المحيط البرهاني في الفقه النعماني

كتاب الاستحسان والكراهية
هذا الكتاب يشتمل على اثنين وثلاثين فصلاً:
1 * في العمل بخبر الواحد
2 * في العمل بغالب الرأي
3 * في الرجل رأى رجلاً يقتل أباه، وما يتصل به
4 * في الصلاة، والتسبيح، وقراءة القرآن، والذكر، والدعاء ورفع الصوت عند قراءة القرآن والذكر والدعاء
5 * في المسجد والقبلة والمصحف وما كتب فيه شيء من القرآن، نحو الدراهم والقرطاس، أو كتب فيه ذكر الله تعالى
6 * في سجدة الشكر
7 * في المسابقة
8 * في السلام، وتشميت العاطس
9 * فيما يحل للرجل النظر إليه، وما لا يحل، وما يحل له مسه، وما لا يحل
10 * في اللبس؛ ما يكره من ذلك، وما لا يكره
11 * في استعمال الذهب والفضة
12 * في الكراهية في الأكل
13 * في الهبة، ونثر الدراهم، والسكر، وما رماه صاحبه
14 * في الكسب
15 * في نقل الميت
16 * في معاملة أهل الذمة
17 * في الهدايا والضيافات
18 * في الغناء، واللهو، وسائر المعاصي، والأمر بالمعروف

(5/283)


19 * في التداوي والمعالجات، وفيه العزل، وإسقاط الولد
20 * في الختان والخصاء وقلم الأظافير، وقص الشوارب، وحلق المرأة شعرها، ووصلها شعر غيرها بشعرها.
21 * في الزينة، واتخاذ الخادم للخدمة
22 * في قتل المسلم والده المشرك، ومن بمعناه، وقتله سائر محارمه.
23 * فيما يسع من الجراحات في بني آدم والحيوانات، وقتل الحيوانات، وما لا يسع من ذلك.
24 * في تسمية الأولاد وكناهم
25 * في الغيبة والحسد

26 * في دخول النساء الحمام، وفي ركوبهن على السروج
27 * في البيع، والاستيام على سوم الغير
28 * في الرجل يخرج إلى السفر ويمنعه أبواه، أو أحدهما أو غيرهما من الأقارب أو يمنعه الدائن، والعبد يخرج ويمنعه المولى والمرأة
29 * في القرض ما يكره من ذلك، وما لا يكره
30 * في ملاقاة الملوك، والتواضع لهم، وتقبيل أيديهم، أو يد غيرهم، وتقبيل الرجل وجه غيره، وما يتصل بذلك.
31 * في الانتفاع بالأشياء المشتركة
32 * في المتفرقات

(5/284)


الفصل الأول في العمل بخبر الواحد
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
الأول: في الإخبار عن أمر ديني؛ نحو الإخبار عن نجاسة الماء وطهارته، والإخبار عن حرمة المحل وإباحته وما يتصل بذلك، قال محمد رحمه الله: وإذا حضر المسافر الصلاة، فلم يجد ماءً إلا في إناء أخبره رجل أنه قذر، وهو عنده مسلم مرضي؛ لم يتوضأ به؛ لأنه أخبر بأمرٍ من أمور الدين، وهو حرمة استعمال الماء، ووجوب التيمم عليه.
وخبر الواحد حجة في أمور الدين إذا كان المخبر مسلماً عدلاً بالآثار والمعقول، أما الآثار فمن جملة ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث دحية الكلبي إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام، وعبد الله بن أنيس إلى كسرى، ومع كل واحد منهما كتاب، (لو) لم يكن خبر الواحد حجة لما اكتفى ببعث الواحد، وعن عمر رضي الله عنه أنه حين ورد ماء الحياض قال عمرو بن عاص: ارحل مراد.... أخبرنا عن السباع أترد ماءكم، فقال عمر رضي الله عنه: لا تخبرنا عن شيء منهما....؛ لولا أن هذا ... عده خبره خبراً وإلا ما نهاه عن ذلك.
وأما المعقول: وهو أنا لو لم نعمل بالخبر الواحد.... أمور الدين الأخرى الكذب احتجنا إلى أن نعمل باستصحاب الحال متى أخبر بنجاسته، أو بهلال رمضان، أو بالقياس متى روي خبر في أحكام تخالف القياس.

والعمل بالخبر الواحد إذا كان مسلماً عدلاً؛ أولى من العمل باستصحاب الحال والقياس، أما استصحاب الحال؛ فلأنه عمل بعدم الدليل، وخبر المسلم العدل حجة من حيث إن الصدق فيه رآه إن لم يكن حجة، من حيث إن احتمال الكذب باق، وأما القياس فلأن ما يدل على الخطأ منه في القياس راجح على ما يدل على الصواب؛ لأنه من الجائز أن يكون الحكم في الأصل معلولاً بعلة أخرى غير ما علله المعلل، ومن الجائز أن يكون مصيباً فيما علل، إلا أنه ورد النص بخلافه لكن لم يبلغه، فكان ذلك الخطأ راجحاً على دليل الصواب، وما يدل على الصدق في الخبر الواحد المسلم العدل راجح على ما يدل على الكذب؛ لأن دليل الكذب ثابت من وجه واحد، وهو أنه غير معصوم عن الكذب، ودليل الصدق ثابت من وجهين؛ أحدهما: عقله ودينه، والثاني: عدالته، فكان العمل

(5/285)


بخبر الواحد أولى، وكذلك إذا كان المخبر عبداً أو أمة، أو امرأة حرة؛ لأن العمل بخبر الواحد إذا كان مسلماً عدلاً؛ إنما وجب لترجيح دليل الصدق على دليل الكذب؛ باعتبار عقله ودينه وعدالته، وهذا المعنى موجود في حق العبد والأمة والمرأة الحرة إذا كانوا عدولاً مسلمين، والدليل عليه أن كثيراً من العبيد رووا أخباراً عن النبي عليه السلام؛ كبلال وغيره رضي الله عنه، وكذلك أزواج النبي عليه السلام روين أخباراً عن النبي عليه السلام؛ حتى عدّت عائشة رضي الله عنها من كبار الصحابة رأياً ورواية، وإذا ثبت هذا في رواية الأخبار من النبي عليه السلام ثبت فيما يخبر من أمور الدين؛ هذا إذا كان المخبر عدلاً.

وإن كان المخبر غير ثقة، أو كان لا يدرى أنه ثقة أو غير ثقة، يريد أن المخبر إذا كان فاسقاً أو مستوراً نظر فيه؛ لأنه استوى دليل الصدق والكذب في حقه؛ لأن عقله ودينه إن كانا يدلان على الصدق ففسقه وكونه غير معصوم عن الكذب يدلان على الكذب، فلابد من الترجيح، وليس ههنا دليل على الترجيح سوى التحري، وأكثر الرأي، فإن كان أكثر رأيه أنه صادق تيمم، ولم يتوضأ بترجيح جانب الصدق على جانب الكذب بالتحري، وإن أراقه ثم تيمم بعد ذلك كان أحوط، ولم يذكر مثل هذا في الخبر الواحد إذا كان عدلاً؛ لأن هناك رجحان الصدق بالعدالة ثابت بدليل لا بمجرد الظن؛ لأن العدالة عبارة عن انزجاره عن المعاصي، وإنه دليل ظاهر في نفسه، فسقط اعتبار جري الكذب أصلاً، وأما ههنا رجحان الصدق بالتحري ثابت بمجرد الظن، فبقي شبهة اعتبار جري الكذب، فكان إراقة الماء حتى يصير عارٍ عن الماء الطاهر من كل وجه أحوط، وإن كان أكثر رأيه أنه كاذب توضأ به، ولم يلتفت إلى قوله، وأجزأه ذلك، ولا يتيمم عليه؛ (لأنه) أرجح جهة الكذب بالتحري، فلم تثبت نجاسته، فبقي الماء على الطهارة؛ هذا هو جواب الحكم.
فأما في.... والاحتياط: فالأفضل له أن يتيمم بعد الوضوء؛ لأن جانب الكذب إنما ترجح بمجرد الظن، فلم يسقط اعتبار جري الصدق فلا يجب الجمع بينهما بالأخرى؛ لكن يندب إلى ذلك؛ كإراقة الماء في الفصل الأول؛ لا يجب جبراً بل يندب إليه.
ثم إن محمداً رحمه الله ألحق المستور بالفاسق، وهذا جواب ظاهر الرواية، وروى الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنهما: أن المستور في هذا الحكم كالعدل، وهذا ظاهر على مذهبه، فإنه يجوز القضاء بشهادة المستورين إذا لم يطعن الخصم، وسيأتي هذا الفصل إن شاء الله تعالى، وهذا إذا كان المخبر مسلماً.

فإن كان المخبر بنجاسة الماء ذمياً لا تثبت نجاسة الماء بقوله؛ لأن المخبر لو كان مسلماً فاسقاً لا يثبت نجاسة الماء؛ لأنه فاسق فعلاً، فلأن لا تثبت النجاسة بقول الذمي، وإنه فاسق فعلاً واعتقاداً كان أولى.

