوسف رحمه الله قال: القياس أن لا يجوز لكني استحسن أن أُجيره، وإنما أضاف جواب القياس إلى أبي يوسف رحمه الله؛ لأن أبا يوسف يقول بالقياس في هذه المسألة ثم رجع وقال بالاستحسان. ومحمد رحمه الله كان يقول بالاستحسان من الابتداء، ولم يذكر قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه لم يحفظ عنه لا لأن قوله بخلاف قولهما.

وجه الاستحسان أن الإجازة إتمام لذلك العقد، والإذن بالشيء إذن به ومما هو من

(3/127)


تمامه، ألا ترى أن الوكيل بالشراء يملك القبض؛ لأن القبض من تمامه، وألا ترى أن الوكيل بالقبض يملك إسقاط خيار الفرق، به بخلاف ما إذا أذن له بنكاح امرأة بعينها فتزوج امرأة أخرى (212ب1) لا يجوز؛ لأن نكاح غيرها غير ذلك ليس من تمام نكاحها، وبخلاف العبد المحجور إذا باع شيئاً من كسبه ثم أذن له المولى في التجارة فأجاز ذلك البيع حيث لا يجوز؛ لأن الإجازة هناك ليست من تمام ما تحت الإذن لأن بيع مال المولى ليس بداخل تحت الإذن في التجارة وكسب العبد ودخل المحجور الخالص مال المولى، ألا ترى أنه لو باع هذا المال بعد الإذن في التجارة لا يجوز وإذا لم يكن بيع هذا المال داخلاً تحت الإذن لم يكن إدخال إجازة ذلك البيع تحت الإذن من حيث إنها إتمام لذلك البيع. أما الإجازة في النكاح إتمام لذلك النكاح؛ لأن نكاح أية امرأة شاء العبد داخل تحت الإذن، ألا ترى أن العقد يملك التزوج بعد إذن المولى فيملك من إتمامه. ومن المشايخ من قال: القياس ما كان. ووجد استحسان في هذه المسألة من وجه آخر. القياس: أنه يبطل النكاح الموقوف بإذن المولى عنده في النكاح فلا تعمل إجازة العبد، وفي الاستحسان لا يبطل فتعمل إجازته. ثم على جواب الاستحسان لا ينفذ هذا العقد من غير إجازة، بخلاف ما إذا أعتق العبد حيث ينفذ ذلك النكاح عليه من غير إجازة.
وفيه أيضاً: إذا أذن الرجل لعبده أن يتزوج على رقبته فتزوج على رقبته أمة أو مدبرة أو أم ولد بإذن مولاهن جاز النكاح، فصار رقبة العبد لمواليهن وأنه أجاز النكاح؛ لأنه لو لم يجز إنما لم يجز من حيث أنه يقارن نكاحها.... في نكاحها وهو ملكها رقبة زوجها من حيث أن الملك في المهر يثبت للأمة أولاً، ثم ينتقل إلى المولى وليس كذلك، بل الملك في المهر يثبت للمولى ابتداءً؛ لأن المملوك ليس كذلك من أهل الملك.

ولو قلنا: إن الملك يثبت لها ابتداءً إلا أن هذا ملك لاقرار له فلا يكفي لقيان النكاح حرة على رقبته لا يجوز؛ لأنها تملك رقبة زوجها، لو جاز النكاح مقارناً للنكاح؛ لأن الملك في البدلين في المعاوضات يقع معاً، وهذا ملك له قرار يمنع صحة النكاح، ألا ترى أنه لو طرأ على النكاح أبطله، فإذا فارقه منع ثبوته، وكذلك لو تزوج مكاتبة على رقبته كان النكاح باطلاً؛ لأنه لو جاز هذا النكاح ثبت له حق الملك في رقبة زوجها إذنٌ؛ لأن المكاتبة في الكتابة حق الملك هذا إذا أذن له أن يتزوج على رقبته امرأة.
أما إذا (أذن) له أن يتزوج امرأة ولم يقل على رقبتك، فتزوج امرأة حرة أو مكاتبة أومدبرة أو أم ولد على رقبته جاز النكاح بقيمته استحساناً، بخلاف ما إذا أذن له أن يتزوج على رقبته فتزوج حرة أو مكاتبة أو على رقبته فإنه لا يجوز.
وإذا (أذن) لمكاتبه أو مدبره أن يتزوج على رقبته فتزوج على رقبته أمة أو مدبرة أو أم ولد جاز وهذا ظاهر أنه يجوز مثل هذا من العبد مع أن العبد، يقبل النقل من ملك إلى

(3/128)


