المحيط البرهاني في الفقه النعماني

الفصل الثامن: في الطلاق الذي يكون من غير الزوج فيجيزه الزوج، فيقع أو لا يقع.
إذا قالت المرأة لزوجها: قد طلقت نفسي فقال الزوج: قد أجزت ذلك فهذا جائز، ويقع عليها تطليقة رجعية؛ لأن هذا تصرف فضولي لم يجد نفاذاً عليها؛ لأن المرأة لا تملك إيقاع الطلاق على نفسها وله مجيز حال وقوعه وهو الزوج، فيتوقف على إجازته. وإذا أجاز ينفذ ويقع الطلاق رجعياً لأن الفضولي عند الإجازة كالتوكيل، وقول التوكيل ينتقل إلى الموكل فيما لا ترجع حقوقه إلى الوكيل، فإن قال الزوج لها: طلقتك وهناك

(3/278)


يقع الطلاق رجعياً. ولا يشترط به الطلاق من الزوج عند قوله؛ أجزت لوقوع الطلاق.
ولو نوى الزوج الثلاث عند قوله: أجزت لا تصح نيته؛ لأن تقدير هذه المسألة كأن الزوج قال لها: طلقتك، وهناك لا يحتاج إلى نية الزوج، فلا تصح نية الثلاث منه كذا ههنا.
وكذلك إذا قالت: أبنت نفسي منك أو حرمت نفسي عليك فقال الزوج: أجزت ذلك وهو يريد الطلاق يقع الطلاق؛ لأن هذا تصرف فضولي لم يجد نفاذاً على الفضولي وله مجيز حال وقوعه وهو الزوج فيقف على إجازة الزوج، فإذا أجازه ينفذ، ويصير تقدير المسألة كأن الزوج قال: أبنتك حرمتك على نفسي، ولهذا يحتاج إلى نية الطلاق عند قوله أجزت، وتصح نية الثلاث عند عدم نية الثلاث وتقع تطليقة بائنة لأن هذه الألفاظ من جملة الكنايات، والواقع بالكنايات بائن وتصح نية الثلاث فيها.

ولو قالت: اخترت نفسي (منك، فقال الزوج: أجزت ذلك وهو يريد الطلاق لا يقع الطلاق؛ لأنه لم يكن له) مجيزٌ حال وقوعه؛ لأن الزوج لا يملك إجازة ذلك؛ لأن ملك الإجازة يستفاد من ملك الإنشاء والزوج لا يملك إنشاء الإيقاع بهذا اللفظ فإنه لو قال: اخترتك اخترت نفسك ونوى الطلاق لا يقع لأنه نوى ما لا يحتمله لفظه ولو قالت المرأة: جعلت أمري بيدي، فقال الزوج: أجزت ذلك وهو يريد الطلاق صار أمرها بيدها؛ لأن الزوج يملك جعل أمرها بيدها بهذه اللفظة بأن يقول جعلت أمرك بيدك فكان لهذا التصرف مجيز حال وقوعه فيتوقف على إجازته وينفذ بإجازته وإن اختارت نفسها بعد ذلك في المجلس يقع الطلاق وما لا فلا، وكذلك لو قالت: جعلت الخيار إليّ فقال الزوج: أجزت ذلك وهو يريد الطلاق صار الخيار إليها.
ولو قالت: جعلت أمري بيدي واخترت نفسي فقال الزوج: أجزت ذلك صار الأمر بيدها، ولكن لا يقع الطلاق ما لم تختر نفسها بعد إجازة الزوج في مجلسها ذلك لأنها باشرت تصرفين ولأحدهما الزوج مجيز وهو جعل الأمر بيدها ولا مجيز للآخر، وهو الاختيار، فيتوقف الأمر باليد على الإجازة، ولا يتوقف الاختيار بل يبطل. فإذا أجازهما صار الأمر بيدها، فإذا اختارت نفسها بعد ذلك (247 أ1) في مجلسها ذلك طلقت وما لا فلا.
ولو قالت: قد كنت جعلت أمس أمري بيدي واخترت نفسي، فقال الزوج: صدقت وقد أجزت ذلك الساعة وهو يريد الطلاق بيدها، ولكنها، لا تطلق إلا إذا اختارت نفسها في ذلك المجلس. ولو كانت قالت: قد كنت قلت أمس: أمري بيدي اليوم كله واخترت نفسي، فقال الزوج: صدقت وقد أجزت ذلك الساعة كان ذلك باطلاً كما لو اختارت نفسها بعد إجازة الزوج لا يقع عليها الطلاق.

والفرق: أن في المسألة الأولى ذكرا الأولى ذكر أمس لبيان وقت التفويض على سبيل التاريخ لا لتأقيت التفويض بالأمس، كقوله بعت أمس، أجزت أمس، فبقي الأمر مرسلاً غير مؤقت بالأمس، فيكون قائماً وقت الإجازة، فالإجازة لاقت تفويضاً قائماً وقت الإجازة، فعملت.

(3/279)


أما ذكر أمس في المسألة الثانية لبيان تأقيت التفويض فيه لا لبيان تاريخ التفويض لأنه إن ذكر الأمس مطلقاً أو ذكر بعض الأمس يكفي في التاريخ، فلم يكن لقوله كله فائدة سوى التأقيت به، ألا ترى أن من قال لغيره: أجزت منك هذا العبد اليوم كله كان ذلك اليوم للتأقيت حتى يجوز العقد. وإذا قال: بعت منك هذا العبد اليوم كله، ذكر اليوم للتأقيت حتى يبطل العقد فكذا ههنا. ولما ذكر الأمس لتأقيت التفويض به لا يبقى التفويض بعد، فالإجازة تلاقي تفويضاً منتهياً، فلا تعمل. هذه الجملة من أيمان «الجامع» .
وفي طلاق «الجامع» : رجل قال لامرأة رجل: جعلت أمرك بيدك، فقالت قد اخترت نفسي فبلغ الزوج الخبر، فقال: أجزت ذلك كله صار الأمر بيدها، ولكن لا يقع الطلاق ما لم تختر نفسها في مجلس علمها بإجازة الزوج. والمعنى ما ذكرنا في قول المرأة: جعلت أمري بيدي واخترت نفسي.
ولو قالت المرأة: جعلت أمري بيدي وطلقت نفسي بذلك، فأجاز الزوج ذلك طلقت واحدة رجعية، وصار الأمر بيدها حتى لو طلقت نفسها بحكم التفويض يقع طلاق آخر بائن؛ لأنها تصرفت تصرفين: الطلاق والتفويض، والزوج مجيز لهما، فيتوقفا على إجازته وينفذا بإجازته. وكان ينبغي أن لا يكون الواقع للحال رجعياً؛ لأنها أوقعت الطلاق بطريق الاختيار، حيث قالت: وطلقت نفسي بذلك، أي بذلك التخيير الذي جعلت في يدي والواقع بالتخيير يكون بائناً، والجواب أن إشارتها لا تصح لأنها؛ لا تملك التطليق قبل التفويض، وقبل الإجازة لم يوجد التفويض إليها، فلغت الإشارة وبقي أصل الطلاق....، كأنها قالت: جعلت أمري بيدي وطلقت نفسي.

ولو قالت المرأة لزوجها: قد اخترت نفسي منك كان باطلاً؛ لأن اختيارها نفسها لا يتوقف على الإجازة ولا ينفذ ذلك منها لاختيارها نفسها قبل صيرورة الأمر بيدها فيبطل ضرورة.
رجل قال لامرأة رجل: إن دخلت هذه الدار فأنت طالق فأجاز الزوج ذلك ثم دخلت الدار طلقت. ولو دخلت الدار قبل إجازة الزوج لا تطلق، فإن عادت بعد الإجازة فدخلت الدار طلقت؛ لأن تصرف الفضولي إنما يصير يميناً بإجازة الزوج والأيمان تقتضي شروطاً في المستقبل.
ولو أن رجلاً قال لرجل: بلغني أن امرأتي تخرج من منزلها وأنا غائب وأنا أريد أن أحذرها فاكتب في ذلك كتاباً، فكتب الرجل إليها: أما بعد فإن خرجت من منزلك فأنت طالق ثلاثاً، فخرجت المرأة من المنزل بعدما كتب الرجل الكتاب قبل أن يقرأه الكاتب على الزوج ثم قرأه على الزوج فأجازه وبعث بالكتاب إلى المرأة فليس يقع بالخروج الأول شيء، وإنما هذا على خروج يوجد بعد الإجازة؛ لأن قول الزوج للكاتب: اكتب بذلك كتاباً ليس فيه ما يدل على الطلاق، وإنما أمره أن يكتب كتاباً يمنعها عن الخروج بعظة يعظها، وقد يكون ذلك بالطلاق وقد يكون بغيره، فلم يثبت الأمر بكتابة اليمين

(3/280)


بالطلاق، فكان فضولياً في كتابة اليمين بالطلاق وإنما ينعقد يميناً إذا أجاز الزوج ولا معتبر فالشروط قبل انعقاد اليمين.
وفي «المنتقى» عن ابن سماعة قال: سمعت أبا يوسف رحمهما الله: يقول في رجل قال لامرأة رجل: إن دخلت هذه الدار فأنت طالق، فقال الزوج: نعم قد حلف الزوج بذلك كله، فإن دخلت بعد قوله نعم فهي طالق. فكذلك قال: ألزمتها ذلك ولو لم يقل الزوج شيئاً حتى دخلت الدار، فقال: قد أجزت هذا الطلاق عليها فهو جائز.

وفي أيمان «القدوري» : إذا قال الزوج: امرأة زيد طالق وعبده حر، وعليه المشي إلى بيت الله تعالى إن دخل هذه الدار، فقال زيد: نعم، وقد حلفت بذلك كله، ولو لم يقل نعم ولكن قال: أجزت ذلك، فهذا لم يحلف على شيء، وإنه يخالف مسألة «الجامع» التي تقدم ذكرها. ولو قال: أجزت ذلك عليها إن دخلت الدار، أو قال: ألزمته نفسي إن دخلت الدار لزمه.
وفيه أيضاً: لو قال امرأة زيد طالق، فقال زيد: أجزت أو رضيت أو ألزمته نفسي لزمه الطلاق.
وفيه أيضاً: إذا قال الرجل: إن بعت هذا المملوك من زيد فهو حر، فقال زيد: نعم، ثم اشتراه زيد لا يعتق عليه. ولو قال: إن اشترى زيد مني هذا العبد فهو حر، فقال زيد: نعم، ثم اشتراه عتق عليه.
وفي «المنتقى» : إذا طلق الرجل امرأة رجل أو أعتق عبده أو باعه فقال الزوج أو المولى: رضيت بذلك أو قال: شئت ذلك، فهو إجازة. ولو قال: قد أحببت ذلك، أو قال: هويت، أو أردت، أو قال: أعجبني ذلك، أو قال وافقني ذلك فذلك ليس بإجازة.
وفيه أيضاً: إذا قال الرجل لامرأة رجل: اختاري، يعني الطلاق فاختارت نفسها أو قال لها: أمرك بيدك، ينوي الطلاق، فاختارت نفسها، أو قال لها: أنت طالق إن شئت، فقالت: شئت، وقال الزوج: قد أجزت ذلك فهي طالق. ولو قال: أجزت قوله: أمرك بيدك وأجزت قوله: اختاري لم يلزمها الطلاق إلا أن تختار نفسها بعد إجازة الزوج في مجلس علمها بإجازة الزوج.
وفيه أيضاً: إذا قالت لنفسها: إذا ولدت ولداً، فأنا طالق فولدت ولداً فقال الزوج: قد أجزت ذلك فهي طالق. ولو قال ألزمت نفسي قولك إذا ولدت ولداً لا تطلق ما لم تلد ولداً آخر. ولو قالت: أنا طالق بألف درهم، فقال الزوج: نعم لزمها (247ب1) تطليقة بألف درهم.

الفصل التاسع: في الاستثناء في الطلاق
يجب أن يعلم بأن الاستثناء يصح موصولاً ولا يصح مفصولاً. وشرطه أن يتكلم بالحروف سواء كان مسموعاً أو لم يكن عند الشيخ أبي الحسن الكرخي رحمه الله، وكان

(3/281)


الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله يقول: لا بد وأن يسمع نفسه، وبه كان يفتي الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله، قال الكرخي رحمه الله في «كتابه» كلمة إن شاء الله إذا وصلت بالكلام ترفع حكمه، أي: يصرف (أياً) كان.
وحكي عن الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إذا قال الرجل: نويت أن أصوم غداً إن شاء الله كانت نيته صحيحة، لو صام غداً بهذه النية يجوز استحساناً. وتخرج المسألة من وجهتين:
إحداهما: أن كلمة إن شاء الله في هذه الصورة تستعمل لطلب التوفيق عادة، ولا تستعمل للتعليق، حتى لو استعملها للتعليق لا تصح نيته أيضاً.
الثاني: أن الاستثناء عمل اللسان ويرفع حكم كل تصرف يختص باللسان نحوالطلاق والعتاق والبيع، والنية عمل القلب لا تعلق له باللسان، فلا يرفع الاستثناء حكمه.
وذكر في «الفتاوى» : المريض إذا قال لورثته: اعتقوا فلاناً عني بعد موتي إن شاء الله صح الإيصاء حتى يجب عليهم الإعتاق.
وتخريجه: أن هناك الاستثناء دخل في الأمر، والاستثناء يعمل في الإيجاب لا في الأوامر لعلة أن الإيجاب يقع لازماً فيحتاج فيه إلى الاستثناء حتى لا يلزمه حكمه، وأما الأوامر لا تقع لازمة، فإنه يمكن الرجوع فيها، فلا تقع الحاجة فيها إلى الاستثناء، وصار الحاصل أن كلمة إن شاء الله إذا دخلت على ما يختص باللسان وهو إيجاب يرفع حكمه، وإذا دخلت على ما لا يختص باللسان أو هو أمر، فليس بإيجاب إذا دخلت على الأمر يرفع حكمه.
وإذا قال لها: أنت طالق إن شاء الله، فهذا استثناء، وكذلك إذا قال: ما شاء الله فهو استثناء، وكذلك إذا قال: إلا إن شاء الله، ولو قدم الاستثناء فإن ذكر الطلاق بحرف الفاء بأن قال إن شاء الله فأنت طالق، فهذا استثناء صحيح.

وكذلك إذا قال: إن شاء الله قوله ... لله لا أدخل الدار، فهذا استثناء صحيح، لو دخلت الدار لا يحنث في يمينه. ألا ترى أنه لو ذكر مكان: إن شاء الله شرطاً آخر بأن قال مثلاً: إن دخلت الدار فأنت طالق كان تطليقاً صحيحاً. وإن ذكر الطلاق بدون حرف الفاء قال: إن شاء الله أنت طالق فهذا استثناء صحيح في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد رحمه الله: هذا استثناء منقطع، والطلاق واقع في القضاء ويدين فيها بينه وبين الله تعالى، وإن كان إرادته الاستثناء ذكر الخلاف على هذا الوجه.
وعن أبي يوسف رحمه الله إذا قال: إن شاء الله وأنت طالق فهذا استثناء. وعنه أيضاً: إنه ليس باستثناء. وعنه أيضاً: إذا قال: أنت طالق وإن شاء الله، أو قال: أنت طالق فإن شاء الله، فهذا ليس باستثناء.

(3/282)


وفي «المنتقى» : إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً إلا ما شاء الله إنها تطلق واحدة قال ثمة: وأجعل الاستثناء على الأكثر، وذكر بعد ذلك مسائل أنت طالق ثلاثاً إلا ما شاء الله أنت طالق ثلاثاً إلا أن يشاء الله، وذكر أنه لا يقع الطلاق أصلاً. وإذا قال لها: أنت طالق إن شاء الله ولا يدري أي شيء إن شاء الله لا يقع الطلاق؛ لأن الطلاق مع الاستثناء ليس بإيقاع بعلمه وجهله يكون فيه سواء.r

ألا ترى أن سكوت البكر لما جعل قضاء شرعاً استوى فيه الجهل والعلم حتى لو زوجها أبوها فسكتت وهي لا تعلم أن السكوت رضا يجوز النكاح، ولم يعتبر جهلهما ولو قال لها: أنت طالق فجرى على لسانه من غير قصد إن شاء الله، فكان قصده إيقاع الطلاق لا يقع الطلاق؛ لأن الاستثناء قد وجد موصولاً مع الاستثناء لا يكون إيقاعاً فهو كما لو قال لها: أنت طالق فجرى على لسانه أو غير طالق، ولو ضم مع مشيئة الله تعالى مشيئة غيره كان استثناء. كأن قال: أنت طالق إن شاء الله و.... قال: أنت (طالق) إن شاء الله وشاء فلان. ولو شرط مشيئة من لا تعلم مشيئته نحو أن يقول إن شاء جبريل أو الملائكة أو الشياطين كان استثناء من الكلام وهذا وما لو شرط مشيئة الله تعالى سواء.
وفي «الجامع» لو قال لرجل: طلق امرأتي إن شاء الله وشئت وطلقها المخاطب لا يقع، وكذلك لو قال: طلق امرأتي ما شاء الله، وشئت، فطلقها المخاطب لا يقع؛ لأن معنى قوله ما شاء الله وشئت العدد الذي شاء الله وشئت ولا يدري إن شاء الله تعالى أي عدد أو شاء شيئاً أو لم يشأ أصلاً. وهذه المسألة ودليل على أن كلمة إن شاء الله إذا دخل على الأمر ترفع حكمه.
ولو قال له: طلق امرأتي بما شاء الله، وشئت أو قال: أعتق عبدي بما شاء الله وشئت فطلقها أو أعتقه على مال يجوز؛ لأن ههنا أدخل المشيئة على البدل، لا على الطلاق والعتاق فبطل ذكر البدل وبقي الأمر بالطلاق والعتاق مطلقاً، أما في قوله ما شاء الله أدخل المشيئة في عدد الطلاق ولا يدرى أي عدد شاء الله.
وفي «النوازل» : إذا قال لامرأته: أنت طالق اليوم واحدة إن شاء الله وإن لم يشأ فثنتين، فمضى اليوم ولم يطلقها وقع ثنتان؛ لأن الله تعالى لو شاء الواحدة من طلقها لطلقها قبل مضي اليوم، فلما لم يطلقها علم أنه لم يشأ الواحدة، وقد علق بعدم مشيئة الواحدة تطليقتان. ولهذا قال: إذا مضى اليوم ولم يطلقها طلقت تطليقتين وإن طلقها واحدة قبل مضي اليوم لا يقع عليها إلا تلك الواحدة؛ لأن وقوع ما زاد على الواحد متعلق بعدم مشيئة الله تعالى الواحدة اليوم، وقد شاء ذلك حتى طلقها الواحدة قبل مضي اليوم. ولو لم يقيده باليوم وقال لها: أنت طالق واحدة إن شاء الله، وأنت طالق ثنتين إن لم يشأ الله لا يقع شيء لأن قوله: أنت طالق إن شاء الله كلام صحيح فلا يقع به شيء؛ وقوله: فأنت طالق ثنتين إن لم يشأ الله إذا لم يقيده باليوم كان باطلاً، لأنه لو صح لبطل

(3/283)


من حيث صح؛ لأنه لو وقع الطلاق ثبتت مشيئة الله تعالى، ووجود الأشياء كلها مشيئة الله تعالى تخالف ما إذا قيده باليوم وذكر هذه المسألة في «المنتقى» ووصفها في الثنتين والثلاث وقال لها: أنت طالق ثنيتين اليوم إن شاء الله وإن لم يشأ الله تعالى في اليوم، فأنت طالق (248أ1) ثلاثاً فمضى ولم يطلقها طلقت ثلاثاً وإن لم يؤقت في اليمينين جميعاً فهو إلى الموت، فإذا لم يطلقها طلقت قبل الموت، فصل هذه الزيادة في «المنتقى» ، وإنه يخالف ما ذكر في «النوازل» وذكر في «المنتقى» أيضاً قبل هذه المسألة إذا قال لها أنت طالق إن لم يشأ الله طلاقك لا تطلق بهذا اليمين أبداً وإنه يوافق ما ذكر في «النوازل» .
وفي «المنتقى» عن محمد رحمه الله إذا قال لها: أنت طالق أمس إن شاء الله إنه لا يقع الطلاق.
نوع آخر فيما يقع به الفعل من الإيجاز والاستثناء وفيما لا يقع

عن أبي يوسف رحمه الله فيمن حلف بالطلاق واستثنى وتنفس بين الاستثناء وبين الطلاق ووجد من النفس بداً أو لم يجد قال: إذا فصله فهو استثناء.

قال في «الجامع» : إذا قال لامرأته يا زانية أنت طالق إن شاء الله كان استثناؤه على الطلاق، ويصير قاذفاً للحال. ولو قال لها: أنت طالق يا زانية بنت الزانية إن شاء الله، فالاستثناء على الكل حتى لا يقع الطلاق ولا يَلزمه حد ولا لعان؛ لأن النسبة إنما تذكر لتعريف المنادى فيصير من جملة النداء، والنداء لا يصير فاصلاً، فكذا ما هو جملة النداء.
فإن قيل: التعريف يقع بالنسبة إلى الأب دون الأم، فلم يكن قوله بنت الزانية محتاجاً إليه لتعريف المنادى فيجب أن يصير فاصلاً، قلنا النسبة إلى الأب مما يقع به التعريف، إلا أن الأم لا تذكر في النسبة لا؛ لأن التعريف بها لا يقع لكن لأن الأنساب إلى الآباء، ألا ترى أنه لو قال: أنت طالق يا عمرة بنت فاطمة إن دخلت الدار؛ لا يكون قوله بنت فاطمة فاصلاً كما لو قال يا عمرة بنت عبد الله وطريقه ما قلنا. ولو قال لها: أنت طالق ثلاثاً يا طالق إن شاء الله انصرف الاستثناء إلى الكل حتى لا يقع شيء من الطلاق، وعن أبي حنيفة رحمه الله: أنه يقع ثلاث تطليقات ويصير قوله يا طالق فاصلاً بين الثلاث.
فعلى هذه الرواية فرق أبو حنيفة رحمه الله بين هذه المسألة وبين ما إذا قال لها: أنت طالق يا زانية إن دخلت الدار حيث قوله يا زانية لا يصير فاصلاً بين الطلاق والشرط حتى يتعلق الطلاق بالدخول، وههنا قال: يا طالق يصير فاصلاً.
والفرق: أن قوله: يا طالق إن كان نداء بصيغته فهو إيقاع بمعناه، ولهذا إذا قال يا طالق تطلق، كما لو قال لها: أنت طالق ثلاثاً، أنت طالق إن شاء الله. وإذا كان هذا إيقاعاً معنى صار كأنه قال لها: أنت طالق ثلاثاً أنت طالق إن شاء الله، ولو قال هكذا

(3/284)


كان قوله أنت طالق فاصلاً بين الثلاث وبين الاستثناء كذا ههنا.
أما قوله: يا زانية إخبار عن صفة قائمة بها وليس بإيقاع فبقي نداء، والنداء لا يصير فاصلاً بين الشرط والجزاء والصحيح ما ذكر في ظاهر الرواية لأن قوله يا طالق نداء بصيغته وليس بإيقاع وإنما يثبت الوقوع بقوله يا طالق بطريق الضرورة لا بموجب الصيغة ليصير اللفظ نداء، بمعنى قائم بالمنادى، وههنا لا ضرورة إلى القول بالوقوع بطريق الاقتضاء ولا يمكن القول به لما كان الاستثناء متصلاً بقوله: يا طالق، فكان نداء بصورته كقوله يا فاطمة، يا عائشة، والنداء لا يصير فاصلاً.
وفي «المنتقى» : إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً يا عمرة بنت عبد الله إن شاء الله لا تطلق. ولو قال أنت طالق ثلاثاً يا عَمرة بنت عبد الله بن عبد الرحمن إن شاء الله تطلق، فالنسبة إلى الأبوين، وأكثر من ذلك فاصل بين الإيقاع والاستثناء، والنسبة إلى أب واحد ليس بفاصل.
وفي «نوادر بشر بن الوليد» : عن أبي يوسف رحمه الله: قال لها: أنت طالق ثلاثاً يا زانية إن شاء الله. فالاستثناء على الآخر وهو القذف ويقع الطلاق، وكذلك إذا قال لها أنت طالق يا طالق إن شاء الله، ولو قال لها: أنت طالق يا خبيثة إن شاء الله، فالاستثناء على الكل ولا يقع الطلاق كأنه قال يا فلانة، وذكر ثمة أصلاً فقال: المذكور في آخر الكلام إذا كان يقع به طلاق أو يجب به حد فالاستثناء عليه، نحو قوله: يا زانية ويا طالق، وإن كان يجب به حد ولا يقع به طلاق فإنه استثناء على الكل وذكر نحو قوله يا خبيثة.
وفي «الجامع» : إذا قال: امرأتي طالق إن دخلت الدار، وعبدي حر إن كلمت فلاناً إن شاء الله، انصرف الاستثناء إلى اليمينين، وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه يقتصر الاستثناء على اليمين الثانية.

حكي عن الكرخي رحمه الله كان يقول: حاصل الخلاف في هذه المسألة راجع إلى مسألة أخرى مختلفة، إن قوله إن شاء الله يستعمل لإبطال الكلام، أو يستعمل استعمال الشروط، للتعليق فعلى قول أبي يوسف رحمه الله يستعمل استعمال الشروط، وعلى قولهما يستعمل استعمال الإبطال حتى إن من قال لامرأته: إن شاء الله أنت طالق، فعلى قولهما: لا يقع الطلاق، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: يقع، ولو قال يستعمل عندهما استعمال الشروط للتعليق لكان يقع الطلاق عندهما كما يقع عند أبي يوسف رحمه الله، ألا ترى أنه لو قال: لامرأته: إن دخلت الدار أنت طالق إن دخلت الدار، وأنت طالق يقع الطلاق في الحال عند الكل، لما كان قوله إن دخلت الدار يستعمل استعمال الشروط ذكر الكرخي رحمه الله الخلاف في مسألة المشيئة على هذا الوجه.
وقد حكينا عن القدوري الخلاف في مسألة المشيئة على عكس هذا فعلى (ما) ذكره الكرخي، وأبو يوسف رحمه الله يعتبر اللفظ ويقول: اللفظ لفظ شرط، وهما قالا: إنما يعتبر اللفظ عند الإمكان ولا إمكان ههنا؛ لأن معنى الشرط غير موجود ههنا؛ لأن الشرط ما ينتظر وجوده لا ما لا وجوده، ألا ترى أنه لو علق الطلاق بفعل في الماضي لا يكون ذلك شرطاً بالاتفاق لأنه لا يمكن انتظاره.