(5/286)


فرق بين الذمي وبين الفاسق من وجهين:
أحدهما: أن الفاسق أوجب التحري، وفي الذمي لا يوجب التحري، والفرق أن الفاسق استوى دليل الصدق، ودليل الكذب، فوجب الترجيح بالتحري، وفي حق الذمي ترجح جانب الكذب من غير تحر؛ لأن عقله ودينه الذي هو دليل الصدق في حق المسلم يحمله على الكذب في حق المسلم؛ لأنه يعتقده على دين باطل فيقصد الإضرار به بكل ما أمكنه، وإليه وقعت الإشارة، في قوله تعالى: {لا يألونكم خبالاً} (آل عمران:18) أي: إنما يقصدون في إفساد أموركم، فإذا ترجح جانب الكذب في حقه بدون التحري؛ لا يجب التحري؛ لأن التحري إنما يجب لترجيح أحد الدليلين على الآخر، ولكن يستحب التحري؛ لأن احتمال الصدق باق؛ لأن ترجح جانب الكذب في حق الذمي ما كان بدليل يوجب علم اليقين، فيبقى (77أ2) احتمال الصدق، فلبقاء احتمال الصدق يستحب له التحري، ولترجيح جهة الكذب بنوع دليل لم يجب التحري، فإن تحرى ووقع في قلبه أنه صادق فيما يخبر لا يجب عليه التيمم؛ لأن هذا التحري يستحب وليس بواجب، فالعمل به يكون مستحباً لا واجباً، فإن تيمم لا يجزئه ما لم يرق الماء أولاً، بخلاف ما لو أخبره فاسق وتحرى، ووقع تحريه أنه صادق فيما أخبر من نجاسة الماء، فتيمم قبل إراقة الماء، فإنه يجزئه، وهو الفرق الثاني.

والوجه في ذلك: أن هذا التحري إذا كان مستحباً لا واجباً ثبتت النجاسة بهذا التحري في الاستحباب دون الحكم، فإذا لم تثبت النجاسة في حق الحكم كان الثابت في حق الحكم الطهارة، فإذا تيمم قبل الإراقة، فقد تيمم مع وجود الماء الطاهر في حق الحكم فلا يجوز، أما في حق الفاسق التحري واجب، فثبتت النجاسة بالتحري من حيث الحكم، فيصير الماء نجساً من حيث الحكم، ولكن احتمال الطهارة من وجه؛ لأن الصدق ترجح بمجرد الظن لا بدليل، فتستحب الإراقة ولا تجب.
والذي ذكرنا من الجواب في الذمي: إذا أخبر بنجاسة الماء؛ فهو الجواب في الصبي العاقل والمعتوه؛ لأن دليل الكذب فيها راجح على دليل الصدق؛ لأن الصبي ناقص العقل، والمعتوه كذلك، فيكون عقله دليلاً على الصدق من وجه دون وجه، ودينه كذلك؛ لأن الدين إنما يصير مانعاً بالعقل، وإذا كان عقلهما ودينهما دليلاً على الصدق من وجه دون وجه؛ كان دليلا الصدق والكذب في حقهما على السواء، وترجح جانب الكذب لكونه غير معصوم عن الكذب، فصار الجواب في حقهما كالجواب في حق الذمي من هذا الوجه.
رجل اشترى لحماً فلما قبضه أخبره مسلم ثقة أنه ذبيحة المجوسي، لم ينبغ له أن يأكله؛ لأن المشهود به حرمة التناول، وإنه حق الله تعالى، وإثباتها لا يتضمن زوال الملك، فإن حرمة الانتفاع مع قيام الملك يجتمعان في الجملة، والمشهود به إذا كان بهذه الصفة يثبت بقول الواحد، فرق بين هذه المسألة وبين مسألتين:
إحداهما: رجل تزوج امرأة، فجاء مسلم ثقة أو امرأة، وأخبر أنهما ارتضعا من

(5/287)


امرأة واحدة، فأحبُّ إليَّ أن يتنزه عنها فيطلقها، ويعطيها نصف الصداق إن لم يكن دخل بها، وإن لم يفعل فذلك له واسع.
المسألة الثانية: رجل اشترى جارية، فأخبره مسلم ثقة أنها حرة الأصل، أو أنها أخت المشتري من الرضاعة، فإنه يتنزه عن وطئها، فذلك له أفضل، وإن لم يفعل، فذلك له واسع.
والفرق: أن في أبضاع الحرائر؛ لا يمكن إثبات الحرمة في المحل على سبيل التأبيد إلا بزوال الملك، والملك من حقوق العبد، فلا يثبت زواله إلا بما هو حجة في حق العباد، وهي شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، فأما فيما عدا أبضاع الحرائر يمكن إثبات حرمة الانتفاع مع قيام الملك في الجملة، فلم يكن ثبوت الحرمة متضمناً زوال الملك، فكان هذا إخباراً عن محض الحرمة، وإنها حق الله تعالى، فجاز أن يثبت بخبر الواحد.
قال في مسألة اللحم: ولا يرده على البائع؛ لأن في الرد على البائع إزالة ملك البائع عن الثمن؛ لأنه استوجب الثمن بالعقد قبل هذا الخبر، وقول الواحد ليس بحجة في إبطال ملك الغير.

فإن لم يبعه هذا الرجل، ولكن أذن له في التناول، وأخبره ثقة مسلم أنه ذبيحة مجوسي لم يحل أكله لما قلنا، فإن اشترى بعد ذلك كان على الحالة التي كان عليها قبل الشراء؛ لأن حرمة العين في حقه ثبتت بالخبر الواحد، والبيع لا أثر له في إزالة الحرمة الثابتة في العين، والميراث والوصية والهبة بمنزلة الشراء في الأكل والشرب والوطء وغير ذلك.
قال: ولو أن رجلاً اشترى طعاماً أو جارية أو ملك ذلك بميراث فجاء مسلم ثقة، وشهد أن هذا لفلان الفلاني؛ غصبه البائع أو الواهب أو الميت، فأحب إلينا أن يتنزه عن أكله ووطئها، وإن لم يتنزه كان في سعة.

فرق بين هذا وبينما إذا اشترى لحماً، فأخبره مسلم أنه ذبيحة المجوسي، فإنه يحرم أكلها، وكذلك لو أخبره مسلم ثقة أن هذا الماء نجس، فإنه يحرم استعماله، والفرق: أن في ذبيحة المجوسي، ونجاسة الماء المشهود به حرمة العين، وإنه من حق الله تعالى؛ لأن حق العبد حق لا يزول بإباحة العين، وقد أمكن إثباتها بدون إزالة الملك لما ذكرنا أنه قد يحرم الانتفاع بالعين مع بقاء الملك، فإن العصير إذا تخمر، والدهن إذا وقعت فيه النجاسة يحرم الانتفاع، ولا يزول العصير والدهن عن ملكه، ولما كان هكذا كان المشهود به حرمته هي خالص حق الله تعالى فجاز أن يثبت بالخبر الواحد، أما ههنا المشهود به حرمة ثبتت حقاً للمالك؛ لأن المشهود به كون ما في يد البائع مغصوباً، وشراء المغصوب حرام حقاً للمالك، وكان المشهود به حقاً من حقوق العباد، وشهادة الواحد في حقوق العباد اعتبر حجة في حق التنزه؛ لا في حق الحكم كما في مسألة الرضاع التي ذكرناها.

(5/288)


وكذلك طعام أو شراب في يدي رجل أذن لغيره في أكله أو شربه أو التوضؤ به، فأخبره مسلم ثقة أن هذا غصب في يديه من فلان، فأحب إلي أن يتنزه، فإن لم يتنزه وأكله أو شربه أو توضأ به، فهو في سعة من ذلك، وإن لم يجد وضوءاً غيره، وهو في سفر توضأ به، ولم يتيمم.

نوع آخر في تعارض الخبرين في نجاسة الماء وطهارته، أو في حرمة العين وإباحته
رجل دخل على قوم من المسلمين يأكلون طعاماً، ويشربون شراباً، فدعوه إليه، فقال رجل مسلم ثقة قد عرفه: هذا اللحم ذبيحة المجوسي، أو قال: خالط لحم خنزير، وهذا الشراب خالط الخمر، وقال الذين يدعون إلى ذلك: ليس الأمر كما قال؛ بل هو حلال، وبينوا الوجه فيه قال: ينظر في حالهم، فإن كانوا عدولاً ثقات لم يلتفت إلى قول ذلك الرجل الواحد بمقابلة قولهم.

فرق بين الخبر وبين الشهادة، فإن المدعيين لعين واحد إذا أقام أحدهما شاهدين، وأقام الآخر جماعة، فإنه لا يترجح الجماعة على المثنى إذا استووا في العدالة، والفرق وهو أن الشهادة إن كانت إخباراً حقيقة فهي من الشاهد لو رجع يضمن، وبدليل أنه شرط لفظة الشهادة والعدد، وإنما شرط ذلك؛ لأنه لما جعل هذا إيجاباً حكماً كان هذا أمراً ثابتاً بخلاف الحقيقة، فوجب مراعاة جميع ما ورد الشرع من الشرائط، قلنا: وما يكون إيجاباً وإثباتاً حقيقة يستوي فيه المثنى والجماعة (77ب2) فأما الإخبار بنجاسة الماء وطهارته، والإخبار عن الحل والحرمة؛ إخبار عن حقيقة ذلك، ولهذا لم يشترط لفظ الشهادة والعدد، والخبر إنما يترجح بزيادة عدد في المخبر؛ لأنهما كرجل في حد العيان، أو يقرب منه.
وإن كانوا متهمين، أخذ بقوله ولم يسعه أن يقرب شيئاً من ذلك الطعام والشراب، ولا تقوم زيادة العدد مقام العدالة.
فإن قيل: أليس أن الفاسقين إذا شهدا أن فلاناً طلق امرأته واحدة بائنة، أو أعتق أمته، فإن القاضي يحول بين المشهود عليه، وبين المرأة والعبد؛ كما لو شهد بذلك واحد عدل، وأقيم زيادة العدد مقام العدالة، قلنا: في هذه المسألة روايتان فعلى إحدى الروايتين لا يحال، ولا يقام زيادة العدد مقام العدالة، فعلى هذه الرواية يحتاج إلى الفرق، والفرق أن في تلك المسألة ليس لمعارضة قول الفاسقين قول عدل بخلافه فجاز أن يقام العدد مقام العدالة.