ملك وكذا إذا تزوج حرة أو مكاتبة، لأن المرأة لا تملك شيئاً من رقبة الزوج هنا؛ لأن المكاتب والمدبر لا يقبلان النقل من ملك إلى ملك بخلاف العبد.
وإذا صح النكاح يجب على المكاتب والمدبر قيمتهما ويسيعيان في ذلك، وهذا لأنه إن يقدر تصحيح النكاح هنا تعين المسمى أمكن تصحيحه بقيمة المسمى، لأن المسمى مال معلوم إلا أنه معجوز التسليم لحقٍ مستحق شرعاً لا لفساد العقد، وفي مثل هذا يجوز النكاح بالقيمة، كما لو تزوج امرأةً على عبد الغير ولم يجز ذلك الغير.
وفي «الجامع» أيضاً: عبد تزوج حرةً أو أمةً أو مكاتبةً أو أم ولدٍ أو مدبرةٍ على رقبته وبغير إذن المولى فبلغ المولى ذلك فأجازه، فإن كان تزوج أمة أو مدبرة أو أم ولدٍ عملت إجازته وصح النكاح.

وإن كان تزوج حرة أو مكاتبة لا تعمل إجازته، فإن كان قد تزوج على رقبته حرة وقد دخل بها لزمه الأقل من قيمته ومن مهر المثل بعد ذلك، ينظر إن دخل بها بعدما دخل بها بعدما أجاز المولى النكاح يكون ذلك ديناً في رقبته يباع فيه إلا إن يفديه المولى.
وإن دخل بها قبل إجازة المولى النكاح يؤاخذ مما لزمه بعد العتق، وهذا لأن هذا النكاح فاسد والمهر في النكاح الفاسد لا يجب بمجرد العقد، وإنما يجب بالعقد والدخول والدخول آخرهما فيضاف الوجوب إليه.
إذا ثبت هذا فنقول: إذا دخل بعد إجازة المولى والإجازة في الانتهاء كإذنٍ في الابتداء كان النكاح والدخول حاصلاً بإذن المولى؛ لأن إذن المولى له بالعقد إذن بالدخول. والإذن بالدخول يوجد في المستقبل معتبر، فكان هذا ديناً لزمه بسبب هو مأذون فيه، فيؤاخذ به للحال. أما إذا دخل بها قبل إجازة المولى فالإذن في حق العقد إن عمل؛ لأنه قائم بمن ينفسخ بعد. ففي حق الدخول لم يعمل؛ لأنه مضى وانقضى حقيقة، فبقي الدخول بغير إذن فكان هذا ديناً لزمه هو بسبب ليس بمأذون فيه فيؤاخذ به بعد العتق.
وإن كان تزوج على رقبته أمةً أو مدبرةً أو أم ولدٍ وقد دخل بها، إن دخل بها بعد إجازة المولى النكاح لا يجب إلا المسمى، وهو رقبة العبد لمواليهن؛ لأن الدخول حصل في نكاح نافذ. وإن دخل بها قبل إجازة المولى النكاح فكذلك الجواب لا يجب إلا المسمى، وهو رقبة العبد للمولى. بعض مشايخنا قالوا: ما ذكر جواب الاستحسان. والقياس: أن يجب مهر المثل بالدخول والمسمى بالعقد، وقاسوا هذه المسألة على مسألة ذكرها في «الأصل» وصورتها:
عبد تزوج امرأة بغير إذن مولاه بألف درهم ودخل بها قبل اجازة المولى النكاح ثم أجاز المولى النكاح، ذكر أن القياس: أن يلزمه مهر المثل بالدخول والمسمى بالنكاح؛ لأنه بالدخول قبل الإجازة لزمه مهر المثل؛ لأنه دخل بها عن شبهة، وبالإجازة نفذ النكاح فلزمه المسمى في النكاح.

وفي الاستحسان يجب المسمى لا غير؛ لأن مهر المثل في مثل هذه الصورة لو

(3/129)


