المحيط
البرهاني في الفقه النعماني الفصل السادس عشر:
في الخلع
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
نوع منه في بيان صفته وكيفيته
قال علماؤنا رحمهم الله: الخلع طلاق بائن ينتقص به من عدد الطلاق، به ورد
الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعن عمر وعلي وابن مسعود رضي الله
عنهم. وقال الشافعي رحمه الله: هو فسخ لا ينتقص به من عدد الطلاق، وهو قول
ابن عباس رضي الله عنه، وتكلّم أصحابنا رحمهم الله فيما إذا قضى قاضٍ بكونه
فسخاً، هل ينفذ قضاؤه؟ منهم من قال ينفذ، ومنهم من قال لا ينفذ، وتكلّم
المشايخ في لفظة البيع والشراء هل لابن عباس رضي الله عنه فيه قول كما في
الخلع، قال بعضهم ليس له فيه قول وهو طلاق بائن بالاتفاق، وقال بعضهم خلافه
في كل موضع عدم فيه لفظة الطلاق، وإنّه من جملة الكنايات حتّى لا يقع به
الطلاق بدون النيّة، وتصح نيّة الثلاث فيه، وإذا قال الزوج لم أنوِ به
الطلاق، فإن لم يذكر بدلاً صدّق ديانة وقضاء وإن ذكر بدلاً بأن قال لها
مثلاً، خالعتك على ألف درهم، ثمَّ قال لم أعن به الطلاق لا يصدّق وقدم هذا
فيما تقدّم، ويعتبر من جانب الزوج يميناً وتعليقاً للطلاق بقبولها حتّى لو
قال لها خالعتك على كذا، ثمَّ رجع قبل قبول المرأة لا يصح رجوعه، وكذلك لا
يبطل بقيامه عن المجلس قبل قبول المرأة، وكذلك لا يتوقف على حضورها، بل
يجوز إذا كانت غائبة، فإذا بلغها فلها خيار القبول في مجلسها، ويصحّ
التعليق بالشرط والإضافة إلى الأوقات، نحو أن يقول: إذا جاء غد فقد خالعتك
على ألف درهم، فإذا قدم فلان فقد خالعتك كان القبول إليها بعد مجيء الوقت
وقدوم فلان.
ومن (جار) المرأة تعتبر بالإيجاب والقبول كما في باب البيع حتّى إنّه إذا
كانت البداية من جانب الزوج، فقامت عن المجلس قبل القبول يبطل الإيجاب، وإن
كانت البداية من جانب المرأة بأن قالت له اخلعني على كذا، صحّ رجوعها قبل
قبوله ويبطل بقيامها عن المجلس وبقيامه ولا يتوقف حال غيبة الزوج، ولا يجوز
التعليق منها بشرط، ولا إضافة إلى وقت وقدّم الفرق من الجانبين قبل هذا.
وينبني على هذا ما قال أبو حنيفة (260أ1) رحمه الله إذا خالعها وشرطت
المرأة لنفسها الخيار جاز، وقال أبو يوسف ومحمّد رحمهما الله: لا يجوز ولو
شرط الزوج الخيار لنفسه لا يجوز إجماعاً فهما قاسا جانبها بجانبه، وأبو
حنيفة رحمه الله فرّق بينهما بما قلنا إنَّ الخلع من جانب الزوج يمين،
واليمين غير قابلة للخيار، ومن جانب المرأة معاوضة، والمعاوضة قابلة
للخيار.
(3/335)
وإذا قال لامرأته كلّ امرأة أتزوجها، فقد
بعت طلاقها منك بكذا، ثمَّ تزوّج امرأة فالقبول إليها بعد التزوّج، فإن
قالت بعد التزوّج قبلت أو قالت اشتريت طلاقها أو قالت طلّقها يقع الطلاق
عليها، وإن قالت قبل التزوّج قبلت فهذا ليس بشيء؛ لأنَّ هذا الكلام من
الزوج خلع بعد التزوّج، فإنّما يشترط القبول بعده.
نوع آخرمنه
ذكر في «فتاوى سمرقند» بأن صورة الخلع بالفارسيّة تقال: أن تقول المرأة
لزوجها: «خوشتن رااز تونهر كاينن كرم أست وبهر هريبة عدة كي اجب مرابد
توسيس طلاق أختم بيك طلاق فيقول الزوج» «اهتحيدم برااز خوشتن بائن شرطها»
وإذا أمر الرجل امرأته بالخلع، فهو على أربعة أوجه:
إمّا أن يقول اخلعي نفسك بكذا من المال سمّى مالاً مقداراً معلوماً مثلاً
ألف درهم. أو يقول؛ اخلعي نفسك بمال ولم يسمه ولم يقدّره، أو يقول: اخلعي
نفسك بغير شيء. أو يقول: اخلعي نفسك ولم يزد على هذا، وأمّا إذا قال: اخلعي
نفسك بألف درهم أو على ألف درهم، فخلعت نفسها على ذلك، ولم يقل الزوج بعد
ذلك خلعت هل يتمّ الخلع فيه روايتان عن أصحابنا، والمختار أنّه يتمّ بناءً
على أنّ الواحد هل يتولّى طرفي الخلع؟ إذا كان البدل مقدّراً معلوماً، وفي
رواية يتولى وهو المختار وتصير المرأة وكيلة من جانب الزوج؛ لأنّه يمكنها
الامتثال بما أمرت، وحقوق العقد لا ترجع إليها حتّى يقال تؤدّي إلى التضاد
في حقّ الأحكام، أمّا إذا قال لها: اخلعي نفسك بمال، ولم يقدّر المال
فقالت: خلعت نفسي على كذا في ظاهر رواية أصحابنا رحمهم الله لا يتمّ الخلع
ما لم يقل الزوج بعد ذلك خلعت. وروى ابن سماعة عن محمّد رحمهما الله: أنه
يتمّ وإن لم يقل الزوج بعد ذلك خلعت، وكثير من مشايخنا أخذوا برواية ابن
سماعة.
ووجه ظاهر الرواية: أنّه لا بدَّ من التسمية في الخلع لأنَّ المال بدون
التسمية لا يجب في الخلع، وإذا لم يكن البدل مقدراً لا تدري هي أي قدر
تسمّي فعجزت عن الامتثال، فلا يصحّ الأمر فلا تصير وكيلة من جهة الزوج فلا
يتمّ الخلع بمجرّد قولهما اختلعت، وأمّا إذا قال لها اخلعي نفسك بغير مال،
فقالت: خلعت يتم الخلع بقولها؛ لأنَّ الخلع بغير مال والطلاق البائن سواء،
فكأنّه قال لها: طلقي نفسك تطليقة بائنة فقالت طلقت.
وأمّا إذا قال لها اخلعي نفسك، ولم يزد على هذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله
أن يتمّ الخلع بقول المرأة اختلعت للمعنى الذي ذكرنا في قوله اخلعي نفسك
بغير مال، وحكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمّد بن الفضل البخاري رحمه الله
أنّه كان يقول: روي عن محمّد رحمه الله أنّ هذا بمنزلة قوله: اخلعي نفسك
بمال، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنّ هذا بمنزلة قوله اخلعي نفسك بغير
شيء.
وإذا سألت المرأة من زوجها أن يخلعها، فهو على أربعة أوجه أيضاً: أما إن
قالت له اخلعني على كذا سمّت ألف درهم مثلاً، وفي هذا الوجه إذا خلعها على
ذلك يتمّ
(3/336)
الخلع بقول الزوج ولا يحتاج إلى قول المرأة
اختلعت قبلت في رواية، هو المختار.
وعلى هذا إذا وكّل الرّجل رجلاً أن يخلع امرأته على ألف درهم، ووكّلت
المرأة ذلك الرجل أن يختلعها من زوجها على ألف درهم، فقال الوكيل: اختلعت
فلانة من زوجها فلان بألف درهم يتم الخلع بقوله في رواية، وهو المختار،
وأمّا إن قالت اخلعني على مال ولم يسمه، ولم يقدّره، فقال الزوج خلعتها على
كذا، وفي هذا الوجه لا يتمّ الخلع بقول الزوج خلعت ما لم تقل المرأة قبلت،
أو اختلعت في ظاهر رواية أصحابنا. وعلى رواية ابن سماعة يتمّ.
ومعنى قولنا لا يتمّ الخلع على ظاهر الرواية أنّه لا يجب عليها بدل الخلع،
وهل يقع الطلاق؟ اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: يقع، به كان يفتي ظهير
الدين المرغيناني رحمه الله، وبعضهم قالوا لا يقع، وهو الأظهر والأشبه.
وأمّا إن قالت اخلعني بغير مال، وفي هذا الوجه إذا قال الزوج خلعت يقع
الطلاق؛ لأنّ تقدير المسألة كأنّ المرأة قالت طلقني طلاقاً بائناً، فقال
الزوج طلقت، وأمّا إن قالت اخلعني ولم يزد على هذا، وفي هذا الوجه ذكر شيخ
الإسلام رحمه الله أنّه يقع الطلاق بقول الزوج خلعت، وعلى قياس ما حكي عن
الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمّد بن الفضل رحمه الله فيما إذا أمر الزوج
المرأة بالخلع يجب أن يكون في المسألة روايتان.
وإذا قال لها: «خوشتن أزمن بحز» فقالت: «خريدم» ، ولم يقل الزوج «فروحتم»
لا تطلق، وهذا بخلاف ما لو قال لها اخلعي نفسك منّي، فقالت: اختلعت ولم يقل
الزوج قبلت، وكذلك لو قال لها بالعربية اشتري نفسك منّي، فقالت الزوجة
اشتريت، ولم يقل الزوج بعت لا يقع الطلاق، بخلاف قوله: اخلعي، هكذا ذكر
الصدر الشهيد رحمه الله.
والفرق أنَّ قوله: اخلعي نفسك أمر الطلاق بلفظ الخلع والزوج يملك أمرها
بذلك ببدل وبغير بدل، فصحّ الأمر وإن لم يكن البدل مذكوراً، أمّا قوله:
«خوشتن بحر» أو اشتري نفسك أمر بالمعاوضة، والأمر بالمعاوضة لا يصحّ إذا لم
يكن البدل مقدّراً معلوماً، وحكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمّد بن
الفضل رحمه الله، بخلاف ما ذكره الصدر الشهيد في قوله اشتر نفسك منّي، على
ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله.
ولو قال: «خوشتن بخر بكذا» ذكر مالاً مقدّراً، أو قال بالعربية اشترِ نفسك
بكذا، فقالت «خريدم» أو قالت؛ «اشتريت» ، ولم يقل الزوج بعت أو «فروختم»
يتمّ الخلع في رواية، وهو المختار على ما بيّنا، وكذا في هذه الصورة إذا
قال الزوج من لي «فروختم» بعد قول المرأة «خريد» يتمّ الخلع على الرواية
(260ب1) المختارة.
وعن هذا قيل: إذا قال لها: «خوشتن بخراز من بكايين ونفقة عدّة» ، فقالت:
فقال الزوج: «من يك طلاق دادم» يقع عليها طلاقان أحدهما بالخلع، والثاني
بالتطليق وأمّا إذا قال لها: «خوشتن بخر عدى أزمن» أو قال: «بحامة» ذكر
بدلاً مجهولاً، فقالت «خريدم على كذا» لا يتمّ الخلع ما لم يقل الزوج
«فروحتم» ، ولا يقع طلاق أيضاً، وهذا يجب أن يكون على ظاهر الرواية، أمّا
إذا قال لها «خوشتن بخر» بغير شيء أو قال: اشتر نفسك
(3/337)
منّي بغير شيء لم يذكر الصدر الشهيد رحمه
الله هذا الفصل في «واقعاته» .
ورأيت مكتوباً بخطّ الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله عقب ذكر
مسألة أمر الزوج المرأة بالخلع عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمّد بن
الفضل، وكذلك لو تلفظ بلفظة البيع والشراء في الفصول كلّها فهو على ما
وصفنا، وهذا إشارة إلى أنّ في هذا الفصل، يقع الطلاق بقولها «خريدم» كما في
قوله: اخلعي نفسك بغير شيء وإشارة إلى أنَّ في قوله؛ اشترِ نفسك منّي
روايتان: كما في قوله اخلعي نفسك وإذا قال لها «خوشتن خريدي أزمن» بمهرك،
ونفقة عدتك، فقالت «خريدم» ولم يقل الزوج «فروحتم» ، قال بعض مشايخنا يتمّ
الخلع، وقال بعضهم لا يتمّ.
وقال الفقيه أبو جعفر نسأل الزوج أنّه أراد بقوله «خريدى» التحقيق أو
السوم، فإن قال: أردت السوم لا يتمّ الخلع، وإن قال أردت التحقيق يتمّ، وعن
الفقيه أبي الليث رحمه الله ما هو قريب عن هذا، فإنّه قال: لا يتمّ الخلع
إلا إذا أراد بقوله «خريدي» التحقيق.
وحكي عن شمس الإسلام الأوزجندي عن شمس الأئمة السرخسي رحمهما الله أنّه كان
يقول: يتمّ الخلع وإن لم يقل الزوج «فروحتم» ، وقد رأيت في «فتاويه» هكذا.
وصورة ما رأيت في «فتاويه» إذا قال لها: «خوشتن أزمن بهمّه حقّها خريدي» ،
أو قال: «بجندين درم خريدي» فقالت «خريدم» ولم يقل الزوج «فروحتم» إن الخلع
تام، ولو قال «خريدي» ولم يقل «بهمه حقها» ولا قال «بجندين درم» ، فقالت لا
يتم الخلع ما لم يقل الزوج «فروحتم» ، والمعنى في ذلك أنّ تقدير كلامه
«خوشتن خريدي كي من فروختم» وإذا، قال لها: اشتريت منّي ثلاث تطليقات بمهرك
ونفقة عدّتك فقالت اشتريت أو قال لها خلعت نفسك منّي بكذا، فقالت: خلعت،
والجواب فيها كالجواب في قوله: «خريدي» ، ولو قال لها «خوشين مي خريد بكذا»
فقالت «خريدم» لا يتمّ الخلع ما لم يقل الزوج «فروحتم» ، وهذا باتفاق
الأقول لأنَّ هذا للسوم خاصة ولا يحتمل التحقيق، وكذا إذا قالت: «خوشتن
ميحزم» فقال الزوج «فروحتم» لا يتم الخلع.r
وفي «فتاوى الفضليّ» : امرأة قالت لزوجها اشتريت نفسي منك لما أعطيت، أو
قالت: اشتر وأرادت الإيجاب دون العدّة، فقال الزوج أعاطيك كذا يقع الطلاق
لأنَّ هذا يصلح جواباً ولو قالت بالفارسيّة، قالت: «إنَّ حرمي» وباقي
المسألة بحالها تصح لا تنوي أنّها أرادت العدّة أو الإيجاب.
وإن قال حرم لا يصح ولا ينوي لأنَّ في الفارسيّة للإيجاب لفظاً، وهو قولها
«حرمى» وللعدّة لفظ وهو قولها «حرم» ولا ينوي، فأمّا في العربية لفظهما
واحد وهو قولها اشتري فينوي.
وفيها أيضاً إذا قالت: «خوشتن حرمي ان تو بمهري، ونفقة عدتي دأدى» فقال
الزوج أرى وقعت الفرقة؛ لأنَّ قولها بالفارسية خرمي الإيجاب، وقول الزوج
أرى جواب، فصار كأنّه قال «دادم» ولو قال أرى تتم لا تقع الفرقة.
(3/338)
وفي «فتاوى النسفي» : إنَّ قولها «خرمي»
ليس بإيجاب حتّى إنّها لو قالت «خوشتن خرمى» فقال الزوج «فروحتم» لا يتمّ
الخلع ذكر الجهل أو لم يذكر؛ لأنّه للاستفهام إذا قالت لزوجها: «مر حقي
مرابد تواست خوشتن خريدم» ، فقال الزوج «فروختم» لا يكون خلعاً بذلك المال،
ولو قالت «به حقي» كان خلعاً ولو جرت العادة فيما بين النّاس أنّهم يريدون
بقوله «صر حقي نهر حقي» يجب أن يصح الخلع والفتوى على أنه لا يصح إلا أن
يكتب في الفتوى، كذا جرت العادة فحينئذٍ يفتى بالصحّة، وفي موضح آخر لو
قالت «هر حقي» ك «مرااز تومى بايد خوشتن خريدم ازتو» ، أو قالت: «ميروين
خوشتن خريدم ازتوا» فقال الزوج «فروختم» يكون خلعاً، ويلغوا قولها «حر حقي
كه مرا ازنومى يايد وتصير كأنها ابتدأت فقالت: خويشتن خريدم ازتوا» أو قالت
«سمرين خوشتن خريدم ازتو» .
وإذا قالت المرأة اختلعت نفسي بمهري ونفقة عدتي ولم تقل منك، فقال الزوج
خلعت، ولم يقل خلعتك لا يكون هذا خلعاً صحيحاً كذلك إذا قال بالفارسيّة:
«خوشتن خريدم» ، فقال الزوج «فروختم» لا يكون خلعاً صحيحاً ولو قال
«فروخمت» فهو خلع صحيح، هكذا ذكر في «مجموع النوازل» عن شيخ الإسلام السغدي
رحمه الله. قال لا بدّ من ذكر الإضافة من أحد الزوجين، وقاسه على ما إذا
قال لها اختاري، فقالت: اخترت لا يقع شيء، ولو قال اختاري، فقالت اخترت
نفسي أو قال اختاري نفسك فقالت اخترت وقع الطلاق.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا جرت مقدّمات الخلع بين الزوجين،
فقالت المرأة بعد ذلك «خوشتن خريدم بعدت وكايين» فقالت الزوج «فروختم» تصح،
وإن لم يقل منك، وعلى هذا البيع والنكاح، وحكي عن عمر النسفي أنّه قال:
اتفق المشايخ في زماننا: أنَّ الخلع صحيح بغير الإضافة إلى أحدهما لكثرة
الاستعمال من العامّة، وعدّهم هذا خلعاً صحيحاً فصار بمنزلة قولهم «مرجه
بدست كيرم برمن حرام» ، وبمنزلة البيع والشراء إذا قال البائع بعت هذا،
وقال المشتري اشتريت هذا، فإنَّ هناك يتمّ البيع كذا ها هنا.
وذكر في «المنتقى» : عن محمّد رحمه الله: إذا قالت المرأة لزوجها خلعت نفسي
منك بألف درهم قالت ذلك ثلاث مرّات، فقال الزوج قد رضيت وأجزت كان ثلاثاً
بثلاثة آلاف درهم، ولو قال الزوج للمرأة قد خلعتك على ما لك عليَّ من
المال، قال ذلك ثلاث مرّات ولم يسمّ شيئاً فقالت المرأة قبلت ورضيت طلقت
ثلاثاً، قال لأنّه لم يقع شيء إلا بقبولها (261أ1) .
وفيه أيضاً: إذا قال الرجل لامرأته: أخلعك، فقالت قد فعلت فهذا باطل حتّى
يقول الزوج: قبلت، قال ثمّة: والخلع في هذا من جانب الرجل لا يشبه
التزوّيج، يريد به أن الرجل إذا قال لامرأة: أتزوجك على مائة درهم، فقالت:
فعلت فإنه ينعقد النكاح بينهما وإن لم يقل الزوج بعد ذلك قبلت.
(3/339)
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمّد رحمه الله:
امرأة قالت لزوجها اخلعني، فقال قد خلعتك بألف درهم لم يقع الخلع حتّى قبلت
المرأة قال ثمّة: النكاح والخلع سواء إلا في قول الرّجل لامرأة زوجيني
نفسك، فقالت زوجتك نفسي ولم يذكرا مالاً، فهذا الجواز في النكاح ولا يجوز
في الخلع؛ لأنَّ النكاح يجوز بلا تسمية مال، بخلاف الخلع إذا قالت «خوشتن
خريدم بكيين» ونفقة عدّة، فقال الزوج «يدر فيم» ، فقد قيل لا يقع الخلع
لأنَّ كلام الزوج لا يصلح جواباً لكلامها، فكان ابتداء رجل قال لامرأته «من
خوشتن بازتو بعدت وكايين خريدم» ونوى الطلاق فقالت المرأة «فروختم» ، فقد
قيل صحّ الخلع كمن قال لامرأته أنا منك بائن ونوى الطلاق إنَّ هناك تطلق
المرأة، وأكثر المشايخ على أنّه لا يصح الخلع؛ لأنّه ليس للزوج مهر ولا
نفقة حتّى يصحّ قوله «فريدم بكايين» .
وهو نظير ما لو قال لعبده «خويشتن ازتو خريدم» فقال العبد «فروختم» ، فإنّه
لا يعتق العبد، هكذا قالوا والمعنى الصحيح لمن يقول بعدم الصحّة أنّه أضاف
الشراء إلى غير محلّه؛ لأنَّ الشراء لإثبات الملك فإنّما تصح إضافته إلى
محلّ لا ملك فيه للمشتري، والزوج مالك نفسه فكيف يصح منه شراء نفسه.
نوع آخرمنه
إذا قال لها خالعتك، ولم يذكر المال أصلاً قالت قبلت لا يسقط شيء من المهر
هذا جواب ظاهر الرواية. وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده في أوّل إقرار
«الكافي» ؛ إذا قال لها خالعتك، فقالت قبلت يقع الطلاق وتقع البراءة للزوج
عن المهر إن كان عليه مهر، وإن لم يكن عليه مهر يجب عليها ردّ ما ساق إليها
من المهر؛ لأنَّ المال مذكور عرفاً بذكر الخلع.
وإذا قالت بالفارسيّة: «خويشتن خريدم ارتو» ، فقال الزوج: «فروحتم» تقع
تطليقة بائنة ولا ترد ما قبضت من المهر، وإن لم تقبض برىء الزوج من المهر
لأنَّ الخلع أوجب البراءة، هكذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» ،
ورأيت في بعض الكتب أنَّ في براءة الزوج عن المهر إذا لم يذكر في الخلع
شيئاً روايتان عن أبي حنيفة رحمه الله، والأصح هو البراءة، وفي «شرح
الكافي» : أنَّ الزوج يبرأ عن المهر عند أبي حنيفة رحمه الله، وإن ما يذكر
في الخلع شيئاً، ولا تسقط نفقة العدّة إلا بالذكر، وإذا قال لها خالعتك
ونوى الطلاق يقع الطلاق، ولا يبرأ الزوج عن المهر بالاتفاق.
وإذا قال لها بالعربية: بعت لا يقع الطلاق ما لم يقل اشتريت، وإذا قالت
اشتريت حتّى يقع الطلاق، فحكم المهر ما ذكرنا فيما إذا قال لها بالفارسية
«مروحيمت» هذا إذا خالعها، ولم يذكر المال أصلاً.
وأمّا إذا خالعها على جميع مهرها والمهر مقبوض وذلك ألف درهم والمرأة مدخول
بها كان عليها ردّ ما قبضت من المهر، أو ردّ مثله وإن كان غير مقبوض سقط عن
الزوج جميع المهر؛ لأنّه وجب للزوج عليها ألف درهم لأنه خالعها على مهرها
ومهرها ألف
(3/340)
درهم، وكان للمرأة على الزوج مثل ذلك
فيلتقيان قصاصاً، ولا يتبع أحدهما صاحبه بشيء من المهر بسبب الطلاق في
الفصلين جميعاً، وإن لم يكن الزوج دخل بها فخالعها والمهر مقبوض، فالقياس
أن يرجع الزوج عليها بألف وخمسمائة، ألف بدل الخلع وخمسمائة نصف المهر
بالطلاق قبل الدخول، وفي الاستحسان يرجع عليها بألف درهم لا غير خمس مائة
بدل الخلع وخمس مائة بالطلاق قبل الدخول، وإن كان المهر غير مقبوض فالقياس
أن يرجع الزوج عليها بخمسمائة.
وفي الاستحسان لا يرجع عليها بشيء ويبرأ عن جميع المهر، وبيان وجه
الاستحسان أنّه أضاف الخلع إلى مهرها ومهرها ما يجب لها بالنكاح والواجب
لها بالنكاح متى ورد الطلاق قبل الدخول نصف المهر، وذلك خمس مائة، فكأنّه
خالعها على ذمّة الزوج خمس مائة بعد الطلاق قبل الدخول فالتقيا قصاصاً، وإن
كان مقبوضاً يرجع الزوج عليها بألف لا غير خمس مائة بدل الخلع، وخمس مائة
بالطلاق قبل الدخول، كذا ها هنا هذا إذا خالعها على جميع مهرها.
وإن خالعها على بعض مهرها بأن خالعها على عشر مهرها مثلاً والمهر مقبوض،
وذلك ألف درهم والمرأة مدخول بها فللزوج عليها من المهر مائة بدل الخلع،
والباقي سالم لها وإن كان غير مقبوض سقط عن الزوج عشر الألف بدل الخلَع
للاختلاف، وتسقط التسعة المائة الباقية بسبب أي المهر الخلع عند أبي حنيفة
رحمه الله؛ لأنَّ الخلع عنده يوجب براءة كل واحد منها عن صاحبه عن حقوق
النكاح، سمّى ذلك في الخلع أو لم يسمّ وعندهما لا يسقط والتسعمائة الباقية؛
لأنَّ عندهما لا تسقط بالخلع إلا ما سمّيا فيه وإن لم يكن الزوج دخل بها
والمهر مقبوض، فالقياس أن يرجع الزوج عليها أنَّ الستمائة بدل الخلع وخمس
مائة بالطلاق قبل الدخول بها.
وفي الاستحسان: يرجع عليها بخمس مائة وخمسين درهماً؛ لأنّه أضاف الخلع إلى
عشر مهرها وبالطلاق قبل الدخول تبيّن أنَّ مهرها خمس مائة، وأنَّ عشرها
خمسون وكأنّه خالعها على خمسين، وإن كان المهر غير مقبوض فعلى قول أبي
حنيفة رحمه الله على حقّ أنَّ الاستحسان لا يرجع المرأة على الزوج بشيء
وعلى قولهما على جواب الاستحسان، سقط عن الزوج خمسون درهماً بسبب الخلع
ويرجع عليه بأربعمائة وخمسين بناءً على الأصل الذي مرّ، وعلى هذا القياس
يخرج جنس هذه المسائل هذا إذا خالعها على جميع مهرها أو على بعض مهرها.
وإن بارأها على جميع مهرها، أو على بعض مهرها، فعند محمّد رحمه الله الجواب
فيه، كالجواب في الخلع لا يسقط إلا ما سميّا فيها، وعندهما (261ب1) الجواب
فيها، كالجواب في الخلع على قول أبي حنيفة رحمه الله حتّى برىء كل واحد
منهما عن صاحبه عن جميع حقوق النكاح.
وأمّا إذا خالعها على مال مسمّى معروف سوى الصداق؛ فإن كانت المرأة مدخولاً
بها والمهر مقبوض، فإنّها تسلم إلى الزوج بدل الخلع ولا يتبع أحدهما صاحبه
بعد ذلك
(3/341)
بشيء، وإن كان المهر غير مقبوض فالمرأة
تسلّم إلى الزوج بدل الخلع، ولا ترجع على الزوج بشيء من المهر عند أبي
حنيفة رحمه الله طلاقاً لهما على الأصل الذي قلنا، وأمّا إذا كانت المرأة
غير مدخول بها والمهر مقبوض فإن الزوج يأخذ منها بدل الخلع، ولا يرجع عليها
بنصف المهر بسبب الطلاق قبل الدخول عند أبي حنيفة رحمه الله، وبهذا الفصل
تبيّن أنَّ ما ذكر من جواب الاستحسان فيما إذا خالعها على مهرها والمرأة
غير مدخول بها والمهر مقبوض قول أبي يوسف ومحمّد رحمهما الله، وإن لم يكن
المهر مقبوضاً يأخذ الزوج منها بدل الخلع، وهي لا ترجع على زوجها بنصف
المهر عند أبي حنيفة خلافاً لهما.
وأمّا إذا بارأها بمال معلوم سوى المهر فالجواب فيه عند محمّد كالجواب في
الخلع عنده، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف الجواب فيه كالجواب في الخلع عند أبي
حنيفة.
وأمّا نفقة العدّة ومؤنة السكنى إن شرط ذلك في الخلع فالمبارأة تقع البراءة
عليهما للزوج بلا خلاف، وإن لم يشترط ذلك في الخلع فالمبارأة لا تقع للمرأة
بالإجماع، أمّا على قولهما فلا مشكل، وأمّا على قول أبي حنيفة فلأنَّ الخلع
عنده إنّما يوجب البراءة عن حقوق قائمة وقت الخلع ونفقة العدّة تجب شيئاً
فشيئاً، والخلع لا يمنع ثبوت حقّ بعده، وإن شرطا البراءة عن السكنى في
الخلع لا يصح؛ لأنَّ السكنى في بيت العدّة حقّ الله تعالى وإسقاطها لا يعمل
في حقّ الله.
وأمّا نفقة الولد وهي مؤنة الرضاع فلا تقع البراءة عنها إن لم يشترط ذلك في
الخلع والمبارأة بالإجماع، وإن شرطا إن وقتا لذلك وقتاً بأن قال: إلى سنة،
أو ما أشبه ذلك جاز، وإن لم يوقتا لا يجوز ولا تقع البراءة عنها، وأمّا دين
آخر سوى المهر فلا تقع البراءة عنها في الخلع، والمبارأة بدون الشرط في
«ظاهر الرواية» عن أبي حنيفة رحمه الله، وفي رواية الحسن عنه تقع البراءة
عنه بدون الشرط.
وإذ قالت: «خويشتن خيدم بهر حقي كي مرا بد توايت» لا تقع البراءة عن نفقة
العدّة؛ لأنَّ نفقة العدّة ليست لها عليها في الحال، وأمّا إذا طلقها بمال
آخر سوى المهر فالجواب فيه عندهما كالجواب في الخلع، وأما عند أبي حنيفة
رحمه الله فقد روى الحسن عنه أن كل واحد منهما يبرأ عن حقوق النكاح، وبه
أخذ الفقيه أبو بكر البلخي رحمه الله. وفي «ظاهر الرواية» عنه لا يبرأ، وبه
أخذ عامّة المشايخ. وأمّا إذا كان العقد بلفظة البيع بالعربية، أو
الفارسيّة فعلى قولهما الجواب فيه كالجواب في الخلع.
وأمّا عند أبي حنيفة رحمه الله فقد اختلفت المشايخ فيه، وإذا خالعها بما
لها عليه من المهر وقع الطلاق، ظنّاً منه أنَّ لها عليه بقيّة المهر ثمَّ
علم أنه لم يبق لها عليه من المهر وقع الطلاق على مهرها، فيجب عليها أن ترد
المهر؛ لأنّه طلّقها بطمعٍ خالصٍ عليه، فلا يقع الخلع مجاناً.
ونظير هذا ما لو خالعها على عبدك الذي لك عبدي أو على متاعك الذي في يدي
(3/342)
فإذا ليس في يديه شيء وقع الخلع على مهرها،
إن لم تقبض المهر برىء الزوج عنه، وإن قبضت ردّت المهر عليه، فأمّا إذا علم
الزوج أن لا مهر عليه وباقي المسألة بحالها يصح الخلع، ولا يرد على الزوج
شيئاً، بمنزلة ما لو خالعها على ما في هذا البيت من المتاع والزوج يعلم
أنّه لا متاع فيه، ذكره الصدر الشهيد رحمه الله في الباب الأوّل من
«الواقعات» .
وعلى هذا إذا قال لها: بعتك تطليقة بمهرك والزوج يعلم أنّه لم يبقَ لها
عليه شيء من المهر، فاشترت هي يقع الطلاق رجعياً مجاناً، وإذا تزوّج امرأة
على مهر مسمّى، ثمَّ طلقها بائناً ثمَّ تزوجها ثانياً على مهر آخر ثمَّ
اختلعت من زوجها على مهرها يبرأ عن المهر الثاني دون الأوّل؛ لأنَّ الخلع
وقع في هذا النكاح فينصرف إلى مهر هذا النكاح. وكذلك لو قالت بالفارسيّة:
«خويشتن خريدم آزتو بكايين ويهمه حقها كحرابرتواست» لا تبرأ عن المهر
الأوّل، والله أعلم بالصواب.
تمَّ هذا الكتاب بحمد الله وحسن توفيقه في يوم الخميس في شهر ذي القعدة سنة
أربعين وثمانمائة الهجرية على يد العبد الفقير الحقير، على ابن حمشيد بن
حسن......... في مدينة الكرمان يتلوا في الدفتر الآخر.
نوع آخر منه
إذا اختلعت المرأة من زوجها على شيء آخر سوى المهر مهر بين ما فيه من كتاب
الطلاق،.... الأوّل: في بيان أنواعه. الثاني: في بيان شرط صحّته وحكمه.
الثالث: في بيان من يقع طلاقه ومن لا يقع. الرابع: فيما يرجع إلى صريح
الطلاق. الخامس: في الكنايات والمشيئة والتفويض. ويتصل به إيقاع الطلاق على
المبانة، وعلى المطلقة بصريح الطلاق. السادس: في الإيقاع بالكتاب، والصلاة
والسلام على خير خلقه محمّد وآله أجمعين الطيبين الطاهرين.
نوع آخر منه
إذا اختلعت المرأة من مهرها عن شيء آخر سوى المهر فهذا على وجوه: الأوّل:
أن يسمّي في الخلع شيئاً لا قيمة له أصلاً نحو الخمر والخنزير والميتة
والدّم، وفي هذا الوجه الخلع واقع، ولا شيء للزوج على المرأة؛ لأنّ الزائل
بالخلع عن الزوج منافع البضع، ومنافع البضع غير متقوّمة في الأصل لعدم
المماثلة، ولا تصير متقوّمة بنفس الخلع؛ لأنَّ الخلع بغير مال جائز، وإنّما
تصير متقوّمة إذا سمّى في الخلع ما هو مال من كل وجه، والخمر وما أشبهها
مال من وجه دون وجه؛ لأنّها إن كانت مالاً عند غيرنا فليس بمال عندنا، ولا
يثبت التقوّم بتسميتها فوقع الخلع مجّاناً لهذا الوجه.
الوجه الثاني: أن يُسمّى في الخلع مالٌ احتمل أن يكون مالاً، وأن لا يكون
(262أ1)
(3/343)
مالاً بأن اختلعت على ما في بيتها، أو على
ما في يدها من شيء، فإن اسم الشيء كما يتناول المال يتناول غير المال، وفي
هذا الوجه ينظر إن كان في يدها أو في بيتها في تلك السّاعة شيء فذلك للزوج،
وإن لم يكن في بيتها ولا في يدها شيء فلا شيء للزوج، وهذا لأنَّ البدل في
العقود لا يثبت إلا بالتسمية أو بمقتضى العقد، أو بالإشارة، ولم يوجد ها
هنا تسمية المال ... ، وهذا ظاهر، ولا مقتضى العقد فإنَّ الخلع بغير مال
صحيح، وكذلك لم توجد الإشارة إلى المال، فلم يثبت ذكر المال أصلاً، فلهذا
يقع الخلع مجّاناً، وكذلك إذا اختلعت على ما في بطون غنمها أو جاريتها ولم
ينصّ على الولد؛ فإن ما في البطن قد يكون مالاً، وقد لا يكون بأن تكون
ريحاً.
الوجه الثالث: إذا سمّت في الخلع ما هو مال، إلا أنّه ليس بموجود في الحال،
وإنّما توجد في الثاني بأن اختلعت على نمو نخيلها العام أو على ما تلد
أغنامها العام، أو على ما تكسب العام، وفي هذا الوجه وجب عليها ردّ ما قبضت
من المهر وجد ذلك أم لا؛ لأنَّ المعدوم لا يصح ذكره عوضاً في شيء من العقود
فيبقى مجرّد تسمية ما هو مال متقوّم، وذلك يوجب ردّ ما قبضت من المهر على
الزوج لما نُبَيِّن بعد هذا إن شاء الله.
الوجه الرّابع: إذا سمّت في الخلع ما هو مال لا يتعلق وجوده بالزمان إلا
أنّه مجهول لا يقف على قدره، بأن اختلعت على ما في بيّتها أو يدها من
المتاع، أو اختلعت على ما في نخيلها من الثمار، أو اختلعت على ما في بطون
غنمها من ولد، أو على ما في ضرع غنمها من لبن، وفي هذا الوجه إن كان هناك
ما سمّت في الخلع فللزوج ذلك، وإن لم يكن هناك شيء لزمها ردّ ما قبضت من
المهر؛ لأنّه صار مغروراً من جهتها تسمية ما هو مال، ولا يمكن الرجوع إلى
قيمة هذه الأشياء بجهالتها نفسها، ولا يمكن الرجوع إلى قيمة البضع عند
الخروج عن ملك الزوج فوجب الرجوع إلى ما قام على الزوج، وذلك ما أعطاها من
المهر.
الوجه الخامس: إذا سمّت في المتاع ما هو مال، وله مقدار معلوم بأن اختلعت
على ما في يدها من دراهم، أو دنانير، أو فلوس، فإنَّ أوّل ما يطلق عليه اسم
الدراهم ثلاثة، فإن كان مقداره معلوماً، وفي هذا الوجه ينظر إن كانت في
يدها ثلاثة دراهم فصاعداً فللزوج ذلك، وإن لم يكن في يدها شيء من ذلك فله
ثلاثة......... من الدراهم والدنانير وعدداً من الفلوس، وإنّما أوجبنا أوّل
ما يطلق عليه اسم الدراهم والدنانير؛ لأنّها تلتزم بمقابلة ما ليس بمال ولا
متقوّم، فكان هذا في حقّها.... الإقرار والوصيّة.
ومن أقرّ لغيره بدراهم أو أوصى له بدراهم، فإنّه يلزمه ثلاثة دراهم، وإن
كان في يده درهمان يؤمر بإتمام ثلاثة دراهم؛ لأنها ذكرت ما التزمت باسم
الجمع والمثنى إن كان فيه معنى الجمع فليس بجمع مطلق، فإنّ التثنية غير
الجمع.
(3/344)
فإن قيل: قد ذكرت في كلامها كلمة (من)
وإنّها للتبعيض والدرهمان بعض الجمع، ولا تلزمها الزيادة عليها.
قلنا: كلمة من إنها تذكر للتبعيض في كل موضع كان الكلام صحيحاً بدونها،
أمّا في كلّ موضع كان الكلام مختلاً بدونها فكلمة من تكون صلة تصحيحاً
للكلام، وها هنا الكلام يختلّ بدون كلمة من، فإنّها تصير قائلة: اخلعني على
ما في يدي دراهم، وهذا كلام مختل فجعلناها صلة فبقي لفظ الجمع في الدراهم
معتبراً.
جواب آخر: أنَّ كلمة من في مسألتنا عملت مرّة في التمييز؛ لأنّها دخلت على
ما هو عام وهو قولها على ما بدىء فبقولها من الدراهم ميّزت الدراهم من
غيرها، وإذا عملت في التمييز مرّة لا تعمل في التبعيض مرّة أخرى، وإذا لم
تعمل هذه الكلمة في تبعيض الدراهم صار ذكرها في حقّ الدراهم ولا ذكر
بمنزلة، ولو لم تذكر كلمة من وقالت: اخلعني على ما في الدارهم التي في يدي
لزمها ثلاثة دراهم؛ لأنّه أقل ما يطلق عليه هذا الاسم.
الوجه السادس: إذا سمّت في الخلع ما هو مال، وأشارت إلى ما ليس بمال بأن
اختلعت على هذا الدن من الخلّ فإذا هو خمر، وفي هذا الوجه: إن علم الزوج
بكونه خمراً فلا شيء له، وإن لم يعلم رجع عليها بالمهر الذي أعطاها،
وعندهما له مثل ذلك الدن من الخلّ، كما في الطلاق.
نوع آخر فيما يصلح جواباً، وما لا يصلح جواباً
رجل قالت له امرأته: اخلعني أو قالت: «خويشتن خريدم آزتو بعدت وكايين» وقال
الرجل: أنتِ طالق، أو قال: طلقتك، يقع تطليقة بائنة؛ لأنَّ هذا خرج مخرج
الجواب وإنّه يصلح جواباً فيجعل جواباً.
في «فتاوى أبي الليث» ، وفي «مجموع النوازل» عن شيخ الإسلام أبي الحسن رحمه
الله: أنّه تقع تطليقة رجعيّة، ولم يجعله جواباً والصحيح هو الأوّل، وهكذا
كان يُفتي شيخ الإسلام الأوزجندي رحمه الله، وكذلك إذا قال لها: بعت منك
طلاقك بمهرك التي لك عليّ، فقالت: طلقت نفسي، يقع طلاق بائن بمهرها، بمنزلة
قولها: اشتريت، لأنَّ هذا يصلح جواباً فيجعل جواباً.h
وفي «فتاوى النسفي» إذا قالت المرأة لزوجها: «خويشتن خريدم آزتو بكايين
ونفقة عدة» ، وقال الزوج: «من دست كوتاه كردم» أنّه لا يكون جواباً، وقيل
ينبغي أن يكون جواباً إذا نوى الجواب أو نوى الطلاق. قال لها: بعت منك
تطليقة بمهرك ونفقة عدتك، فقالت المرأة: «بحان خريدم» يصحّ الخلع، ويقع
الطلاق؛ لأنَّ هذا جواب على سبيل المبالغة، كقولها: «بارز وخريدم
المتوسطون» . إذا قالوا للمرأة «بهر حقّي كه ربان راد ركردن شوبان بود بيك
طلاق خويشتن خريدي» فقالت: «خريدم» ، فقال الزوج: «من يك
(3/345)
طلاق نسيت داوم» والمرأة مدخولة بها يقع
تطليقة رجعية؛ لأنّه لو وقع تطليقة بائنة لا يكون سنة، فيكون هذا ابتداء
كلام من الزوج، لا جواب سؤالها.
هكذا ذكر في «فتاوى سمرقند» : ... إلا أنَّ هذا الجواب إنّما يستقيم على
رواية «الأصل» ؛ لأنَّ على رواية «الأصل» : الثاني ليس بشيء، وأمّا على
رواية زيادات «الزيادات» : البائن شيء، ولا يستقيم هذا الجواب على تلك
الرواية، إذا قال لامرأته «بهر حقي كه زنان رادر كردن شوعان بود خويشتن
آزمن خريدي» فقالت: «خريدم» ، فقال الزوج: (262ب1) «روا كنون» لا يقع
الطلاق؛ لأنّ قوله «رواكنون» لا يحتمل الخلع؛ لأنّه يحتمل إظهار النفرة
عنها لما علم بمقالتها، ولا يقع الطلاق إلا بالنيّة في هذا الموضع أيضاً،
وهذا الجواب إنّما يستقيم على قول من يقول في قوله «خويشتن خريدي» ، فقالت
«خريدم» فإنّه لا يتمّ الخلع أيّضاً، وعلى قول من يقول يتمّ الخلع لا
يستقيم هذا الجواب، وكذلك إذا قالت: «خويشتن خريدم آزتو بكايين ونفقة عدة»
، فقال الزوج: «رو» لا يقع الخلع ولا يكون قوله «رو» جواباً إلا بالنيّة.
امرأة قالت لزوجها «خويشتن خريدم» ، فقال الزوج بطريق الاستهزاء: «دارهان
فرو حيت» ، فقد قيل: الخلع صحيح. والجدّ والهزل والقصد وغير القصد فيه
سواء. وإذا قالت لزوجها «هويشتن خريدم بعدت كايين» ، فقال الزوج «فروختم
بسه طلاق» فهذا ابتداء كلام من الزوج وليس بجواب فيتوقف على قبولها، فإن
قبلت يقع الثلاث وإلا لا يقع شيء، إلا إذا كانت المرأة نوت الشراء بثلاث
تطليقات، فحينئذٍ يصحّ الخلع، ويكون كلام الزوج جواباً فتقع الثلاث وكانت
واقعة الفتوى.
امرأة قالت لزوجها «خويشتن خريدم آزتو سكى حانادى» ، فقال الزوج «زمن سكى
كرده فروحتم» فقيل: إن كانت الكردة مثل الحانادي أو أصغر منه يكون جواباً،
وإن كان أزيد منه لا يكون جواباً بل يكون ابتداءً، فيحتاج فيه إلى قبول
المرأة، وإن كانت الكردات مختلفة يسأل الزوج: «كدام كرده خواشتي» ، ويبق
الحكم عليه، وإن قال: لم أرد نوعاً منها بعينه إن قيل: لا يجعل جواباً فله
وجه، وإن قيل: يجعل جواباً يصرف كلامه إلى أصغر الأنواع فله وجه أيضاً، قال
له: «خويشتن بخر بعدت وكايين» فقالت: «خريدم بكايين» لا يقع الخلع ما لم
يقل الزوج بعت؛ لأنّ هذا الكلام من المرأة ليس بجواب؛ لأنّها زادت حرف
الجواب، فإنّه يكفيها أن تقول: «خريدم» ولو قالت: «خريدم بعدت وكايين» يقع
الخلع، فإن لم يقل الزوج بعت، فيجعل ذلك منها جواباً وإن زادت على حرف
الجواب إلا أنّها ما قصدت على التمام بل أعادت جميع ما في السؤال، والزيادة
على حرف الجواب إنّما يمنع الجواب إذاً، فيصير المجيب عن التمام بأن لم يعد
جميع ما في السؤال، وأمّا إذا عاد جميع ما في السؤال لا يمنع الجواب، وهذا
أصل معروف.
في «الجامع» : امرأة قالت لزوجها: «خو يشتن خريدم قروش» ، فقال الزوج:
فعلت، يكون خلعاً، ولو لم يقل: «قروش» لا يكون خلعاً، هكذا قيل وفيه نظر،
وفي «فتاوى الأصل» : امرأة قالت لزوجها: اختلعت منك بكذا، وهو ينسج كرباس
فجعل ينسج ويخاصم ثمَّ قال: خلعتك، إن لم يطل، فهذا جواب، وقيل: هو جواب
وإن طال إذا كانت كلماتهم تتعلّق بالخلع، وحكي عن شمس الإسلام الأوزجندي
رحمه الله: أنّه سئل عن امرأة قالت لزوجها: اشتريت رأسي بكذا، فقال الزوج
بعد اشتغال بكلمات: بعت، قال: إن كان كلامهم يتعلّق بالخلع، لا يتبدّل
المجلس.