قال: ويستوي أن يكون المخبر مسلماً أو مسلمة، حراً أو عبداً، ذكراً أو أنثى بعد أن يكون عدلاً ثقة؛ لأن هذا من أمور الدين، فإن كان في القوم رجلان ثقتان أخذ بقولهما؛ لأن الخبر يترجح بزيادة العدد على ما مر، وإن كان فيهم واحد ثقة عمل فيه على أكثر رأيه؛ لأن الخبرين استويا في الحجة، فلابد من الترجيح، وذلك بالتحري، فإن لم يكن له فيه رأي، واستوى الحالان عنده، فلا بأس بأكل ذلك وشربه، وكذلك الوضوء

(5/289)


منه في جميع ذلك، يريد به إذا أخبره واحد بنجاسة الماء، وجماعة بطهارته، وفيهم واحد ثقة، فإنه يتحرى، وإن لم يقع تحريه على شيء فلا بأس بالتوضؤ به.

فرق بين هذا وبينما إذا عدّل الشاهد واحد وجرحه واحد، فإنه يؤخذ بقول الجارح، ولايبقى ما كان على ما كان.
والفرق: أن الجارح فيما جرح اعتمد العيان بارتكاب المحظور، وارتكاب المحظور مما يعاين، فأما المعدل اعتبر استصحاب الحال؛ لأنه نفى أسباب الحرج ما لم يعلم حقيقة، فكان خبر من اعتمد الدليل أولى، وأما ههنا كل واحد منهما فيما أخبر اعتمد دليلاً؛ لأن طهارة الماء ونجاسته تعلم حقيقة بالدليل في الجملة، وكذلك حل الطعام وحرمته، فإذا وقع التعارض والاستواء، وأحدهما كاذب بيقين، والآخر صادق؛ تساقط الخبران، ووجب التمسك بالأصل.

فإن قيل: وجب أن يترجح قول من يخبر بالنجاسة والحرمة كما في رواية الإخبار؛ قلنا: في رواية الإخبار إنما يؤخذ برواية الحرمة؛ لأنه لما جعل التاريخ جعل كأن الخبرين كانا، وصار أحدهما ناسخاً للآخر، وإنه ممكن أو يجوز أن يكون الشيء حلالاً، ثم يصير حراماً، وكذا يجوز أن يكون حراماً، ثم يصير حلالاً، إلا إن جعل الخبر المحرم ناسخاً أولى لما فيه من تعليل النسخ؛ لأنه ينسخ به الإباحة الثانية بالخبر المبيح لا غير، ولو جعل الخبر المبيح ناسخاً بنسخ الحرمة الثانية بالخبر المحرم بعد انتساخ الإباحة الأصلية بالخبر المحرم، وكان جعل الخبر المحرم ناسخاً، وفيه تعليل الفسخ أولى؛ أما ههنا لا يمكننا أن نجعل كلا الأمرين كأنهما كانا، فإنه متى ذبح هذه الشاة مجوسي، أو وقع في الماء نجاسة لا يتصور أن يكون الماء طاهراً، وتكون ذبيحة مسلم، فكان الثابت أحدهما، ولا يدرى ذلك لمكان التعارض فتساقطا.
فإن كان الذي أخبره بالحل مملوكين ثقتين، والذي أخبره بالحرمة حر واحد، فلا بأس بأكله؛ لأن في الخبر الديني الحر والمملوك سواء، ولا يقع التعارض بين الواحد وبين الاثنين في الصدق على ما بينا.
وإن كان الذي أخبره بأحد الأمرين عبد ثقة، والذي أخبره بالأمر الآخر ثقة؛ عمل بأكثر رأيه؛ لأن الخبرين استويا، فلابد من التحري لإمكان العمل، فإن أخبره بأحد الأمرين مملوكان ثقتان، وبأمر أخر حران ثقتان أخذ بقول الحرين؛ لأن الخبرين استويا في دليل الصدق، فلابد من الترجيح لإمكان العمل، وطريقه إما التحري أو حرية المخبرين، فحرية المخبرين صالحة للترجيح، والترجيح بها أولى؛ لأن خبر الحرين حجة في الأحكام، وخبر المملوكين ليس بحجة في حق الأحكام، والترجيح بما هو حجة في حق الأحكام ترجيح بما هو دليل، والترجيح بالتحري ترجيح بمجرد الظن، ولا شك أن الترجيح بما هو دليل أولى من الترجيح بمجرد الظن.
وهذا بخلاف ما إذا كان من أحد الجانبين حران، ومن الجانب الآخر ثلاثة أعبد، فإنه يؤخذ بقول العبيد، والفرق وهو الأصل في جنس هذه المسائل: أن الترجيح أولاً

(5/290)


يطلب من حيث العدد؛ لأنه بالعدد يدخل في حد العيان، أو يقرب منه، وبكونه حجة في حق الأحكام لا يدخل في حد العيان ولا يقرب منه، فكان الترجيح حجة في الأحكام بزيادة العدد أولى، وبعد الاستواء في العدد يطلب الترجيح بكونه حجة في الأحكام لا بالتحري؛ لأنه صار حجة في حق الأحكام بالشرع؛ لا بمجرد الظن، وبعد الاستواء في الحجة في الأحكام يطلب الترجيح بالتحري، فعلى هذا إذا كان المخبر من أحد الجانبين حرين عدلين، ومن الجانب الآخر أربعة، يترجح خبر الأربعة، وكذلك إذا أخبر بأحد الأمرين رجلان، وبالآخر رجل وامرأتان يؤخذ بخبر رجل وامرأتين لما فيه من زيادة العدد، فعلى هذا الأصل يخرج جنس هذه المسائل.
وإذا كان في يدي رجل طعام أو شراب أذن لغيره في أكله أو شربه، فأخبره مسلم ثقة أن هذا غصب في يديه من فلان، والذي في يديه يكذبه، ويقول: إنه ملكي، وصاحب اليد متهم غير ثقة، فأحب إلي أن يتنزه، وإن أكله أو شربه أو توضأ به فلا بأس؛ لأن قول الفاسق بمقابلة قول العدل غير معتبر، فصار وجوده والعدم بمنزلة، ولو عدم قوله كان قول الواحد حجة في حق التنزه دون الحكم، وكذا ههنا.

ولم يذكر محمد رحمه الله في «الأصل» ما إذا كان صاحب اليد ثقة عدلاً، وقد أخبر أنه ملكه لم يغصبه من أحد، وقد اختلف المشايخ فيه، قال الفقيه أبو جعفر الهندواني: لا يتنزه؛ لأن الخبرين تساقطا بحكم التعارض، فبقيت الإباحة الأصلية بخلاف ما إذا كان فاسقاً، وغيره من المشايخ قال: يتنزه وهو الصحيح؛ لأن صاحب اليد بخبره يشهد لنفسه؛ لأن الغصب في حق التنزه ثبت بقول الواحد، فيمتنع الناس عن شرائه تارة فهو كقوله: أي مالك يرغب الناس في الشراء، فكان في معنى الشاهد لنفسه، فلا يعارض خبر ذي اليد خبر المخبر عن الغصب، فبقي الغصب في حق التنزه (78أ2) ثابتاً كما كان.
m
ويقع الفرق على قول هؤلاء المشايخ بين هذه المسألة، وبين مسألة ذكرناها قبل هذا أن جماعة يأكلون الطعام ويشربون الشراب، فدخل عليهم مسلم، فدعوه إلى الأكل، فقال له عدل: إنه ذبيحة مجوسي، وقال واحد عدل من الآكلين: إنه حلال، فإنه يتحرى، فإن لم يقع تحريه على شيء لا بأس بأكله، ولم يذكر التنزه.
والفرق: أن هناك صاحب اليد بقوله: هذا مباح فكله؛ ليس يجر إلى نفسه منفعة، ولا يدفع عن نفسه مضرة، فكان خبر الخارج وخبر ذي اليد في حق السامع على السواء؛ أما ههنا صاحب اليد بخبره يدفع عن نفسه مضرة؛ لأن الغصب في حق التنزه ثبت بخبر العدل الخارج، وذلك يضر بصاحب اليد؛ لأن السامع يتنزه عن شرائه على ما ذكرها.

فعلى هذا إذا أراد أن يشتري لحماً، فقال له خارج عدل: لا تشتره، فإنه ذبيحة مجوسي، وقال القصاب: اشتره فإنه ذبيحة مسلم، والقصاب عدل، فإنه تزول الكراهة بقول القصاب على قول الفقيه أبي جعفر، وعلى قول غيره من المشايخ لا تزول.

(5/291)


نوع آخر في العمل بخبر الواحد في المعاملات

يجب أن يعلم بأن قول الواحد العدل حجة في المعاملات استحساناً، والقياس: أن لا يكون حجة؛ لأن المعاملة من حقوق العباد؛ لأنها شرعت لمصالحهم، وما يكون من حقوق العباد لا يثبت بقول الواحد كإثبات الملك وإزالته وغير ذلك، لكن استحسنا ذلك بالآثار وبنوع من الضرورة.
أما الآثار: فمنها ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكّلَ عروة في شراء الأضحية فجاء عروة، وأخبر بالشراء، فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر، ولم يكلفه إقامة البينة على ما أخبر، وروي أن سلمان الفارسي رضي الله عنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رطباً، فقال عليه السلام: «أصدقة أم هدية» ؟ فقال سلمان: لا بل هدية، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكل أصحابه، فقد صدق رسول الله عليه السلام سلمان فيما قال: هدية، حتى لم يحلفه عليه، وروي أن بريدة كان يتصدق عليها، وكانت تهدي ذلك إلى رسول الله عليه السلام؛ كان يصدقها فيما تقول وكان يقول: «هي لها صدقة ولنا هدية» ، وكان لا يكلفها إقامة البينة.