وجب بالدخول وجب باعتبار العقد، فإنه لولا العقد كان الواجب هو الحد، والمسمى واجبٌ بالعقد أيضاً. والعقد الواحد لا يوجب مهرين.
وبعض مشايخنا.... ذكر من القياس ثمة لا يبالي هنا؛ لأن مولى الأمة ملك رقبة العبد عند الإجازة، فسقط مهر المثل الواجب بالدخول عن شبهة، إذاً المولى لا يستوجب على عبده شيئاً. وإذا سقط ذلك في مسألتنا لم يجتمع المسمى ومهر المثل على طريق القياس ولا كذلك مسألة الأصل.
وإذا زوج أمته من عبده لا مهر لهاعليه، واختلف المشايخ في تخريج المسألة، بعضهم قالوا: لا يجب المهر أصلاً؛ لأنه لا فائدة (213أ1) في إيجاب وقال بعضهم: يجب ثم يسقط، وإذا أعتقت الأمة فلها الخيار؛ لأن بالعتق يزداد الملك عليها؛ لأن الملك قبل العتق يزول بتطليقتين، وبعد العتق لا يزول إلا بثلاث تطليقات، فكان لها أن ترفع زيادة الملك عن نفسها، وذلك برد أصل النكاح، فيثبت لها رد أصل النكاح، وكما ثبت لها الخيار بالعتق حال قيام النكاح يثبت لها الخيار بالعتق في العدة عن طلاق رجعي، هكذا ذكر في «المنتقى» .
ويستوي أن تكون الأمة صغيرة أو كبيرة، إلا أنها إذا كانت صغيرة لا ينصرف بحكم هذا الخيار فسخاً، فلا إجازة ما لم يبلغ فسخاً بأن تختار نفسها، وأجازه بأن تختار وزوجها لتردده بين الضرر النفع، والصغير لم يؤهل لمثل هذا التصرف، فلا يملك وليها التصرف بحكم هذا الخيار أيضاً؛ لأن وليها قائم مقامها فلما بلغت خيرها القاضي خيار العتق فلا يخيرها خيار البلوغ.
وقوله: ولا يخيرها خيار البلوغ يحتمل فلا يخيرها خيار البلوغ؛ لأنه ليس لها خيار البلوغ فلا يخيرها خيار البلوغ مع أن خيار البلوغ ثابت لأنه ثبت لها خيار العتق وخيار العتق ينتظم خيار البلوغ؛ لأنه أعم من خيار البلوغ.

واختلف المشايخ فيه، منهم من قال بالأول وهو الأصح، هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الجامع» في فصل العبد على ما يأتي بيانه بعد هذا. وهذا لأن العقد صدر ممن هو كامل الولاية؛ لأن ولاية المولى على مملوكه نسبت الملك، ولا نقصان في الملك فكانت الولاية كاملة فلا يثبت خيار البلوغ كما في الأب والجد، ثم الكلام في خيار العتق في فصول:
أحدها: أن خيار العتق يثبت للأنثى دون الذكر. الثاني: أن خيار العتق لا يبطل بالسكوت فيبطل بقول أو فعل يدل على اختيارها النكاح، وقد ذكر الكرخي عن محمد رحمه الله أن المعتقة إذا قالت: رضيت بالنكاح بطل خيارها. والثالث: أنه يبطل بالقيام عن المجلس. الرابع: أن الجهل بخيار العتق عذر حتى لو علمت بالعتق ولم تعلم بالخيار لا يبطل خيارها وإن قامت عن المجلس على ما عليه إشارات في «الجامع» وهو قول

(3/130)


الكرخي رحمه الله وجماعة مشايخ بخارى خلافاً لما قاله القاضي الإمام أبو طاهر الدباس وأحمد ابن ... رحمهما الله. والخامس: أن الفرقة بخيار العتق فرقة بغير طلاق؛ لأن خيار العتق إنما يثبت للأنثى دون الذكر والفرقة من جانب المرأة لا تكون طلاقاً.
قال في «المنتقى» وخيار العتق نظير خيار الطلاق، سوّى بين الخيارين مطلقاً. وفي الكتب الظاهرة بينهما فرق في حق بعض الأحكام، فإن الفرقة ثمة طلاق والجهل ثمة ليس بعذر إلى غير ذلك من الأحكام.
قال: إذا زوج الرجل عبده الصغير امرأةً حرةً، ثم إن المولى أعتق العبد ثم بلغ فليس له خيار البلوغ ولا خيار العتق. وبهذه المسألة ينبني أن الصحيح في فصل الأمة قول من يقول بأن خيار البلوغ غير ثابت لها لا أنه ثابت لكن ينتظمه خيار العتق، ألا ترى أن في حق العبد خيار العتق غير ثابت ولم يثبت له خيار البلوغ، والمعنى: ما ذكر أن له إنكاح صدر ممن له ولايةٍ كاملة، ولأن إنكاح المملوك حق المولى باعتبار ملكه، ولم يكن حقاً للعبد عليه بطريق النظر حتى يجب التخيير بطريق النظر بخلاف ما إذا أثبتنا النكاح بعد العتق وهو صغير؛ لأنه حق على المولى بطريق النظر فكان هو بمنزلة اليتيم فيجب التخيير بطريق النظر.
t
رجل كانت جاريته وهي بنت عشر سنين ولم تبلغ وقبلت المكاتبة والمكاتبة جائزة؛ لأن المكاتبة منفعة محضة؛ لأنها تعتق بأداء كسب يكون ملكاً للمولى من غير عتق، والصبي العاقل من أهل مثل هذا التصرف. فإن زوجها المولى بعد ذلك بغير إذنها يوقف النكاح على إجازتها؛ لأن الكتابة لما صحت من الصغيرة العاقلة حَسُنت صحتها من البالغة وكانت الصغيرة بالمكاتبة فيما يُبنى على الكتابة بمنزلة البالغة، ولو كانت المكاتبة بالغة فزوجها المولى بغير رضاها تتوقف على إجازتها كذا هنا، وإن لم ترد النكاح حتى أدّت فعتقت بقي النكاح موقوفاً على الإجازة ولكن على إجازة المولى لا على إجازتها، حتى يجوز بإجازة المولى، فرق بين هذا وبين المكاتبة إذا زوجت نفسها من رجل بغير إذن المولى ثم إنها أدت فعتقت بعد النكاح عليها من غير إجازة وإنما كانت كذلك لأنها إذا زوجت نفسها بغير إذن المولى فالنكاح إنما يوقف بحق المولى لا لحقها وحق المولى زال بالعتق فزال التوقف.