وفي «مجموع النوازل» : إذا قالت المرأة «خويشتن خريدم بعدت وكايين» ، فقال
الزوج «بيك آند» فهذا ليس بجواب، وفيه أيضاً: «خويشتن خريدم آزتو بكايين
ونفقة عدت» ، فقال الزوج «فروختم باين وبسه عطريف ديكر» ، فقالت المرأة:
«آند» ، فهذا خلع تام؛ لأنَّ كلامهما الأوّل وقع معتبراً، كلام الزوج جواب
شرط الزيادة، وقوله: «آند» دليل الرضا بالزيادة، فلهذا تمّ الخلع، قالت:
«خويشتن خيدم بمهري ونفقة عدتي» ، فقال الزوج: «فروحتم بحكم خويشن» فهذا
خلع تامّ. إذا قالت: «خويشتن خريدم بعدت وكايين» ، وقال الزوج «فروحته كير»
، فهذا خلع تام، وهذا إذا أراد به الزوج التحقيق، وقد مرّت المسألة من قبل.
امرأة قالت لزوجها «خويشتن خريدم آزتو سكى حانادى» ، فقال الزوج «زمن سكى
كرده فروحتم» فقيل: إن كانت الكردة مثل الحانادي أو أصغر منه يكون جواباً،
وإن كان أزيد منه لا يكون جواباً بل يكون ابتداءً، فيحتاج فيه إلى قبول
المرأة، وإن كانت الكردات مختلفة يسأل الزوج: «كدام كرده خواشتي» ، ويبق
الحكم عليه، وإن قال: لم أرد نوعاً منها بعينه إن قيل: لا يجعل جواباً فله
وجه، وإن قيل: يجعل جواباً يصرف كلامه إلى أصغر الأنواع فله وجه أيضاً، قال
له: «خويشتن بخر بعدت وكايين» فقالت: «خريدم بكايين» لا يقع الخلع ما لم
يقل الزوج بعت؛ لأنّ هذا الكلام من المرأة ليس بجواب؛ لأنّها زادت حرف
الجواب، فإنّه يكفيها أن تقول: «خريدم» ولو قالت: «خريدم بعدت وكايين» يقع
الخلع، فإن لم يقل الزوج بعت، فيجعل ذلك منها جواباً وإن زادت على حرف
الجواب إلا أنّها ما قصدت على التمام بل أعادت جميع ما في السؤال، والزيادة
على حرف الجواب إنّما يمنع الجواب إذاً، فيصير المجيب عن التمام بأن لم يعد
جميع ما في السؤال، وأمّا إذا عاد جميع ما في السؤال لا يمنع الجواب، وهذا
أصل معروف.
في «الجامع» : امرأة قالت لزوجها: «خو يشتن خريدم قروش» ، فقال الزوج:
(3/346)
فعلت، يكون خلعاً، ولو لم يقل: «قروش» لا
يكون خلعاً، هكذا قيل وفيه نظر، وفي «فتاوى الأصل» : امرأة قالت لزوجها:
اختلعت منك بكذا، وهو ينسج كرباس فجعل ينسج ويخاصم ثمَّ قال: خلعتك، إن لم
يطل، فهذا جواب، وقيل: هو جواب وإن طال إذا كانت كلماتهم تتعلّق بالخلع،
وحكي عن شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله: أنّه سئل عن امرأة قالت لزوجها:
اشتريت رأسي بكذا، فقال الزوج بعد اشتغال بكلمات: بعت، قال: إن كان كلامهم
يتعلّق بالخلع، لا يتبدّل المجلس.
وفي «مجموع النوازل» : إذا قالت المرأة «خويشتن خريدم بعدت وكايين» ، فقال
الزوج «بيك آند» فهذا ليس بجواب، وفيه أيضاً: «خويشتن خريدم آزتو بكايين
ونفقة عدت» ، فقال الزوج «فروختم باين وبسه عطريف ديكر» ، فقالت المرأة:
«آند» ، فهذا خلع تام؛ لأنَّ كلامهما الأوّل وقع معتبراً، كلام الزوج جواب
شرط الزيادة، وقوله: «آند» دليل الرضا بالزيادة، فلهذا تمّ الخلع، قالت:
«خويشتن خيدم بمهري ونفقة عدتي» ، فقال الزوج: «فروحتم بحكم خويشن» فهذا
خلع تامّ. إذا قالت: «خويشتن خريدم بعدت وكايين» ، وقال الزوج «فروحته كير»
، فهذا خلع تام، وهذا إذا أراد به الزوج التحقيق، وقد مرّت المسألة من قبل.
نوع آخر
رجل قال لامرأته: كلّ شيء سألني الله تعالى من أجلك سبب المهر وغيره «ترفرو
ختم بان طلاق كيه آن توست» ، فقالت المرأة: اشتريت مرّة يقع الطلاق؛ لأنّه
باع منها ما هو حقّها ولا يصحّ، كما لو قال لغيره: بعت منك خادمك هذا بعبدي
هذا.
في «فتاوى أبي الليث» : ولو قالت: بعت منك مهري، ونفقة عدّتي اشتريت، فقال
اشتريت «خيزورو» فقامت المرأة وذهبت فالظاهر أنّها لا تطلق؛ لأنّه ما باع
نفسها ولا طلاقها منها، وإنّما اشترى مهرها، وهذا لا يكون طلاقاً في هذا
الموضع أيضاً، وهذا إذا لم ينوِ الزوج بقوله «خيزورو» الطلاق.
إذا قال الرّجل لامرأته: بعت منك ثلاث تطليقات بمهرك ونفقة العدّة، فقالت
المرأة مجيبة له: بعت، ولم تقل اشتريت، أو كان كأنّها بالفارسية فقال
الزوج: «فروحتم سنه طلاق بكايين ونفقة عدّت تو» فقالت: «فروحتم» ولم تقل:
«خريدم» ، قال الفقيه أبو بكر الإسكاف رحمه الله: «أنت بهمه» ، كأنّها
قالت: بعت مهري ونفقة عدتي بهذه التطليقة، وقال الفقيه أبو الليث رحمه الله
لا يقع؛ لأنّ كلامها لا يصح جواباً فكان ابتداء، وقول الفقيه أبي بكر أحب
إلينا. إذا قال لها: بعت منك تطليقة، فقالت: اشتريت، تقع تطليقة رجعية
مجّاناً، ولو قال: بعت منك نفسك، فقالت: اشتريت، تقع تطليقة بائنة؛ لأنَّ
قوله بعت نفسك من كنايات الطلاق، وقوله بعتك تطليقة صريح. وإذا قالت: بعت
منك مهري بتطليقة، فقال الزوج: اشتريت، تقع تطليقة بائنة. امرأة قالت
لزوجها: «سيح روز ينست كه از خويشتن نمي حرم» ، فقال الزوج: «من ينومي
فروشم» لا يصحّ الخلع.
ولو قالت: «مردوز خويشتن في خرم» فقال الزوج «من ينومي فروشم» يصحّ الخلع،
(3/347)
وقد قيل: لا يصح الخلع في الوجهين وهو
الأصح. قالت لزوجها: «خويشتن خريدم آزتو ناوندي درهم فعلان سبه ناره جاه» ،
فقال الزوج: «فروختم تران كه ناده روزان حامها بمن وده روز كدشت ونداد» هل
يصحّ الخلع؟ فقد قيل: لا يصحّ. وقال نجم الدين رحمه الله: الخلع صحيح تامّ؛
لأنَّ الشرط هو القبول دون الإعطاء منها وهو الصحيح، وقد مرّ جنس هذا في
الفصل المتقدّم.
رجل قال لامرأته: «فروختي آين رزو سراي (263أ1) بدان طلاق كه ترا سوى منست»
، فقالت: «فروختم» ، فقال الزوج «خريدم» طلقت ثلاثاً، لأنَّ الطلاق الذي
لها عنده الثلاث. قال: ألا يرى أنّه لو قال لها: مالك عندي من الوديعة دخل
كل وديعة لها عنده؟ كذا ها هنا. هكذا ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» قالوا:
إنّما يقع الثلاث إذا نوى الزوج والمرأة الثلاث، قال لها: بعت منك تطليقة
بجميع مهرك، وبجميع ما في البيت غير ما عليك من القميص، فاشترت المرأة وكان
عليها سوار وخلخال، فالخلع واقع، وما عليها من كسوتها وحليتها ما استثنى،
وما لم يستثني فهو لها؛ لأنّ ما في البيت لا يراد به ما عليها.
إذا قال الرّجل لامرأته: اخلعي نفسك منّي بمهرك ونفقة عدّتك، ولغتها
بالعربيّة حتّى قالت: اختلَعت منك بالمهر ونفقة العدّة وأبرأتك عن المهر
ونفقة العدّة وهي لا تعلم بذلك. ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» أنّه إن قبل
الزوج صحّ، وإن لم يقبل لا يصحّ؛ لأنَّ قوله اخلعي نفسك بالمهر ونفقة
العدّة توكيل، والتوكيل لا يعمل بدون العلم من الوكيل، فإذا قالت اختلعت
نفسي منك بالمهر ونفقة العدة كان هذا ابتداء إيجاب منه فيصحّ وإن لم يعلم
بذلك، كمن طلّق أو أعتق أو دبّر وهو لا يعلم، وإذا صحّ الإيجاب يتوقف عمله
على قبول الزوج، فإن قبل صحّ، ويبرأ عن المهر والنفقة فيما مضى بالإبراء
صريحاً. وبعض مشايخنا على أنّه لا يصح الخلع، ولا يبرأ الزوج عن المهر إذا
لم تعلم المرأة بذلك وهو الصحيح؛ لأنَّ الخلع معاوضة فصار بمنزلة البيع،
والعوامّ لو قالوا: بعنا واشترينا ولا يعلمون ذلك لا يصح، بخلاف الطلاق
والعتاق؛ لأن كل واحد منها إسقاط محض، والخلع ليس بإسقاط محض بل فيه معنى
المعاوضة فكان.... البيع، ولا.... الطلاق والعتاق فلا يصحّ من غير علم
لهذه.
رجل قال لامرأته: بعت منك تطليقة بثلاثة آلاف درهم، ثمَّ قال لها ثالثاً
مثل ذلك، فقالت: اشتريت، والزوج يقول: أردت بذلك التكرار، لا يصدّق، ويقع
ثلاث تطليقات، ولا يجب عليها إلا ثلاثة آلاف درهم، لأنَّ الأوّل وإن كان
ثانياً أو الثاني والثالث صريح ولا يجب البدل بهما لانعدام شرط وجوب البدل
بهما، وهو زوال الملك بهما لزواله بالطلاق الأوّل، وصريح الطلاق إذا لم يجب
به المال يلحق الثاني بلا خلاف.
ولو قال لها: بعت منك هذا الثوب بمهرك ونفقة عدّتك، فقالت اشتريت ثمَّ
طلقها،
(3/348)
فبيع الثوب باطل بجهالة نفقة العدّة، ويقع
الطلاق رجعيّاً؛ لأنَّه أتى بصريح الطلاق.
وفي «الأصل» : إذا قالت بعني طلاقي كلّه بألف درهم، فقال: بعت، وقع ثلاث
تطليقات، وله ألف درهم سواء قبلت المرأة بعد ذلك أو لم تقبل وهو الصحيح؛
لأنَّ معنا قولها: بعني طلاقي كلّه بألف درهم، طلقني ثلاثاً بألف درهم، ولو
قالت: طلقني ثلاثاً بألف درهم، فقال: طلقت، لا يحتاج إلى قبول المرأة بعد
ذلك، كذا ها هنا، والله أعلم.
نوع آخر في العوارض بعد وقوع الخلع
ذكر في «فتاوى أبي الليث» : أنَّ من خلع امرأته على مال، ثمَّ زادت في بدل
الخلع أنَّ الزيادة باطلة، لأنَّ هذه زيادة بعد هلاك المعقود عليه، وبهذا
الطريق لم تصح الزيادة في بدل الصلح عن دم العمد. وفي «فتاوى النسفي» : سئل
نجم الدين رحمه الله عمّن خلع امرأته ثمَّ قال في العدّة: «دادمت سه» ، ولم
يزد على هذا هل تطلق ثلاثاً؟ قال: إن نوى الطلقات الثلاث تطلق ثلاثاً، وإلا
فلا. قال: لأنّه لم يتلفّظ بالطلاق فصار كأنّه قال لها: أنت واحدة، وهناك
لا يقع الطلاق بغير نيّة فهنا كذلك، قيل: ينبغي أن لا يقع الطلاق مع
النيّة؛ لأنَّ قوله «دادمت سه» ليس بصريح بل هو من جملة الكنايات، ولهذا
شرطت النيّة، والكنايات لا تلحق المختلعة.
قال: الكنايات التي تقع بائناً لا تلحق المختلعة، وأمّا الكنايات التي تقع
رجعيّاً، نحو قوله: اعتدي، اسبرئي رحمك وأنت واحدة لمجيئها، وهذا لأنَّ
صحّة هذا اللفظ بالإضمار، فإنَّ معنى قوله: «دادمت سه» «دادمت سه» طلاق
كأنّه صرّح بالطلاق، وصريح الطلاق يلحق البائن، والخلع قبل الواقع.
قوله «دادمت سه» مع النيّة الثلاث والثلاث تكون بائن، والمختلعة لا يلحقها
البوائن، قال: المضمر صريح الطلاق، وصريح الطلاق لا يكون بائناً، وإنّما
تثبت البينونة لا لأنَّ اللفظ للبينونة، لكن لأنَّ الواقع الثلاث.... إلا
نوى أنّه لو طلقها مرتين ثمَّ قال لها أنتِ طالق صحّ، فإن كان يصير به
ثلاثاً لما أنّه صريح كذا ها هنا. هكذا حكي عنه رحمه الله، وأظنُّ أنّه لا
حاجة إلى هذا التكلّف، لأنّ الواقع بقوله «دادمت سه» مع نيّة الثلاث إذا
سبقه الخلع تطليقتان، وأنهما لا تكونان بائنتان.
رجل خلع امرأته فقال لها بالفارسيّة «ديكر يده» ، فقال الزوج.... قال أبو
بكر رحمه الله: تقع الثلاث وصار كأنّه قال طلّق الباقي، وقال الفقيه أبو
الليث رحمه الله: وعندي أنّه يقع تطليقة أخرى لا غير؛ لأنَّ قوله «ديكر
يده» بمنزلة قولها طلقها أخرى.
إذا باع من إمرأته تطليقة بمهرها ونفقة عدّتها واشترت هي كذلك، ثمَّ قال
الزوج من
(3/349)
ساعته «هرسه هرسه» ، فخاف أن يقع عليه
الثلاث. هكذا ذكر في «النوازل» ؛ لأنَّ قوله «هرسه هرسه» ينصرف إلى الطلاق؛
لأنّه السابق ذكره فصار كأنّه قال: «أوقعت هرسه طلاق» ، وفي «فتاوى أهل
سمرقند» : إذ خلع إمرأته بتطليقة واحدة، فقال له رفقاؤه لِمَ فعلت هكذا؟
فقال بالفارسيّة «روسه باد» لا يقع بهذا الكلام شيء؛ لأنَّ هذا ليس بإيجاب.
وفي «فتاوى الفضلي» : إذا خالع إمرأته فقيل له: كم نويت؟ فقال شاءت، فإن لم
يؤكد الزوج طلقت واحدة؛ لأنَّ تفويض المشيئة إليها ليس بشيء. وفي «فتاوى
أهل سمرقند» : إذا قالت لزوجها اخلعني، وقالت بالفارسيّة «سه خوام» ، فقال
الزوج «سه باد» ، ثمَّ خالعها بعد ذلك تطليقة تقع واحدة؛ لأنّه لم يقع بقول
«سه باد» شيء، يعني الحكم للخلع وأنّه وقع بالواحدة، والله أعلم (263ب1) .
نوع آخر منه
ذكر ابن سماعة عن محمّد رحمه الله في امرأة اختلعت من زوجها بِمَالَها على
الزوج من المهر والرضاع للولد التي هي حامل به إذا ولدته لسنتين، وذلك
جائز، فإن ولدته فمات أو لم يكن في بطنها ولد منه، فإنّها تردّ قيمة
الرضاع، قال بعد هذا ولو مات الولد أو ماتت بعد بيّنة، عليها قيمة رضاع
ببيّنة، ولو شرطت أنّها إن ولدته ثمَّ مات قبل الحولين، فهي ترثه من قيمة
الرضاع، فذلك جائز وهذا ممّا يجوز في الخلع.
قال بعد هذا: وكذلك لو قالت: على أن أحملك على دابتي هذه إلى مكّة، فإن بدا
لك أن تخرج، ولا.... على فهو جائز.
وروى أبو سليمان عن محمّد عن أبي حنيفة رحمهم الله في المرأة تختلع من
زوجها بنفقة ولد له منها ما عاشوا، فإنَّ عليها أن تردّ المهر الذي أخذت
منه.
وروى هشام عن محمّد فيمن خلع امرأته على رضاع ابنه، ولم يسمّ لذلك وقتاً
قال هو جائز وهو على سنتين.
ولو خلعها على رضاع ابنه سنتين، وعلى نفقة ابنه هذا عشر سنين يعني بعد
الفطام. قال: فهو قبل السن هذا مجهول، قال: هذا يجوز في الطلاق.
وعلى هذا إذا خلعها على أن تمسك الولد سنتين وعلى أن تكسوه من مالها في
هاتين السنتين، فالخلع جائز بهذا الشرط وإن كانت مجهولة لما ذكرنا، وإذا
جاز الخلع بهذا الشرط فطلبت من الزوج كسوة الولد لم يكن لها ذلك، وإن لم
تشترط ذلك في الخلع فلها أن تطالبه بكسوة الولد.
ولو خلعها على مهر وعلى أن ترضع الصبي في الحولين كلّ شهر بدرهم جاز، وتجبر
المرأة على الرضاع يعني تجبر لأنّه لو لم تذكر للرضاع بدلاً معلوماً جاز،
فهذا أولى.
(3/350)
وفي «النوازل» : اختلعت من زوجها على مهرها
ونفقة عدّتها، وعلى أن تمسك ولدها منه ستَّ سنين بنفقتها، فلما مضى عليها
أيّام ردّت الولد على الزوج، أجبرت هي على إمساك الولد؛ لأنَّ الخلع بهذا
الشرط قد صحّ فيجب عليها الوفاء بالشرط، وإن تركته على الزوج وتوارت وهربت
فللزوج أن يأخذ قيمة النفقة منها؛ لأنها امتنعت عن إبقاء بدل الخلع، فيجب
عليها قيمة البدل، كما لو اختلعت على عبد ومات العبد كان عليها قيمة العبد،
كذا ها هنا.
وإذا طلّقها على أن تمسك ولده إلى وقت الإدراك ثمَّ إنّها أبت إمساك الولد
أجبرت عليه، وإن أبت فعليها آخر مثل إمساكه إلى وقت الإدراك، وبعض مشايخنا
قالوا: إذا وقع الخلع على إمساك الولد، وهو رضيع إن بيّن المدّة يصح وإن لم
يبيّن المدّة لا يصح، وإنّه يخالف رواية هشام عن محمّد رحمهما الله على ما
ذكرنا. وكذلك قالوا: إذا وقع الخلع على إمساك الولد وهو فطيم بنفقتها لا
يجوز وإن بيّن المدّة، وإنّه يخالف رواية هشام عن محمّد، ويخالف المذكور في
«مجموع النوازل» .
وإذا اختلعت من زوجها على أن تترك ولدها عند الزوج، فالخلع جائز والشرط
باطل في باب الولد عند من يكون في الفرقة.
نوع آخر
رجل خلع ابنته الصغيرة عن زوجها على مالها لم يجز؛ لأنَّ الخلع على مالها
بمنزلة التبرّع بمالها؛ لأنّه يُقابل ما لها بما ليس بمتقوّم؛ لأنَّ منافع
البضع لا قيمة لها عند الخروج على ملك الزوج، والأب لا يملك التبرّع بمال
الصغير والصغيرة، ثمَّ قول محمّد رحمه الله في «الكتاب» إذا خالعها على
مالها لا يجوز محتمل يحتمل أن لا يصحّ الخلع أصلاً، ولا يقع الطلاق، ويحتمل
أن لا يصح جعل مالها بدلاً ويقع الطلاق، وقد اختلف المشايخ فيه، وقيل عن
أصحابنا رحمهم الله: فيه روايتان: في رواية يقع الطلاق، وبه أخذ بعض
المشايخ؛ لأنّه علّق الطلاق بقبول الأب، ولو علّق بشرط آخر هو فعل الأب
كدخول الدار يقع الطلاق إذا وجد الشرط، كذا ها هنا. ولكن لا يجب المال؛
لأنَّ بدل الخلع تبرّع ومال الصغير لا يقبل التبرّع، ومنهم من قال لا يقع
الطلاق إلا إذا قبلت الصغيرة عند الخلع؛ لأنَّ الأب إذا لم يضمن بدل الخلع
كان هذا خلعاً مع....، كأنّه خاطب الأثبت بذلك، فيتوقّف على قبولها والأوّل
أصحّ، ولو خالعها على ألف وهي صغيرة على أنَّ الأب ضامن الألف، فالخلع واقع
والألف واجب على الأب؛ لأن الأب لا يكون أدنى حالاً من الأجنبي، واشتراط
بدل الخلع على الأجنبي صحيح، فكذا على الأب من طريق الأولى.
ولو خالعها على ألف درهم وقبل الأب الخلع، ولكن لم يضمن بدل الخلع لا رواية
في هذا الفصل عن محمّد، وقد اختلف فيه المشايخ، قال بعضهم: لا يقع الطلاق
(3/351)
ما لم تقبل الصغيرة، وقال بعضهم: يقع
الطلاق بقبول الأب، ويجب المال على الأب؛ لأن عبارة الأب عنها في صغرها
كعبارتها في كبرها، ولو قبلت بعدما كبرت وقع الطلاق ولزمها المال، فكذا إذا
قبل الأب، وقال بعضهم: يقع الطلاق بقبول الأب، ولا يجب المال على الأب
أصلاً لعدم الضمان وعلى الصغيرة؛ لأنَّ الصغيرة لا تحتمل التبرّع، وإذا
خلعها الزوج على مهرها وهي صغيرة وقبل الأب وضمن ذلك يتمّ الخلع بقبول
الأب، ويقع الطلاق ويجب بدل الخلع على الأب كما لو كانت بالغة، فبعد ذلك
ينظر إن لم يدخل بها الزوج كان لها على الزوج نصف الصداق، تأخذ ذلك منه إذا
بلغت ثمَّ يرجع الزوج على الأب بذلك، وإن دخل بها الزوج كان لها على الزوج
جميع الصداق، ثمَّ يرجع الزوج على الأب، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله:
أو يرجع الأثبت على الأب بنصف الصداق في الفصل الأوّل، وتملك الصداق في
الفصل الثاني، ولا يرجع على الزوج.
قال رحمه الله أيضاً من مشايخنا من قال: تأويل المسألة (264أ1) إذا خالعها
على مال مثل صداقها، وأمّا إذا خالعها على الصداق لا يجوز الخلع أصلاً، قال
رحمه الله: والأصح أنَّ الخلع على صداقها، وعلى مال مثل صداقها سواء، وكتبت
في كتاب الجعل إذا وقع الخلع على صداقها، وله يضمن المخالع للصداق للزوج لا
شكَّ أنّه لا يسقط صداقها بهذا الخلع، وهل تقع البينونة يُنْظَر إن قبلت
الصغيرة عند الخلع وكانت من أهل ذلك بأن كانت تقبل العقد وتعتبر يقع الطلاق
بالاتفاق، وإن لم تقبل الصغيرة عقد الخلع ينظر إن كان العاقد أجنبياً لا
يقع الخلع والبينونة بالاتفاق، ولكن تكلمّوا أنّه هل يتوقف لأنَّ هذا عقد
لا يحتمله ذلك على إجازتها إذا بلغت، قال بعضهم: لا يتوقف؛ لأنَّ هذا عقد
لا يحتمله في الحال وقال بعضهم: يتوقف.
وهكذا ذكر الخصّاف في شروطه في باب الخلع، وإليه أشار في حيل «الأصل» وهذا
لأنَّ لهذا العقد يجيز حال وقوعه، فإنَّ الأب أو الأجنبي الآخر لو قال
للزوج: اضمن لكن بدل الخلع للحال يجوز، فجاز أن يتوقّف.
وأمّا إذا كان العاقد أباً ولم يضمن الصداق هل يقع الطلاق؟ فقد ذكر شيخ
الإسلام رحمه الله في شرح كتاب «الطلاق» أنَّ فيه اختلاف المشايخ، وذكر شمس
الأئمة الحلواني رحمه الله أنَّ فيه روايتين: على رواية الشروط يقع الطلاق
ولا يسقط صداقها، وعلى رواية الحيل: لا يقع الطلاق، قال شيخ الإسلام رحمه
الله: ما ذكر في الشروط محمول على ما إذا ضمن الأب بدل الخلع توفيقاً بين
رواية الشروط وبين رواية الحيل.
ولو خلع ابنته الكبيرة على صداقها وضمن الأب الصداق أو كان مكان الأب
أجنبياً، وضمن الصداق للزوج يقع الطلاق، ثمَّ ينظر إن أجازت أنَّ صداقها
بدل الخلع عمل إجازتها، وإن لم يجز كان لها أن ترجع بالصداق على الزوج،
ثمَّ الزوج يرجع على الأب، وهذا لأنَّ الخلع مضاف إلى مالها فيتوقف نفاذه
على إجازتها، فإن أجازت نفذ الخلع عليها، وإن لم تجز كان الخلع على الأب،
كأنّه لم يضف إلى مالها، وصار تقدير
(3/352)
الكلام من الأب خالعاً على إن أجازت، وإن
لم تجز فعلى مقدار ذلك، وإن لم يضمن الأب ذلك فالخلع يقف على قبولها، فإن
قبلت يتمّ الخلع يعني في حقّ المال وما لا فلا، وهذا لأنّ الإيجاب إذا كان
مطلقاً كان إيجاباً على المرأة فيتوقف على قبولها لهذا، ثمَّ قوله: إن قبلت
تمَّ الخلع في حق المال يشير إلى أن الطلاق واقع، وقد كتبت في شرح الحيل أن
في هذه لا يقع الطلاق إلا بإجازتها.j
اختلعت الصبيّة من زوجها وزوجها كبير، فالطلاق واقع والمال لا يجب؛ لأنَّ
بدل الخلع بمنزلة التبرع، والصبية ليست من أهل التبرّع. وذكر المسألة في
«الأصل» مطلقة وقيّدها في حيل «الأصل» بما إذا كانت تعقد العقد وتعبّر عن
نفسها.
وكذلك الأمة إذا اختلعت من زوجها أو طلاقها على جعل، فإنه يقع الطلاق، ولا
يؤاخذ بالجعل في الحال، وإنّما يؤاخذ به بعد العتق. وإن اختلعت بإذن المولى
تؤاخذ به للحال، وتباع فيه إلا أن يقوّمها المولى كما في سائر الديون،
والأمة تفارق الصغيرة،
والعاقلة إذا اختلعت من زوجها، فإنّها لا تؤاخذ ببدل الخلع بعد البلوغ كما
لا تؤاخذ به في الحال. والمدبرة وأم الولد في ذلك كالأمة، إلا أنّها لا
تحتمل البيع فتؤدي البدل من كسبها إذا التزمت بإذن المولى. والمكاتبة لا
تؤاخذ ببدل الخلع إلا بعد العتق سواء اختلعت بإذن المولى أو بغير إذنه.
وإذا اختلعت الأمة من زوجها بمهرها بغير إذن مولاها يقع الطلاق، ولكن لا
يسقط المهر لأنَّ مهرها حقّ المولى ولا يسقط إلا برضا المولى. وإذا وكلت
الصغيرة رجلاً بالخلع، فخلعها الوكيل بصداقها أن يضمن للزوج ذلك تقع
البينونة بالاتفاق، وإن لم يضمن ذكر في كتاب الوكالة أنها تبين من زوجها.
وذكر في «النوادر» : أنّها تبين من زوجها.
نوع آخر
ينبني على أصل أن خطاب الخلع متى جرى بين الزوج وبين المرأة، كان القبول
إلى المرأة، سواء كان البدل مرسلاً أو مضافاً إلى المرأة أو إلى الأجنبي
إضافة ملك أو إضافة ضمان، وأمّا إذا كانت البدل مرسلاً، فكان هذا الخطاب لو
جرى بين الزوج وبين أجنبي وكان البدل مرسلاً كان القبول إلى المرأة، فإذا
جرى بين الزوج وبين المرأة أولى، وأمّا إذا كان البدل مضافاً إلى الأجنبي
ولأن شروع المرأة في الخلع والمبدل سلّم لها بسبب الخلع بمنزلة اشتراط
الضمان على نفسها دلالة؛ لأنَّ البدل بقضيّة «الأصل» إنّما يجب على من
يُسلّم له المبدل، فقد وجد من المرأة اشتراط الضمان على نفسها دلالة بقضيّة
«الأصل» ، ووجود إضافة البدل إلى الأجنبي أيضاً صريحاً ذلك واحد منهما يجوز
أن يكون عاقداً في باب الخلع، فأمّا المرأة فظاهر، وأمّا الأجنبي بدليل
أنّه يجب عليه بدل الخلع بحكم العقد على ما تبيّن، وإذا صلح كلّ واحد منهما
عاقداً كان جعل المرأة عاقدة، حتّى يشترط قبول المرأة أولى؛ لأنّا إذا
جعلنا الأجنبي عاقداً يحتاج إلى إثبات عقد جديد من جهة، مع أنّه لم يوجد
منه العقد حقيقة، ولو جعلنا المرأة عاقدة لا تحتاج
(3/353)
إلى إثبات عقد جديد، فإنَّ العقد وجد منها
حقيقة فجعلنا المرأة عاقدة وشرطنا قبولها وجعلنا الأجنبي كتب لا عنها، حتّى
تبطل إضافة الضمان إليه، وصار تقدير المسألة كأنَّ الزوج قال لها: خالعتك
على ألف درهم على أنَّ فلاناً كتب لاعنك بذلك، ولو نصّ على هذا كان القبول
إلى المرأة، كذا هنا.
وأمّا إذا جرى خطاب الخلع من الأجنبي ومن الزوج؛ فإن كان البدل مرسلاً
فالقبول إلى المرأة. وصورته أن يقول أجنبي للزوج: اخلع امرأتك فلانة على
ألف درهم، فالقبول إلى المرأة؛ لأنَّ الأجنبي يجوز أن يكون هو العاقد بأن
أراد أن يقوله بألف على المرأة، فكان جعل المرأة عادة، والنفقة تحصل لها
(264ب1) أولى.
فإن كان البدل مضافاً إلى الأجنبي إضافة ملك أو إضافة ضمان لا يشترط قبول
المرأة ولا تجعل المرأة عاقدة.
وصورته: أن يقول أجنبي للزوج: خالع إمرأتك على ألف درهم عليَّ، أو على ألف
على أنّي ضامن، أو يقول: خالع إمرأتك على ألفي أو على ألف من مالي، وهذا
لأنا لو جعلنا المرأة عاقدة نحتاج إلى إثبات عقد جديد من جهة المرأة،
والعقد لم يوجد منها حقيقة، ولو جعلنا الأجنبي عاقداً لا نحتاج إلى إثبات
عقد جديد، فجعلنا الأجنبي عاقداً. وصار تقدير هذا الخلع كأن الأجنبي قال
للزوج: خالع إمرأتك على ألفٍ تجب عليَّ لا على المرأة. ولو صرّح بهذا لا
يشترط قبول المرأة؛ لأن القبول إنّما يشترط ممّن عليه البدل لا ممّن يقع
عليه الطلاق؛ لأنَّ القبول إنّما يشترط بوجود البدل لا لوقوع الطلاق.
بيان هذا الأصل من المسائل ما ذكر محمّد رحمه الله في نكاح الجامع: رجل قال
لغيره اخلع امرأتك على هذا العبد، أو على هذا الدّار، أو على هذا الألف
فالقبول إلى المرأة؛ لأنَّ خطاب الخلع وإن جرى بين الأجنبي وبين الزوج
ولكنّ البدل مرسل. وفي مثل هذه الصورة العاقد المرأة وتطلق، هذا إذا قال
الرّجل لغيره: بع عبدك هذا من فلان بألف درهم، أو قال بهذا العبد، يتوقف
على قبوله ولأنَّ في هذا المجلس ... ، ولا يقف على قبوله في المجلس، والخلع
هو على مجلس علم المرأة، والفرق معروف.
ثمَّ إذا قبلت المرأة الخلع كان عليها أن تسلّم للزوج ما سمى في عقد الخلع
إن قدرت على تسليمه؛ لأنّها هي العاقدة، وإن عجزت عن تسليم ذلك بالاستحقاق
أو بسبب آخر فعليها تسليم المثل في المثلي، وتسليم القيمة في غير المثلي.
والبيع في هذا يخالف الخلع؛ لأنَّ البيع ينفسخ بالاستحقاق، ولا ينفي السبب
الموجب للتسليم ليصار إلى المثل أو إلى القيمة، وأمّا الخلع لا ينفسخ
بالاستحقاق فيبقى السبب الموجب للتسليم.
ولو كان قال للزوج: خالع إمرأتك على عبدي هذا، أو على داري هذه، أو على
ألفي هذه ففعل فالخلع واقع ولا يحتاج إلى قبول المرأة؛ لأنَّ عاقد الخلع في
هذه الصورة
(3/354)
الأجنبي لأنَّ خطاب الخلع جرى منه، والبدل
مضاف إليه إضافة ملك، ثمَّ يتمّ الخلع بقول الزوج: فعلت، ولا يحتاج إلى
قبول الأجنبي؛ لأنَّ الواحد يصلح عاقداً في باب الخلع من الجانبين، والعاقد
من الجانبين إذا كان واحداً يتمّ العقد بقوله: فعلت، كالأب إذا باع مال
ابنه من نفسه، فإنّه يتمّ العقد بقوله: بعت. ثمَّ إذا وقع الخلع وجب على
الأجنبي تسليم ما يسمّى في الخلع؛ لالتزامه ذلك.
ولو قالت المرأة لزوجها: اخلعني على عبد فلان، أو قالت: على دار فلان، ففعل
تمَّ الخلع، ولا يحتاج في هذا إلى قبول صاحب العبد والدّار؛ لأنَّ العاقد
في هذه الصورة المرأة؛ لأن خطاب الخلع جرى منها، ولم يشترط في «الكتاب»
قبول المرأة لتمام الخلع، وكذلك لم يشترط قبول المرأة في هذه الصورة في
كتاب الوكالة.
وفي «نوادر ابن سماعة» : يشترط قبول المرأة، فعلى رواية هذا الكتاب يحتاج
إلى الفرق بينما إذا كانت البداية من المرأة وبينما إذا كانت البداية من
الزوج بأن قال لامرأته: خالعتك على دار فلان، أو قال: على عبد فلان، فإنَّ
هناك يشترط قبول المرأة لتمام الخلع. والفرق: أنَّ الخطاب إذا كان من جانب
المرأة فالزوج مأمور بالخلع من جهة المرأة، فيجعل عاقداً من جهة نفسه بطريق
الأصالة، ومن جهة المرأة بطريق النيابة عنها يتمّ الخلع بالزوج، ولا يشترط
قبولها بائناً، فأمّا الخطاب إذا كان من جهة الزوج، فالزوج غير مأمور من
جهة المرأة بشيء، فكان عاقداً من جهة نفسه لا من جهة المرأة، فلهذا يشترط
قبول المرأة. قال: وعلى المرأة تسليم الدّار والعبد إن أجاز ذلك صاحب الدار
والعبد، وإن لم يجز فعليها تسليم القيمة هذا إذا ابتدأت المرأة بالخطاب،
وأمّا إذا ابتدأ الزوج بالخطاب بأن قال لها: طلقتك على عبد فلان أو قال:
خالعتك على عبد فلان كان القبول إلى المرأة؛ لأنّها عاقدة.
ولو أنَّ الزوج خاطب صاحب العبد والمرأة حاضرة، فقال: أنا وفلان قد خلعت
امرأتي بعبدك، فالقبول إلى صاحب العبد إن قبل هو تمّ الخلع وما فلا فلا؛
لأنَّ العاقد في هذه الصورة صاحب العبد؛ لأنَّ خطاب الخلع جرى بين الزوج
وبين صاحب العبد والبدل يضاف إلى صاحب العبد.
ولو أنَّ أجنبيّاً قال للزوج: خالع امرأتك على عبد فلان هذا فالقبول إلى
صاحب العبد.
وكذلك لو قال الأجنبي للزوج: خالع امرأتك بألف على أنَّ فلان ضامن لها،
فالقبول إلى فلان لما ذكرنا ولو قالت المرأة لزوجها خالعني على ألف درهم،
على أنَّ فلاناً ضامن لها ففعل تمَّ الخلع، ولا يلتفت إلى قبول الضمين،
وبعد ذلك ينظر إن قبل فلان المال كان للزوج الخيار إن شاء أخذ المرأة بذلك،
بحكم الأصالة، وإن شاء أخذ الضمين بحكم الكفالة، وإن لم يقبل الضمين من ذلك
لا شيء عليه ولا يبطل الخلع.
نوع آخر
قال في الخالع: امرأة وكّلت رجلاً بأن يخلعها من زوجها بألف درهم، ففعل
الوكيل، فهذا على وجهين:
(3/355)
أما إن أرسل الوكيل البدل بأن قال: خالع
امرأتك على ألف درهم، أو على هذه الألف أو أضاف البدل إلى نفسه إضافة ملك،
أو إضافة ضمان، بأن قال: خالع إمرأتك على ألف درهم من مالي، أو على ألف على
أنيّ ضامن. وفي الوجهين جميعاً يتمّ الخلع بقبول الوكيل؛ لأنَّ الوكيل نائب
عن المرأة، فيكون قبوله كقبولها، فبعد ذلك ينظر إن كان البدل مرسلاً فالبدل
عليها وهي المطالب به؛ لأنَّ الوكيل في باب الخلع سفير، وحقوق العقد ترجع
إلى من وقع العقد له لا إلى السفير ولا لكونه سفيراً أنّه لا يستغني عن
إضافة العقد إلى المرأة، لا بدّ وأن يقول للزوج خالع امرأتك، وفي مثل هذا
الوكيل سفير كما في النكاح.
وإن كان (265أ1) البدل مضافاً إلى الوكيل إضافة ملك أو إضافة ضمان فالوكيل
هو المطالب بالبدل دون المرأة، ويرجع الوكيل بما أدّى على المرأة، وإنّما
كان كذلك؛ لأن ما يجب على الوكيل بالخلع متى كان مضافاً إليه إضافة ملك
وضمان يجب ابتداءً بحكم العقد لا بحكم الكفالة عن المرأة؛ لأنَّ ما يملك
الوكيل من الخلع قبل الوكالة نوعان: نوع يوجب البدل على المرأة بأن يرسل
الوكيل البدل إرسالاً، ونوع يوجب البدل على الأجنبي ابتداءً بحكم الخلع، لا
بحكم الكفالة عن المرأة بأن يخاطب الأجنبي الزوج بالخلع ونصف البدل إلى
نفسه إضافة ملك أو إضافة ضمان.
وإذا كان ما يملكه الوكيل من الخلع قبل الوكالة نوعان وقد أمرا به بالخلع
مطلقاً، والأمر المطلق انصرف إلى النوعين، فكان فائدة الأمر وإن كان مالكاً
لهذا قبل الوكالة الرجوع بما ضمن على الموكل، كما في الوكيل بالشراء، وإذا
كان ما يلزم الوكيل من الضمان متى كان البدل مضافاً إليه إضافة ملك أو
إضافة ضمان يلزمه ابتداءً بالخلع، لا بحكم الكفالة، وقد دخل هذا الخلع تحت
الأمر كان له أن يرجع بما ضمن على موكلته، وكانت المطالبة على الوكيل
خاصّة، كما في الوكيل بالشراء، ولهذا كان له الرجوع على المرأة قبل الأداء،
كالوكيل بالشراء؛ لأنّه يرجع بحكم الخلع ابتداء لا بحكم الكفالة.
وإذا وكلت رجلاً بأن يخعلها من زوجها، فخلعها على عَرَضٍ له يعني للوكيل،
وهلك العرض في يد الوكيل قبل التسليم إلى الزوج فإن الوكيل يضمن فيه ذلك
للزوج؛ لما ذكرنا أنَّ ما يجب على الوكيل بدل الخلع إذا كان البدل مضافاً
إليه يجب ابتداءً بحكم الخلع لا بحكم الكفالة، فصار الوكيل في هذا بمنزلة
المرأة. والمرأة لو اختلعت من زوجها على عرض لها وهلك العرض، كان عليها
تسليم قيمة العرض كذا ها هنا.
قال في «الزيادات» : إذا وكلت المرأة رجلاً بالخلع، ثمَّ رجعت من غير علم
الوكيل لا يعمل رجوعها، فرّق بين هذا وبينما إذا قالت: خلعت نفسي من زوجي
بألف درهم، فاذهب يا فلان إلى زوجي وأخبره بذلك، فلما ذهب الرسول إلى الزوج
أشهدت على أنّها قد رجعت عن ذلك، ثمَّ بلّغ الرسول الزوج ذلك فقبل كان
قبوله باطلاً، حتّى لا يقع عن الخلع علم الرسول بالرجوع أو لم يعلم، والفرق
وهو أنَّ التوكيل إثبات الحكم في حقّ الوكيل، فإنَّ التوكيل إطلاق التصرّف،
والعزل منع له عن التصرّف، ولو صحّ من غير علم الوكيل كان غروراً في حق
الوكيل وإنّه حرام.
(3/356)
وأمّا الرسالة فليست إثبات شيء للرسول؛
لأنّ الرسول ينقل عبارة المرسل، كأنَّ المرسل بنفسه حضر بنفسه وقال ذلك،
ولو صحّ الرجوع من غير علمه لا يكون ذلك غروراً في حقّ نفسه، وكذلك لو رجعت
بعد تبليغ الرسالة قبل قبول الزوج صحّ رجوعها أيضاً وإن لم يعلم الرسول
بذلك، وكذلك هذا الجواب في البيع والعتق والنكاح والإجارة إذا رجع المرسل
قبل قبول المرسل إليه صح رجوعه، وإن لم يعلم الرسول به.
وإذا قالت المرأة لزوجها: اخلعني على ألف درهم، ثمَّ رجعت من غير علم الزوج
لا يصحّ رجوعها؛ لأنَّ هذا توكيل منها للزوج والتوكيل لا يقبل الرجوع من
غير علم الوكيل.
أمر رجلاً أن يخلع امرأته، فليس للمأمور أن يخلعها إلا بمال، رواه بشر عن
أبي يوسف رحمه الله. وروى ابن سماعة عن محمّد رحمه الله: أنّه لو خلعها
بغير مال كان طلاقاً بائناً بلا مال، وَكّل رجلين بالخلع بألف درهم فخالعها
أحدهما بألف درهم وأجاز الآخر ذلك لم يجز، وإن قال أحدهما: قد خلعها وقال
الآخر: قد خلعها، فهو جائز. هشام عن محمّد: إذا وكّل الزوج رجلاً بأن يخلع
إمرأته إن تركت مهرها، فتركت فقال الوكيل: طلقتك ثلاثاً لا يقع شيء في قياس
قول أبي حنيفة رحمه الله. قال محمّد رحمه الله: ونحن نرى أنّه يقع واحدة
بجميع المهر.
وفي «الأصل» أيضاً: إذا قال لغيره إخلع امرأتي، فإن أتت فطلقها بانت المرأة
بالخلع، فطلقها الوكيل، ثمَّ قالت: أنا أختلع، فخالعها جاز إن كان الطلاق
رجعياً، وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رسول المرأة إلى زوجها إذا قال
لها: طلقها أو أمسكها، فقال الزوجة أمسكها ولكن أطلقها، فقال الرسول:
أبرأتك على جميع مالَها عليك، فطلقها الزوج، ثمَّ أنَّ المرأة أنكرت أن
تكون أمرت رسولها بالإبراء والرسول يدّعي، فإن ادّعى الزوج توكيلها للرسول
بذلك فالطلاق واقع وهي على حقّها لأنَّ إقرار الزوج يصح فيما يملك لا فيما
لا يملك. وإن لم يدّع الزوج توكيلها للرسول بذلك فهو على قسمين: إن كان
الرسول قال للزوج أبرأتك عن حقّها عليك على أن تطلقها على ما ذكرنا،
والطلاق غير واقع فهي على حقّها؛ لأنَّ إيقاع الطلاق بالمهر يتوقّف على
إجازتها، وإن لم يكن قال الرسول على أن تطلقها، أو فطلقها، فالطلاق واقع
وهي على حقّها؛ لأنّ....
ولو أنَّ قوماً جاؤوا إلى رجل وزعموا أنَّ امرأته وكّلتهم باختلاعها منه،
فخالعها معهم على ألف درهم وأنكرت التوكيل، إن ضمنوا بدل الخلع للزوج
فالطلاق واقع؛ لأنّ خطاب الخلع جرى بين الزوج وبين الأجنبي وضمن الأجنبي
بدل الخلع، وفي مثل هذا يشترط قبول الأجنبي على ما مرّ، وإن لم يضمنوا فهذا
على وجهين، إمّا أن يدعي الزوج أنّها وكلتهم أو لم يدع إلى آخر ما ذكرنا في
المسألة المتقدّمة، هذا إذا خالع الزوج
(3/357)
معهم. وأمّا إذا باع منهم تطليقة بألف
درهم، قال الفقيه أبو القاسم الصفّار رحمه الله: وقع الطلاق وجد منهم
الضمان أو لم يوجد؛ لأنّ لفظ الشراء لفظ الضمان، قال الفقيه أبو بكر
الإسكاف رحمه الله: هذا والأوّل سواء وعليه الفتوى.