وأما الضرورة: وهو أن المعاملة لابد للناس منها، ويكثر وقوعها فيما بين الناس، ويتكرر في كل يوم مرة بعد أخرى، فلو أمر المخبر في كل معاملة يباشرها بإقامة البينة لضاق الأمر على الناس، واحتاج كل بائع أن يستصحب مع نفسه شاهدين عدلين أناء الليل والنهار حتى يشهدا أن المبيع ملك البائع، أو أن صاحب العين وكله ببيع هذا العين، وهذا مما لا يمكن أو فيه حرج، وما لا يدخل في إمكاننا، أو فيه حرج فهو موضوع، فلهذه الضرورة صار خبر الواحد حجة في المعاملات، إلا أنه يشترط أن يكون المخبر عدلاً؛ لأنه متى كان فاسقاً يتعارض في خبره دليل الصدق ودليل الكذب، فيقع الشك في زوال ما كان ثابتاً، والثابت لا يزول بالشك، ويجب أن لا ينازع فيما قال؛ لأنه متى نوزع يندفع خبره بخبر المنازع، فيبقى ما كان على ما كان، وإذا ثبت أن خبر الواحد العدل حجة في المعاملات إذا لم ينازع في خبره كالثابت معاينة، ولو ثبت ما أخبره معاينة إن أفاد إباحة المعاملة تثبت الإباحة بخبره، وإن لم تفد إباحة المعاملة؛ لا تثبت الإباحة بإخباره؛ لأن الخبر لا تربو درجته على المعاينة.
إذا عرفنا هذا فنقول: إذا كانت الجارية لرجل، فأخذها رجل آخر، وأراد أن

(5/292)


يبيعها، فإنه يكره لمن عرفها للأول أن يشتريها من هذا ما لم يعلم أنه ملكها من جهة المالك بسبب من الأسباب، أو أذن له ببيعها؛ لأنه اجتمع ما يوجب الإباحة، وما يوجب الحظر عليه بأنها كانت مملوكة الغير، يوجب الحظر قبل إذن المالك، وقبل أن يملكه صاحب اليد من جهة ذلك الغير، وكونها في يد ذي اليد، واليد تدل على الملك من حيث الظاهر يدل على الإباحة، فهو معنى قولنا: إنه اجتمع ما يوجب الحظر وما يوجب الإباحة، فثبتت الكراهة؛ لأن حد المكروه ما يجتمع فيه دليل الحظر والإباحة كما في......

وإن اشترى جاز ويكون مكروهاً؛ وهذا لأنا متى حرمنا الشراء عطلنا ما يدل على الإباحة وهو ظاهر اليد، ومتى حكمنا بالجواز مطلقاً من غير كراهة عطلنا سبب الحظر، وهو علمه بأنها ملك الغير، وملك الغير حرام الشراء قبل الإذن فأثبتنا الكراهة عملاً بالأمرين، وإن علم أن المالك أذن له بالبيع، أو ملكه بوجه من الوجوه، فلا بأس بأن يشتريها منه، ويكون الشراء جائزاً من غير كراهة؛ لأنه زال سبب الحظر، فإن ملك الغير سبب الحظر إلى غاية الإذن، أو التملك من جهة ذلك الغير.
وإن قال الذي في يديه: إني اشتريتها أو وهبها لي أو تصدق علي بها، أو وكلني ببيعها؛ جاز له أن يشتري منه إذا كان عدلاً مسلماً لما ذكرنا أن قول الواحد العدل حجة في الديانات إذا لم ينازع في قوله، والمخبر هنا لم ينازع في خبره، فصار خبره حجة، وصار الثابت بخبره كالثابت معاينة، ولو عاين ما قال أفاد إباحة المعاملة معه؛ فكذا إذا ثبت بخبره، وهو عدل.
ثم إن محمداً رحمه الله شرط في هذه المسألة: أن يكون صاحب اليد مسلماً عدلاً والعدالة شرط، أما الإسلام ليس بشرط، فإن قول الذمي إذا كان عدلاً حجة في المعاملات على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى، والحاكم الشهيد ذكر في «مختصر العدالة» ، ولم يذكر الإسلام، وتبين بما ذكر الحاكم أن ذكر الإسلام من محمد رحمه الله اتفاقي لا أن يكون شرطاً. وإن كان الذي في يديه الجارية فاسقاً لا تثبت إباحة المعاملة معه بنفس الخبر؛ بل يتحرى في ذلك، فإن وقع تحريه على أنه صادق حلَّ له الشراء منه، وإن وقع تحريه على أنه كاذب لا يحل له أن يشتريها منه، وإن لم يكن له رأي يبقى ما كان في الديانات.

وكذلك لو أن هذا الرجل لم يعرف كون هذه الجارية لغير صاحب اليد حتى أخبره الذي في يديه الجارية أن هذه الجارية ملك فلان، وأن فلاناً وكله ببيعها لا يسعه أن يشتري منه ما لم يعلم أن فلاناً ملكه من صاحب اليد، أو أذن له ببيعها؛ لأن إقرار صاحب اليد لغيره بما في يده حجة شرعاً، والثابت بالحجة الشرعية كالثابت عياناً، ولو عاين المريد للشراء (78ب2) كون الجارية لغير صاحب اليد بالعيان، لا يسعه أن

(5/293)


يشتريها منه ما لم يعلم أن ذلك الغير ملكه من صاحب اليد، أو أذن صاحب اليد بالبيع؛ كذا ههنا، وإن لم يعلم هو أن الجارية ملك الغير، ولم يخبر صاحب اليد بذلك؛ لا بأس بأن يشتري من ذي اليد وإن كان ذو اليد فاسقاً.
فرق بين هذا وبينما إذا علم أن ما في يده كان لغيره؛ لا يسعه أن يشتري منه ما لم يعلم أن ذلك الغير ملكها من صاحب اليد، وأذن له ببيعها.

والفرق: أن المريد للشراء إذا علم أن الجارية كانت لغير ذي اليد، فإنما يباح له المعاملة مع ذي اليد إذا ثبت الانتقال إلى ذي اليد وتثبت الوكالة، أو لم يثبت ذلك بقول صاحب اليد إذا كان فاسقاً؛ لأن خبر الفاسق محتمل للصدق والكذب، ولم يثبت ذلك أيضاً بظاهر يده؛ لأن يده محتملة بين أن تكون يد ملك أو يد وكالة، وبين أن تكون يد غصب، فلا تثبت يد ملكه، ولا يد وكالته بالاحتمال، وإذا لم يثبت الانتقال ولا الوكالة لم تثبت إباحة المعاملة.
فأما إذا لم يعلم المريد للشراء كون الجارية ملك الغير لا بالمعاينة، ولا بإقرار ذي اليد يمكن تجويز هذه المعاملة مع ذي اليد بناءاً على أولية الملك لذي اليد في هذا العين بإثبات يده عليه؛ لأن الانتقال إلى ذي اليد، أو الوكالة من جهة الغير إن تعذر إثباته إذا لم يعلم كون الجارية ملكاً للغير؛ أمكن إثبات أولية الملك له؛ لأن الملك يثبت للفاسق من الابتداء في العين بإثبات اليد علىه كما ثبت للعدل، واستوى فيه العدل والفاسق.

قال: إلا أن يكون مثله لا يملك ذلك الشيء في الغالب، وذلك كدرة نفيسة في يد فقير لا يملك قوت يومه؛ يعلم بدلالة الحال أن مثله لا يملك ذلك، وككتاب في يد جاهل لم يكن في آبائه من هو أهل لذلك، فحينئذٍ يستحب له أن يتنزه، ولا يتعرض له بشراء، ولا قبول هدية ولا صدقة؛ لأنه ثبت كون ما في يده لغيره بدلالة الحال، ولو ثبت كون ما في يده لغيره بالعيان، أو بإخبار صاحب اليد يكره الشراء ما لم يثبت الانتقال أو الوكالة، فإذا ثبت ذلك بدلالة الحال إن لم تثبت الكراهية؛ لأن دلالة الحال دون ذلك وجب التنزه.
وإن كان الذي أتاه بذلك امرأة حرة؛ كان الجواب فيها كالجواب في الرجل؛ لأن قول الرجل إنما صار حجة في المعاملات للضرورة، والضرورة متحققة في حق المرأة؛ لأن المرأة تحتاج إلى المعاملة كالرجل، فصار قولها حجة كقول الرجل.
وإن كان الذي أتى به عبداً أو أمة، فليس ينبغي أن يشتري منه شيئاً، وكذلك لا ينبغي أن يقبل منه هبة، ولا صدقة حتى يسأله عن ذلك؛ لأنه علم يقيناً أن ما في يده ملك غيره، فكان بمنزلة ما لو كان المال في يد حر علم أنه كان لغيره، وهناك كان الجواب على نحو ما ذكرنا.
فإن سأله عن ذلك، فأخبر العبد أن مولاه أذن له في بيعه وهبته وصدقته فإن كان العبد ثقة؛ لا بأس بأن يشتري ذلك منه؛ لأن قول العبد في المعاملات إذا كان العبد ثقة كقول المرأة قوله حجة؛ لأن للناس ضرورة في المعاملات مع العبيد، فإن الإذن في

(5/294)


التجارة مشروعة، وكذلك الكتابة مشروعة، فمتى لم يقبل قول العبد على ذلك يحتاج إلى أن يقيم شاهدين على الإذن في التجارة أو على الكتابة وفيه حرج، فصار قول العبد حجة في المعاملات لهذا.