كالراهن إذا باع الرهن ثم قضى الدين، فأما إذا زوج المولى المكاتبة بغير رضا المكاتبة، والتوقف لحق المكاتبة صارت حرة يداً وحرية اليد التي كان يوقف النكاح من المولى لأجلها تأكدت. وازدادت بالعتق فبقي الموجب للتوقف فبقي التوقف فكان العبد إذا تزوج بغير إذن المولى ثم أذن له المولى في التزوج فإنه لا ينفذ ذلك النكاح من غير إجازة العبد أو المولى وإن صار للعبد ولاية التزوج بالإذن لأن التوقف كان لحق المولى لقيام ملكه في رقبته وبعد الإذن ملك المولى باقٍ، فكان الموجب للتوقف باقياً، فبقي التوقف إلا أنه لا

(3/131)


تعمل إجازتها بعدما عتقت قبل أن تبلغ بحكم الصغير، وتعمل إجازة المولى؛ لأن الولاية تحولت إلى المولى بحكم الولاية؛ لأنه عصبتها إذا لم يكن لها ولي أقرب منه.
قال مشايخنا رحمهم الله: هذه المسألة من..... المسائل وأعجبها، فإنهم صححوا إجازة المكاتبة الصغيرة نكاحها قبل العتق، وقبل العتق هي حرة يداً لا رقبةً ولم يصححوا إجازته قبل العتق الذي هو حال قيام الملك حقيقة.
وأما الأول فلأن قبل العتق هي مكاتبة والمكاتبة وإن كانت صغيرة فهي ملحقة بالبالغة حكماً في حق الأحكام التي على الكتابة.

ولو كانت بالغة حقيقة صحت إجازتها، فكذا إذا كانت ملحقة بالبالغة، حكماً. وأما بعد العتق لم تبق مكاتبة وبطل التحاقها بالبالغة فعادت القضية الأصلية والصغيرة يقضية الأصل ليست من أهل الإجازة كما أنها ليست من أهل ابتداء النكاح. وأما الثاني فلأن أصل العتق هي ملحقة بالبالغة، ولو كانت بالغة حقيقة لا تعمل إجازة المولى عليها، فكذا إذا ألحقت بالبالغة، وبعد العتق بطل إلحاقها بالبالغة فهذه حرة صغيرة والمولى وليها إذا لم يكن لها (213ب1) ولي أقرب منه فيملك إجازة النكاح عليها كما يملك الإنشاء عليها، ثم إذا أجاز المولى نكاحها وعمل إجازته ونفذ النكاح عليها كان لها الخيار إذا بلغت عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله؛ لأن الإجازة بمنزلة نكاح مبتدأ فكأنه زوجها بعد العتق، ولو كان كذلك كان لها خيار البلوغ؛ لأنه زوجها بأثر الملك وهو الولاية فكان ناقض الولاية، فكان كالأخ والعم.
ولو أن هذه المكاتبة الصغيرة حين زوجها المولى رضيت بالنكاح وهي صغيرة نفذ، حتى صح رضاها ونفذ النكاح، ثم أدت فعتقت لا خيار لها حتى تبلغ، كالأمة الصغيرة إذا أعتقت فإن بلغت فلها خيار العتق عند علمائنا رحمهم الله لما ذكرنا وليس لها خيار البلوغ وكان ينبغي أن يكون لها خيار البلوغ؛ لأن المولى بحكم الملك وبعد الكتابة ملكه ناقص والتزويج صدر ممن هو ناقص الولاية. والجواب:
إنما لم يثبت لها خيار البلوغ لوجهين: أحدهما: أنه يثبت لها خيار العتق وأنه أعم، فلا يقيد إثبات خيار البلوغ معه.