وإذا وكّل الرجل رجلاً بطلاق امرأته، فطلقها بمهرها ونفقة عدّتها أو خالعها
على ذلك، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: يجوز ذلك كانت مدخولاً بها أو غير
مدخول؛ لأنَّ الغالب من عادات النّاس أنّهم يريدون بالتوكيل بالطلاق
(265ب1) الطلاق بجعل، لكن هذا الوجه غير مختار؛ لأنَّ هذا يقتضي أنَّ
الوكيل بالطلاق إذا طلّق مطلقاً أنّه لا يجوز، وهذا بعيد، وقال الفقيه أبو
بكر الإسكاف رحمه الله مرّة: لا يجوز من غير تفصيل بين المدخول بها وغير
المدخول؛ لأنه وكلّه بالتنجيز وقد أتى بالتعليق، وهذا التعليل يوجب التسوية
بين المدخول بها وغير المدخول بها، وبه كان يفتي الشيخ الإمام ظهير الدين
المرغيناني رحمه الله، وهو اختيار الفقيه أبي الليث رحمه الله. وقال الفقيه
أبو بكر الإسكاف رحمه الله مرّة أخرى: إن كانت المرأة مدخولاً بها لا يجوز
وإن لم يكن مدخولاً بها يجوز، وهكذا حكي عن الفقيه أبي القاسم الصفّار، وهو
اختيار الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» . والوجه في ذلك أنَّ المرأة
إذا لم تكن مدخولاً بها، فهذا من الوكيل خلافٌ إلى خير؛ لأنّه وكّله بطلاق
يقطع النكاح مجاناً، وقد أتى بطلاق قطع النكاح بعوض ولا يعدّ ذلك خلافاً
وإذا كانت مدخولاً بها. هذا من الوكيل خلاف إلى شرَ؛ لأنّه وكله بطلاق بغير
عوض، والطلاق بغير عوض في المدخول بها لا يقطع النكاح، وقد أتى بطلاق قطع
النكاح، فكان هذا خلافاً إلى شرَ فاعتبر خلافاً.
وفي «فتاوى أبي الليث» : رجل قال لغيره: طلّق امرأتي على أن تخرج من البيت،
ولا تُخرِجْ منه شيئاً ففعل ثمَّ اختلفا، فقال الزوج: أخرجت، وقالت: المرأة
لم أُخْرِج، فالقول قول الزوج؛ لأنّه ينكر شرط وقوع الطلاق. قال الصدر
الشهيد في «واقعاته» : في المسألة نوعان إيهام أنه أراد بقوله طلّق امرأتي
على شرط أن لا تخرج من البيت، علّق طلاقها بشرط أن تخرج من البيت ولا تخرج
منه شيئاً، فهذا صحيح؛ لأنَّ المعلّق بالشرط عُدِمَ قبل وجود الشرط، فالزوج
بقوله: أخرجتَ شيئاً من البيت أنكر شرط وقوع الطلاق فالقول قوله، وإن أراد
بقوله: طلقها على شرط أن لا تخرج من البيت شيئاً. قل لها: أنتِ طالق على أن
لا تخرجي من البيت شيئاً، فهذا الجواب غير صحيح، لأنها إذا قبلت ينبغي أن
يقع الطلاق للحال أخرجت شيئاً أو لم تخرج، فإنَّ الرواية محفوظة فيما إذا
قال: أنتِ طالق على أن تعطيني ألف درهم ففعلت تطلق وإن لم تعط الألف، وكذلك
إذا قال لها: أنتِ طالق على دخولك الدّار، يقع الطلاق إذا قبلت دخلت أو لم
تدخل؛ لأنّه استعمل الدخول استعمال العوض فكان الشرط قبوله لا وجوده.
قال محمّد رحمه الله في «الأصل» : إذا وكلت المرأة صبيّاً أو معتوهاً أن
يخالعها من زوجها كان التوكيل صحيحاً؛ والصبيِّ والمعتوه في هذا كالبالغ،
وفيه نوع إشكال؛ لأنّ الصبي لا يملك هذا العقد لنفسه، فكيف يملك لغيره،
والجواب: إنّما لا يملك
(3/358)
الخلع لنفسه؛ لأنّه يلزم حكم الخلع فيتضرّر
به، ومتى كان وكيلاً عن غيره لا يلزمه حكم الخلع، ولا ترجع إليه الحقوق ولا
يتضرّر.
نوع آخر في اختلاف الواقع بين الزوج والمرأة، في صحّة الخلع وفساده في
الشهادة في ذلك
إذا خلع امرأته بالفارسيّة «خريدم وفروحتم» ، وقال الزوج: كان في ضميري أني
بعت رأس الشاة، أو قال: قلت: «فروحتم من الانفاذ» أو قال: قلت: «فروحتم»
بالفاء، فقد قيل القول في ذلك قوله مع اليمين، إلا إذا كان قبض بدل الخلع،
فحينئذٍ لا يقبل قوله؛ لأنَّ الظاهر يكذبّه. وقد قيل: لا يقبل قوله قضاءً،
وإن كان لم يقبض بدل الخلع؛ لأنَّ كلامه خرج جواباً، والجواب يتقيد
بالسؤال، والسؤال عن تملك النفس: التوكيل، فيكون الجواب منصرفاً إليه، وعلى
هذا إذا قال: كان في ضميري أنّي بعت «بيد فياي» لا يقبل قوله قضاء عند بعض
المشايخ، وعليه الفتوى.
ولو أشار الزوج عند قوله «فروحت» إلى رأس شاة، أو إلى «بيد فياي» فعلى قول
هؤلاء فهذا ليس بشيء، والخلع هذا صحيح، إلا إذا صرّح وقال: «بيد فناي
فروحتم» فحينئذٍ لا يصح الخلع، هذا لأنّ بالإشارة لا يخرج كلامه من أن يكون
خارجاً مخرج الجواب والسؤال عن تمليك النفس، فينصرف الجواب إليه. ولو أقام
الزوج بيّنة (على) الشاة قبلت بينته، وكذلك إذا قالت: إنّه باع رأس الشاة،
وشهدت بيّنته أو أنه قال: بعت رأس الشاة قبلت بيّنته، وكذلك إذا قامت بيّنة
أنّه قال: «فروحتم من الانفاذ» قبلت بيّنته.
ولو أقامت المشتراة البيّنة بمعارضته أنّه باع نفسها، أو أنّه باعها
فبيّنتها أولى، هكذا قيل وفيه نظر عندي، وينبغي أن تكون بيّنة الزوج أولى.
وفي «فتاوى النسفي» : لو أشهد الزوج شاهدين عدلين أنّ امرأتي إذا قالت: «من
خويشتن خريدم» أقول: «فروختم» بالفاء، ثمَّ اجتمعوا عند القاضي لأجل الخلع
واختلعا فقال الزوج بعد ذلك قد قلت: «فروختم» بالفاء وشهد شاهداه على ذلك،
فإن كان القاضي قد سمع أنّه قال «فروحتم» بالحاء يقضى بالخلع، ولا يلتفت
إلى شهادة شهوده فإني إذا لم تسمع القاضي ذلك، وقال: لم أتيقّن أنّه قال
بالحاء أو بالفاء وشهد شاهداه أنّه قال بالفاء قبل شهادتهما، وقضى ببطلان
الخلع، ولو شهد شاهداه أنّه قال بالفاء، وشهد بعض أهل المجلس أنّه قال
بالحاء قضي بصحّة الخلع شهادة من شهد بالحاء.
وإذا وقع الخلع على بدل مسمّى ودفعت المرأة إليه مقدار المسمّى وقالت: إنّه
بدل الخلع، وقال الزوج: قبضت بجهة كذا غير جهة الخلع، فقد قيل: القول قول
الزوج، وبه
(3/359)
كان يفتي ظهير الدين المرغيناني رحمه الله،
وقيل: القول قول المرأة؛ لأنّ التمليك يصير من المرأة فيكون القول قولها في
بيان جهة التمليك.l
وهذا أصل كبير في الشرع فيما إذا اختلعت الزوج والمرأة في الخلع فقال
أحدهما اختلعا بألف وأقام على ذلك بيّنة،.... أحد الشاهدين أنّهم اختلعا
بألف، وشهد الآخر أنّهما اختلعا بخمس مائة، فإن كان مدّعي الخلع الزوج
فالجواب فيه كالجواب في دعوى مجرّد المال بلا سبب؛ لأنّ المدّعي إذا كان هو
الزوج فالحاجة إلى إثبات المال لا إلى إثبات الطلاق؛ لأنَّ الطلاق وقع
بإقرار الزوج.
ولو وقع الدعوى في الألف المجرّد وشهد أحد الشاهدين بألف والآخر بخمس مائة
فعلى (266أ1) قول أبي حنيفة رحمه الله لا تقبل الشهادة أصلاً، وعلى قولهما
تقبل الشهادة على خمس مائة، كذا ها هنا، وإذا كان مدّعي الخلع المرأة لا
تقبل هذه الشهادة بلا خلاف؛ لأنَّ الحاجة ها هنا إلى إثبات الطلاق؛ لأنّ
الطلاق لا يثبت بمجرّد دعوى المرأة، والطلاق بألفٍ غير الطلاق بخمس مائة؛
لأنَّ شرط وقوع الطلاق بألف قبول الألف، وشرط وقوع الطلاق بخمس مائة قبول
خمس مائة وهما شرطان مختلفان، وليس على كل واحد منهما إلا شاهد واحد.
نوع آخر في الخلع الواقع في المرض
قال محمّد رحمه الله في «الأصل» : إذا اختلعت المرأة من زوجها في مرضها
بالمهر الذي كان تزوّجها عليه فهذا على وجهين: أمّا إن كان الزوج قريباً
منها بأن كان ابن عم لها أو كان أجنبياً عنها، فإن كان الزوج أجنبيّاً فهو
على وجهين: أما إن كانت المرأة مدخولاً بها، أو غير مدخول بها، ومتى كانت
مدخولاً بها، أمّا إن ماتت هي في العدّة، أو ماتت بعد انقضاء العدّة، فإن
كانت مدخولاً بها وماتت هي بعد انقضاء العدّة، وأنّه ينظر إلى المسمّى في
بدل الخلع، وإلى ثلث مالها. فإن كان المسمّى ثلث مالها أو أقلّ فللزوج ذلك.
وإن كان أكثر من ثلث مالها فليس للزوج الزيادة على الثلث إلا برضا باقي
الورثة، وهذا إذا كان لها مال آخر سوى المهر يخرج المسمّى من الثلث، وإن لم
يكن لها مال آخر سوى المهر الذي تزوّجها عليه يعتبر الثلث من المهر وهذا
لأنَّ الخلع منها بمنزلة التبرّع؛ لأنّها تبدل مالاً بإزاء مال يتعلّق به
حقّ الورثة، وهو منافع بضعها. ومن غير حاجتها إلى ذلك فإنّها غير محتاجة
إلى الخلع حاجة أصلية، والتبرّع من المريض إذا حصل مع الأجنبي يصحّ بقدر
الثلث من غير إجازة الورثة، ويقف فيما زاد على الثلث على إجازة الورثة،
والتبرع حصل ها هنا مع الأجنبي لما ماتت بعد انقضاء العدّة؛ لأنّه لم يبق
لها وارثٌ في هذه الحالة، لانقطاع بيّنة الورثة، وهو النكاح بعد انقضاء
العدّة من كلِّ وجه.
(3/360)
وإن ماتت قبل انقضاء العدّة فإنّه ينظر إلى
المسمّى في بدل الخلع وإلى قدر ميراثه منها، فإن كان المسمّى مثل ميراثه
منها أو أقلّ سلّم للزوج ذلك، فإن كان الخلع بمنزلة التبرّع، والمريض محجور
عن التبرّع على الوارث؛ لأنّ المريض إنّما حجر عن التبرّع مع الوارث لما
فيه من إبطال حقّ الباقين عن الزيادة على ميراثه، وليس في قدر ميراث الزوج
إبطال حقّ على الباقين، فلم تصر محجورة عن هذا التبرّع مع الزوج، وإن كان
المسمّى أكثر من ميراثه فيها، فإنّه لا تسلم له الزيادة على ميراثه إلا
بإجازة بقيّة الورثة؛ لأنَّ حقّ الباقين يبطل عند الزيادة على قدر الميراث،
وقد حجرت عن ذلك في حالة المرض بسب النكاح، والنكاح وإن ارتفع بالخلع
فالعدّة باقية، وكلّ حجر يثبت بالنكاح يبقى ما بقيت العدّة على ما عرف أنَّ
العدّة من آثار النكاح بخلاف ما بعد انقضاء العدّة؛ لأنّ بعد انقضاء العدّة
ارتفع النكاح بأثره، فزوال المانع من التبرّع فيما زاد على قدر حقّه في
الميراث إلى تمام الثلث، وصار حاصل التفاوت بينهما قبل انقضاء العدّة،
وبينهما بعد انقضاء العدّة أن بعد انقضاء العدّة لا ينظر إلى قدر حقّ الزوج
في الميراث، وإنّما ينظر إلى الثلث يُسلّم للزوج قدر الثلث من بدل الخلع.
وإن كان أكثر من حقّه في الميراث فسلّم للزوج قدر حقّه في الميراث من بدل
الخلع، ولا تسلم له قدر ثلث مالها إذا كان ثلث مالها أكثر من حقّه في
الميراث. والفرق ما مرّ.
وإن كانت المرأة غير مدخولٍ بها وقد اختلف من زوجها بمهرها فإن النصف يعود
إلى الزوج بحكم الطلاق لا بحكم التبرّع، ألا ترى إنْ طلقها قبل الدخول بها
ولم يختلع منها عاد إلى الزوج ذلك، فلا يعتبر ذلك النصف أصلاً إلى الزوج من
جهة المرأة حتّى يكون تبرّعاً من جهتها، وأمّا النصف الآخر وصل إليه من جهة
المرأة فتعتبر متبرعة في ذلك، وقد حصل التبرّع على الأجنبي؛ لأنّ النكاح
انقطع بأثره فسلم للزوج ذلك النصف من الثلث، وإن لم يكن لها مال سوى المهر
سلّم للزوج ثلث ذلك النصف.
وإن كان الزوج ابن عمّ لها، والمرأة مدخول بها فإن كان لا يرث منها بحقّ
القرابة بأن كان لها عصبة أخرى أقرب منه، فهذا وما لو كان الزوج (أجنبيّاً)
أو إن كان يرث منها بحكم القرابة، وقد جاءت بعد انقضاء العدّة فإنّه ينظر
إلى بدل الخلع وإلى قدر ميراثه منها بحقّ القرابة، فإن كان بدل الخلع قدر
ميراثه أو أقلّ سلّم للزوج ذلك، فإن كان أكثر فالزيادة على قدر ميراثه منها
لا تسلم له إلا بإجازة باقي الورثة.
وإن كانت المرأة غير مدخول بها، فإنَّ نصف المهر سلّم للزوج بالطلاق قبل
الدخول، فلم تعتبر المرأة متبرعة في ذلك النصف، وإنّما تعتبر متبرعة في
النصف الآخر، وقد صارت متبرّعة على الوارث، فينظر إلى ذلك النصف وإلى قدر
ميراثه منها، فتسلّم للزوج الأقلّ منهما، وهذا إذا ماتت من مرضها، وإن برأت
منه تسلم للزوج جميع ما سمّت، بمنزلة ما لو وهبت له شيئاً ثمَّ برأت من
مرضها. ولو اختلعت من زوجها وهي صحيحة والزوج مريض فالخلع جائز بالمسمّى
قلَّ ذلك أو كثر؛ لأنّها وإن صارت متبرّعة إلا أنّها صحيحة، والتبرّع من
الصحيح نافذ، ولا ميراث بينهما سواء مات بعد انقضاء
(3/361)
العدّة أو قبل ذلك بوجود الرضا من كلّ واحد
ببطلان حقّه.
وإن تبرّع أجنبي باختلاعها من الزوج بمال ضمنته للزوج، وكان ذلك من الأجنبي
في مرض الموت، فالخلع جائز والطلاق واقع، ويُعتبر بدل الخلع من ثلث مال
الأجنبي؛ لأنَّ الخلع عندنا تبرع من المرأة مع أنّه يحصل لها بالخلع نوع
فائدة، فَلأَنْ يُعَدُّ تبرعاً من الأجنبي أولى، وإن كان الزوج مريضاً
(266ب1) حين تبرّع الأجنبي باختلاعها فلها الميراث إن مات الزوج من مرضه
ذلك وهي في العدّة؛ لأنها لم ترض بهذا الطلاق، فيعتبر الزّوج فارّاً، والله
أعلم بالصواب.
الفصل السابع عشر: في الأيمان في الطلاق
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
نوع في بيان معرفة اليمين بغير الله وبيان شرائط صحّته.
يجب أن تعلم بأنَّ اليمين بغير الله تعالى ذكر شرط وجزاء يحلف به عادة؛
لأنَّ اليمين بغير الله تعالى إنّما يعرف الجزاء، فإذا كان الجزاء ممّا لا
يحلف به لم يكن هذا التعليق يميناً، وتعليق الجزاء بالشرط على الشرط
الحقيقة وطريقه ما قلنا، والشرط يصحّ في الملك وفي غير الملك، والجزاء لا
يصح إلا بالملك أو في أثره أو مضافاً إلى الملك، أو إلى أثره أو إلى سببه،
وهذا لأنّ الشرط أمر حسّي، فصحته تكون بوجوده حسّاً، وأمّا الجزاء فأمر
شرعي فصحته إنّما تكون بالشرائط التي اعتبرها الشرع للصحّة، والشرع اعتبر
بصحته الجزاء الشرائط التي قلنا تحقيقاً بما هو المقصود من اليمين، وهو
تقوي الحالف على تحصيل الشرط والامتناع عنه؛ لأنَّ الحالف إنّما يتقوّى على
ذلك خوفاً لزوال الجزاء، والخوف إنّما يحصل إذا كان الجزاء غالب النزول عند
الشرط، أو متيقن النزول عند الشرط، وعليه النزول عند الشرط لقيام الملك، أو
أثره للحال وتيقّن النزول عند الشرط بالإضافة إلى الملك، أو إلى سبب الملك،
ثمَّ الشرط إن كان متأخّراً عن الجزاء فالتعليق صحيح وإن لم يذكر حرف الفاء
إذا لم يتخلّل بين الجزاء وبين الشرط سكوت.
ألا ترى أنَّ من قال لامرأته: أنتِ طالق إن دخلت الدّار، أو قال: لعبده أنت
حرّ إن دخلت الدّار يتعلّق الطلاق بالدخول والعتاق بالدخول؟ وإن لم يذكر
حرف الفاء لما لم يتخلل بينهما سكوت، وإن كان الشرط مقدّماً على الجزاء فإن
كان الجزاء اسماً قائماً يتعلّق بالشرط إذا ذكر الجزاء بحرف الفاء؛ لأنّ
الاستعمال بمثله ورد، قال الله تعالى: {إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ
عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
(المائدة: 118) حتّى إنَّ من قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنتِ طالق يتعلق
الطلاق بالدخول.
ولو قال إن دخلت الدّار فأنتِ طالق يقع الطلاق للحال إلا إذا قال: عنيت به
(3/362)
التعليق، فحينئذٍ يديّن فيما بينه وبين
الله تعالى، ولا يديّن في القضاء، وإن كان الجزاء فعلاً، إمّا فعلاً
مستقبلاً أو فعلاً ماضياً فالجزاء يتعلق بالشرط بدون حرف الفاء، به ورد
الاستعمال، قال الله تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَنِيّكُمْ وَلآ أَمَانِىّ أَهْلِ
الْكِتَبِ مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ
اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} (النساء: 123) ويقول الرجل لغيره إن
زرتني زرتك أو أزورك، ويبنى على هذا الأصل ما إذا قال لها: إن دخلت الدّار
فأنتِ طالق، فإنها تطلق للحال لأنَّ الشرط سابق والجزاء اسم ولا يتعلّق
بدون حرف الفاء، وإن قال: عنيت التعليق يديّن أصلاً، هكذا ذكر في «الجامع»
، وبعض مشايخنا قالوا: نسأل الزوج كيف نويت التعليق؟ إن قال بإضمار حرف
الفاء لا تصحّ نيّته أصلاً، وإن قال بالتقديم والتأخير تصح نيّته فيما بينه
وبين الله تعالى ولا يصحّ في القضاء.
وكذلك إذا قال لها: أنتِ وإن دخلت الدّار أنتِ طالق تطلّق للحال، وإن عنى
التعليق ديّن فيما بينه وبين الله تعالى، وكذلك إذا قال لها: أنتِ طالق وإن
دخلت الدار، فإنّها تطلق للحال؛ لأنَّ الواو في مثل هذا التحقيق بقول
الرّجل لغيره أحسن إلى فلان وإن أساء إليك، ومعناه: أحسن إلى فلان على كلّ
حال أساء إليك أو لم يسء فكذا ها هنا. معنى كلام الزوج أنتِ طالق على كلّ
حال، وإن عنى التعليق لا يديّن أصلاً، لا في القضاء ولا فيما بينه وبين
الله تعالى، ولم يذكر محمّد رحمه الله ما إذا نوى به بيان الحال، ومعناه
أنتِ طالق في حال دخولك الدّار.
وحكي عن أبي الحسن الكرخي رحمه الله أنّه قال: يجب أن تصحّ نيّته؛ لأنّ
الواو في مثل هذا يذكر الحال بقول الرجل لامرأته: أنتِ طالق راكبة، ومعناه:
أنتِ طالق في حال ركوبك، وقد نوى ما يحتمله لفظه، ولو قال لها: أنتِ طالق
ولم يذكر بعده حالاً لم يذكر محمّد رحمه الله هذه في الكتب الظاهرة، وفي
«النوادر» المسألة مذكورة على الخلاف، على قول محمّد رحمه الله يقع الطلاق
لا يخلو من ثلاثة أوجه: أمّا إن كان مضافاً ولم توجد الإضافة ها هنا، وإمّا
أن يكون معلّقاً ولا تعليق ها هنا إذ لم يذكر عقيب الشرط فعلاً يتعلّق به،
فيتعيّن تنجيزاً أو إيقاعاً للحال، وعلى قول أبي يوسف: لا يقع الطلاق إلا
إذا ذكر عقيب الشرط فعلاً أنها لا يقع الطلاق في الحال؛ لأن بذكر الشرط
يتبيّن أنَّ ما أراد به الإرسال، وهذا المعنى ينبىء عن ذكر الشرط، لا عن
ذكر الفعل عقيب الشرط، والكلام مع ذكر الشرط لا يكون إرسالاً أصلاً.
ولو قال لها أنتِ طالق، ثمَّ إن دخلت الدّار فإنّه يقع الطلاق عليها للحال،
ولو نوى التعليق لا يصحّ بيَّتَهُ أصلاً، وأمّا إذا نوى المقارنة بأن نوى
وقوع الطلاق مقارناً لدخول الدار، لم يذكر محمّد رحمه الله هذه المسألة في
شيء من الكتب، وكان القاضي الإمام أبو الهيثم يحكي عن القضاة الثلاثة: أنّه
تصحّ نيته فيما بينه وبين ربّه؛ لأنّه نوى ما يحتمله لأنَّ كلمة ثمَّ تذكر
ويراد بها الجمع والمقارنة بين الشيئين مجازاً قال الله تعالى: {فَكُّ
رَقَبَةٍ فَادْخُلِى أَحَدٌ النَّفْسُ الإِنسَنُ الإِنسَنُ أَوْ إِطْعَامٌ
فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ فَادْخُلِى أَحَدٌ الْمُطْمَئِنَّةُ الإِنسَنُ
الإِنسَنُ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ فَادْخُلِى أَحَدٌ ارْجِعِى الإِنسَنُ
الإِنسَنُ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ فَادْخُلِى أَحَدٌ إِلَى
الإِنسَنُ الإِنسَنُ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ
بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ جَلَّهَا نَارٌ تَلهَا
الَّذِينَ الَّذِينَ} (البلد: 13 * 17) ، وكان المراد من ذلك
(3/363)
الجمع والمقارنة، فإنّ فك الرقبة إنّما
ينفع إذا كان معه إيمان، وعامّة مشايخنا على أنّه لا صحّ نيته؛ لأنَّ كلمة
ثمَّ لغة للترتيب على سبيل التراخي لا للمقارنة، ولا للجمع، وفي الآية ما
ثبت الجمع والقِرَان بكلمة ثمَّ وإنّما ثبت بكلام كان بقوله: {ثُمَّ كَانَ
مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ
بِالْمَرْحَمَةِ} (البلد: 17) ؛ لأنَّ كلمة كان يعبّر بها عن الماضي يعني
مع وجود هذه الأفعال كان من قبل مؤمناً، والله أعلم.
نوع آخر: في بيان حروف الشرط
يجب أن تعلم أن حروف الشرط أن، وإذا وما، ومتى، وبينما ومَنْ، وما، وكل،
وكلّما، هذا هو المذكور في كتب عامة المشايخ، وذكر القدوري رحمه الله أن
شروط الإيمان ستة: إذا، وإذا ما، وإن، ومتى، ومهما، وكلما والأصل كلمة إن
فهي شرط محض، وما سواها ففيها معنى الوقت، قال: وهذه حروف تتعلّق بالأفعال
المستقبلة دون الماضي؛ لأنَّ الشرط ما يكون على خط الوجود، وذلك يكون في
المستقبل دون (267أ1) الماضي وتختصّ بالأفعال دون الأسماء؛ لأن الآخرية
تختص بالأفعال دون الأسماء، من قال وبهذا قيل: إنَّ كلمة كل ليست بشرط على
الحقيقة؛ لأنّ الذي يليه اسم على ما نبيّن بعد هذا إن شاء الله تعالى، لكن
جعل بمعنى الشرط إذا وصف الاسم بفعل كقوله: كلّ امرأة أتزوجها، وكلّ عبد
أشتريه، فأخذ معنى الشرط من حيث وصف الاسم بالفعل، كأنّه قال: إن تزوجت، إن
اشتريت.
قال: ويستوي إن دخل على فعله أو فعل غيره لأنَّ الشرط علم على نزول الجزاء،
وفي حقّ العلميّة لا فرق بين فعله وبين فعل غيره، أما لفظ «كه» ، قال
امرأته طالق ثلاثاً «كه آين كاريكى» ، فإن لم يتعارفوا التعريف بقوله «كه»
يقع للحال؛ لأنّه تحقيق، وإن لم يتعارفوا التعليق إلا به لا تطلق ما لم
يوجد الشرط؛ لأنّ المعروف كالمشروط، وإن تعارفوا التعليق بهذا وبصريح
الشرط؛ ذكر الفضلي في فتاويه؛ أنّه يقع الطلاق للحال وبعض مشايخنا قالوا لا
يقع وهو الأصح.
وقد روى ابن سماعة عن أبي يوسف أنّه إذا قال لامرأته: أنتِ طالق لدخلت
الدار، فإن لم يكن دخل الدار تطلق، وإن كان دخل الدار لا تطلق، وهذا وما لو
قال أنتِ طالق إن لم أكن دخلت الدّار سواء، فقد اعتبر قوله لدخلت الدار
شرطاً ولفظ «كه» ترجمة قولهم لدخلت، والله أعلم.
نوع آخر
إذا علّق طلاق امرأته بفعل إن حصل التعليق بكلمة إن وإذا وإذا ما ومتى
ومهما، فهذا على مرّة واحدة، حتّى لو فعلت ذاك الفعل مرّة وقع الطلاق، ولو
فعلت ذلك الفعل مرّة أخرى لا يقع الطلاق، وإن حصل التعليق بكلمة كلّما
فكلّما تكرّر ذلك الفعل يتكرّر الطلاق حتّى يستوفي طلاق الملك الذي حَلف
عليه، ثمَّ يبطل اليمين حتّى لو تزوّجت
(3/364)
بزوج آخر وعادت إلى الزوج الأوّل وفعلت ذلك
الفعل لا يقع الطلاق، أمّا تكرّر الطلاق؛ لأنَّ كلمة كلّما تقتضي تكرار ما
دخلت عليه من الأفعال لما تبيّن، وأمّا بطلاق اليمين باستيفاء طلقات هذا
الملك؛ لأنّ اليمين انعقدت على الملك القائم لا يملك إلا ثلاث تطليقات،
فإذا استوفاها تبطل اليمين؛ لأنّ اليمين إنّما تنعقد على ما تملك إيقاعه،
لا على ما لا يملك إيقاعه، ولو كان أضاف الطلاق إلى ملك الثاني أو إلى كلّ
ملك يملكه بكلمة كلّما بأن قال لامرأته: كلّما تزوجتك فأنتِ طالق فتزوّجها
مرّة بعد مرّة حتّى وقع عليها ثلاث تطليقات وتزوجت بزوج آخر، ثمَّ تزوّجها
الزوج الأوّل تطلق أيضاً؛ لأنَّ في هذه المسألة أضاف الطلاق إلى كلّ ملك
يوجد منه، وطلاق الملك الأوّل وإن ذهب فطلاق الملك الثاني والثالث لم يذهب
فيه من اليمين على الملك الثاني والثالث.
ولو قال: كلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق فتزوّج نسوة طلقن، ولو تزوّج امرأة
واحدة مراراً لم تطلق إلا مرّة واحدة، وقرب بين قوله كل امرأة أتزوّجها،
وبين قوله كلّما تزوجت امرأة، فإنَّ هناك لو تزوّج امرأة مراراً طلقت في
كلِّ مرّة. والفرق: أنَّ كلمة كلّما وكلّ توجبان التعميم لأنّ كل موضوعة
للتعميم؛ لأنَّ ضد البعض، والبعض للخصوص وضدّه وهو لكلّ يكون العموم ...
غير أنَّ كلمة كلّما توجد عموم الأفعال نصّاً ووضعاً، وعموم الأسماء ضرورة
عموم الأفعال؛ لأنّها تصحب الأفعال، ولا تصحب الأسماء، ألا ترى أنّه يقال:
كلّما ذهب وكلّما قام، ولا يقال كلّما رجل وكلّما امرأة والأصل فيه قوله
تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً
كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا
لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً} (النساء:
56) ، وقوله تعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِىَ
فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} (الملك:
8) فإذا أوجبت عموم الأفعال دخل تحت اليمين كلّ تزوّج يوجد منه، فيجب بكلّ
تزوّج منه، أمّا كلمة كل توجب عموم الأسماء لأنها تصحب الأسماء، قال الله
تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ
أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ
الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَوةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَعُ
الْغُرُورِ} (آل عمران: 185) وبكل يقال: كل رجل وامرأة، ولا يوجب عموم
الأفعال؛ لأنّها لا تصحب الأفعال، ألا ترى أنّه لا يقال كلٌّ قام وكلٌّ ذهب
وإذا ثبت أنها توجب عموم الأسماء دون الأفعال ... عموم النساء، لا عموم
التزوّج، ويكون شرط الحنث في كلّ امرأة التزوّج مرّة واحدة.
وعن أبي يوسف في «المنتقى» : إذا قال: كلما تزوّجت امرأة فهي طالق، فتزوّج
امرأة حتّى طلقت لو تزوّجها ثانياً لا تطلق ولا يحنث في هذا مرتين، قال:
وهذا بمنزلة قوله: كلّ امرأة أتزوجها فهي طالق، قال أبو يوسف رحمه الله:
وليس هذا كقوله: كلما تزوّجت إذا خاطبها، فإنّ هناك يقع عليه الطلاق كلّما
تزوجها، أشار إلى أنَّ كلمة كلّما إذا دخلت على المغير، أو على المخاطب
تقتضي التكرار، وإذا دخلت على غير المغيّر لا
(3/365)
تقتضي التكرار، وأوضح هذا بما إذا قال:
كلّما اشتريت هذا الثوب فهو صدقة، وكلّما ركبت هذه الدابة فعليّ صدقة كذا،
فإنّه يلزمه في كلّ دفعة ما التزمه، ولو قال كلّما اشتريت ثوباً كلّما ركبت
دابّة لا يلزمه ما التزم إلا مرّة واحدة، وكذلك قال في حقّ رجل قال: كلّما
كلمت رجلاً فعليَّ أن أتصدّق بدرهم، فكلّم رجلاً واحداً مرتين في موطنين
فإنّما عليه أن يتصدّق بدرهم واحد.
ولو قال لرجل بعينه: كلّما كلمتك فعليّ أن أتصدّق بدرهم، فكلّمة مرتين في
موطنين فعليه أن يتصدق بدرهمين، قال لأجنبيّة بالفارسيّة «آك حزاز توزن
كنم» ، أو قال: «آكر مراجز آز تون باشد» فهي طالق، فتزوّج امرأة ثمَّ أخرى
طلقت الأولى دون الثانية؛ لأنّه لما لم يقل «هررني» كان اللفظ حاصلاً، ولا
يتناول إلا مرّة واحدة وقد حنث بالأولى، ولا تبقى اليمين إذا قال «آكر
مرايد ين جهان زن بودان بسه طلاق» فتزوّج امرأة تطلق، ولو تزوّج الأخرى لا
تطلق، ولو قال لامرأة بالفارسيّة «آكر باين خانة آندر ايتي ترا طلاق» .
قال الناطقي رحمه الله: ها هنا ستة ألفاظ «آكرو ميمي وميمشة وهركاه وهرز
بان وميربار» ، والأوّل فارسيّة قوله «ان» ولا يحنث إلا مرّة واحدة، وقوله:
«ميمي» ، معناه: قوله: متى وقوله: «ميمشة» معناه قوله.... (267ب1) ، فلا
يحنث فيهما إلا مرّة واحدة، وأمّا قوله: «هركاه وحرزمان» ، قال الناطفي:
رحمه الله في «واقعاته» : هذه الألفاظ تشبه كلمة كل، ولا يقع الحنث فيها
إلا مرّة واحدة، وتشبّه بكلمة كلّما فيتكرّر الحنث فيها، ورجّح المشابهة
وكلمة كلّما فيتكرّر الحنث فيها.6
قال الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» : المختار أنَّ في قوله «ميركاه
وميرزمان» لا يقع الحنث إلا مرّة واحدة، وفي قوله «مربار» ، يتكرّر الحنث،
ولو قال: أيُّ امرأة أتزوّجها فهي طالق يقع على امرأة واحدة إلا إن نوى
العموم، هكذا قيل، وكان ينبغي أن لا تصحّ نيّة العموم فيه؛ لأنَّ هذه
الكلمة لا تحتمل العموم، قال أهل اللغة والنحو: كلمة أَن تتناول جزءاً في
جملة ما أضيفت إليه هذه الكلمة غير عين، ألا ترى أنّه لا يستقيم قران فعل
الجماعة بها لا يستقيم أن يقال: أيُّ الرجال أبوك، ويستقيم قران فعل الواحد
بما يستقيم أن يقال: أيَّ الرّجل أباك، غير أنّه صحّ بنيّة العموم باعتبار
أنَّ عرف بعض المواضع هذه الكلمة لجميع النساء فيقع على امرأة واحدة
باعتبار المواضع، وتصح نيّة العموم فيه، باعتبار عرف البعض. وذكر في
«المنتقى» : أنَّ كلمة أي تتناول كل امرأة.
وصورة ما ذكر في «المنتقى» : إذا قال: أيّ امرأة أتزوجها فهي طالق وعمرة
امرأة الحالف، فتزوّج امرأة طلقت هي وعمرة فإن تزوّج امرأة أخرى بعد ذلك
طلقت هي، ولا تطلق عمرة ولا يعود.... في عمرة مرتين. ولو قال: «هر كدام زني
كه ترى كنم» ، فهذا يقع على كلّ امرأة مرّة واحدة، هكذا ذكر الفضليّ رحمه
الله في «فتاويه» ، وذكر
(3/366)
الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» :
أنّه يقع على امرأة واحدة مرّة واحدة، وقيل يقع على كل امرأة مرّة واحدة،
ولو قال أيَّةُ امرأة زوجت نفسها مني، فهذا على كلّ امرأة؛ لأنَّ النكرة
وضعت بصفة عامّة فتعم، بخلاف قوله: أيّة امرأة أتزوّجها، وقوله: أَيّة
امرأة زوّجت نفسها مني، بمنزلة قوله: أي عبيدي ضربَك يا فلان. وقوله: أَيّة
امرأة أتزوّجها بمنزلة قوله أيُّ عبيدي ضربته يا فلان، وبيان مسألة الضرب
في كتاب الأيمان.
نوع آخر في لو ولولا إذا جعل شرطاً
إذا قال لامرأته: أنتِ طالق لو دخلت الدّار، لم تطلق حتّى تدخل الدّار؛
لأنَّ لو بمعنى الشرط، فإنّه يستعمل لأمر مترقب، فصار بمعنى الشرط الذي هو
مترقب الثبوت، فيتوقّف عليه.
وعن أبي يوسف رحمه الله إذا قال لها: أنتِ طالق لو دخلت الدّار لطلقتك،
فهذا رجل حلف بطلاق امرأته ليطلقها إن دخلت الدّار، وهو بمنزلة قوله: عبدي
حرٌّ لو دخلت الدّار وضربتك، وهذا رجل حلف بعتق عبده ليضربها إن دخلت
الدّار، فإن دخلت الدّار في مسألة الطلاق لزمه الطلاق إن طلقها، فإن ماتت
أو مات هو فقد فات الشرط في آخر جزء من آخر الحياة فيقع الطلاق، كما في
قوله: إن لم آتِ فأنتِ طالق فمات قبل أن يأتيها طلقت في آخر جزء من أجزاء
حياته، قال محمّد رحمه الله: إذا قال لامرأته: أنتِ طالق لولا دخولك
الدّار، فهذا استثناء ولا يقع الطلاق عليها، وكذلك لو قال: لولا مهرك عليّ،
والأصل في جنس هذه المسائل أنَّ لولا تستعمل لامتناع الشيء بوجود غيره، قال
الله تعالى: {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَكَ} (هود: 91) فيصير تقدير
كلامه: امتناع وقوع الطلاق عليك لمكان مهرك عليَّ، ولمكان دخولك الدّار.
وقول محمّد رحمه الله في «الكتاب» : هذا استثناء معناه: أنَّ هذا بمعنى
الاستثناء، فإنّه يمنع ثبوت موجب الكلام كالاستثناء.
نوع آخر في حرف الباء
إذا جعل شرطاً إذا قال لامرأته: أنتِ طالق إن خرجت من هذه الدّار إلا
بإذني، أو قال: إلا برضاي، أو قال: إلا بعلمي أو قال لها: أنتِ طالق إن
خرجت من هذه الدّار بغير إذني، فهما سواء؛ لأنّ كلمة إلا وغير للاستثناء،
والجواب فيهما أن بالإذن مرّة لا ينتهي اليمين حتّى لو أذن لها بالخروج
مرّة وخرجت، ثمَّ خرجت بعد ذلك بغير إذنه طلقت، وإنّما كان كذلك؛ لأنّ كلمة
الاستثناء دخلت على الخروج لا على الحرمة البائنة باليمين؛ لأن محلّ
الاستثناء ما هو متعدّد؛ لأنَّ الاستثناء موضوع لاستخراج البعض، وذلك إنّما
يتحقّق فيما هو متعدّد والخروج متعدّد، وأمّا الحرمة البائنة باليمين غير
متعدّدة، فإذا قال لها: إن خرجت، فقد منعها عن جميع الخروجات، واستثنى
خروجاً موضوعاً بإذن، فإذا وجد الخروج بإذن كان مستثنياً عن اليمين فلا
تطلق، وإن وجد الخروج بغير إذن لم يكن مستثناً عن اليمين، فتطلق.
(3/367)
وهو نظير ما لو قال لها: إن خرجت من هذه
الدّار إلا بملحفة، فخرجت بغير ملحفة طلقت فطريقه ما قلنا. والحيلة للزوج
في ذلك أن يقول لها: كلّما شئت الخروج فقد أذنت لك، فإن أذن لها بالخروج في
كلِّ مرّة ثمَّ نهاها عن الخروج؛ قال محمّد رحمه الله: يُعمل نهيه، وقال
أبو يوسف: لا يعمل، وأجمعوا على أنّه لو أذن لها بالخروج مرّة ثمَّ نهاها
يعمل نهيه.
ولو قال لها: أنتِ طالق إن خرجت من هذه الدّار حتّى آذن لك، فأذن لها
بالخروج مرة بينهنّ اليمين، حتّى لو خرجت بعد ذلك بغير إذن لا تطلق؛ لأنَّ
كلمة حتّى كلمة غاية، وقد دخلت على ما يقبل التأقيت، فإن اليمين يقبل
التأقيت بوقت، ألا ترى أنَّ من قال لامرأته: أنتِ طالق إن خرج فلان من هذه
الدّار حتّى الليلة، أو قال: إلى الليلة كانت اليمين مؤقتة. إذا ثبت هذا
فنقول: الزوج جعل ليمينه غاية، وهو إذن، فإذا وجد الإذن مرّة فقد وجدت
الغاية فتنتهي اليمين فلا تطلق بعد ذلك وإن خرجت بغير إذنه، وإن عنى بقوله
حتّى آذن إلا بإذني صحّت نيته فيما بينه وبين الله تعالى وفي القضاء؛ لأنّه
نوى ما يحتمله كلامه وفيه تغليظ عليه، وإن عنى بقوله: إلا بإذني حتّى آذن
صحّت نيته فيما بينه وبين الله تعالى، ولا تصحّ نيته في القضاء، وفي إحدى
الروايتين عن أبي يوسف في القضاء.
ذكر المسألة في «الجامع» من غير ذكر خلاف، وذكر القدوري أنّ على قول أبي
حنيفة ومحمّد، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمهم الله، وفي رواية عن أبي
يوسف: لا تصحّ نيته في القضاء، والوجه لهم: أنَّ (268أ1) أنَّ التكرار ما
ثبت بصريح اللفظ، بل بدلالة حرف الباء، فإذا نوى مرّة واحدة فقد نوى صريح
لفظه، فيصدّقه القاضي في ذلك. ولو قال لها: أنتِ طالق إن خرجت من هذه
الدّار إلا أن آذن لك، فهذا وما لو قال: حتّى آذن لك سواء حتّى ينتهي
اليمين بالإذن مرّة.
إذا قال لها: إن خرجت من هذه الدّار من غير إذني فأنتِ طالق، فأذن لها
بالعربية فخرجت تطلق؛ لأنَّ العلم شرط تحقق الإذن، ولم يوجد. ونظير هذا ما
لو أذن لها وهي نائمة أو غائبة، هكذا ذكر في «النوازل» وفي «أيمان القدوري»
إذا أذن لها وهي نائمة فهو إذن.
وفي أيمان «الأصل» : إذا أذن لها من حيث لا تسمع لم يكن إذناً، إن خرجت بعد
ذلك طلقت في قول أبي حنيفة ومحمّد، وقال أبو يوسف رحمهما الله: هو إذن، ولو
خرجت بعد ذلك لم تطلق، أبو يوسف يقول: الإذن يقوم بالإذن وحده وقد وجد، فهو
بمنزلة ما لو أذن لها وهي نائمة، وهما قالا: الإذن مشتق من الأذان، وهو
الإعلام، ومعنى الإعلام لا يحصل إلا بوصول الكلام إلى سمعها، بخلاف ما إذا
أذن لها وهي نائمة؛ لأنَّ هناك وصل الكلام إلى سمعها إلا أنّه لم يحصل لها
لمانع، فهو بمنزلة ما لو أذن لها وهي عاقلة، وحكي عن أبي شجاع: أنّه لا
خلاف في هذه المسألة، وإنّما الخلاف في الأمر، إلا أنّ أبا سليمان حكى
الخلاف في الإذن.
(3/368)
وفي «المنتقى» : إذا قال لها أنتِ طالق إن
خرجت إلا بأمري، فالأمر أن يسمعها الأمر بنفسه أو رسوله، وإذا أشهد قوماً
على ذلك لم يكن أمراً قال ثمّة، وهذا الخلاف الإذن على أصله؛ لأنَّ حكم
الأمر لا يثبت إلا بعد علم المأمور، كأوامر الشرع بخلاف الإذن؛ لأنَّ
المقصود من الإذن أن لا يكون الخروج مع كراهية، وانعدام الكراهية لا يتوقف
على علمها، ولو أنَّ هؤلاء الذين أشهدهم الزوج على الأمر بلغوها أنَّ الزوج
قد أمرها بالجواب، وإن لم يأمرهم أن يبلغوها فخرجت، فهي طالق وإن أمرهم أن
يبلغوها، فخرجت بعد ذلك لا تطلق. وفي الإرادات والهواء والرضاء لا يشترط
رضاه، وأراد به حتّى لو خرجت بعدما قال رضيت أردت هديت لا تطلق، وإن لم
تسمع هي ذلك، فلا خلاف إنّما الخلاف في الإذن والأمر، وفي هذا الموضع أيضاً
إذا قال لها إن خرجت من هذه إلا بإذني، فأنتِ طالق ثمَّ سمع سائلاً، فقال
لها: أعطِ هذه السائل هذه الكسوة، فإن كان السائل بحيث لا تقدر المرأة على
دفع ذلك إليه إلا بالخروج، فهو إذن لها بالخروج وإن كان بحيث تقدر المرأة
على دفع ذلك إليه من غير خروج، ثمَّ خرج السائل إلى الطريق فخرجت إليه
وأعطته طلقت، ولو دعته فجاء حتّى صار بحال تقدر المرأة على دفع ذلك إليه من
غير خروج، فلم تدفع إليه حتّى انصرف، فخرجت إليه ودفعت ذلك إليه طلقت
أيضاً. ولو حلف بطلاق امرأته على جاريته أن لا تخرج من الدّار إلا بإذنه،
وهي تشتري لها الحوائج، فقال لها: اشتري بهذه الدراهم لحماً، فهو إذن لها
بالخروج، وإذا خرجت بعد ذلك لا تطلق امرأته.
وفيه أيضاً: إذا قال لامرأته: إن خرجت إلا بإذني فأنتِ طالق، فاستأذنيه
بالخروج إلى أبيها، فأذن لها فخرجت إلى منزل أخيها لا تطلق من قبل أنّه إذن
لها بالخروج ولا..... ذهبت إلى الذي أمرها به أو إلى غيره من قبيل أنَّ
اليمين ها هنا على الإذن في الخروج إلى أبيها، فأذن لها فخرجت إلى أخيها
طلقت.