وأما إذا كان فاسقاً، فإنه يتحرى في ذلك؛ لأن العبد في المعاملات كالحر، والحر لو كان فاسقاً، وقد أخبر أن صاحب العين ملك العين منه، أو وكله ببيع العين، فإن المريد للشراء يتحرى، فكذلك ههنا، فإن لم يقع تحريه على شيء بقي ما كان على ما كان (عليه) كما في الحر.
ولو كان الذي أتى به غلاماً صغيراً، أو جارية صغيرة حراً أو مملوكاً، لم يسعه أن يشتري منه قبل السؤال؛ لأن الحجر ثابت بيقين لوجود سببه وهو الصغر، فما لم يعلم بزوال الحجر لا تجوز المعاملة معه، فإن قال: إنه مأذون له في التجارة فإنه يتحرى، وإن كان الصبي عدلاً، وهذا لأن الصبي وإن كان عدلاً فهو ناقص العقل، ونقصان العقل سبب الإقدام على الكذب لقلة المبالاة، فكان الصغير كالفاسق، فإن لم يقع تحريه على شيء يبقى ما كان على ما كان (عليه) قبل التحري.
وكذلك لو أن هذا الصغير أراد أن يهب ما أتى به من رجل، أو يتصدق به عليه، فينبغي لذلك الرجل أن لا يقبل هديته، ولا صدقته حتى يسأل عنه، فإن قال: إنه مأذون له في الهبة والصدقة، فالقابض يتحرى، ويبني الحكم على ما يقع تحريه عليه، وإن لم يقع تحريه على شيء يبقى ما كان على ما كان (عليه) قبل التحري. قال محمد رحمه الله: وإنما يصدق الصغير فيما يخبر بعدما تحرى، ووقع تحريه أنه صادق إذا قال: هذا المال مال أبي أو مال فلان الأجنبي أو مال مولاي، وقد بعث به إليك هبة أو صدقة، فأما إذا قال: هو مالنا، وقد أذن لنا أبونا أن نتصدق به عليك أو نهبه لك؛ لا ينبغي له أن يقبل؛ لأن الثابت بخبره لا يكون أعلى حالاً من الثابت معاينة، ولو عاين السامع أن الأب أذن له أن يهب مال نفسه، أو يتصدق بمال نفسه؛ لا يحل له أن يقبل ذلك منه؛ كذا ههنا.

وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله يقول: الصبي إذا أتى بقالاً بفلوس يشتري منه شيئاً، وأخبره أن أمه أمرته بذلك، فإن طلب الصابون ونحوه فلا بأس بأن يبيعه منه، وإن طلب الزبيب، وما يأكله الصبيان عادة، فينبغي أن لا يبيعه منه؛ لأن الظاهر أنه كاذب فيما يقول، وقد عثر على فلوس أمه، فأراد أن يشتري بها حاجة نفسه؛ قال: وكذلك الفقير إذا أتاه عبد أو أمة بصدقة من مولاه يتحرى لما قلنا.
قال: ولو أن رجلاً قد علم أن جارية لرجل يدعيها، فرآها في يدي رجل يبيعها، وقال للذي في يديه الجارية: قد علمت أنها كانت لفلان يدعيها، فقال الذي في يديه: قد كانت كما ذكرت في يده يدعيها أنها له، إلا أنها كانت لي، وقد كنت أمرته بذلك تلجئة لأمر خفته، وصدقته الجارية في ذلك، فإن كان الرجل مسلماً ثقة، فلا بأس بأن يشتري أمته؛ لأن قول العدل حجة في المعاملات إذا لم ينازعه أحد فيما أخبر، ولا منازع له ههنا من حيث الحقيقة، وهذا ظاهر، وكذلك لم يعرف له منازع بإقراره؛ لأنه أقر بكونه

(5/295)


وديعة عنده لفلان، والمودع لا ينازع المالك فيما كان وديعة عنده.

وإن كان الذي في يديه الجارية فاسقاً يتحرى، (فإن تحرى) ووقع تحريه على أنه كاذب (79أ2) لا ينبغي له أن يشتريها منه، وإن وقع تحريه على أنه صادق، فلا بأس بأن يشتريها منه، وإن لم يقع تحريه على شيء يبقى ما كان على ما كان.
ولو أن صاحب اليد لم يقل هذا القول الذي وصفت لك ولكن قال: إن فلاناً قد كان ظلمني وغصبني الجارية، فأخذتها منه، فلا ينبغي له أن يشتريها منه وإن كان عدلاً؛ لأنه قد ثبت له المنازعة بإقراره؛ لأنه قد أقر أن صاحب اليد غصبها منه، والغاصب منازع للمالك ما لم يرجع عن غصبه بخلاف الفصل الأول؛ لأن ثمة لم يقر بالمنازع؛ لأنه أقر بالوديعة، والمودع لا ينازع المالك في الوديعة؛ لأنه أخذها للحفظ للمالك لا لنفسه.

وإن كان قال: إنه قد ظلمني وغصبني، ثم إنه رجع عن غصبه، وأقر بها لي ودفعها لي، فإن كان ثقة، فلا بأس بأن يشتري منه؛ لأن في هذه الصورة ما أقر بالمنازع، فإنه قال: رجع عن غصبه، وأقر بها لي ودفعها إليَّ، والغاصب بعدما رجع عن الغصب، ودفع المغصوب إلى المغصوب منه لا يبقى منازعاً للمغصوب منه، فلم تثبت المنازع ههنا لا من حيث الحقيقة ولا بإقراره، وقول العدل في المعاملات حجة إذا لم ينازعه فيه أحد، وإن كان الرجل فاسقاً تحرى في ذلك لما قلنا في الفصل الأول.
وإن كان قال: لم يقر بها لي، ولكن خاصمته إلى القاضي، فقامت عليه بينة، فقضى القاضي عليه بذلك، أو استحلفته فنكل، فقضي عليه بهذا، فهذا والأول سواء، وإن كان عدلاً يشتري منه، وإن كان فاسقاً يتحرى؛ لأنه ما أقر بالمنازع ههنا لما قال قضى القاضي بالجارية لي؛ لأن الغاصب لا يبقى منازعاً بعد القضاء ما لم يجحد القضاء، ولم يذكر أنه جحد القضاء.
وكذلك إذا قال: قضى القاضي لي بالجارية، وأمرني فأخذتها من منزله، أو قال: قضى القاضي بالجارية لي، وأخذها منه ودفعها إليَّ، فلا بأس بأن يشتريها منه إذا كان عدلاً؛ لأنه لم يقر بالمنازع، وإن قال: قضى بها القاضي لي فجحد لي قضاءه، فأخذتها منه، فلا ينبغي له أن يشتريها منه وإن كان عدلاً؛ لأنه أقر بالمنازع لما أقر أنه جحد القضاء، فالجاحد يكون منازعاً لا محالة.
قال محمد رحمه الله في «الكتاب» : وهذا بمنزلة ما لو قال الذي في يديه الجارية: اشتريتها من فلان الذي كان يدعيها، ونقدته الثمن، وأخذتها، فإنه حل له الشراء منه إذا كان عدلاً؛ لأنه لا يقر بالمنازع، وإن قال: جحد لي الشراء؛ لا ينبغي أن يشتريها منه وإن كان عدلاً؛ لأنه أقر بالمنازع ههنا.

قال محمد رحمه الله في «الكتاب» أيضاً: وهذا بمنزلة ما لو قال: اشتريتها من فلان، وقبضتها بأمره، ونقدته الثمن، وهو عدل ثقة، فقال له رجل آخر: إن فلاناً جحد هذا الشراء، وزعم أنه لم يبع شيئاً منه، وهذا الثاني عدل ثقة عنده، لا ينبغي له أن يشتريها منه؛ لأنه قد ثبت المنازع بقول الثاني لما كان عدلاً لا فرق بين مسألة

(5/296)


الاستشهاد، وبينما إذا أخبره واحد بنجاسة الماء، وأخبره واحد بطهارة الماء، وهما عدلان، فإن هناك يتحرى وتثبت المعارضة بين الخبرين حتى أمر بالتحري.
وكذلك إذا أخبر أحدهما أن هذا اللحم ذبيحة مجوسي، وأخبر الآخر أنه ذبيحة المسلم، وهما عدلان، فإنه يتحرى وتثبت المعارضة بين الخبرين، وفي مسألة الاستشهاد، وما أثبت المعارضة بين الخبرين؛ بل قال: يأخذ بقول الثاني.
والفرق: وهو أن التحري إنما يجب حال مساواة الخبرين، وفي مسألة الاستشهاد لا مساواة؛ لأن الخارج فيما أخبر اعتمد دليلاً حادثاً يعرف من حيث الحقيقة والعيان، وهو جحود البائع، وذو اليد فيما أخبر من الشراء، وإقرار البائع بذلك لم يعتمد دليلاً جارياً على عدم الجحود، وإنما اعتمد استصحاب الحال، وهو إقراره بالشراء، وإقراره بالشراء لا يوجب عدم الجحود؛ بل عدم الجحود يكون ثابتاً باستصحاب الحال؛ لأن الأصل هو العدم، وقد ذكرنا أنه لا مساواة بين خبرين أحدهما ثابت بالدليل الحادث، والآخر ثابت بناءً على استصحاب الحال كما في الجرح مع التعديل، فأما في طهارة الماء ونجاسته تتحقق المساواة بين الخبرين؛ لأنه يمكن بناء كل واحد منهما على دليل يوجب العلم بما أخبر خبر النجاسة على معاينة وقوع النجاسة، وخبر الطهارة على معاينة اغتراف الماء من نهر عظيم يكون طاهراً واستصحاب الماء مع نفسه إلى وقت الخبر، وكذلك المخبر عن ذبيحة المسلم، وعن ذبيحة المجوسي؛ لأن كل واحد من الذبيحتين مما يشاهد ويعاين، فيكون كل واحد من الخبرين بناءً على دليل يوجب ما قال لا بناءً على عدم الدليل فاستويا، وعند استواء الخبرين يجب التحري، وإن كان المخبر عن الجحود فاسقاً قال: يتحرى في خبره.
فرق بين هذا وبينما إذا أخبره رجل بطهارة الماء، وأخبر آخر بنجاسة الماء وأحدهما فاسق، فإنه يأخذ بقول العدل، وههنا لم يقل: إنه يأخذ بقول العدل؛ بل قال يتحرى.
وجه الفرق: أن في مسألتنا الخبرين قد استويا، فإن كان المخبر عن الجحود فاسقاً، وصاحب اليد عدلاً؛ لأن خبر كل واحد منهما حجة من وجه دون وجه، أما خبر صاحب اليد فلأنه اعتمد استصحاب الحال، واستصحاب الحال حجة من وجه دون وجه، فإنه حجة في الدفع لا في إثبات الاستحقاق.