(3/285)


قلنا: وإنما ينتظر الشيء ليتوصل إلى معرفته، ومشيئة الله تعالى مما لا يتوصل إلى معرفته فلا يصح انتظاره. إذا ثبت أن من مذهب أبي يوسف رحمه الله أن هذا الكلام يستعمل استعمال الشروط يقتصر على الثاني كصريح الشرط، وعندهما لما كان يستعمل استعمال الإبطال ينصرف إليهما؛ لأنه كما مست الحاجة إلى الإبطال الثاني مست الحاجة إلى إبطال الأول، والكلام متصل، فينصرف الاستثناء إليهما بخلاف صريح الشرط؛ لأن اليمين الأول غير محتاج إلى شرط (248ب1) آخر بل هو بدون شرط آخر فانصرف هذا الشرط إلى الثاني لهذا. وغيره من المشايخ تكلموا في المسألة على سبيل الابتداء وإنه يبتني على أصل معروف أن حرف الواو إذا دخل بين جملتين، الأولى ناقصة والأخرى تامة يجعل حرف الواو للعطف حتى يصير خبر الجملة التامة خبراً للجملة الناقصة.
وإذا دخل حرف الواو بين جملتين تامتين يجعل حرف الواو للاستئناف لا للعطف، حتى لا يصير خبر إحدى الجملتين خبراً للجملة الأخرى.
وجه قول أبي يوسف رحمه الله: أن حرف الواو دخل ههنا بين جملتين تامتين لأنه دخل بين يمينين تامتين، فيجعل للاستئناف لا للعطف، بخلاف قوله: امرأته طالق، وعبده حر إن شاء الله حيث تنصرف المشيئة هناك إلى الجملة؛ لأن هناك حرف الواو دخل بين جملتين، الأولى منهما ناقصة من حيث التعليق؛ لأنه ذكر شرطاً واحداً، فانصرف الشرط إلى الكل بحكم العطف. وهما يقولان حرف الواو دخل بين جملتين، الأولى منها ناقصة.

بيانه: أن اليمين الأولى إن كانت تامة في حق التعليق بمطلق الشرط فهي ناقصة في حق التعليق بمشيئة الله تعالى الذي يخرج الكلام بها من أن يكون إيقاعاً حالاً، وما لا مكان للمشيئة المذكورة في الجملة الأخرى مذكورة في الجملة الأخرى مذكور في الجملة الأولى بحكم العطف، وكذلك الجواب فيما إذا علقه بمشيئة فلان انصرفت المشيئة إلى اليمينين ثم إذا انصرفت المشيئة إلى اليمينين إن كانت مشيئة الله تعالى بطل جميع الكلام، وإن كانت مشيئة فلان توقف الانعقاد على مشيئته، وإن شاء فلان ذلك في مجلس العقد أو تعلق كل جزاء بشرطه كأنه قال: عند مشيئة فلان امرأته طالق إن دخل الدار، وعبده حر إن كلم فلاناً، وإن قال: لا أشاء بطل اليمينان، وكذلك إن شاء إحدى اليمينين بطلا؛ لأن الحالف علق انعقاد اليمينين بمشيئة اليمينين ولم يوجد ذلك في المجلس، فصار ذلك كما لو قال: امرأته طالق، وعبده حر إن شاء فلان فشاء أحدهما لا يقع شيء، وطريقه ما قلنا.
وذكر في «المنتقى» إذا قال: عمرة طالق ثلاثاً إن دخلت الدار، وزينب طالق واحدة إن كلمت فلاناً فهما يمينان، فإن استثنى بعد آخرهما ينصرف الاستثناء إلى اليمين الأخيرة، ولو أراد في القضاء والاستثناء على اليمين الأخيرة في القضاء.

وفي أيمان «الأصل» : فإذا قال: والله لا أكلم فلاناً والله لا أكلم فلاناً آخر، إنه إن عنى بالاستثناء اليمينين فهو على ما نوى من غير فصل بين القضاء والديانة وإن لم يكن له

(3/286)


نية ولاستثناء على اليمين الأخيرة، لأن الواو في اليمين الثانية واو القسم لا واو العطف. وقد ذكرنا في مسألة «الجامع» أن الاستثناء على اليمينين عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، فإن كان ما ذكر في «المنتقى» قول الكل، صار عن أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله روايتان في المسألة، وفي «المنتقى» أيضاً: إذا قال: عمرة طالق ثلاثاً إن دخلت الدار وزينب طالق إن دخلت الدار، فهما يمين واحد، وإذا دخلت الدار مرة واحدة وقع الطلاق عليهما، وإن ذكر بعده استثناء فلاستثناء عليهما.
وفيه أيضاً: لو قال: عمرة طالق إن شاءت وزينب طالق إن شاء الله، كان الاستثناء عليهما ولو قال: عمرة طالق إن شاءت، وزينب طالق إن شاءت فهما أمران مختلفان، فإذا ذكر عقيبهما استثناء ينصرف الاستثناء إلى آخرهما وإنه يخالف المذكور في «الجامع» على ما قلنا.
وفي «القدوري» : إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً وثلاثاً إن شاء الله، وقع الثلاث ولغى الاستثناء في قول أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمة الله عليهما: الاستثناء جائز. وعلى هذا الاختلاف إذا قال لها أنت طلق ثلاثاً وواحدة إن شاء الله، ولو قال لها أنت طالق واحدة وثلاثاً إن شاء الله، فالاستثناء صحيح في قولهم جميعاً.
وجه قولهما أن الجمع بحرف الجمع كالجمع بلفظ الجمع ولو جمع بلفظ الجمع، فقال: أنت طالق ستاً إن شاء الله أو قال: أنت طالق أربعاً إن شاء الله، كان الاستثناء صحيحاً في قولهم جميعاً. وكذا ههنا.
وجه قول أبي حنيفة رحمه الله أن العدد الثاني حشو لا يتعلق به حكم، فإن الزوج لا يملك إيقاع أكثر من الثلاث واللغو حشو من الكلام فيصير كالسكوت؛ بخلاف قوله أنت طالق واحدة وثلاثاً إن شاء الله، لأن العدد الثاني تعلق به حكم فلا يصير لغواً، وفاصلاً بين الإيقاع والاستثناء وفي «النوازل» : رجل بلسانه ثقل لا يتم كلامه إلا بعد طول المدة: حلف بالطلاق وأراد الاستثناء التعليق فطال في تردده، إن عُرف أنه هكذا يتكلم يجوز ديانة وقضاء لأنه موصول معنى لمكان العذر.
وفي «النوازل» : إذا قال لها أنت طالق ثلاثاً، فأراد أن يقول: إن دخلت الدار فأخذ غيره فمه وإن قال بعدما خلى فمه موصولاً: إن دخلت الدار، لا يقع؛ لأنه سكت لضرورة، فلا يعتبر فاصلاً، كما إذا اعترض له عطاس أو جشاء.
ولو قال: لله علي أن أتصدق بدرهم أكر، وهو يريد أن يقول أكر فلان كتم فأخذ إنسان فمه، فلم يتم الكلام، فلما رفع يده عن فمه قال: فلان كاركتم، فالأحوط أن يتصدق، والفرق أن الطلاق محظور فيتكلف لإعدامها وأمكن إعدامها بجعل هذا الانقطاع غير فاصل كما لو حصل الانقطاع بعطاس وأما الصدقة عبادة، فلا يتكلف لإعدامها.
وعلى قياس مسألة «النوازل» قالوا: إنما ذكر في الأيمان أن من حلف وأراد أن يقول في آخره: إن شاء الله فشد إنسان فمه إنه يكون استثناء، تأويله إذا ذكر الاستثناء بعد رفع اليد عن فمه متصلاً به. وقد وجدنا في «نوادر هشام» أنه قال سألت محمداً رحمه الله

(3/287)


عمن قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً، وهو يريد أن يستثني فأمسكت بفمه، وخلت بينه وبين الاستثناء قال: يلزمه الطلاق في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى، وعن أبي يوسف رحمه الله إذا قال: أنت طالق أستغفر الله إن شاء الله، أو قال سبحان الله إن شاء الله كان استثناء ديانة، ولم يكن استثناء قضاء.

وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا أراد أن يستحلف رجلاً فخاف أن يستثني في السر، فالوجه في ذلك أن يأمره حتى يقول عقب اليمين كلاماً لا يصلح استثناء أو تعليقاً، لأنه إذا فعل ذلك يمتنع الاستثناء لوجود الفاصل.
نوع آخر في دعوى الزوج (249أ1) الاستثناء، وفي إخبار غير الزوج الزوج بالاستثناء
إذا ادعى الزوج التكلم بالاستثناء أو التكلم بالشرط في الخلع أوادعى التكلم بالاستثناء أو الشرط في الطلاق، فالقول قول الزوج، فإن شهد الشهود بخلع أو طلاق بغير استثناء لم يقبل قول الزوج بعد ذلك ويقضي القاضي بالطلاق وبالخلع.
وإن شهدوا بالخلع أو بالطلاق، وقالوا: لم نسمع منه غير كلمة الخلع والطلاق والزوج يدعي الاستثناء، فالقول قول الزوج ولا يقضى بالطلاق إلا إذا ظهر منه ما هو دليل صحة الخلع من غير قبض البدل أو ما أشبه ذلك، كذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرح السير» في باب ما يصدق فيه الرجل من الردة فلا تبين منه امرأته.
وفي باب الخلع من «الكافي» ، «مختصرالقصار» : إذا خالع ثم قال: لم أعن به الطلاق إن كان أخذ جُعلاً على الخلع لم يصدق قضاءً. قال مشايخنا رحمهم الله: والمراد من أخذ الجعل ذكر الجعل لا حقيقة الأخذ. فعلى هذا إن ذكر البدل وقت الطلاق والخلع لا يصدق قضاءً في دعوى الاستثناء، وإن لم يذكر البدل يصدق قضاء في دعوى الاستثناء.
وذكر نجم الدين النسفي رحمه الله في «فتاويه» عن شيخ الإسلام أبي الحسن رحمه الله أن مشايخنا استحسنوا في دعوى الاستثناء في الطلاق لا يصدق الزوج إلا ببينة؛ لأنه خلاف الظاهر وقد فسدت أحوال الناس فلا يؤمن التلبيس.

وحكي عن شمس الإسلام محمود الأوزجندي رحمه الله بأنه كان يقول: إن عرف الطلاق بإقراره تسمع دعوى الاستثناء منه، وإن عرف بالبينة لا تسمع منه دعوى الاستثناء. وكان الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله يقول: لو قال طلقت واستثنيت لا يصدق قضاء. ولو قال: قلت لها أنت طالق واستثنيت يصدق قضاءً.
وذكر محمد رحمه الله في كتاب الإقرار في باب الإقرار بالعتق: إذا قال لعبده: أعتقك أمس وقلت إن شاء الله صدق ولا يعتق العبد، وذكر في باب الإقرار بالنكاح: إذا قال الرجل لامرأة: تزوجتك أمس وقلت: إن شاء الله، وقالت المرأة: ما استثنيت،

(3/288)


فالقول قوله. وكذلك العتق والطلاق والفتوى على ما ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أن دعوى الاستثناء في الطلاق صحيح، وكذا في الخلع إلا إذا ظهر منه ما هو دليل صحة الخلع. وقد وجدت الرواية في «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله أنه لو قال: طلقتها، ولكن كنت نائماً ألزمته الطلاق، ولو قال: طلقتها ثم استثنيت لم يكن مستثنياً في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وبهذه الرواية يتبين أن ما ذكر في «الأصل» قول محمد رحمه الله: وإذا طلق الرجل امرأته فشهد عنده شاهدان أنك استثنيت موصولاً بالطلاق ولا يتذكر هو ذلك ينظر إن كان هو بحال إذا غضب تجرى على لسانه ما لا يحفظ بعده جاز له الاعتماد على قول الشاهدين بناء على الظاهر، وإن لم يكن بهذه الحالة لا يعتمد؛ لأنه بخلاف الظاهر والله أعلم.
نوع آخر في إيقاع عدد من الطلاق واستثناء بعضه

قال هشام: سألت محمداً رحمهما الله عمن قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة وواحدة، وواحدة قال وقع الثلاث وبطل الاستثناء في قول أبي حنيفة رحمه الله، وفي قولنا: تطلق ثنتين. وعن أبي يوسف رحمه الله إنها تطلق واحدة. فالأصل: أن استثناء البعض من الكل صحيح قلّ المستثنى أو كثر، وإنما ينظر في هذا إلى اللفظ لا إلى الحكم، ألا ترى أنه لو قال لها: أنت طالق أربعاً إلا ثلاثاً صح الاستثناء، وإن كان هذا استثناء الكل من الكل من حيث الحكم؛ لأن ذكر الأربع ذكر للثلاث لأن الطلاق لا يزيد على الثلاث اعتباراً للفظ. وسيأتي شيء من هذا في آخر هذا النوع.
واستثناء الكل من الكل باطل بلا خلاف بين أصحابنا رحمهم الله واختلفت ألفاظ المشايخ فيه: بعضهم قالوا: الاستثناء جارٍ مجرى التخصيص، والتخصيص لا يرد على الكل. وبعضهم قالوا: الاستثناء إذا دخل على الكلام يصير تكلماً بالباقي، ولا بُدّ وأن يكون تكلماً بالكل لا باقياً بعد الاستثناء بعد هذا قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: الكلام يحمل على الصحة ما أمكن ذلك في مسألتنا في اقتصار الاستثناء على الأولى والثانية عند أبي يوسف رحمه الله، وعلى الأولى عند محمد رحمه الله. وعند ذلك لا يتحقق استثاء الكل من الكل.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول: أول الكلام يتوقف على آخره إذا وجد في آخره ما يغير حكم أوله، وبذكر الثالثة يتغير الحكم الأولى والثانية؛ لأن الكل إذا اعتبر جملة يلغو الاستثناء لأنه يصير كأنه قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً.
ولو قال لها: أنت طالق واحدة وواحدة وواحدة إلا ثلاثاً بطل الاستثناء؛ لأنه استثنى الكل.

ولو قال لها: أنت طالق ثنتين وواحدة إلاّ ثنتين فهي ثلاث، وكذلك الجواب فيما إذا بدأ بالواحدة، فقال أنت طالق واحدة وثنتين إلا ثنتين فهي ثلاث، أما إذا بدأ بالواحدة لأن الأصل في الاستثناء أن ينصرف إلى ما يليه، فيصير مستثنياً لكل ما تكلم به نظراً إلى

(3/289)


ما يلي الاستثناء فيلغو. وأما إذا بدأ بالثنتين؛ لأنه لا يمكن صرف الاستثناء إلى الثنتين المذكورتين في صدر الكلام إما لأنه يصير مستثنياً جميع ما تكلم به، وإما لأن الواحدة فاصلة ولا يمكن صرف الاستثناء إلى جملة الكلام لأنه يصير مستثنياً الواحدة المفردة بتمامها.f
فيصير مستثنياً جميع ما تكلم به نظراً إلى الواحدة المفردة.
ولو قال لها: أنت طالق واحدة وثنتين إلا واحدة تقع ثنتان ويصير مستثنياً الواحدة من الثنتين وإنه استثناء البعض من الكل فيصح.
ولو قال: أنت طالق ثنتين (واثنتين) إلا ثنتين صح الاستثناء (و) وقعت ثنتان في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، ويجعل مستثنياً من كل ثنتين تطليقة تصحيحاً لكلام القائل بقدر الممكن.
هكذا ذكر القدوري رحمه الله في «شرحه» ، وذكر شيخ الإسلام هذه المسألة في «شرحه» ، وذكر أنه ينوي الزوج، فإن عنى استثناء إحدى الثنتين بكماله إما الأولى وإما الأخرى كان الاستثناء (249ب1) . باطلاً، وإن نوى واحدة من الثنتين الأوليين وواحدة من الثنتين الأخريين الاستثناء صحيح وعندهما فروي عن محمّد رحمه الله، إذا قال لها: أنت طالق ثنتين واثنتين إلا ثلاثاً، قال: هي ثلاث والاستثناء باطل، وكذلك إذا قال لها: أنت طالق ثنتين، وأربعاً إلا خمساً هكذا ذكر في «القدوري» .
وفي «المنتقى» إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً وثلاثاً إلا أربعاً فهي ثلاث في قول أبي حنيفة رحمه الله، وهكذا روي عن محمد رحمه الله ويصير قوله ثلاثاً ثانياً فاصلاً بين الأوّل وبين الاستثناء.

وقال أبو يوسف رحمه الله: إنّها تطلق ثنتين، وهو الظاهر من قول محمّد رحمه الله، ولا يصير قوله: وثلاثاً ثانياً فاصلاً، وإذا لم يصر الثاني فاصلاً عندهما. ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في «شرحه» أنّه ينوي هذا الرجل إن قال عنيت الثنتين من الثلاث الأول والثنتين من الثلاث الأخر يصحّ الاستثناء، وما لا فلا. ولم يشترط هذه النية في «المنتقى» ، وكذلك لم يشترط شمس الأئمة الحلواني رحمه الله هذه النية على قولهما، فصار حاصل مذهبهما، كأنّه قال لها: أنت طالق ستاً إلا أربعاً، فروى ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله فيمن قال لامرأته؛ أنت طالق ثنتين وثنتين وثنتين إلا أربعاً، فهي طالق ثنتين، من حيث المعنى هذه المسألة والمسألة المتقدمة سواء، وإذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة أو ثنتين، لم تأت قبل أن يختار واحدة أو ثنتين، فهي واحدة، ويجعل الاستثناء على أكثر.
ذكر القدوري رحمه الله في «شرحه» : إذا أوقع أكثر من ثلاث، ثم استثنى كان الاستثناء من جملة الكلام، لا من جملة الثلاث التي يحكم بوقوعها نحو أن يقول: أنت طالق عشراً إلا تسعاً وقعت واحدة، ولو قال: إلا ثماناً وقعت ثنتان، ولو قال إلا سبعاً وقع الثلاث، فقد صحّ الاستثناء في هذه الصورة، وإن كان هذا استثناء الكل من الكلّ؛ لأنَّ هذا استثناء البعض من الكل لفظاً، وقد مر شيء من هذا قبل هذا.

(3/290)


ومن هذا الجنس. روي عن محمّد رحمه الله في «النوادر» إذا قال: نسائي طوالق إلا فلانة وفلانة وفلانة ليس له من النسوة سواهن صح الاستثناء، ولو قال: نسائي طوالق إلا نسائي لا يصحّ، وما أقرها إلا باعتبار اللفظ.

وفي «البقالي» : إذا قال: كلّ امرأتي لي طالق إلا هذه، وليس له غيرها لم تطلق، ولو قال: نسائي طوالق فلانة وفلانة وفلانة إلا فلانة فالاستثناء جائز؛ لأن قوله: فلانة وفلانة وفلانة تفسير لقوله: نسائي طوالق، فيكون الحكم بقوله: نسائي طوالق. ولو قال نسائي طوالق إلا فلانة يصحّ الاستثناء كذا ها هنا، ولو قال: فلانة طالق وفلانة وفلانة إلا فلانة لا يصح الاستثناء، وكذلك إذا قال: هذه وهذه وهذه إلا هذه كان الاستثناء باطلاً.
وفي «المنتقى» : إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة أو لا شيء، فهذا لم يستثن شيئاً وطلقت ثلاثاً، وإذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً إلا نصف تطليقة، فاعلم بأن الطلقة لا تتجزأ في طرف الإيقاع، وهل تتجزأ في طرف الاستثناء. فعلى قول أبي يوسف رحمه الله، لا تتجزأ وعن محمّد رحمه الله، روايتان: حتى إن في هذه المسألة تقع ثنتان عند أبي يوسف، وإحدى الروايتين عن محمد رحمهما الله، ويصير كأنّه قال: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة، في رواية أخرى تتجزأ في طرف الاستثناء حتّى إن في هذه المسألة تقع الثلاث على هذه الرواية؛ لأنّه لما صح استثناء النصف، صار تقدير كلامه؛ أنت طالق تطليقتين ونصف فتكاملت التطليقة الثالثة، وعلى هذا إذا قال لها: أنت طالق واحدة ونصف، فعلى قول أبي يوسف رحمه الله تقع ثنتان، وعن محمّد رحمه الله روايتان، في رواية: تقع ثنتان كما هو قول أبي يوسف رحمه الله، وفي رواية تقع واحدة.
نوع آخر
وكما يصح الاستثناء من أصل الكلام يصح الاستثناء من الاستثناء، قال الله تعالى: {إِلا ءالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ امْرَأَتَهُ} (الحجر: 59، 60) استثنى آل لوط من جملة الناس، واستثنى امرأة لوط من آله.

بيان هذا: إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً إلا ثنتين إلا واحدة يقع ثنتان، والأصل في جنس هذه المسائل أن المستثنى ثانياً يجعل مستثنياً من الاستثناء الأوّل، ثمِّ ينظر إلى ما بقي من هذا، فيعزل من: الاستثناء الأول فيجعل ذلك مستثنياً من أصل الكلام.
إذا ثبت هذا فنقول له: الاستثناء الثاني واحدة، فيجعل ذلك مستثنياً من أصل الكلام، وهو الثلاث يبقى من أصل الكلام ثنتان، فهي الواقع.
وعلى هذا إذا قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً إلا واحدة تقع واحدة، ويجعل الواحدة مستثنياً من الاستثناء الثاني، وهو الثلاث يبقى من الاستثناء الثاني ثنتان يجعل ذلك مستثنياً من الاستثناء الثاني وهو الثلاث يبقى من الاستثناء الثاني ثنتان يجعل ذلك مستثنياً من الأصل، وهو الثلاث يبقى واحدة، فهي الواقع.
وكذلك إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً إلا ثنتين إلا واحدة وقعت واحدة، والوجه ما ذكرنا. ومن المشايخ من اعتبره بنوع تقريب، فقال: ينبغي أن تعقد العدد الأوّل

(3/291)


بيمينك، والثاني بيسارك، والثالث بيمينك، والرابع بيسارك ثمَّ أسقط ما في يسارك مما في يمينك، فما بقي فهو الواقع.
نوع آخرمن الاستثناء
ينبني على أصلين:
أحدهما: أن المتكلم بكلام مقرون بالاستثناء إذا ذكر عقيبه وصفاً يليق بالمستثنى، ولا يليق بالمستثنى منه يجعل وصفاً للمستثنى حتى يبطل ببطلانه، وإذا ذكر (عقيبه وصفاً) يليق بالمستثنى منه، ولا يليق بالمستثنى فقد اختلفت عبارة المشايخ فيه بعضهم قالوا: يجعل وصفاً للمستثنى منه حتى تثبت بينونة تصحيحاً له بقدر الإمكان، وبعضهم قالوا: يجعل وصفاً للكل تحقيقاً لدخوله على الكل، أو تحقيقاً للمجانسة بين المستثنى والمستثنى منه، فإنَّ المستثنى من جنس المستثنى منه في الظاهر.

وإذا ذكر وصفاً يليق بالمستثنى وبالمستثنى منه، فقد اختلفت عبارة المشايخ فيه أيضاً. بعضهم قالوا: يجعل وصفاً للكل تحقيقاً لدخوله على الكل أو تحقيقاً للمجانسة، فيبطل المستثنى بوصفه ويبقى (250أ1) المستثنى منه بوصفه، وبعضهم قالوا: يجعل وصفاً للمستثنى منه لا غير، لأنه لو جعل وصفاً للمستثنى منه اعتبر، ولوجعل وصفاً للمستثنى بطل، والوصف إنما يذكر للاعتبار لا للإبطال، وهذا كلّه إذا ذكر وصفاً زائداً أمّا إذا ذكر وصفاً أصلياً لا يعتبر أصلاً، ويجعل ذكره ولا ذكر سواء.
الأصل الثاني: أن الوصف المذكور على سبيل التأكيد لا يصير فاصلاً بين الطلاق والاستثناء، ولا بين الطلاق والشرط، حتّى إنَّ من قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً يا فلانة إلا واحدة يقع ثنتان، ولا يصيّر قوله يا فلانة فاصلاً لما كان لتعريف تأكيد المحل، وإذا قال لامرأته قبل الدخول بها: أنت طالق بائن إن دخلت الدار لا تطلق ما لم تدخل الدار، ولا يصير قوله بائن فاصلاً بين الطلاق والشرط لما ذكره، لتأكيد تعريف الواقع.
جئنا إلى المسائل؛ قال محمّد رحمه الله في «الزيادات» : إذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة للسنّة، كانت طالقاً ثنتين للسنّة عند كل طهر تطليقة؛ لأن وصف السنّة يليق بالمستثنى منه دون المستثنى؛ لأنّه صفة الواقع، والمستثنى منه واقع، وأمّا المستثنى فغير واقع، فجعلناه صفة للمستثنى منه، وصار كأنّه قال: أنت طالق ثنتين للسنّة أو يقول: يجعل وصفاً للكلّ، ويصير كأنّه قال: أنت طالق ثلاثاً للسنّة إلا واحدة، ألا ترى أنّه لو قال: عليَّ لفلان ألف إلا مائة درهم كانت التسعمائة من الدراهم.
فكذلك إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة إذا حضت وطهرت، أو إن كلمت فلاناً أو إن دخلت الدار كانت التطليقتان معلقتين بالحيض وبالطهر في المسألة الأولى، وبالكلام في المسألة الثانية، وبالدخول في المسألة الثالثة، وينصرف الشرط إلى المستثنى؛ لأنّه إنّما يحتاج إلى الشرط فيما يقع والذي وقع منه دون المستثنى؛ لأنّه يليق

(3/292)


بالمستثنى منه، ولا يليق بالمستثنى؛ لأنّه إنّما يحتاج إلى الشرط فيما يقع، والذي يقع المستثنى منه دون المستثنى أو نقول: ينصرف الشرط إلى الكل، ويصير معلقاً الثلاث بالشرط مستثنياً واحدة منها.
ولو قال لها: أنت طالق ثلاثاً البتة إلا واحدة أو بائنة إلا واحدة كان طالقاً تطليقتين رجعيتين، ولا يصير قوله البتّة البائنة فاصلاً بين الاستثناء وبين الإيجاب؛ لأنّ كل واحدة منهما صفة أصلية للثلاث لا يوجد الثلاث إلا وأن يكون بتة بائنة، فصار ذكرهما ولا ذكر سواء. فكأنّه قال لها: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة، ولو قال لها: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة بائنة أو إلا واحدة البتّة طلقت تطليقتين رجعيتين أيضاً.
وذكر هشام رحمه الله في «نوادره» عن محمّد رحمه الله أن من قال لامرأته: أنت بائن إلا واحدة ونوى بالبائن الثلاث، قال: هي طلاق واحد؛ لأن نيّة الثلاث إلا واحدة نيّة الثنتين.
ومن قال لامرأته: أنت بائن ينوي ثنتين تقع واحدة، وعن أبي يوسف رحمه الله فيمن قال لامرأته: أنت طالق واحدة البتة إلا واحدة، ونوى بالبتة الثلاث يقع تطليقتان بائنتان؛ لأنّه لما نوى بالبتة الثلاث علم أنّه ما جعلها صفة للواحدة؛ لأنَّ الواحدة لا تحتمل نيّة الثلاث، فلمّا ذكر الواحدة، صار كأنّه قال: أنت طالق البتّة إلا واحدة، وقد نوى بالبتّة الثلاث، وهناك الجواب كما قلنا وإنما ألقينا الواحدة؛ لأنا لو لم نلقها يبطل الاستثناء، وهو أصل، فكان إلقاء الواحدة وهي.... أولى.