وفي «النوازل» إذا قال لها: إن خرجت بغير إذني فأنتِ طالق، فاستأذنه نية
للخروج إلى بعض أهلها فأذن لها، فلم تخرج إلى ذلك لكنّها كانت تكنس الدّار
فخرجت إلى باب الدّار لتكنس الباب وقع الطلاق؛ لأنّها خرجت بغير إذن؛ لأنّه
إنّما أذن لها في الخروج إلى بعض أهلها ولم تخرج إلى بعض أهلها، فإن تركت
الخروج ثمَّ خرجت في وقت آخر إلى بعض أهلها الذي أذن لها في الخروج؛ قال:
أخاف أن يقع الطلاق عليها؛ لأنَّ هذا إذن في الخروج في هذا الوقت عادة.
وفي «المنتقى» : إذا قالت المرأة لزوجها: ائذن لي في الخروج إلى بيت أبي
فقال: إن أذنت لك في ذلك فأنت طالق ثمَّ قال لها: أذنت لك في الخروج، ولم
يقل إلى أين لا يحنث في يمينه، وهذا بخلاف ما لو استأذن الغلام مولاه في
تزوّج أمة رجل، فقال له المولى: إن أذنت لك في تزوّجها فامرأته طالق، ثمَّ
قال بعد ذلك: قد أذنت لك في تزوّج
(3/369)
النساء، أو قال: أذنت لك في التزوّج حنث
(في) يمينه، وعلّل ثمّة في الفرق فقال: لأنّه لا يكون متزوّجاً غير امرأة،
وقد تكون خارجة من الدّار إلى غير منزل أحد.
ومعنى هذا: أن التزوّج إذا كان لا يكون إلا بالمرأة فإذا أذن له في التزوّج
مطلقاً يثبت الإطلاق في النسوة ضرورة ثبوت التزوّج الإطلاق في التزوّج،
فكان نكاح هذه المرأة داخلاً تحت الإذن، وأمّا الخروج قد يكون لا إلى منزل
أحد، فلم تكن من ضرورة الإطلاق في الخروج الإطلاق في جهة الخروج، فلا يكون
الخروج إلى منزل أبيه داخلاً تحت الإذن فلهذا لا يحنث، وإذا قال لعبده: إن
اشتريت هذا العبد بإذني فامرأتي طالق، ثمَّ أذن له في التجارة، فاشترى هذا
العبد طلقت امرأة المولى، ولو قال: أذنت لك في شراء البُرّ، فاشترى هذا
العبد لا تطلق امرأة المولى؛ لأنَّ الأوّل إذن عام أو مطلق، فتناول شراء
العبد بعمومه أو بإطلاقه، فأمّا الثاني إذن خاص يتقيد بالبرّ، ولا يتناول
بالدّقيق بحقيقته، ولكن صار مأذوناً في التجارات كلّها حكماً لا بإذن ظهر
منه حقيقة، ولا يتحقق شرط الحنث نظراً إلى الحقيقة
المعلى عن أبي يوسف رحمه الله: رجل حلف بطلاق امرأته أن لا تشرب نبيذاً إلا
بإذن فلان، ولا تأكل طعاماً إلا بإذن فلان، قائماً هذا الإذن على شربة
واحدة، وعلى لقمة واحدة.
رجل قال: امرأتي طالق إن (268ب1) دخلت هذه الدّار، إلا أنَّ يأمرني فلان،
فهذا على الأمر مرّة واحدة، ولو قال إلا أن يأمرني به فلان فلا بدّ من
الأمر في كلِّ مرّة. وعلى هذا إذا قال لغيره: إن عملت لك كذا إلا أن يأمرني
فلان فهذا على الأمر مرّة، ولو قال: إلا أن يأمرني به فلان لا بدّ من الأمر
في كلِّ مرّة، والأصل أنَّ الحالف إذا وصل الأمر بالفعل المحلوف عليه بحرف
الفاء يشترط الأمر في كلِّ مرّة، وإذا ذكر الأمر مطلقاً يكتفي بالأمر مرّة
واحدة.
ولو قال لامرأته: إن خرجت من هذه الدّار إلا بإذني فأنتِ طالق، ثمَّ قال
لها أطيعي فلاناً في جميع ما أمرك به، فأمرها فلان بالخروج فخرجت طلقت من
قبل أن الزوج لم يأذن لها بالخروج. وكذلك لو قال الزوج لرجل: ائذن لها في
الخروج، فأذن لها فخرجت طلقت، وكذلك لو قال ذلك الرجل: إنَّ زوجك قد أذن
لك، وكذلك لو قال لها الزوج: ما أمرك به فلان فقد أمرتك (به) ، ثمَّ أذن
لها بالخروج فبلغها ذلك ثمَّ خرجت طلقت، ولو قال الزوج لرجل: قد أذنت لها
بالخروج، فبلغها ذلك ثمَّ خرجت لم تطلق.
قال لامرأته: إن خرجت من هذا الدّار إلا بعلمي أو بغير علمي فأنتِ طالق،
فخرجت وهو يراها فمنعها أو لم يمنعها لم تطلق؛ لأنَّها خرجت بعلمه.
وفي «المنتقى» : إذا قال: إن خرجت من هذه الدّار بغير علمي فأنتِ طالق،
فأذن لها بالخروج فخرجت بغير علمه لا تطلق؛ لأنَّ غرضه أن لا تخرج بغير
رضاه، وفي «القدوري» : إذا قال لامرأته إن خرجت من هذه الدّار إلا بإذني
فأنتِ طالق، ثمَّ قال لها: إن فعلت كذا فقد أذنت لك لا يكون إذناً، ولو قال
لها أذنت لك أبداً، أو الدّهر، أو
(3/370)
كلّما شئت فهو إذن لها في كلِّ مرّة، ولو
قال لها: أذنت لك عشرة أيّام، كان لها أن تخرج في العشرة ما شاءت، ولو عصبت
وتهيّأت للخروج فقال الزوج: دعوها تخرج ولا نيّة له لم يكن إذناً إلا إذا
نوى الإذن، ولو قال لها في غضبه: اُخرجي ولا نيّة له كان على الإذن، إلا
إذا نوى اخرجي حتّى تطلق؛ لأنَّ الأمر قد يقصد به التهديد وقد نوى ما
يحتمله لفظه، وفيه تشديد عليه.
ولو حلف على امرأته بطلاقها أن لا تخرج من الدّار إلا بإذنه، أو حَلّف
السلطان رجلاً بطلاق امرأته أن لا يخرج من البلدة إلا بإذنه، أو حَلَّف
صاحب الدّين مديونه أن لا يخرج من البلدة إلا بإذنه فاليمين.... بحال قيام
الزوجيّة والسلطنة والدّين، فإن بانت المرأة، وعزل السلطان، وسقط الدّين
يسقط اليمين ثمَّ لا يعود أبداً وإن عادت الولاية للسلطان والزوج وعاد
الدّين.
وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف: سلطان حَلَّف رجلاً لا تدخل من هذا المسجد
إلا بإذنه، ثمَّ عُزِل السلطان فقد سقط اليمين، وإن مات فاليمين على حالها.
رجل خرج مع الوالي فحلف أن لا يرجع إلا بإذنه وقد سقط منه شيء فرجع كذلك لا
تطلق؛ لأنَّ هذا الرجوع لا يراد باليمين عرفاً. وعن أبي يوسف فيمن حلف
الطلاق على امرأته أن لا تخرج من بغداد إلا بإذنه، فقال الرجل: لم آذن لك،
فادّعت المرأة الإذن فالقول قول الزوج، ولو قال لامرأته: أنتِ طالق إن خرجت
من هذه الدّار إلا بإذن فلان، فمات فلان قبل الإذن بطلت اليمين في قول أبي
حنيفة رحمه الله ومحمّد خلافاً لأبي يوسف. والأصل عندهما: أنَّ اليمين إذا
انعقدت على فعل في المستقبل ومات المعقود عليه أنّ اليمين تبطل، وعند أبي
يوسف لا تبطل. وسيأتي الكلام فيه في كتاب الأيمان إن شاء الله.
وفي «الفتاوى» : إذا قال إن خرجتِ من هذه الدّار بغير إذني فأنتِ طالق،
فقالت المرأة للزوج تريد أن أخرج حتّى أصير مطلقة، فقال الزوج: نعم، فخرجت
تطلق؛ لأنَّ هذا تهديد وليس بإذن.
نوع آخر في ذكر مسائل الشرط بكلمة إن
ذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب «الحيّل» : إذا وهب الرجل لرجل مالاً، ثمَّ
إنّ الواهب قال للموهوب له: امرأتي طالق إن أنفقت هذا المال الذي وهبت لك
إلا على أهلك، ثمَّ إنَّ الموهوب له أنفق بعض الهبة على أهله وقضى بالباقي
ديناً عليه أو حجّ لا تطلق امرأة الواهب. علّل فقال: شرط برِّه إنفاق جميع
الهبة على أهله، فيكون شرط حنثه ضدّ ذلك وهو إنفاق جميع الهبة على غير
أهله، ولم يوجد ذلك ها هنا. قال: وهو نظير ما لو حلف لا يأخذ ماله على فلان
إلا الجميع، فأخذ البعض دون البعض لا يحنث؛ لأنَّ شرط برّه أخذ جميع الدّين
جملة، فيكون شرط حنثه ضدّه، وهو أخذ جميع الدّين
(3/371)
متفرّقاً، وستأتي مسألة الاستشهاد في كتاب
الأيمان مع أجناسها إن شاء الله.
إذا قال لامرأته: إن أكلت من القِدر الذي تطبخي أنتِ فأنتِ طالق، فإن أوقدت
هي النّار فهي طابخة سواء حصل الإيقاد بعدما وضعت القدِر على الكانون أو في
التّنّور أو قبل ذلك، وسواء حصل وضع القِدر على الكانون منها أو من غيرها،
فإن أوقدت النّار غيرها، فليست بطابخة حصل الإيقاد بعدما وضعت القِدر على
الكانون أو قبل ذلك، وإليه أشار في «القدوري» حيث قال: الطابخة توقد النّار
دون التي تنصب القِدر ونصب القِدر ونصب الماء، وتَلَقّي الأباريق، واختيار
الفقيه أبي الليث رحمه الله: أنّها تكون طابخة إذا وضعت القِدر في التنور،
أو على الكانون بعد إيقاد النّار وإن حصل الإيقاد من غيرها قال الصدر
الشهيد رحمه الله في «واقعاته» : وعليه الفتوى. قال: ألا ترى في العادة
التنّور إذا كان في سكّة توقد النّار فيه امرأة واحدة ثمَّ تضع كلّ امرأة
قدرها في التنور؟ وبعد ذلك من كلّ واحدة منهنّ طبخاً.
وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا أراد الرّجل أن يجامع امرأته، فقال لها: إن لم
تدخلي معي في البيت فأنتِ طالق، فدخلت بعدما سكنت شهوته وقع الطلاق عليها،
وإن دخلت قبل ذلك لم تطلق؛ لأنَّ شرط الحنث عدم الدخول لقضاء شهوته فيها،
وقد تحقّق ذلك في الصورة الأولى دون الثانية في الباب الأوّل من طلاق
«الواقعات» .
رجل خرج من بخارى إلى سمرقند وقال لامرأته: «آكر سيس من بيرون بياثي» مع
فلانة، فأنتِ طالق ثلاثاً، فلم تخرج المرأة حتّى رجع الزوج من سمرقند، ينظر
إن كانت فلانة خرجت ولم (269أ1) تخرج امرأته معها وقع الطلاق على امرأته،
وإن كانت فلانة لم تخرج أيضاً فإن أراد الزوج بقوله: أن تخرجي مع فلانة أن
يكون عدم خروجها شرطها لوقوع الطلاق، فإذا لم يخرجا وقع الطلاق على امرأته،
وإن أراد الزوج بذلك: إن خرجت فلانة ولم تخرجي معها على إثري، فإذا رجع
الزوج قبل خروج فلانة لا يقع الطلاق، وتسقط اليمين.
قال لامرأته: إن ذهبت إلى قرية كذا فأنتِ طالق، فذهبت المرأة إلى قرية
أخرى، ومرّت بضياع تلك القرية ولم تدخل عمران تلك القرية لا تطلق؛ لأنَّ
القرية اسم للعمران وهو الدّور والبيوت خاصّة. نصّ عليه في «شرح القدوري»
في كتاب «البيع» ، هذا إذا عقد يمينه على الذهاب، وإن عقدت يمينه على
الخروج بأن قال: لها إن خرجت إلى قرية كذا فأنتِ طالق فخرجت إلى قرية أخرى
ومرّت بضياع تلك القرية فإن كانت حين خرجت نوت أن تمرّ بتلك القرية طلقت،
وإن كان من نيّتها أنّها لا تمرّ بتلك القرية، ثمَّ بدا لها بعد ذلك فمرّت
بها لا تطلق.
قال لامرأته: إن تركتُ أو قال إن تركتُ صلاةً فامرأتي طالق، فترك صلاة أو
تركت وقضاها هل يقع الطلاق؟ اختلف فيه المشايخ، قال بعضهم: لا يقع الطلاق،
وبه كان يفتي الشيخ الإمام سيف الدّين عبد الرحيم الكرميني رحمه الله،
لأنَّ ترك الصلاة أن يتركها ولا يقضيها، وبعضهم قالوا: يقع الطلاق، وبه كان
يفتي القاضي الإمام ركن الإسلام
(3/372)
عليّ السغدي رحمه الله، وهو الأشبه
والأظهر؛ لأنَّ ترك الصّلاة أن يتركها عن وقتها،..... قال محمّد رحمه الله:
إذا قضى المتروكة، وقال أيضاً: من ترك صلاة يوم وليلة وقضاها من الغد.
وفي «الفتاوى» : سيّد أبو القاسم رحمه الله: قالت المرأة لزوجها: لا طاقة
لي بالكون معك جائعة، فقال لها: إن كنت جائعة في بيتي فأنتِ طالق قال: إذا
لم يكن كذلك في غير الصّوم لا تطلق، وسئل هو أيضاً عن امرأة خرجت إلى ضيافة
فقال الزوج لها: إن سكنت هناك أكثر من ثلاثة أيّام فأنتِ طالق فرجعت في
اليوم الثالث إلى قرية زوجها، ثمَّ رجعت ومكثت هناك أيّاماً، قال: لا أفتي
بالطلاق غير أنَّ الاحتياط فيه أولى، وقال الفقيه أبو الليث رحمه الله: إن
دخلت عمران قرية الزوج ثمَّ رجعت لا تطلق، وإن لم تدخل ينبغي أن لا تطلق؛
لأنَّ شرط الحنث المكث هناك بأكثر من ثلاثة أيّام في هذا الخروج من هذه
القرية بدلالة الحال، ففيما إذا دخلت عمران قرية الزوج ثمَّ رجعت فهذا مكث
في خروج آخر، وفيما إذا رجعت قبل أن تدخل عمران قرية الزوج فهذا مكث في
الخروج الأوّل.
وفي «الفتاوى» أيضاً: رجل خرجت امرأته إلى قرية، فقال لها بالفارسيّة
«آكربيش أزسه روز باشي» فأنتِ طالق، فانصرفت المرأة في اليوم الثالث إلى
قرية أخرى، ثمَّ انصرفت إليها وأقامت بها أياماً، فإن كان انصرافها من تلك
القرية على أن لا تعود ثمَّ عادت لا تطلق، وإن كان انصرافها على أن تعود
ثمَّ عادت تطلق؛ لأنَّ شرط الحنث الكينونة في تلك القرية أكثر من ثلاثة
أيّام في هذه الخرجة، فهي خرجت من تلك القرية على أن لا تعود لم تبق
الكينونة في تلك القرية، ومتى خرجت من تلك القرية على أن تعود إليها
فالكينونة الأولى نافية، وفي المسألة الأولى لم يذكر مثل هذا التفصيل.h
وسئل أيضاً: عمّن قال لامرأته: إن لم أشبعك من الجماع فأنتِ طالق، قال: لا
يعرف ذلك إلا بقولها، وقال الفقيه أبو الليث والشيخ الإمام أبو حفص البخاري
رحمهما الله: أنه إذا جامعها ودام على ذلك حتّى أنزلت فقد أشبعها ولا تطلق.
قال الفقيه وبه نأخذ في فتاوى الفضلي إن لم أطأك كالدّر فأنتِ طالق ثلاثاً،
فهذا على المبالغة في الجماع، وإن بالغ لم تطلق وإلا تطلق، وفي «الجامع
الأصغر» : إنَّ الجماع كالدّر أن ينزلا جميعاً في ذلك الجماع إذا قال لها:
إن لم أطأك مع هذه المقنعة فأنتِ طالق ثلاثاً، ثمَّ قال لها: إن وطئتك مع
هذه المقنعة فأنتِ طالق ثلاثاً، والحيلة في ذلك: أن يطأها بغير مقنعة، ولا
يقع الطلاق ما دامت المقنعة قائمة وهما حيّان؛ لأنَّ شرط وقوع الطلاق في
الحال يتحقّق، وهو وجود الوطىء مع المقنعة، وكذلك العدم لا يتحقق أيضاً
للحال، فإن مات أحدهما أو هلكت المقنعة وقع الطلاق؛ لأنَّ العدم قد تحقّق.
إذا قال لها: إن لم أجامعك على رأس هذا الرّمح فأنتِ طالق، فالحيلة في
ذلك:....
(3/373)
أن يثقب السقف، ويخرج رأس الرمح من السطح
فيجامعها عليه، ولو قال لها: إن لم أجامعك وسط النهار وسط السوق فأنتِ
طالق، فالحيلة في ذلك: أن يحملها في عمارى ويدخل السوق ويفعل ذلك الفعل.
إذا قال لامرأته: إن بتِ الليلة إلا في حجري فأنتِ طالق، فباتت في فراشه
ولم يأخذها في حجره حقيقة، قال الله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّتِى فِى
حُجُورِكُمْ} ولو قال بالفارسيّة «بكنار من آندر» ، وباقي المسألة بحالها
يجب أن تطلق.
وفي «أيمان فتاوى أهل سمرقند» : إذا قال لها: إن لم أبت معك الليلة مع
قميصك هذا فأنتِ طالق ثلاثاً، فقالت المرأة: إن بتّ معك مع قميصي هذا
فجاريتي حرّة، فالحيلة في ذلك: أن يلبس الرّجل ذلك القميص فيبيتان ولا
يجيبان؛ لأنَّ قصد الرّجل أن يبيت معها ومعه هذا القميص، وقصد المرأة أن لا
تبيت لابسة قميصها.
إذا قال لامرأته: إن لم يكن ذكري أشدّ من الحديد فأنتِ طالق ثلاثاً، حكي عن
شمس الأئمة الحلواني أنّها لا تطلق بهذه اليمين أبداً؛ لأنَّ الحديد يذوب
بالنّار وينتقص بالاستعمال، وذكره لا يذوب بشيء، ولا ينتقص بالاستعمال. وفي
«فتاوى أبي الليث» : إذا قال لها: إن شتمتني فأنتِ طالق وإن لعنتني فأنتِ
طالق فلعنته. قال محمّد بن سلمة رحمه الله: يقع تطليقتان؛ لأنَّ في كلِّ
لعنة شتمة، ألا ترى أنَّ من قال لامرأته: إن شتمتني فأنتِ طالق فلعنته طلقت
امرأته، وقال نصر رحمه الله يقع طلقة واحدة لأنَّ الزوج عَبّر عن الشتم وعن
اللعن، فدلّ تعبيره على أنّه أراد بقوله: إن شتمتني غير اللعن وإن (269ب1)
كان في اللعن شتماً. ولو قالت له: لا بارك الله فيك لا تطلق؛ لأنَّ هذا ليس
بشتم بل دعاء سوء، وكذلك لو قالت له: يا جاهل يا حمار يا أبله لا تطلق؛
لأنَّ هذا ليس بشتم. ولو قال لها: إن شتمتك فأنتِ طالق فقال: أيُّ عراى
ساحه، فهذا شتم عرفاً وإن كان لا يجب به الجدّ فتطلق بحكم العرف، ولو قال
لها: إن شتمتني فأنتِ طالق، فقالت المرأة لولدها الصغير منه: «أي بلاه يحه»
ينظر إن قالت ذلك لكراهة عن الولد لا يقع الطلاق؛ لأنّها شتمت الولد دون
الوالد، وإن قالت ذلك لكراهة عن الولد تطلق لأنَّ هذا شتم للوالد، وهذا
لأنَّ هذا اللفظ يصلح لشتم الولد ولشتم الوالد ويرجّح جانب شتم الولد في
الفصل الأوّل، وجانب شتم الوالد في الفصل الثاني.
قال لامرأته إن أغضبتك فأنتِ طالق، فضرب صبيّاً لها فغضبت، ينظر إن ضربه في
شيء ينبغي أن يضرب ويورث عليه لا تطلق؛ لأنَّ هذا ليس موضع الغضب، وإن ضربه
في شيء لا ينبغي أن يُضرب ويورث عليه تطلق؛ لأنَّ هذا موضع الغضب.
إذا قال لامرأته (إن لم أقل عند الآن هذا موضع أحبك تلك قبيح في الدنيا عوك
غداً) ، فأنتِ طالق، فهذا اليمين لا يقع على جميع أنواع القبيح؛ لأنّه لا
يتصوّر عادة، وإنّما يقع على ثلاث من أنواع القبيح والفواحش، فإذا قال
ثلاثاً من أنواع القبيح
(3/374)
والفواحش عند اجتماع أشباهها يقع البر. قال
لها: إن لم تكوني عليّ أهون من التراب فأنتِ طالق، إن استهان بها استهانة
يُعَدُّ إفراطاً منها لا يحنث؛ لأنّها أهون عليه من التراب عادة.
دعا امرأته إلى الفراش فقالت المرأة: ما تصنع بي ويكفيك، ولأنّه لامرأته
أحببته فقال الزوّج: إن كنت أحبُها فأنتِ طالق، تكلموا فيه، قال الصدر
الشهيد رحمه الله: والمختار: أنّه لا يقع الطلاق وإن كان يحبّها ما لم يقل
الزوج أحبّها؛ لأنَّ الطلاق معلّق بالإخبار على المحبّة.
رجل هدّد رجلاً بالسلطان، فقال المهدّد: إن كنت أخاف من السلطان فامرأتي
طالق، إن لم يكن ساعة حلف على خوف من السلطان ولا كان سبيل من الخوف بحياته
حياها يخاف من مثلها السلطان، رجوت أن لا تطلق امرأته إن لأنَّ الأمر كما
زعم.
إذا قال لامرأته «آكر ترانير رود حياتك تا آكنون رفت» فأنتِ طالق ثلاثاً،
فقيل هذا الكلام، ولا بدّ من قرينة يصير بها معلوماً، فإن كان له متقدّمة
يرجع بها ويتقيّد بها، وإلا يرجع إلى نيته، فإن نوى أنّي كنت أتجاوز عنكِ
والساعة لا تجاوز عنها وقع الطلاق؛ لأن شرط الحنث قد وجد.
قيل لسكران هذا يقول من السّكر، فقال امرأتي طالق إن قلت هذا من السّكر،
وليست بسكران فتسميه على ما يسميّه الناس سكراناً، فإذا بعد كلامه ومعاملته
والنّاس يسمّونه سكراناً، فتطلق امرأته.
سئل أبو القاسم عن النساء يجتمعن يغزلن لأنفسهنَّ، ولغيرهن أيضاً على وجه
القرض، فقصّ زوج امرأة وقال لها: إن غزلت لأحد أو غزل لك أحد فأنتِ طالق،
ثمَّ إن امرأةً منهن وجهت إلى بيت هذه المرأة قطناً لتغزله، فغزلته أمّها
قال: إن كان من عادة أولئك النسوة أنَّ كلّ واحدةٍ تغزل لنفسها لا تطلق ما
لم تغزل هي بنفسها.
وسئل أبو القاسم رحمه الله عمّن قال لامرأته: إن تكوني امرأتي فأنتِ طالق
ثلاثاً، أنّه إن لم يطلّقها تطليقة ثانية عند فراغه من اليمين، طلقت
ثلاثاً.
إذا قال لامرأته: إن لم أطلقك اليوم ثلاثاً فأنتِ طالق ثلاثاً، فالحيلة في
ذلك: أن يقول لها: أنتِ طالق ثلاثاً على ألف، فتقول المرأة: لا أقبل، فإنَّ
في هذه الصورة لا يقع الطلاق في رواية أبي حنيفة رحمه الله، وبه أخذ كثير
من المشايخ؛ لأنّه أتى بالتطليق، ولكن على ألف وكان تطليقاً مقيداً،
والمقيد يدخل في المطلق، فيتقدّم شرط وقوع الطلاق وقيل هذه الرواية لا تصلح
حيلة ويقع الطلاق؛ لأنَّ شرط وقوع الطلاق عدم التطليق، وما أتى به ليس
بتطليق، بل هو تطليق والتطليق غير التطليق. ولو قال لها: إن لم أطلقك اليوم
ثلاثاً على ألف درهم، فكذا، فهو على ما قال، فإن قال لها: أنتِ طالق ثلاثاً
(3/375)
على ألف درهم فقالت: لا أقبل، لا يلزمه
الحنث، وهذا الجواب يجب أن يكون على الروايات كلّها.
إذا قال لامرأته «آكر بحانة آندر ايش باشد برا طلاق» فإذا في البيت سراج،
قال الفقيه أبي الليث: إن كان يمينه لأجل إيقاد النّار تطلق امرأته، وإن
كانت يمينه لأجل الاصطلاء ونحوه لا تطلق امرأته، وإن لم يكن له نيّة لا
تطلق امرأته؛ لأنّ هذا ممّا لا يسمّى ناراً على الإطلاق. وفي «فتاوى
الفضلي» إذا قال لها: إن سألتني الليلة طلاقك فلم أطلقك فأنتِ طالق فأنتِ
طالق ثلاثاً، فقالت المرأة: إن لم أسألك الليلة طلاقي فجميع مالي صدقة في
المساكين، فسألت المرأة الطلاق، فقال لها الزوج: أنتِ طالق إن شئتِ، فقالت:
لا أشاء ومضت الليلة لا تطلق، ولو قال لها: إن دخلت الدّار فأنتِ طالق،
فمضت الليلة طلقت ثلاثاً.
والفرق: أنَّ قوله: أنتِ طالق إن شئت إيقاع؛ لأنّه تقدّر جعله تعليقاً
بدلالة اقتصاره على المجلس، وقوله: إن دخلت الدّار تعليق فلم يكن إثباتاً
لتطليق.
وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا قال لها بالفارسيّة «آكر توفر دازن من باشي»
فأنتِ طالق ثلاثاً، فخالعها بعد ما طلع الفجر من الغد، ينظر إن كان مراد
الزوج من كلامه السابق منع كونها امرأة له في شيء من الغد، فإذا أخّر الخلع
إلى ما بعد طلوع الفجر طلقت ثلاثاً؛ لأنَّ شرط وقوع الثلاث قد وجد وهو
كونها امرأة له في شيء من الغد، وإن لم يكن له نيّة إذا خالعها قبل غروب
الشمس من الغد لا تطلق بحكم اليمين؛ لأنَّ البر إنما يتحقّق في آخر
النّهار، وهي ليست امرأته في آخر النّهار، وإن خالعها قبل غروب الشمس من
الغد ثمَّ تزوجها قبل غروب الشمس طلقت بحكم اليمين؛ لأنها امرأته قبل غروب
الشمس، ولو خالعها قبل غروب الشمس ثمَّ تزوّجها في اليوم الجائي، لا تطلق
بحكم اليمين؛ لأنّها لم تكن امرأته قبل غروب الشمس من الغد.
وفي «فتاوى سمرقند» : إذا قال لها بالفارسيّة ليلاً: «آكر تراجزا مشب دارم»
فأنتِ طالق ثلاثاً، فطلقها في الليلة تطليقة بائنة ومضت الليلة، ثم تزوّجها
في الغد (270أ1) لا تطلق، وكذلك إذا قال لها نهاراً: «آكر جزا مروز ترادام»
فطلقها تطليقة بائنة في هذا اليوم، ومضى اليوم لا تطلق؛ لأنَّ شرط الحنث في
المسألة الأولى أن يديم نكاحها بعد مضي هذه الليلة. وفي المسألة الثانية أن
يديم نكاحها بعد مضي هذا اليوم ولم يوجد، وهذا نكاح جديد، فلهذا لا تطلق
بحكم اليمين.
وفي «فتاوى أبي الليث» : رجل طلّق امرأته ثلاثاً، فتزوّجت بزوج آخر ودخل
بها الزوج الثاني وفارقها، وقيل للزوج الأوّل: لمَ لا تتزوّجها، فقال
بالفارسيّة: «آكر كار من با أو بيكوشود آكرا رحبايب ميخ مردسر شتست» ، فهي
طالق ثلاثاً ثمَّ تزوّجها قال: إن كان أراد بقوله «بيكو شود» أن يتزوّجها
طلقت ثلاثاً؛ لأن شرط وقوع الطلاق قد تحقّق، وهو التزوّج. وإن كان أراد
بقوله «بيكو شود» أن تصير حلالاً له لا تطلق؛ لأنها صارت حلالاً له قبل
اليمين حال ما انقضت عدّتها من الزوج الثاني، فلم تنعقد اليمين؛ لأنّها
(3/376)
عقدت على شرط موجود، فتكون إيقاعاً في
الحال لا يميناً، أو هي في الحال ليست بمنكوحة له، وليست في عدّته. وهذا
الجواب يستقيم فيما إذا أراد بقوله: «حلال شود» حلّ التزوّج، وأمّا إذا
أراد به حلّ الوطء بالتزوّج ينبغي أن تطلق؛ لأنَّ اليمين حينئذٍ يكون
مضافاً إلى التزوّج، فينعقد وينحلّ عند التزوّج.
وفيه أيضاً: إذا قال لها: إن تزوجت عليك ما عشت فحلال الله عليّ حرام، ثمَّ
قال لها: إن تزوجت عليك فالطلاق عليَّ واجب، ثمَّ تزوّج عليها امرأة، قال:
يقع على كلِّ واحدة تطليقة، ويقع تطليقة أخرى يصرفها إلى أيّهما شاء؛ لأنَّ
اليمين الأولى انصرفت إلى الطلاق عرفاً فينصرف إلى طلاق كل واحدة منهما،
واليمين الثانية يمين بطلاق الواحدة منهما، وإذا تزوّج امرأة انحلّت
اليمينان، فيقع باليمين الأولى على كلِّ واحدة تطليقة، ويقع باليمين
الثانية طلاق آخر، فيصرفه الزوج إلى أيهما شاء؛ لأنَّ اليمين الأولى لما
انصرف إلى الطلاق فصار كأنّه قال «دون وراء» طلاق.
ومن قال «زن وراء» وله امرأتان يقع الطلاق على إحداها على ما اخترناه قبل
هذا، فها هنا يجب أن يكون كذلك.
إذا قال لامرأته في حالة الغضب: إن فعلت كذا إلى خمسين سنة تصيري منّي
مطلقة، وأراد بذلك تخويفها، ففعلت ذلك الفعل قبل انقضاء المدّة التي ذكرها،
فإنّه يسأل الزوج: هل كان حلف بطلاقها؟ فإن أخبر أنّه كان حلف بعمل يخبره
بحكم يقع الطلاق عليها، وإن أخبر أنّه لم يحلف قُبِلَ قوله؛ لأن قوله:
تصيري مطلقة بإيقاع مبتدأ يكون مني. معناه: وإن فعلت كذا أطلقك لا محالة،
فيقبل قوله في قوله ذلك.
في «فتاوى شمس الأئمّة الأوزجندي» رحمه الله: إذا قال لامرأته: إن دخلت
الدّار صرت مطلقة، فدخلت، فقال الزوج: أردت تخويفها لا يصدّق، وإذا قال
لامرأته: إذا طلقتك فأنتِ طالق، وإذا لم أطلقك فأنتِ طالق، فلم يطلّقها
حتّى مات طلقت ثنتين؛ لأنّه إذا لم يطلّقها حتّى مات فقد تحقّق شرط وقوع
الطلاق باليمين الثانية، وعند ذلك يتحقق شرط وقوع الطلاق باليمين الأولى
أيضاً، فلهذا قال طلقت تطليقتين، ولو بدأ فقال: إذا لم أطلقك فأنتِ طالق،
وإذا طلقتك فأنتِ طالق، فمات قبل أن تطلق فهي طالق واحدة.
وفي «جامع إسماعيل بن حمّاد» : إذا قال لها أنتِ طالق إذا لم أطلقك، وإذا
طلقتك فأنتِ طالق فهي امرأته حتّى يموت، فإن طلقها طلقت ثنتين، وإن لم
يطلقها طلقت واحدة إذا مات أو ماتت، إذا قال لامرأته ولم يدخل بها: إن خلوت
بك أنت فأنتِ طالق، فخلا بها طلقت وعليه نصف المهر، هكذا روي عن محمّد رحمه
الله؛ لأنّه صار مطلّقاً لها في أوّل الخلوة في حال لا يقدر على وطئها إلا
بعد الطلاق.
وإذا قال: إن خطبت فلانة، أو قال كلّ امرأة أخطبها فهي طالق فاليمين لا
تنعقد، حتّى لو تزوّج فلانة في الصورة الأولى، أو تزوّج امرأة في الصورة
الثانية لا تطلق؛ لأنَّ الخطبة غير العقد، وهي تسبق العقد فلا يكون هو بهذا
اللفظ مضيفاً الطلاق إلى الملك، ولا تنعقد اليمين وهذا في لسان العربية،
أمّا بالفارسيّة: إذا قال: «آكر فلا نرا نحواهم» ،
(3/377)
أو قال «مرزني كه نحواهم» ، فعن كلّ موضع
يكون هذا اللفظ مبهم تفسيراً للخطبة لا تنعقد اليمين أيضاً، وفي كل موضع
يريدون بهذا اللفظ التزوّج تنعقد اليمين إذا كان مراده هذا........ وإذا
تزوجها هذه الجملة مذكورة في شرح «كتاب الحيل» لشمس الأئمة السرخسي رحمه
الله، في عرف ديارنا قوله «نحواهم» تفسير قوله: نكحت أو تزوّجت فتنعقد
اليمين.
ولو قال: «آكر فلان هكواهم يدكر كنم» فهذا تفسير الخطبة في عرفنا، ولا
تنعقد اليمين بهذه اللفظة، حتّى لو تزوّجها لا يقع الطلاق.
ولو قال بالفارسيّة «آكرد حتر فلان مراد هندورا طلاق» فتزوجها لا تطلق؛
لأنّه لم يذكر النكاح، ولو قال: «يرني دهند» وباقي المسألة بحالها إذا
تزوّجها طلقت، هكذا ذكر الفضلي رحمه الله في «فتاويه» ، ومن المشايخ من
قال: لا تطلق في الوجهين؛ لأنَّ اليمين عقدت على التزوّيج فتنحلّ اليمين
بالتزوّيج قبل الدخول في نكاحه. وهو نظير ما لو قال لامرأته: إن جلست في
نكاحك فأنتِ طالق، فجلس ثمَّ تزوّجها لا تطلق؛ لأن اليمين انحلّت قبل
الدخول في نكاحه، وقيل: ينبغي أن تطلق في الوجهين جميعاً؛ لأنَّ شرط الحنث
وإن كان هو التزويج إلا إن قام التزويج بتزوّجه، وعند ذلك هي في نكاحه،
وسيأتي بعد هذا مسألة ذكرها محمّد رحمه الله في كتاب «الحيل» تؤيّد هذا
القول.
والجواب في قوله: «آكرد حتر فلان بمن برني داده شود ورا طلاق» نظير الجواب
في قوله «آكرد حتى فلان يرني بمن وهند» .
إذا قال: إن ضرطتُ فامرأتي طالق، فخرج منه الضراط من غير قصده لا تطلق
امرأته؛ لأنَّ يمينه وقعت على العمد، وهو نظير ما لو حلف أن لا يدخل، فأدخل
مكرهاً، أو حلف لا يخرج فأخرج مكرهاً.
قال لامرأته: إن اشتريت جارية فدخلت عليك الغيرة فأنتِ طالق، فهذا على وجود
الغيرة وقت الشراء (270ب1) لا بعده، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله،
ويشترط لوقوع الطلاق أن تظهر الغيرة بلسانها، وأمّا لو دخلت في قلبها غيرة
ولم تظهر بلسانها لا تطلق.
وعن أبي يوسف رحمه الله فيمن قال لامرأته: إن سررتك فأنتِ طالق، فضربها
فقالت سرني ذلك، قال هذا لا يكون على الضرب، وإنّما على ما يسرّها، قيل:
فإن أعطاها ألف درهم فقالت: لم أُسرّ قال القول قولها، قال الفقيه أبو
الليث رحمه الله؛ لأنّه يحتمل أنّها كانت تطلب الألفين، فلم تسرها الألف.
وفي «المنتقى» : رجل قال لامرأته: أنتِ طالق إن كلمتك إلى سنة، اذهبي يا
عدو لله فقد كلمها، ولو قال: فاذهبي أو قال: واذهبي لا تطلق ما لم يكلمها
بكلام آخر، ولو قال اذهبي طلقت؛ لأن هذا كلام منقطع عن الأوّل والأوّل متصل
باليمين فكان له حكم اليمين، ولا بدّ من كلام آخر بعد ذلك للحنث.
(3/378)
وفيه أيضاً: إذا قال لأجنبية: إن تزوجت
عليك فأنتما طالقان، أو قال فأنت وهي طالقان، فتزوّجها ثمَّ تزوّج عليها
طلقت.
سئل الفقيه أبو جعفر رحمه الله عن ترمذي تزوّج ببلخ امرأة بلخيّة ثمَّ إنها
ذهبت إلى ترمذ بحيث لا يعرف زوجها، ثمَّ قيل له: إن لك بترمذ امرأة، فقال:
إن كان لي بترمذ امرأة فهي طالق ثلاثاً. قال: قال أبو نصر رحمه الله لا
تطلق وبه قال أبو يوسف، وقال غيره: تطلق، وبه قال محمّد قال وهذا....... إن
أحد يقول أبو نصر فعلى هذا إذ....... امرأة، فقيل لرجل: هذه امرأتك ثمَّ
قيل له احلف بالطلقات الثلاث إن كان لك امرأة سواها، فحلف فإذا.......
أجنبيّة، هل تطلق امرأته؟ فالمسألة تكون على الخلاف.
قال الصدر الشهيد رحمه الله: المختار للفتوى أنّها تطلق في الفصلين قضاء لا
ديانة، وهو نظيرها لو لقيت المرأة زوجها طلاقها، فطلقها وهو لا يعلم به.
وفي «فتاوى ما وراء النّهر» : إذا قال الرجل لامرأته: إن اشتريت بالخبز ما
من السقّاء إلى.... فاشترت من الماء بالخبز تطلق، ولو كانت دفعت الخبز إلى
السقاء أوّلاً ليحمل إليها الماء بهذا لا تطلق، وقيل تطلق لأنّه سواء
عرفاً، سئل أبو نصر الدبوسي رحمه الله عمّن قال: إن تزوجت فلانة أبداً فهي
طالق، فتزوجها مرّة حتّى طلقت أو تزوّجها مرّة أخرى لا تطلق.
نوع آخر في ذكر مسائل الشرط بكلمة كل وكلّما
إذا قال: كلّ امرأة تكون لي ببخارى فهي طالق، فتزوّج امرأة ببخارى طلقت،
ولو تزوّج امرأة في غير بخارى ونقلها إلى بخارى لا تطلق؛ لأن في العرف يراد
بقولهم يكون التزوّج قائماً عقد اليمين على امرأة ببخارى، فالمرأة التي
تزوّجها في غير بخارى ليست بداخلة تحت اليمين في «فتاوى أبي الليث» .
وفيه أيضاً: إذا قال: كلّ امرأة أتزوّجها في قرية كذا فهي طالق، فتزوّج
امرأة في تلك القرية، إن كانت من أهل تلك القرية لا شكّ أنها تطلق، وإن
كانت من غير أهل تلك القرية لم يذكر هذا الفصل ثمّة وينبغي أن تطلق؛ لأنّه
تزوّجها في تلك القرية.
ولو قال كلُّ امرأة أتزوّجها من تلك القرية فهي طالق، فتزوّج امرأة من أهل
تلك القرية حيث ما تزوّجها تطلق.
إذا قال: «هرزني كه مرا بودتاسي سال» فهي طالق، وإن لم ينوِ شيئاً يقع
الطلاق على التي يتزوّجها، ولا يقع على التي كانت عنده وقت اليمين؛ لأنّ
قوله؛ «هرزني كه مرا بود» صار عبارة عن قوله «هرزني كه بزني كندا ورا»
عرفاً فانصرف المطلق إليه، وذلك
(3/379)
الجواب فيما إذا نوى ما...... هكذا اختاره
الفقيه أبو الليث رحمه الله.
وحكي عن بعض مشايخ بخارى أنَّ قوله «بود» يقع على المرأة التي تحته للحال،
وإن نوى الحالية وما يستعيد ينصرف إليهما؛ لأنّه نوى ما يحتمله لفظه، فإنّه
جعل قوله «بود» عبارة عن الكائنة في هذه المدّة، وعند الشرط إن علّق الطلاق
بالشرط والحاليّة كائنة والذي يستعيدها كذلك، وإن نوى الحاليّة غير ما
يستعيد لم ينقل عن المتقدّمين في هذا الفصل شيءٌ، هكذا ذكر الصدر الشهيد
رحمه الله في «واقعاته» قال رحمه الله: والظاهر أنّه يقع عليها، وقد ذكرنا
عن بعض مشايخ بخارى أنَّ قوله: «بود» من غير نيّة يقع على امرأته التي تحته
للحال، ولا يقع على التي يتزوّجها فها هنا أولى.
وأمّا إذا قال «هرزني كه ورا بائد» فهذا وما لو قال «هرزني كه ورا بود»
سواء، وأمّا إذا قال «هرزني كه ورا بود وباشد» حكي عن الشيخ الإمام شيخ
الإسلام أبي الحسن عطاء بن حمزة رحمه الله أنّه قال: كان المتقدّمين من
مشايخ سمرقند يقولون بأنَّ هذه اليمين لا تنعقد على قياس قول أبي حنيفة
رحمه الله؛ لأنَّ قوله: «بود باشد» بمعنى واحد، فيصير أحدهما آخراً فاصلاً
بين الشرط والجزاء كما في قول الرّجل لعبده: أنت حرّ وحرّاً إن شاء الله،
صار أحد اللفظين فاصلاً بين الجزاء والاستثناء عند أبي حنيفة رحمه الله،
فها هنا يجب أن يكون كذلك.
قال رحمه الله: فأمّا مشايخنا وأساتيذنا من أهل سمرقند كانوا يقولون بصحّة
هذه اليمين...... هكذا ذكر عن مشايخ بلخ، وعن مشايخ بخارى أنّهم كانوا
يقولون بصحّة هذه اليمين وانعقادها، غير أنَّ بعض مشايخ بخارا كانوا يقولون
بأنَّ قوله «بود» يقع على المرأة التي تحته للحال، وقوله: «باشد» يقع على
المرأة التي يستعيدها، ويقع الطلاق عليهما من غير نية.
وبعضهم كانوا يقولون بأن هذه المسألة والمسألة الأولى سواء لا يقع الطلاق
على المرأة التي تحته في الحال إلا بالنيّة.
وفي «فتاوى النسفي» : إذا قال: «آكر فلان كركنم هرزني كه نجواهم خواستن
آزمن بطلاق» ، ففعل ذلك ثمَّ تزوّج امرأة لا تطلق؛ لأنّه ما (أضاف) الطلاق
إلى الملك، وإنّما أضاف إلى إرادة التزوّج.
قال في «الرقيات» : إذا قال الرجل لرجلين: كلّما أكلت عندكما طعاماً
فامرأته طالق، فتغدَّى عند أحدهما اليوم، وتغدَّى عند الآخر غداً طلقت
امرأته ثلاثاً؛ لأنه لما تغدى صفة الأوّل، فأكل ثلاثة لقم أو أكثر فكأنّه
أكل عنده ثلث مرات، فإذا تغدّى عند الآخر فأكل عنده ثلاثة لقم فكأنّه أكل
عنده أيضاً ثلاث مرات، فقد وجد الأكل عندهما ثلاث مرات، والأكل عندهما
(271أ1) في كلِّ مرّة شرط وقوع طلاق تطليقة، ولذا إذا قال لأحدهما: كلّما
أكلت عندك ثم أكلت عند هذا فامرأته طالق كان الجواب كما قيل.
قلنا: المعلى عن أبي يوسف: إذا قال الرّجل لامرأته: كلّما امرأة أتزوّجها
من
(3/380)
أقرانك أو قال من أنسابك فهي طالق، أو قال:
فأنتِ طالق، فكلُّ امرأة ولدت معها في سنها فما دونه فهي من أقرانها
وأنسابها ابن..... عن أبي يوسف إذا قال كلما تزوجت امرأتين فإحداهما طالق،
فتزوّج أربعاً طلقت ثنتين منهنّ، والخيار إليه.
عن محمّد رحمه الله: إذا قال الرجل لامرأته: كل امرأة أتزوّجها من أهل بيتك
فهي طالق، ولها ابنة فإن كان نوى ابنتها دخلت تحت اليمين، وإن لم يكن نواها
لم تدخل تحت اليمين؛ لأنّها من أهل بيت زوجها؛ لأنَّ المراد من أهل البيت
بنت النسب، والنسب من الآباء دون الأمهات، وإنّما أهل بيت المرأة من كانت
من قبل أنّها أخواتها وعمّاتها وبنات أخيها.
وفي «الأصل» : إذا قال لامرأته وقد دخل بها: إذا طلقتك فأنتِ طالق، فطلقها
واحدة يقع عليها ثنتان؛ لأنّه حلف بطلاقها وجعل شرط وقوع الطلاق عليها
تطليقها، فإذا قال لها: أنتِ طالق فقد طلقها فيقع عليها تطليقة بالإيقاع
وتطليقة بالحنث، فإن قال: عنيت به الإخبار عن كونها طالقاً إذا طلقها،
فإنّه لا يصدّق في القضاء ويصدّق فيما بينه وبين الله تعالى.