وخبر الفاسق حجة من وجه دون وجه أيضاً، لاحتمال الصدق والكذب في خبره احتمالاً على السواء، ولما استويا وجب التحري، فأما في نجاسة الماء وطهارته، فخبر الفاسق لا يساوي خبر العدل؛ لأن خبرهما وإن استويا من حيث إن كل واحد منهما حصل من دليل حادث؛ إلا أن لخبر العدل رجحاناً من وجه آخر من حيث إنه حجة من كل وجه لرجحان الصدق في خبره، وخبر الفاسق حجة من وجه دون وجه لاحتمال الصدق والكذب في خبره احتمالاً على السواء، وإن كانا جميعاً فاسقين، فإن صدق القائل الثاني بقوله وعلى ذلك أكثر رأيه لم يقبل من ذلك شيئاً، فقد أمر بالتحري متى كانا

(5/297)


فاسقين، ويجب أن لا يتحرى؛ لأن (خبر) صاحب اليد لا يساوي خبر الخارج إذا كانا فاسقين؛ لأنهما في الفسق على السواء، والخارج يخبر عن دليل حادث، وذو اليد يخبر عن عدم الدليل، فيترجح خبر الخارج؛ كما لو كانا عدلين، والجواب قد ترجح خبر الخارج على خبر ذي اليد بالطريق الذي (79ب2) قلتم، فلا جرم يسقط اعتبار خبر ذي اليد بمقابلة خبر الخارج، ويلتحق بالعدم، إلا أن الخارج فاسق، وقد أخبر بما يوجب كراهة الشراء فيجب التحري، كما لو أخبر فاسق بنجاسة الماء.
وإذا كانت الجارية في يدي رجل يدعي أنه اشتراها من فلان وهو ثقة مسلم، وسع للذي يسمع مقالته أن يشتريها؛ وهذا لأن الإقرار بالشراء إقرار بالملك للبائع دلالة، ولو أقر بالملك للبائع صريحاً، ثم ادعى الانتقال إلى نفسه جاز الشراء منه إذا كان ثقة، وإن كان فاسقاً يتحرى، فههنا كذلك.
وكذلك إذا لم تكن الجارية في يده؛ ولكنها كانت في منزل مولاها، فقال: إن فلاناً أمرني ببيعها، ودفعها إلى من اشتراها وهو ثقة، فلا بأس بشرائها منه، والقبض من منزل مولاها من الذي باعها (بأمر مولاها) أو بغير أمره؛ لأن هذا عدل أخبر بما هو من جملة المعاملات، ولم ينازعه في ذلك أحد، فيقبل قوله.
وإن كان هذا الذي (في يديه الجارية) فاسقاً يجب التحري، فإن تحرى ووقع في قلبه أنه صادق، فاشتراها وقبضها، ثم وقع تحريه على أنه كاذب فيما قال، فإنه يعتزل عن وطئها حتى يسأل مولاها، أو يخبره بذلك عدل؛ وهذا لأنه إنما اشتراها بغالب الرأي، والعامل بغالب الرأي إذا تحول رأيه إلى شيء آخر يلزمه العمل برأيه الثاني في المستقبل لا في الماضي، فلهذا قال: يعتزل عن وطئها.
ثم قال محمد رحمه الله: وهكذا أمر الناس ما لم يجىء التجاحد والتشاجر من الذي كان يملك، فأما إذا جاءت المشاجرة والإنكار من المالك لا يبقى خبر المخبر حجة؛ سواء كان المالك فاسقاً أو عدلاً؛ وهذا لأن قول الواحد إنما جعل حجة في إباحة المعاملات مع الناس للضرورة بخلاف القياس، ففيما وراء إباحة المعاملة من إبطال ملك الغير بغير رضاه؛ لا ضرورة فيه لإباحة المعاملات؛ لأن كل موكل لا ينكر الوكالة، وإذا لم يبق قوله حجة حال منازعة الملك لم يثبت الانتقال إليه ولا الوكالة، فكان بائعاً مال الغير بغير إذنه، فكان للمالك أن يأخذها من المشتري، ويضمن المشتري لمولى الجارية عقر الجارية إن كان قد وطىء الجارية؛ لأنه وطىء ملك الغير، وقد سقط الحد لمكان الشبهة، فيجب العقر.

ولو شهد شاهدان عدلان عند البيع أن مولاها قد أمر البائع ببيعها، فاشتراها بقولهما، ونقد الثمن وقبضهما، وحضر مولاها، فأنكر الوكالة؛ كان المشتري في سعة من إمساكها؛ لأنهما لو شهدا بذلك عند القاضي؛ أطلق القاضي للمشتري إمساكها، فكذا إذا شهدا به عند المشتري يحل للمشتري إمساكها بخلاف ما لو كان المخبر واحداً؛ لأن الواحد لو شهد بذلك عند القاضي والمالك منكر، فالقاضي لا يطلق للمشتري الإمساك،

(5/298)


فكذا إذا شهد الواحد بذلك عند المشتري لايسع المشتري إمساكه إذا أنكر المالك الوكالة.

قال: إلا أن يكون خاصمه عند القاضي، وقضى القاضي بالملك للمالك، فإن استحلف المالك على الوكالة فحلف، فإنه لا يسعه إمساكها ما لم يجدد الشاهدان الشهادة على الوكالة بين يدي القاضي حتى يقضي القاضي بالوكالة، وإنما لا يسع للمشتري إمساكها قبل تجديد الشاهدين الشهادة لما أشار محمد رحمه الله في «الكتاب» : أن القضاء أنفذ من الشهادة.
ومعنى هذا الكلام: أنه يجمع ما يبيح الإمساك وهو الشهادة، وما يحرم الإمساك وهو قضاء القاضي بالملك للمالك، والرجحان لدليل الحظر وهو القضاء؛ لأن القضاء صدر عن حجة، وهو إقرار المشتري بالملك للموكل، والوكالة بالبيع لم تثبت عند المشتري بما هو حجة؛ لأن الشهادة لا تكون حجة ما لم يتصل بها القضاء، فكان العمل بالقضاء أولى من العمل بالشهادة، فإذا جدد الشاهدان الشهادة على الوكالة عند القاضي؛ وقضى القاضي بالوكالة فحينئذٍ يحل للمشتري إمساكها؛ لأن الوكالة ثبتت بما هو حجة، فصار كالثابت معاينة.

نوع آخر في العمل بخبر الواحد بارتداد أحد الزوجين وبالرضاع والطلاق والموت وفساد النكاح
قال محمد رحمه الله: ولو أن رجلاً تزوج امرأة، فلم يدخل بها حتى غاب عنها، فأخبره مخبر أنها قد ارتدت عن الإسلام * والعياذ بالله، فإن كان المخبر بذلك عدلاً وسعه أن يصدقه، وأن يتزوج بأختها، أو أربع سواها، وإن كان فاسقاً تحرى في ذلك؛ هكذا ذكر المسألة في كتاب الاستحسان.
وذكر في «السير الكبير» : أنه لا يسعه أن يتزوج بأختها أو أربع سواها ما لم يشهد عنده رجلان، أو رجل وامرأتان. وجه ما ذكر في «السير» : أن قول الواحد العدل في إباحة المعاملات إنما يكون حجة إذا لم ينازع في خبره، وقد أقر بالمنازع حين أخبر عن ردتها؛ لأن الظاهر أن المرأة لا ترتد؛ لأنها قد أقرت ببطلانها حين أقرت بالإسلام، فكان الظاهر منها إنكار الردة، والأحكام مبنية على الظاهر، فكان بمنزلة ما لو كانت حاضرة، وأنكرت الردة حقيقة.
وجه ما ذكر في الاستحسان: أنه لا منازع لهذا المخبر فيما أخبر من حيث الحقيقة وهذا ظاهر، ولم يثبت المنازع بإقراره؛ لأن إنكارها الردة وإن كان ثابتاً من حيث الظاهر إلا أن المخبر رجع عن هذا الإنكار، وأقر بردتها، فهو بمنزلة ما لو قال ذو اليد: هذا الشيء ملكي لكن قد كان غصبه فلان، ثم رجع عن ظلمه ودفعها إليَّ، وهناك يصدق ذو اليد في إخباره كذا ههنا.

(5/299)


ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في شرح كتاب «الاستحسان» اختلاف الروايتين في ردة المرأة، ولم يذكر ردة الرجل، ذكر شمس الأئمة السرخسي في شرح كتاب الاستحسان اختلاف الروايتين في ردة الرجل، وذكر أن ردة الرجل لا تثبت عند المرأة إلا بشهادة رجلين، أو شهادة رجل وامرأتين على رواية «السير» ، وردة المرأة تثبت عند الزوج بخبر الواحد باتفاق الروايات.
قال شمس الأئمة الحلواني: والصحيح في المسألتين روايتان؛ على رواية «السير» : لا تثبت ردة المرأة عند الزوج، ولاردة الزوج عند المرأة إلا بشهادة رجلين، أو شهادة رجل وامرأتين، ثم فرق على رواية كتاب الاستحسان بين هذا وبينما إذا قال للزوج: تزوجتها يوم تزوجتها وهي مرتدة، فإنه لا يسعه أن يأخذ بقوله وإن كان عدلاً، ومتى أخبر عن ردتها بعد النكاح وسعه أن يصدقه فيما قال، ويتزوج بأختها، أو أربع سواها إذا كان عدلاً (80أ2) .
والفرق: وهو أنه متى أقر بردة مقارنة للنكاح، فقد أقر بالمنازع فيما أخبر؛ لأن إقدامها على النكاح إنكار منها لا يمنع صحة النكاح دلالة، والردة تمنع صحة النكاح، وإذا ثبت إنكارها صار مقراً بالمنازع، فلا يبقى خبره حجة بخلاف ما لو أخبر عن ردةٍ جاريةٍ بعد صحة النكاح؛ لأنه لم يقر بالمنازع؛ لأن إقدام المرأة على النكاح لا يكون إنكاراً لما يقطع النكاح في المستقبل، فلم يجعل مقراً بالمنازع، ولا كذلك الإقرار بردة مقارنة.