قال في «الزيادات» أيضاً: إذا قال لها أنت طالق اثنتين البتّة إلا واحدة، فهي طالق واحدة بائنة؛ لأنَّ البتة تصلح صفة للثنتين؛ لأنَّ الثنتين لا تكون بتة بنفسها، فيصح وصفهما بالبتّة، وقد استثنى واحدة منهما، فتقع واحدة بتة. وكذلك إذا قال لها: أنت ثنتين إلا واحدة البتة، فهي طالق واحدة بائنة؛ لأنَّ البتة لا تصلح صفة للمستثنى؛ لأنّه لا يصح، فيجعل صفة للمستثنى منه أو يجعل صفة للكل، وصار كأنّه قال: أنت طالق ثنتين البتة إلا واحدة، وهي المسألة المتقدمة.
ولو قال لها: أنتِ طالق ثنتين إلا واحدة بائنة أو قال إلا واحدة أمّا بائناً، فهي طالق واحدة رجعية، لأن البائن لا تصلح صفة للمستثنى منه، فإنّه لا يقال: تطليقتان بائن، وإنّما يقال: تطليقتان بائنتان، وتصلح صفة للمستثنى، فتجعل صفة للمستثنى، فيبطل ببطلان المستثنى، بخلاف قوله البتّة؛ لأنّه يصلح صفة للتطليقتين، فإنّه يستقيم أن يقال تطليقتان البتّة، قال في «الكتاب» : إلا أن ينوي أن يكون البائن صفة للثنتين، فحينئذٍ واحدة بائنة؛ لأنّه نوى ما يحتمله لفظه فالبتة قد تنعت بنعت الواحدة، قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَوتِ وَالاْرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَهُمَا} (الأنبياء: 30) ولم يقل كانتا رتقين، والله أعلم بالصواب.

(3/293)


الفصل العاشر: في إيقاع الطلاق على امرأة بعينها ثمّ الرجوع عنها بالإيقاع على أخرى
يجب أن تعلم أنّ كلمة «بل» متى دخلت في الكلام الصادر على الإثبات كانت للرجوع عن الأوّل، ولإقامة الثاني مقام الأوّل على سبيل استدراك الغلط، يقال: جاءني زيد بل عمرو، وكان قوله بل عمرو رجوع عمّا أخبر عن مجيء زيد، وإقامة لمجيء عمرو مقام مجيء زيد على سبيل استدراك الغلط، كأنّه قال كان عزمي أن أخبر عن مجيء عمرو، فغلطت وأخبرت عن مجيء زيد، ثمَّ استدرك ذلك الغلط بقولي بل عمرو.
وفي كلام الله تعالى متى دخلت هذه الكلمة على الإثبات كانت لإبطال الأوّل ولإقامة الثاني مقام الأوّل، ولكن لا على سبيل استدراك الغلط؛ لأنَّ الغلط على الله لا يجوز والغلط على العباد يجوز، (.....) وكلمة: «لا بل» نظير كلمة بل، لأنهما يستعملان استعمالاً واحداً، وقوله: «لا» لتأكيد النفي المستفاد بقوله بل، وإذا كانت هذه الكلمة في الإثبات للرجوع عن الأوّل ولإقامة الثاني مقام الأوّل على سبيل استدراك الغلط ينظر:
إن كان الأوّل شيئاً يصح الرجوع عنه ينفى الأوّل، ويثبت الثاني مقام الأوّل.
وإن كان الأوّل شيئاً لا يصح الرجوع عنه لا ينتفي الأوّل، بل يبقى (250ب1) على حاله ويثبت للثاني إثباتاً لحكم الدليل بقدر الإمكان، إلا أنَّ المتكلم إذا لم يذكر للمذكور عقيب كلمة «لا بل» خبراً على هذه يجعل الخبر المذكور لما قبلها خبراً للمذكور عقيبها، صيانة له عن البطلان، ومتى ذكر للمذكور عقيب هذه الكلمة خبراً لا يجعل الخبر المذكور لما قبلها خبراً؛ لأنّه صحيح بدونه، فلا حاجة إلى جعله خبراً له، ومتى دخلت هذه الكلمة على النفي لا يوجب رجوعاً عن الكلام الأوّل، وإنّما يوجب نفي الفعل عن الاسم الأوّل بإثبات ذلك المنفي للثاني، أو بإثبات فعل آخر للأوّل.
نظير الأوّل قول الرجل: ما قام زيد لا بل عمرو، نفي الكلام لزيد وإثباته لعمرو. ومثال الثاني قول الرجل: ما قام زيد بل قعد، نفى القيام عن زيد وإثبات الوجود له، هذا هو الكلام في كلمة بل وحدها أو مع لا.
وأما جاء كلمة لا بدون بل متى دخلت على الإثبات كانت لتأكيد ما أثبته الأوّل بنفيه عن الثاني، ومتى دخلت على النفي، كانت لتأكيد ما نفاه عن الأوّل بإثبات ضدّه للثاني.
مثال الأوّل: جاءني زيد لا عمرو. كان قوله: لا عمرو لتأكيد إثبات المجيء لزيد بنفي المجيء عن عمرو.

(3/294)


ومثال الثاني: ما جاءني زيد لا عمرو كان قوله: لا عمرو لتأكيد نفي المجيء عن زيد بإثبات المجيء لعمرو.

جئنا إلى المسائل: قال محمّد رحمه الله في «الجامع» : وإذا كان للرجل امرأتان، فقال لإحداهما أنت طالق إن دخلت الدّار لا بل هذه، وأشار إلى امرأة أخرى لا تطلق واحدة منهما ما لم تدخل الأولى الدّار لم تطلق. وإذا دخلت الأولى الدار طلقتا، وإن دخلت الأخرى الدار لم تطلق واحدة منهما، قال محمدّ رحمه الله: وقوله: لا بل هذه على الطلاق خاصّة والوجه لما ذكرنا في «الجامع» أنّه علق طلاق الأولى بدخولها الدّار، حيث قال لها: أنت طالق إن دخلت هذه الدّار، وبقوله: لا بل هذه رجع عن تعليق طلاق الأولى بدخولها، وعلق طلاق الأخرى بطريق استدراك الغلط، كأنّه قال: من عزمي أن أعلق طلاق الأخرى، إلا أنّي غلطت، فعلقت طلاق الأولى. إلا أنّه لا يملك الرجوع عن تعليق طلاق الأولى، ويملك تعليق طلاق الأخرى، فبقي طلاق الأولى معلقاً بدخولها الدار، وتعلق طلاق الثانية بالدخول، وإذا تعلق طلاق الثانية بالدخول، يتعلق طلاقهما بدخول الأولى؛ لأن كلمة «لا بل» لإبطال الأوّل، وإقامة الثاني مقام الأوّل على سبيل استدراك الغلط، يجب أن يكون المثبت في حق الثانية مثل المثبت في حق الأولى. وإنّما يكون كذلك إذا تعلق طلاق الثانية بدخول الأولى، كما تعلق طلاق الأولى بدخول الأولى. وقول محمّد رحمه الله في «الكتاب» قوله: «لا بل» هذه على الطلاق خاصّة، معناه أنه للرجوع عن الطلاق لا للرجوع عن الدخول.
وإن نوى الرجوع عن الشرط وهو الدخول دون الطلاق صحّت نيّته فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنّه نوى ما يحتمله لفظه إلا أنَّ القاضي لا يصدقه؛ لأنّه نوى أمراً بخلاف الظاهر، وفيه تخفيف عليه لأن الثانية لا تطلق بدخول الأولى الدار، فبعد ذلك إذا دخلت الأولى الدار طلقت الأولى في القضاء، وفيما بينه وبين ربّه وتطلق الثانية في القضاء، لا فيما بينه وبين ربّه وإن دخلت الثانية الدار طلقت الأولى في القضاء، وفيما بينه وبين ربه.
وكذلك لو قال لإحداهما: أنت طالق إن شئت لا بل هذه؛ لأنّ قوله لا بل هذه على الطلاق خاصة، لا على المشيئة كما في المسألة الأولى، إلا أنَّ فرق ما بين المسألتين أنَّ في هذه المسألة لو شاءت الأولى طلاق نفسها طلقت الأولى (بالنكاح) الأوّل دون الثانية. ولو شاءت الأولى طلاق الثانية طلقت الثانية بالكلام الثاني، دون الأولى. ولو شاءت الأولى طلاقها وطلاق الثانية طلقتا جميعاً. وفي مسألة أوّل الباب إذا دخلت الأولى الدار مرّة واحدة طلقت الأولى والثانية حميعاً.
والفرق أنَّ في المسألة الأولى علق طلاق كل واحدة بدخول الأولى الدار مطلقاً غير مقيّد بصفة، فإذا دخلت الأولى الدّار مرّة واحدة، فقد وجد شرط وقوع الطلاق عليها. وفي هذه المسألة ليس الشرط مشيئة مطلقة، فإنَّ الأولى بعد هذا التعليق لو شاءت الجاه أو المال لا تطلق، وإنّما الشرط مشيئة مقيّدة فالشرط في حقّ الأوّل مشيئة الأولى طلاق نفسها. والشرط في حقّ الثانية مشيئة الأولى طلاق الثانية.

(3/295)


وهذا لما ذكرنا أنَّ المسبب في مثل هذه الصورة في حقّ الثانية مثل المسبب في حقّ الأولى، والمسبب في حقّ الأولى تعليق طلاق الأولى بمشيئة الأولى طلاق الأولى، يجب أن يكون المسبب في حقّ الثانية تعلق طلاق الثانية بمشيئة الأولى طلاق الثانية، فإذا شاءت الأولى طلاقها وجد شرط وقوع الطلاق على الأولى دون الثانية وإذا شاءت الأولى طلاق الثانية وجد شرط وقوع الطلاق على الثانية دون الأولى. وإذا شاءت الأولى طلاقهما وجد شرط وقوع الطلاق عليهما. قول محمّد رحمه الله إذا شاءت الأولى طلاقها طلقت الأولى دون الثانية، وإذا شاءت طلاق الثانية طلقت الثانية دون الأولى، كلام محتمل يحتمل أن يكون المراد منه: أنَّ الأولى شاءت طلاق الثانية بعدما شاءت طلاق نفسها، فيكون هذا بياناً أنَّ الأولى إن شاءت طلاق الأخرى بعدما شاءت طلاق نفسها. ويحتمل أن يكون المراد منه: أن الأولى شاءت طلاق الأخرى ابتداءً، فلا يكون بياناً.
كذلك حكي عن أبي الحسن الكرخي رحمه الله أنّه إذا شاءت الأولى طلاق نفسها أوّلاً ليس لها أن تشاء طلاق الأخرى بعد ذلك. وإذا شاءت طلاق الأخرى أوّلاً ليس لها أن تشاء طلاق نفسها بعد ذلك، لأن المشيئة واحدة، فإذا شاءت مرّة ووقع الطلاق ارتفع اليمين، فلا يعود بعد ذلك، حتّى لا يؤدي إلى التكرار، إذ ليس في اللفظ ما يوجب التكرار. وعامّة المشايخ على أنَّ لها أن تشاء طلاق الأخرى بعد ما شاءت طلاق نفسها. وأن تشاء طلاق نفسها بعدما شاءت طلاق الأخرى. وأن المشيئة متعدّدة لما ذكرنا أنَّ تقدير المسألة، كأنّه قال للأولى: أنت طالق إن شئت طلاقك لا بل هذه طالق إن شئت أيتها الأولى طلاقها.

وإن نوى الرجوع عن المشيئة، صحّت نيّته فيما بينه (251 أ1) وبين ربّه؛ لأنّه نوى ما يحتمله. ولهذا لو صرح به يصح، فإذا شاءت الأولى طلاقها طلقت الأولى فيما بينه وبين ربّه. وإن شاءت الأخرى طلاق الأولى طلقت الأولى بنيته، وإن شاءت الأولى طلاق الأخرى طلقت الأخرى في القضاء، لا فيما بينه وبين الله تعالى.
واستشهد محمد رحمه الله لإيضاح مسألة المشيئة أنَّ قوله: لا بل هذه. على الطلاق خاصة، بما لو قال لها أنت طالق إن شاء الله لا بل هذه كان قوله: لا بل هذه على الطلاق خاصة، ويصير تقدير المسألة، كأنّه قال: أنتِ طالق، لا بل هذه إن شاء الله.
وفي «المنتقى» : إذا قال لها أنتِ طالق إن كلمت فلاناً لا بل هذه لامرأة أخرى، كان قوله: لا بل هذه على الكلام دون الطلاق، وإذا قال أردت بلا بل الطلاق ألزمته ذلك، فإذا كلمته طلقتا، وهذا يخالف ما ذكر في «الجامع» قال ثمة: ولو قال لها إن كلمت فلاناً، فأنتِ طالق لا بل هذه كان قوله لا بل هذه على الطلاق دون الكلام؛ لأنّه أخّر.
فإن قال لم أرد بقولي: لا بل هذه، الطلاق دينته فيما بين الله تعالى وبينه، ولم أدين في القضاء.

(3/296)


وإذا قال لامرأته، أنتِ طالق إن دخلت الدار، لا بل فلانة طالق، قال ذلك لامرأة أخرى له طلقت الأخرى ساعة ما تكلم، وتعلّق طلاق الأولى بدخولها الدار، بخلاف ما لو قال: لا بل فلانة، ولم يقل طالق يتعلق طلاقهما بدخول الدّار؛ لأنّه إذا لم يقل لا بل فلانة طالق لم يذكر لفلانة خبراً فكان جملة ناقصة، فتصير خبر الجملة الأولى، وهو طلاق معلق بدخول الأولى خبر الجملة الثانية، أمّا إذا قال لا بل فلانة طالق، فقد ذكر لفلانة خبراً، فاكتفى به.d
وإنّه إرسال، ولهذا قال تطلق الثانية في الحال.

وعلى هذا إذا قال لامرأته أنتِ طالق ثلاثاً لا بل هذه. قال ذلك لامرأة أخرى، طلقت كل واحدة منهما ثلاثاً، ولو قال لا بل هذه طالق طلقت الأولى ثلاثاً، والثانية واحدة لأن في الوجه الأوّل لم يذكر لهذه خبراً على حدة. وفي الوجه الثاني ذكر لهذه خبراً على حدة، والتقريب ما ذكرنا.
وفي «القدوري» : إذا قال لها إن دخلت الدّار فأنتِ طالق وطالق وطالق لا بل هذه، فدخلت الأولى الدار طلقتا ثلاثاً والتعليق في هذا يخالف التنجيز، فإنّه لو قال لها أنتِ طالق وطالق وطالق لا بل هذه وقع على الأخيرة واحدة، وعلى الأولى الثلاث. ولو قال لها إن دخلت هذه الدار، لا بل هذه الدار الأخرى، فأنتِ طالق تعلق طلاقهما بدخول الدار الأخرى لا غير؛ لأن قوله إن دخلت هذه الدار مجرد الشرط، والرجوع صحيح، وبقوله لا بل هذه رجع عنه وأقام الدّار الثانية مقام الدار الأولى، فلهذا تعلق طلاقهما بدخول الدّار الأخرى.
ولو قال لامرأته أنتِ طالق واحدة، لا بل ثلاثاً إن دخلت الدار طلقت واحدة للحال، ووقع طلاقان عند دخول الدار إن كانت المرأة مدخولاً بها؛ لأن بقوله لا بل ثلاثاً إن دخلت الدّار رجع عن إيقاع الواحدة، وأقام الحلف بما بقي من الثلاث مقام الواحدة قد صحت إذا كانت المرأة مدخولاً بها.

لو قال لها أنتِ طالق إن دخلت الدّار فأنتِ طالق واحدة، لا بل ثلاثاً، لم تطلق شيئاً حتّى تدخل الدّار. وإذا دخلت الدار طلقت ثلاثاً سواء كانت مدخولاً بها أو لم تكن. فرق بين هذا وبينما إذا قال لها: أنتِ طالق واحدة، لا بل ثلاثاً إن دخلت الدّار. وهي المسألة المتقدمة، والفرق أن في المسألة المتقدمة ذكر لقوله: لا بل خبراً على حدة، فلم يصر خبر الأوّل خبراً له، بل اعتبر لا بل مقطوعاً عنه، فوقعت الواحدة للحال وتعلق الباقي بالدخول، أمّا في المسألة الثانية لم يذكر لقوله: لا بل. خبراً على حدة، فجعل خبر الأول خبراً له، والأول تعليق، فكذا الثاني، فتعلق الكل بالدخول.

وفي «المنتقى» : إذا قال لها: أنتِ طالق لا بل طالق، فهي طالق ثنتين، وكذلك لو قال أنتِ طالق واحدة لا بل واحدة، وكذلك لو قال أنتِ طالق واحدة لا بل طالق واحدة.
وذكر فيه أيضاً: عن أبي يوسف رحمه الله إذا قال لها أنتِ طالق لا بل أنتِ طالق، فهي طالق واحدة بالكلام الأول، فلا يلزمه بالكلام الثاني شيء إلا أن ينوي.

(3/297)


ولو قال أنتِ طالق لا بل أنتما لزم من الأولى تطليقتان والأخرى واحدة. وإذا قال إن تزوجت فلانة فهي طالق لا بل عَبدي حرّ، ذكر هذه المسألة في «المنتقى» في موضعين، وقال في موضع: لا يعتق العبد إلا بعد التزوّج، وقال في موضع آخر العبد حرّ الساعة. وإن تزوج فلانة فهي طالق، وذكر عقيبه ما إذا قال إن اشتريت فلاناً فهو حرّ، لا بل فلان بمعنى عبد آخر له في ملكه، لم يعتق عنده حتّى يشتري العبد الذي حلف بعتقه. وأشار إلى المعنى، فقال: لأن هذا شيء واحد، وطلاق المرأة غير عتق العبد.
وفي «الأصل» : لو قال لها كنت طلقتك أمس واحدة، لا بل ثنتين وقعت ثنتان؛ لأن كلمة لا بل في الإخبارات تستعمل لتقرير الأقل وإلحاق الزيادة به يقول الرجل: حججت حجّة لا بل حجتين، ويصير كأنّه قال طلقتك ثنتين، ولا كذلك في الإثبات، والله أعلم.

الفصل الحادي عشر: في إضافة الطلاق إلى الأوقات
يجب أن تعلم: بأن الطلاق إذا أضيف إلى وقت ينصرف إلى وقت في المستقبل، حتّى إنّ من قال لامرأته: أنتِ طالق يوم الجمعة، ينصرف إلى الجمعة الآتية؛ لأن المقصود من الإضافة تأخير الحكم إلى وقت المضاف إليه، وإنّما يتأتى التأخير في المستقبل، لا في الماضي. فإذا وجد أصل الوقت في المستقبل لا في الماضي، وإذا وجد أصل الوقت ولم توجد الصفة التي ذكرها الحالف لا يقع الطلاق، وهذا ظاهر. وإذا وجد الوقت المضاف إليه الطلاق مع الصفة التي ذكرها الحالف، يجعل المضاف كالمرسل، إذا صحت الإضافة كما في المعلق بالشرط يجعل عند وجود الشرط، كالمرسل.

فبعد ذلك إن كان المعلق، والمضاف طلاقاً صحيحاً، قابلاً للوقوع كان المرسل طلاقاً صحيحاً، فيقع. فإذا وقع الطلاق يترك عقيب الشرط، وعقيب الوقت المضاف؛ لأنّ الحكم (251أ1) يتأخر عن سببه، وإنّما يوجد السبب بعد الشرط، وبعد الوقت؛ لأن المعلق والمضاف كل واحد منهما ليس بسبب للحال، وإنّما يصير سبباً عند وجود الشرط والوقت، فإذا كانت السببية معلقة بوجود الشرط والوقت، كانت السببية متأخرة عن الشرط، والحكم يتأخر عن السبب، فيكون متأخراً عن الشرط والوقت ضرورة، وإذا أضيف الطلاق إلى وقت سابق على قول مسمى، ووجد الوقت بوصف أنّه سابق على الفعل المسمّى، فالطلاق وقوعه لا يتأخر عن ذلك الفعل ولا يسبقه بل يقارنه، إلا في الموت عند أبي حنيفة رحمه الله على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.

بيانه في مسألة ذكرها في «الزيادات» : إذا قال الرجل: إن تزوجت زينب قبل أن أتزوج عمرة بشهر فهما طالقان، فتزوج زينب ثمّ مضى شهر، ثمَّ تزوج عمرة طلقت

(3/298)


زينب، ولا تطلق عمرة، وهذا لأنّ الفعل المذكور ليس بشرط لوقوع الطلاق؛ لأنّ الزوج ما جعله شرطاً بل هو موجه للشرط؛ لأن الطلاق مضاف إلى شهر موصوف بأنّه قبل الفعل المسمّى لا بدّ من وجود الفعل متصلاً بالوقت، ليعلم أن هذا وقت سابق على الفعل المسمّى، فكان الفعل موجداً صفة الفعلية للوقت المسمّى، فكان موجداً للشرط، وموجدُ الشرط ليس بشرط، من حيث إنّه موجود الشرط، فالوقوع لا يسبقه. ومن حيث إنّه ليس بشرط لا يتأخر عنه، فإذاً يقع مقارناً له إلا في الموت عند أبي حنيفة رحمه الله على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
قال في أيمان «الجامع» : إذا قال الرجل لامرأة لا يملكها: أنتِ طالق قبل أن أتزوجك بشهر، فمكث شهراً ثمَّ تزوجها لا تطلق.

يجب أن تعلم أن هذه المسألة على وجهين: إضافة من غير تعليق، وإضافة مع التعليق. والتعليق لا يخلو إمّا أن يكون بشرط سابق، أو بشرط لاحق وكل ذلك على وجهين: إمّا أن يكون مؤقتاً، أو غير مؤقت، صورة الإضافة من غير التعليق في المؤقت ما ذكرنا، وإنّما لا تطلق إمّا لأنّه أضاف الطلاق إلى وقت سابق على قول مسمّى، وهو التزوج فيكون الوقوع مقارناً للتزوج، والطلاق لا يقع مقارناً للتزوج، أو لأنّه وصفها بكونها طالقاً قبل التزوج، وهي كذلك؛ لأن الطلاق في الخالي عن القيد وهي خالية عن القيد قبل التزوج، فهو صاد في هذا الوقت، فلا حاجة إلى الإيقاع.

وصورة الإضافة من غير تعليق في المطلق، إذا قال لامرأة لا يملكها: أنتِ طالق قبل (أن) أتزوجك، فتزوجها بعد ذلك لا تطلق أيضاً؛ لأنّ هذا إيقاع للحال، فالأصل أن الطلاق إذا أضيف إلى المرأة قبل الفعل المسمّى قبلية مطلقة، يكون إيقاعاً للحال، كما في قوله أنتِ طالق قبل قدوم فلان، فإنّ هناك يقع الطلاق عليها للحال قدم فلان، أو لم يقدم، ولمّا كان هذا إيقاعاً للحال يبطل لعدم الملك.
صورة الإضافة مع التعليق والشرط سابق في الموت إذا قال لها: إذا تزوجتك فأنتِ طالق قبل أن أتزوجتك بشهر، فتزوجها بعدما مضى شهر من وقت هذه المقالة طلقت، كذا ذكر في رواية أبي سليمان رحمه الله.
وذكر في رواية أبي حفص رحمه الله، وقال طلقت في قول أبي يوسف رحمه الله، فقد إلى الخلاف، ولكن لم ينصّ عليه.
وذكر في طلاق الجامع الإضافة مع التعليق في المطلق، وصورتها: إذا (أشاء) قال لامرأة لا يملكها: إن تزوجتك فأنتِ طالق قبل ذلك، ولم يوقّت بأن لم يقل قبل ذلك بشهر ثمَّ تزوجها، فعلى قول أبي حنيفة ومحمّد رحمهما الله لا تطلق، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله تطلق، من مشايخنا من قال: الخلاف في المطلق، وأمّا في المؤقت تطلق بلا خلاف، كما ذكر في رواية أبي سليمان رحمه الله، وعامتهم على أنّ الخلاف في المطلق والمؤقت جميعاً، لأبي يوسف رحمه الله أنّه علق الطلاق بشرط التزوّج؛ لأن كلمة «إن» و «إذا» للشرط، ثمَّ أضافه إلى ما قبل الشرط مطلقاً أو موصوفاً بأنّه قبل الشرط

(3/299)


بشهر، فيصحّ من الوقت لما في تصحيحه تصحيح هذا التعليق، ويلغو ما في تصحيحه إبطال هذا التعليق، قلنا: وفي تصحيح القبليّة في المطلقة والمؤقتة إبطال هذا التعليق؛ لأنّه متى تعلق الطلاق بالتزوج يقع الطلاق بعده، ولا يقع قبله، فبقي الإيقاع إبطال هذا التعليق، فأبطلنا ذكر القبلية في المطلقة والموقتة.

وليس في اعتبار الشهر في المؤقتة إبطال هذا التعليق، فاعتبرنا الشهّر في المؤقتة، ويصير تقدير المسألة في المطلقة: إذا تزوجتك فأنتِ طالق، وفي المؤقتة: إذا تزوجتك بعد شهر فأنتِ طالق، ولو نصّ على هذا يصحّ التعليق ويقع الطلاق بعدما وجد الشرط، وهو التزوّج في المطلقة في أيّ وقت وجد، والتزوج بعد الشهر في المؤقتة كذا ها هنا، بخلاف مسألة أوّل الباب؛ لأنّ هناك ما جعل التزوج بشرط، بل جعله موجداً للشرط فيكون وقوع الطلاق مقارناً للتزوج.

فلأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أنَّ المعلق بالشرط والمضاف إلى وقت بعد وجود الشرط، والوقت بمنزلة المرسل، فيصير بعد التزوّج، كأنه قال: أنتِ طالق قبل أن أتزوجك بشهر، وإنّه باطل لا وقوع له، فكذا إذا كان معلقاً وما قال من المعنى، فهو صحيح إذا صحّ التعليق حتّى يلغو ذكر القبلية ضرورة صحّة التعليق، والتعليق ها هنا لا يصح، فكيف يلغو ذكر القبلية.
هذا كلّه على قول عامة المشايخ: إنَّ الخلاف في المطلق والموقت خلاف واحد، وأما على قول بعض المشايخ إنّ الخلاف في المطلق وفي الموقت يقع الطلاق بلا خلاف، يحتاج أبو حنيفة رحمه الله إلى الفرق بين المطلق والمؤقت، والفرق أنّ في المؤقت القبلية صفة الشهر لا صفة الطلاق، وهذا لأنّ الطلاق كما هو مذكور، والشهر أيضاً مذكور والقبلية كما يصلح صفة للطلاق، ومعناه: إذا تزوجتك فالمرأة طالق قبل النكاح بشهر يصلح صفة للشهر، ومعناه: إذا تزوجتك، وقد مضى شهر قبله من وقت هذه المقالة، فجعلناها صفة للشهر حتّى يصلح التعليق (251ب1) بخلاف المطلق؛ لأنّ القبلية صفة الطلاق هناك؛ لأنّ المذكور هناك الطلاق لا غير، وإذا صارت القبلية في المطلق صفة الطلاق بطل التعليق؛ لأنَّ المعلق باطل، وهذا هو الفرق لكن ما قاله عامّة المشايخ أصحّ؛ لأنَّ القبلية لمّا صلحت صفة الطلاق وصفة الشهر وقع الشك في صحّة التعليق، وفي وقوع الطلاق، فلا يصح ولا يقع بالشك.

صورة الإضافة مع التعليق والشرط لاحق في المطلق والمؤقت إذا قال لأجنبيّة: أنتِ طالق قبل أن أتزوجك أنتِ طالق قبل أن أتزوجك بشهر إذا تزوجتك، فتزوجها لا نص فيه عن محمّد رحمه الله، وقد اختلف المشايخ فيه: بعضهم قالوا لا فرق بينما إذا كان الشرط لاحقاً، وبينما إذا كان سابقاً، وإليه مال شيخ الإسلام رحمه الله؛ لأنّ أوّل الكلام يتوقف على آخره إذا وجد في آخره ما يقلب حكم أوّله، ويصير كأنّه تكلم بكلمة واحدة، وفي حق هذا المعنى تقديم الشرط، وتأخيره سواء، وبعضهم قالوا ها هنا يقع الطلاق بلا خلاف، وإليه مال فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله.

(3/300)


ووجهه أنّ قوله أنتِ طالق قبل أن أتزوجك موجبه وقوع الطلاق للحال، وقوله: أنتِ طالق قبل أن أتزوجك بشهر موجبه وقوع الطلاق مقارناً للتزوج، فإذا أدخل عليه الشرط أوجب تأخيره، ومن ضرورته بطلان صفة القبلية، فيصير قائلاً عند التزوج أنتِ طالق.
فأمَّا إذا قدم الشرط فالشرط ما أوجب تأخير الجزاء، ولكن الجزاء يتأخر عن الشرط؛ لأنّ الحالف تكلّم به بعد الشرط، لا لأنَّ الشرط أوجب تأخيره، وإذا لم يكن تأخير الجزاء بحكم الشرط لم يكن من ضرورته بطلان صفة القبلية، فيصير قائلاً عند التزوج أنتِ طالق، قبل أن أتزوجك أنتِ طالق قبل أن أتزوجك بشهر وهناك لا يقع الطلاق، كذا ههنا.
هذا كلّه إذا حصل الإيجاب في غير الملك، وأما إذا حصل الإيجاب في الملك فله صور، من جملة ذلك ما ذكر في «المنتقى» إذا قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنتِ طالق قبل أن أتزوجك، فهي طالق إذا دخلت الدار، وكذلك إذا قال لها إذا جَاء غد فأنتِ طالق قبل أن أتزوجك، أو قال لها أنتِ طالق غداً قبل أن أتزوجك، فهي طالق غداً.

وقال في «الجامع الصغير» : إذا قال لامرأته: أنتِ طالق قبل أن أتزوجك، أو قال لها طلقتك قبل أن أتزوجك لا يقع شيء. وفيه أيضاً: إذا قال لها أنتِ طالق أمس، وقد تزوجها اليوم لا يقع الطلاق، ولو تزوجها أوّل من أمس يقع الساعة واحدة.
وفي «الجامع الكبير» لو قال لامرأته: أنتِ طالق قبل دخولك الدّار بشهر، أو قال لها أنتِ طالق قبل قدوم فلان بشهر، فدخلت الدار أو قدم فلان قبل تمام الشهر من وقت اليمين لا تطلق؛ لأن الطلاق المضاف إلى وقت موصوف بصفه تنصرف إلى وقت في المستقبل، ولو دخلت الدار بعد تمام الشهر، أو قدم فلان (بعد) إتمام الشهر من وقت اليمين يقع الطلاق؛ لأنّه يصير قائِلاً عند تمام الشهر وعند قدوم فلان أنتِ طالق قبل هذا الشهر، ومن قال لامرأته أنتِ طالق قبل هذا بشهر في الحال تطلق في الحال.
ثمَّ عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله يقع الطلاق مقارناً للدخول، ويقتصر الوقوع على وقت القدوم والدخول حتى لو خالعها تطلق في وسط الشهر، ثمَّ دخلت الدار أو قدم فلان لتمام وهي في العدة، لا يظهر بطلان الخلع، خلافاً لزفر رحمه الله.
ولو قال لها: أنتِ طالق قبل موت فلان بشهر، فمات فلان لتمام الشهر، فعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يقع الطلاق مقارناً للموت، ويقتصر على وقت الموت، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله يقع الطلاق في آخر جزء من أجزاء حياته، ويستند إلى أول الشهر، وعلى قول زفر يقع الطلاق بعد الموت، ويستند إلى أول الشهر.

وثمرة الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله إنّما تظهر فيما إذا قال لها أنتِ طالق قبل موتي بشهر، أو قال قبل موتك بشهر، فعلى قولهما لا يقع؛ لأنّه لو وقع الطلاق بهذا اليمين وقع مقارناً لموت أحد الزوجين، ولا وجه إليه؛ لأنّه حال زوال الملك والطلاق لا يقع في حال زوال الملك، وعند أبي حنيفة رحمه الله يقع الطلاق؛ لأنّ عنده

(3/301)


الطلاق يقع في آخر جزء من آخر الحياة، وفي تلك الحال الملك قائم.

والحاصل أنهما يقولان بمقارنة الوقوع القدومَ والدخول والموت وبالاقتصار في الأفعال كلها، وأبو حنيفة رحمه الله قال بمقارنة الوقوع الدخول والقدوم، وبالاقتصار فيهما ويسبق الوقوع الموت والاستثناء فيه، فهما يقولان: هذه الأفعال للشروط من وجه من حيث إنّها ملفوظة على خطر الوجود، ويقف وقوع الطلاق عليها معرفات من وجه حيث إنَّ الزوج ما ذكرها بحرف الشرط، ولكن أضاف الطلاق إلى زمان موصوف بأنّه قبل هذه الأفعال بشهر، فكانت هذه الأفعال معرّفة إيّانا أن الشهر السابق بهذه الصفة.
ولو كانت معرفة من كل وجه لوقع الطلاق من أوّل الشهر من كلّ وجه، كما لو قال لها أنتِ طالق قبل رمضان بشهر، فإنَّ هناك يقع الطلاق في أوّل شعبان من كل وجه، ولو كانت شروطاً من كل لوقع الطلاق بعدها مقصوراً عليها من كلّ وجه، كما لو ذكرها بحرف الشرط صريحاً بأن قال؛ إن قدم فلان، إن مات فلان، إن دخلت الدار، فأنتِ طالق قبل ذلك بشهر، فإذا كانت شروطاً من وجه معرفات من وجه، قلنا بالوقوع بعدها، عملاً بالشرطية. وقلنا بالاستناد عملاً بالمعرفية، ولأبي حنيفة رحمه الله أن الموت ليس بشرط لوقوع الطلاق؛ لأن الموت أمر لا يدخل تحت الأمر والنهي وما لا يدخل تحت الأمر والنهي لا يصلح شرطاً، لوقوع الطلاق؛ لأن المقصود من الأيمان النهي عن إيجاد شرط وقوع الطلاق، فبذكر ما لا يدخل تحت الأمر والنهي يعلم أنّه لم يقصد به النهي عنها، فلا يكون شرطاً. وذكرها لتعريف الوقت المضاف إليه الطلاق، والتعريف حاصل قبله بآخر أجزاء حياته؛ لأنّ آخر أجزاء حياته يتصل بموته بتقدير الله عزّ وجلّ لا يفصل عنه إلا أنّا لا نعرف آخر أجزاء حياته (252أ1) إلا بالموت، فبالموت عرفنا وجود ذلك الجزء قبله، فهو معنى قولنا: إنَّ التعريف حاصل قبل الموت بآخر جزء من أجزاء حياته، فيقع الطلاق في آخر جزء من أجزاء حياته. ويستند إلى أوّل الشهر، بخلاف الدخول والقدوم وما شاكلهما؛ لأن هذه الأشياء تدخل تحت الأمر والنهي، فأمكن جعلها شرطاً، فيقع الطلاق عندها مقصوراً عليها على ما ذكرنا، فهذه النكتة منقولة عن القاضي الإمام الكبير أبي زيد رحمه الله.

ولو قال لها: أنتِ طالق قبل موت فلان وفلان بشهر فمات أحدهما قبل تمام الشهر لم تطلق بهذه اليمين أبداً، لانعدام الوقت المضاف إليه الطلاق وهو شهر بعد اليمين موصوف بأنّه قبل موتهما. وإن مضى شهر من وقت اليمين ثمَّ مات أحدهما طلقت، ولا ينتظر موت الآخر؛ لأن بموت أحدهما تيقنا بوجود الوقت المضاف إليه الطلاق، وهو شهر قبل موتهما يتصل بآخره موت أحدهما؛ لأن اتصالهما بآخر الشهر إنّما يكون بوقوعهما معاً، واقتران بالشهر موتهما ممتنع عادة،

(3/302)


فيسقط اعتبار المقارنة وتعلّق وقوع الطلاق بوصف التقدّم على الموتين بشرط اتصال أحدهما به.
ولو قال لها أنتِ طالق قبل قدوم فلان وفلان بشهر، فقدم أحدهما لتمام الشهر من وقت اليمين، ثمَّ قدم الآخر بعد ذلك طلقت؛ لأنّ وجود القدومين معاً ممتنع عادة، فيسقط اعتباره، فبقي الطلاق مضافاً إلى شهر بعد اليمين يتصل به قدوم أحدهما، وقدوم الآخر يتصل بمطلق الوقت. وهو نظير ما لو قال لامرأته أنتِ طالق قبل مطلع يوم الأضحى والفطر بشهر، فإنها تطلق إذا أهلَّ هلال رمضان؛ لأن الفطر مع الأضحى لا يوجدان معاً، فتعلق وقوع الطلاق بصفة التقدم، واعتبر اتصال الشهر بأحدهما دون الآخر كذا ها هنا، فصار موتهما وقدومهما من حيث إنّه يكتفى فيهما باتصال الشهر بأحدهما سواء، إلا أنّ فرق ما بينهما أنّه إذا مات أحدهما لتمام الشهر يقع الطلاق، ولا يتوقف وقوعه على موت الآخر، وإذا قدم أحدهما بعد تمام الشهر لا يقع الطلاق، بل يتوقف وقوعه على قدوم الآخر.
قال في «الجامع» أيضاً: إذا قال الرجل لامرأته أنتِ طالق قبل أن تحيضي حيضة بشهر، فمكثت بعد هذه المقالة شهراً، ثمَّ رأت الدم يوماً أو يومين في أيام حيضها، فإنّها لا تطلق ما لم يتمادى بها الدم ثلاثة أيام، وإذا تمادى يحكم بوقوع الطلاق من حين ما رأت الدم؛ لأنَّ بمادي الدم ثلاثة أيام تيقنا أنّ المرئي كان حيضاً من وقت الرؤية، فتيقنا بكون هذه الشهر شهراً قبل حيضها، ولا يتوقف وقوع الطلاق على الطهر. وإن ذكر الحيضة مع الهاء أنّها مع الهاء اسم للكامل منها؛ لأنّه ما جعل الحيضة شرطاً بل جعلها معرفة للوقت المضاف إليه الطلاق، وقد حصل التعريف بمضي ثلاثة أيام وإن لم تطهر، ثمَّ إذا وقع الطلاق عليها من حين ما رأت الدم، لا شكَّ أنَّ على قولهما يقتصر استدلالاً بنظائره من الميت والقدوم على ما مرّ.
وأمّا على قول أبي حنيفة رحمه الله قد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: يستند وألحقوه بالموت، وبعضهم قالوا لا يستند، وألحقوه بالقدوم من حيث إنّ الحيضة ملفوظ بها على خطر الوجود، كالقدوم بخلاف الموت.
قال في «الجامع» : وإذا (قال) لامرأته أنتِ طالق ثلاثاً قبل موت فلان بشهر، ثمَّ إنّه خالعها على مال قبل تمام الشهر ثمَّ مات فلان لتمام الشهر، فالمسألة على وجهين: إن لم تكن المرأة في العدّة يوم مات فلان، بأن كانت غير مدخول بها أو كانت مدخولاً بها، إلا أنّه انقضت عدتها بوضع الحمل قبل تمام الشهر، لا يقع شيء عليها شيء من الطلقات المضاف.
أمّا عندهما فلأنّ الطلاق يقع عند الموت مقصوراً على حالة الموت، فيشترط قيام الملك عند الموت، ولم يوجد.

وعند أبي حنيفة رحمه الله يقع الطلاق في آخر جزء من آخر الحياة ويستند، فلا بد من قيام الملك في آخر جزء من آخر الحياة حتّى يقع ثمّ يستند، وإن كانت في العدة يقع الطلاق غير أنَّ عندهما يقتصر الوقوع على وقت الموت، فلا يتبين بطلان الخلع، وعند أبي حنيفة رحمه الله يستند، فيتبيّن أنّه حين خالعها لم يكن له عليها ملك فيتبيّن بطلان الخلع فكان عليه أن يردّ ما أخذ منها؛ لأنّه تبيّن أنّه أخذ ما أخذ بغير حق، ولم يذكر محمّد رحمه الله في «الكتاب» أنَّ العدة تعتبر من أيِّ وقت ولا شكَّ أن على قولهما تعتبر العدة من وقت الموت؛ لأنَّ عندهما يقع الطلاق مقصوراً على وقت الموت، وأما على

(3/303)


قول أبي حنيفة رحمه الله عند عامّة الشايخ يعتبر من وقت الموت.6
وعند علي الرازي رحمه الله يعتبر من أوّل الشهر، وهذا بناءً على أن عند علي الرازي الطريق في وقوع الطلاق عند أبي حنيفة رحمه الله في هذه الصورة طريق الظهور من كلِّ وجه، ومعناه أنَّ بالموت يظهر أنَّ الطلاق كان واقعاً من أوّل الشهّر من كلِّ وجه، وكان يطعن على محمّد رحمه الله فيما ذكر من اشتراط قيام العدّة وقت الموت، لوقوع الثلاث؛ لأنّ عنده الطلاق يقع من أوّل الشهر من كلِّ وجه، فلا معنى لاشتراط قيام العدّة عند الموت، والدليل على أنَّ طريقه الظهور من كلِّ وجه عند أبي حنيفة أنَّ محمّداً رحمهما الله ذكر بطلان الخلع، على قوله: لو كانت العدة قائمة وقت الموت، ولو كان طريقه طريق الاستناد لما قال ببطلان الخلع؛ لأنَّ الخلع بعد وقوعه. ونفاذه لا يحتمل البطلان.
والدليل عليه: أنَّ أبا حنيفة رحمه الله قال: لو وطئها بعد اليمين، ثمَّ مات، فلان لتمام الشهر إنّه يلزمه العقد، ولو كان طريقه طريق الاستناد لما لزمه العقد، لأنَّ الاستناد لا يظهر في حقِّ المستوفى بالوطء، وما ذكرنا من نكتة القاضي الإمام الكبير أبي زيد رحمه الله، يشير إلى ما يقوله علي الرازي رحمه الله، فكأنه يميل إلى ما قاله علي الرازي رحمه الله. وعند عامة المشايخ الطريق عند أبي حنيفة رحمه الله طريق الاستناد، وهو الوقوع للحال من وجه، ومن أوّل الشهر من وجه، ولما كان الطريق عند عامة المشايخ الاستناد يعتبر العدّة من وقت الموت؛ لأنَّ باعتبار الوقوع في الحال يجب العدّة في الحال، وباعتبار الوقوع من أوّل الشهر تجب العدّة من أوّل الشهر (252ب1) ، فتجب في الحال احتياطاً والصحيح ما عليه عامّة المشايخ.
وأمّا تخريج مسألة الخلع، فنقول: باعتبار الحال يصح ما مضى من الخلع، وباعتبار أوّل الشهر لا يصح فلا يصح بالشك والاحتمال وبهذا تبيّن أنّا لا نقول ببطلان الخلع بعد صحته ونفاذه، بل لا نقول بصحته.
وأمّا مسألة العقد قلنا: الأصل في ضمان منافع البضع العقد لكن يصير إلى المسمّى حال قيام الملك من كل وجه، فإذا ظهر زوال الملك من أوّل الشهر من وجه، بقي مضموناً بالضمان الأصلي.
وفي «المنتقى» عن محمّد رحمه الله: إذا قال لامرأته أنتِ طالق قبيل غد أو قبيل قدوم فلان، فهو قبيل ذلك بطرفة عين؛ لأنَّ قبيل وقت. قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله. هذا الجواب في قوله قبيل قدوم فلان غير مستقيم، والصحيح أنّه يقع الطلاق إذا قدم فلان، والله أعلم.
نوع آخر في إضافة الطلاق إلى الوقتين وإلى أحدهما وفي تعليق الطلاق بالفعلين وبأحدهما وفي الجمع بين وقت وفعل

يجب أن تعلم بأنَّ الطلاق المضاف إلى أحد الوقتين يقع عند آخرهما، إمّا لأنَّ الزوج وصفها بالطلاق في أحد الوقتين، ولو وقع الطلاق في أولهما كانت موصوفة

(3/304)


بالطلاق في الوقتين، أوْ لأنَّ الزوج أوقع الطلاق بأحد وصفين الأخف والأغلظ وهو التعجل والتأخّر فإنَّ المؤخّر أخف من المعجّل.
والأصل في مثل هذا أن يتعين للزوج الأخف؛ لأنّه متيقّن ولهذا قالوا: إن من قال لامرأته أنتِ طالق بائن أو رجعي يقع طلاق رجعي، وكذلك قالوا فيمن قال لامرأته أنتِ طالق ثلاثاً أو واحدة يقع واحدة، وطريقه ما قلنا.
بيان هذا «الأصل» فيما إذا قال لامرأته: أنتِ طالق غداً أو بعد غد، فإنّها تطلق بعد غد وكذلك إذا قال لها أنتِ طالق غداً أو رأس الشّهر، فإنّه يقع الطلاق عند أحديهما إلا إذا نوى أن يقع بكل وقت تطليقة، فحينئذٍ تقع تطليقة غداً وتطليقة بعد غد؛ لأنّه نوى ما يحتمله لفظه بإقامة حرف الواو مقام أو ويصير تقدير المسألة: أنتِ طالق غداً، وبعد غدٍ أو بإضمار كلمة في، ويصير تقدير المسألة أنتِ طالق في غدٍ وفي بعد غدٍ والمضاف إلى الوقتين يقع بأولهما؛ لأنّه وصفها بكونها طالقاً في الوقتين، وإنّما يكون مقصوداً بالطلاق في الوقتين إذا وقع الطلاق بأولهما، وإذا وقع الطلاق عند وجود أوّلهما لا يقع عند وجود آخرهما شيء إذا لم يكن أحد الوقتين كائناً، أو كان أحدهما كائناً وبدأ بالكائن، ففي الحالين جميعاً يقع طلاق واحد عند وجود أوّلهما.
بيان هذا «الأصل» : إذا لم يكن أحد الوقتين كائناً أن يقول لها اليوم: أنتِ طالق غداً، وبعد غد. وبيانه فيما إذا كان أحد الوقتين كائناً وبدأ بالكائن بأن يقول لها اليوم أنتِ طالق اليوم وغداً، فإنّه يقع الطلاق ساعة ما تكلّم، ولا يقع عليها في الغد شيء؛ لأنه وصفها بكونها طالقاً في الوقت الكائن والآتي، وهي الطلقة الواقعة في الوقت الكائن يتصف بالطلاق في الوقت الآتي.

وعلى هذا إذا قال لها في الليل أنتِ طالق في ليلك ونهارك يقع الطلاق عليها ساعة ما تكلم بهذه المقالة، ثمَّ لا يقع في النهار شيء، وهذا إذا لم يكن لها نية، فإن نوى أن يقع بكل وقت تطليقة كان كما نوى، لما قلنا.
وفي «مجموع النوازل» : إذا قال لها: أنتِ طالق اليوم وغداً، يقع واحدة اليوم، وأخرى غداً وأمّا إذا كان أحد الوقتين كائناً وبدأ بالآتي فإنه يقع بكل وقت تطليقة، بأن قال لها اليوم: أنتِ طالق غداً واليوم تقع واحدة ساعة ما تكلم به، وتقع أخرى غداً، وكذلك إذا قال في الليل أنتِ طالق في نهارك وليلك يقع واحدة ساعة ما قال هذه المقالة، ويقع أخرى إذا طلع الفجر؛ لأنّه وصفها بكونها طالقاً في الوقت الآتي ابتداء، وعطف عليه الوقت الكائن، وهي بالطلاق الواقع في الوقت الآتي لا تتصف بكونها طالقاً في الوقت الكائن.
ولو قال لها ليلاً أنتِ طالق في ليلك وفي نهارك، أو قال لها نهاراً أنتِ طالق في نهارك، وفي ليلك، طلقت في كلِّ وقت تطليقة؛ لأنّه جعل كلّ وقت ظرفاً على حدة فاستدعى مظروفاً على حدة، وفيما تقدّم جعل الوقتين ظرفاً واحداً، فاكتفى بمظروف واحد.

(3/305)


وعلى هذا إذا قال لها أنتِ طالق ليلاً ونهاراً أو قال في الليل والنهار لم يقع إلا واحدة، ولو قال في الليل وفي النهار، يقع تطليقتان وعلى هذا إذا قال أنتِ طالق في أكلك وشربك، في قيامك وقعودك لم يقع ما لم يوجدا. ولو قال في أكلك وفي شربك، وفي قيامك وفي قعودك فأيهما وجد يقع؛ لأنّه جعل كلَّ فعل شرطاً على حدة فإن نوى طلقة واحدة في قوله في ليلك وفي نهارك ديّن فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنّه نوى ما يحتمله لفظه، وذلك بحذف كلمة في.

وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمّد رحمه الله: إذا قال لامرأته أنتِ طالق بالنهار، والليل إذا قال ذلك نهاراً طلقت واحدة، وإن قال ذلك ليلاً طلقت ثنتين، ولو قال لها ولم يدخل بها أنتِ طالق غداً واليوم طلقت الساعة واحدة، وإن تزوجها اليوم طلقت إذا جاء غد ولو لم يتزوجها اليوم حتى جاء غد ثم تزوجها لا تطلق.
وأمّا إذا كان أحد الوقتين كائناً والآخر ماضياً لم يذكر هذه المسألة في الأصول، وإنّما ذكرها في «النوادر» ؛ ووضعها في غير المدخول بها، فقال: إذا قال لها أنتِ طالق أمس واليوم فهي واحدة لأنا لو أوقعنا أمس بها تطليقة ممّا سمى بعد ذلك يكون باطلاً، ولو قال أنتِ طالق اليوم وأمس كانت طالقاً ثنتين، كأنّه قال لها أنتِ طالق ثنتين.
وفي «مجموع النوازل» : إذا قال لامرأته أنتِ طالق اليوم فأمس فهي واحدة، هذا هو الكلام في المضاف.
جئنا إلى المعلّق، فنقول: المعلق بأحد الفعلين يقع بأولهما لأن الحالف جعل أحد الفعلين شرطاً، وإنّما يكون أحدهما شرطاً إذا وقع الطلاق بأولهما، بيان هذا الأصل: إذا قال لها أنتِ طالق إذا جاء رأس الشهر أو إذا قدم فلان، فأيهما وجد أولاً يقع الطلاق ثمَّ لا يقع عند الآخر شيء؛ لأنَّ المعلق (253أ1) طلاق واحد، إلا أن ينوي بكل فعل تطليقة، فيكون كما نوى؛ لأنّه نوى ما يحتمله لفظه؛ لأنه يذكر بمعنى الواو، قال الله تعالى {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ} (الإسراء: 90، 91) ومعناه وتكون لك ويصير تقدير المسألة أنتِ طالق إذا جاء رأس الشهر، وإذا قدم فلان.
وأمّا المعلق بالفعلين، فهو على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون الجزاء مقدماً على الفعلين، وإنّه على وجهين:

أمّا (إن) ذكر للثاني حرف الشرط، بأن قال لها: أنتِ طالق إذا قدم فلان وإذا قدم فلان آخر، وفي هذا الوجه أيّهما قدم أوّلاً يقع الطلاق ولا يقع بالثاني شيء إلا إذا نوى ذلك.
وأمّا إن لم يذكر للثاني حرف الشرط، بأن قال لها أنتِ طالق إذا قدم فلان وفلان، وفي هذا الوجه لا يقع الطلاق ما لم يقدما، والفرق أنَّ قوله أنتِ طالق إذا قدم فلان وإذا قدم فلان يمين تامّه؛ لأنّه ذكر شرط وجزاء، فإذا ذكر للثاني حرف الشرط، فالثاني تامّ في معنى الشرطية، ناقص في معنى الجزائية، فصار جزاء الشرط الأوّل جزاء له بحكم

(3/306)


العطف إذ العطف يقتضي المشاركة بين المعطوف وبين المعطوف عليه، فيما هو ناقص، ويصير تقدير المسألة؛ كأنّه قال أنتِ طالق إذا قدم فلان، وإذا قدم فلان آخر فأنتِ طالق تلك التطليقة ولو نصَّ على ذلك كان الجواب كما قلنا فها هنا كذلك.
وأمّا إذا لم يذكر للثاني حرف الشرط فالثاني ناقص في معنى الشرطية، كما هو ناقص في معنى الجزائية وقد عطفه على الأول بحرف الجمع، والجمع بحرف الجمع كالجمع بلفظ الجمع، فصار كأنّه قال: أنتِ طالق إذا قدما.
الوجه الثاني: أن يكون الجزاء وسط الفعلين، بأن قال لها إذا قدم فلان، فأنتِ طالق، وإذا قدم فلان فالجواب فيه كالجواب فيما إذا قدّم الجزاء؛ لأنّ قوله إذا قدم فلان، فأنتِ طالق يمين تامّة، فإذا قال وإذا قدم فلان فقد ذكر حرف الشرط ولم يذكر له الجزاء، فصار جزاء الأوّل جزاءً للثاني بحكم العطف.