الثاني: أن صدور العقد ممن له ولاية ناقصة، إنما يثبت الخيار إذا لم يوجد الرضا من المولى عليه بعد البلوغ اعتباراً على (ما) ذكرنا قال: ولو أن هذه المكاتبة لم ترض بالنكاح ولم تنقضه حتى عجزت وردت في الرق بطل النكاح حتى لو أجازه المولى لا تعمل إجازته؛ لأن بالعجز حلت للمولى فطرأ للمولى على الحل الموقوف حل بات فأوجب بطلان الموقوف حتى لو كان مكان المكاتبة مكاتب صغير أو قد زوجه المولى امرأة بغير رضاها ثم عجز ورد رقيقاً لم يبطل نكاحه بل يبقى موقوفاً على إجازة المولى؛ لأنه لم يطرأ حل بات على حل موقوف، وكان ينبغي أن ينفذ نكاح المكاتب من غير إجازة المولى، إنما رضي بهذا النكاح

(3/132)


ليكون المهر والنفقة في كسب هو غير مملوك للمولى، فإن كسب المكاتب حال قيام الكتابة غير مملوك للمولى، وبعد العجز يصير كسبه مملوكاً للمولى وهو لم يرضَ بكون المهر والنفقة في مثل هذا الكسب فلهذا توقف على إجازته.
فرع على مسألة المكاتب فقال: لو لم يعجز المكاتب ولكن أدى وعتق بقي النكاح موقوفاً على إجازة المولى أيضاً لما قلنا في فصل المكاتبة، ففي حق المكاتب لا يختلف الجواب بين العجز والعتق، إنما يختلف ذلك في حق المكاتبة.
ولو طرأ الرق على النكاح فهو كالمقارن في حق ثبوت خيار العتق عند أبي يوسف رحمه الله، وذلك نحو الحربية إذا تزوجت ثم سبيت وأعتقت. والمسألة: إذا تزوجت ثم ارتدت مع زوجها ثم سبيا ثم أعتقت فلها الخيار في قول أبي يوسف رحمه الله وعن محمد رحمه الله، أنه لا يثبت لها الخيار، هكذا ذكره القدوري رحمه الله.

قال «البقالي» : والصحيح أن الخلاف على العكس، هكذا قال القدوري. قال أبو يوسف رحمهما الله: يجوز أن يثبت خيارالعتق مرة أخرى نحو أن تعتق فتختار زوجها ثم ترتد مع الزوج ثم تسبى فتعتق فتختار نفسها، وقال محمد رحمه الله: يثبت خيار واحد إذا اختارت المعتقة نفسها قبل الدخول بها ولا مهر لها أصلاً، وإن اختارت بعد الدخول بها وجب لسيدها، ولو اختارت زوجها كان المسمى لسيدها دخل بها أو لم يدخل بها. إذا زوجت الأمة نفسها بغير إذن المولى ثم أعتقها المولى بعد العتق لما قلنا في جانب العبد. ولا خيار للأمة، ويجب مهر واحد إن لم يكن الزوج دخل بها قبل العتق فيكون لها؛ لأنه ملك بضعها وهي حرّة؛ لأن نفاذ النكاح بعدالعتق، فصار كما لو عقد العقد عليها وهي حرة ولأجل ذلك قال: لا خيار لها.
وإن كان الزوج قد دخل بها قبل العتق فالقياس أن يجب مهران: مهر للمولى بالدخول بشبهة النكاح قبل العتق، ومهر لها بنفوذ العقد عليها بعد العتق. وفي الاستحسان: لا يجب إلا مهر واحد ويكون للمولى؛ لأن وجوب المهر بالدخول في هذه لا يكون إلا بالعقد، ألا ترى أنه لو لم يسبق العقد لا يجب المهر بل يجب العقد، والعقد الواحد لا يوجب إلا مهر لواحد. فإذا وجب به مهر واحد للمولى لا يجب مهر آخر لها. وأما المدبرة إذا زوجت نفسها من غير إذن مولاها وعتقت ( ... ) النكاح عليها كما في الأمة، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله.
وفي «المنتقى» إذا خرجت المدبرة من الثلث جازالنكاح، وإن لم تخرج لم يجز من قول أبي حنيفة رحمه الله حتى..... ويجوز في قول أبي يوسف رحمة الله عليه، وأما أم الولد إذا زوجت نفسها بغير إذن المولى ثم مات المولى حتى عتقت هل ينفذ النكاح عليها؟ لم يذكر محمد رحمة الله عليه هذا الفصل في «الأصل» ، ومشايخنا فصّلوا الجواب فيها تفصيلاً فقالوا:

(3/133)