وكذلك لو أن رجلاً تزوج جارية رضيعة ثم غاب عنها، فأتاه رجل فأخبره أن أمه أو ابنته أو أخته أرضعت امرأته الصغيرة، فإن كان المخبر عدلاً وسعه أن يصدقه، ويتزوج بأختها أو أربع سواها، وإن كان فاسقاً يتحرى في ذلك لما ذكرنا. قال شيخ الإسلام: فعلى رواية «السير» يحتاج إلى الفرق بين الرضاع وبين الردة.
وإن لم يقل هكذا ولكنه قال: كنت تزوجتها وهي أختك من الرضاعة، فإنه لا يسعه أن يتزوج أختها ولا أربعاً سواها، وإن كان المخبر عدلاً؛ لأنه أقر بالمنازع؛ لأن إقدامها على النكاح إنكار منها للرضاع، فقد ثبت المنازع بإقراره، فيعتبر بما لو كان ثابتاً حقيقة بأن كانت المرأة حاضرة، وأنكرت الرضاع؛ بخلاف ما إذا أخبر برضاع طارىء؛ لأن هناك لم يثبت المنازع بإقراره على نحو ما بينا في فصل الردة، أو نقول: أخبر بفساد العقد الذي باشره غيره، وقول الواحد في باب المعاملات إذا كان فيه فساد عقد باشره الغير لا يعقل؛ لأن ذلك الغير ينازعه في فساد العقد؛ لأن الجواز أصل في العقود.
وإذا غاب الرجل عن امرأة، فأتاها مسلم عدل، وأخبرها أن زوجها طلقها ثلاثاً أو مات عنها، فلها أن تعتد وتتزوج بزوج آخر؛ لأنه أخبر عن إباحة معاملة، ولم يقر بالمنازع، فثبتت الإباحة. وإن كان المخبر فاسقاً تتحرى.

وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا شهد شاهدان عند المرأة بالطلاق، فإن كان الزوج غائباً وسعها أن تعتد وتتزوج بزوج آخر، وإن كان حاضراً ليس لها ذلك، ولكن ليس لها

(5/300)


أن تمكن زوجها (من نفسها) ؛ وهذا لأن المشهود قبل القضاء ثابت من وجه دون وجه، فمن حيث إنه ثابت لا تقيم مع الزوج، ومن حيث إنه ليس بثابت لا يسعها التزوج بزوج آخر، أكثر ما فيه أنها تبقى معلقة مظلومة، ولكن يمكنها دفع الظلم عن نفسها إذا كان الزوج حاضراً بأن تأمر الشاهدين حتى يشهدا عند القاضي، فيقضي القاضي بالفرقة بينهما؛ بخلاف ما إذا كان الزوج غائباً؛ لأن هناك لا يمكنها دفع الظلم عن نفسها بالمرافعة إلى القاضي، فتعين القول بحل تزوج آخر.
وكذلك إن سمعته أنه طلقها، وجحد الزوج ذلك وحلف، فردها القاضي لم يسعها المقام معه، وينبغي لها أن تفتدي بمالها أو تهرب منه، وإن لم تقدر على ذلك قتلته، وقد ذكرنا هذا الفصل، وما فيه من اختلاف المشايخ في آخر كتاب النكاح.
قال في كتاب «الاستحسان» : وإذا هربت منه لم يسعها أن تعتد، وتتزوج بزوج آخر؛ قال شمس الأئمة السرخسي: ما ذكر أنها إذا هربت ليس لها أن تعتد، وتتزوج بزوج آخر جواب القضاء، أما فيما بينها وبين ربها فلها أن تتزوج بعدما اعتدت، ثم إذا أخبرها عدل مسلم أنه مات زوجها إنما تعتمد على خبره إذا قال: عاينه ميتاً، وقال: شهدت جنازته، أما إذا قال: أخبرني مخبر؛ لا يعتمد على خبره.

وإن أخبر واحد بموته، ورجلان آخران أخبرا بحياته، فإن كان الذي أخبرها بموته قال: عاينته ميتاً، أو شهدت جنازته حل لها أن تتزوج، وإن كان اللذان أخبراها بحياته........ لاحقاً فقولهما أولى.
في «فتاوى الفضلي» : ولو شهد اثنان بموته أو قتله، وشهد آخران أنه حي، فشهادة الموت أولى، وجنس هذا في آخر باب الشهادة من «وصايا عصام» .

ولو أن امرأة قالت لرجل: إن زوجي طلقني ثلاثاً، وانقضت عدتي، فإن كانت عدلة وسعه أن يتزوجها، وإن كانت فاسقة تحرى، وعمل ما وقع تحريه عليه. ولو أخبرت أن أصل نكاحها كان فاسداً، أو أن زوجها أخوها من الرضاعة، فإنه لا يسعه أن يتزوجها، وإن كانت عدلة.
قال محمد رحمه الله: وإنما هذه بمنزلة رجل في يديه جارية يدعي رقبتها، وهي تقر له بالملك، فوجدها في يدي رجلٍ، رجلٌ قد علم بحالها، فأراد شراءها، فسأله عنها، فقال: الجارية جاريتي، وقد كان الذي كانت في يديه كاذباً فيما ادعى من ملكها؛ لا ينبغي لهذا الرجل أن يشتريها منه وإن كان عدلاً؛ لأن هذا الرجل عرف للمخبر منازعاً فيما أخبر؛ لأنه سمع من الذي كانت في يديه أنه كان يدعيها لنفسه، فيكون منكراً الملك للثاني، فقد ثبت له المنازع فيما أخبر عند المريد للشراء، فلا ينبغي له أن يشتريها، ولو قال: كنت اشتريتها منه، وسعه أن يشتريها منه؛ لأن دعواه ملك الجارية لا يكون إنكاراً لما يقطع ملكه في المستقبل، فلم يثبت له المنازع فيما أخبر.

(5/301)


وكذلك جارية في يدي رجل تدعي أنها جاريته، وهي صغيرة لا تعبر عن نفسها بجحود ولا إقرار فكبرت، فلقيها رجل.. في بلد آخر، فأراد أن يتزوجها، فقالت له: أنا حرة الأصل، ولم أكن أمة للذي كنت في يديه؛ لا يسعه أن يتزوجها؛ لأنه ثبت المنازع عند المريد للتزوج، فإنه سمع الذي كانت في يديه يدعي ملك رقبتها لنفسه، ولو قالت: كنت أمة للذي كنت في يديه فأعتقني، وسعه أن يتزوجها إن كانت عدلة.
ولو أن حرة تزوجت رجلاً، ثم أتت غيره وقالت: إن نكاحها الأول كان فاسداً لما أن الزوج كان على غير الإسلام لا ينبغي لهذا الرجل أن يصدقها وأن يتزوجها. ولو قالت: إنه طلقني بعد ذلك، أو قالت: ارتد عن الإسلام، فبنت منه؛ وسعه أن يصدقها وأن يتزوجها إذا كانت عدلة. قال: وكذلك لو أقرت بعد النكاح أنه كان مرتداً؛ وسع السامع أن يتزوجها إذا كانت عدلة.

اعلم بأنه اختلفت الروايات في هذا الفصل؛ ذكر في بعض الروايات لو أقر بعد النكاح أنه كان مرتداً وقت النكاح يعني أقر الزوج بعد النكاح أنه كان مرتداً وقت النكاح، وهكذا (80ب2) أثبت الحاكم الشهيد في «المختصر» ، وإن كان هذا من الزوج إقراراً بردة مقارنة للنكاح، والزوج غير مصدق في ذلك؛ إلا أن الزوج يملك قطع النكاح في المستقبل، والردة قاطعة للنكاح، فجعل هذا إقراراً منه بما يقطع النكاح؛ إلا أن يجعل إقراراً بما يقطع النكاح بعد الصحة؛ كأنه طلقها، ولهذا يجب للمرأة نصف المهر، فإذا جعل هذا إقراراً بالطلاق صار كأن الزوج قال: طلقتها بعدما تزوجها، وهناك يسع السامع أن يتزوجها كذا ههنا.
وقد وقع في بعض الروايات لو أقرت بعد النكاح، يعني أقرت المرأة بعد النكاح أن الزوج كان مرتداً، وتأويل هذه الرواية أن المرأة أقرت أن الزوج أقر أنه كان مرتداً يوم تزوجها؛ لأن الثابت من إقرار الزوج بإقرارها؛ كالثابت عياناً، ولو عاينّا إقرار الزوج أنه كان مرتداً وقت النكاح؛ يسع السامع أن يتزوجها.
والدليل على أن المراد هذا، فإن محمداً رحمه الله ذكر قبل هذه المسألة إقرار المرأة بكون الزوج مرتداً وقت النكاح، وذكر ثمة أنه لا يسع السامع أن يتزوجها، فهذا يبين لك أن المراد من هذه المسألة ما قلنا.
ثم فرق بينما إذا أقر الزوج أنه كان مرتداً وقت النكاح، وبينما إذا أخبر أجنبي أن الزوج كان مرتداً وقت النكاح، فقال في فصل الأجنبي: لا يسع السامع أن يتزوجها، وفي الزوج قال: يسع السامع أن يتزوجها.
والفرق: أن الزوج إن كان لا يملك الإقرار بفسخ النكاح من الأصل يملك الإقرار بحرمة طارئة بعد النكاح، فيجعل إقراراً منه بحرمة طارئة، وغير الزوج لا يملك الإقرار بحرمة طارئة، فلا يمكننا أن نجعل هذا من غير الزوج إقراراً بحرمة طارئة، فيجعل إقراراً بفسخ النكاح من الأصل، وإنه غير مصدق في ذلك؛ لأنه إقرار بالمنازع.