الوجه الثالث: أن يكون الجزاء مؤخراً عن الفعلين، بأن قال: إذا قدم فلان، وإذا قدم فلان فأنتِ طالق، فما لم يقدما لا يقع الطلاق لأنَّ قوله إذا قدم فلان ليس بكلام تامّ، بل هو شرط محض، وإذا قال: وإذا قدم فلان، فهذا أيضاً شرط محض، وقد جمع بينهما، فصار كالمجموع بلفظ الجمع فكأنّه قال: إذا قدما فأنتِ طالق، بخلاف ما إذا قدم الجزاء أو وسط؛ لأن هناك الكلام الأوّل يمين تامة على ما ذكرنا والكلام الثاني تام في معنى الشرطية ناقص في معنى الجزائية على ما مرّ.
وإذا جمع بين وقت وفعل وأضاف الطلاق إلى أحدهما، بأن قال لها: أنتِ طالق رأس الشهر أو إذا قدم فلان، فإن وجد الفعل أوّلاً بأن قدم فلان في هذه الصورة أوّلاً يقع الطلاق، ويجعل كأنَّ المضموم إليه فعل آخر، فكان هذا طلاقاً معلقاً بأحد الفعلين فيقع بأولهما، وإن جاء رأس الشهر أوّلاً لا يقع الطلاق ما لم يقدم فلان، ويجعل كأن المضموم إليه وقت آخر كأنّه قال: أنتِ طالق رأس الشهر أو وقت قدوم فلان، فكان الطلاق مضافاً إلى أحد الوقتين، فيقع بآخرهما.
واختلفت عبارة المشايخ في بيان العلّة، فعبارة بعضهم: إنَّ الجمع بين قضيّة الفعل وبين قضيّة الوقت متعذر، لما بين الإضافة والتعليق من التضاد وجب القول بالترجيح، فرجحنا السابق؛ لأنّه لا (حكم) له فيعطى له حكمه ويجعل الآخر تبعاً له، فإن وجد الفعل أولاً جعل كأن المضموم إليه فعل آخر وإن وجد الوقت أوّلاً، جعل كأنَّ المضموم إليه وقت آخر.
وعبارة القاضي الإمام أبي سعيد البردعي رحمه الله أنَّ من أوقع أحد الطلاقين، إمّا الأخف وإمّا الأغلظ يقع الأخف، وقد أتى بالمضاف إلى الوقت أو بالمعلق بالفعل، والمعلق أخف من المضاف؛ لأن المضاف أقرب إلى المنجّز من المعلق، ألا ترى أنَّ من قال لامرأته: إن حلفت بعتق عبدي، فأنتِ طالق ثمَّ قال لعبده أنت حرّ غداً لا تطلق امرأته، كما لو قال أعتقت للحال. وكذا النذر المضاف إلى الغد يجوز تعجيله قبل مجيء الغد، بأن قال: لله تعالى عليَّ أن أصدّق بدرهم غداً، فتصدق اليوم والنذر المعلق بمجيء

(3/307)


الغد لا يجوز تعجيله قبل مجيء الغد، فعلم أن المضاف قرب المنجز، فكان المعلّق أخف، فيعتبر الأخف ويلغوا الوقت، ولكن هذه العلّة إنّما تتأتى فيما إذا وجد الفعل أوّلاً، ولا تتأتى فيما إذا وجد الوقت أوّلاً، واستشهد محمّد رحمه الله لإيضاح هذه المسألة في «الزيادات» بمسألة أخرى، فقال: ألا ترى أنّه لو قال لها أنتِ طالق غداً، أو إن شئت، فشاءت الساعة أنه يقع الطلاق، ولا ينتظر مجيء الغدّ، ويجعل كأنَّ المضموم إلى المشيئة فعل آخر، فكان الطلاق معلقاً بأحد الفعلين، فكذا في مسألتنا إلا أنَّ بين مسألتنا، وبين مسألة الاستشهاد فرق، فإنَّ في مسألة الاستشهاد إذا قامت عن مجلسها قبل أن تشاء طلقت غداً، وفي مسألتنا هذه إذا جاء رأس الشهر قبل أن يقدم فلان لا تطلق ما لم يقدم فلان.
وفي «نوادر ابن سماعة» قال: سمعت أبا يوسف رحمه الله يقول: إذا قال لامرأته أنتِ طالق إن دخلت الدار، أو بعد غد، فدخلت الدار اليوم قال: لا تطلق حتّى يجيء بعد الغد، قال: وهذا بمنزلة وقتين.
وقال محمّد رحمه الله: إن دخلت الدار اليوم طلقت قبل مجيء بعد الغد، وهذه الرواية عن أبي يوسف رحمه الله تخالف ما ذكر محّمد رحمه الله في «الزيادات» .

وعن أبي يوسف رحمه الله أيضاً أنّه إذا علق الطلاق بوقت وفعل على الشك، فهو بمنزلة فعلين، قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: يريد به أن الطلاق يقع بأيهما سبق، وهذه الرواية توافق ما ذكر محمّد رحمه الله في «الزيادات» ، ومتى جمع بين الوقت والفعل وأضاف الطلاق إليهما بأن قال لها: أنتِ طالق غداً، وإذا قدم فلان فهاتان تطليقتان تطلق غداً واحدة، وإذا قدم فلان أخرى؛ لأنّه لا مجانسة بين الوقت وبين الفعل، حتّى يصير جزاء الأوّل جزاء الثاني بحكم العطف إذ المشاركة إنّما تثبت في جنس واحد، لا في جنسين. وقد ذكر للثاني (253ب1) حرف الشرط، ولم يذكر له جزاء، فاستدعى الثاني جزاء آخر، فصار تقدير المسألة كأنّه قال: أنت طالق غداً، وإذا قدم فلان فأنتِ طالق تطليقة أخرى، بخلاف ما إذا ذكر فعلين أو وقتين؛ لأنَّ هناك الثاني من جنس الأوّل، فصار جزاء الأوّل جزاءً للثاني بحكم العطف، فلم يستدعي الثاني جزاء آخر.
فروى ابن سماعة عن محمّد رحمهما الله فيمن قال لامرأته: أنتِ طالق السّاعة، وإذا جاء غد وإذا جاء بعد غد، فهي طالق السّاعة واحدة وإذا جاء غد أخرى: ولا تطلق بمجيء ما بعد الغد؛ لأنَّ قوله إذا جاء غد فعل وقوله، وإذا جاء بعد غد فعل آخر، فإنّما يقع بأوّل الفعلين ويسقط اليمين، قال: ألا ترى أنّه لو قال أنتِ طالق إن دخلت هذه الدّار وإن دخلت هذه الدّار فدخلت إحدى الدّارين طلقت، وسقطت اليمين حتّى لا تطلق بدخول الدّار الأخرى، كذا ها هنا.
وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله، فيمن قال لامرأته: أنتِ طالق اليوم، وإن دخلت الدّار فهي طالق حين تكلم، وإن دخلت الدار أخرى وهذا وما لو قال لها أنتِ طالق غداً وإذا قدم فلان سواء.

(3/308)


وفي «الجامع الصغير» إذا قال لها أنتِ طالق غداً اليوم أو قال أنتِ طالق اليوم غداً، فهو بأوّل الوقتين تفوه، يريد به أنَّ في الصورة الأولى يقع الطلاق غداً، وفي الصورة الثانية يقع الطلاق اليوم؛ لأنّه أضاف الطلاق إلى وقتين ولم يذكر بينهما حرف العطف، وفي مثل هذا يقع الطلاق بأولهما لفظاً، ويصير الثاني حشواً ولغواً من الكلام. وكذلك إذا قال لها أنتِ طالق الساعة غداً يقع الطلاق عليها في الحال، فإن قال عنيت بهذه الساعة الساعة من الغد فإنّه لا يصدّق في القضاء ويديّن فيما بينه وبين الله تعالى.
ولو قال: أنتِ طالق اليوم إذا جاء غد، فهي طالق غداً حين يطلع الفجر لأنَّ قوله أنتِ طالق اليوم إيقاع للحال وقوله إذا جاء غد تعليق، فقد أتى بالإيقاع والتعليق والجمع بينها متعذّر، فلا بدَّ من اعتبار أحدهما وترك الآخر فنقول: اعتبار التعليق أولى، لأنا متى اعتبرنا الإيقاع يلغو قوله إذا جاء غد، وإنها كلمات، ولو اعتبرنا التعليق يلغو قوله اليوم، وإنه كلمة واحدة، فكان اعتبار التعليق أولى، وإذا اعتبرنا التعليق بقي ذكر اليوم فصار كأنّه قال لها: أنتِ طالق إذا جاء غد وهناك لا يقع الطلاق ما لم يجيء الغد كذا ها هنا.
وفي «مجموع النوازل» : إذا قال لها أنتِ طالق تطليقة تقع عليك غداً، فإنّه لا تقع إلا غداً ولو قال تطليقة لا يقع عليك إلا غداً وقع السّاعة، قال لأنّه تأجيل في الواقع.

وفي «المنتقى» إذا قال لها أنتِ طالق رأس كلِّ شهر، فإنّها تطلق ثلاثاً في رأس كلِّ شهر واحدة، ولو قال لها أنتِ طالق كلّ شهر، فإنّها تطلق واحدة قال لأنَّ في الأوّل ثلثهما فصل في الوقوع، ولا كذلك في الباقي ولو قال لها أنتِ طالق كل جمعة، فإن كان نيته على كلّ يوم جمعة فهي طالق في كل يوم جمعة حتّى تبين بثلاث وإن كان نيته على كلّ جمعة تأتي بأيامها على الدهر فهي طالق واحدة، وإن لم يكن له نيّة طلقت واحدة. وفي «مجموع النوازل» : إذا قال لها أنتِ طالق يوم الجمعة، أو في الجمعة وهو في بعض اليوم، فإنّه يقع الطلاق، فلا يكون على الجمعة الثانية إلا أن ينوي.
وفيه يضاً: إذا قال لها أنتِ طالق قبل يوم قبله يوم الجمعة، أو قال بعد يوم بعده يوم الجمعة يقع الطلاق عليها يوم الجمعة في المسألتين جميعاً، ولو قال لها أنتِ طالق واحدة كل يوم، فهي طالق واحدة كلَّ يوم.
وكذلك إذا قال لها أنتِ طالق كل يوم واحدة، ولو قال لها أنتِ طالق شهراً، غير هذا اليوم أو سوى هذا اليوم كان كما قال، فكانت طالقاً بعد مضي ذلك اليوم، ولا يشبه هذا قوله إلا هذا اليوم، فإنَّ هناك تطلق حين تكلم، وقوله هذا الشهر إلا هذا اليوم نظير قوله شهراً إلا هذا اليوم. والفرق بين قوله إلا هذا وبين قوله سوى هذا، وغير هذا أنَّ قوله غير هذا اليوم وسوى هذا اليوم قد يكون وقتاً، ألا ترى لو قال الرجل لغيره: والله لا أكلمك ثلاثة أيام غير هذا اليوم، أو سوى هذا اليوم كان حالفاً أن لا يكلمه ثلاثة أيام مستقبلات بعد هذا اليوم. ولو قال: والله لا أكلمك ثلاثة أيام إلا هذا اليوم كان حالفاً أن لا يكلمه يومين بعد يومه ذلك؛ لأنَّ بقوله هذا اليوم استثنى هذا اليوم من الثلاثة.

وروى بشر عن أبي يوسف رحمة الله عليهما: إذا قال لامرأته أنتِ طالق بعد أيام

(3/309)


فإنّما يقع بعد سبعة أيام. وروى المعلّى عنه إذا قال لها: إذا كان ذو القعدة فأنتِ طالق، وقد مضى بعضه، قال: هي طالق ساعة تكلّم وإذا قال لها أنتِ طالق في مجيء يوم إن قال ذلك ليلاً طلقت كما طلع الفجر من اليوم الثاني وإن قال ذلك في ضحوة من النهار طلقت كما طلع الفجر من اليوم الثاني.
ولو قال لها أنتِ طالق في مضي يوم إن قال ذلك ليلاً طلقت إذا غربت الشمس من الغد، وإن قال ذلك في ضحوة من النهار طلقت إذا جاءت الساعة التي حلف فيها من اليوم الثاني، وكان ينبغي أن يشترط في المجيء مجيء يوم كامل، كما يشترط في المضي مضي يوم كامل، كأنّه أضاف المجيء إلى اليوم مطلقاً ولا يوجد مجيء اليوم مطلقاً على الحقيقة إلا المجيء كله.
والجواب أن القياس هذا، إلا أنَّا تركنا القياس في المجيء بنوع ضرورة لأنّا لو شرطنا في المجيء مجيء جميع اليوم، وذلك بغروب الشمس يفوت اسم المجيء فإنّه لا يقال بعدما غربت الشمس جاء اليوم، وإنّما يقال مضى اليوم أما في المضي لو شرطنا مضيّ حميع اليوم لا يفوت اسم المضي، فعملنا بالقياس في المضي وتركنا القياس في المجيء، واعتبرنا فيه مجيء أواخر من آخر اليوم، والعرف يشهد لما قلنا، فإنّه تعالى يوم الغد إذا طلع الفجر من يوم الجمعة وجاء شهر رمضان إذا أهلّ الهلال من شهر رمضان.
ولو قال لها: أنتِ طالق في مجيء ثلاثة أيام إن قال ذلك ليلاً طلقت كما طلع الفجر من اليوم الثالث لأنّه علق وقوع الطلاق بطلوع ثلاث فجرات، وكما طلع الفجر من اليوم الثالث، فقد تمَّ طلوع ثلاث فجرات. وإن قال ذلك في ضحوة من النهار (254أ1) طلقت إذا طلع الفجر من اليوم الرابع؛ لأنَّ هذا اليوم لم يعتبر داخلاً في اليمين، وإنما يعتبر طلوع ثلاث فجرات بعد هذا اليوم.

ولو قال لها أنتِ طالق في مضيّ ثلاثة أيام إن قال ذلك ليلاً طلقت إذا غربت الشمس من اليوم الثالث؛ إذ به يتمّ الشرط، هكذا وقع في بعض نسخ «الجامع» ، ووقع في بعضها: لا يطلق حتّى يجيء مثل تلك الساعة التي حلف فيها من الليل الرابعة، وهكذا ذكر القدوري رحمه الله في «شرحه» ؛ لأنَّ الأيام متى ذكرت باسم الجمع يستتبع ما بإزائها من الليالي فيجب تكميلها من الليلة الرابعة، بخلاف اليوم المفرد، والله أعلم بالصواب. /

الفصل الثاني عشر: في الرجل يوقع الطلاق على امرأته ثم يقول: لي امرأة أخرى والمطلقة هي الأخرى
قال محمّد رحمه الله في «الجامع» إذا قال الرجل أوّل امرأة أتزوجها طالق، ثمَّ تزوّج امرأة بعد اليمين، وادعت هي الطلاق فقالت: أنا أوّل امرأة تزوجني بعد اليمين، وقال الزوج لا بل تزوجت فلانة بعد اليمين لا يُصدّق الزوج في صرف الطلاق عن

(3/310)


المعروفة، ولو كان قال: إنّ كانت فلانة أول امرأة أتزوجها فهي طالق ثمَّ تزوجها، فادعت هي الطلاق، وقال الزوج؛ تزوجت امرأة قبلها، وهذه ليست بأولى، فالقول قول الزوج.

الأصل في جنس هذه المسائل: أن الزوج متى ما أنكر وجود ما هو شرط وقوع الطلاق، فالقول قوله؛ لأنّه ينكر وقوع الطلاق ومتّى أقرّ ما هو شرط وقوع الطلاق، وله امرأة معروفة، فادعت المعروفة أنّها طلقت، وادّعى الزوج أنَّ له امرأة أخرى سوى هذه المعروفة، وهي التي طلقت فالقول قول المعروفة؛ لأنَّ الزوج لما أقرّ بما هو شرط وقوع الطلاق، فقد أقرّ بالإيقاع؛ لأنَّ المعلق بالشرط يصير مرسلاً عند الشرط، فصار كأنّه قال عند إقراره بوجود الشرط: امرأتي طالق. ولو قال لها هكذا، وله امرأة معروفة ينصرف الإيقاع إليها؛ لأنَّ صحّة الإيقاع يعتمد محلا قائماً والمحل المنكوحة والمنكوحة الظاهرة المعروفة، فيصير الزوج مقراً بطلاقها من حيث الظاهر، فإذا ادّعى بعد ذلك الوقوع على امرأة أخرى، فقد ادّعى أمراً بخلاف الظاهر. وإذا ادعت المعروفة الوقوع عليها، فقد ادعت أمراً موافقاً للظاهر قبل فيما قد تمّ اعتبار الظاهر، لإيقاع الطلاق على المعروفة، ولاستحقاق المعروفة نفسها على زوجها، والظاهر يصلح للدفع دون الاستحقاق قلنا.... يعتبر الظاهر لدفع دعوى الزوج، ثمَّ يقع الطلاق على المعروفة بالإيقاع الثالث بإقرار الزوج، فلا يكون في هذا اعتباراً لظاهر حجّته في إيقاع الطلاق على المعروفة.
إذا ثبت هذا جئنا إلى تخريج المسألة، فنقول: في المسألة الأولى الزوج أقر بما هو شرط وقوع الطلاق؛ لأنَّ على ما زعم وعلى ما ظهر الطلاق واقع، وله امرأة معروفة يدعي طلاق نفسها، فيكون القول قولها وفي المسألة الثانية الزوج منكر ما هو شرط وقوع الطلاق؛ لأنَّ شرط وقوع الطلاق كون هذه المرأة موصوفة بصفة الأوّلية في التزوّج، والزوج ينكر ذلك، ألا ترى أنّه لو ثبت ما أقرّ به الزوج، لا يقع الطلاق أصلاً، فيكون القول قول الزوج، وإذا وقع الطلاق على المعروفة في المسألة الأولى ينظر إن كذبت المجهولة الزوج في النكاح لا يقع عليها شيء، وإن صدقته يقع عليها الطلاق بإقرار الزوج، والمعروفة مطلقة بحكم الظاهر.
فرّع على المسألة الأولى فقال: لو كان الزوج قال تزوجت هذه وفلانة معها، كان القول قول الزوج، فلا يقع (على) المعروفة؛ لأن الزوج أنكر شرط الوقوع ها هنا إذ الشرط تزوّج امرأة معروفة موصوفة بصفة الأوّلية في التزوج، والأوّل اسم لفرد سابق، فالزوج يدّعي المقارنة (و) ينكر الفردية فينكر الأوّلية فيكون منكر شرط الوقوع، ألا ترى أنّه لو ثبت ما أقرّ به الزوج لا يقع الطلاق أصلاً، فلهذا كان القول قول الزوج، ولا تطلق المجهولة ها هنا وإن صدقت الزوج في دعوى نكاحها، بخلاف المسألة الأولى لأنَّ في المسألة

(3/311)


الأولى المجهولة إنّما تطلق بإقرار الزوج، والزوج ها هنا غير مقرّ بطلاق المجهولة.
ولو نظر إلى امرأتين، فقال أوّل امرأة أتزوجها منكما طالق فتزوّج إحداهما، وادعت هي الطلاق، فقالت: تزوجني أوّلاً، وقال الزوج تزوجت الأخرى أوّلاً، فالقول قول المعروفة؛ لأنَّ الزوج أقرّ بوجود شرط وقوع الطلاق ها هنا، وهو تزوّج إحداهما أوّلاً، فلا يصدّق في صرف الطلاق عن المعروفة، ولو كان الزوج قال: تزوجت الأخرى معها فالقول قول الزوج، فلا تطلق المعروفة؛ لأنَّ الزوج منكر شرط وقوع الطلاق عليها ها هنا.

وإذا قال الرجل كنت طلقت امرأة تزوجتها أو قال كانت لي امرأة فطلقتها، وادعت المعروفة أنّها هي وقال الزوج كانت لي امرأة أخرى غير المعروفة وإيّاها طلقت، فالقول قول الزوج لأنَّ الزوج لم يقرّ بالإيقاع في الحال في هذه الصورة، حتّى تتعيّن المعروفة لهذا الطلاق بحكم الظاهر، إنّما أقرَّ بالإيقاع فيما مضى في نكاح بما مضى؛ لأنَّ قوله كنت إخبار عن الماضي.
فإن قيل هذا التعليل لا يستقيم في قوله فطلقتها؛ لأنَّ قوله طلقتها إيقاع في الحال، فيستدعي محلاً قائماً في الحال وليس ذلك إلا المعروفة، قلنا: قوله: وطلقتها عطف على قوله كانت لي امرأة، وقوله: كانت لي امرأة إخبار عن نكاح ماض فيصير قوله فطلقتها إخباراً عن نكاح ماض بحكم العطف.
فإن قيل هذا الشكل بما لو قال كانت لي امرأة، فاشهدوا أنها طالق، فادعت المعروفة أنّها هي، فالقول قول المعروفة حتّى تطلق هي. وقوله إنّها طالق معطوف على نكاح ماض، ولم يجعل إخباراً عن طلاق ماض بحكم العطف قلنا: قوله: إنها طالق معطوف على قوله: فاشهدوا الإشهاد للحال، فقوله إنّما يكون إنشاء الطلاق للحال.
ولو قال طلقت امرأة لي فاشهدوا، أو قال امرأة من نسائي طالق، وباقي المسألة على حالها يقع الطلاق على المعروفة في الحكم؛ لأنَّ هذا الكلام، أو قال امرأة لي طالق إيقاع للحال فيستدعي محلا قائماً للحال، والمعروفة تعينت لذلك بحكم الظاهر.
وكذلك لو قال (254ب1) قد كنت طلقت امرأتي، قد كنت امرأة لي، قد كنت طلقت إحدى نسائي، وباقي المسألة بحالها يقع الطلاق على المعروفة في الحكم؛ لأنّه وإن أضاف الطلاق إلى الماضي إلا أنّه إنّما أضاف إلى الماضي طلاق امرأة مضافة إليه في الحال، والمرأة المضافة إليها في الحال من حيث الظاهر المعروفة.

وكذلك لو قال: طلقت أول امرأة قد كنت تزوّجتها، أو قال: طلقت امرأة كانت لي، وباقي المسألة على حالها تطلق المعروفة؛ لأنَّ قوله طلقت إيقاع في الحال ومحله في الحال المعروفة بحكم الظاهر، وكلّه من أيمان «الجامع» .
وفي «المنتقى» ابن سماعة عن محمّد رحمة الله عليهما؛ إذا قال زينب امرأة طالق، فخاصمته زينب إلى القاضي في الطلاق، فقال: لي امرأة أخرى ببلدة كذا اسمها زينب وإياها عنيت، ولم يقم على ذلك بنيّة، فإنَّ القاضي يطلّق هذه المرأة، ويبينها منه إن كان

(3/312)


الطلاق بائناً فإن أحضر.... واسمها زينب وعرفها القاضي بذلك، فإنه يوقع الطلاق عليها ويرد إليه الأولى ويبطل طلاقها وكذلك هذا في العتق. وعن أبي يوسف رحمه الله أنّه يطلقهما جميعاً ويعتقهما جميعاً.
وروى هشام عن محمّد رحمة الله عليهما إذا قال الرجل امرأته طالق، فاستقدم عليه امرأته فقال لي امرأة أخرى غائبة وإيّاها عنيت. قال: إن أقام البيّنة أن له امرأة أخرى غائبة سواها وقفت الأمر، ولم أوقع الطلاق حتّى يقدم إليّ الغائب، وعن أبي يوسف رحمه الله، فيمن قال: امرأته طالق وله امرأة معروفة فقال لي امرأة أخرى، وجاءت امرأة أخرى وادّعت أنها امرأته وصدقها الزوج في ذلك، فقال: إيّاها عنيت أو قال: اخترت أن أوقع الطلاق على هذه فإن أقام بيّنة على التزوّج بالمجهولة قبل الطلاق صرف الطلاق عن المعروفة، وإن لم يقم له بيّنة على ذلك، وقضى القاضي ببطلان المعروفة، ثمَّ قامت له بيّنة على التزوّج بالمجهولة قبل الطلاق، أو قبل أن يقضي القاضي ببطلان المعروفة، وقال الزوج عنيت بالطلاق المجهولة، فالقاضي يبطل ما قضى به من طلاق المعروفة ويردها إليه، ويوقع الطلاق على المجهولة. وكذلك لو كانت المعروفة قد تزوجت.
وفي «المنتقى» أيضاً: إذا قال لامرأتي عليَّ ألف درهم، وله امرأة معروفة، ثمَّ قال لي امرأة أخرى والدّين لها، فالقول قوله.

ولو قال: امرأته طالق على ألف درهم، فالطلاق والمال على امرأته المعروفة، فلا يصدق في صرفها إلى غيرها.
ولو قال: امرأتي طالق، ثمَّ قال لامرأتي عليَّ ألف درهم، وله امرأة معروفة، فقال لي امرأة أخرى وإيّاها عنيت صدّق في حقّ المال، ولا يصدّق في حقّ الطلاق.
وفي طلاق «الأصل» في باب الشهادة في الطلاق: إذا قال فلانة بنت فلان طالق، سمّى امرأة ونسبها، ثمَّ قال عنيت بذلك امرأة أجنبيّة هي على هذا الاسم والنسب، لم يصدّق قضاء.
وإن قال هذه المرأة التي عنيتها امرأتي، وصدقته في ذلك وقع الطلاق عليها بإقراره، ولم يصدق في حقّ صرف الطلاق عن المعروفة إلا أن يشهد الشهود على نكاح هذه المرأة قبل الإيقاع، أو على إقرار الرجل، وهذه المرأة بالنكاح أو على إقرار المرأة المعروفة بذلك، فحينئذٍ يعين الزوج بالبيان أنّه أوقع الطلاق على أيّهما.
وفيه أيضاً: إذا تزوّج امرأتين إحداهما نكاحاً صحيحاً، والأخرى نكاحاً فاسداً أو اسمهما واحد، فقال: فلانة طالق ثمَّ (قال) عنيت التي نكاحها فاسداً لم يصدّق قضاء، وكذلك إذا قالك إحدى امرأتي طالق ثم قال: عنيت التي نكاحها فاسد لم يصدق قضاء؛ لأنَّ التي نكاحها فاسد لم تصر امرأة له فكأنّه قال: إحدى امرأتيّ طالق وليس له إلا امرأة واحدة، ولو قال إحداكما طالق ثمَّ تطلق التي صحّ نكاحها، إلا أن يعنيها. ولو قال في

(3/313)


يده عبدان قد اشترى أحدهما شراءً صحيحاً، واشترى الآخر شراءً فاسداً فقال أحدكما حر أو قال أحد عبدي حرّ فهما سواء، فالقول في البيان قوله والله أعلم.