إن كان الزوج قد دخل بها قبل موت المولى ثم مات المولى نفذ النكاح عليها، وإن لم يدخل بها الزوج حتى مات المولى بطل النكاح، قيل: وهذا الجواب إنما يستقيم على رواية ابن سماعة، فإن على روايته: أم الولد إذا زوجت نفسها بغير إذن المولى ودخل بها الزوج قبل الإجازة ثم مات المولى لا تجب العدة عن المولى فينفذ النكاح.
أما على «ظاهر الرواية» تجب العدة عن المولى فلا ينفذ النكاح، وإن لم يدخل بها الزوج حتى مات المولى لا ينفذ النكاح، وإن لم لأجل العدة التي لزمتها للمولى، ولو لم يمت المولى ولكن أعتقها فهو على هذا التفصيل أيضاً، إن أعتقها قبل أن يدخل بها الزوج بطل النكاح إلى آخر ما ذكرنا في فصل الموت.
وإذا زوج أحد الشريكين الجارية المشتركة بدون رضا صاحبه ودخل بها الزوج ثم رد الآخر النكاح، فللمزوج الأول من نصف مهر المثل ومن نصف المسمى؛ لأنه راضٍ بالمسمى، ورضاه معتبر في حقه. وإن لم يدخل بها الزوج حتى رد الآخر النكاح فلا مهر لواحد منهما خلا بها الزوج أو لم يخل بها.
وهذا لأن الخلوة إنما تعتبر في النكاح الصحيح، وهذا النكاح لم يصح. قال «البقالي» في فتاويه: ومهر مثل الأمة على قدر الرغبة، وعن الأوزاعي رحمه الله ثلث قيمتها. وفي «البقالي» : إذا زوج أمته ثم أعتقها ثم (213أ1) زاد الزوج في مهرها فالزيادة للمولى. رواه ابن رستم عن محمد رحمه الله، وعن أبي يوسف رحمه الله أن الزيادة لها، وكذلك لو باعها ثم زاده فالزيادة للمشتري. في «المنتقى» : ابن سماعة عن محمد رحمه الله في أمة تزوجت بغير إذن المولى ثم وطئها المولى لم يكن ذلك نقضاً للنكاح. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه ينفسخ النكاح.

ولو باعها على أنه بالخيار فهو نقض للنكاح من قبل أن البيع ينفذ إذا سكت عن نقضه حتى تمضي مدة الخيار. بشر عن أبي يوسف رحمه الله: أمة تزوجت بغير إذن المولى ثم إن المولى أوصى بها لرجل، فإن قبلها صاحب الوصية انفسخ النكاح، وإن لم يقبل لا ينفسخ، ولو وهبها لم ينفسخ النكاح، ولو مات المولى وتركها ميراثاً فهذا في القياس ملك حادث فيكون فسخاً للنكاح.
وفي الاستحسان: لا ينفسخ؛ لأن الوارث يقوم مقام المورث في تركته. في «المنتقى» ابن سماعة عن محمد رحمه الله عبد تزوج حرة أذن مولاهما ودخل بها ثم تزوج أمة لم يكن تَزَوُّجُهُ الأمة في عدة الحرة رداً لنكاح الحرة في قول أبي حنيفة رحمه الله، وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: هو ردّ بناء على أن عند أبي حنيفة رحمه الله لا يتزوج الأمة في عدة الحرة خلافاً لهما، ولو تزوج حرة ودخل بها ثم تزوج أختها ودخل بها لم يكن ذلك رداً النكاح الأول.
وفي «نوادر بشر» بن الوليد عن أبي يوسف رحمه الله: عبد تزوج بغير إذن مولاه أمة رجل بإذنه ثم قال: لا حاجة لي في نكاحها فهذا رد، ولو لم يقل ذلك حتى دخل بها ثم تزوج بعض من لا يصلح له نكاحها في عدتها لم يكن ذلك نقضاً للنكاح. في

(3/134)


«المنتقى» : تزوج العبد حرة بإذن المولى على غير مهر، ثم جعل المولى العبد لامرأته بمهرها وقبلت ذلك انتقض النكاح حين ملكته وعليها أن ترد نكاح العبد إن لم يكن دخل بها.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل زوج أمته برضاها من رجل بغير أمر الزوج والزوج بالغ عاقل خاطب عنه أبوه أو أجنبي بغير أمره حتى توقف النكاح على إجازة الزوج فأعتق المولى الأمة قبل أن يجيز الزوج النكاح بقي النكاح كذلك موقوفاً على إجازة الزوج، وأيهما نقض هذا النكاح يعني الأمة أو الزوج قبل إجازة الزوج صح نقضه، أما إذا نقض الزوج فظاهر، وأما إذا نقضت الأمة فلأن حكم العقد يلزمها عند الإجازة، فكان لها النقض دفعاً لحكم العقد عن نفسه، ثم نقضها صحيح وإن لم يعلم به الزوج؛ لأن المولى فضولي في النكاح في حق الزوج وتصرّف الفضولي غير منعقد في حق الحكم، فصار عقد المولى في حق الزوج بمنزلة غير المنعقد فكان النقض في حق الزوج امتناعاً عن العقد لا إلزاماً على الزوج فيص3ح من غير علم الزوج بخلاف مسألة البيع بشرط الخيار إذا منعه من له الخيار بغير علم صاحبه حيث لا يصح عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لأن البيع بشرط الخيار منعقد وإنما الحكم معلق، فصار الفسخ إلزاماً على خصمه فيتوقف على علمه.
ولو أراد المولى أن ينقض هذا العقد بعد العتق قبل إجازة الزوج لم يذكر هذا الفصل في «الكتاب» ، وقد اختلف المشايخ فيه والصحيح أنه ليس له ذلك.
وإن أجاز الزوج النكاح بعدما عتقت حتى نفذ النكاح لم يكن لها خيار العتق؛ لأن الإجازة بمنزلة نكاح مبتدأ في حق الحكم، فكأنه تزوجها بعد العتق برضاها، وهناك لا يثبت لها خيار العتق كذا هنا ويكون المهر للمعتقة. ولو كان المولى زوجها بغير رضاها وباقي المسألة بحالها ثم إن الأمة بعدما أعتقت نقضت النكاح قبل إجازة الزوج أو بعد إجازة الزوج فإنه يعمل نقضها في الحالين، فرق بين هذا وبينما إذا زوجها برضاها ثم نقضت الأمة النكاح بعد (ما) أعتقت وقد أجاز الزوج النكاح، حتى لا يعمل نقضها.