كما لو قال لها: أنتِ طالق أنتِ طالق وقال: عنيت بالثانية الإخبار عن كونها
طالقاً أن يُطلقها، فإنّه لا يصدّق في القضاء ويصدّق فيما بينه وبين الله
تعالى، وكذلك إذا قال: متى طلقتك فأنتِ طالق فإنّه يقع عليه ثنتان لما
قلنا، وإذا قال لها: كلّما طلقتك فأنتِ طالق، ثمَّ طلقها واحدة فإنّه يقع
عليها ثلاث تطليقات.
والفرق: أنَّ في قوله كلّما وقع عليك طلاق شرط الحنث وقوع الطلاق عليها،
وقد تكرّر الوقوع، فإنّه يقع عليه تطليقتان بالإيقاع وتطليقة بالحنث، وفي
قوله: كلّما طلقتك شرط الحنث تطليقها، ولم يطلّقها إلا مرّة واحدة فإنّه لم
يقل لها: أنتِ طالق إلا مرّة واحدة.
وفي «الجامع» : رجل قال لامرأتين له وقد دخل بهما: كلّما حلفت بطلاق كلّ
واحدة منكما فكل واحدة منكما طالق، قال ذلك مرّتين يقع على كلّ واحدة منهما
تطليقة بالحنث في اليمين الأولى، ولو قال: كلّما حلفت بطلاق واحدة منكما،
فكلّ واحدة منكما طالق وباقي المسألة بحالها يقع على كلّ واحدة منكما
تطليقتان، ولو قال: كلّما حلفت بطلاق واحدة منكما فهي طالق، قال ذلك مرّتين
وقع على كلّ واحدة منهما تطليقة، وكذلك إذا قال: كلّما حلفت بطلاق واحدة
منكما طالق أو قال: وإحداكما طالق، قال: يقع تطليقة واحدة على إحداهما بغير
عينها، والخيار إليه.
وفي «الجامع» أيضاً: رجل له امرأتان دخل بواحدة منهما دون الأخرى، فقال
كلّما حلفت بطلاق واحدة منكما فأنتما طالقان، قال ذلك مرّات طلقت المدخولة
ثلاثاً، وغير المدخولة ثنتان، والله أعلم.
(3/381)
نوع آخر في عطف الشروط بعضها على البعض
يجب أن تعلم بأنَّ الحالف إذا ذكر شرطين وذكر بينهما جزاء يقدّر كلّ شرط في
موضعه يعتبر الشرط الأوّل شرطاً لانعقاد اليمين، والشرط الثاني شرطاً
لانحلال اليمين ويزول الجزاء؛ لأنّ الشرط الأوّل إذا ذكر يتحقق الجزاء؛
لأنّ الشرط بدون الجزاء لا يعتبر لأنّه لا يعتد، وإنما يصير معتداً
بالجزاء، والجزاء ما يذكر عقيب حرف الفاء، والمذكور عقيب حرف الفاء يمين
عامّة، وهي الشرط والجزاء، فيجعل جزاء الشرط الأوّل، إذ اليمين الثانية
تصلح جزاءً للشرط، وإذا صارت جزاءً للشرط الأوّل يوجب وجود اليمين
وانعقادها على وجود الشرط الأوّل، فإذا وجد الشرط لأوّل انعقدت اليمين
وتعلّق الجزاء بالشرط الثاني حتّى يزول بوجوده، فهو معنى قولنا: إن الشرط
الأوّل يعتبر شرطاً لانعقاد اليمين، والشرط الثاني يعتبر شرطاً لانحلال
اليمين ويزول الجزاءان.
هذا الأصل فيما إذا قال: كل امرأة أتزوّجها فهي طالق إن كلمت فلاناً،
فتزوّج امرأة قبل الكلام وامرأة بعد الكلام تطلق المتزوّجة قبل الكلام، ولا
تطلق المتزوّجة بعد الكلام عند أبي يوسف ومحمّد رحمهما الله، هكذا ذكر
المسألة في «الجامع» وروى أصحاب «الأمالي» عن أبي يوسف: أنّه تطلق
المتزوّجة بعد الكلام، ولا تطلق المتزوّجة قبل الكلام. بعض مشايخنا قالوا:
ذكر في «الإملاء» قول أبي يوسف رحمه الله أوّلاً، وما ذكر في «الجامع» قول
أبي يوسف آخراً، وبعضهم قالوا في المسألة روايتان عن أبي يوسف، وهذا إذا لم
يوقّت لذلك وقتاً.
وأمّا إذا وقّت لذلك وقتاً بأن قال: كلّ امرأة أتزوّجها أبداً، أو إلى
ثلاثين سنة تطلق المتزوّجة قبل الكلام والمتزوّجة بعد الكلام، وهذا إذا قدم
ذكر الوقت، وأمّا لو قدّم ذكر الكلام بأن قال: إن كلّمت فلاناً فكلُّ امرأة
أتزوّجها أبداً أو إلى ثلاثين سنة فهي طالق، تطلق المتزوّجة بعد الكلام ولا
تطلق المتزوّجة قبل الكلام، وإنّما وقع الفرق بين تقديم ذكر الوقت وتأخيره؛
لأنّه إذا قدّم ذكر الوقت فقد أوقع الطلاق على كلّ امرأة يتزوّجها في ذلك
الوقت، إلا وأن يجعل الكلام شرطاً ليزول الجزاء في حقّ المتزوّجة قبل
الكلام وحقّ شرط الانعقاد لليمين في حقّ المتزوّجة بعد الكلام.
وإذا قدّم ذكر الكلام فقد أوقع الطلاق على كلّ امرأة يتزوّجها بعد الكلام
أبداً، وأمكن القول بوقوع الطلاق على كلّ امرأة يتزوّجها بعد الكلام أبداً
من غير تعيين ومن غير أن يعتبر الشرط الواحد شرطاً لانعقاد اليمين، وليزول
الجزاء، فاعتبرنا الكلام شرطاً لانعقاد اليمين لا غير، وصار كأنّه قال عند
الكلام: كلّ امرأة أتزوّجها أبداً فهي طالق، فيقع الطلاق على كلّ امرأة
يتزوّجها بعد الكلام (271ب1) ، ثمَّ إذا لم يذكر الوقت حتّى لم تطلق
المتزوّجة بعد الكلام. لو كلّم فلاناً مرة أخرى هل تطلق؟ ذكر في «الجامع»
أنها لا تطلق؛ لأنّها لو طلقت؛ أمّا إن طلقت بالكلام الأوّل ولا وجه له؛
لأنّه وجد قبل انعقاد اليمين، وأمّا إن طلقت بالكلام الثاني ولا وجه إليه؛
لأنّ الكلام حينئذٍ يصير شرطاً متكرّراً
(3/382)
ولا وجه إليه؛ لأنّه ذكر الكلام بكلمة إن،
وإنّها لا توجب التكرار، وزعم بعض مشايخنا أنّ المذكور في «الجامع» يخالف
المذكور في «القدوري» .
فقد ذكر في «القدوري» أنّ من قال: كلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق إن دخلتِ
الدّار، فدخلت الدّار ثمَّ تزوّج امرأة لا يقع الطلاق عليهما، فإن دخل
الدّار ثانياً وقع عليها الطلاق. قال الصدر الشهيد: قال والدي تاج الدين
تغمّده الله بالرحمة والرضوان. وليس الأمر كما زعموا؛ لأنّ موضع المذكور في
«القدوري» أنّه دخل الدّار بالتزوّج أصلاً، والدخول قبل التزوّج لم تنعقد
اليمين عليه، ولم يصر شرطاً في اليمين أصلاً، فصار أن يقع الطلاق بدخول آخر
يوجد بعد التزوّج، أو الدخول حينئذٍ لا يصير شرطاً متكرّراً، وموضوع
المذكور في «الجامع» أنّه يتزوّج امرأة قبل الكلام وامرأة بعد الكلام، ثمَّ
كلّم فلاناً مرّة أخرى والكلام الأوّل انعقد عليه اليمين، واعتبر شرطاً في
حقّ اليمين المتزوّجة قبل الكلام، حتّى يقع الطلاق على المتزوّجة قبل
الكلام بالكلام الأوّل بحكم اليمين، وإذا صار الكلام الأوّل شرطاً بحكم هذا
اليمين لا يصير الثاني شرطاً؛ لأنّ الكلام بحكم هذا اليمين غير مكرّر حتّى
إن في مسألة الجامع لو لم يصر الكلام الأوّل شرطاً فإن لم يتزوّج امرأة
أصلاً حتّى كلّم فلاناً ثمَّ تزوّج امرأة يقع الطلاق عليها إذا كلّم
فلاناً.
وفي «مسألة القدوري» : لو صار الدخول الأوّل شرطاً بأن تزوّج امرأة، ثمَّ
دخل الدار، ثمَّ تزوّج امرأة لا تطلق المتزوّجة بعد الدخول، وإن دخل الدّار
بعد ذلك مرّة أخرى، فإذاً لا مخالفة بينما ذكر في «الجامع» وبينما ذكر
«القدوري» من حيث المعنى، وإنّما المخالفة من حيث الصورة لاختلاف الوضع،
ولو قال: إن كلمت فلاناً فكلُّ امرأة أتزوّجها فهي طالق، ففي هذه الصورة
تطلق المتزوّجة بعد الكلام، ولا تطلق المتزوّجة قبل الكلام.
هذا كلّه إذا ذكر الحالف شرطين وذكر بينهما جزاء، وأمّا ذكر شرطين ولم يذكر
بينها جزاءه وإنّما ذكر الجزاء عقيبها، فإن ذَكَرَ بين الشرطين حرفَ العطف
يتعلّق الجزاء بهما، ويصيران في معنى شرط واحد.
بيانه: فيما إذا قال لها: إن دخلت هذه الدّار وهذه الدّار فأنتِ طالق
فإنّها لا تطلق ما لم تدخل الدّارين، وإن لم يذكر بينهما حرف العطف يجعل
الشرط الأوّل شرط الجزاء، وانحلّ اليمين، ويجعل الشرط الثاني شرط انعقاد
اليمين.
بيانة: في قوله: كلّ امرأة أتزوّجها إن دخلت الدّار فهي طالق، فتزوّج امرأة
قبل الدخول وامرأة بعد الدخول تطلق المتزوّجة بعد الدخول، ولا تطلق
المتزوّجة قبل الدخول، ويصير تقدير المسألة: إن دخلت الدّار فكلّ امرأة
أتزوّجها فهي طالق، وهو معنى قول محمّد رحمه الله في الكتب: الشرط إذا
اعترض على الشرط قبل مجازاة الأوّل بشيء يجعل المقدم هو جزاء، والمؤخّر
مقدّماً. وإن ذكر شرطين وقدّم الجزاء عليهما إن جمع بينهما بحرف الجمع
يتعلّق الجزاء بهما أيضاً.
بيانه: فيما إذا قال لها: أنتِ طالق إن دخلت هذه الدّار وهذه الدّار،
فإنّها لا تطلق
(3/383)
ما لم تدخل الدارين، وإن لم يجمع بينهما
بحرف الجمع يجعل الشرط الثاني شرط انعقاد اليمين.
بيانه: فيما إذا قال لأجنبيّة: أنتِ طالق إن تزوجتك إن كلمت فلاناً، ثمَّ
تزوجها تطلق، ولو تزوّجها أوّلاً ثمَّ كلّم فلاناً لا تطلق. هذا إذا لم
يذكر كلّ شرط بصريح حرف الشرط، فإن ذكر الجزاء بينهما يقدر كلّ شرط في
موضعه، ويعتبر الأوّل شرطاً لانعقاد اليمين، ويعتبر الشرط الثاني شرطاً
لانحلال اليمين ويزول الجزاء.
بيانه: فيما إذا قال لها: إن دخلت هذه الدّار فأنتِ طالق إن كلّمت فلاناً،
فدخلت الدّار ثمَّ كلمت فلاناً تطلق، ولو كلمت فلاناً أوّلاً ثمَّ دخلت
الدّار لم تطلق، وإن ذكر الجزاء أوّلاً فإنْ جمع بين الشرطين بحرف الجمع
فإنّه يعتبر كلُّ شرط شرطاً ليزول الجزاء أوْ لا يشترط اجتماعهما، وإذا وجد
إحداهما ويزول الجزاء فيبطل اليمين. بيانه: فيما ذكر «القدوري» : إذا قال
لها: أنتِ طالق إن دخلت هذه الدّار وإن دخلت هذه الدّار الأخرى. فدخلت إحدى
الدّارين طلقت وبطلت اليمين؛ لأنّه لمّا أعاد حرف الشرط لم يكن عطفاً على
الأوّل في الشرطية، بل كان شرطاً على حدة وصار جزاء الأوّل مضمراً فيه.
كأنّه قال: أنتِ طالق إن دخلت هذه الدّار أنتِ طالق إن دخلت هذه الدّار
الأخرى تلك التطليقة، وهناك يقع الطلاق بدخول إحدى الدّارين وتبطل اليمين؛
لأنّ جزاء الثاني لم يبق كذا ها هنا.
وكذلك الجواب فيما إذا قال لها: أنتِ طالق إن دخلت هذه الدّار وإن كلمت
فلاناً، أمّا إذا لم يجمع بينهما بحرف الجمع يجعل الشرط الآخر مقدّماً على
الجزاء، حتّى يصير الجزاء بين الشرطين، ويصير الشرط الآخر شرطاً لانعقاد
اليمين، ويصير الأوّل شرطاً لانحلال اليمين. بيانه فيما ذكر في «الجامع»
إذا قال: عبدي حرّ إن دخلت هذه الدّار إن كلّمت فلاناً، فدخل الدّار أوّلاً
ثمَّ كلّم فلاناً لا يعتق عبده، ولو كلّم فلاناً أوّلاً ثمَّ دخل الدّار
عتق؛ لأنّ الشرط الثاني وهو الكلام صار مقدّماً على الجزاء، وصار تقدير
المسألة: إن كلّمت فلاناً فعبدي حرّ إن دخلت الدّار، وهناك كان الجواب كما
قلنا، وها هنا كذلك.
وإن ذكر الجزاء آخراً إن جمع بين الشرطين بحرف الجمع ففي قول محمّد رحمه
الله يعتبر كلامهما شرطاً واحداً ويشترط وجودهما لزوال الجزاء، وفي قول أبي
يوسف يعتبر كلُّ شرط شرطاً ليزول الجزاء ولا يشترط وجودهما ليزول الجزاء.
بيانه فيما ذكر «القدوري» : إذا قال لها: إن دخلت هذه الدّار وإن دخلت هذه
الدّار الأخرى فأنتِ طالق، فعلى قول محمّد رحمه الله لا تطلق إلا بدخول
(272أ1) الدارين، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: تطلق بدخول إحدى الدارين،
أبو يوسف يقول: لا فرق في الأيمان بين تقديم الجزاء أو تأخيره، ومحمّد فرّق
بينهما، وإن لم يجمع بين الشرطين بحرف الجمع يجعل الشرط الأوّل مؤخّراً عن
الجزاء، حتّى يصير الجزاء بين الشرطين، ويصير الشرط الأوّل شرط انحلال
اليمين والشرط الآخر شرط انعقاد اليمين.
(3/384)
بيانه فيما ذكر في «الجامع» إذا قال: إن
دخلت الدّار إن كلّمت فلاناً فعبدي حرّ، ودخل الدّار أوّلاً ثمَّ كلّم
فلاناً لا يعتق عبده، ولو كلّم فلاناً أوّلاً ثمَّ دخل الدّار عتق عبده؛
لأن الشرط الأوّل وهو الدخول صار مؤخّراً عن الجزاء، وصار تقدير المسألة:
إن كلّمت فلاناً فعبدي حرّ إن دخلت الدّار، وهناك لا يعتق العبد ما لم يوجد
الكلام قبل الدخول كذا ها هنا، وروي عن محمّد رحمه الله في غير رواية
الأصول أنّه رجع عن التقديم والتأخير في الشرط المعترض على الشرط، بل قدّر
كلّ شرط في موضعه وأضمر حرف العطف، حتّى صار تقدير المسألة فيما إذا قدّم
الجزاء: عبدي حرّ إن دخلت الدّار وإن كلّمت فلاناً، وصار تقدير المسألة
فيما إذا أجرى الجزاء: إن دخلت الدّار وإن كلّمت فلاناً فعبدي حرّ، وصار
تقدير المسألة في قوله: كلُّ امرأة أتزوّجها إن دخلت الدّار فهي طالق، كلُّ
امرأة أتزوّجها فإن دخلت الدّار فهي طالق، فتطلق المتزوّجة قبل الدخول، ولا
تطلق المتزوّجة بعد الدخول.
وروى ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله: أن الحالف إذا ذكر شرطين مرتبين
فعلاً من حيث العرف نحو قوله: إن دعوتني إن أجبتك فعبدي حرّ، إن أكلت إن
شربت فعبدي حرّ، فإنّه يعتبر هذا الترتيب الظاهر، وقدر كلّ شرط في موضعه
حتّى إذا شرب أوّلاً ثمَّ أكل لا يعتق عبده، ولو أكل أولاً ثمَّ شرب عتق
عبده؛ لأنّ الأكل يتقدّم على الشرب فعلاً من حيث العرف.
وأما إذا ذكر شرطين غير مرتبين فعلاً من حيث العرف نحو قوله: إن أكلت إن
كلّمت فلاناً، ونحو قوله: إن شربت إن أكلت، يجعل المقدّم مؤخراً أو المؤخّر
مقدّماً، كما هو ظاهر مذهب محمّد رحمه الله. ولو قال لها: إن دخلت هذه
الدّار فأنتِ طالق وهذه الدار، فإنّها لا تطلق ما لم تدخل الدُّارين؛ لأنّ
قوله: وهذه لا يصلح عطفاً على الجزاء، فيجعل عطفاً على الشرط، وتخلّلُ
الجزاء بينهما لا يمنع صحّة العطف، هكذا ذكر «القدوري» : رحمه الله في
كتابه.
قال في «الجامع» : وإذا قال الرجل: كلُّ امرأة أملكها فهي طالق إن دخلت
الدّار، أو قال: إن دخلت الدّار فكل امرأة أملكها فهي طالق، وفي ملكه يوم
اليمين امرأة ثمَّ تزوّج امرأة قبل الدخول وامرأة بعد الدخول طلقت التي
كانت في ملكه يوم اليمين، ولا تطلق التي استعادها بعد اليمين، وهذا
الاستحسان، والقياس: أن تطلق التي يملكها في المستقبل، ولا تطلق التي كانت
في ملكه يوم اليمين.
وجه القياس: وهو أنَّ كلمة أفعل للاستقبال، كقوله أسافر وأتزوّج، فكأنّه
صرّح الاستقبال.
وجه الاستسحان أنَّ صفة أفعل للاستقبال حقيقة، وللحال حقيقة؛ لأنها مستعملة
فيهما في الاستقبال كقول الرّجل: أسافر وأتزوّج وفي الحال كقول الرّجل بين
يدي القاضي: أشهد.
بعد هذا اختلف عبارة المشايخ، بعضهم قالوا: إنّها للحال أحقّ إذ ليس للحال
صفة
(3/385)
أخرى، وللاستقبال صفة أخرى وهي سأفعل، سوف
أفعل، فإذا كانت هذه الصفة للحال أحقّ فعند الإطلاق ينصرف إليه، فكأنّه مضى
على الحال. وبعضهم قالوا: لمّا كانت هذه الصفة حقيقة لهما يتعيّن لإحداهما
بحكم العرف، وعليه الاستعمال كما تعيّن للاستقبال، كما في قوله: أسافر وكما
تعيّن للحال كما في قول الشاهد: أشهد. قلنا وفي الأملاك استعمال هذه الكلمة
للحال بقول الرّجل: أنا أملك كذا، وفلان يملك كذا يريدون الحال.
فإذا علمت استعمال هذه الكلمة للحال كالمنصوص عليه فانصرف يمينه إلى الحال
لهذا، ولو عطف أحد الشرطين على الآخر بحرف الياء بأن قال: إن دخلت هذه
الدّار فهذه الدّار، يُشترط لوقوع الطلاق دخول الدّارين كما لو عطف بحرف
الواو، إلا أنَّ في هذه المسألة يجب أن يكون دخول الدّار الثانية بعد دخول
الدّار الأولى، وكذلك إذا عطف بكلمة ثمَّ بأن قال: إن دخلت هذه الدّار ثمَّ
هذه الدّار؛ لأنّ كلمة ثمَّ للتراخي، فاقتضى أن يكون دخول الدّار الثانية
متراخياً عن دخول الدّار الأولى.
ولو قال: إن دخلت هذه الدّار ودخلت هذه الدّار أو قال: فدخلت هذه الدّار
يشترط دخول الدارين في الحرفين جميعاً، إلا أنَّ في حرف الواو لا يعتبر
الترتيب، وفي حرف الفاء يعتبر لما مرّ. وروي عن محمّد رحمه الله إذا قال
لها: إن دخلت هذه الدّار فدخلت هذه الدّار، فأتى بها فدخلت الدّار الأولى
ثمَّ تزوّجها فدخلت الثانية لم تطلق، كأنّه جعل دخول الدّار الأولى شرط
انعقاد اليمين الثانية، بخلاف قوله: إن دخلت هذه الدّار وهذه الدّار، وروي
عن أبي يوسف رحمه الله مثل ذلك في مسألة أخرى أنّه إذا قال لامرأتين له: إن
غشيت هذه، فغشيت هذه الأخرى فليس الحلف على الأولى، ويكون مولياً من
الثانية إذا غشى الأولى فقد جعل غشيان الأولى شرط انعقاد اليمين في حقّ
الثانية، ثمَّ قال: والفاء في هذه الموضع لا تشبه الواو.
قال في «الجامع» : إذا قال: إن دخلت هذه الدّار إن دخلت هذه الدّار فعبدي
حرّ والدّار واحدة فالقياس أن لا يحنث حتّى يدخل دخلتين.
وفي الاستحسان يحنث بدخلة واحدة، وكذلك إذا قال: إن كلّمت فلاناً إن كلمت
فلاناً، وفلان واحد، كانت المسألة على القياس، والاستحسان على نحو ما ذكرنا
في الدخول، ثمَّ على جواب الاستحسان علّق العتق بالدخول في المسألة الأولى،
وبالكلام في المسألة الثانية من غير ذكر خلاف، وكان الكرخي من أصحابنا
رحمهم الله يقول على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله: ينبغي أن يثبت العتق في
الحال ولا يتعلّق، وجعل هذه المسألة فرعاً لمسألة أخرى ذكرت في كتاب
الإقرار، وهو ما إذا قال لعبده: أنت حرٌّ و (272ب1) حرٌّ إن شاء الله فعلى
قول أبي حنيفة رحمه الله لا يعمل الاستثناء، ويقع العتق للحال؛ لأنّ قوله
وحرٌّ في المرة الثانية تكرار، فصار فاصلاً بين الجزاء والاستثناء، فيمنع
تحمّل الاستثناء، فكذا ها هنا.
قوله في المرّة الثانية: إن دخلت هذه الدّار تكرار للأوّل، فيصير فاصلاً
بين العتق
(3/386)
وبين الدخول، وغيره من المشايخ قالوا: لا
بل ما ذكر من الجواب صحيح على قول الكلّ، وفرّقوا بين هذه المسألة وبين
مسألة كتاب الإقرار. والفرق: أنّ في مسألة الإقرار قوله: وحرٌّ في
المرّة الثانية، إن كان تكراراً من حيث المعنى والاعتبار؛ لأن حرٌّ
بيان لا يتصوّر (أن) ينويهما في عبد واحد، فمن حيث اللفظ ليس بتكرار؛
لأنّه عطف الثاني على الأوّل والشيء لا يعطف على نفسه إنّما يعطف على
غيره، والعبرة في هذا الباب اللفظ، وباعتبار اللفظ هذا ليس بتكرار،
وإذا لم يكن تكراراً كان حشواً من الكلام فاعتبر فاصلاً.
أمّا في مسألتنا لم يعطف أحد الشرطين على الآخر؛ لأنّه لم يذكر بينهما
حرف العطف، فأمكن جعل الثاني تكراراً، فإذا جعلنا الثاني تكراراً كانا
شيئاً واحداً من حيث المعنى والاعتبار، فلا يعتبر فاصلاً، وإن تلك
المسألة من مسألتنا ما لو قال: عبدي حرٌّ حرٌّ إن شاء الله، ولو كان
هكذا لا يعتق العبد عند أبي حنيفة رحمه الله أيضاً، ولا يصير قوله حرٌّ
ثانياً فاصلاً، ولا رواية في هذه المسألة عن أبي حنيفة رحمه الله.
قلنا إنما يمنع على قياس مسألة «الجامع» ووزان مسألتنا من تلك المسألة
ما لو قال لها: إن دخلت هذه الدّار، وإن دخلت هذه الدّار فعبدي حرّ،
ولو قال هكذا يعتق العبد للحال على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله ويصير
قوله: وإن دخلت هذه الدّار ثانياً فاصلاً.v
قال في «الجامع» أيضاً: رجل له امرأة لم يدخل بها فقال: كلُّ امرأة لي،
وكل امرأة أتزوجها إلى ثلاثين سنة فهي طالق إن دخلت الدّار، فتزوّج
امرأة وطلّقها وطلّق التي كانت عنده ثمَّ تزوّجها في الثلاثين سنة،
ثمَّ دخلت الدّار طلقت القديمة تطليقتين باليمين سوى التطليقة التي
أوقع عليها بالتنجيز، فتطلق ثلاثاً؛ لأنّه انعقد عليها يمين الكون
بقوله: كلُّ امرأة لي، ولم يبطل بالبينونة بتطليقة واحدة، والعقد في
حقها يمين التزوّج أيضاً بقوله: كلُّ امرأة أتزوّجها إلى ثلاثين سنة،
وشرط الحنث فيهما دخول الدّار، فإذا دخل الدار والشرط الواحد يكفي
شرطاً في أيمان كثيرة وقع عليها تطليقتان بحكم اليمينين، وأمّا الجديدة
فتطلق واحدة باليمين سوى ما أوقع عليها بالتنجيز، فتطلق تطليقتان؛ لأنّ
المنعقد في حقّهما بيمين واحدة وهي يمين التزوّج.
ولو أنَّ الزوج حين طلّقها أوّل مرّة لم يتزوّجها حتّى تدخل الدّار
ثمَّ تزوّجها طلقت القديمة واحدة بالحنث في يمين التزوّج بنفس التزوّج،
وإن كان المنعقد في حقهما يمينان يمين التزوّج ويمين الكون؛ لأنّه حين
دخل الدّار قبل أن يتزوّج القديمة فقد وجد شرط الحنث في يمين الكون،
وهي ليست في نكاحه ولا عدّته، وأنّه يوجب انحلال اليمين، لا إلى جزاء،
وأما الجديدة فلا يقع عليها بالحنث شيء؛ لأنّ المنعقد في حقّها يمين
التزوّج، ووقوع الطلاق فيها معلّق بالدخول، وحين دخل الزوج الدّار لم
تكن هي في نكاحه ولا عدّته فانحلت اليمين في حقها لا إلى حنث، وحين
تزوّجها من أخرى لم تنعقد عليها يمين أخرى؛ لأن عقد اليمين بكلمة كل،
وإنها لا توجب تكرار الفعل في المرأة الواحدة، فلا يتكرّر انعقاد
اليمين عليها.
(3/387)
ولو قال: كلُّ امرأة لي وكلّما تزوّجت
امرأة إلى ثلاثين سنة فهي طالق، إن دخلت في ملكه امرأة ثمَّ تزوج امرأة
أخرى ثمَّ طلقهما جميعاً، ثمَّ تزوّجهما ثانياً، ثمَّ دخل الدّار طلقت
كلُّ واحدة منها ثلاثاً، واحدة بالإيقاع وثنتان بالحنث، وأمَّا القديمة
فلما ذكرنا، وأمّا الجديدة فلأن المنعقد عليها يمينان في هذه الصورة؛
لأنَّ الزوج جعل التزوّج شرط انعقاد اليمين بكلمة تقتضي التكرار، وهي
كلمة كلّما، فحين يتزوّج الجديدة ثانياً انعقد عليها يمين التزوّج
ثانياً، واليمين الأولى باقية، والدخول شرط الحنث فيهما، والحنث فيهما
يوجب الطلاقين، ولو كان حين طلقهما لم يتزوّجهما حتّى دخل الدّار ثمَّ
تزوّجها طلقت كلُّ واحدةٍ واحدةً بالحنث.
وفي «القدوري» : إذا قال: كلّما دخلت هذه الدّار وكلّمت فلاناً، أو
فكلّمت فلاناً فامرأة من نسائي طالق، فدخل الدّار دخلات وكلّم فلاناً
مرّة واحدة، لم تطلق إلا امرأة واحدة؛ لأنّ الشرط هو الدخول والكلام
والدخول، إن تكرّر لم يتكرّر الكلام وإن تكرر بعض الشرط لا يتكرّر
الجزاء.
ولو قال: كلّما دخلت هذه الدّار فإن كلّمت فلاناً فأنتِ طالق، فدخل
الدّار ثلاثاً وكلّم فلاناً بأمره طلقت ثلاثاً؛ لأنّ قوله: فإن كلّمت
فلاناً فأنتِ طالق يمين تامّة هو جزء الدخول، والجزاء يتكرّر بتكرار
الشرط، والشرط وهو الدخول تكرّر، فيصير قائلاً عند كلّ دخول: أنتِ طالق
إن كلّمت فلاناً، فإذا كلم فلاناً مرّة والشرط الواحد يصلح شرطاً في
أيمان كثيرة طلقت ثلاثاً.
وفي «القدوري» : إذا قال: كلّما دخلت هذه الدّار وكلّمت فلاناً، أو
فكلّمت فلاناً فامرأة من نسائي طالق، فدخل الدّار دخلات وكلّم فلاناً
مرّة واحدة، لم تطلق إلا امرأة واحدة؛ لأنّ الشرط هو الدخول والكلام
والدخول، إن تكرّر لم يتكرّر الكلام وإن تكرر بعض الشرط لا يتكرّر
الجزاء.
ولو قال: كلّما دخلت هذه الدّار فإن كلّمت فلاناً فأنتِ طالق، فدخل
الدّار ثلاثاً وكلّم فلاناً بأمره طلقت ثلاثاً؛ لأنّ قوله: فإن كلّمت
فلاناً فأنتِ طالق يمين تامّة هو جزء الدخول، والجزاء يتكرّر بتكرار
الشرط، والشرط وهو الدخول تكرّر، فيصير قائلاً عند كلّ دخول: أنتِ طالق
إن كلّمت فلاناً، فإذا كلم فلاناً مرّة والشرط الواحد يصلح شرطاً في
أيمان كثيرة طلقت ثلاثاً.
نوع آخر
قال في «القدوري» : إذا قال الرّجل: كل امرأة أتزوّجها فهي طالق وفلانة
وفلانة امرأته طلقت فلانة السّاعة، ولا ينتظر التزوّج؛ لأنّ قوله كلّ
امرأة ليس بشرط على الحقيقة، ولكن أخذ معنى الشرط لأمر أن الفعل له،
فصار قوله: وفلانة معطوفة على المذكور في الطلاق لا على المذكور في
الشرط، فوقع الطلاق على فلانة السّاعة لهذا، ولو قال لامرأته: أنتِ
طالق وفلانة، إن تزوّجها لم يقع الطلاق على امرأته حتّى يتزوّج
بالأخرى؛ لأنّه صريح بحرف الشرط، فصار طلاقهما متعلّقاً بالتزوّج بخلاف
المسألة الأولى، ولو قال: كلُّ امرأة من نسائي تدخل الدّار فهي طالق
وفلانة طلقت فلانة للحال، وإن دخلت الدّار وهي في العدّة طلقت الأخرى.
وقال في «الجامع» إذا قال: كلُّ امرأة لي تدخل الدّار فهي طالق وعبد من
عبيدي حرٌّ، فدخلت امرأتان الدّار طلقتا وعتق عبد من عبيده، وأمّا
(273أ1) طلاقهما فظاهر، وأمّا عتق عبده فلأنَّ قوله: وعبد اسم منكر ذكر
في موضع الإثبات والنكرة في موضع الإثبات تخص ولا تتناول إلا عبداً
واحداً، ولهذا لو قال ابتداءً: عبد من عبيدي حر لا يعتق إلا عبد واحد،
لو ثبت العموم في العبد إنّما يثبت ضرورة العطف على المرأة التي دخل
عليها كلمة كل من حيث أنَّ حكم المعطوف حكم المعطوف عليه، والعموم ثابت
في حقّ المعطوف عليه ولا وجه إليه؛ لأنّ قوله وعبد غير معطوف عليه
المرأة، ألا يرى
(3/388)
أنّهما اختلفا في الإعراب، فإن إعراب
المرأة كسر وإعراب العبد رفع، فبعد ذلك إما أن يعتبر معطوفاً على قوله
«فهي» ؛ لأنّ محلّه من الإعراب الرفع؛ لأنّه مبتدأ، أو على قوله طالق؛
لأنّه مرفوع، والأوّل لأنَّ قوله وعبد اسم فرد لا يتصل بالفعل، وقوله
فهنّ كناية عن فرد لا يتصل بالفعل، وقوله: طالق اسم فرد يتصل بالفعل،
والأحسن في العطف عطف الاسم المفرد عن الفعل على الاسم المفرد عن
الفعل، فكان عطفه على قوله فهي أولى.
وإذا صار قوله: وعبد معطوفاً على قوله فهي مفعول لا يجوز أن يثبت
العموم في العبد لكونه معطوفاً على هي؛ لأنّ هن فرد يضعه، وإنّما يثبت
العموم فيه ضرورة كونه كناية عن المرأة الداخلة عليها كلمة كل؛ لأنَّ
الكناية لا تستقل بنفسها، فأخذنا حكمها من المكنّى عنه وهو المرأة،
وإذا كانت المرأة عامّة كانت الكناية عامّة ضرورة، ولا ضرورة في قوله:
وعبده لأنّه ليس بكناية بل هو كلام مستقل بنفسه، ولهذا لو قال ابتداء:
وعبد من عبيدي حرٌّ كان كلاماً مستقيماً مفهوماً، ويكون له حكم نفسه
وحكمه الخصوص؛ لأنّه فرد صفة.
فإن قيل: إن لم يثبت من وجه آخر من حيث العبد من الوجه الذي منهم يثبت
من وجه آخر من حيث أنَّ كلمة كلّما وقعت على جماعة النساء، وقعت على
جماعة الدخول في حقهن، ألا يرى أنّه لو دخلت أربعة الدّار طلّقهن
جميعاً والعتق معلّق بالدخول، فإذا تعدّد الدخول تعدّد العتق، ألا يرى
أنّه لو كان مكان كلمة كلّ كلمة كلّما بأن قال: كلّما دخلت امرأة هذه
الدّار فهي طالق وعبد من عبيدي حرٌّ، فدخلت امرأتان عتق عبدان وطريقة
ما قلنا. قلنا: كلمة كل تقع على جماعة الأسماء مقصوراً، وأمّا على
جماعة الأفعال إذا كان الفعل مقروناً بالاسم يقع ضرورة تعميم الفعل
الاسم، فما لم يثبت تعميم الاسم مقصوراً لا يثبت تعميم الفعل.
إذا ثبت هذا فنقول: تعميم الاسم في حقّ البنوّة يثبت مقصوداً، فيثبت
تعميم الفعل وهو الدخول في حقّ كلهنّ تبعاً، وأمّا في حقّ العبيد تعميم
الاسم لم (يكن) مقصودا، فلا يثبت تعميم الفعل في حقّهن مقصود، فبقي
الشرط في حقّهم دخول واحد من واحدة من نسائه، كأنّه قال: إن دخلت واحدة
من نسائي الدّار فعبد من عبيدي حرٌّ، ولو نصّ على هذا كان الجواب كما
قلنا، وأمّا كلمة كلّما تعم الأفعال مقصوداً، أو صار كلُّ دخول من
جماعة....... أو من امرأة واحدة شرطاً، وعتق العبد معلّق بالدخول، فإن
كان الدخول متكرراً كان العتق متكرراً.
نوع آخر في الشرط الذي يحتمل الحال والاستقبال
إذا قال لامرأته وهي حائض: إن حضت أو قال لها وهي مريضة: إن مرضت فأنتِ
طالق، فهذا على الخصوص والمرض في المستقبل، فإن نوى ما يحدث من هذا
الحيض، أو من هذا المرض فهو على ما نوى؛ لأنّ الحيض داء أجزاء والمرض
كذلك.
(3/389)
وإذا نوى الجزء الذي يكون في المستقبل، فقد
نوى ما يحتمله لفظه فصحت نيته، ولو قال: إن حضت غداً فأنتِ طالق، وهو
يعلم أنها حائض فهذا على هذه الحيضة، فإذا دام حتّى انشقّ الفجر من
الغد طلقت بعد أن تكون تلك الساعة تمام الثلاث أو زائداً على الثلاث؛
وهذا لأنّه إذا كان عالماً بحيضها لا يكون من قصده تعليق الطلاق بدون
حيضة أخرى؛ لأنّ ذلك مستحيل، فكان قصده تعليق الطلاق باستمرار ذلك،
وإنّما اعتبرنا تمام الثلاث؛ لأنّ الدّم إذا انقطع فيما دون الثلاث لا
يكون حيضاً، وإن كان لا يعلم بحيضها فهذا على حدوث الحيض في الغد.
وكذلك إذا قال لها إن حممت وهي محمومة، أو قال إن صدعت وهي مصدوعة،
فهذا على التفصيل الذي قلنا في الحيض والمرض. ولو قال وهي صحيحة: إن
صححت فأنتِ طالق وقع الطلاق حين سكت يعني في الحال، وكذلك إذا قال لها:
إن أبصرت أو سمعت فهي طالق وهي سمعة بصرة وقع للحال؛ لأنّ هذا ليس
بمعنى حادث فيتعلّق اليمين بوجودها.
قال: وأمّا القيام والقعود والركوب والسكنى فهو على أن يمكث ساعة بعد
اليمين، وأمّا الدخول فلا يكون من داخل إلى خارج وهذا المعنى لا يبقى،
وكذلك الحبل هو ابتداء العلوق، وكذلك الشرب والأكل على الحادث بعد
اليمين، ولو قال: أنتِ طالق ما لم تحيضي أو ما لم تحبلي وهي حائض أو
حبلى، فهي طالق حين سكت إلا أن يكون ذلك منها حين سكوته، فإن نوى ما
بقي فيه من الحيض والحبل ديّن في الحيض فيما بينه وبين الله تعالى، ولم
يديّن في الحبل؛ لأنّ الحيض داء آخر وما يزداد يسمّى حيضاً، والحبل لا
يزداد، وهذه الجملة من «القدوري» .
وفي «الأصل» : إذا قال لها: إذا حضت حيضة فأنتِ طالق، وإذا حضت حيضتين
فأنتِ طالق، فحاضت حيضة وقع عليها تطليقتان، وكانت الحيضة الأولى كمال
الشرط في اليمين الأولى وبعض الشرط في اليمين الثانية، ولو قال: إذا
حضت حيضة فأنتِ طالق ثمَّ إذا حضت حيضتين فأنتِ طالق، فحاضت حيضة حتّى
وقع الطلاق باليمين الأولى، لا يقع الطلاق باليمين الثانية ما لم تحض
بعد ذلك به حيضتين أخراوين عملاً بكلمة ثمَّ، فإن قال: عنيت به الأوّل
صدّق ديانة لا قضاء؛ لأنّ ثمَّ لا تكون للتعقيب، فكان ناوياً ما يحتمله
لفظه إلا أنّه خلاف الظاهر.
وفي «البقالي» : إذا قال لها: إذا حضت فأنتِ طالق، ثمَّ قال كلّما حضت
حيضتين فأنتِ طالق وقع بأوّل الحيضة طلاق وبانقضائها، وحيضة أخرى بعدها
تقع تطليقة أخرى.
وفي «الجامع» : إذا قال لها: إذا حضت حيضة، فأنتِ طالق لا تطلق ما لم
تحض وتطهر؛ لأنّ الحيضة مع الهاء اسم للكامل منها وكمالها (273ب1)
بالطهر.
ولو قال لها: إذا حضت نصف حيضة، فكذلك الجواب لا تطلق ما لم تحض وتطهر؛
لأنَّ الزوج ذكر النصف مطلقاً، واسم النصف عند الطلاق يقع على الشائع،
وذلك لا يوجد حتّى بينهنّ، ولو قال لها: إذا حضت نصف حيضة فأنتِ طالق،
وإذا حضت نصفها الأخرى فأنتِ طالق، فحاضت حيضة طلقت ثنتان؛ لأنّه وجد
كلا النصفين سابقاً.
(3/390)
نوع آخر في الشرط يكون على الفور أو على
التراخي
عن محمّد رحمه الله فيمن قال لغيره: إن ضربتني ولم أضربك فامرأته طالق،
هذا على الفور قال: ولم تكون على وجهين: على قبل وبعد، فإذا كان على
بعد فهو على الفور، وإذا كان على قبل فهو على ذلك، قال وقوله: إن
ضربتني ولم أضربك فهذا على الماضي عندنا، كأنّه قال: ضربتني، ولم أكن
ضربتك قبل ضربك إياي فكذا وإن نوى بعد فهو على (ما) نوى، ومعناه: إن
ضربتني ابتداء فلم أضربك بعد ذلك فكذا، فهو على ما نوى، ويكون على
الفور، والحاصل: أنّ كلمة «لم» قد تقع على الأبد كقوله: إن أتيتني ولم
آتك إن زرتني ولم أزرك، فهذا على الأبد وقد يقع على الفور، والمعتبر في
حمله على أحدهما معاني كلام النّاس، وكذلك قد تقع هذه الجملة على قبل
وقد تقع على بعد، والمعتبر في حمله على أحدهم معاني كلام النّاس، أو
يوجد منطق يستدل به عليه، وما كان شبيهاً نحو قوله: إن كلمتك ولم
تكلمي، فهذا على قبل وبعد، فإن نوى شيئاً فهو على ما نوى، وإن لم يكن
له نيّة فإنَّه إنْ فعل فقد برَّ في يمينه، ولو قال: إن كلمتني ولم
أكلمك فهو على المستقبل والفور؛ لأنّ الجواب لا يصحّ إلا بتقديم
الكلام، وإنّما حمل على الفور باعتبار العادة.
وعن محمّد رحمه الله فيمن قال: كلُّ جارية أشتريها فلا أطؤها فكذا، فهو
على الوطء ساعة يشتري، فإن قال: فإن لم أطأها فهذا على ما بينه وبين
الموت، ومتى وطئها برَّ في يمينه؛ لأن إنْ شرط لا يقتضي التعجيل، وعن
أبي يوسف رحمه الله: فيمن قال لغلامه: إن لم تأتني حتّى أضربك فكذا،
فأتى قال متى ضربه برّ في يمينه، إلا أن ينوي أن يضربه ساعة ما يأتي،
وكذا إذا لم يأتِ ساعة ما أمره وأتاه في وقت آخر؛ لأنّه ليس في لفظه ما
ينبىء عن التعجيل فلا يحمل على الفور إلا بدلالة.
وعن محمّد رحمه الله فيمن قال: إن لم أشترِ اليوم عبداً فأعتقه فامرأته
طالق، فاشترى عبداً ووهبه ثمَّ اشترى آخر فأعتقه، قال: اليمين على
العبد الأوّل وتطلق امرأته؛ لأنّ تقدير كلامه: أشتري اليوم عبداً
فأعتقه، فإن لم أعتقه فكذا، فحين اشترى عبداً فقد انعقد عليه اليمين إذ
لا مزاحم له فلا يدخل غيره تحت اليمين.
وعن محمّد رحمه الله: قال لغيره: إن بعثت إليك فلم تأتني فكذا، فبعث
إليه فأتاه ثمَّ بعث إليه فلم يأته حنث في يمينه؛ لأنّ اليمين لم تسقط
بإتيانه، وكذلك إذا قال: إن بعثت إليَّ فلم آتك، فبعث إليه، فأتاه ثمَّ
بعث إليه فلم يأته حنث في يمينه.
وروى المعلّى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله: إذا قال لغيره: إذا
فعلت كذا فلم أفعل كذا فامرأته طالق، فلم يفعل ما قال على إثر المحلوف
عليه طلقت امرأته. ولو قالت: إن فعلت كذا ثمَّ لم أفعل كذا فهو على
الأبد، قال أبو يوسف رحمه الله: هما سواء وهو على الفور.
وعن أبي يوسف رحمه الله فيمن قال: إن أحدّث فلاناً لأضربنّه مائة سوط،
فحدّثه
(3/391)
وضربه سوطاً أو سوطين، قال: هو على الأبد.
ذكر ابن سماعة في «نوادره» عن محمّد رحمه الله: إذا قال الرّجل: إن
رأيت فلاناً لم آتك به فامرأته طالق، فرآه الحالف في أوّل ما رآه مع
هذا الرجل الذي قال له فلم آتك به، قال: الحالف حانث الساعة؛ لأنه لا
يستطيع أن يأتيه به.
ولو قال: إن رأيت فلاناً، فلم أعلمك به فكذا، فرآه أوّل ما رآه مع هذا
الرجل الذي قال له: فلم أعلمك به لم يحنث في قول أبي حنيفة ومحمّد
رحمهما الله؛ لأنه ليس هاهنا موضع إعلام، وفي قياس قول أبي يوسف رحمه
الله يحنث، وهو بمنزلة قوله: إن لم أشرب الماء الذي في هذا الكوز غداً،
فانصبّ الماء قبل مجيء الغد ولم ينضح. ولنا وجه الفرق بين المسألتين
على قول أبي حنيفة رحمه الله.
وروى إبراهيم عن محمّد رحمهما الله: في رجل خرج إلى الصيد، فأعجب رجلاً
فقال له: اخرج معي إلى الصيد، فقال: نعم، اذهب بما معي إلى البيت فأضعه
وأتيك، فقال له: احلف بالطلاق، فحلف بالطلاق ليأتينّه ولم يقل اليوم
فأتاه بعدما رجع عن الصيد، قال هو حانث.