الفصل الثالث عشر: في طلاق الغاية والظرف
إذا قال لها أنتِ طالق من واحدة إلى ثنتين، أو ما بين واحدة إلى ثنتين، فهي واحدة أو من واحدة إلى ثلاث أو ما بين واحدة إلى الثلاث فهي ثنتان وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف ومحمّد رحمهما الله إن قال من واحدة إلى ثنتين، أو ما بين واحدة إلى ثنتين يقع ثنتان، وإن قال ما بين واحدة إلى ثلاث أو من واحدة إلى ثلاث فهي ثلاث، وقال زفر رحمه الله: (إن قال من واحدة إلى ما بين لا يقع شيء) ، وإن قال من واحدة إلى ثلاث يقع واحدة.
والحاصل أنَّ على قول أبي حنيفة رحمه الله تدخل الغاية الأولى دون الثانية وعلى قولهما تدخل الغايتان، وعلى قول زفر رحمه الله لا تدخل الغايتان وهو القياس.
إلا أنَّ أبا حنيفة رحمه الله يقول في إدخال الغاية الأولى ضرورة؛ لأنَّ الثانية لا وجود لها بدون الأولى، وهذه الضرورة معدومة في الثالثة؛ لأنَّ الثانية لها وجود بدون الثالثة، فبقيت الثالثة على أصل القياس، وقال أبو حنيفة رحمه الله: لو نوى واحدة في قوله من واحدة من ثلاث ديّن فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنّه أخرج الغاية الأولى، فالكلام محتملة إلا أنَّه خلاف الظاهر.
وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنّه لو قال أنتِ طالق ما بين واحدة وثلاث، فهي واحدة؛ لأنّه لم يجعل الثلاث غاية لما أوقع ما بين العددين، وذلك واحدة.
ولو قال ما بين واحدة إلى أخرى أو من واحدة إلى واحدة، فهي واحدة عند أبي حنيفة رحمه الله، وقد اختلف المشايخ على قولهما، قال بعضهم: يقع ثنتان، وهكذا ذكر في «تجريد القدوري» ؛ لأنَّ عندهما تدخل الغايتان، وقال بعضهم تقع واحدة؛ لأنّه يحتمل أن يكون معنى قوله: من واحدة إلى واحدة منها وإليها، فلا يقع أكثر من واحدة بالشّك وهكذا ذكر في «شرح القدوري» وهو الصحيح.

ولو قال: من واحدة إلى ثنتين وقعت واحدة عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما يقع ثنتان هكذا ذكر القدوري رحمه الله في «شرحه» قال: وقياس مذهبهما أن يقع الثلاث؛ لأنّ عندهما تدخل الغايتان، ولكن الوجه فيه أنَّ قوله من واحدة إلى ثنتين مجمل يحتمل أنّه جعل تلك الواحدة من الثنتين، كأنّه قال من واحدة هي من الثنتين، ويحتمل أنّه

(3/314)


جعل الواحدة (255أ1) غير الثنتين فلا تقع الزيادة على الثنتين بالشّك، وهذه المسألة تؤيّد قول من يقول في قوله من واحدة إلى واحدة إنّه تقع واحدة عندهما.
وكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله أنّه قال: إذا قال أنتِ طالق ثنتين إلى ثنتين إنّه تقع ثنتان لما قلنا إنّه مجمل يحتمل أنّه جعل الابتداء هو الغاية، كأنّه قال من ثنتين إليهما.
ولو قال أنتِ طالق واحدة في ثنتين، إن نوى واحدة وثنتين أو نوى واحدة مع ثنتين يقع الثلاث، وكذلك إذا قال أنتِ طالق واحدة في ثلاث ونوى واحدة وثلاثاً، أو نوى واحدة مع ثلاث تقع الثلاث، وكذلك إذا قال أنتِ طالق ثنتين في ثنتين، ونوى ثنتين وثنتين أو ثنتين مع ثنتين تقع الثلاث، وإن لم يكن له نيّة أو نوى الضرب والحساب، ففي قوله واحدة في ثنتين تقع واحدة، لا غير. وفي قوله واحدة في ثلاث كذلك، وفي قوله ثنتين في ثنتين تقع ثنتان لا غير.
والحاصل أنَّ الواقع في جنس هذا المعروف لا غير عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله وهذا لأنَّ بالضرب لا يكبر الشيء في ذاته بل يكبر أجزاؤه ضرورة، فواحدة في ثنتين واحدة لها جزء وواحدة في ثلاث واحدة لها ثلاثة أجزاء، وإذا لم يكثر ذات الطلاق بقيت طلقة واحدة، فتقع طلقة واحدة لهذا.

ولو قال لها أنتِ طالق إلى الليل، أو إلى أشهر أو قال إلى سنة، فهو على ثلاثة أوجه إمّا أن ينوي الوقوع للحال ويجعل الوقت للامتداد وفي هذا الوجه يقع الطلاق للحال، وإما أن ينوي الوقوع بعد الوقت المضاف إليه، وفي هذا الوجه يقع الطلاق بعد مضي الوقت المضاف إليه إن لم يكن له نيّة أصلاً لا يقع الطلاق إلا بعد مضي الوقت المضاف إليه، عندنا، خلافاً لزفر رحمه الله، فإنّه يقول بوقوع الطلاق للحال وببطلان الغاية وقاسه على ما إذا جعل الغاية مكاناً، بأن قال لها أنتِ طالق إلى مكة أو إلى بغداد، وإن هناك تبطل الغاية ويقع الطلاق للحال كذا ها هنا.
وإنا نقول كلام العاقل لا يلغى ما أمكن العمل به، وقد أمكن العمل ها هنا بمجاز مكة إلى بغداد بحقيقتها. بيانه: وهو أنَّ كلمة إلى كما تذكر ويراد به الغاية يذكر ويراد بها بَعْد كقول الرجل في العرف والعادة أنا خارج من هذا البلد إلى عشرة أيام، ويريد به أنّه خارج بعد عشرة أيام فجعلنا مجازاً عن بَعْد فصار تقدير المسألة، كأنّه قال لها أنتِ طالق بعد شهر أو قال سنة، ولو صرّح بذلك لا يقع الطلاق إلا بعد مضيّ شهر كذا ها هنا، بخلاف قوله: إلى مكان كذا، فإنَّ هناك كما تعذر العمل بحقيقة كلمة إلى تعذر العمل بمجازها بجعلها عبارة عن بعد، لأنّه لو نصّ على البعد ثمة، فإن قال أنتِ طالق بعد مكة، أو بعد بغداد يقع الطلاق في الحال، وفي قوله بعد شهر لا يقع الطلاق في الحال، ولو قال لها أنتِ طالق إلى الصيف أو قال إلى الشتاء، فهذا وما لو قال إلى الليل أو إلى الشهر سواء، وكذلك إذا قال: إلى الربيع أو إلى الخريف.

وتكلّموا في معرفة هذه الفصول: قال بعضهم متى اتصل الحرّ على الدوام كان صيفاً، وإذا انكسر الحرّ ولم يتصل البرد كان خريفاً، وإذا اتصل البرد كان شتاءً وإذا

(3/315)


انكسر البرد ولم يتصل الحرّ كان ربيعاً. قال بعضهم: الشتاء ما يحتاج فيه إلى الوقود والثوب المحشو، والصيف ما لا يحتاج فيه إلى البيان، ولا يحتاج فيه إلى الوقود والثوب المحشو.
وقال بعضهم: الصيف ما يكون (فيه) على الأشجار الأوراق والثمار، والخريف ما يكون (فيه) على الأشجار الأوراق، ولا يكون عليها الثمار، والشتاء ما لا يكون (فيه) على الأشجار الثمار ولا الأوراق، والربيع ما يخرج (فيه) من الأشجار والأوراق.
إذا قال لها أنتِ طالق في الدار أو في مكة طلقت، وإن لم يكن في الدار، ولا في مكة، وكذلك إذا قال لها أنتِ طالق في الشمس وهي في الظلّ كانت طالقاً للحال: لأنه جعل هذه الأشياء ظرفاً للطلاق وإنهاءً وجعل الموجود ظرفاً يوجب الوقوع للحال، كجعل الموجود شرطاً.
وكذا إذا قال لها أنتِ طالق في ثوب كذا، وعليها ثوب آخر، فهي طالق وطريقه ما قلنا، ولو قال لها أنتِ طالق في ذهابك إلى مكة أو في دخولك دار فلان، أو في لبسك ثوب كذا لم تطلق حتى تفعل ذلك الفعل؛ لأنّه جعل طرف الطلاق شيئاً معدوماً فيعتبر بما لو جعل شرط وقوع الطلاق شيئاً معدوماً وهناك لا يقع الطلاق ما لم يوجد الشرط، كذا ها هنا.

ولو قال عنيت بقولي أنتِ طالق في الدّار أو في مكّة إذا أتيت مكّة إذا دخلت الدّار صدّق ديانة لا قضاء، ولو قال لها أنتِ طالق في صلاتك لم تطلق حتّى تركع وتسجد وقيل حتّى ترفع رأسها من السجدة حتّى توجد القعدة، ولو قال: في حيضتك أو في طهرك، فإن كان موجوداً وقع وإلا يقف على وجوده، ولو قال لها: أنتِ طالق في الغد أو قال غداً، ولا نيّة له يقع الطلاق حتّى يطلع الفجر من الغد، وإن قال نويت به الوقوع في آخر الغد فإنّه يصدّق فيما بينه وبين الله تعالى في الفصلين؛ لأنّه نوى ما يحتمله لفظه لأنّه ذكر الكلّ، وأراد به البعض وهل يصدّق قضاءً؟ أجمعوا على أنّه لا يصدّق في قوله غداً.
واختلفوا في قوله في الغد قال أبو حنيفة رحمه الله يصدّق وقالا: لا يصدق لأنّه نوى خلاف الظاهر لأنّ الغد اسم من أوّل النهار فنيّة آخر النهار تكون بخلاف، ولأبي حنيفة رحمه الله أنَّ قوله: أنتِ طالق في الغد إيقاع في الغد، والطلاق لا يقع في جميع أجزاء الغد، وإنّما يقع في جزء منه، ففي أيِّ جزء وقع كان الواقع في الغد، فنيّة الجزء الآخر، وهو صالح للوقوع فيه لا يكون نيّة، بخلاف الظاهر بخلاف قوله غداً؛ لأنَّ هناك جعلها طالقاً غداً والغد اسم من أوّل النهار إلى آخره، فما لم يقع الطلاق في الجزء الأوّل لا تكون طالقاً من أوّل النهار إلى آخره، فإذا نوى آخر النهار، فقد نوى خلاف الحقيقة، وخلاف الظاهر.
وعلى هذا إذا قال لها أنتِ طالق رمضان أو قال في رمضان، وعلى هذا إذا قال لها أنتِ طالق شهراً أو في الشهر، ولو قال لها أنتِ طالق في رمضان، وهو على أوّل رمضان يأتي، وكذلك إذا قال لها أنتِ طالق في يوم الخميس، فهو على أوّل خميس يأتي، ولو

(3/316)


قال عنينا الرمضان الثاني لا يصدّق في القضاء؛ لأنّه خلاف (255ب1) الظاهر ويصدّق فيما بينه وبين الله تعالى، والله أعلم بالصواب.

الفصل الرابع عشر: في الشك في إيقاع الطلاق وفي الشك في عدد ما وقع وفي الإيجاب المبهم
إذا قال لامرأته أنتِ طالق أو لا شيء، أو قال أنتِ طالق واحدة أو لا شيء أو قال: أو لا، يقع واحدة عند محمّد رحمه الله، وهو قول أبي يوسف رحمه الله أوّلاً، ثمَّ رجع أبو يوسف رحمه الله، فقال: لا يقع شيء، وأمّا إذا قال أنتِ طالق ولم يذكر عدداً ثمَّ قال أو لا أو قال لا شيء، فإنْ قال أو لا، لا يقع شيء باتفاق الروايات. وإن قال: أو لا شيء ذكر في رواية أبي سليمان أنه لا يقع شيء من غير ذكر خلاف، وذكر في رواية أبي حفص رحمه الله أنّه على الاختلاف الذي تقدم، وهكذا ذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في «مختلفاته» ذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذه الجملة في «شرحه» وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمّد رحمهما الله: إذا شكَّ أنه طلّق واحدة أو ثلاثاً، فهي واحدة حتّى يستيقن، أو يكون أكثر ظنّه على خلافه. وإن قال الزوج عزمت على أنها ثلاث، أو هي عندي على أنّها ثلاث، أضع الأمر على أشدّه، (فأخبره غد وأحضروا) ذلك المجلس، وقالوا كانت واحدة قال إذا كانوا عدولاً صدقهم وأخذ بقولهم. وعن هشام رحمه الله قال: سألت أبا يوسف رحمه الله عن رجل حلف بطلاق امرأته، ولا يدري بثلاث حلف أو بواحدة، قال: يتحرّى الصواب فإن: استوى ظنّه عمل بأشد ذلك عليه.
ذكر في «القدوري» : إذا ضمَّ على امرأته ما لا يقع عليه الطلاق مثل الحجر والبهيمة، وقال: إحداكما طالق أو قال هذه طالق، أو هذه طلقت امرأته في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وقال محمّد رحمه الله: لا تطلق؛ لأنّ كلمة أو إذا دخلت بين الشيئين توجب الشكّ، فصار في حقّ المرأة كأنّه قال لها أنتِ طالق أو غير طالق.
ولهما: أن الشّك إنّما يقع بحكم كلمة أو إذا صحّ ضم غير المنكوحة إلى المنكوحة والضمّ لم يصح ها هنا، لانعدام المحليّة في حقّ المضموم أصلاً فصارت المنكوحة متعينة للإيقاع.

ولو جمع بين منكوحته وبين رجل، وقال: إحداكما طالق، أو قال هذه أو هذه يقع الطلاق على منكوحته في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يقع: لأنّ الرجل ليس بمحلَ للطلاق، فكان كالبهيمة، ولأبي حنيفة رحمه الله أنّ الرجل محلّ إضافة الطلاق إليه، ألا ترى أنّه لو أضاف الإبانة إلى نفسه بأن قال لامرأته أنا منك بائن، ونوى الطلاق صحّ، والإبانة طلاق.
g
وكذلك حكم الطلاق وهو الحرية ثبت في حقّه. وإذا

(3/317)


جاز وصف الرّجل بالطلاق لم يكن الضمّ لغواً من كلِّ وجه، ولو ضمّ إلى امرأته امرأة أجنبيّة وقال إحداكما طالق، أو قال هذه طالق أو هذه لم تطلق امرأته إلا بالثلاثة لأنّ الأجنبيّة محلّ لذلك خبراً إن لم تكن محلاً له إنشاء، وهذه الصيغة حقيقة إخبار، فإذا كانت الأجنبيّة محلاً لما وضعت هذه الصيغة له من طريق الحقيقة صح الضمّ، فوقع الشك ولو قال في هذه الصورة طلقت إحداكما طلقت امرأته من غير نيّة، ذكره في طلاق «الأصل» .
وفي «المنتقى» : إذا خاطب الرّجل غيره: امرأتي طالق أو بع عبدي هذا، فباع عبده يسقط الطلاق عن امرأته. وفيه أيضاً؛ إذا قال لامرأته أنتِ طالق أو أنا لست برجل، أو أنا غير رجل، فهي طالق وهو كاذب، ولو قال أنتِ طالق أو أنا رجل فهو صدق ولا تطلق، وفي موضع آخر منه لو قال لها: أنتِ طالق أو ما أنا برجل فهي طالق، وهذا منه على التهديد ولو قال أو هذه الأسطوانة من ذهب، والأسطوانة من ساج، فهي طالق كأنّه قال إن لم تكن من ذهب.
وفيه أيضاً: رجل أمَّرَ امرأتين قال لإحداهما أمرك بيدك أو هذه طالق، فأشار إلى الأخرى. فإن اختارت المفوضة إليها الأمر نفسها قبل أن تقوم من مجلسها بطل الطلاق عن الأخرى وإن قامت قبل أن تختار نفسها وقع الطلاق على الأخرى ذكر في «الأصل» فيمن كان له ثلاث نسوة، قال: هذه طالق (و) هذه وهذه طلقت الثالثة في الحال، ويخيّر الزوج بين الأولى والثانية.

وذكر ابن سماعة في «نوادره» عن محمّد رحمة الله عليهما أنَّ الثالثة لا تطلق للحال، ويخيّر الزوج بين الإيقاع على الأولى وبين الإيقاع على الثانية، والثالثة.
وفي «نوادر ابن سماعة» أيضاً: رجل له أربع نسوة، فقال: هذه طالق أو هذه وهذه أو هذه وقع على إحدى الأوليين إحدى والأخريين. ولو قال: هذه طالق أو هذه وهذه وهذه طلقت الثالثة والرابعة، وإليه الخيار في الأوليين، ولو قال هذه طالق وهذه أو هذه وهذه طلقت الأولى والرابعة، وله الخيار في الثانية والثالثة. وذكر هشام في «نوادره» عن محمّد رحمهما الله: إذا قال لامرأته ولأجنبيّة إحداكم طالق واحدة والأخرى ثلاثاً وقعت الواحدة على امرأته.
قال محمّد رحمه الله في «الزيادات» : رجل له امرأتان رضيعتان فقال: إحداكما طالق ثلاثاً طلقت إحداهما، والبيان إليه، الأصل في هذا أنَّ إيقاع الطلاق في المجهول صحيح ويتعلّق نفاذه ووقوعه بالبيان، والطلاق يقبل التعليق بسائر الشروط، فيقبل التعليق بالبيان ويقع الموقع بالبيان لأنّ التجهيل كان منه، ولو أنّه لم يبن الطلاق في إحداهما حتّى جاءت امرأته وأرضعتهما معاً أو على التعاقب بانتا جميعاً، وهذه المسألة دليل على أنَّ الطلاق المبهم غير نازل في المحل أصلاً، إذ لو كان نازلاً كانت الأجنبيّة طارئة بعد بينونة إحداهما، وإنّها لا توجب الحرمة.
وذكر محمّد رحمه الله في «الأصل» ما يدلُّ على أنَّ الطلاق المبهم نازل في

(3/318)


المحلّ، فإنّه ذكر أنَّ رجلاً تحته أربع نسوة من الكوفيات لم يدخل بهنّ، فقال إحداكن طالق ثم تزوج مكيّة جاز نكاحها ولو لم يكن الطلاق المبهم نازلاً في حقّ المحلّ كان هذا تزوجاً بالخامسة، والتزوّج بالخامسة حرام.

واختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا في المسألة روايتان، ورواية «الأصل» الطلاق المبهم نازل في المحل وعلى رواية «الزيادات» غير نازل في المحل، فعلى قول هذا القائل على رواية «الأصل» لا تقع الفرقة في مسألة الرضاع، وعلى رواية «الزيادات» تقع، وفي مسألة النكاح على رواية «الزيادات» : لا يجوز التزوّج بالمكيّة، وعلى رواية «الأصل» يجوز (256أ1) وبعض مشايخنا قالوا: ما ذكر في «الزيادات» قول أبي حنيفة رحمه الله فإنَّ الطلاق المبهم عنده غير نازل في المحل أصلاً كالعتاق المبهم، وما ذكر في «الأصل» قولهما فإنَّ الطلاق المبهم عندهما نازل في المحلّ، كالعتاق المبهم وعلى قول هذا القائل لا يجوز التزوّج بالمكيّة على قول أبي حنيفة رحمة الله عليه ولا تقع الفرقة في مسألة الرضاع على قول محمّد رحمه الله. وبعض مشايخنا رحمهم الله: قالوا الطلاق المبهم والعتاق المبهم لا ينزلان أصلاً بالاتفاق إلا أنْ يوجد من الموقع فعلاً يصير به موقعاً في العين، كما في العبدين لو باع أحدهما أو وهب أو تصدّق بالاتفاق.
وكما في الجاريتين إذا وطىء إحداهما عند أبي يوسف ومحمّد رحمهما الله، فإنَّ في هذه الصورة يصير موقعاً العتق في المعين بصيغته
إذا أثبت هذا، فنقول في مسألة النكاح وجد من الزوج فعل يستدل به على إيقاع الطلاق في المعين، وهو إقدامه على نكاح المكيّة، فإنَّ الظاهر من حال العاقل أن يقصد صحّة النكاح، ولا صحّة لنكاح المكيّة إلا بعد إيقاع الطلاق في إحدى الكوفيات فيصير موقعاً في إحدى الكوفيات.
أمّا في مسألة الرضاع لم يوجد من الزوج بعد قوله: إحداكما طالق فعل يستدل به على إيقاع الطلاق في إحداهما، فكان النكاح بائناً فيهما من كلِّ وجه، وبعضهم قالوا الطلاق المبهم نازل في المحل في حقّ معنى يرجع إلى الموقع ويختص به، غير نازل في المحلّ في حقّ معنى يرجع إلى المحل ويختص به، والعتاق المبهم كذلك وهو الأصح، وهذا لأنّه لا تنكير من جانب الموقع، وإنّما التنكير من جانب المحل فكل حكم يختص بالموقع فالطلاق واقع فيه.
إذا ثبت هذا فنقول: حلّ التزوّج بالمكيّة حكم يختص وكل حكم يختص بالمحل فالطلاق غير واقع فيه إذا ثبت هذا فنقول حلّ التزوّج بالمكيّة حكم يختص بالموقع، فكان الطلاق المبهم نازلاً فيه، فهذا تزوّج بالرابعة لا بالخامسة، وأمّا جهة الأختين جمعاً حكم يختص بهما لأنّه إنّما حرم الجمع بين الأختين صيانة لهما عن قطيعة الرحم، والطلاق المبهم غير نازل في حقهما، فيصير جامعاً بين الأختين وعن (هذا) قلنا إن العدّة في الطلاق المبهم تعتبر من وقت البيان، حتّى إنّه إذا كانت له امرأتان دخل بهما أو أكثر من ذلك، فطلق إحداهما بغير عينها ثم إنه عين الطلاق في إحداهما فإنّه تعتبر العدّة من وقت

(3/319)


التعيين؛ لأنَّ العدّة حكم يختص بالمحل، والطلاق المبهم غير نازل في حقّ حكم يختصّ بالمحل.
قال في «الزيادات» : رجل تحته حرّة وأمة قد دخل بهما، فقال إحداكما طالق ثنتين ثمّ عتقت الأمة، ثمَّ بيّن الزوج الطلاق والمعتقة قال تحرم حرمة غليظة، ولا يبطل ميراثها إذا كان الإعتاق في حالة الصحّة، والبيان في حالة المرض.
واعلم بأنَّ البيان في الإيجاب المبهم إنشاء من وجه إظهار من وجه إنشاء في حقّ حكم يرجع إلى المحلّ ويختص به؛ لأنَّ الإيجاب المبهم غير نازل في حقّ المحلّ أصلاً على أصح الأقوال، فكان البيان إظهاراً في حقّه.

إذا ثبت هذا، فنقول: الميراث حكم يختص بالمرأة، فاعتبر البيان فيه إنشاءً فصار الزوج فارّاً فأمّا حرمة الغليظة حكم يختصّ بالزوج، فاعتبر البيان فيه إظهار إمكان الطلاق واقعاً على الأمة، والأمة تحرم حرمة غليظة بتطليقتين ثمَّ إذا قربت المعتقة كان لها ربع الميراث، وللحرة الأصلية ثلاثة أرباع الميراث لأنّ البيان من الزوج في حقّ الميراث لم يصح، فيحال كأنّه لم يكن، ولو عدم البيان كان الميراث ها هنا أرباعاً؛ لأنّه إن وقع الطلاق على الحرة الأصلية كان للحرة الأصلية نصف الميراث، لأنها لا تبين بالطلقتين فيكون نصف الميراث لها والنصف للمعتقة وإن وقع على المعتقة كان للحرّة الأصلية كلّ الميراث، فنصف الميراث ثابت لها بيقين، والنصف الآخر يثبت في حال دون حال فينتصف، فصار للحرّة الأصلية ثلاثة أرباع الميراث لهذا، وعلى الحرّة الأصلية عدّة الوفاة لا يعتبر فيها الحيض، وعلى المعتقة أربعة أشهر وعشر يستحمل فيها ثلاث حيض، وهما عند أبي حنيفة ومحمّد رحمهما الله بناء على أنَّ امرأة الفار تعتد بأبعد الأجلين عندهما.
وأمّا عند أبي يوسف رحمه الله امرأة الفار تعتد بعدّة الطلاق لا غير فتجب على المعتدة عدّة الطلاق لا غير، فكان ينبغي أن لا يعتبر في حقّها ثلاث حيض؛ لأنَّ اعتبار شبه الإظهار عليها حيضتان؛ لأنَّ الطلاق كان في حالة الرّق، وباعتبار شبه الإنشاء عليها عدّة الوفاة، فثلاث حيض من أين تجب.
ولو كانتا أمتين فقال الزوج إحداكما طالق ثنتين، ثمَّ أعتقا جميعاً ثمَّ مرض، وبين الطلاق في إحداهما فإنها تحرم حرمة غليظة لما بيّنا، والميراث بينهما نصفان؛ لأنَّ البيان في حق الميراث كالمعدوم، ولو عدم البيان كان الميراث بينهما؛ لأنَّ إحداهما وارثة بيقين وهي التي ارتفع عليها الطلاق، والأخرى ليست وارثة بيقين، وهي التي وقع عليها الطلاق، وليست إحداهما أولى من الأخرى، فتكون بينهما.

وعلى المعتقة للطلاق أربعة أشهر وعشراً فيها ثلاث حيض احتياطاً، وعلى الأخرى أربعة أشهر لا حيض فيها؛ لأنَّ زوجها مات عنها، وهي منكوحة.
رجل تحته امتان لرجل، فقال المولى إحداكما حرة، ثمَّ قال الزوج التي أعتقها المولى طالق ثنتين كان البيان إلى المولى لا إلى الزوج؛ لأنَّ الأصل في هذا المولى؛ لأنَّ الزوج بيّن إيقاع الطلاق على إعتاق المولى، وإذا بين المولى العتق في إحداهما طلقت

(3/320)


هي ثنتين ويملك الزوج مراجعتها؛ لأنَّ الطلاق إنّما يقع عليها بعد العتق؛ لأنَّ الزوج هكذا أوقع، فصادفها الطلاق هي حرّة والحرّة لا تحرم حرمة غليظة بتطليقتين.
ولو كان الزوج هو الذي بدأ، فقال إحداكما طالق ثنتين، ثمَّ قال المولى التي طلقها الزوج حرّة فها هنا خيار البيان إلى الزوج؛ لأنَّ الزوج صاحب أصل وإذا بين الزوج الطلاق في إحداهما عتقت وحرمت حرمة غليظة، لأنَّ الطلاق صادفها وهي أمة فتحرم حرمة غليظة، وتعتد بحيضتين.
رجل تحته أمتان لرجل قال المولى إحداكما حرّة، ثمَّ قال الزوج التي أعتقها المولى طالق ثم مات المولى قبل البيان عتق من كلِّ واحدة منهما نصفها؛ لأنَّ بيان العتق قد فات لموت المولى ويشيع العتق فيهما، ثمَّ يخير الزوج في الطلاق يوقعه على أيهما شاء وإن كان الزوج صاحب تبع؛ لأنَّ البيان في حقّ صاحب الأصل مات على وجه لا يرجى وجوده، ولا يمكن إلغاء الطلاق لصدوره من أهله في محلّه، ولا يمكن القول بشيوع الطلاق؛ لأنَّ الطلاق لا يقبل الشيوع، فمسّت (256ب1) الضرورة إلى جعل البيان إلى الزوج.