والفرق: أن في الفصلين جميعاً تعتبر الإجازة كابتداء العقد، فإذا كان النكاح عليها برضاها يجعل المولى كالمستأنف للعقد عليها برضاها بعد العتق، ولو استأنف العقد عليها برضاها بعد العتق وأجاز الزوج النكاح لا يصح نقضها بعد ذلك، وإن كان النكاح عليها بغير رضاها يجعل المولى كالمستأنف للعقد بغير رضاها بعد العتق، وإن استأنف العقد عليها بعد العتق بغير رضاها كان لها أن تنقضه بعد إجازة الزوج وقبلها.
قال في «الأصل» : وإذا زوج الرجل أمته أو مدبرته أو أم ولده وبوّأ لها بيتاً مع زوجها ثم بدا له أن يستخدمها ويردها إلى منزله فله ذلك؛ لأن للمولى حق استخدامها بحكم الملك، والملك قائم في المحل فلا يسقط بالتبوء به، ألا ترى أنه لا يسقط بالإنكاح، وكذلك لو كانت شرطت ذلك للزوج كان الشرط باطلاً يمنعه ذلك من استخدامها؛ لأن المستحق للزوج بالنكاح ملك البضع، ومنافع سائر الأعضاء باقية على

(3/135)


ملك المولى فيصير المولى معتبراً منافع سائر الأعضاء التي بقيت على ملكه، والإجازة شرعت غير لازمة فليس إلى العباد تغيير المشروط في المزوج فيلغو هذا الشرط.
رجل زوج أمته من عبد رجل فولد بينهما أولاد فالأولاد لمولى الأمة؛ لأن الولد يتبع الأم في الملك، ألا ترى الولد يتبع الأم في الرق والحرية.
تزوج الرجل امرأة على أنها حرة أخبرت عن حرية نفسها ثم ظهر بعد ذلك أنها أمة قد أذن لها المولى في النكاح، وقد ولدت ولداً فالولد حر بالقيمة لمكان الغرور يضمن الأب ذلك لمولى الأمة وتعتبر القيمة يوم الخصومة. ولو مات الولد قبل الخصومة فلا ضمان على الأب فيه ويرجع الزوج بقيمة الولد عليها إذا عتقت؛ لأنها لما زوجت نفسها منه على أنها حرة فقد ضمنت له سلامة الأولاد في ضمن عقد المعاوضة فكان بمنزلة الكفالة والمملوك يؤاخذ بضمان الكفالة بعد العتق، وإن ظهر أنها مدبرة أو مكاتبة أو أم ولد فكذلك الجواب في ظاهر الرواية، فروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه إذا ظهر أنها أم ولد فلا شيء على الأب لأن ولد أم الولد لا قيمة له عند أبي حنيفة رحمه الله كما لا قيمة لأم الولد، ألا ترى أنه لا يضمن بالغصب عنده كما لا يضمن أم الولد، فروى الحسن عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أنه إذا ظهر بها مكاتبة فلا شيء على الأب لأنه لو ضمن، ضمن لها وهي تسعى لتحصيل الحرية لنفسها وولدها، ففي حرية ولدها تحصيل بعض مقصود، وكيف يجب الضمان به ويرجع الزوج بقيمة (214ب1) الأولاد عليهم بعد العتق لما قلنا، هذا كله إذا اشترطت الأمة الحرية للزوج بغير إذن المولى، أما إذا اشترطت ذلك بإذن المولى تجب عليها قيمة الولد للزوج في الحال إلا في المكاتبة فإن المكاتبة لا تؤاخذ بقيمة الأولاد للحال، وإن أذن له المولى باشتراط الحرية لما ذكرنا أن ضمان الغرور بمنزلة ضمان الكفالة، والمكاتب لا يؤاخذ بضمان الكفالة في الحال وإن أذن له المولى.