وفي «المنتقى» : إذا قال الرجل لغيره: ادخل هذه الدّار اليوم فقال: إن
دخلت اليوم فكذا، فهو على تلك الدّار دون غيرها، وكذلك إذا قال له:
كلّم هذا الرجل، فقال: إن كلمت فكذا، فهو على كلام ذلك الرجل، ولو قال
لغيره: تزوّج فلانة، فقال: إن تزوّجت فلانة أبداً فكذا، فتزوّج غير
فلانة حنث في يمينه، ومسألة التزوّج يخالف مسألة الدخول وإنّها مشكلة.
نوع آخر في تعليق الطلاق بالفعلين صورة وبفعل أحدٍ معنى
قال محمّد رحمه الله في «الجامع» : إذا قال الرّجل لامرأتين: إذا
ولدتما ولداً، إن ولدتما ولداً فأنتما طالقتان، فولدت إحداهما ولداً
فإنهما تطلقان وهذا استحسان، والقياس أن لا تطلق واحدة منهما، وعلى هذا
القياس إذا قال لهما: إذا حضتما حيضة إن حضتما حيضة، فأنتما طالقتان،
فحاضت إحداهما حيضة فإنّهما تطلقان استحساناً، والقياس أن لا تطلق
واحدة منهما أبداً.
وجه القياس في ذلك: أنّه علّق الطلاق بفعلهما فلا يقع بفعل إحداهما؛
لأنّه بعض الشرط، وبوجود بعض الشرط لا يترك الجزاء. وجه الاستحسان في
ذلك: أنّه علّق الطلاق بفعل إحداهما، فإذا ولدت إحداهما أو حاضت
إحداهما فقد وجد شرط وقوع الطلاق عليها، فيقع.
بيانه: وهو أنَّ الزوج وإن ذكر فعلهما إلا أنّه تعذّر العمل بحقيقته؛
لأنّ ولادتهما ولداً واحداً وحيضهما حيضة واحدة مستحيل، وأمكن جعله
مجازاً عن فعل إحداهما، فإن ذكر المثنّى وإرادة الواحد شائع في اللغة
مستعمل فيما بين أهل الشرع، قال الله تعالى في
(3/392)
قصّة موسى عليه السلام: {فَلَمَّا بَلَغَا
مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى
الْبَحْرِ سَرَباً} (الكهف: 61) أضاف النسيان (274أ1) إلى الاثنين،
والنسيان كان من أحدهما، وهو يوشع بن نون بدليل قوله: {قَالَ
أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنّى نَسِيتُ الْحُوتَ
وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَنُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ
سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ عَجَبًا} (الكهف: 63) والمعنى في ذلك: وهو
أنّه ليس في ذكر الاثنين، فإرادة الواحد إرادة الخصوص من العموم،
وإرادة الخصوص من العموم شائع في اللغة والشرع، فإذا جاز ذلك جعلنا ذكر
الاثنين ههنا مجازاً عن ذكر الواحد، وصار تقدير هذه اليمين: إذا ولدت
إحداكما ولداً إذا حاضت إحداكما حيضة. وبهذا يتبيّن أن الطلاق معلّق
بفعل إحداهما لا بفعلهما.
لو قال لهما: إذا ولدتما ولدين فأنتما طالقان، فولدت إحداهما ولداً لا
تطلق واحدة منهما ما لم تلد كلُّ واحدة منهما ولداً بخلاف الصورة
الأولى؛ لأنّ الشرط في الصورة الأولى ولادتهما مطلقاً لا ولادتهما
ولداً واحداً وولادتهما مقصورةً، والشرط في الصورة الثانية: ولادتهما
ولدين، وولادتهما ولدين مقصور بأن تلد كلُّ واحدة منهما ولداً، فالعمل
بحقيقة الكلام هناك ممكن، فلا يصار إلى المجاز، وكذلك في قوله: إن
حضتما حيضتين العمل بحقيقة الكلام ممكن على نحو ما قلنا في الولادة،
فصار الشرط فعلهما، أمّا ههنا بخلافه، فإذا قال لهما: إذا ولدتما ولدين
فأنتما طالقتان، فولدت إحداهما ولدين، أو قال: إذا حضتما فأنتما
طالقتان فحاضت إحداهما حيضتين لا تطلق واحدة منهما، ولو حاضت كلُّ
واحدة منها حيضة أو ولدت كلُّ واحدة منهما ولداً طلقتا، ولا يشترط
ولادة كلِّ واحدة منهما ولدين.
وهو نظير ما لو قال لهما: إن دخلتما بين الدارين فأنتما طالقتان، فدخلت
إحداهما داراً ودخلت الأخرى الدّار الأخرى طلقت كلُّ واحدة منها
استحساناً، وكذلك إذا قال لهما: إن دخلتما هذه الدّار وهذه الدّار
الأخرى فأنتما طالقتان، فدخلت إحداهما داراً ودخلت الأخرى الدّار
الأخرى، وهذا استحسان، والقياس في المسألتين أن لا تطلق واحدة منهما
حتّى يدخلا هذه الدّار، ويدخلا هذه الدّار الأخرى، وهو رواية عن أبي
يوسف رحمه الله في «الأمالي» .
ولو قال لهما: إن دخلتما هذه الدّار، ودخلتما هذه الدّار الأخرى فأنتما
طالقتان لا تطلق واحدة منهما ما لم يدخلا هذه الدّار ويدخلا هذه الدّار
الأخرى قياساً واستحساناً، والأصل في جنس هذه المسائل: أنّ الجمع
المضاف إلى الواحد يعتبر جمعاً في حقّ الواحد المضاف إليه، ولا يعتبر
واحداً. ألا ترى أنّ من قال لامرأته: إن لبست ثيابك فأنتِ طالق، فلبست
ثوباً واحداً لا تطلق، وهذا لأنّ المتكلّم أضاف الجمع إلى الواحد،
فالواحد إبطال القيد الذي ذكره الحالف، وفيه إبطال غرضه وأنّه لا يجوز
فيجب اعتبار الجمع في حقّ الآخر إلا إذا لم يمكن اعتبار الجمع في حقّ
الواحد، فحينئذٍ يعتبر الواحد.
بيانه في قوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ
إِلاَّ بِالحَقّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا
(3/393)
لِوَلِيّهِ سُلْطَناً فَلاَ يُسْرِف فّى
الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} (الإسراء: 33) هذا جمع أضيف إلى
الواحد ولم يعتبر معاً في حقّ الواحد حتى لا يشترط التحريم ثمَّ اجتماع
النّاس على زنا واحد، بل إذا وجد الزنا من واحد كان حراماً؛ لأنَّ
اجتماع الناس على زنا واحد غير ممكن، وأمّا الجمع المضاف إلى الجمع
يعتبر واحداً في حقّ الواحد استحساناً، ولا يعتبر جمعاً في حقّ الواحد؛
لأنَّ في اعتباره جمعاً في حقّ الواحد إبطال القيد الذي ذكره الحالف،
وهو إضافة الجمع إلى الجمع، ولكن إنّما يعتبر واحداً في حقّ الواحد إذا
كان شيئاً يقبل الخصوص، بأن كان عاماً كل.
......؛ لأنّ العام يذكر ويراد به الخصوص، أمّا إذا لم يكن قابلاً
للخصوص لا يعتبر آحاداً في حقّ الآحاد، بل يعتبر جمعاً في حقّ الآحاد؛
لأنّه يكون في ذلك إثبات الخصوص فيما لا يقبل الخصوص، ألا ترى أنَّ من
قال لثلاث نسوة: أنتنّ طوالق ثلاثاً طلقت كلُّ واحدة ثلاث تطليقات،
وهذا جمع مضاف إلى الجمع، ولم يعتبر آحاداً في حقّ الآحاد؛ لأنّ الثلاث
لا تحتمل الخصوص؛ لأنّه اسم عدد، واسم العدد لا يحتمل الخصوص إلا
بالاستثناء، فإن من سمّى عشرة وقال: أردت التسعة والثمانية لا يصح.
وإذا لم يكن الثلاث قابلاً للخصوص لم يعتبر آحاداً في حقّ الآحاد، بل
اعتبر جمعاً في حقّ الآحاد، فيقع على كلّ واحدة منهنّ ثلاث تطليقات،
وهذا بخلاف ما لو قال إن دخلتما هذه الدّار، ودخلتما هذه الدّار
الأخرى؛ لأنّ هناك الجمع مضاف إلى الواحد في كلّ كلام، فيعتبر الجمع
بالواحد في كلّ كلام.
لو قال لهما: إذا أكلتما هذا الرغيف فأنتما طالقتان، لا يقع الطلاق على
واحدة منهما ما لم يأكلا جميعاً؛ لأنّه على الطلاق بفعل يكون منهما،
وهو اجتماعهما على الأكل فلا يقع الطلاق ما لم يوجد الأكل منهما، كما
لو قال لهما: إن ولدتما إن حضتما، وإن أكلا جميعاً يقع الطلاق عليها،
وإن أكلت إحداهما أكثر من الأخرى، لأنّ الشرط أكل كلّ واحدة بعض الرغيف
بعضاً مطلقاً، لا بعضاً مقيَّداً، والتي أكلت أقلّ فقد أكلت بعض
الرغيف؛ لأنّ اسم البعض كما ينطلق على الكثير ينطلق على القليل، حتّى
قالوا: لو أكلت إحداهما مقداراً لا ينطلق عليه اسم البعض بأن أكلت كسرة
خبز لا تطلق واحدة منهما لانعدام الشرط، وهو أكل كل واحدة منهما بعض
الرغيف في دخول الواحد تحت الشرطين.
قال محمّد رحمه الله في «الجامع» : إذا قال الرجل لامرأته وهي حامل:
إذا ولدت ولداً فأنتِ طالق ثنتين، ثمَّ قال لها: إن كان الولد الذي
تلدينه غلاماً فأنتِ طالق واحدة، فولدت المرأة غلاماً طلقت ثلاثاً، لأن
المنعقد ههنا يمينان؛ لأنّه ذكر شرطين وجزاءين أحد الشرطين ولادة ولد
مطلق وجزاؤه تطليقتان، والشرط الآخر ولادة الغلام وجزاؤه طلقة واحدة،
وإذا ولدت غلاماً والغلام ولد كما أنّه غلام يقع الحنث في اليمينين
جميعاً.
(3/394)
وهو نظير ما لو قال: إن دخل رجل داري هذه
فعبدي حرٌّ، ثمَّ قال: إن دخل زيد داري هذه فامرأته طالق، فدخل زيد
الدّار عتق العبد وطلقت المرأة، وطريقه ما قلنا.
ولو كان قال لها: إذا ولدت ولداً فأنتِ طالق ثنتين، ثمَّ قال لها: إن
كان الولد الذي في بطنك غلاماً فأنتِ طالق واحدة فولدت غلاماً، فإنّها
تطلق واحدة بخلاف المسألة المتقدّمة، فإنَّ هناك قال: إذا ولدت غلاماً
تطلق ثلاثاً. والفرق: أنَّ في هذه المسألة وقوع (274أ1) الواحدة سابق
على الولادة؛ لأنَّ وقوعها معلّق بكون ما في البطن غلاماً بولادة
الغلام، وبولادة غلام تبيّن أنَّ ما في بطنها كان غلاماً، وأنَّ
الواحدة كانت واقعة قبل الولادة إذ تبيّن أنَّ شرط وقوعها كان موجوداً،
وتبين أنها صارت معتدة قبل الولادة، فبالولادة وقع على الأجنبيّة، أمّا
في المسألة المتقدّمة وقوع الواحدة لا يسبق الولادة؛ لأنَّ هناك
الواحدة معلّقة بالولادة صريحاً كالثنتين؛ إلا أنَّ الواحدة تعلقت
بولادة الغلام، والثنتان تعلقتا بولادة ولد مطلق، فإذا ولدت غلاماً فقد
وجد شرط الحنث في اليمنين في ساعة واحدة، فنزلت الطلقات الثلاث في ساعة
واحدة.
ونظير هذه المسألة: ما قال محمّد بن الحسن رحمه الله في رجل قال: إن
كان الذي في هذه الدّار اليوم رجلاً فامرأته طالق، ثمَّ تبيّن في آخر
النّهار أنّه كان فيها رجل طلقت المرأة، وحنث حين تكلم به، إذا تبيّن
أنّ الشرط الذي علّق به الطلاق كان موجوداً، ولو قال: إن كان الذي يدخل
في هذه الدّار اليوم رجلاً فامرأته طالق، فدخل في آخر النّهار رجل طلقت
المرأة حين دخل؛ لأنَّ التعليق حصل بدخول الدّار، ودخول الدّار كان
معدوماً حالة التعليق، فكان تعليقاً على الحقيقة، فوقع الطلاق عند
الدخول فكذا فيما تقدّم.
فإن قيل: كون ما في البطن غلاماً إنّما يعرف بالولادة، فينبغي أن يجعل
الولادة شرطاً في المسألة الثانية، حتّى لا تقع الواحدة سابقاً على
الولادة كما في المسألة المتقدمة، ألا يُرى أن من قال لامرأته: أنتِ
طالق قبل قدوم فلان بشهر، فقدم فلان لتمام الشهر فإنّه يقع الطلاق
عليها بعد القدوم، أو مقارناً للقدوم على حسب ما اختلفوا، وبقدوم فلان
لتمام الشهر، (فإنْ) ظهر أنَّ هذا شهر قبل قدوم فلان فينبغي أن يقع
الطلاق من أوّل الشهر، ولكن قبل بأن الوقت الموصوف بأنّه قبل قدوم فلان
بشهر إنّما يعرف بالقدوم، فيجعل القدوم شرطاً.
والجواب: أنَّ في القدوم أمكن جعل القدوم شرطاً؛ لأنّ القدوم ملفوظة
به، وهي على خطر الوجود، وفي مسألتنا لا يمكن أن يجعل الولادة شرطاً؛
لأنّها غير ملفوظ بها إن كانت على خطر الوجود، فلم يجعل شرطاً بل كان
معرفاً محضاً وكان بمنزلة ما لو قال لامرأته: إن كان في هذا الجوالق
حنطة فأنتِ طالق، فحلَّ الجوالق فإذا فيها حنطة وقع الطلاق من حين
تكلّم، وإنّما عرف كون ما في الجوالق حنطة بالحلّ، ومع هذا لم يجعل
الحلّ شرطاً؛ لأنّ الحلّ غير ملفوظ به.
وفي «الأصل» : إذا قال لها: كلّما ولدت ولداً فأنتِ طالق، وقال لها
أيضاً: إذا
(3/395)
ولدت غلاماً فأنتِ طالق، فولدت ولداً فصارت
ولادتها شرطاً لانحلال اليمينين جميعاً.
وهو نظير ما لو قال لها: إن كلّمت فلاناً فأنتِ طالق وقال لها أيضاً:
إن كلَّمت أنا فأنتِ طالق، فكلّم فلاناً طلقت تطليقتين؛ لأنّه فلان
وإنسان.
وكذلك إذا قال لامرأته: إذا تزوّجتُ فلانة فهي طالق، ثمَّ قال: كل
امرأة أتزوّجها فهي طالق، ثمَّ تزوّج فلانة طلقت تطليقتين؛ لأنها امرأة
وفلانة، إذا حصل تعليق الطلاق بشرطين ووجد الشرط الأوّل وهي في نكاحه
ووجد الشرط الثاني وهي ليست في نكاحه ولا عدّته بأن أبانها بواحدة
بعدما وجد الشرط الأوّل وانقضت عدتها، ثمَّ وجد الشرط الثاني لا يقع
الطلاق، ولو وجد الشرط الأوّل في غير ملكه وعدّته ووجد الشرط الثاني في
ملكه بأن تزوّجها بعد ما وجد الشرط الأوّل ثمَّ وجد الشرط الثاني يقع
الطلاق.
مثال الأوّل: إذا قال لامرأته: إن كلمت زيداً وعمراً فأنتِ طالق، فكلمت
أحدهما، ثمَّ إنَّ الزوج أبانها بواحدة وانقضت عدتها، ثمَّ كلمت الآخر
فإنّه لا يقع الطلاق.
ومثال الثاني: إذا قال لها: إن كلمت زيداً وعمراً فأنتِ طالق، فأبانها
بواحدة وانقضت عدتها، ثمَّ كلّمت أحدهما، ثمَّ تزوّجها، ثمَّ كلّمت
الآخر وقع الطلاق عندنا، خلافاً لزفر، وزفر يقول: قيام الملك وقت دخول
الشرط شرط وقوع الطلاق، والشرط ههنا كلامهما، فيعتبر قيام الملك وقت
دخول الكلامين، وإنّا نقول: قيام الكل وقت وجود الشرط إنّما يعتبر
ليَزول الجزاء، لا لوجود الشرط نفسه، ووقت يزول الجزاء عند وجود آخر
الشرطين، فيعتبر قيام الملك عندهما، وإذا حصل التعليق بشرط واحد، ووجد
بعض الشرط في ملكه والبعض في غير ملكه وعدّته؛ إن وجد أوّل الشرط في
ملكه وآخره في غير ملكه لا يقع الطلاق، وإن وجد أوّل الشرط في غير ملكه
ووجد آخر الشرط في ملكه وقع الطلاق.
مثال هذا: قال الرجل لامرأته: إن أكلت هذا الرغيف فأنتِ طالق، فأبانها
وانقضت عدّتها فأكلت بعض الرغيف، ثمَّ تزوّجها بعد ذلك، ثمَّ أكلت
الباقي طلقت عندنا، ولو أكلت بعض الرغيف وهي في نكاحه ثمَّ أبانها
وانقضت عدّتها، فأكلت الباقي لا تطلق، فعلى هذا القياس تخرج جنس هذه
المسائل.
وفي «الأصل» : إذا قال لها: كلّما حضت حيضتين فأنتِ طالق، فحاضت حيضة
في ملكه ثمَّ أبانها وانقضت عدّتها، فحاضت حيضة أخرى لا يبقى اليمين،
حتّى لو تزوّجها ثمَّ حاضت حيضتين لا يقع الطلاق. قال الحاكم الشهيد
رحمه الله: هذا جواب قوله: إذا حضت إن حضت لا جواب.
قوله: كلّما حضت وفي قوله: كلّما حضت إذا تزوّجها ثمِّ حاضت حيضتين يقع
عليها الطلاق، وإليه أشار محمّد رحمه الله في «الجامع» ، إلا أن محمداً
رحمه الله في «الأصل» ذكر كلمة إذا وكلّما وإن، وأجاب في الكلّ بجواب
إن وإذا، كأنّه ذهب عليه لينقل خاطره، وهذا لما عرف أنَّ كلمة كلّما
توجب التكرار بخلاف كلمة إن وإذا.
ومن المشايخ رحمهم الله من قال: ما ذكر في «الأصل» جواب كلّما، وهذا
القائل
(3/396)
يقول: في المسألة روايتان، على رواية
«الجامع» يقع الطلاق إذا حاضت حيضتين بعدما تزوّجها، وعلى رواية
«الأصل» لا يقع، وهذا القائل يقول بأنَّ الثابت بكلمة كلّما في الحال
يمين واحدة (274ب1) على رواية «الأصل» ، ويتجدّد انعقادها مرّة بعد
مرّة كلّما حنث يتجدّد بيمين أخرى، فإذا لم يكن في ملكه ولا تجدّد به
حال تمام الشرط الأوّل الذي هو حال انعقاد اليمين الأخرى لم تنعقد
الأخرى؛ لأنّ اليمين لا تنعقد في غير الملك إذا لم يكن مضافاً إلى
الملك، وعلى رواية «الجامع» : الثابت بكلمة كلّما في الحال أيمان
منعقدة يقع الحنث في البعض بوجود شرط الحنث فيها ويبقى الباقي، فصار
حال تمام الشرط الأوّل حال بقاء اليمين الثانية، فلا يشترط قيام الملك
في تلك الحالة في تعليق الطلاق بأحد الشرطين صورة ومعنى.
إذا قال الرجل: إن خطبت فلانة وتزوّجها فهي طالق، فخطبها ثمَّ تزوّجها
لا تطلق؛ لأنَّ الشرط حيث أحد الشيئين الخطبة أو التزوّج، فإن خطبها
فقد وجد شرط الحنث والمرأة ليست في نكاحه فتنحلّ اليمين لا إلى جزاء،
فإذا تزوّجها بعد ذلك فإنما تزوّجها واليمين منحلة، فلا يحنث. ذكر
المسألة في «الأصل» .
قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» : وهو بمنزلة ما لو قال:
إن قبلت فلانة أو تزوّجتها فهي طالق، فقبّلها ثمَّ تزوّجها لم تطلق؛
لأنَّ اليمين انحلت بالتقبيل، فإن تزوّجها قبل الخطبة بأن زوجها منه،
وقولي: فبلغها فأجازت طلقت، بمنزلة ما لو قال: إن قبّلت فلانة أو
تزوّجتها فهي طالق، فتزوّجها قبل أن يقبّلها فإنّها تطلق وكان ينبغي أن
لا تطلق؛ لأنَّ شرط وقوع الطلاق التزوّج وقد حصل قبل دخولها في نكاحه
فينبغي أن ينحلّ اليمين لا إلى حنث، قلنا: نعم شرط الحنث التزوّج، إلا
أنَّ التزوّج إنّما بإجازتها، وعند ذلك هي في نكاحه، وهذه المسألة
تؤيّد قول من يقول «آكمر وختر فلان مراد هند» ، أو قال «بزني وهند» فهي
طالق، فتزوّجها تطلق في الوجهين؛ لأنّ شرط الحنث وإن كان هو التزويج
إلا أنَّ تمام التزويج بتزوّجه، وعند ذلك هي في نكاحه، (ألا ترى أنَّ
محمداً رحمه الله في هذه المسألة) .
وفي «المنتقى» : إذا قال: إن تزوجت فلانة أو أمرت إنساناً بتزوّجها فهي
طالق، فأمر إنساناً بذلك فزوّجها منه أو تزوّجها بنفسه بعد ذلك لا
تطلق؛ لأن اليمين انحلّت بالأمر لا إلى جزاء.
لو قال: إن تزوّجت فلانة فهي طالق، وإن أمرت إنساناً بتزوّجها فهي
طالق، فأمر إنساناً فزوّجها منه طلقت؛ لأنَّ ههنا يمينان إحداهما
انعقدت على الأمر، والثانية على التزوّج؛ فبالأمران انحلت اليمين
المنعقدة على الأمر، ثمَّ تنحل اليمين المنعقدة على التزوّج، وكذا لو
تزوّجها بنفسه طلقت لما ذكرنا.
لو قال: إن تزوجت فلانة وإن أمرت من يتزوّجها فهي طالق، فأمر إنساناً
فزوّجها
(3/397)
منه طلقت واليمين واحدة، والشرط إثبات
الأمر والتزوّج، فلمجرّد الأمر لا تنحل اليمين، وهو بمنزلة قوله: إن
دخلت هذه الدّار، وإن دخلت هذه الدّار فأنتِ طالق، وإن تزوّج فلانة من
غير أن يأمر أحداً بذلك لا تطلق؛ لأنّه بعض الشرط، فإن أمر بعد ذلك
رجلاً فقال: زوجني فلانة، وهي امرأته على حالها طلقت لامرأته ... كمل
الشرط، فقد تزوّج وقد أمر.
وعن ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا قال الرّجل: إن تزوجت
فلانة فهي طالق، إذا أمرت فلاناً فزوّجها فهي طالق، فأمر فلاناً
فزوّجها إيّاه قال تطلق ثنتين وإن نوى واحدة فهي واحدة.
وروي عن أبي يوسف رحمه الله في رجل قال لامرأتين لا يملكهما: إن
خطبتكما، أو تزوجتكما فأنتما طالقتان، فخطبهما ثمَّ تزوّجهما لم تطلقا،
وقد مرّ مثل هذا في الواحدة، ولو تزوّجهما عن غير خطبة في عقدة أو في
عقدتين طلقتا، ولو خطب واحدة وتزوّجها ثمَّ خطب الأخرى وتزوّجها لم
تطلقا، ولو خطب واحدة وتزوّجهما طلقتا، ولو تزوّج واحدة وطلقها ثمَّ
تزوّجهما طلقتا.
ولو قال: إن خطبتكما أو تزوجت هذه وأشار إلى امرأة أخرى غير المخاطبتين
فأنتنّ طوالق، فتزوّج المنفردة ثمَّ خطب الأخريين وتزوّجهما لم يقع
الطلاق.
إذا قال لامرأته: أنت طالق إذا أكل كذا أو شرب كذا وكلّم فلاناً، أو
قال إذا أكلت كذا وشربت كذا وكلّم فلاناً، وامرأته طالق ما لم تجتمع
هذه الأمور لا يقع الطلاق إلا أن ينوي شيئاً آخر، هكذا حكي عن الفقيه
أبي القاسم الصفّار رحمه الله.
وإن كرّر حرف الشرط فقال: إن أكل وإن شرب وإن كلّم فلاناً، إن قدّم
الجزاء فأي شرط وجد من هذه الأشياء يقع الطلاق ويرتفع اليمين، وإن أخّر
الجزاء لا يقع الطلاق ما لم توجد الأمور كلّها، وهذا يجب أن يكون قول
محمّد رحمه الله، فأمّا على قول أبي يوسف رحمه الله: إذا وجد واحد من
هذه الأشياء يقع الطلاق وترتفع اليمين.
وذكرنا الخلاف على هذا الوجه في قوله: إن دخلت هذه الدّار الأخرى، وقد
مرّت المسألة من قبل ... به طلاق «سكند خورد كه بزمين فلان آندر بياتم
وينبّه ني جينم» ، فدخل الأرض ولم يلتقط القطن طلقت لأنَّ كل واحد
منهما منتفٍ فيبقى على حدة، فصار كلّ واحد منهما شرطاً على حدة.
وإذا حَلف بطلاق امرأته أن لا تذوق طعاماً ولا شراباً، فذاقت إحداهما
طلقت امرأته، وكذلك إذا حلف أن لا تكلّم فلاناً ولا فلاناً فكلّمت
أحدهما، وكذلك إذا حلف أن لا يأكل كذا ولا كذا فأكل أحدهما. وأمّا إذا
قال: لا أذوق طعاماً وشراباً، فذاق أحدهما لا يحنث، هكذا ذكر محمّد
رحمه الله في أيمان «الأصل» .
وعن الفقيه أبي القاسم الصفّار رحمه الله أنّه يحنث اعتباراً للعرف،
وفي العرف يراد
(3/398)
به نفي كلّ واحد منهما، وكان الشيخ الإمام
الجليل أبو بكر محمّد بن الفضل رحمه الله يقول: ينوي الزوج، فإن لم يكن
له نيّة فالجواب كما قال في «الكتاب» : إذا قال: «رن آوى بطلاق آكر
سيكي خورد ومقامري كندو كبو تردارد» ، حكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي
بكر محمّد بن الفضل رحمه الله أنّه قال: كلُّ واحد من هذه الأشياء شرط
على حدة، وغيره من المشايخ قالوا: الكلّ شرط واحد، ولو قال: «سيكي ني
خورد ومقامري بكند وكبوتر ني دارد» ، فكلُّ واحد شرط على حدة بلا خلاف.
إذا علّق الطلاق بعدم الفعل في مجلس في وقت معيّن بأن (275أ1) قال: إن
لم أدخل هاتين الدّارين اليوم، أو قال: إن لم أضرب فلاناً سوطين اليوم،
فدخل إحدى الدارين دون الأخرى، أو ضرب أحد السوطين اليوم، ومضى اليوم
حنث في يمينه؛ لأنّ شرط برّه دخول الدارين وضرب السوطين ولم يوجد، وفات
شرط البرّ، وعند فوات شرط البرّ يتعين الحنث.
وكذلك إذا قال: إن لم أكلّم فلاناً وفلاناً اليوم فامرأته طالق، فكلّم
أحدهما ولم يكلّم الآخر حتّى مضى اليوم طلقت امرأته. وصار الأصل أنَّ
اليمين متى عقدت على عدم الفعل في مجلس ينظر فيها إلى شرط، وعند فوات
شرط البرّ يتعيّن الحنث في أيمان «الجامع» في باب الأيمان، مما يوجب
الرجل على نفسه.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: فيمن قال لامرأته: إن لم أدخل الليلة
المدينة ولم ألق فلاناً فأنتِ طالق، فدخل فلم يصادفه في منزله ولم يلقه
حتى أصبح، قال: إن كان حين حلف كان عالماً أنّه غائب عن منزله يحنث،
وإن كان لا يعلم بغيبته لا يحنث في قول أبي حنيفة رحمه الله ومحمّد
رحمه الله خلافاً لأبي يوسف رحمه الله. وهو نظير ما لو حلف ليقتلن فلان
وفلان ميّت.
وعلى قياس المسألة المتقدمة ينبغي أن تطلق على كلّ حال وينظر إلى شرط
البرّ، وشرط البرّ شيئان: دخول المدينة ورؤية فلان ولم يوجد رؤية فلان،
وإن شرط البرّ فيتعيّن الحنث. يبنى على أصل أنَّ المعرّف من كلّ وجه لا
يدخل تحت اسم النكرة، وهو قول أحد وما أشبهه، والمعرّف من وجه يدخل اسم
النكرة، والمعرّف من كلّ وجه ما لا يشاركه غيره وفي ذلك كالمشار إليه،
وكالمضاف بالكناية والمشار إليه، نحو قولك: هذه الدّار وهذا العبد،
فإنّه لا يدخل تحت قوله: هذه الدّار وهذا العبد غير المشار إليه،
والمضاف بالكناية نحو قولك: داري وعبدي، فإنّه لا يدخل تحت قوله: داري
وعبدي دار غيره وعبد غيره، فأمّا المعرّف بالاسم نحو قولك: محمّد بن
عبد الله، والمضاف إلى الاسم نحو قولك: دار محمّد بن عبد الله يدخل تحت
اسم النكرة؛ لأنّه معرّف من وجه؛ لأنَّ التعريف بالاسم والإضافة إلى
الاسم لا يقطع الشركة من كلِّ وجه؛ لأنَّ المسمّى بمحمّد بن عبد الله
كثير، ولهذا يحسن الاستفهام فيقال: من محمّد بن عبد الله، فيحتاج إلى
زيادة تعريف، فيبقى فيه نوع تنكير إن صار معرّفاً من وجه بالاسم من حيث
أنَّ الأسامي في الأصل وضعت للتعريف، فمن حيث أنّه معرفة إن كان يخرج
عن اسم النكرة
(3/399)
فمن حيث أنّه نكرة لا يخرج، فلا يخرج
بالشكّ والاحتمال.
بيان هذا الأصل في مسائل ذكرها محمّد بن الحسن في «الجامع» : إذا قال
الرّجل: إن دخل داري هذه أحد، فامرأته طالق، فدخلها الحالف بنفسه لا
تطلق امرأته إذا لم يكن له نيّة وقت اليمين؛ لأنَّ شرط وقوع الطلاق
دخول شخص منكّر، والحالف صار معرّفاً من كلِّ وجه بإضافة الدّار إليه
بالكناية، وإن نوى الحالف نفسه صحّت نيَّتُهُ لأنّه نوى ما يحتمله
لفظه؛ لأنَّ أحد اسم شخص من بني آدم نكرة، فإذا نوى نفسه فقد نوى شخصاً
من بني آدم معرفة، فقد وجد بعض معاني الحقيقة فكان، وبالمجاز من كلامه،
وفيه تغليظ عليه؛ لأنّه يحنث بدخوله بإرادته ويحنث بدخول غيره بالظّاهر
في القضاء.
قال: رجل اسمه محمّد بن عبد الله وله غلام قال: إن كلّم غلام محمداً بن
عبد الله هذا أحد فامرأته طالق أشار الحالف إلى الغلام لا إلى نفسه،
فإن الحالف كلمه بنفسه، أو كلّم غيره تطلق امرأته، وإنّما وقع الطلاق
بكلام الحالف وإن صار معرّفاً بالاسم؛ لأنّه صار معرّفاً من وجه لما
ذكرنا أنَّ التعريف بالاسم تعريف من وجه دون وجه، وقد ذكرنا أنَّ
المعرّف من وجه يدخل تحت اسم النكرة، فإن قيل: لا بل التعريف بالاسم
تعريف من كلّ وجه، بدليل أنَّ من قال: فلانة بنت فلان التي أتزوّجها
طالق لا يتعلق بالتزوّج؛ لأنّها صارت معرفة بالاسم فلغت الصفة إذاً
بالإشارة في هذه الصفة فههنا يجب أن يكون كذلك، ولو عرف الحالف نفسه
بالإشارة إلى نفسه لا يدخل تحت اليمين، فكذا إذا عرف نفسه بالاسم.
والجواب عن هذا الإشكال من وجهين.
أحدهما: لا بل التعريف بالاسم تعريف من وجه على ما مرّ، فصار الحالف
معرّفاً من وجه دون وجه وحاجتنا إلى إخراجه عن قوله: أحد، فمن حيث أنّه
معرّف إن كان يخرج من حيث أنّه منكر لا يخرج، فلا يخرج بالشك
والاحتمال، وفي مسألة الطلاق الحاجة إلى إيقاع الطلاق عند التزوّج، فلا
يقع بالشكّ والاحتمال. فإن قيل: ما ذكرتم يشكل كما لو قال: كل امرأة
أتزوّجها ما دامت عمرة حيّة، أو قال متى يموت عمرة معرّفة بالاسم
فينبغي أن يدخل تحت اسم النكرة وهو قوله كل امرأة، حتّى تطلق إذا
تزوّجها، ومع هذا لا تطلق.
قلنا: عامّة المشايخ على أن تأويل المسألة أنَّ عمرة كانت مشاراً
إليها، فإن قال: ما دامت عمرة هذه حيّة، فأمّا إذا لم تكن مشاراً إليها
تطلق وتدخل تحت اسم النكرة.
الجواب الثاني: أنَّ الاسم والنسبة وضعا لتعريف الغائب، لا لتعريف
الحاضر، بل لتعريف الحاضر الإشارة كما في الشهادة فإنّها (إن) قامت على
غائب أو ميّت يشترط الاسم والنسب، وإذا قامت على حاضر تشترط الإشارة.
إذا ثبت هذا فنقول: الحالف ها هنا حاضر يشترط لتعريفه الإشارة أو
الإضافة بالكناية ولم يوجد، فلم يصير معرّفاً بل بقي منكّراً، فتدخل
تحت اسم النكرة، وفي مسألة الطلاق الاسم والنسب في الغائب لا في
الحاضر، فيحصل بهما التعريف وتلغوا الصفة، حتّى لو كانا في الخاص بأن
كانت فلانة
(3/400)
حاضرة لا يحصل لهما التعريف، ولا تلغوا
الصفة ويتعلّق الطلاق بالتزوّج، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله. ولو
قال لنسائه: المرأة التي تدخل منكنّ الدّار طالق، فدخلت امرأة من نسائه
(275ب1) الدّار طلقت ولا تطلق واحدة منهن قبل الدخول، ولو قال: امرأته
فلانة التي تدخل الدّار طالق طلقت فلانة للحال، ولا يتعلق طلاقها بدخول
الدّار؛ لأنّ في المسألة الأولى المسماة غير معرفة، فتعلق الحكم بالصفة
المذكورة وصارت بمعنى الشرط، كأنّه قال: إن دخلت امرأة من نسائي الدّار
فهي طالق.g
وفي المسألة الثانية المسمّاة معرفة بالنسبة، فلغى ذكر الصفة فيها
والتحقت بالعدم كأنّه قال: فلانة طالق، وعلى قياس مسألة عمرة ينبغي أن
يقال على قول عامّة المشايخ: إنّما تطلق فلانة للحال إذا كانت فلانة
مشاراً إليها؛ لأنَّ التعريف لا يحصل بالاسم من كلِّ وجه، فلا يلغوا
ذكر الصفة فيها، وعلى ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله يجب أن يقال: لو
كانت فلانة حاضرة لا تطلق فلانة للحال؛ لأنّها إذا كانت حاضرة فتعريفها
بالإشارة فلا تصير معرفة بالاسم، فلا يلغوا ذكر الصفة فيها، ولو قال:
فلانة بنت فلان طالق إن دخلت الدّار لم تطلق حتّى تدخل، بخلاف ما لو
قال: فلانة بنت فلان التي تدخل الدّار طالق، والفرق: أنَّ قوله: إن
دخلت صريح في الشرط وإنَّ حكم الشرط أنَّ المعلّق به لا يزال إلا عند
وجوده، وفي حقّ هذا المعنى المعرّف والمنكّر سواء، فأمّا النسبة أو
الصفة ليس بصريح في الشرط ولكن يعتبر النسب والصفة شرطاً إذا صحّ
ذكرهما، وإنّما يصح ذكرهما في المنكر دون المعرفة.
إذا قال: المرأة التي أتزوّجها طالق فتزوّج امرأة تطلق، ولو قال: هذه
المرأة التي أتزوّجها طالق فتزوّجها لا تطلق؛ لأنَّ في المسألة الأولى
المسمّاة غير معرفة أصلاً، فتعلّق الحكم بالصفة المذكورة وصارت شرطاً
كأنّه قال: إن تزوّجت امرأة، وفي المسألة الثانية المسمّاة معرفة
بالإشارة فلغت الصفة المذكورة، والتعريف بالعدم كأنّه قال: هذه طالق،
ومن قال لأجنبيّة: هذه طالق ثمَّ تزوّجها لا تطلق. وإذا قال: إن دخلت
الدّار فكل امرأة أتزوّجها فهي طالق وله امرأة، فدخل الدّار وطلق
امرأته ثمَّ تزوّجها طلقت؛ لأنّ المعلّق بالشرط كالمرسل عند الشرط
فيصير قائلاً عند دخول الدّار: كلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق، ولو قال:
كلّ امرأة أتزوّجها طالق وله امرأة، فطلّقها ثمَّ تزوّجها تطلق.
ولو قال لامرأته: إن دخلت الدّار فكلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق، فدخلت
الدّار وطلّقها زوجها ثمَّ تزوّجها تطلق أيضاً. وروى هشام عن أبي يوسف
رحمهما الله؛ لأنّها لا تطلق، وروي عنه أيضاً: إذا قال لامرأته: إن
طلقت فكلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق، فطلقها ثمَّ تزوّجها لا تطلق وعلّل
فقال: لأنّ اليمين إنّما وقعت بفعل فيها بالنكاح على غيرها.
وروي عنه أيضاً: إذا قال: إن طلقت فلانة فكلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق،
فهذا على غير وجه ما روي عن أبي يوسف رحمه الله: أنّها صارت معرفة
بالإضافة بالكناية، ويذكر الاسم ولا يدخل تحت اسم النكرة، كما لو قال
لامرأته: كلّ امرأة أتزوّجها ما
(3/401)
دمت حيّة فهي طالق، فطلق امرأة ثمَّ
تزوّجها لا تطلق؛ لأنّها صارت معرفة بالإضافة بالكناية، فلم تدخل تحت
اسم النكرة.
وجه ما ذكر أنّها تطلق: أنَّ قوله لامرأته: إن دخلت الدّار فكلّ امرأة
أتزوّجها فهي طالق يمينان معنى إن كانت يميناً واحدة؛ لأنّ قوله: إن
دخلت الدّار شرط وجزاؤه قوله: فكلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق، وقوله: كل
امرأة أتزوّجها فهي طالق عين تامة، فعلم أنّه يمينان معنى بصيرورتها
معرفة في اليمين الأولى، لا يمنع دخولها تحت اسم النكرة في اليمين
الثانية، ألا ترى أنَّ الرّجل إذا قال: إن دخلت الدّار فكلّ امرأة
أتزوّجها فهي طالق وفلانة هذه وأشار إلى المرأة التي في نكاحه فدخل
الدّار حتّى وقع الطلاق على فلانة، ثمَّ تزوّج فلانة طلقت، وهل لأحد أن
يقول بأنَّ فلانة صارت معرفة بالإشارة إليها؟ فلا تدخل تحت اسم النكرة،
ولكن قبل الدخول ههنا يمينان بصيرورتها معرفة في إحديهما لا يمنع
دخولها تحت اسم النكرة في الأخرى.
والدليل على صحة ما قلنا: ما ذكر الفضلي في «فتاواه» فقال: إذا قال
الرجل: إن فعلت كذا ما لم أتزوّج فاطمة فكلُّ امرأة أتزوّجها فهي طالق،
ففعل ذلك الفعل ثمَّ تزوّج فاطمة تطلق؛ لأنّ عند ذلك الفعل يصير
قائلاً: كلُّ امرأة أتزوّجها فهي طالق، فيقع الطلاق على فاطمة، وإن
صارت معرفة بقوله: ما لم أتزوّج فاطمة، ولكن قيل هذان يمينان معنى
فصيرورتها معرفة في اليمين الأولى لا يمنع دخولها تحت اسم النكرة في
اليمين الثانية.
وحكي عن شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله أنّه سئل عمّن قال: امرأته
«آكر ترا ترنم زني كه مرابو دو باشد آزمن بطلاق» ، فضربها وطلقها
وتزوّجها بعد ذلك إنها لا تطلق؛ لأنّه أوقع الطلاق على امرأة منكرة وهي
صارت معرفة بالخطاب، وفتواه توافق....
وصار الحاصل: أنّ في كلّ موضع كان الموجود يمينان بالمعرّف في شرط
إحديهما تدخل تحت اسم النكرة في اليمين الأخرى، وإن كانت يميناً واحدة؛
والمعرّفة في الجزاء تدخل تحت اسم الشرط إن إذا كان الشرط باسم النكرة،
كما لو قال لامرأته: إن دخل داري هذه أحد فأنتِ طالق، فدخلت المرأة
الدّار طلقت، وإن صارت معرفة في الجزاء ولم يمنع ذلك دخولها تحت الشرط
المذكور باسم النكرة، والمعرفة في الشرط تدخل تحت الجزاء إذا كان
الجزاء باسم النكرة.
بيانه فيما ذكر في «النوادر» : إذا قال لامرأته: إن فعلت كذا فنسائي
طوالق، ففعلت ذلك الفعل وقع الطلاق عليها وعلى غيرها.
وذكر في «المنتقى» : عن محمّد رحمه الله إذا قال لامرأته: إن وطئتك فكل
امرأة لي طالق، ثمَّ وطئها طلقت هي، ولو قال: إن وطئتك فأنتِ طالق وكلّ
امرأة لي طالق فوطئها
(3/402)
وقع الطلاق عليها تطليقتان، ولو كانت له
امرأة أخرى وقع عليها تطليقة، والمعرّف في الشرط لا يدخل تحت اسم
النكرة المذكورة في الشرط.
بيانه: فيما إذا قال: إن دخل داري هذه أحد فامرأتي طالق، فدخلها الحالف
لا تطلق امرأته؛ لأنّه صار معرّفاً في الشرط بإضافة الدّار فلا تدخل
تحت اسم النكرة، وهو قوله: أحد، فعلى هذا يخرّج جنس هذه المسائل.
قال محمّد رحمه الله في «الجامع» : إذا قالت المرأة لزوجها: إنّك
تزوّجت عليّ، فقال الرّجل: كلّ امرأة لي طالق ثلاثاً طلقت (276أ1)
المخاطبة. وروي عن أبي يوسف رحمة الله عليه: أنّها لا تطلق؛ لأنَّ غرض
الزوج من هذه اليمين تطييب نفسها وتسكين قلبها من كلّ وجه، وذلك إنّما
يحصل إذا أراد الزوج إيقاع الطلاق على امرأة أخرى، فإنّما نقول يحتمل
أن يكون غرض الزوج ما قاله، ويحتمل أن يكون غرضه مغايظتها بإيقاع
الطلاق عليها لما أنّها بالغت في الخصومة والمشاجرة، فأغضبه كلامها،
فأراد أن يطلّقها مع غيرها مغايظة لها....... الدلالتان تثبت العبرة
لعموم اللفظ.
وحكي من بعض المتأخرين من مشايخنا رحمهم الله: أنّه ينبغي أن يحكم
الحال في هذا، فإن كان قد جرى بينهما قبل ذلك مشاجرة وخصومة فدلَّ على
أنَّ ذلك أغضب الزوج وأنّ الزوج قد قال ذلك على سبيل الغضب يقع الطلاق
عليها، وإن لم يجر بينهما قبل ذلك خصومة ومشاجرة تدلّ على أن ذلك أغضب
الزوج لا يقع الطلاق عليها، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله وهذا
القول حسن عندي، وكذلك إذا قالت: إنك تريد أن تتزوّج عليّ فقال الزوج:
كلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق، فطلّق المخاطبة ثمَّ تزوّجها تطلق، ولو
قيل لرجل: أكلُّ امرأة غير هذه المرأة، فقال: كلُّ امرأة لي فهي طالق
لا تطلق هذه، هكذا ذكر في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله.
فرق بين هذا وبينما إذا قالت المرأة لزوجها: إنك تزوّجت عليَّ امرأة،
فقال: كلُّ امرأة لي فهي طالق حيث تطلق المخاطبة. والفرق أنّ كلام
الزوج في المسألتين بناءً على سؤال السائل، فإنّما يدخل تحت كلام الزوج
ما يجوز أن يكون داخلاً في سؤال السائل، والمذكور في قول المرأة: إنّك
تزوجت عليّ امرأة، واسم المرأة يتناولها كما يتناول غيرها، فجاز أن
يدخل تحت قول الزوج، أمّا المذكور في المسألة الأخرى في سؤال السائل
غير هذه، وقوله غير هذه المرأة لا يحتمل هذه المرأة، فلا تدخل تحت قول
الزوج.
قال لامرأته كلّ امرأة أتزوّجها باسمك فهي طالق هذه المرأة، ثمَّ
تزوّجها لا تطلق وإن نواها عند اليمين.
(3/403)
الفصل الثامن عشر: في الطلاق الذي يقع
بقوله أوّل امرأة أتزوّجها وبقوله آخر امرأة أتزوّجها
قال حسن رحمه الله في «الأصل» : إذا قال الرجل: أوّل امرأة أتزوّجها
فهي طالق، فتزوّج امرأتين في عقدة واحدة، وواحدة في عقدة لم تطلق واحدة
منهنّ؛ لأنّه أوقع الطلاق على أوّل امرأة يتزوّجها؛ والأوّل اسم مفرد
سابق، وفي المرأتين إذا وجد السبق لم توجد الفرديّة، وفي الواحدة؛ لأنّ
وحدة الفردية لم توجد السبق، فإن كان قال مع هذا: وآخر امرأة أتزوّجها
فهي طالق لا تطلق الثانية ما لم يثبت الزوج، فإذا مات يقع الطلاق عند
أبي حنيفة رحمه الله مستنداً إلى وقت التزوّج وعندهما مقيض.