وهذا بخلاف ما لو غاب المولى فإنَّ هناك لا يؤمر الزوج بالبيان لأن هناك لا ضرورة؛ لأنّه لم يقع اليأس عن بيان صاحب الأصل، ولا كذلك فصل الموت، ولو كان الطلاق ثنتين هل يحرم حرمة غليظة؟ لم يذكر هذا الفصل محمّد رحمه الله في «الكتاب» ، وقد اختلف المشايخ فيه، وحكى الشيخ الإمام الزاهد عبد الواحد الشيباني رحمه الله؛ أنها لا تحرم؛ لأنَّ الطلاق صادفها وهي حرّة؛ لأنَّ العتق سار فيهما لموت المولى، وغيره من المشايخ قال على قول أبي حنيفة رحمه الله ينبغي أن يحرم حرمة غليظة خلافاً لهما؛ لأنَّ العتق وإن شاع فيهما إلا أنّه عتق من كلِّ واحدة منها نصفها والعتق عند أبي حنيفة رحمه الله يتجزأ؛ فكانت كلّ واحدة منهما معتق البعض ويعتق البعض في معنى المكاتب، فصادفها الطلاق وهي كاتبة، والمكاتبة تحرم حرمة غليظة بتطليقتين.
قال محمّد رحمه الله في «الجامع» : إذا كان للرجل امرأتان دخل بهما، فقال لهما أنتما طالقان طلقت كل واحدة منهما تطليقة رجعية، فإن لم يراجع واحدة منهما حتّى (قال) لهما إحداكما طالق ثلاثاً كان له البيان، وإن لم يبين حتّى انقضت عدّة إحداهما تعيّنت الثانية للثلاث؛ لأنَّ التي انقضت عدّتها خرجت من أن تكون محلا للبيان؛ لأنَّ البيان إيقاع من وجه، وإظهار للواقع من وجه، وأيُّ الأمرين اعتبرنا يجب أن يشترط لصحّة البيان قصداً ما يشترط لصحة الإيقاع إن اعتبرناه إيقاعاً فظاهر، وإن اعتبرناه إظهاراً للواقع فلأنَّ ولاية الإظهار إنما تستفاد بولاية الإيقاع على ما عرف، والتي انقضت عدتها ليست بمحلّ للإيقاع ابتداء، فلا يكون محلاً للبيان، فتتعيّن الأخرى للثلاث، وإن انقضت عدتهما معاً لم تقع الثلاث على واحدة منها.
قالوا: أراد به أن لا تقع الثلاث على واحدة منهما بعينها، وإما يقع الثلاث على واحدة منهما لا بعينها، ثمَّ قال: وليس له أن يوقع الطلاق على واحدة منهما بعينها، قالوا

(3/321)


أراد به ذلك أنّه ليس له أن يوقع على واحدة منهما بعينها مقصوداً بالبيان، أما له ذلك حكماً للنكاح بأن يتزوّج إحداهما بعد انقضاء العدّة، ولو انقضت عدتهما ثمَّ أراد أن يتزوّج بهما معاً لم يجز؛ لأنّ إحداهما مطلقة بالثلاث لا تحل له إلا بعد زوج آخر، وغير المطلقة غير معلوم والنكاح في المجهولة لا يجوز. ولو تزوّج بإحداهما جاز وتتعيّن الأخرى للطلقات الثلاث أمّا جواز نكاحها؛ لأنَّ المقتضي لحلّ المحليّة موجود في حقها وهو كونها أنثى من بنات آدم عليه السلام والمزيل، وهو الطلقات الثلاث لا ندري هل صادفت هذه أم لا. وإذا جاز نكاح هذه تعيّنت الأخرى للثلاث ضرورة؛ لأن من ضرورة صحة نكاح هذه انتفاء الثلاث عن هذه، ومن ضرورة انتفاء الثلاث عن هذه تتعيّن الأخرى للثلاث.
وقد ملك البيان ضرورة. وإن كان لا يملكه مقصوداً، ومثل هذا جائز ولو لم يتزوّج واحدة منهما حتّى تزوجت إحداهما زوجاً، ودخل بها ثمَّ فارقها أو مات عنها، وانقضت عدّتها ثمَّ نكحهما الأوّل جميعاً جاز؛ لأنَّ الزوج الثاني عرف محلّلاً بالكتاب، ويحتمل أنّه أصاب محلا ثبتت فيه الحرمة وقع الشك في بقاء ذلك التحريم، ودليل الحلّ موجود قطعاً، فلا يمتنع عمل دليل الحلّ الموجود قطعاً عند وقوع الشكّ في بقاء المانع، وكذلك لو انقضت عدّتها ثمّ ماتت إحداهما، فتزوّج الثانية جاز نكاحها؛ لأنّه لم يوجد في الميتة ما يوجب تعينها للواحدة حتّى تتعيّن الحيّة للثلاث؛ لأنَّ الموت كما يحل المطلقة بالواحدة يحلّ المطلقة بالثلاث، بخلاف ما إذا كانتا حيتين وتزوّج بإحداهما؛ لأن النكاح لا يصحّ إلا في المطلقة بواحدة فتعيّنت المتزوّجة للواحدة.

قال في «الزيادات» : رجل تحته أمتان لرجل لم يدخل بها، فقال: إحداكما طالق ثنتين ثمَّ اشترى إحداهما تتعيّن الأخرى للطلاق؛ لأن المشتراة خرجت من أن تكون محلاً لإنشاء الطلاق لزوال ملك النكاح عنها، لوجود ملك اليمين المنافي لملك النكاح فخرجت من أن تكون محلاً للبيان، فتتعيّن الأخرى للطلاق كما لو ماتت إحداهما. ولو اشتراهما معاً يبقى الطلاق منهما مجملاً، ولا يملك الزوج البيان في إحداهما؛ لأنّ كلّ واحدة منهما لم تبق محلا للبيان، ولو وطىء إحداهما بملك اليمين تعينت الأخرى للطلاق؛ لأنَّ حمل أمره على الصلاح واجب، وذلك بحمل وطئه على الحلال وذلك بانتفاء الطلاق عنها لأنَّ الأمة المطلقة بتطليقتين كما لا تحل بملك النكاح لا تحل بملك اليمين، ومن ضرورة انتفاء الطلاق عنها تعيين الأخرى للطلاق، فقد ملك البيان ضرورة وإن لم يملك قصداً، وقدّم نظيره من مسألة «الجامع» .
قال في «الزيادات» أيضاً: رجل قال لامرأتين له في صحّته وقد دخل بهما إحداكما طالق ثلاثاً، ثمَّ مرض مرض الموت وبين الطلاق في إحداهما، ثمَّ مات قبل انقضاء عدّة المطلقة، فإنّهما ترثان وهذا لما ذكرنا قبل هذا أنَّ البيان في حقّ حكم الميراث بمنزلة الإنشاء، فيصير الزوج به فارّاً كما لو أنشأ الطلاق في حالة المرض.
وإن كانت له امرأة أخرى غيرهما لم يقل لها شيئاً من ذلك كان نصف الميراث

(3/322)


لتلك المرأة؛ لأنّه لا يزاحمها في الميراث من هاتين المرأتين إلا واحدة، والنصف الآخر بين هاتين بالسويّة لعدم الإقدامية، وإن لم يبيّن الزوج الطلاق في إحداهما حتّى ماتت إحداهما والزوج مريض، فإنّه تتعيّن الأخرى للطلاق ضرورة ولا ترث، وإن كان البيان إنشاء في حقّ المحلّ؛ لأنَّ البيان ها هنا حصل حكماً لا بصنع من جهة الزوج، فلا يصير الزوج فارّاً وإن كانت له امرأة أخرى كان لها كلُّ الميراث؛ لأنَّ الميتة صارت محرومة عن الميراث بالموت، والحيّة صارت محرومة بوقوع الطلاق عليها نحو ما قلنا فكان كلّ الميراث للأخرى إن كانت، وإن لم تمت واحدة منهما حتّى عيّن الزوج الطلاق في إحداهما في مرض موته، ثمَّ ماتت إحداها قبل موته ولا زوجة له غيرهما، فإن كانت التي ماتت هي التي أوقع عليها الطلاق كان الميراث كلّه للأخرى. وإن كانت التي ماتت هي الأخرى وتعيّنت التي عين الطلاق فيما كان للمعيّنة نصف الميراث، والفرق أنّ الزوجيّة التي هي (257أ1) سبب الإرث قد انقطعت في حقّ المعينة بحكم البيان، ولهذا حرّم الوطء، ولكن قامت العدّة مقام الزوجيّة في حقّ الميراث بخلاف القياس في القدر الذي كان لها، وذلك النصف أمّا في حقّ غير المعيّنة الزوجيّة قائمة من كلّ وجه، وإنها سبب لاستحقاق جميع الميراث إلا أن بحكم المزاحمة كان لها نصف الميراث، وقد زالت المزاحمة ها هنا فتستحق جميع الميراث، وإن كانت للزوج امرأة أخرى لم يقل لها شيئاً من هذه المقالة ففيما إذا ماتت المعيّنة للطلاق كان الميراث بين الباقيتين نصفين، وفيما إذا بقيت المعينة للطلاق كان للمعينة ربع الميراث، وللأخرى ثلاثة أرباع الميراث.

ولو قال لامرأتين له إحداكما طالق، وماتت إحداها قبل البيان حتّى تعيّنت الأخرى للطلاق، قال الزوج: عنيت الميتة بالطلاق لا يقبل قوله في حقّ صرف الطلاق عن الباقية، وقبل قوله في حقّ إبطال حقّه في ميراث الميتة.
وكذلك إذا ماتتا جميعاً إحداهما بعد الأخرى، ثمَّ قال عنيت التي ماتت أوّلاً لم يَرث منهما؛ لأنَّ ميراثه عن الثانية سقط لتعيّنها للطلاق حكماً بموت الأولى، وعن الأولى سقط باعترافه، ولو ماتتا معاً أو إحداهما قبل الأخرى ولا يعرف التي ماتت أوّلاً ورث عن كلِّ واحدة نصف ميراثه عنها باعترافه، ويَرث عن الأخرى نص ميراث زوج. ولو قال أردت إحداهما بعينها سقط ميراثه عنها باعترافه ويرث عن الأخرى نصف ميراث زوج.
ولو طلق الزوج واحدة بعينها، ثمَّ قال أردت بهذا الطلاق التعيين كان القول قوله لأنّ التعيين والإنشاء في الصيغة واحد، فكان اللفظ محتملاً لما ادعاه، فقبل قوله، ولو قال لامرأتين له، وقد دخل بهما: إحداكما طالق واحدة، والأخرى ثلاثاً، ولا نية له في واحدة منهما، وله أن يوقع الثلاث على أيّهما شاء ما دامتا في العدّة، وإذا انقضت عدتهما ليس له أن يوقع الثلاث في إحداهما بعينها، وإن انقضت عدّة إحداهما بانت هي بواحدة والأخرى طالق ثلاثاً؛ لأنه إنّما يحتاج إلى إثبات ولاية البيان في حقّ الثلاث دون الواحدة، لوقوع الواحدة على كلّ واحدة منهما، فإن المطلقة بالثلاث تكون مطلقة بالواحدة، أمّا المطلقة بالواحدة لا تكون مطلقة بالثلاث صحّ أن الحاجة إلى إثبات ولاية

(3/323)


البيان في حقّ الثلاث دون الواحدة، وإذا انقطعت ولاية البيان في حقّ التي انقضت عدتها تعينت الأخرى للثلاث التي يحتاج إلى إثبات ولاية البيان فيها وإن لم يكن دخل بهما وباقي المسألة على حالها، فليس له أن يوقع الطلاق على إحداهما، فإن تزوّج بإحداهما في هذه الصورة جاز، وليس له أن يتزوّج بالأخرى.

قال أبو يوسف رحمه الله: إنّي علمت أنَّ الثلاث وقع على إحداهما، وليس له أن يجمعهما قال: ولا أقول إنَّ التي لم تتزوّج وقع عليها الثلاث.
ولو طلّق امرأة من نسائه بعينها ثلاثاً ثمَّ مسها لم يحل له وطء واحدة حتّى يعلم التي طلّق؛ لأنّ كلّ واحدة منهن يحتمل أن تكون هي المحرمة، وكذلك لا يحمل لواحدة منهن التزوج بغيره لأنّ كلّ واحدة منهن يحتمل أن تكون هي المنكوحة، ولو رافعنه إلى القاضي وطلبن منه النفقة، قضي بنفقتهن وحبسه حتى يبيّن التي طلقت منهن.
وفي «المنتقى» : القاضي يقول له: أوقع الطلاق على أيّهن شئت، واحتلف للباقيات إن ادعين ذلك، فإن قال: لا أدري ولم يوقع على واحدة حلّفه القاضي لكلّ واحدة منهن بالله ما هي المطلقة ثلاثاً إن ادعت كلّ واحدة منهن أنها هي المطلقة، وإن نكل لهن فرق بينه وبينهنّ بثلاث تطليقات وإن حلف لهنَّ بقي الأمر على ما كان قبل الدعوى؛ لأنّ القاضي يتقي بمجازفته في هذه الأيمان؛ لأنّه عرف وقوع الطلاق على واحدة منهن والطلاق متى وقع لا يرتفع باليمين.
وعن محمّد رحمه الله أنه إذا حلف للثلاث منهن تعيّنت الرابعة للثلاث، ولا يحلف لها. وعن محمّد فيما إذا كانتا امرأتين أنّه إذا حلف لإحداهما طلقت التي لم يحلف لها؛ لأنّ يمينه محمولة على الصدق، ومن ضرورة حمل يمينه على الصدق تعيّن الأخرى للثلاث.
j

ولو لم يحلف للأولى طلقت واحدة منهن، وإن تشاحا على اليمين حلّفته لهما بالله ما طلقت واحدة منهما، وإنّما كانت لهما المشاحة في اليمين؛ لأنّ لهما في ذلك فائدة، فإنّه إذا نكل للأولى تتعيّن الأخرى للطلاق وصارا شيوعاً في السبب، وهو الدعوى فأمكن إبقاء حقّ كلّ واحدة منهما معاً بأن يحلف بالله ما طلق واحدة منهما، فكان لهما في المشاحة فائدة من هذا الوجه، فكان لهما أن يتشاحا على اليمين، وإن حلف لهما يوجب عنهما حتّى يبين لما مرّ، فلو أنّه وطىء إحداهما فيما إذا كانتا امرأتين قبل المرافعة إلى القاضي وقبل العلم بالمطلقة مع أنه ليس له ذلك تتعيّن الأخرى للطلاق.
وكذلك إذا وطىء الثلاث فيما إذا كانت له أربع نسوة قبل العلم بالمطلقة تتعين الرابعة للطلاق؛ لأنّ فعل المسلمين محمول على الصلاح وإنّما يكون وطؤه محمولاً على الصلاح إذا كانت الموطوءة منكوحة، ومن ضرورته تعيّن الأخرى للطلاق هذا كلّه بيان حكم القضاء.
وأمّا بيان الحكم فيما بينه وبين الله تعالى إنّه ينبغي له أن يطلّق كلّ واحدة منهنّ واحدة ويتركهن؛ لأنّ في إمساكهنّ إضرار بهنّ، لأنّه لا يجوز له قربانهنّ لأنّ إحداهن مطلقة ولو تركهنّ بغير طلاق لم يحل لها التزوّج بزوج آخر؛ لأن إحداهما في مسألة

(3/324)


المرأتين والثلاث في مسألة الأربع ليست بمطلقة، وبعدما طلقهنّ لا ينبغي له أن يتزوّج واحدة منهنّ، حتّى تعلم المطلقة ثلاثاً، وإن تزوّج واحدة منهما في مسألة المرأتين أو الثلاث في مسألة الأربع تتعين الأخرى والرابعة للطلاق.
وإن تزوّج واحدة منهنّ فخاصمته إلى القاضي في الطلاق، أو لم تخاصمه حلّفه القاضي لها، فإن حلف أمسكها، وكذلك لو تزوّج ثنتين أو ثلاثاً، فلو أنّه بعد ما طلقهنّ تزوجن أزواجاً غيره، ودخل بهنّ أزواجهنّ ثمَّ فارقهن نكح أيّهن شاء. وإن تزوجت واحدة منهنّ زوجاً غيره ودخل بها الزوج وفارقها، فأراد الأوّل أن يتزوّج الكلّ له ذلك، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدّم.

الفصل الخامس عشر: في إيقاع الطلاق بالمال
قال محمّد رحمه الله في «الأصل» : إذا قال الرجل لامرأته أنتِ طالق بألفّ (257ب1) درهم، فقبلت طلقت وعليها ألف درهم لأنّ هذا خطاب مبادلة لأنّ حرف الباء يصحب الأبدال، فقد جعل الألف بدلاً عن الطلاق، وإنّه يصلح بدلاً والطلاق يصلح مبدلاً فهو معنى قولنا إنَّ هذا خطاب مبادلة والمبادلة تتمّ في حقّ وجوب العوضين بالإيجاب والقبول كما في البيع.
وكذلك إذا قال لها أنتِ طالق على ألف درهم؛ لأنّ كلمة على تستعمل لإيجاب البدل في المعاوضات بمنزلة حرف الباء يقول الرجل لغيره: بعت منك هذا، وعليك ألف درهم أخذت منك هذا، وعليك درهم وكان معناه بألف درهم، وهذا بخلاف قوله إن أعطيتني ألف درهم فأنتِ طالق، إن جئتني بألف درهم فأنتِ طالق، إن أديت إليّ ألف درهم فأنتِ طالق، إذا أعطيتني ألف درهم فأنتِ طالق، متى أعطيتني ألف درهم فأنتِ طالق، حيث لا يقع الطلاق ما لم يوجد الأداء؛ لأنّ هذا تعليق بالشرط صريحاً والتعليق بالشرط عدم قبل وجود الشرط، بخلاف قوله: على ألف درهم على ما مرّ.
وكذلك إذا قال أنتِ طالق على أن تعطيني ألف درهم، فقبلت يقع الطلاق، بمنزلة ما لو قال أنتِ طالق على ألف درهم؛ لأنّ هذا إيجاب الطلاق بجعل، وليس بتعليق بشرط الإعطاء بمنزلة قوله بعت منك هذا العبد على أن تعطيني ألف درهم فيكتفى بقبولها لوقوع الطلاق، فعلى هذا إذا قال بالفارسيّة براطلاق بشرط أنّك فلان خير عن دهي، أو قال بان شرط كي فلان خير عن دهي، فقبلت يقع الطلاق.

ثمَّ في قوله: إن أعطيتني ألف درهم، إن جئتني بألف درهم، إنّما يقع الطلاق بالإعطاء إذا وجد الإعطاء في المجلس؛ لأنّ هذا الكلام تعليق صورة، ومعاوضة معنى، لأنّ الطلاق لا يقع إلا بمال، وهذا هو حدّ المعاوضة فاعتبرنا معنى التعليق، فقلنا لا يقع الطلاق إلا بعد وجود الإعطاء اعتبرنا معنى المعاوضة، فقصرنا بالإعطاء على المجلس.

(3/325)


وفي قوله: متى أعطيتني يقع الطلاق إذا وجد الإعطاء في المجلس أو خارج المجلس.
وإذا قال لامرأته أنتِ طالق وعليك ألف درهم فقبلت أو قال لعبده أنت حر، وعليك ألف درهم فقبل عتق العبد، وطلقت المرأة، فلا شيء عليهما في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف ومحمّد رحمهما الله على كلّ واحد منها ألف درهم؛ لأنّ قوله: وعليك ألف درهم يستعمل في معنى المعاوضة فقال: أحمل هذا المتاع إلى منزلك، وعليك ألف درهم، أخيط هذا الثوب لك، وعليك درهم بعتك هذا الثوب وعليك درهم فكان بمنزلة قوله بدرهم، فصار تقدير مسألتنا أنتِ طالق بألف درهم.
ولأبي حنيفة رحمه الله أنّ الواو قد تجيء بمعنى العطف وقد تجيء بمعنى الابتداء، فلو حملناه على العطف يجب المال، ولو حملنا على الابتداء لا (فلا) يجب بالشك، وفي البيع والإجارة حمل على العوض بدلالة العقد فإن كلّ واحد من العقدين معاوضة، فذكرهما يكون ذكر العوض. وقوله: وعليك ألف درهم يكون بياناً لذلك، وفي مسألة الحمّال والخيّاط حمل على العوض؛ لأنَّ مثل هذا العمل عرفاً لا يعمل إلا بعوض وأمّا الطلاق قد يوقع بعوض، وقد يوقع بغير عوض.

على هذا الخلاف إذا قالت المرأة للرجل طلقني ولك ألف درهم وطلقها، فلا شيء له في قول أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما ولو قالت: طلقني ولك ألف درهم، فقال الزوج أنتِ طالق على ألف التي سمّيت فإن قبلت لزمها المال ووقع الطلاق، وإن لم تقبل لا يقع الطلاق، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله، وعلى قولهما يقع الطلاق وتجب الألف قبلت أو لم تقبل، ولو قال لها: أنتِ طالق بألف درهم على أنّي بالخيار، أو على أنك بالخيار ثلاثة أيّام فقبلت، فالخيار باطل إذا كان للزوج، وهو جائز إذا كان للمرأة، فإن ردّت المال ارتد الطلاق. وقال أبو يوسف ومحمّد رحمهما الله: الخيار باطل في الوجهين جميعاً.
وإذا قالت المرأة لزوجها: طلقني ثلاثاً بألف درهم، فطلقها واحدة وقعت واحدة بثلث الألف، ولو قالت طلقني ثلاثاً على ألف، فطلقها واحدة وقعت واحدة رجعيّة بغير شيء، وهذا قول أبي حنيفة رحمة الله، وقال أبو يوسف ومحمّد رحمة الله عليهما تقع واحدة بائنة بثلث الألف، فأبو يوسف ومحمّد رحمهما الله قاسا كلمة على حرف الباء حيث إن كلّ واحد منهما يستعمل في المعاوضات استعمالاً واحداً يقول الرّجل لغيره: بعت منك بألف درهم وبعت منك على ألف درهم.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول كلمة على للشرط في وضع اللغة، وأمكن العمل بحقيقتها في باب الخلع؛ لأنَّ تعليق بدل الطلاق جائز نفياً للطلاق؛ لأنّ البدل يكون تبعاً للبدل في المبادلات، كالثمن تبع للمثمن فإذا صحّ تعليق بدل الخلع تبعاً للطلاق، جعلنا وجود الألف معلّقاً بإيقاع الثلاث فما لم يوجد إيقاع الثلاث، لا يوجد الشرط بكماله فلا ينزل شيء من الجزاء فأمّا في باب البيع والإجارة فالعمل بحقيقة الشرط غير ممكن؛ لأن كل واحد من البدلين في باب البيع والإجارة لا يقبل التعليق فجعل على مجازاً عن حرف

(3/326)


الباء، والبدل ينقسم على المبدل إذا كان متعدّداً.

وإذا قالت المرأة لزوجها: طلقني وضرتي على ألف درهم فطلّق ضرتها أو طلقها تجب نصف الألف إذا كان مهر مثلهما على السواء، كما لو قالت طلقني وضرتي بألف درهم، وإن كان مهر مثلهما على التفاوت تجب حصّة المطلقة من الألف.
من مشايخنا من قال: هذا على قولهما أمّا على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يجب شيء، ومنهم من قال هذا قول الكل، والأوّل أصح.
وأمّا إذا قالت طلقني وضرتي على ألف عليّ فطلق إحداهما، فلا رواية في هذه الصورة ولقائل أن يقول: يلزمها حصّتها من الألف. ولقائل أن يقول: لا يلزمها شيء من الألف ما لم يطلقها على ألف درهم أو بألف، فطلق إحداهما جملة.
وإذا كانت للرجل امرأتان سألتاه أن تطلقهما على ألف درهم أو بألف، فطلّق إحداهما لزم المطلقة حصتها من الألف وإن طلّق الأخرى لزمها حصتها أيضاً إذا كان طلقها في المجلس، ثمَّ في قوله: طلقني ثلاثاً بألف درهم إذا طلقها ثلاثاً متفرقاً في مجلس واحدة القياس أن يقع تطليقة بثلث الألف والأخريان بغير شيء، وفي الاستحسان يقع ثلاث تطليقات (258أ1) بألف درهم، وحسب القياس أنّه لمّا طلقها واحدة وقعت واحدة بثلث الألف وبانت منه، فحين طلقها الثانية والثالثة طلقها وهي بائنة، فتقع الثانية والثالثة بغير (شيء) كما لو طلقها الثانية والثالثة بعدما تفرقا عن المجلس.
وجه الاستحسان أنَّ إيقاع الثلاث وجد في لفظة واحدة من حيث الحكم، لما عرف أنَّ المجلس الواحد يجمع الكلمات المتفرقة حكماً، فيعتبر بما لو حصل إيقاع الثلاث في لفظة واحدة من حيث الحقيقة، وهناك جميع الألف فها هنا كذلك.
من مشايخنا من قال: ما ذكر من جواب الاستحسان محمول على ما إذا وصل الطلقات بعضها ببعض، أمّا إذا فصل بين كلّ طلقة بسكوت لا تجب جميع الألف وإن حصل الإيقاع في مجلس واحد.