ولو مات الولد في هذه الصورة وترك مالاً فالمال لأبيه بحكم الإرث ولا ضمان على الأب فيه يريد به: لو مات الولد قبل الخصومة، وهذا لأن الضمان على المقدور بالمنع بعد الطلب فإذا مات قبل الخصومة لم يوجد المنع بعد الطلب فلم يوجد سبب الضمان. ولو قتل الولد وأخذ الأب قيمته كان عليه قيمة الولد لمولى الأمة؛ لأنه سلم له بدل نفسه، وحكم البدل حكم للمبدل فيتحقق المنع بعد الطلب ولو مات الأب في هذه الصورة ونفى الولد أخذ المولى قيمته من تركة الأب، فلا يرجع بها بقية الورثة في حصة الولد، وإن لم يترك الأب شيئاً لم يؤخذ الولد بشيء كما لا يؤخذ بسائر ديون الأب.
فإن كان المخبر عن حرية الجارية رجل خنثى إلا أن الرجل المخبر لم يزوجها إيّاه بل الزوج تزوج بنفسه على أنها حرة فالزوج لا يرجع على الرجل المخبر بقيمة الولد لأنه لم يضمن له سلامة الولد نصاً، ولا في ضمن عقد المعاوضة؛ لأنه ما زوجها منه، ولكن يرجع بقيمة الولد على الجارية إذا أعتقت لما ذكرنا. وإن كان الرجل المخبر زوجها منه على أنها حرة فالزوج يرجع بقيمة الولد على المخبر للحال. أما الرجوع لأنه ضَمِنَ له

(3/136)


سلامة الولد في ضمن عقد المعاوضة، وأما في الحال فلأن الحر يؤاخذ بضمان الكفالة في الحال.
قال في «المنتقى» : قال إبراهيم: سألت محمداً رحمه الله عن امرأة قالت للقاضي: زوجني فإني حرة فزوجها وولدت أولاداً ثم استحقت قال: أخذها المستحق وعقرها وقيمة ولدها، ولا يرجع على القاضي بشيء ولكن يرجع عليها. وإن تزوج وأخذت هؤلاء امرأة بإذن المولى على أنها حرّة ثم ظهر أنها أمة لا يكون مقذوراً حتى لا يكون الولد حراً بالقيمة، بل يكون رقيقاً، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله آخراً، وكان أبو يوسف رحمه الله أولاً يقول: الولد حر بقيمته تجب على الأب بعد العتق وهو قول محمد رحمه الله.

اشترى جارية وزوجها قبل القبض إن تم البيع جاز النكاح، وإن انتقض البيع بطل النكاح عند أبي يوسف خلافاً لمحمد رحمهما الله. قال الصدر الشهيد رحمه الله: والمختار قول أبي يوسف رحمه الله؛ لأن البيع إذا انتقض قبل القبض ينتقض من الأصل ويصير كأن لم يكن، فيكون النكاح باطلاً.
عبد طلب من مولاه أن يزوجه معتقة فأبى ثم تشفع العبد أن يأذن له في التزويج، فأذن له فذهب وتزوج المعتقة جاز؛ لأن الإذن حصل مطلقاً ...
في «مجموع النوازل» في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا أذن الوارث لكاتب موروثة في النكاح جاز لأنهم لم يملكوا رقبته فالولاء لهم. وفيه أيضاً: عبدٌ تزوج امرأةً ثم امرأةً ثم امرأةً فبلع المولى فأجاز الكل، فإن لم يكن دخل بهن جاز نكاح الثالثة؛ لأن الإقدام على نكاح الثالثة ردٌ لنكاح الأولى والثانية، بقي الموقوف نكاح الثالثة.
وإن كان دخل بهن فَسَدَ نكاحهن؛ لأن الإقدام على نكاح الثالثة لا يمكن أن يجعل رداً لعدة الأولى والثانية، ونكاح الثالثة في عدة الأولى، فكذا الحر إذا تزوج عشر نسوة بغير إذنهن فبلغهن فأجزن جميعاً جاز نكاح التاسعة والعاشرة لأن الخامسة ردٌ لنكاح الأربع اللاتي قبلها، ونكاح التاسعة رد لنكاح الخامسة والسادسة والسابعة والثامنة وكان الموقوف نكاح التاسعة والعاشرة.
وفي «الأصل» : الأب يملك تزويج أمة ولده الصغير وكذا الوصي، ولا يملكان تزويج عبد الصغير، وهل يملكان تزويج أمة الصغيرة من عبده سيأتي ذلك في كتاب الوصايا والمكاتب يملك تزويج أمته والشريك شركة معاوضة، وأما العبد المأذون، والصبي المأذون، والشريك شركة عنان والمضارب، لا يملكون تزويج الأمة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: يملكون والله أعلم بالصواب.

(3/137)