أو لو: قال آخر امرأة أتزوّجها فهي طالق، فتزوّج أم لم يتزوّج قبلها
ولا بعدها حتّى مات لم تطلق؛ لأنّها موصوفة بالأوليّة، فلا تتصف
بالآخرية ليستا بينهما. ولو قال: أوّل امرأة أتزوّجها فهي طالق، فتزوّج
امرأة طلقت تزوّج بعدها أخرى أو لم يتزوّج.
ولو قال: أوّل امرأة أتزوّجها فهي طالق، فتزوّج امرأتين إحداهما معتدّة
الغير وقع الطلاق على التي صحّ نكاحها، وكذلك لو تزوّج امرأة نكاحها
فاسدة ثمَّ تزوّجها بعدها أخرى نكاحاً صحيحاً يقع الطلاق على الأخرى،
وهذا بناءً على أن ذكر التزوّج في المستقبل ينصرف إلى النكاح الصحيح
دون الفاسد، فكأنّه قال: أوّل امرأة أتزوّجها نكاحاً صحيحاً، فهي طالق،
والتي صحّ نكاحها أوّل امرأة تزوجها نكاحاً صحيحاً.
قال في «الجامع» : إذا قال الرّجل: آخر امرأة أتزوّجها فهي طالق،
فتزوّج عمرة ثانياً ثمَّ مات الحالف طلقت زينب، ولا تطلق عمرة؛ لأنّ
الحالف جعل الآخرية صفة للعين وزينب هي الموصوفة بذلك لا عمرة؛ لأنّ
عمرة موصوفة بكونها أوّلاً في النكاح الأوّل، وكلّ ذات اتصفت بالأوليّة
في نكاح لا يتصف بالآخرية في نكاح الآخر؛ لأن الذات لا تختلف باختلاف
النكاح، والذات الواحدة في الشاهد لا يجوز أن تتصف بالأوّلية والآخرية.
ولو نظر إلى عشر نسوة وقال: آخر امرأة أتزوّجها منكنَّ طالق، فتزوّج
واحدة منهن، ثمَّ تزوّج أخرى ثمَّ طلق الأولى، ثمَّ تزوّجها ثمَّ مات
فالطلاق واقع على التي تزوّجها مرّة دون التي تزوّجها مرتين، وهذه
المسألة والمسألة الأولى سواء فيما إذا مات الزوّج بعد تزوّج الثانية،
وإنّما يفترقان فيما إذا لم يمت الزوج حتى تزوّج العاشرة بأن تزوّج
مثلاً أربعاً وفارقهنَّ، ثمَّ تزوّج أربعاً أخرى وفارقهن، ثمَّ تزوّج
التاسعة، ثم تزوّج العاشرة فإنّ العاشرة تطلق كما تزوّجها مات الزوج أو
لم يمت.
وفي المسألة الأولى: لو تزوّج عشر نسوة على التفاريق، فالعاشرة لا تطلق
ما لم يمت الزوج، والفرق أنَّ في المسألة الأولى أوقع الطلاق على آخر
امرأة تزوّجها من نساء
(3/404)
العالم، وما دام الزوج حيّاً لا ينبغي أن
تكون العاشرة آخر امرأة يتزوجها من نساء العالم.
وفي المسألة الثانية: أوقع الطلاق على آخر امرأة يتزوّجها من العشرة،
وكما تزوّج العاشرة فقد ... ... آخر امرأة تزوّجها من العشرة؛ لأنّه لا
يحتمل ثبوت هذه الصفة الأخرى منهنّ لإنصاف الأولى بالأوليّة والثانية
والثالثة وغيرهما بالوسطى، فتعيّن العاشرة الآخريّة مات الزوج أو لم
يمت.
قال في «الكتاب» : ألا ترى أنّه لو نظر إلى امرأتين وقال: آخر امرأة
أتزوّجها منكما فهي طالق، فتزوّج إحداهما ثمَّ تزوّج الأخرى طلقت
الثانية حين تزوّجها وإن لم يمت الزوّج وهو إشارة إلى ما قلنا، ولو
قال: آخر امرأة أتزوّجها فهي طالق، فتزوّج امرأة وطلقها ثمَّ تزوّجها
ثانياً لم تطلق، وهو إشارة إلى ما قلنا: أن المرأة إذا اتصفت بالأوّلية
في نكاحَ لا يتصوّر إتصافها بالآخرية في نكاح آخر.
ولو قال: آخرُ تزوّيج أتزوّجه فالتي أتزوّجها طالق، فتزوّج امرأة
وطلقها ثمَّ أخرى ثمَّ تزوّج التي طلقها ثانياً ومات الزوج طلقت التي
تزوّجها مرتين لا التي تزوّجها مرّة؛ لأنّه جعل الآخرية ها هنا صفة
للتزوّج، وآخر تزوّج باشره نكاح التي تزوّجها مرتين أكثرها في الباب
(276ب1) أنّه تزوّجها أوّلاً، إلا أن النكاح الثاني غير الأوّل حقيقة،
فجاز أن يتصف بكونه آخراً بخلاف ما تقدّم؛ لأنَّ هناك جعل الآخرية صفة
للمرأة وغير هذه المرأة قد اتصف بالأوليّة، فلا يتصوّر اتصافها
بالآخرية.
وكذلك لو نظر إلى عشر نسوة وقال: آخر تزوّج أتزوّجه منكن فالتي أتزوّج
طالق، فتزوّج واحدة وطلقها، ثم تزوّج أخرى ثمَّ تزوّج التي طلقها، ثمَّ
مات الزوج طلقت التي تزوّجها مرتين لما قلنا.
ولو تزوّج العاشرة لم تطلق العاشرة حتّى يموت الزوج، فرق بين هذا وبين
ما إذا قال: آخر امرأة أتزوّجها منكن طالق، حيث تطلق العاشرة كما
تزوّجها وإن لم يمت الزوج، الفرق أنَّ في هذه المسألة حصلت الآخرية صفة
للزوج، وقبل موت الزوّج لم تثبت هذه الصفة للعاشرة، فإنّه إذا تزوّج
واحدة أخرى من العشرة، ثمَّ مات الزوج كأنْ تزوّجها آخراً وفيما تقدّم
جعل الآخرية صفة للمرأة، وقبل موت الزوج صفة الآخرية للعاشرة.
قال في «الكتاب» : ألا ترى أنّه لو نظر إلى امرأتين وقال: آخر تزويج
أتزوّجه منكما فالتي أتزوّج طالق، فتزوّج واحدة ثمَّ الثانية لا تطلق
الثانية ما لم يمت الزوج، وبمثله لو قال: آخر امرأة أتزوّجها منكما
طالق، فتزوّج إحداهما ثمَّ تزوّج الأخرى طلقت الأخرى، وقع الفرق بينما
إذا جعل الآخرية صفة للمرأة وبينما إذا جعل الآخرية صفة للزوج، فكذا
فيما تقدّم.
(3/405)
الفصل التاسع عشر:
في الشهادة في الطلاق والدعوى والخصومة
إذا قال محمّد رحمه الله في «الأصل» : إذا شهد شاهدان على رجل أنّه
طلّق إحدى امرأتيه ثلاثاً، ولم يسم لنا، فالقياس أن لا تقبل شهادتهما،
وفي الاستحسان تقبل ويجبر الزوج على البيان، وبه أخذ علمائنا رحمهم
الله.
وحاصل المسألة راجع إلى أنَّ الدعوى هل هي شرط لقبول الشهادة على
الطلاق فعلى جواب القياس: شرط والدعوى من المجهول لا تتحقّق، وعلى جواب
الاستحسان الدعوى ليس بشرط؛ لأنّها قامت على تحريم الفرج وحرمة الفرج
حقّ الله تعالى، بدليل أنّه لا تزول الحرمة بإباحتها وبذلها، والشهادة
على حقّ الله تعالى تقبل بدون الدعوى، كالشهادة على الزنا، وإذا لم تكن
الدعوى شرطاً لقبول الشهادة على الطلاق استحساناً لم يكن جهالة المطلقة
مانعة قبول الشهادة؛ لأنّه ليس في قبول جهالة المطلقة إلا عدم الدعوى،
والدعوى ليس بشرط على جواب الاستحسان.
وإذا شهد الشهود على رجل أنّه طلق فلانة، فقالت امرأته: ما طلقني وقال
الزوج: ليس اسمها فلانة، وشهد الشهود أنَّ اسمها فلانة والطلاق ثلاث،
فإنّه ينبغي للقاضي أن يفرق بينهما بناءً على ما قلنا: أنّ الشهادة على
الطلاق تقبل من غير الدعوى استحساناً، فإذا قبلت الشهادة وقد ثبت أنّ
له امرأة بالاسم الذي سمّاها به وقع الطلاق عليها، وكذلك هذا في عتق
الأمة.
إذا شهد الشهود أنّه أعتق فلانة وشهد الشهود أنّ اسم مملوكته فلانة،
وقالت فلانة لم يعتقني، فإنَّ القاضي يقضي بالعتق، وإذا شهد شاهدان على
تطليقة وشهد آخر على تطليقتين أو على ثلاث تطليقات لم تقبل هذه الشهادة
عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند أبي يوسف ومحمّد رحمهما الله تقبل
الشهادة على تطليقة واحدة، وهو نظير ما لو شهد أحد الشاهدين بألف وآخر
شهد بالألفين والمدعي يدعي الألفين لا تقبل الشهادة عند أبي حنيفة رحمه
الله أصلاً، على ما يأتي بيانه في كتاب الشهادات إن شاء الله تعالى.
وإذا شهد أحدهما أنّه طلقها إن دخلت الدّار وقد دخلت، وشهد الآخر أنّه
طلقها إن كلّمت فلاناً وقد كلّمت فشهادتهما باطلة؛ لأنهما شهدا بيمينين
مختلفين، وكذا إذا شهد أحدهما أنه طلقها ثلاثاً، وشهد الآخر أنّه قال
لها: أنتِ عليّ حرام ينوي الطلاق، فشهادتهما باطلة أيضاً.
وكذا إذا شهد أحدهما بالخليّة، والآخر بالبريّة، أو شهد أحدهما بنيّة،
وشهد الآخر بالبائن فشهادتهما باطلة، وكذا لو شهد أحدهما أنّه قال: إن
دخلت فلانة وفلانة الدّار فهما طالقتان، وشهد الآخر أنّه قال: إن دخلت
فلانة الدّار فهي طالق فشهادتهما باطلة.
ولو شهد أحدهما أنّه قال لامرأته: إن دخلت الدّار فأنتِ طالق وفلانة
معك، وشهد الآخر أنّه قال لها: إن دخلت الدّار فأنتِ طالق، فإنّه تقبل
الشهادة على طلاقها ولا تقبل
(3/406)
على طلاق فلانة؛ لأنّ ههنا اتفقا على أن
شرط الحنث واحد وهو دخولها الدّار؛ لأنّ أحدهما شهد أنّه على هذا الشرط
طلاقها، وطلاق الأخرى بلفظة الجمع، فهذا لا يمنع قبول الشهادة في
التنجيز بأن شهد أحدهما أنّه طلّق زينب، وشهد الآخر أنّه طلق زينب
وعمرة، فإنّه تقبل شهادتهما على طلاق زينب، فكذا في التعليق بخلاف
المسألة الأولى؛ لأنّ هناك اختلفا في شرط الحنث، وليس على كلّ واحد
منهما إلا شاهد واحد.
وكذلك إذا شهد أحدهما أنّه قال: فلانة طالق، لا بل فلانة، وشهد الآخر
أنّه قال: فلانة طالق سمّى الأولى لا غير، تقبل شهادتهما على طلاق
فلانة لاتفاقهما على طلاقها لفظاً ومعنى، وإذا اختلفا في مقدار الشروط
التي علّق بها الطلاق أو في التعليق والإرسال أو في مقدار الأجعال أو
في صفاتها أو في أشراطها وحذفها، فكذلك كل اختلاف في المشهود به فيمنع
قبول الشهادة.
وإذا شهد الرجل على طلاق أمّه، إن كانت الأم تدّعي الطلاق لا تقبل
شهادته، وإن كانت تجحد تقبل شهادته؛ لأنّ الأمّ في طلاق نفسها منفعة
ومضرّة، فتعيين الشهادة لها إذا ادّعت، وعليها إذا جحدت.
وهذا بخلاف ما لو شهد على طلاق ضرّة أمّه حيث لا تقبل شهادته ادّعت
الأمّ ذلك أو جحدت؛ لأنّ للأمّ في طلاق ضرّتها منفعة من كلّ وجه لا
يشوبه ضرر، فإنّه يخلص لها الفراش، فاعتبرت الشهادة واقعة للأمّ وإن
جحدت.
وإن شهد على طلاق (277أ1) أخته قبلت شهادته، ادعت الأخت ذلك أو جحدت؛
لأنّه إمّا أن تعتبر هذه الشهادة واقعة للأخت، أو عليها وكلُّ ذلك
مقبولة.
وإذا شهد أحد الشاهدين على تطليقة واحدة بائنة، وشهد الآخر على تطليقة
رجعيّة قبلت شهادتهما، على تطليقة رجعيّة؛ لأنّهما اتفقا على أصل
الطلاق وتفرّد أحدهما بزيادة صفة.
وإذا شهد أحدهما بتطليقة والآخر بنصف تطليقة لا تقبل شهادتهما عند أبي
حنيفة رحمه الله كما لو شهد أحدهما بتطليقة والآخر بتطليقتين، وهذا
لأنّ النصف من الواحدة كالواحدة من الثنتين.
وإذا اختلفا الإنشاء والإقرار شهد أحدهما بالإنشاء، وشهد الآخر
بالإقرار، واختلفا في الزمان أو في المكان، بأن شهد أحدهما أنه طلقها
يوم الجمعة، وشهد الآخر أنّه طلقها يوم السبت، أو شهد أحدهما أنّه
طلقها في بلدة كذا، وشهد الآخر أنّه طلقها في بلدة كذا تقبل شهادتهما.
ولو شهد أحدهما أنّه طلّقها يوم النحر بمكّة، وشهد الآخر أنّه طلقها في
ذلك اليوم بكوفة، لا تقبل شهادتهما لا لاختلاف المكان، بل لأنّ القاضي
تيقّن بكذب أحدهما.
ولو كانا شهدا بذلك على يومين متفرقين بينهما من الأيام على قدر ما
يسير الراكب من كوفة إلى مكّة جازت شهادتهما؛ لأنّا لم نتيقّن بكذب
أحدهما في هذه الصورة لم يبق الاختلاف المكان، وباختلاف المكان لا
يختلف المشهود به وهو الطلاق، ثمَّ في الوجه
(3/407)
الأوّل لو كان أحد الفريقين شهد أوّلاً،
وقضى القاضي بشهادتهم، ثمَّ شهد الفريق الآخر فالقاضي لا يقضي بشهادة
الفريق الثاني، ولا يبطل قضاؤه بشهادة الفريق الأوّل؛ لأنّ في هذا
الوجه بعد قضاء القاضي من حيث الظاهر وقع الشكّ في بطلان شهادة الفريق
الثاني، إن كانوا صَدَقَةً يبطل، وإن كانوا كَذَبَةً لا يبطل، فلا يبطل
القضاء بالشك، وفي الوجه الأوّل وقع الشك في جواز القضاء.
ونظير هذه المسألة ما لو قال لامرأتين له: أيتكما أكلت هذه الرغيف فهي
طالق، فجاءت كلُّ امرأة بالبينة أنّها هي التي أكلته لا تقبل شهادتهما؛
لأنّ القاضي تيقن بكذب إحدى البينتين؛ لأنّ الشرط أكل كل الرغيف،
واستحال أن تكون كلّ واحدة منهما أكلت كلّ الرغيف، وإن جاءت إحدى
البينتين قبل الأخرى وقضى القاضي بها، ثمَّ جاءت الأخرى فالقاضي لا
يلتفت إليها وطريقة ما قلنا.
وفي «نوادر هشام» عن محمّد بن الحسن رحمه الله: في رجل ادعت عليه
امرأته أنه طلّقها ثلاثاً وهو يجحد، ثمَّ مات الزوج، فجاءت المرأة تطلب
الميراث، قال: إن صدّقته المرأة قبل أن يموت وقالت: صدقت، لم تطلقني
وَرِثته، وإن لم ترجع إلى تصديقه حتّى مات لم ترثه.H
مرت امرأة بين يدي رجل، فقال الرجل: هي طالق، وسمع ذلك قوم ثمَّ رأوها
معه بعد ذلك، فقال: هذه امرأتي فشهدوا عليه أنّه طلّقها، فقال الزوج:
طلقتها أمس وهي ليست لي بامرأة وتزوّجتها اليوم، وقال القوم: طلّقها
أمس ولا ندري أكانت امرأته أم لا لا تطلق حتىّ يشهدوا عليه أنّه طلقها
وهي امرأته.
ابن سماعة في «نوادره» عن محمّد رحمه الله في رجل شهد عليه شاهد أنّه
طلّق امرأته واحدة بائنة، وشهد آخر عليه أنّه طلّقها ثلاثاً فهي واحدة
يملك الرجعة.
وفي «المنتقى» : روي عن محمّد في رجل قال: امرأته طالق ثلاثاً إن كان
دخل الدار اليوم، فشهد شاهدان أنّه دخل، فقال: امرأته طالق، فإن قال
الزوج: عبده حرٌّ إن كانا رأياني دخلت الدّار، معناه: إن كان الشاهدان
رأياني لا يحكم بعتق العبد بقولهما، حتّى شهد شاهدان غير الأولين أنّ
الأولين رأياه قد دخل، وكذلك لو كان الزوج قال: عبدي حرٌّ إن لم يكونا
شهدا علي الزور لا يحكم بعتق عبده؛ لأنه يمكن للذي حلف أن يقول: إنَّ
الشاهدين لم يرياني قد دخلت وقد شهدوا بزور.
بشر عن أبي يوسف رحمه الله: شاهدان شهدا على رجل أنّه طلّق امرأته وشهد
آخران في ذلك أنّه قال: إن دخلت الدّار، والمجلس واحد والكلام واحد،
فإني أجد ببيّنة الثبات، ولو لم تدع المرأة ذلك فرقت بينهما؛ لأنّهما
شهدا بالتحريم.
داود بن رسرد عن محمّد رحمه الله: شهد شاهدان على رجل أنّه طلّقها
واحدة
(3/408)
قبل أن يدخلها، وشهد آخران أنّه طلقها
ثلاثاً ولا ... أيهما أوّل، قال أجعلها ثلاثاً من قبل أن شهادتهم أنّه
طلقها ثلاثاً إقرار منه أنّه طلّقها وهي امرأته. وكذلك لو شهد كل فريق
منهما بطلاق معلّق بدخول الدّار.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمّد رحمه الله: إذا شهد شاهد على رجل أنّه
طلّق امرأته واحدة، وشهد آخر أنّه طلّقها ثنتين، وشهد آخر أنّه طلّقها
ثلاثاً، وكانت المرأة مدخولاً بها قال: هي طالق ثلاثاً، وإن لم يكن دخل
بها فهي طالق ثنتين. قال في تعليل وقوع الثلاث: قيل إنَّ صاحب الثلاث
وصاحب الثنتين قد أجمعا على الثنتين، وصاحب الثلاث مع صاحب الواحدة
أجمعا على الواحدة فطلقت ثلاثاً لهذا.
وفي شهادات «المنتقى» : رجل حلف بطلاق امرأته أو بعتاق عبده أنّه......
عن فلان خصم له به عليه حقّاً، فشهدت عليه بنته أنّه قد خرج من المصر
خروج هَرَبٍ من المدعي، ولم يشهدوا على إقرار الخارج أنّه هرب من
الخصم، قال أبو يوسف رحمه الله: إذا شهدوا عليه أنّه خرج خروج هرب منه،
... عنه قبلت الشهادة وطلقت المرأة وعتق العبد قال: وهذا عندي بمنزلة
الشهادة على الإباق.
رجل جعل أمر امرأته بيدها، ثمَّ قال لرجلين: أخبراها أني جعلت أمرها
بيدها، فقالا: نشهد أنّا أخبرناها أنَّ زوجها قد جعل أمرها بيدها،
وطلّقت نفسها والزوج يجحد ذلك أجزت شهادتهما. ولو قال: لهما طلِّقاها،
اجعلا أمرها بيدها، فقالا: نشهد أنّا جعلنا أمرها بيدها وأنّها اختارت
نفسها لم أقبل شهادتهما؛ لأنّه فعلهما فلا يستقيم أن يصير الأمر بيدها
إلا بقولهما: جعلنا أمرك بيدك، أمّا في الفصل الأوّل لم يشهدا على فعل
منهما مثل ذلك، ألا ترى أنّه لو قال: خيراها فلم يفعلا وأخبرها غيرهما
أنّ الأمر يصير في يدها.
ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله: إذا اختلف شاهدان في الطلاق (279أ1)
، فشهد أحدهما بالنبطية أو بالفارسيّة أو بلسان آخر غير ذلك، وشهد آخر
أنّه طلّقها بالعربية لا تقبل شهادتهما، قال: ولو كان هذا في الإقرار
بمال أجزته، قال: وليس الطلاق كذلك؛ لأنّي أنويه في الطلاق في وجوه،
وقال فيما إذا شهد شاهد على رجل أنه قال له: أنت حرٌّ، وشهد الآخر أنّه
قال له بالفارسيّة: «بوارادي» تقبل شهادتهما، قال: لأنّه ليس له وجه
آخر غير العتق.
ابن سماعة عن أبي يوسف في «نوادره» : إذا قال لامرأته: إن قلت لك أنتِ
طالق فعبدي حرٌّ، فشهد عليه شاهد أنّه قال لها يوم الجمعة غدوة: أنتِ
طالق، وشهد عليه شاهد آخر أنّه قال لها يوم الجمعة عشيّة: أنتِ طالق
قبلت شهادتهما.
وعنه أيضاً في...... أخرى: إذا قال لامرأته: إن كلّمت فلاناً فأنتِ
طالق، فشهد أحد الشاهدين أنّها كلّمته غدوة، وشهد الآخر أنّها كلّمته
عشيّة طلقت امرأته، وعنه في
(3/409)
فصل العتق بخلاف هذا، فإنّه قال فيمن قال
لعبده: إن كلّمت فلاناً فأنت حرٌّ، فشهد شاهد أنّه كلّمه اليوم وشهد
الآخر أنّه كلّمه أمس لا تقبل هذه الشهادة.
وعنه أيضاً: إذا قال لامرأته: إن ذكرت طلاقك سميت طلاقك إن تكلّمت به
فعبدي حرّ، فشهد أحدهما أنّه طلّقها اليوم، وشهد الآخر أنّه طلقها أمس
يقع الطلاق ولا يقع العتق. وعنه أيضاً: إذا قال لها: إن دخلت الدّار
فأنتِ طالق، فشهد أحد الشاهدين أنّه دخلها غدوة وشهد الآخر أنّه دخلها
عشيّة لم تقبل. وعنه أيضاً: لو جعل أمر امرأته بيدها شهراً، فشهد شاهد
أنّها اختارت نفسها يوم الجمعة وشهد الآخر أنّها اختارت نفسها يوم
الخميس لا تقبل شهادتهما.
وفي «نوادر هشام» قال: سمعت محمّداً رحمه الله يقول في رجل تحته أمة
أعتقت، فشهد شاهد عليه أنّه طلّقها * وهي أمة * ثنتين، وشهد آخر أنّه
طلقها بعدما أعتقت ثلاثاً، فهما تطليقتان يملك الرجعة. قال هشام:
وسمعته يقول في الشاهد شهد أنَّ فلاناً طلّق امرأته ثلاثاً ألبتة، وشهد
آخر أنَّ فلاناً طلّقها ثنتين ألبتّة، قال: هي تطليقتان يملك الرجعة.
وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف (في) «نوادره» : إذا شهد شاهد أنّه قال: إن
دخلت هذه الدّار فامرأتي طالق، وشهد آخر أنّه قال: إن دخلت هذه الدّار
وهذه الدر فامرأتي طالق، فالشهادة باطلة؛ لأنّ الذي شهد بهذه أو هذه،
وشهد أنّه إذا دخل غير الدّار التي شهد عليها صاحبه أنّه يقع الحنث،
ثمَّ لا يقع الحنث بعد ذلك بدخول الدّار الأخرى التي شهد عليها صاحبه.
وفي كتاب الأقضية من «المنتقى» : إذا شهد شاهدان على رجل أنّه قال
لامرأته: إن كلّمت فلاناً فأنتِ طالق ثلاثاً، فالقاضي يسأل المرأة هل
كلّمت فلاناً بعد ذلك اليمين، فإن قالت: نعم سمع من الشاهدين شهادتها،
وإن قالت: لا، لا يسمع شهادتهما، وإن قالت: لا أدري وهناك شهود يشهدون
كلامها سمع القاضي شهادتهم، فإذا شهد الشاهدان على اليمين وشهد آخران
على الكلام بعد ذلك فرق بينهما، فإن كان حلف في ذلك بطلاق كلّ امرأة
وله امرأة أخرى غائبة وحضرت بعدما نفذ الحكم فإنَّ القاضي يطلّقها في
قول أبي يوسف، ولا يطلّقها في قول أبي حنيفة رحمهما الله حتّى يعيد
الشهود الشهادة على اليمين والشهادة على الكلام.
وإذا شهد شاهدان عند المرأة بطلاقها، فهذا على وجهين: إن كان الزوج
غائباً وسعها أن تتزوّج، وإن كان الزوج حاضر....... الطلاق لا يسعها أن
تتزوّج، لكن لا يسعها أن تمكّن منه؛ لأنَّ في الوجه الأوّل لا يمكنها
السؤال عن الزوج ... على أنّه في الوجه الثاني السؤال ممكن، فإذا جحد
احتيج إلى القضاء بالفرقة، والقضاء بالفرقة إنّما يكون من القاضي بحضرة
الخصمين.
(3/410)
وفي «فتاوى النسفي» : رحمه الله: إذا شهد
الشهود على رجل أنَّ امرأته هذه محرّمة عليه بثلاث تطليقات، أو قالوا:
حرام عليه بثلاث تطليقات ولم يقولوا: طلّقها ثلاثاً، قال: في الشهادة
قصور، ولا بدّ من إضافة الطلاق إليه، وقال: لا قصور في الشهادة ولا
حاجة إلى إضافة الطلاق إليه، وقال: لا، وهو الأشبه والأصوب.
وفيه أيضاً: إذا شهد شاهدان على رجل أنّه حلف بالطلاق أن لا يفعل كذا،
وقد فعل وحنث في يمينه، فقيل: ينبغي أن لا تقبل الشهادة بدون لفظ
اليمين؛ لأنّ الشاهد قد يظنّ الحنث في اليمين ولا حنث فيه.
وفيه أيضاً: إذا شهد الشهود أنَّ هذه المرأة حرام على زوجها هذا لا
تقبل شهادتهم؛ لأنّ الحرمة أنواع، حرمة بالإيلاء، وحرمة بالظهار، وحرمة
بالطلاق، وأحكامه مختلفة، فلا بدّ من البيان، والله أعلم بالصواب.
الفصل العشرون: في طلاق المريض
إذا طلّق المريض امرأته طلاقاً رجعيّاً ورثت ما دامت في العدّة، ولو
طلّقها طلاقاً بائناً أو ثلاثاً ثمَّ مات وهي في العدّة، فلو طلّقها
فكذلك عندنا ترث، ولو انقضت عدّتها ثمَّ مات لم ترث.
والحاصل: أنّ الزوج بالطلاق في حالة المرض قصد إبطال حقّها؛ لأنّه قصد
إبطال الزوجيّة، والزوجيّة من الوجه الذي هي متعلّق الإرث حقّها، فيرد
عليه إبطاله، وذلك بإبقاء الزوجيّة من الوجه الذي هي متعلّق الإرث ما
دام في إمكان الإبقاء ثابتاً، وما دامت العدّة باقية الإمكان ثابت؛
لأنّ الشرع ورد بتأخير عمل الطلاق إلى وقت انقضاء العدّة في كثير من
الأحكام، فكذا في حقّ هذا الحكم، أمّا بعد انقضاء العدّة فالإمكان غير
ثابت؛ لأنّ الشرع لم يرد بتأخير عمل الطلاق بعد انقضاء العدّة في حق
حكم ما يعمل الطلاق عمله، وارتفع النكاح من كلّ وجه، فلهذا لا ترث،
وهذا إذا طلقها من غير سؤالها.
فأمّا إذا طلّقها بسؤالها فلا ميراث لها. وكذلك إذا وقعت الفرقة بمعنى
من قبلها فلا ميراث لها؛ لأنّا إنّما أبقينا النكاح في حقّ الإرث مع
وجوب القاطع ديانة لحقّها، وقد رضيت ببطلان حقّها بسؤالها الطلاق وبّما
يسرته بسبب الفرقة، فعمل القاطع عمله، وعن هذا قلنا: إنَّ امرأة العنين
إذا (277ب1) اختارت نفسها في مرض الزوج فلا ميراث لها، وإذا جامعها ابن
المريض مكرهة لم ترث؛ لأنّ الفرقة غير مضافة إلى الزوج، وبقاء الإرث
بعد الفرقة بسبب الفرار، وذلك عند إضافة الفعل إليه، فإذا لم يوجد لا
يبقى الميراث.
قال في «الأصل» : إلا أن يكون الأب أمر الابن بذلك ونقل فعل الابن إلى
الأب في حقّ الفرقة، كأنّه باشر بنفسه فيصير فارّاً. وفي «فتاوى أبي
الليث» رحمه الله: إذا قالت
(3/411)
لزوجها: طلقني، فطلقها ثلاثاً ثمَّ مات وهي
في العدّة ورثت استحساناً؛ لأنّها سألت الواحدة، وهو طلّقها ثلاثاً،
فقد طلّقها بغير رضاها.
وحدُّ مرض الموت الذي يصير الزوج بالطلاق فيه فارّاً ولا يصحّ من
المريض تبرعاً به: أن يكون صاحب فراش قد أضناه المرض، فأمّا الذي يجيء
ويذهب في حوائجه فليس بمريض ولا فار، وإن كان يشتكي مع ذلك ويحم، هكذا
ذكر محمّد رحمه الله، وهكذا ذكر القدوري في «شرحه» فقد شرط أن يكون
صاحب فراش، وبه أخذ بعض مشايخ بلخ، وبعض مشايخ ما وراء النّهر رحمهم
الله حتى إنَّ على قول هؤلاء: من أخذه وجع البطن لا يكون مريضاً مرض
الموت.
واختلفوا فيما بينهم في معنى قوله: فأما الذي يجيء ويذهب في حوائجه،
قال مشايخ بلخ رحمهم الله: أراد به الذهاب إلى حوائجه في البيت من مشيه
إلى الخلاء، وأشباه ذلك. وقال مشايخنا رحمهم الله: أراد به الذهاب إلى
حوائجه خارج البيت، حتّى إنَّ على قول مشايخنا رحمهم الله إذا أمكنه
الذهاب إلى حوائجه في البيت ولكن لا يمكنه الذهاب إلى حوائجه خارج
البيت فهو مريض وهو الصحيح.
فأمّا المرأة لا تحتاج إلى الخروج في حوائجها، فلا يعتبر هذا الجزء في
حقّها، ولكن إذا كانت بحيث لا يمكنها الصعود على السطح فهي مريضة، وقد
ذكر محمّد رحمه الله في «الأصل» مسائل تدلُّ على الشرط الذي هو خوف
الهلاك على طريق الغلبة، لا كونه صاحب فراش، فإنّه قال: إذا أخرج
الرّجل للقصاص أو للرجم فهو في حكم المرض، وكذا قال: إذا بارز وخرج عن
الصفّ فهو في حكم المريض. ولو كان محصوراً ومحبوساً في جزاء وقصاص أو
واقعاً في صفّ القتال فهو في حكم الصحيح؛ لأنّ الهلاك غالب في الذي
أخرج للقتل، أو أُخرج للبراز، وليس بغالب في المحبوس والواقف في صفّ
القتال، والمرأة في حالة الطلاق في حكم المريض وإن لم تكن صاحبة فراش؛
لأنّ التلف في هذه الحالة غالب، ذكره «القدوري» ، وإذا نزل في مسبعة أو
ركب سفينة فهو في حكم الصحيح؛ لأنّ الهلاك في حقّها ليس بغالب، وإذا
أخذه السبع بفمه، أو انكسرت سفينته وبقيت على لوح واحد فهو في حكم
المريض؛ لأنَّ الهلاك في حقّه غالب.
وفي «الجامع الصغير» أيضاً ما يدلّ على أنّ الشرط خوف الهلاك على طريق
الغلبة، فإنّه قال في المشلول والمقعد والمفلوج: ما دام يزداد منه فهو
في حكم المريض؛ لأنّه ما دام يزداد منه من العلّة فالغالب أن آخره
الموت، فإن صار قديماً لا يزداد فهو بمنزلة الصحيح؛ لأنّه لا يخلف عنه
الهلاك غالباً، كذلك الموقوف على هذا، وبه أخذ بعض المشايخ رحمهم الله،
وبه كان يفتي الصدر الكبير برهان الأئمة والصدر الشهيد حسام ... رحمهما
الله، ومن المشايخ من قال: إذا خرج للرجم فهو في حكم المريض
(3/412)
، وإذا خرج للقصاص فهو في حكم الصحيح.
وفي «المنتقى» : أبو سليمان عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله: أنَّ
البارز طلاقه كطلاق الصحيح، وهذا خلاف ما ذكرنا في مسائل «الأصل» ،
ثمَّ في كلِّ موضع صار في حكم المريض وطلّقها ومات وهي في العدّة ورثت
كان بهذه الجهة أو بجهة أخرى، هكذا ذكر في «الجامع الصغير» ؛ لأنّه
لمّا ثبت له حكم مرض الموت صار الموت الواقع عقيبه وعقيب سبب آخر
مضافاً إليها، كالموت الواقع عقيب جرحين صالحين.... وإن كان التعاقب
والترادف، ولهذا قال في «الأصل» : المريض الذي هو صاحب فراش إذا طلّق
امرأته ثلاثاً ثمَّ قتل إنّها ترث.
ولو طلّقها ثلاثاً وهو مريض وهما لا يتوارثان ثمَّ صار الحال يتوارثان،
نحو أن يكون أحدهما عبداً فيعتق، أو تكون المرأة كتابيّة فتسلم لم
ترثه؛ لأنّ حكم الفرار لم يثبت بالإيقاع إذ النكاح لم يكن سبب الميراث
في ذلك الوقت ولا شرطه، فلا يثبت حكم الفرار بعد ذلك.
ولو طلّقها ثلاثاً وهو مريض ثمَّ قبّلت ابن زوجها ثمَّ مات وهي في
العدّة فلها الميراث. ولو ارتدت في عدّتها ثمَّ أسلمت فلا ميراث لها.
والفرق: أنَّ بالارتداد خرجت من أن تكون أهلاً لاستحقاق الإرث، فبطل
حقّها في الإرث فلا يعود بالإسلام، فأمّا التقبيل لم تخرج عن أهلية
الوراثة؛ لأنّ أثر التقبيل في إثبات المحرميّة والمحرميّة لا تنافي
الإرث، فلا تنافي بقاء النكاح في حقّ الإرث.
وإذا علّق الزوج طلاق امرأته بفعل نفسه ففعل ذلك الفعل وهو مريض، فهو
فارّ، سواء كان التعليق في حالة الصحّة والشرط في حالة المرض، أو كان
التعليق والشرط في حالة المرض، فلأنّه لمّا باشر الشرط مع علمه بوقوع
الطلاق عنده لا محالة، وببطلان حقّها في الإرث صار كأنّه أوقع الطلاق
في حالة المرض، ويستوي أن يكون فعلاً للزوج منه بُدٌّ كدخول الدّار،
ولا بدّ له منه كالصلاة والكلام مع الأبوين؛ لأنَّ الفعل الذي لا بدَّ
للزوج منه إن لم يكن جناية في حقّه فهو جناية في حقّها حيث إنّه يضرُّ
بها ويبطل حقّها، وحقّها معصوم محترم في حقّ الزوج فيجعل اضطرار الزوج
عدماً في حقّها، كتناول مال الغير عند الضرورة.
وإن حصل التعليق بفعل أجنبي إن حصل التعليق ومباشرة الشرط في مرض الزوج
ورثت، وإن حصل التعليق في حالة الصحة لا ترث؛ لأنّه لم يوجد من الزوج
حال تعلّق حقّها بماله لا مباشرة العلّة، ولا مباشرة الشرط، وكذلك
الجواب إذا حصل التعليق بفعل سماوي كمجيء رأس الشهر وما أشبهه.
وإن حصل التعليق بفعلها إن كان فعلاً لها منه بدّ فإنّها لا ترث على
كلّ حال؛ لأنّ مباشرة الشرط منها بلا ضرورة دلالة (الدّار) الرضا بوقوع
الطلاق فنفذ الطلاق (277ب1) في
(3/413)
حقّها، كما لو طلّقها بسؤالها.
وإن كان فعلاً لا بدّ لها منه إن كان التعليق في حالة المرض ترث
بالإجماع؛ لأنَّ مباشرة العلة وجدت في حالة المرض بغير رضاها، ومباشرة
الشرط منها لا يدلّ على الرضا بحكم هذه العلّة؛ لأنها مضطرّة في مباشرة
هذا الشرط، فقد ابتليت بين بليتين فاختارت أهونهما، والعاقل يكون
مضطراً باختيار أدون السوءين لدفع أعلاهما، فلا يثبت به الرضا بوقوع
الطلاق.
وإن كان التعليق في حالة الصحّة والشرط في حالة المرض فإنها ترث في قول
أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف رحمه الله لا ترث؛ لأنّه لم يوجد من
الزوج مباشرة العلّة في حالة المرض ولا مباشرة الشرط فلا يكون فارّاً
كما لو حصل التعليق بفعل أجنبي.
ولهما: أنّ الشرط وجد من الزوج حالة المرض معنى. بيانه: أنّها محمولة
من جهة الزوج على مباشرة هذا الشرط، فإنّها بسبب تعليقه ابتليت بين
بليتين: أن تفعل هذا الفعل فيقع الطلاق عليها، وبين أن لا تفعل فتتضرّر
بسبب الامتناع عن الفعل، إمّا في الدنيا بأن كان استيفاء مال، أو في
الآخرة بأن كانت مبلوة......، أو كلام الأبوين، والمبتلى بين الشرّين
يكون محمولاً على تحمّل أدناهما ودفع أعلاهما بحكم الطبيعة والعادة
كالمبتلى بين قتل نفسه وبين قتل غيره يكون محمولاً على قتل الغير لهذا،
وفعل المحمول مضاف إلى الحامل كما في الإكراه، وإذا أضيف فعل المرأة
إلى الزوج صار كأن الزوج علق الطلاق في حالة الصحّة بفعل نفسه، وفعل
ذلك في مرضه.
وإذا جعل طلاق امرأته إلى أجنبي في الصحّة فطلّقها في المرض، فإن كان
التفويض على وجه لا يملك عزله، نحو أن يملكه لم ترث، وإن ملك عزله
ورثت؛ لأنّه إذا ملك عزله لا يكون التفويض لازماً، وما لا يكون لازماً
من التصرّف كان لبقائه حكم الإنشاء، فكأنّه أنشأ التفويض في المرض،
وإذا لم يملك عزله كان التفويض لازماً، فلا يكون لدوامه حكم الإنشاء
فلم يوجد في مرض الموت لا مباشرة نفس الطلاق ولا التفويض لا حقيقة ولا
حكماً، فلا يثبت حكم الفرار.
وفي «المنتقى» : يقول: إذا أمر رجلاً في صحّته أن يطلّق امرأته ثلاثاً،
فانطلق الوكيل إلى خراسان وطلّق امرأة الآمر، ووافق ذلك مرض الآمر فلا
ميراث لها إذا كان الآمر في حال لا يستطيع أن يخرج الوكيل، وإن قدر على
إخراجه فلم يخرجه فلها الميراث، قلت: وإخراج الوكيل عن الوكالة إنّما
يصح إذا علم الوكيل بالإخراج والوكيل ها هنا غائب، فإنّما يثبت........
على الإخراج إذا كان الآمر بحال يخرجه ويعلمه بالإخراج.
(3/414)
وإذا قال: إن لم أفعل كذا فأنتِ طالق
ثلاثاً، فلم يفعل حتّى مات ورثت إن كان دخل بها؛ لأنَّ الطلاق إنّما
وقع في آخر جزء من آخر حياته؛ لأنّ عدم الفعل عنده يتحقّق وهو مريض في
تلك الحالة، فيصير فارّاً، وإن ماتت هي ورثها؛ لأنّ شرط وقوع الطلاق
عدم الفعل من الزوج، فإنّه لا يتحقّق بموتها فيَرث منها لبقاء النكاح.
ولو قال: إذا مرضت فأنتِ طالق ثلاثاً، مرض ثمَّ مات ورثته؛ لأنّ
المتعلّق بالشرط كالمرسل عند وجود الشرط، فكأنّه قال بعدما مرض: أنتِ
طالق ثلاثاً. وكان الفقيه أبو القاسم الصفّار رحمه الله يقول: ينبغي أن
لا ترث؛ لأنّ الطلاق إنّما يقع أوّل المرض، وهو في تلك الحالة لا يكون
صاحب فراش، والمرض الذي يوجب تعلّق حقّها بماله المرض الذي يصيبه
ويجعله صاحب فراش.
إذا ارتدت المرأة وهي مريضة وماتت في العدّة فلزوجها الميراث، ولو
ارتدت وهي صحيحة لم يرثها الزوج. والفرق: أنّ الردّة منها متى كانت في
حالة المرض فالفرقة جاءت من قبلها بعدما تعلّق حقّ الزوج بمالها، فصارت
قاصدة إبطال حقّه فارّة عن الميراث، فيردّ عليها قصدها ما أمكن، فأمّا
إذا كانت الردّة منها في حالة الصحّة فالفرقة جاءت من قبلها في حال لم
يتعلّق حقّ الزوج بمالها فلا تصير فارة قاصدة إبطال حقّه.
وإذا ارتدّ الزوج ورثت ما دامت في العدّة وإن كان الزوج صحيحاً؛ لأنّ
ردّة الزوج توجب القتل فيصير الزوج بها على شرف الهلاك، فيصير كالمريض
بسبب الرّدة، والفرقة موجبة الردّة، فحصلت الفرقة في حالة المرض معنى،
فيصير الزوج بمباشرتها فارّاً، بخلاف ردّة المرأة؛ لأنّها لا توجب
القتل، فلا تصير بمعنى المريضة إذا آلى منها وهو صحيح ثمَّ بانت
بالإيلاء وهو مريض لم ترثه؛ لأنّه لم يباشر في مرض موته لا نفس الطلاق
ولا شرطه، فلا يصير فارّاً.
ولو كان الإيلاء في المرض ورثت لمباشرته سبب الطلاق؛ لأنّ الإيلاء طلاق
مؤجّل؛ لأنّ المولى في المعنى كأنّه قال: إنَّ مضى أربعة أشهر ولم
أقربك فأنتِ طالق، أو قال لامرأته في مرضه: قد كنت طلقتك ثلاثاً في
صحّتي، أو قال: جامعت أمَّ امرأتي أو أتيت امرأتي، أو قال: تزوّجها
بغير شهود، أو قال: كان بيننا رضاع قبل النكاح، أو قال: تزوّجها في
العدّة ونكرت المرأة ذلك بانت منه ولها الميراث إن مات وهي في العدّة.
إذا قال: طلقتك في صحتي فلأنه أقرّ بالطلاق في المرض، وادّعى الإسناد
إلى حالة الصحّة، ولم يصدّق في دعوى الإسناد صيانة لحقّها في الميراث،
بقي الإقرار بالطلاق في المرض، وأمّا إذا قال: جامعت أمّ امرأتي أو
أتيت امرأتي، أمّا إذا قال: فعلت ذلك في المرض فظاهر؛ لأنّه باشر سبب
الفرقة في المرض، وأمّا إذا قال فعلت في الصحّة فلأنّه لم يصدّق في
دعوى الإسناد لما ذكرنا.v
بقي الإقرار بمباشرة بسبب الفرقة في المرض، فأمّا إذا قال: كان بيننا
رضاع، أو قال: تزوّجتها في العدّة فلأنّه أقرّ بفساد النكاح من الأصل،
والإقرار بفساد النكاح من الأصل من الزوج جعل إنشاء للحرمة في
(3/415)
الحال، على ما عرف في كتاب النكاح.
المحيط البرهانى
وإذا مات الرّجل فقالت المرأة: فإنّه كان طلقني ثلاثاً في مرض موته
ومات وأنا في العدة ولي الميراث، وقالت الورثة: طلقك في صحّته ولا
ميراث لك فالقول قولها؛ لأنّ (278أ1) الظاهر شاهد لها؛ لأنّها تدّعي
بقاء النكاح بعد الموت في حقّ الميراث، والنكاح كان ثابتاً، والظاهر في
الثبات البقاء، فكان الظاهر شاهداً لها.
وهذا بخلاف ما إذا قالت امرأة الرّجل بعد موته: قد كنت أعتقت قبل أن
يموت زوجي ولي الميراث، وقالت الورثة: لا بل أعتقت بعد موته. أو قالت
امرأة مسلمة * وهي يهوديّة أو نصرانيّة بعد موته: أسلمت قبل موته،
وقالت الورثة بعد موته فالقول قول الورثة؛ لأنّ هناك الظاهر شاهد
للورثة، العتق عارض والإسلام كذلك، والأصل في العوراض: أن يحال حدوثها
على أقرب ما ظهر، أمّا ها هنا بخلافه.