واستدل هذا القائل بما ذكر محمّد رحمه الله في باب المشيئة إذا قال لها: أنتِ طالق ثلاثاً إن شئت فقالت: شئت واحدة وواحدة وواحدة موصولاً يقع الثلاث، وتصير كأنها قالت شئت الثلاث، ولو قالت شئت واحدة وسكتت ثمَّ قالت وواحدة وسكتت ثمَّ قالت وواحدة وسكتت فإنه لا يقع وإن كان المجلس واحداً واعتبر مع اتحاد المجلس الوصل، فكذا ها هنا. ومنهم من يقول إذا كان المجلس واحداً لا يشترط الوصل.
واستدل هذا القائل بما ذكر محمّد رحمه الله بعد هذه المسألة. إذا قالت المرأة للزوج سألتك أن تطلقني ثلاثاً بألف درهم، فطلقتني واحدة فلك ثلث الألف، وقال الزوج لا بل طلقتك ثلاثاً ولي عليك جميع الألف، فالقول قول الزوج إذا كانا في المجلس يعني في مجلس السؤال فقد اعتبر باتحاد المجلس، ولم يعتبر الوصل في التطليقات وهذا القائل يفرق بين هذه المسألة وبين مسألة المشيئة، وهو الصحيح. ووجه ذلك قولها شئت واحداً إذا سكتت عقيبها لم يصلح جواباً لبعض ما فوّض إليها الزوج،

(3/327)


ألا ترى أنّه لم يقع بها شيء، فجعل ذلك منها إعراضاً عمّا فوّض إليها الزوج، فبطل التفويض أصلاً.
أما قول الزوج طلقت واحدة في مسألتنا صلح جواباً لبعض ما طلبت منه، ولهذا وقع تطليقة بثلث الألف، ولم يكن ذلك من الزوج إعراضاً عمّا طلبت منه، فبقي طلب الثانية والثالثة على حاله فصحّت الثانية والثالثة إذا كان المجلس واحداً.
وفي قولها: طلقني ثلاثاً على ألف درهم. إذا طلقها ثلاثاً متفرقاً إن طلقها ثلاثاً متفرقاً في مجلس واحد، فالمسألة على قولهما على القياس والاستحسان كما في حرف الباء، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله يقع ثلاث تطليقات فما قياساً واستحساناً؛ لأنَّ عنده في هذه الصورة تقع الأولى، والثانية رجعيتان، فتقع الثالثة وهي منكوحة فتستوجب عليها الألف عند وقوع الثالثة قياساً واستحساناً، بخلاف حرف الباء لأنّ هناك تقع الأولى بثلث الألف وتبين منه.

فأمّا إذا طلقها ثلاثاً متفرقاً في مجالس مختلفة فعلى قولهما يجب ثلث الألف كما في حرف الباء، وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يستوجب عليها شيئاً، وهذا لأنَّ أبا حنيفة رحمه الله وإن اعتبر كلمة على الشرط في هذه الصورة، حتّى لم يقل بوجوب شيء من الألف بدون إيقاع الثلاث إلا أنَّ معنى المعاوضة فيها ظاهر على ما مرّ، فيجب اعتباره، فاعتبرناه في اشتراط اتحاد المجلس بصحّة الإيجاب والقبول. والجواب في قولها طلقني ثلاثاً علي أنَّ لك على ألف درهم نظير الجواب في قولها طلقني ثلاثاً على ألف درهم.
وإذا طلقها واحدة على مال، وقبلت ثمَّ طلقها أخرى على مال إن قبلت يقع عليها أخرى بغير شيء؛ لأنّها لم تملك نفسها من جهة الزوج بهذا الطلاق، فلا يلزمها المال.
ابن سماعة في «نوادره» عن محمّد رحمه الله: إذا قال الرجل لامرأته أنتِ طالق عشراً بمائة دينار، فقبلت فهي طالق ثلاثاً بمائة دينار. وعنه أيضاً في رجل قالت له امرأته طلقني سبعين تطليقة بمائة دينار، فقال طلقت فهي طالق ثلاثاً بمائة دينار. وعن أبي يوسف رحمه الله في امرأة قالت لزوجها طلقني أربعاً بألف درهم، فطلقها ثلاثاً قال هي بألف درهم، ولو طلقها واحدة فهي بثلث الألف.
وفي «الأصل» في امرأة قد كان طلقها زوجها اثنتين، قالت لزوجها طلقني ثلاثاً على أنَّ لك ألف درهم فطلقها واحدة لزمها الألف كلها، والأصل في هذه المسائل وأجناسها إذا التزمت مالاً بمقابلة طلاق يقع، وبمقابلة طلاق لا يقع يجعل الكلّ بمقابلة طلاق يقع، كما لو قالت له: طلقني وهذا الحمار بألف درهم وطلقها، فإنّه يجب عليه جميع الألف.

وفي «القدوري» : إذا قالت المرأة لزوجها طلقني واحدة بألف، فقال لها: أنتِ طالق ثلاثاً ولم يقل بألف وقع الثلاث مجاناً عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما يجب جميع الألف، وهذا بناءً على أنَّ (عند) أبي حنيفة رحمه الله الثلاث لا يصحّ جواباً للواحدة، فكان مبتدئاً بالإيقاع، وعندهما: الزوج أدى ما سألته فيلزمها ما التزمت من الألف.

(3/328)


ولو قالت طلقني واحدة بألف فقال الزوج أنتِ طالق ثلاثاً بألف، وقفت على قبولها على قول أبي حنيفة رحمه الله، فإن قبلت جاز وإلا بطل، وعندهما الثلاث واحدة بألف وثنتان بغير شيء بناءً على الأصل الذي تقدم.
وحكى أبو الحسن عن أبي يوسف رحمهما الله أنه رجع إلى قول أبي حنيفة رحمه الله في هذه المسألة. ووجه الرجوع: أنَّ الزوج جعل الألف بمقابلة ثلاث تطليقات، وهذا بخلاف ما سألته بخلاف المسألة المتقدّمة.
وفي «المنتقى» : ابن سماعة عن محمّد رحمة الله عليهما: إذا قالت المرأة لزوجها: طلقني واحدة بألف، فقال لها أنتِ طالق ثلاثاً بألف فإن قبلت فهي ثلاث بألف، وإلا لم يقع شيء، قال الحاكم أبو الفضل وكان محمّد رحمهما الله، يقول: أما في هذه الصورة إنّه يقع واحدة بثلث الألف، وإن لم تقبل المرأة ولا تقع الثنتان إلا إذا قبلت فإذا قبلت وقعتا بغير شيء، وكان يقول هذا بمنزلة رجل قالت له امرأته: طلقني واحدة بألف، ففعل، ثمَّ قال لها أنتِ طالق ثنتين بألف، فلا تقعان حتّى تقبل، وإذا قبلت وقعتا لغير شيء ثمَّ رجع وقال إن قبلت المرأة ما قال الزوج وقع الثلاث بألف، وإن لم تقبل لا يقع شيء كما هو رواية ابن سماعة، فبهذه الجملة ثبت رجوع محمّد رحمه الله إلى قول أبي حنيفة رحمه الله في هذه المسألة أيضاً.
وفيه أيضاً: الحسن بن زياد عن أبي يوسف رحمة الله عليهما إذا قال لامرأته أنتِ طالق على ألف درهم إن دخلت الدّار (258ب1) ، فالقول إليها بعد دخول الدّار تقبل ساعة تدخل.

وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله إذا قال الرّجل لامرأة لا يملكها: أنتِ طالق على مائة دينار إن تزوجتك يوماً من الدّهر، فقالت قد قبلت ثمَّ تزوّجها على قول أبي حنيفة رحمه الله، لا يقع الطلاق، ولا يلزمها المال، قال: وقال أبو يوسف رحمه الله الطلاق واقع والمال لازم، ولو أنّها قالت حين تزوّجها قبلت الطلاق الذي جعلتها لي بمائة دينار، لزمها الطلاق والمال في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله.
قال أبو يوسف: ولا أحفظ في هذا رواية عن أبي حنيفة رحمه الله، والذي أحفظ عنه من الرواية رجل قال لمملوكه أنت حرٌّ بعد موتي إن شئت، أو قال: إن شئت فأنت حر بعد موتي، قال أبو حنيفة رحمه الله لا يكون مدبراً، إذ لا مشيئة للعبد حتّى يموت المولى، فإن مات المولى فإن شاء العبد فهو حرّ، وقال أبو يوسف رحمه الله إن قدّم المشيئة على العتق بأن قال إن شئت فأنت حرّ بعد موتي، فالمشيئة إليه في الحال وإن قدّم العتق على المشيئة، بأن قال: أنت حرّ إذا متُّ إن شئت أو قال: إن متُّ أو قال أنت حرّ بعد موتي إذا شئت، فله المشيئة بعد الموت.
ابن سماعة عن محمّد رحمة الله عليهما: إذا قال الرّجل لامرأته: طلقتك على ألف، فقالت: رضيت أو قالت أجزت فهو قبول، وإن قالت نعم فليس بقبول؛ لأنّ معناه سأقبل.

(3/329)


وعن أبي يوسف رحمه الله إذا قالت لزوجها طلقني على حكمي فقال نعم فهذا معتاد، ولو قال: قد فعلت وقع، ولو قال لها: طلقتك على حكمك فقالت قبلت أو قالت نعم جاز، ولو قالت أنا طالق على حكمي، فقال الزوج نعم فهو مثل ذلك.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا قال لامرأته أنتِ طالق ثلاثاً بألف درهم أنتِ طالق ثلاثاً بمائة دينار، فقالت قد قبلت فهو جواب عن الكلام الآخر.

وذكر ابن سماعة عن محمّد رحمهما الله أنّه يلزمه المالان، وعن أبي يوسف رحمه الله إذا قالت المرأة لزوجها: طلقني ثلاثاً بألف درهم طلقني ثلاثاً بمائة دينار فقال لها أنتِ طالق ثلاثاً بالجعل الأوّل، أو بالجعل الثاني فهو كما قال وأنت. وإن طلقها ثلاثاً ولم يتعرّض لأحد الجعلين فهو جواز الكلام الآخر، حتّى لو كان الكلام الآخر بغير جعل يقع الثلاث، ولا يلزمها شيء. ولو كان الكلام الأوّل بغير جعل، والثاني بجعل لزمها الجعل.
وعنه أيضاً: أنّه فرّق بين جانب الزوج وبين جانب المرأة، فقال: لو كان الإيجاب من جانب المرأة بأن قالت المرأة لزوجها: طلقني ثلاثاً بألف درهم طلقني ثلاثاً بمائة دينار فقال طلقتك بالجعل الأوّل يتوقف على قبولها، ولو كان الإيجاب من جانب الزوج بأن قال لها أنتِ طالق ثلاثاً بمائة دينار بألف درهم أنتِ طالق ثلاثاً بمائة دينار، فقبلت بالجعل الأوّل أو بالجعل الثاني صحّ.
والفرق أنَّ الإيجاب إذا كان من جانب المرأة، فقول الزوج طلقتك بالجعل الأوّل ابتداء إيجاب من الزوج، فليس جواباٌ بيانه أنَّ الإيجاب الثاني رجوع عن الإيجاب الأوّل، وإقامة للثاني مقام الأوّل، وقد صحّ رجوعها؛ إذ الإيجاب من جانبها غير لازم؛ لأن الطلاق على مال من جانب المرأة معاوضة والرجوع في المعاوضات قبل قبول الآخر صحيح، بخلاف جانب الزوج لأنَّ الطلاق على مال في جانب الزوج تعليق، فالتعليق يقع لازماً على وجه لا يصحّ الرجوع عنه، فبقي الإيجاب الأوّل، وصحّ الإيجاب الثاني فأيّ ذلك اختارت، فقد اختارت إيجاباً قائماً يصح على هذه الرواية إذا قال لها طلقتك بالمالين يتوقّف على قبولها؛ لأنَّ هذا ابتداء إيجاب في حقّها على ما مرّ.
وفي الروايات: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق ثلاثاً على ألف أو بألف، فقالت فقد قبلت الواحدة لا يقع شيء لأنّه لو وقع واحدة وقع بثلث الألف أو بغير شيء والزوج ما رضي بالوقوع بغير شيء، فلا تثبت الألف، وهذا لأنّه لو وقع واحدة تثلث الألف، وكذلك لو قالت وقع بائناً والزوج ما رضي بالبينونة تثلث الألف، وكذلك لو قالت قبلت الواحدة بألف لا يقع شيء، لأنّ الزوج ما أوجبها كذلك.
وذكر في وكالة «الأصل» أن من وكّل رجلاً أن يطلّق امرأته ثلاثاً بألف، فطلقها واحدة بألف جاز، والعرف أن يصرف الوكيل نفاذه، وبطلانه يعتمد الموافقة والمخالفة والوكيل بهذا لا يصير مخالفاً؛ لأنّه خلاف إلى خير والخلاف إلى خير لا يعد خلافاً أما تصرف الزوج مع المرأة صحّته ونفاذه يعتمد المطابقة بين الإيجاب والقبول صورة ومعنى، ولم يوجد ذلك ها هنا.

(3/330)


إذا قال لامرأته: أنتِ طالق واحدة بألف درهم، فقالت؛ قبلت هذه التطليقة طلقت واحدة بألف بلا خلاف، ولو قالت قبلت نصفها بخمسمائة كان باطلاً؛ لأنّ قبولها نصفها بخمسمائة كقبول كلّها بخمسمائة، وذلك باطل لأنّه لم يرض به.
ولو قالت المرأة لزوجها: طلقني واحدة بألف درهم، فقال الزوج: أنتِ طالق نصف تطليقة طلقت تطليقة بألف درهم، ولو قال أنتِ طالق نصف تطليقة بخمسمائة طلقت واحدة بخمسمائة؛ لأن إيقاع النصف بخمس مائة إيقاع الكلّ بخمسمائة وذلك من الزوج صحيح؛ لأنّ المرأة التمست تطليقة بألف، فتكون راضية بها بخمسمائة من طريق الأولى.
إذا قال لامرأته وقد دخل بها: أنتِ طالق السّاعة على أنّك طالق أخرى غداً بألف درهم، فقبلت وقعت واحدة للحال بنصف الألف؛ لأنّ تقدير هذه المسألة أنتِ طالق السّاعة واحدة، وغداً أخرى بألف درهم.

بيانه: أنَّ كلمة «على» وإن كانت حقيقة للشرط، لكن يقدّر العمل بالشرط ها هنا لأنَّ الطلقة الواقعة في الحال لا يمكن تعليقها بتطليقة، تقع في الغدّ فيحمل على العطف لأنّ حروف الصلات يقام بعضها مقام البعض، فصار تقدير المسألة ما قلنا من هذا الوجه، وهناك تقع واحدة للحال بألف درهم فالأصل أنَّ الزوج متى عطف إحدى التطليقتين على الأخرى، وذكر عقيبها مالاً ولم يخصّ إحداهما بوصف ما في البدل ولا بوصف يلائم البدل، فالبدل ينصرف إليهما لاستوائهما (259أ1) وعدم الأوّليّة، ثمَّ إذا جاء غد يقع عليها تطليقة أخرى، وهل يلزمها المال؟ ينظر إن كان قد تزوّجها قبل مجيء الغد، يلزمها خمس مائة وإن لم يتزوّجها قبل مجيء الغد لا يلزمه شيء؛ لأنّ وجوب البدل يعتمد زوال الملك به، وهو نظير ما لو قال لامرأته: أنتِ طالق ثلاثاً للسنة بألف درهم يقع عليها واحدة للحال بثلث الألف إذا كان الزمان زمان السنة، ثمَّ إذا حاضت وطهرت يقع عليها أخرى، ثمَّ إذا حاضت وطهرت يقع عليها أخرى، ولا يلزمها المال بالطلاق الثاني والثالث إلا بواسطة سبق الزوج، كذا ها هنا.
m
ولو قال لها أنتِ طالق الساعة واحدة أملك الرجعة على أنّك طالق غداً أخرى بألف درهم، فقبلت وقع عليها واحدة للحال بغير شيء؛ لأنّه قرن بالطلقة الأولى مانعاً في وجوب البدل به، وهو قول أملك الرجعة فإن الطلاق ببدل لا يكون رجعياً فانصرف البدل إلى الطلقة الأخرى، وهذا هو الأصل في كلّ طلاقين عطف أحدها على الآخر، وقرن بالأوّل وصف ينافي البدل، البدل ينصرف إلى الطلاق الثاني فإن جاء الغد يقع عليها تطليقة أخرى بألف درهم؛ لأنّ البدل مقابل بها وأمكن إيجاب البدل بها لزوال الملك لها لأنّ الملك لم يزل بالأولى؛ لكونها رجعيّة.
ولو قال لها: أنتِ طالق اليوم تطليقة بائنة على أنّك طالق غداً أخرى بألف درهم وقعت للحال واحدة بغير شيء؛ لأنّه قرن بالطلقة الأولى مانعاً في وجوب البدل بها وهو قوله بائنة؛ لأنّه إنّما يحتاج إلى وصف الطلاق بصريح الإبانة إذا لم يكن بمقابلته شيء،

(3/331)


ثمَّ إذا جاء الغد تقع عليها تطليقة أخرى بغير شيء؛ لأنّ الملك لا يزول بالطلقة البائنة، لزواله بالطلقة الأولى لكونها بائنة، وإن كان تزوّجها قبل مجيء الغد ثمَّ جاء الغد يقع عليها تطليقة أخرى بألف درهم؛ لأنّ الملك يزول بها في هذه الصورة، والألف مقابل بها.
ولو قال لها: أنتِ طالق اليوم تطليقة بغير شيء على أنّك طالق غداً أخرى بألف درهم وقع في الحال تطليقة رجعيّة؛ لأنه قرن بالأولى ما ينافي كون البدل بمقابلته، وهو قوله بغير شيء فصار كلّ الألف بمقابلة الطلقة الثانية فإذا جاء الغد تقع تطليقة أخرى بألف درهم؛ لأنّ الملك يزول بها لكون الأولى رجعيّة.
ولو قال لها: أنتِ طالق واحدة وأنتِ طالق أخرى بألف درهم فقبلت وقعت الطلقتان بألف درهم، وانصرف البدل إليهما. وكذلك لو قال: أنتِ طالق اليوم واحدة وغداً أخرى بألف درهم، فقبلت وقعت في اليوم واحدة بنصف الألف وغداً أخرى بنصف الألف إن تخلّل التزوّج؛ لأنَّ البدل انصرف إليهما.
ولو قال لها أنتِ طالق السّاعة واحدة أملك الرجعة وغداً أخرى أملك الرجعة بألف درهم، أو قال أنتِ طالق الساعة واحدة بائنة وغداً أخرى بائنة بألف درهم، أو قال أنتِ طالق الساعة واحدة بغير شيء وغداً أخرى بغير شيء صحّ بألف درهم، فالبدل ينصرف إليهما وتكون كلّ تطليقة بنصف الألف، فتقع واحدة في الحال بنصف الألف، وغداً أخرى مجاناً إلا أن يتزوّجها قبل مجيء الغد، ثمَّ جاء الغد فحينئذٍ تقع أخرى بنصف الألف وإنّما انصرف البدل إليهما في هذه الصورة؛ لأنّه قرن بكلّ تطليقة وصفاً ينافي البدل.

والأصل في كلّ طلاقين عطف أحدهما على الآخر، وقرن بكلَ منهما ما ينافي البدل أو قرن بالطلقة الثانية ما ينافي البدل، والبدل ينصرف إليهما جميعاً؛ لأنّه لا بدّ من إلغاء إحداهما، إمّا المنافي وإمّا البدل، وإلغاء المنافي أولى لأنّه ذكر المنافي أوّلاً، وذكر البدل آخراً وإبداء الآخر يكون ناسخاً للأوّل.
ولو قال لها: أنتِ طالق السّاعة واحدة أملك الرجعة أو قال بائنة أو قال بغير شيء وغداً أخرى بألف درهم، والبدل ينصرف إلى التطليقة الثانية.
ولو قال أنتِ طالق اليوم واحدة وغداً أخرى أملك الرجعة ينصرف البدل إليهما؛ لأنّه قرن بالطلقة الثانية ما ينافي وجوب البدل بها، وفي مثل هذا ينصرف البدل إلى الطلقتين، وعلى هذا يخرج جنس هذه المسائل.
وفي «المنتقى» : بشر عن أبي يوسف رحمهما الله: رجل قال لآخر طلق امرأتك فلانة واحدة ولك ألف درهم، ففعل وقع الطلاق في الحال في قول أبي حنيفة رحمه الله بغير مال، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يقع حتّى تقبل المرأة، فإنّ قامت عن المجلس الذي يبلغها فيه الخبر قبل أن تقبل بطل الطلاق.
وذكر ابن سماعة عنه أيضاً: رجل قال لزوج ابنته الصغيرة: طلقها ولك ألف درهم

(3/332)


فقال نعم فعلت، قال أبو حنيفة رحمه الله: هي طالق السّاعة بغير شيء، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يقع الطلاق ما لم تقبل الصغيرة، فإذا قبلت وقع الطلاق فلا يلزمها المال.
وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف رحمة الله عليهما أيضاً: رجل جعل لرجل ألف درهم على طلاق امرأته، فقبل وطلّق فالطلاق بائن والذي جعل الألف ضامن للألف وهي عليه للزوج، ولو كان له دين على الزوج فقال له أنت بريء على أن تطلق امرأتك، فقبل وفعل فالطلاق جائز وهو بريء من المال.

قال: ولو كانت هاتين المسألتين في العتاق، فالعتق جائز والبراءة من الدّين جائزة، والجعل الذي جعل له باطل؛ لأنّه لو لزمه لزمه بغير عوض؛ لأنَّ العتاق من المولى، فالعتق لا يكون له، والمال لا يجب على الإنسان من غير عوض بقضيّة الأصل بخلاف البراءة؛ لأنَّ البراءة تجوز بغير عوض.
وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا أمر الرجل رجلاً أن يطلّق امرأتيه بألف درهم، وطلّق إحداهما بألف أو بأقلّ إلا أنّه إذا قسم الألف على مهرها كان ذلك حصتها، فهو جائز.
وروى أبو سليمان عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا قال الرجل لغيره طلّق إمرأتي بما شئت أو قال بما رأيت، أو قال على كم شئت أو قال على كم رأيت، فهو على المجلس وغيره، قال: لأنَّ المشيئة في الجعل ليس في الطلاق.
وفي «الأصل» : إذا قال الرجل لامرأته طلقتك أمس بألف درهم، فلم تقبل فقالت المرأة لا بل قبلت فالقول قول الزوج.
فرق بين هذا وبينما إذا قال لغيره بعتك أمس بكذا فلم يقبل، وقال الآخر لا بل قبلت، فالقول قول المشتري، وكذلك إذا قال (259ب1) لغيره أجرت منك أمس كذا بكذا فلم تقبل، فقال الآخر لا بل قبلت، والقول قول المتأخّر. والفرق أنَّ البيع معاوضة، والمعاوضة لا تتم إلا بالإيجاب والقبول فإذا أقر بالبيع والإتمام له لا بالقبول صار مقراً بالقبول دلالة راجعاً عنه بقوله، فلم تقبل، فلا يقبل ذلك منه، فأمّا الطلاق على مال كما هو معاوضة فهو تعليق أيضاً، والمعاوضة إن كانت لا تبنى إلا بالقبول فالتعليق بني بدون القبول، فبإقراره بالطلاق على المال إن صار مقراً بالقبول من حيث إنّه معاوضة لا يصير مقراً بالقبول من حيث إنّه تعليق، فلا يثبت الإقرار بالقبول بالشك بقيّت المرأة مدّعية والزوج منكر دعواها، فيكون القول قول الزوج.
وعلى هذا إذا قال لها قد كنت بعتك طلاقك أمس بألف، ولم تقبلني، وقالت المرأة لا بل قبلت فالقول قولها.

ولو قال: طلقتها ثلاثاً بألف درهم فقالت المرأة هذا منك إقرار ماض، وقد كنت قبلته منك، وقال الزوج كان هذا مني إقراراً مستقبلاً حين تكلمت فلم تقبلي، فالقول قول الزوج وإن أقاما البيّنة أخذت بيّنة المرأة، ذكره في «المنتقى» .
وفي «البقالي» : أنتِ طالق غداً على عبدك هذا، فقبلت وباعت العبد ثم جاء الغد

(3/333)


يقع الطلاق وعليها قيمة العبد، ولو طلقها ثلاثاً في يومه، ثمَّ جاء الغد فلا شيء له.
وفيه أيضاً إذا قال لها أنتِ طالق بعد غد على ألف درهم وغداً على ألف، واليوم على ألف، فقبلت اليوم بألف، والباقي بغير شيء هكذا ذكر وعلى قياس ما تقدم إذا تزوّجها قبل مجيء الغد، ثمَّ جاء الغد يقع طلاق آخر بألف، وإذا تزوّجها في الغد ثم جاء بعد الغد يقع طلاق آخر بألف.
وفيه أيضاً: إذا قال لامرأتيه إحداكما طالق بألف درهم، والأخرى بمائة دينار فقبلتا طلقتا بغير شيء. وفيه أيضاً؛ روى ابن سماعة عن محمّد رحمهما الله في العتاق: إذا قال لامرأتيه إحداكما طالق بألف، فقبلتا ومات فعلى كلّ واحد منهما خمسمائة وبانتا، ولا ميراث.
وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا قال الرّجل لامرأته أنتِ طالق على حكمك من الجعل فقبلت ثمَّ حكمت مالاً ولم يرض به الزوج فإن كان ما حكمت مثل مهرها الذي أخذت، أو أكثر من ذلك لم يكن للزوج إلا ذلك، وإن كان أوّل تممّنا له مهرها الذي أخذت، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمة الله عليهما.
وعلى هذا إذا قالت المرأة لزوجها اجعلني طالقاً على حكمك من الجعل، فطلقها على ذلك ثمّ حكم بحكم له فرضه، فإن حكم بمهرها أو أقل لزمها الطلاق على الفعل ثمَّ ينظر إلى الفعل فإن كان جعلاً، فهو على ما صيّرت ذلك فإن كان غير جعل، فقد مضى الطلاق.

بشر عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا طلّق امرأته على أن تهب عنه لفلان ألف درهم أجبرتها على إنفاذ الألف، والزوج هو الواهب وإن لم يقل عنه لا تجبر على الهبة وعليهما أن ترد المهر والطلاق بائن، فإن وهبت فالهبة عنها والطلاق بائن ولا شيء عليها غير الهبة التي وهبت، ولا رجوع لأحد في هذه الهبة.
وعن محمّد رحمه الله في امرأة قالت لزوجها: طلقني على أن أهب مهري من ولدك ففعل، فأبت أن تهبه فالطلاق رجعي فلا شيء عليها.
أبو سليمان عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا أبرأت المرأة زوجها عمّا لها عليه على أن يطلقها، فقد جاز ذلك و (حارت) المرأة فكان الطلاق بائناً وكذلك لو جعلت له مالاً على ذلك، ولو قالت لزوجها طلقني على أن أؤخّر مالي عليك وطلقها على ذلك، فإن كان للتأخير غاية معلومة صحّ التأخير، وإن لم يكن له غاية معلومة لا يصح التأخير، والطلاق رجعي على كلّ حال. وكذلك لو طلقها على أن تبرئه عن كفالة نفس فلان، فأبت أن تبرىء فالطلاق رجعي، ولو طلقها على أن تبرّئه عن الألف التي كفل بها لها عن فلان، فالطلاق بائن، والله أعلم.

(3/334)