وإذا طلّق امرأته ثلاثاً في مرض موته ومات وهي تقول: لم تنقضِ عدّتي
قُبِلَ قولها مع اليمين وإن تطاولت المدّة؛ لأنّها أمينة أخبرت عما هو
محتمل؛ لأنّ مدة العدة قد تطول، فإذا حلفت أخذت الميراث، وإن نلكت فلا
ميراث له كما لو أقرت بانقضاء العدّة، ثمَّ أنكرت الانقضاء وإن لم تقل
شيئاً ولكنها تزوّجت بزوج آخر في مدّة تنقضي في مثلها العدّة، ثمَّ
قالت: لم تنقضِ عدّتي من الأوّل، فإنّها لا تصدّق على الثاني، وهي
امرأة الثاني، ولا ميراث لها من الأوّل وجعل إقدامها على التزوّج
إقراراً منها بانقضاء عدتها دلالة، ولو لم يتزوّج ولكن قالت: أيست من
المحيض، وَاعْتَدَتُّ بثلاثة أشهر ثمَّ مات الزوج وحرمت عن الميراث
ثمَّ تزوجت بعد ذلك بزوج وجاءت بولد أو حاضت فلها الميراث من الأوّل
ونكاح الآخر فاسد.
ولو جاءت الفرقة من المرأة في مرضها أو في حال طلّقها ترث، ويرث الزوج
منها؛ لأن حقّ الزوج يتعلّق بمالها في مرضها، كما أنَّ حقّ المرأة
يتعلّق بما في مرضه، فكما يمنع الزوج عن إبطال حقّها، وتردّ عليه
إبطاله في حقّها فكذا يردّ على المرأة إبطالها حقّ الزوج، ويبقى النكاح
في حقّ ميراثه عنها.
فإنْ قيل: كيف يمكن إبقاء النكاح مع الردّة، والردّة تنافي النكاح.
قلنا: الردّة تنافي الحلّ أما لا تنافي الميراث، فإنَّ المسلم يرث من
المرتدّ فيمكن إبقاء النكاح في حقّ الميراث إن كان لا يمكن إبقاؤه في
حقّ الحلّ.
قال محمّد رحمه الله في «الجامع» : رجل قال لامرأتين له في مرض موته
وقد.......: طلّقا أنفسكما ثلاثاً، فطلقت إحداهما نفسها وصاحبتها في
المجلس ثلاثاً ثمَّ طلقت الأخرى نفسها، وصاحبتها في المجلس ثلاثاً
طلقتا ثلاثاً وترث التي طلقت أخيراً، ولا ترث التي طلقت أوّلاً.
هذا الجنس من المسائل ينبني على أصول:
(3/416)
أحدها: أنّ المرأة إذا باشرت علّة الفرقة
أو شرط الفرقة لا ترث، وكذلك إذا باشرت أحد وصفي العلّة وهو آخرهما أو
باشرت إحدى العلتين لا ترث، وهذا لأنّ الحكم يضاف إلى العلّة ثبوتاً
بها وإلى الشرط وجوداً عنده، فتصير المرأة بمباشرة أحدهما راضية بوقوع
الطلاق عليها مقروناً بسبب الطلاق، فلا ترث، وكذا إذا باشرت أحد وصفي
العلّة وهو آخرهما وجوداً، وباشرت إحدى العلتين لما عرف أنّ الحكم يضاف
إلى أحد الوصفين، وعند اجتماع العلل يضاف الحكم إلى كلّ علّة كأنّه ليس
معها علّة أخرى كالقتل العمد الموجود من القاتلين وما أشبه ذلك، فتصير
المرأة أيضاً راضية بالطلاق، ومتى باشرت بعض الشرط أو بعض العلَّة أو
أحد وصفي العلّة * وهو ليس آخرهما وجوداً * ترث؛ لأنَّ الحكم لا يضاف
إليه ثبوتاً به، ولا وجوداً عنده فيما باشرته، ولا تصير المرأة راضية
بالفرقة.
وأصل آخر: أنّ الأمر بالطلاق في حقّ المرأة المأمورة بطلاق نفسها تمليك
وتفويض حتّى يقتصر على المجلس، وقد مرّ بيان هذا فيما تقدّم.
وأصل آخر: أنّ المأمورين بالطلاق بغير بدل إذا لم يكن الأمر معلّقاً
بمسببهما، أو ما أشبهه ذلك يتفرّد أحدهما به؛ لأنّه تصرّف لا يحتاج فيه
إلى الرأي والتدبير، فيكون الواحد والمثنى فيه سواء. إذا عرفنا الأصول
جئنا إلى تخريج المسألة فنقول: إذا طلقت الأولى نفسها وصاحبتها ثلاثاً
في المجلس طلقتا؛ لأنّهما أمرتا بالطلاق بغير بدل ولم يعلّق الأمر
بشرط، فتنفرد إحداهما بالإيقاع، ومتى طلقت كلُّ واحدة ثلاثاً بإيقاع
الأولى لغى إيقاع الثانية؛ لأنّ الطلاق لا يزيد على الثلاث ولا ترث
التي طلقت أوّلاً؛ لأنها لم تباشر علّة الفرقة في حقّها، وترث التي
طلقت آخراً؛ لأنّها لم تباشر علة الفرقة ولا شرط الفرقة ولا أحد وصفي
علّة الفرقة وهو آخرها، أكثر ما فيه أنَّ قول الآخرة: طلقت نفسي ثلاثاً
رضاً منها بوقوع الفرقة، إلا أنَّ هذا رضاً لا يقترن بوقوع الفرقة بل
تأخّر عنه، ومثل هذا الرضا لا يبطل حقّها عن الإرث كما لو طلّق الزوج
امرأته في مرضه بغير سؤالها، فسألته الطلاق بعد ذلك لا يبطل حقّها عن
الإرث بهذا السؤال كذا هذا.
ولو خرج كلامهما معاً بأن قالت كلُّ واحدة منهما ... ؛ لأن وقوع الطلاق
على كلّ واحد منهما بإيقاعها على نفسها؛ لأنّ كلّ واحدة منهما مطلقة
نفسها بحكم الملك وصاحبها بحكم الوكالة، فاجتمع في حقّ كلِّ واحدة
منهما تطليقها وتطليق صاحبتها ولا يمكن الجمع بينهما؛ لأنّ الطلاق لا
يزيد على الثلاث، فلا بدَّ من تنفيذ إحداهما، فنقول: تنفيذ تطليق
المالك أولى؛ لأنّ تطليق المالك أسبق لأنّ في التوكيل يحتاج إلى نقل
عبارة الوكيل إلى الموكّل، وفي تصرّف المالك لا يحتاج إلى النقل، بل
يتقيّد بنفسه فكان تطليق المالك أسبق من هذا الوجه، ولما كان وقوع
الطلاق على كلّ واحدة منهما بإيقاع نفسها صارت كلّ واحدة منهما مباشرة
علّة الفرقة، فلم يرثا لهذا.
(3/417)
وإن قالت كلُّ واحدة منهما: طلقت صاحبتي
ونفسي، لم يذكر محمّد رحمه الله هذا الفصل في «الكتاب» وحكي عن أبي
الحسن الجقمي رحمه الله أنّهما يرثان، لأنّ كلَّ واحدة منهما إنّما
طلقت بفعل صاحبتها، وفعل صاحبتها لا أثر له في حرمانها، وعامّة المشايخ
رحمهم الله على أنّهما لا يرثان؛ لأنّ كلّ واحدة منهما إنّما طلقت بفعل
نفسها.
بيانه: أنَّ أوّل الكلام يتوقف على آخره إذا وجد في آخره ما يغيّر حكم
أوّله، وقد وجد في آخر كلام كلّ واحدة منهما ما (278ب1) تغيير حكم
أوله؛ لأنّ كلّ واحدة لو اقتصرت على قولها: طلقت صاحبتي تطلق كلّ واحدة
بتطليق صاحبتها وترثان، فإذا.... قولها: ونفسي فإنما تطلق كلَّ واحدة
منهما بتطليق نفسها لما مرَّ، فتوقّف أوّل الكلام من كلّ واحدة على
آخره، فصار هذا وما لو قالت: كل واحدة: طلّقت نفسي وصاحبتي سواء.
ولو طلّقتها إحداهما بأن قالت إحداهما: طلّقت نفسي، وقالت الأخرى:
طلقتك، طلقت هي ولا ترث؛ لأنها إنما طلقت بفعل نفسها، فقد باشرت علّة
الفرقة وورثت الأخرى؛ لأنّها لم تطلق، بل بقيت منكوحة.
وإن طلقتهما إحداهما بأن قالت إحداهما: طلّقت نفسي وصاحبي طلقتا ولم
ترث هي؛ لأنّها حرّمت بفعلها وورثت الأخرى؛ لأنّها حرمت بفعل غيرها،
فإن قالت إحداهما: طلّقت صاحبتي ثلاثاً ثمَّ قالت صاحبتها بعد ذلك:
طلّقت نفسي ثلاثاً ورثتا؛ لأنّ التي تكلّمت أوّلاً لم تطلق أصلاً والتي
تكلّمت آخراً حرمت بفعل غيرها، وإن طلقت كلّ واحدة صاحبتها ورثتا؛ لأنّ
كلَّ واحدة طلقت بفعل غيرها. وهذا كلّه إذا كانتا في المجلس.
فأمّا إذا قامتا عن المجلس ثمَّ طلقت كلّ واحدة منهما نفسها وصاحبتها
ثلاثاً وخرج الكلامان منهما معاً أو على التعاقب طلقتا وورثتا؛ لأنّ
الأمر والتفويض خرج من يد كل واحدة منهما بالقيام عن المجلس، وبقيت
الوكالة فصار وقوع الطلاق على كلّ واحدة منهما مضافاً إلى صاحبتها على
كلّ حال، فلذلك ورثتا، وكذلك لو طلقت كلّ واحدة منهما صاحبتها، ولو
طلقت كلّ واحدة منها نفسها لا يقع الطلاق؛ لأنّ الأمر خرج من يد كلّ
واحدة منهما في حقّ نفسها، وإذا لم يقع الطلاق بقيتا منكوحتين فترثان.
ولو قال لهما في مرضه: طلّقا أنفسكما ثلاثاً إن شئتما، وقد دخل بهما
فطلقت إحداهما نفسها وصاحبتها ثلاثاً لم تطلق واحدة منهما، بخلاف ما
إذا قال: طلّقا أنفسكما ثلاثاً ولم يقل: إن شئتما، فطلقت إحداهما نفسها
وصاحبتها حيث تطلقان؛ لأنّ في هذه المسألة علّق التفويض بمشيئتهما، ولم
يذكر لذلك سبباً، فانصرف السّابق ذكره وهو طلاقهما كأنه قال: طلّقا
أنفسكما إن شئتما طلاقكما، وما شاءتا طلاقهما إنّما شاءت إحداهما ذلك.
أمّا في المسألة الأولى التفويض غير معلّق بالشرط، وفي هذا ينفرد أحد
(3/418)
المأمورين بالإيقاع، فلو أنّ في هذه
المسألة طلقت الأخرى بعد ذلك نفسها وصاحبتها ثلاثاً قبل القيام عن
المجلس طلقتا؛ لأنّهما شاءتا طلاقهما وورثت الأولى دون الأخرى، بخلاف
المسألة الأولى، فإنَّ في المسألة الأولى ورثت الآخرة دون الأولى؛ لأنّ
في المسألة الأولى الأولى ثابت بفعل نفسها، والآخرة ثابت بفعل الأولى،
أمّا في هذه المسألة الأولى والآخرة ثابتان بفعل الآخرة؛ لأنّها باشرت
أحد وصفي العلّة، فكان حريتهما مضافة إلى الآخرة فلهذا ورثت الأولى دون
الآخرة.
ولو خرج كلامهما معاً وباقي المسألة بحالها طلقتا وورثتا؛ لأنّ كلّ
واحدة منهما باشرت بعض العلّة ولم يوجد شيء من ذلك آخراً لينسب إليه،
فلا يضاف الوقوع إلى واحدة منهما على سبيل الانفراد.
ولو طلقتا إحداهما لم تطلق، ولو قامتا عن المجلس وطلقت كلُّ واحدة
منهما نفسها وصاحبتها معاً أو على التعاقب لم يقع الطلاق على واحدة
منهما؛ لأنّ الأمر كلّه معلق بالمشيئة فكان كلّه تمليكاً، فيبطل
بالقيام عن المجلس.
رجل قال في مرض موته لامرأتين له وقد دخل بهما: أَمْرُكُمَا بيدكما،
يريد به: الطلاق، فطلقت إحداهما نفسها وصاحبتها في المجلس ثمَّ طلقت
الأخرى بعد ذلك نفسها وصاحبتها في المجلس طلقتا، وورثت الأولى إن مات
الزوج وهي في العدّة، ولا ترث الآخرة؛ لما مر في مسألة المشيئة في
إضافة الحكم إلى الوصف الأخير، وذلك موجود في الآخرة.
وإن طلقتا إحداهما طلقت بخلاف مسألة المشيئة، فإنّ هناك إذا طلقتا
إحداهما لا تطلق؛ لأنّ هناك فوّض الطلاق إليهما معلّقاً بشرط مشيئتهما
طلاقهما، ولا يوجد هذا الشرط باجتماعهما على طلاق إحداهما، أمّا في هذه
المسألة التفويض مطلق غير معلّق، لكن طلب الرأي والتدبير منها، فإذا
اجتمعتا على طلاق إحداهما فقد وجد رأيهما، بعد هذا ينظر إن تكلمتا معاً
ورثت المطلقة؛ لأنّ البينونة مضافة إليهما لا إلى المطلقة وحدها، وكذلك
إن بدأت المطلقة بطلاق نفسها ثمَّ طلقتها الأخرى ترث أيضاً؛ لأنّ
البينونة مضافة إلى صاحبتها لمباشرتها الوصف الأخير، وإن بدلت الأخرى
ثمَّ المطلقة لم ترث المطلقة، وإن طلقتهما إحداهما لم يقع، فإن قامتا
عن المجلس بطل ذلك كلّه يقع بعد ذلك طلاق بحال....... هذا الأمر.
ولو قال في مرضه لامرأتين له، وقد دخل بهما: طلّقا أنفسكما بألف درهم،
فالأصل في هذا ما مر أنَّ الأمر بالطلاق في حقّ المأمورة بالطلاق
تفويض، وفي حقّ صاحبتها توكيل، إلا أنَّ في هذه المسألة لا تنفرد
إحداهما بالإيقاع؛ لأن الأمر بالطلاق على مال بالمعاوضة، والأصل في
المأمورين بالمعاوضة أن لا ينفرد أحدهما بها على ما عرف.
(3/419)
إذا ثبت هذا فنقول: لو طلقت كلُّ واحدة
منهما نفسها وصاحبتها وخرج الكلامان معاً طلقتا لاجتماعهما على تطليق
كلُّ واحدة منهما، ولا ترثان؛ لأنّ كلّ واحدة منهما إنما تلتزم البدل
بمقابلة طلاق نفسها، لا بمقابلة طلاق صاحبتها، والتزام البدل بمقابلة
طلاق نفسها يكون رضاً منها بطلاقها، والرضا بالطلاق مقارناً للطلاق
يوجب حرمان الإرث، بخلاف الفصل الثاني والثالث؛ لأنّ هناك الرضا لم
يثبت باعتبار وجوب البدل. لو ثبت إنّما يثبت باعتبار أنّها ثابت
بفعلها، وكلُّ واحدة ثابت بفعلها وفعل صاحبتها فلا يثبت الرضا من كلّ
وجه.
وكذلك إذا خرج كلامهما على التعاقب لا يرثان أيضاً؛ لأنّ امتناع الإرث
ها هنا بسبب الرضا الثابت مقتضى البدل، وفي حقّ هذا المعنى لا تفاوت
بينهما إذا خرج الكلامان معاً أو على التعاقب. وإن طلقتا إحداهما جاز
ولم ترث المطلقة تكلمتا معاً أو على التعاقب، وإن قامتا عن المجلس قبل
أن قولا شيئاً ثمَّ طلقتا (279ب1) أنفسها لم يقع شيء وورثتا.
قال في «الجامع الصغير» : إذا قال: طلقتك ثلاثاً في حجّتي، وانقضت
عدّتك وصدّقته المرأة، ثمَّ أقرّ لها بدين أو أوصى لها بوصيّة فلها
الأوّل من ذلك ومن الميراث. وقال أبو يوسف ومحمّد رحمهما الله: إقراره
ووصيّته جائزة؛ لأن بتصادقهما ثبت الطلاق، وثبت انقضاء العدّة والتحقت
هي بالأجنبيّات، ولهذا ثبت أحكام الأجنبيات في حقّها حتّى لو تزوّجت
آخر يجوز، ويبطل حقّها في النفقة والسكنى، ويجوز وضع الزكاة فيها،
وتقبل شهادته لها، والإقرار للأجنبي صحيح، والوصيّة له صحيحة.
ولأبي حنيفة رحمه الله: أنّه تمكنت التهمّة في هذا التصادق، وشبهة
الظلم في هذه الوصية يجوز أنهما تصادقا على ذلك ليبطل الميراث، فيصحّ
الإقرار والوصيّة فيزداد حقّها، والنكاح سبب التهمة، فيعتبر تصادفهما
في حقّهما ولا يعتبر تصادقهما في حقّ غيرهما؛ لأنّ التهمة تتأتى في حقّ
غيرهما.
إذا ثبت هذا فنقول: إذا كان الميراث أكثر من الوصيّة والمقرّ به فلا
تهمة؛ إذ ليس فيه إبطال حقّ على الغير، فيعتبر تصادقهما فيه، وإذا كانت
الوصية والمقرّ به أكثر ففي حقّ الزيادة تهمة، فلا يعتبر تصادقهما في
حقّ الزيادة، وبدون تصديقها إيّاه لا يرتفع النكاح فيما يرجع إلى
الطلاق حقّها في الإرث، فبقي الإرث، ومع بقاء الإرث لا يصحّ الإقرار
والوصيّة، وأمّا ما ذكر من الأحكام قلنا: تلك الأحكام ثبتت بتصادقهما؛
لأنه لا تهمة فيها إذ ليس فيها ضرر على أحد بخلاف الإقرار والوصية.
فإن طلّقها في مرضه بأمرها ثمَّ أقرّ لها بدين أو أوصى لها بوصيّة فلها
الأقلّ من الميراث ومن الوصية في قول علمائنا الثلاثة، وفي قول زفر:
الإقرار والوصيّة لها جائز؛ لأنّ المانع من جوازهما الميراث، وقد بطل
الميراث بسؤالها الطلاق، ولنا ما بيّنا من التهمة من حيث إنّه يجوز
أنّها قصدت بالسؤال تصحيح الإقرار والوصيّة، فرددنا سؤالها لهذه
التهمة، وأقيمت العدّة مقام النكاح في حقّ الحجر عن الوصية والإقرار،
بخلاف المسألة
(3/420)
الأولى على قولها؛ لأنّ ثمّة ثبت وقوع
الطلاق في حالة الصحّة بتصادقهما، وثبت انقضاء العدّة محال، وما أقرّ
سبب التهمة لم يوجد، وهو النكاح والعدّة، أمّا ها هنا بخلافه، وأبو
حنيفة رحمه الله يجيب عن كلامهما في تلك المسألة، ويقول: الزوج متهم في
إقراره بالطلاق في حالة الصحّة، فرددنا إقرارها في حقّ صحّة الإقرار
والوصية بالزيادة.
الفصل الحادي عشر: في التعليقات التي هي
إيقاع في الحال معنى بطريق المجازات
إذا قالت المرأة لزوجها: «بامه» ،.... أو قالت ما «قلينان» ، فقال
الزوج: إن كنت أنا ... ، فقال أو قال: إن كنت أنا «قلينان» فأنتِ طالق،
فحاصل الجواب في هذه المسألة وأجناسها أنّ الزوج ينوي، إن أراد التعليق
لا يقع الطلاق ما لم يكن كذلك، وإن أراد المكافأة والمجاراة «وفارسيّة
حشم رادن» يقع الطلاق وإن لم يكن الزوج كذلك، ومعنى المجاراة
بالعربيّة: أني طلقتك مجاراة على مقالتك هذه، ومعنى «خشم رايدن»
بالفارسيّة: إنك أغضبتني بهذه المقالة «خشم فيويش باين طريق راندم كه
طلاق دادمت» ، وإن لم يكن للزوج نيّة تكلم المشايخ فيه والمختار
للفتوى: أنّه إن كان في حالة الغضب يحمل على المكافأة والمجاراة، وإن
لم يكن في حالة الغضب يحمل على التعليق وتكلّموا في تفسير القلينان
فقيل: أن يكون عالماً بفجور امرأته راضياً به، وقيل أن يكون التلميذ
الكبير إلى امرأته، وقيل أن يخلّيها مع الغلام البالغ.
ولو قال لها: إن علمت أنّي قلينان فأنتِ طالق، لا يقع الطلاق ما لم
يقل: علمت أنّك «فرطبان» ؛ لأنّه علق الطلاق بمعنى في قلبها، فيتعلّق
بالإخبار عنه، كما في قوله: إن كنت تحبينني وأشباه ذلك، فإذا قالت
لزوجها: يا سفلة، فقال الزوج: إن كنت أنا سفلة فأنتِ طالق وأراد به
التعليق لا يقع الطلاق ما لم تكن سفلة.
وتكلّموا في معنى السفلة، قال أبو حنيفة رحمه الله: الموت لا يكون سفلة
بل السفلة هو الكافر، وعن أبي يوسف أنّ السفلة الذي لا يبالي ما قال
وما قيل له، وعن محمّد بن الحسن رحمه الله: أنَّ السفلة الذي يلعب
بالحمام، ويقال عن خلف بن الأيّوب رحمه الله: أنّ السفلة الذي يرفع
الدلّة من الدعوة، وقيل: هو الذي لا يعطي النائبة في قُوّتِهِ، وعن أبي
عبد الله البلخي: هو الذي يشتم أباه وأمّه ويقرأ القرآن في الطريق، وعن
ابن المبارك: هو الذي يتسفّل لتعجرفه، وقيل هو الطفيلي، وقيل: هو الذي
يختلف باب القضاة، وقيل: هو الذي يطعم أهله مع الإمكان خبز الشعير ولحم
البقر في موضع لا يعتاد ذلك.
(3/421)
وفي «المنتقى» : رواية مجهولة أنّ السفلة
الخسيس في عقله ودينه، والساقط قد يكون على الحسب، وعلى ما وصفت لك من
الخسيس في العقل والدّين، وقيل في تفسير «بي حميت» : أن لا يمنع امرأته
عن كشف الوجه عن غير المحارم، وهكذا حكى فتوى شمس الإسلام الأوزجندي
رحمه الله أيضاً: أنّ الموت لا يكون بأحد أمور، ألا ترى أنّه يأتي
بكلمة الشهادة، ويدعو في صلاته للمؤمنين والمؤمنات، وإذا قال لها:
«آكرمن دوزجي أم ترا طلاق» لا تطلق؛ لأنه لا يدري هل هو «دوزخي» أم لا،
فإن قيل: أليس أن كل أحد يدخل النّار، قلنا: المسلم بدخول النار لا
يسمّى دورخيا، وإنَّ وطئه فيها مستعار.
إذا قالت المرأة لولدها: «أي ثلاثة زاده» ، فقال الزوج: إن كان هو
ثلاثة زاده فأنتِ طالق وأراد به التعليق لا تطلق في الحكم؛ لأنّه لا
يعرف كونه ثلاثة زاده فيما بين النّاس، وإن علمت المرأة أنّه ربا طلقت
ولا يسعها المقام معه، وقيل في تفسير الكرخي: أن يشهر به، ويضحك عليه،
وهو ضعيف في رأيه، وقال الكرخي: من له امرأة عفيفة صالحة أراد أن
يتزوّج عليها أخرى، قيل في تفسير (أبله ريش) : أن تكون له لحية طويلة
جاوزت عن الحدّ حتّى صارت عاراً، وقيل في تفسير «رغباريس» أن يكون له
مع اللحيّة صدغان، والتامس: الذي لا يهتدي إلى الخير، ولا يسترشده.
وعن أبي حنيفة رحمه الله أنّه سئل عن الكوسج فقال: بعد أسنانه، فإن
(280أ1) كانت اثنتين وثلاثين، فهو ليس بكوسج؛ لأنّه إذا كان بهذه الصفة
كان وافر الخدين، فإن كانت أسنانه ثمانية وعشرين فهو كوسج؛ لأنّه إذا
كان بهذه الصفة كان ينضم الخدين، وقيل: إذا كنت لحيته خفيفة فهو كوسج؛
لأنّ الناس تعارفوا إطلاق اسم الكوسج على مثل هذا.
وقيل في تفسير الكشحان: هو الذي لا يبالي عمّا اتهمت زوجته بأجنبي،
ومعناه: أنّه إذا سمع ذلك لا يغضب، ولا يتغيّر عن حاله، ولا يضربها ولا
يلومها على ذلك، فأمّا إذا ضربها على ذلك فهو ليس بكشحان.
امرأة قالت لزوجها: إنّك تقنت ولا تجلب إليّ النفقة، فغضب الزوج وقصد
ضربها، فقالت: ليس هذا بكلام عظيم، فقال الزوج: إن لم يكن عظيماً فأنتِ
طالق وأراد التعليق، فقيل في الجواب: إنّ الزوج إن كان إذا قدر بحيث
تكون هذه الشكاية إهانة به لا يقع الطلاق؛ لأنّ هذه الشكاية من قبل هذا
الشخص تكون كلاماً عظيماً فأبت، وإن كان دون ذلك يقع الطلاق؛ لأنّ هذه
الشكاية من مثل هذا الشخص لا تكون كلاماً عظيماً.
الفصل الثاني والعشرون: في مسائل الرجعة
إذا أراد الزوج أن يرجع امرأته فالأحسن أن يراجعها بالقول لا بالفعل؛
لأنّ صحّة المراجعة بالقول متفق عليها، وصحّة المراجعة بالفعل مختلف
فيها، ويستحب أن يُعلمها
(3/422)
بالرجعة، وإن لم تعلم جازت الرجعة عندنا
استدامة للعلم وليست......، فكان الزوج بالرجعة متصرّفاً من خالص حقّه،
وتصرّف الإنسان في خالص حقّه لا يتوقف على علم الغير، ولكن استحب
الإعلام كيلا تقع في المعصية، فإنّها ربما تتزوّج إذا انقضت عدّتها
بناءً على زعمها فتقع في المعصية.f
والجماع في العدّة رجعة، وكذلك التقبيل واللمس بشهوة، وكذلك النظر إلى
الفرج بشهوة، وهذا لأنّه لو لم يجعل ذلك رجعة تظهر في الآخرة أنّه
وطئها حراماً؛ لأنّها تبين عند انقضاء العدّة من وقت الطلاق، والتحرّز
عنه ممكن بأن يجعل ذلك من الزوج دليل استدامة الملك بهذا الطريق، قلنا:
إنّ البائع يشترط الخيار له إذا وطىء الجارية المبيعة في مدة الخيار
كان ذلك منه استدامة ملكه، وإذا ظهر الكلام في الوطء ظهر في التقبيل
واللمس والنظر إلى الفرج؛ لأنّ هذه الأشياء دواعي الوطء فيعطى لها حكم
الوطء، وقيّد شيخ الإسلام النظر بالنظر إلى داخل الفرج، وأمّا النظر
إلى دبرها موضع الجماع........ بغير شهوة لم يكن رجعة في قياس قول أبي
حنيفة رحمه الله، هكذا ذكر القدوري؛ لأنّ هذا السبيل عنده لا يجري مجرى
الفرج، ألا ترى أنّ الوطء فيه لا يوجب الحدّ عنده، فكان النظر إلى هذا
الموضع والنظر إلى سائر الأعضاء سواء.
في «نوادر ابن رستم» عن محمّد رحمه الله: لا يصير النظر إلى الدّبر
رجعة، ولا يصير رجعة إلا النظر إلى الفرج من داخل، ويكره أن يراها
متجرّدة إذا لم يرد الرجعة، وكذلك يكره التقبيل واللمس بغير شهوة؛
لأنّه لا يأمن أن يشتهي، فيصير مراجعاً لها، وإذا لم يكن من قصده
الرجعة يطلّقها من ساعته، فيؤدّي إلى تطويل العدّة عليها، وذلك منهيّ.
وإن كانت المرأة قبّلته بشهوة أو لمسته بشهوة، أو نظرت إلى فرجه بشهوة،
فإن كان ذلك بتمكين من الزوج فهو رجعة، ومعنى تمكين الزوج ههنا: أنّ
الزوج علم ذلك منها، فتركها حتّى فعلت ذلك، وإن فعلت ذلك اختلاساً لا
بتمكين من الزوج ذكر شمس الأئمة السرخسي وشيخ الإسلام خواهر زاده أنّ
قول أبي حنيفة ومحمّد رحمهما الله: يصير مراجعاً، خلافاً لأبي يوسف
رحمه الله، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أنّ على قول أبي حنيفة
رحمه الله يصير مراجعاً، وعن محمّد رحمه الله فيه روايتان، والظاهر من
قول أبي يوسف أنّه مع أبي حنيفة رحمه الله تماماً تثبت الرجعة بفعلها
إذا أقرّ الزوج أنّها فعلت ذلك بشهوة، فأمّا إذا أنكر الزوج الشهوة
والمرأة ادّعت ذلك لا تثبت الرجعة، وكذلك لو شهد شهود أنّها فعلت ذلك
بشهوة لا تثبت الرجعة؛ لأنّ بالرجعة الشهود لا يعرفون الشهوة إلا
بقولها، وقولها غير مقبول إذا أنكر الزوج ذلك.
قال محمّد بن سماعة في «نوادره» عن محمّد رحمهما الله: لو شهد الشهود
على القبلة واللمس بشهوة لا أقبل شهادتهم، فالشهوة غيب لا تجوز الشهادة
عليها، وذكر في
(3/423)
نكاح «الجامع» : أنّ الشهادة على اللمس
والتقبيل بشهوة جائزة، وفي «القدوري» : أنّ فعل المرأة لا تثبت به
الرجعة عند محمّد رحمه الله، وفي رواية ابن سماعة: أن فعلها رجعة إذا
صدّقها الزوج في الشهوة، أو مات الزوج وصدّقها ورثة الزوج، فصار عن
محمّد رحمه الله روايتان كما ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله.
قال في «نوادر ابن سماعة» : وكذلك لو قبلته وهو نائم أو معتوه، ثمَّ
مات وصدّقها الورثة في الشهوة، وعن أبي يوسف رحمه الله في «الأمالي» :
أنّ المرأة إذا لمسته بشهوة، وأقرّ الزوج أنّها فعلت بشهوة فإنَّ أبا
حنيفة رحمه الله قال: هذه رجعة، وإن نظرت إلى فرجه بشهوة فإنّي لا أحفظ
فيها قولاً، وهو في القياس مثل ذلك، ولكن هذا فاحش قبيح لا يكون رجعة.
وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا لمس أو قبّل في الصلاة بشهوة فهو رجعة،
ولا تفسد صلاته.
ولو كان الرّجل وإن نظر إلى الفرج من شهوة فهو رجعة، ولا تفسد صلاته،
ولو كان الرّجل في الصلاة وما فعلت ذلك فالقياس على الرجعة أن تنقض
صلاته، قال: والصلاة وما....... سواء يعني الرجعة، وهو في الصلاة أقبح،
وقال أبو يوسف: إذا تركها تقبّله وتباشره فهذه رجعة في الطلاق ونقض
للصلاة، وإن فعلته اختلاساً وهو........ لم يكن رجعة ولا نقضاً للصلاة،
ولو ... أنّه وهو مكره ثمَّ تركها دائمة عليه، فهو رجعة لا نقضاً.
وفي «نوادر هشام» عن محمّد رحمهما الله: إذا قال لامرأته: إذا جامعتك
فأنتِ طالق، فجامعها قال: قال أبو يوسف: إذا أخرج ذكره ثمَّ أدخله فهو
رجعة، وكذلك إذا قال لها: إن لمستك فأنتِ طالق، فلمسها فإذا رفع يده
عنها ثمَّ أعادها فلمسها ثانياً فهو رجعة، فقال محمّد رحمه الله: إذا
مكث هنيهة بعد ما جامع وإن لم يخرج ذكره فهو رجعة، وكذلك في اللمس
(280ب1) إذا لم يرفع يده هنيهة.
والخلوة بالمعتدة ليست برجعة، لأنَّها لا تختص بالملك، وكلّ فعل لا
يختص بالملك بالمعتدة إذا فعل الزوج لا يكون رجعة، وتعليق الرجعة
بالشرط باطل؛ لأنّ الرجعة استدامة ملك النكاح فيعتبر بابتدائه، وليس في
الرجعة مهر ولا عوض لما ذكرنا أنّ الرجعة استدامة الملك. والعوض يقابل
ثبوت الملك لا استدامته، والمعتدة من الطلاق الرّجعي تتزين لزوجها إذا
كانت المراجعة مرجوة، فأما إذا كانت المرأة تعلم أنّها لا يراجعها لشدة
غضبه عليها فإنّها لا تفعل ذلك، وإذا كان من شأنه أن لا يراجعها
فالأحسن أن يعلمها بدخوله عليها إمّا بالتنحنح أو تحقق الفعل؛ لأنّ
الدخول عليها ليس بمباح ولكن لأنّ المرأة في بيتها تكون في ثياب مهنتها
فربّما يراها متجرّدة، ويكره له أن يراها متجرّدة إذا لم يكن من شأنه
الرجعة.
وإذا كان الطلاق بعد الخلوة والزوج يقول: لم أدخلها فلا رجعة له عليها،
فالخلوة
(3/424)
ما أقيمت مقام الوطء في حقّ المراجعة؛ لأنّ
ذلك حقّ الزوج.
ادّعى الزوج الدخول بها وقد خلا بها، فله الرّجعة، وإن لم يكن خلا بها
فلا رجعة له. وإذا قال لمعتدته: راجعتك أمس، وكذبت فالقول قوله، ولو
كان ذلك بعد انقضاء العدّة، فالقول قولها؛ لأنّ في الفصل الأول. ....
تملك استئنافه في الحال، فلا يتهم بالكذب، ولا كذلك في الفصل الثاني
ولا يمين عليها في قول أبي حنيفة رحمه الله. وقال أبو يوسف ومحمّد
رحمهما الله: عليها اليمين.
ولو قال لها: راجعتك فقالت مجيبة له: قد انقضت عدّتي، فالقول قول الزوج
عندهما، والقول قولها عند أبي حنيفة رحمه الله مع اليمين وإنّما وجبت
اليمين عند أبي حنيفة رحمه الله، وإن كان الاستحسان لأجل النكول،
والنكول بدل عند أبي حنيفة رحمه الله والبدل لا يجرىء في الانقضاء؛
لأنّها أمينة في الإخبار عمّا في رحمها، والأمينة تستحلف لنفي التهمة،
فإذا نكلت عن اليمين فقد حقّقت التهمة فلم يبق قولها حجة مكان التهمة،
فبقي حقّ الرجعة لانعدام دليل الانقضاء، لا بسبب النكول الذي هو بدل
عند أبي حنيفة رحمه الله، فأمّا إذ قال لها: طلقتك، فقالت مجيبة له: قد
انقضت عدّتي، فقد اختلف المشايخ رحمهم الله فيه، منهم من قال: القول
قولها عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما: القول قول الزوج كما في تلك
المسألة، ومنهم من قال: القول قولها بالاتفاق في هذه المسألة، ولا يقع
الطلاق، ومنهم من قال: القول قول الزوج بالاتفاق، ويحكم بوقوع الطلاق،
قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وهو الأصح.
إذا قال لمنكوحته: إن راجعتك فأنتِ طالق، ينصرف يمينه إلى الرجعة
الحقيقيّة لا إلى العقد حتى (إن) طلّقها ثمَّ تزوجها لا تطلق ولو
راجعها تطلق.
ولو قال لأجنبيّة: إن راجعتك فعبدي حرٌّ ينصرف يمينه إلى العقد؛ لأنّ
في الأجنبيّة العمل بالحقيقة غير ممكن فينصرف يمينه إلى المجاز، وفي
المنكوحة العمل بالحقيقة ممكن فلا ينصرف يمينه إلى المجاز.
إذا تزوّج المطلقة طلاقاً رجعيّاً يصير مراجعاً لها، وقال الصدر الشهيد
رحمه الله في الباب الأوّل من «واقعاته» : هو المختار؛ لأنّ العمل
بحقيقة الرجوع إن لم يكن أمكن العمل بمجازه بأن يجعل مجازاً عن الرجعة.
وكتبت في «المستزاد» أنَّ على قول محمّد رحمه الله يصير مراجعاً، وعلى
قول أبي حنيفة رحمه الله لا يصير مراجعاً.
قال لمطلقته طلاقاً رجعيّاً: أنت عندي كما كنت، أو قال: أنت امرأتي،
فإن نوى الرجعة يصير مراجعاً، وإن نوى في حكم الميراث وغيره أو لم تكن
له نيّة لا يصير مراجعاً في هذا الموضع أيضاً.
قال لمطلقته طلاقاً رجعياً: إن راجعتك فأنتِ طالق ثلاثاً، فانقضت
عدّتها ثمَّ تزوّجها لا تطلق ولو كان الطلاق بائناً تطلق، لأنّ في
الوجه الأوّل: المحلّ يقبل حقيقة
(3/425)
الرجعة فانصرفت إليه ولم يوجد، وفي الوجه
الثاني: لا تقبل فانصرفت إلى الرجعة مجازاً وهو النكاح.
رجل طلّق امرأته طلاقاً رجعيّاً، فذهب إلى بيت أبيها، فقال الزوج: «إن
رقية بارا وردمت» إن عنى به الرجعة يصحّ.
وفي «فتاوى الأصل» : إذا طلّق امرأته طلاقاً رجعيّاً ثمَّ راجعها وقال:
زدّت في مهرك لا يصحّ لأن الزيادة مجهولة، ولو قال: راجعتك بهذا ألف
درهم إن قبلت المرأة ذلك صحّ وما لا فلا؛ لأنّ هذه زيادة في المهر
فيشترط قبولها، وهذا بمنزلة ما لو جدّد في النكاح، وإذا انقضت العدّة
فقد بطل حقّ المراجعة، وإنّما يعرف انقضاء العدّة: إذا كانت المرأة من
ذوات الأشهر، بأن كانت آيسة أو صغيرة بمعنى ثلاثة أشهر، وإن كانت من
ذوات الأقراء فإن كان حيضها عشراً فجرى انقطاع الدّم، وإن كان أيّام
حيضها أقلّ من عشرة فحين تغتسل أو يمضي عليها وقت صلاة كامل، بل تيمّمت
بأن كانت مسافرة لم تنقطع الرجعة لمجرّد التيمم في قول أبي حنيفة وأبي
يوسف رحمهما الله إلا إذا صلّت به، وقال محمّد وزفر رحمهما الله: تنقطع
الرجعة بمجرّد التيّمم، فإن شرعت في الصلاة لا يحكم بانقطاع الرجعة
عندهما ما لم تفرغ من الصلاة، هو الصحيح من مذهبها، وإن تيّممت وقرأت
القرآن أو مسّت المصحف أو دخلت المسجد ففيه اختلاف المشايخ رحمهم الله،
وفي «القدوري» : وأمّا...... فالرجعة في حقّها تنقطع بمجرّد انقطاع
الدّم وإن كان أيّام حيضها دون العشرة.
ولو اغتسلت المعتدة وبقي عضو واحد لم يصبها الماء فالرجعة قائمة
استحساناً ثمَّ قال في بعض النسخ: سواء كان الباقي يداً أو رجلاً أو
شعراً، فقد سوّى بين الشعر وغيره، قال بعض مشايخنا رحمهم الله: المراد
منه منابت الشعر وأصله لا أطراف الشعر.
وقال بعضهم رحمهم الله: المرادكلّ الشّعر بناءً على أنَّ الجنب أو
الحائض إذا اغتسل وأصاب الماء منابت الشعر وأصله إلا أنّه لم يصل
أطرافه هل يكفها ذلك من الاغتسال؟ ففيه اختلاف المشايخ، وعن أبي حنيفة
رحمهم الله فيه روايتان، وإن كان أقلّ من ذلك يعني أقلّ من العضو، وذلك
نحو الأصبع واللمعة فلا رجعة استحساناً. والفرق: أنَّ انقطاع الرجعة
معلّق بالاغتسال، ولم يتمّ الاغتسال في الفصل الأوّل بيقين؛ لأنّ العضو
الكامل لا يتسارع إليه الجفاف من الأعضاء، ولا يغفل الإنسان عن معرفة
حاله عادة، فدلّ الجفاف على عدم وصول الماء إليه، فلا يتمّ الاغتسال؛
لأنّ اللمعة يتسارع إليها الجفاف قبل سائر الأعضاء، فيحتمل أنّ الماء
وصل إليها فتنقطع الرجعة، ويحتمل أنّه لم يصل فلا تنقطع الرجعة، فيعتبر
الماء واصلاً إليها في حقّ انقطاع الرجعة دون إباحة الصلاة، وإباحة
تزوّج آخر احتياطاً حتّى لو تيقّنت هي بعدم وصول الماء إليها بأن منعت
عنها قصداً لا تنقطع الرجعة، بخلاف العضو الكامل على ما مرّ، ولو تركت
المضمضة
(3/426)
والاستنشاق فالرجعة قائمة عند أبي حنيفة،
وقالا: تنقطع الرجعة ولا تحل للأزواج، فإن كان الباقي أحد المنجزين
فالرجعة باقية بالاتفاق.
وفي «القدوري» : لو اغتسلت بسؤر الحمار فقد انقطعت الرجعة، ولا تحلّ
للأزواج، وإذا طلّق امرأته طلاقاً رجعيّاً فليس له أن يسافر بها،
والسفر بها ليس برجعة عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله؛ لأنّه لا يختص
بالملك، وليس لها أن تخرج بنفسها أيضاً لسفر وما دونه سواء؛ لأنّ النصّ
المحرّم بخروجها مطلق غير مقيّد بالسفر، قال الله تعالى: {يأيُّهَا
النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَآء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ
وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ
تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن
يَأْتِينَ بِفَحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن
يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ
اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} (الطلاق: 1) والمراد من النصّ
الطلاق الرجعي، بدليل ساقه وهو قوله تعالى: {يأيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا
طَلَّقْتُمُ النّسَآء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ
الْعِدَّةَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن
بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَحِشَةٍ
مُّبَيّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ
فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ
ذَلِكَ أَمْراً} (الطلاق: 1) إلى قوله: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن
بُيُوتِهِنَّ} .
قال في «الجامع الصغير» : وإذا طلّق امرأته وهي حامل أو ولدت منه، وقال
لمّا جامعها فله عليها الرجعة لأنّا قضينا ببيان النسب منه وبيان النسب
منه دليل وجود الوطء منه، فيثبت الوطء منه حكماً بدليل شرعي، فإذا وجد
الوطء منه تأكّد الملك في الرجعي، والملك المتأكّد في الرجعي لا يبطل
بنفس الطلاق، فتثبت الرجعة، وقول محمّد رحمه الله في «الكتاب» : أو
ولدت منه معناه ولدت منه قبل الطلاق، أمّا إذا ولدت منه بعد الطلاق
تنقضي العدّة بالولادة فلا تتصوّر الرجعة.
وفيه أيضاً: إذا قال لامرأته: إذا ولدت فأنتِ طالق، فولدت ثم أتت بولد
آخر لأكثر من سنتين من ولادة الولد الأوّل ولم تقرّ بانقضاء العدّة فهو
رجعة، وكذلك إذا جاءت به لأقل من سنتين من ولادة الولد الأول ولكن
لأكثر من سنتين أو لستة أشهر فهو رجعة، أما الفصل الأول لأنها لما جاءت
بولد آخر لأكثر من سنتين ولم تقر بانقضاء العدة يجعل الزوج واطئاً
إيّاها في العدّة؛ لأنها مسلمة، والظاهر أنّ المسلمة العاقلة لا تزني،
فلا يجعل ولد الزنا من زوج آخر؛ لأنّها لم تقرّ بانقضاء العدّة، وأمكن
أن يجعل منه بوطء في العدّة، فيجعل كذلك، ويصير بذلك الوطء مراجعاً.
وأمّا الفصل الثاني: فلأنّه لا يمكن أن يجعل هذا الولد من علوق سابق
على الطلاق؛ لأنّا متى جعلنا هكذا صار مع الولد الأوّل بطناً واحداً،
وفي ثبوت اتحاد البطن شكّ إذا كان بين الولدين ستة أشهر فصاعداً، ولا
يثبت الاتحاد بالشك، فصار الولد الثاني من علوق حادث بعد الطلاق فيكون
رجعة.
وذكر في كتاب الدعوى: أنّ المطلقة طلاقاً رجعيّاً إذا جاءت بولد لأكثر
من سنتين كان رجعة، فإن جاءت به لأقلّ من سنتين لا تكون رجعة؛ لأنها
إذا جاء بالولد لأقلّ من سنتين احتمل العلوق بعد الطلاق فيكون رجعة،
واحتمل العلوق قبل الطلاق فلا يكون
(3/427)
رجعة فلا تثبت الرجعة بالشك، فأمّا في مسألتنا هذه: هذا الاحتمال ساقط
الاعتبار، لأنّ في مسألتنا ولدت ولدين، فلو لم يجعل الثاني وعلوق حادث
صار مع الولد الأوّل بطناً واحداً، وفي اتحاد البطن شك على ما مر، فصار
العلوق الثاني من وطء حادث بعد الطلاق فيكون رجعة.
وفي «الأصل» : إذا قالت المطلقة طلاقاً رجعيّاً: أسقطت سقطاً مستبين
الخلق أو بعض الخلق صدقت، ولا رجعة عليها. ولو قالت: ولدت لا يقبل
قولها إلا ببيّنة، فإن طلب الزوج يمينها بالله لقد أسقطت سقطاً بهذه
الصفة تحلف بالاتفاق، هو الصحيح؛ لأنّ هذا ليس استحلافاً على الرجعة.
إذا قال بعد مضي شهرين: قد انقضت عدّتي بالحيض، فقال الزوج أخبرتني أمس
أنّها لم تحض، فإن صدّقته ملك الزوج الرجعة، وإن كذبته فالقول قولها مع
اليمين، والله أعلم بالصواب.
|