(5/302)


وفي «الجامع الصغير» : جارية لرجل قالت لرجل آخر: بعثني إليك مولاي هدية وسعه أن يأخذها بناءً على ما قلنا: إن إقرار الواحد العدل في باب المعاملات حجة؛ حراً كان أو عبداً.

الفصل الثاني في العمل بغالب الرأي
يجب أن تعلم بأن العمل بغالب الرأي جائز في باب الديانات وفي باب المعاملات، وقد ذكرنا ذلك في الفصل المتقدم، وكذلك العمل بغالب الرأي في الدماء جائز، حتى إن من دخل على رجل منزله شاهراً سيفه، ولا يدري صاحب المنزل ما حاله أهارب هو من اللصوص والتجأ إلى داره، أو لص دخل عليه ليأخذ ماله، ويقتله إن منعه، فإنه يتحرى في ذلك؛ لأنه استوى دليل الحظر، ودليل الإباحة؛ لأن الدخول قد يكون للالتجاء، وإنه يحرم التعرض له، وقد يكون لأخذ المال وقتل صاحب البيت إن منعه، وإنه يفيد إباحة التعرض له، فلابد من ترجيح أحد الدليلين على الآخر، وذلك بالتحري، فتحرى في ذلك، وعمل بتحريه، فإن وقع تحريه؛ أنه دخل منزله للالتجاء لا يقتل، وإن وقع تحريه أنه لص دخل منزله ليأخذ ماله ويقتله وخاف أنه إن زجره، أو صاح به أن يبادر فيقتله، فلا بأس بقتله.
وقالوا فيمن استقبل المسلمين جماعة في دار الحرب، فأشكل على المسلمين حالهم أنهم عدو أو مسلمون، فإنهم يتحرون؛ لأنه استوى دليل الحظر والإباحة؛ لأنه قد يكون في دار الحرب أهل الإسلام دخلوا فيها للتجارة، وقد يكون فيها أهل الحرب، فيتحرى.

وقد روى الفقيه أبو جعفر الهندواني، والحسن بن زياد عن أبي حنيفة رضي الله عنه فيمن رأى رجلاً في داره شاهراً سيفه، فوقع في غالب رأيه أنه يريد ماله، فإنه يحل له قتله من غير أن يصيح، وإن كان يعلم أنه لا يريد نفسه، فهذه الرواية إشارة إلى أنه متى وقع تحريه على أنه قصد الشر إنه يباح قتله، ولا يلزمه التحري مرة أخرى ليعلم أنه هل يزجر بدون القتل أو لا يزجر، وأشار محمد رحمه الله في كتاب الاستحسان إلى أن بعدما وقع في غالب رأيه أنه دخل للشر؛ أنه يتحرى ثانياً ليعلم أنه يزجر بدون القتل، أو لا يزجر؛ لأنه قال: وخاف إن زجره أو صاح به أن يبادر فيقتله حل له أن يقتله، فإنما أباح له القتل بشرط أن يعلم أنه يبادر بقتله متى صاح به وزجره.
وجه ما روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه: أن قصد الشر قد تحقق منه، فمتى أمرناه بالتحري مرة أخرى ربما لا يمكنه دفع ما قصد من الشر، فيباح قتله.
وجه ما ذكره محمد رحمه الله: أن الشر واجب الدفع، فإذا أمكنه الدفع بما دون القتل لا يميل إلى القتل، ولكن بعدما ثبت الشر؛ الحالة محتملة بين أن يدفع الشر بقتل أو بما دونه فيتحرى.

(5/303)


وسئل الفقيه أبو جعفر: عن رجل وجد رجلاً مع امرأته أيحل له قتله؟ قال: إن كان يعلم أنه يزجر عن الزنا بالصياح أو بالصرف بما دون السلاح، فإنه لا يقتله، ولا يقاتل معه بالسلاح، وإن علم أنه لا يزجر إلا بالقتل والمقاتلة معه بالسلاح؛ حل له القتل، فكأنه إنما أخذ هذا من قول محمد رحمه الله، فإن محمداً رحمه الله أمره بالتحري مرة أخرى بعدما تحقق الشر بالتحري ليعلم أنه هل يزجر بما دون القتل، أو لا ينزجر، وقد مر بعض هذه المسائل في كتاب السرقة.

الفصل الثالث في الرجل رأى رجلاً يقتل أباه، وما يتصل به
قال محمد رحمه الله في كتاب الاستحسان: وإذا رأى الرجل رجلاً يقتل أباه متعمداً، ثم أنكر القاتل أن يكون قتله، أو قال للابن في السر: إني قتلت أباك؛ لأنه قتل فلاناً عمداً، أو قال له: إن أباك ارتد عن الإسلام، فاستحللت قتله لذلك، ولم يعلم الابن شيئاً مما قال، كان الابن في سعة من قتله؛ لأن الوارث عاين السبب المبيح لقتله، وهو قتل الأب عمداً؛ إلا أن القاتل ينكر أو يدعي ما يسقطه، فلا يثبت ما ادعى من السقوط إلا بالبينة، وكان بمنزلة ما لو قال لغيره: أخذت مالك بإذنك، أكلت طعامك بإذنك، فإن دعوى الإذن لا تثبت بالبينة، وكذلك من عاين هذا القتل كان له أن يعين الابن على استيفاء القصاص؛ لأنه علم بوجوب هذا الحق للابن متى عاين قتل وليه، وكان عليه أن يعينه على استيفاء حقه كما في سائر الحقوق، (81أ2) وكذلك إذا لم يعاين الابن القتل، ولكن أقر القاتل بين يديه بالقتل، ثم ادعى ما يسقط القتل؛ لأن الثابت بالإقرار كالثابت معاينة؛ لأن البيّنة منعه عن الإقرار؛ لأن الإنسان لا يقر على نفسه كاذباً بالقتل، فصار الثابت بالإقرار كالثابت معاينة من هذا الوجه، ولو عاين الابن القتل وسعه قتل القاتل؛ كذا ههنا.
فرق بين الإقرار وبين الشهادة، فإنه لو شهد عنده عدلان أن فلاناً قتل أباك عمداً، والابن عرفهما بالعدالة، لا يسع الابن قتله ما لم يشهدا بذلك عند القاضي، ويقضي القاضي بشهادتهما، وفي الإقرار بالقتل قال: وسعه أن يقتله.

والفرق بينهما: أن الشهادة إنما عرفت حجة بخلاف القياس؛ لأنها إقرار على الغير، والإنسان فيما يقر على غيره قد يكذب، فيجب أن لا يكون حجة كالإقرار؛ إلا أنا جعلناها حجة شرعاً؛ بخلاف القياس عند اتصال القضاء بها، فقبل اتصال القضاء لا تكون حجة أصلاً، فلا يثبت المشهود به قبل القضاء من كل وجه، وإنما يثبت من وجه دون وجه، وبدونه لا يحل الاستيفاء، فأما الإقرار فإنما صار حجة موافقاً للقياس؛ لانتفاء تهمة الكذب عنه؛ لأن الإنسان لا يقر على نفسه كاذباً خصوصاً بالقتل، فإذا انتفت التهمة عن الإقرار التحق الإقرار بالمعاينة.

(5/304)


وفرق بين القتل وبين الطلاق في فصل الشهادة، فإنه إذا شهد شاهدان عند المرأة أن زوجها طلقها ثلاثاً؛ حل لها أن تعتد، وتتزوج بزوج آخر، فقد ألحق الشهادة قبل اتصال القضاء بها بالمعاينة، والإقرار في باب الطلاق، وما ألحقها بالمعاينة، والإقرار في باب القتل والمال، وإنما فعل كذلك؛ لأن في باب القتل دفع الشك في وجوب القصاص من وجهين:

أحدهما: من حيث تهمة الكذب وإن كان الشاهد عدلاً؛ لأنه غير معصوم عن الكذب، وباعتبار الكذب لا يكون المشهود به ثابتاً أصلاً.
والثاني: من حيث إن القتل قد يكون بحق فلا يوجب القصاص، وقد يكون بغير حق، فيوجب القصاص، فلابد من قضاء القاضي حتى تنتفي تهمة الكذب وشبهة الحقية عن القتل به شرعاً.
وكذلك بباب المال يمكن الشك في وجوب الضمان على المشهود عليه من وجهين من حيث تهمة الكذب، ومن حيث إن أخذ مال الغير وإتلافه قد لا يوجب الضمان بأن يكون ذلك بحق، وفي الإقرار الشبهة تمكنت من وجه واحد من حيث إن القتل قد يكون حقاً، وقد يكون غير حق، وإتلاف المال كذلك، أما ما تمكنت فيه الشبهة من حيث الكذب؛ لأن الإنسان لا يقر على نفسه كاذباً، وإذا كان تمكن الشبهة في الإقرار في هذين الفصلين من وجه واحد، وفي الشهادة من وجهين لا يمكن إلحاق الشهادة بالإقرار، وأما في فصل الطلاق تمكنت التهمة في ثبوت الحرمة من وجه، وهو تهمة الكذب، أما ما تمكنت الشبهة من حيث إن الطلاق بعد وقوعه قد يوجب الحرمة وقد لا يوجب، فإن الطلقات الثلاث توجب الحرمة على كل حال، فيمكن إلحاق الشهادة بالإقرار في فصل الطلاق وألحقاها به.
وإن عاين الابن رجلاً قتل أباه عمداً، أو كان الرجل مقراً بذلك سراً عند الابن، ثم شهد عند الابن شاهدان أن أباه قد كان قتل أب هذا الرجل القاتل عمداً، فقتله به، فإنه لا ينبغي للابن أن يقتله.
الأصل في هذا أن كل شهادة لو قامت عند القاضي بعدما ثبت القصاص عند القاضي؛ يقضي القاضي بسقوط القصاص، فإذا قامت عند القاضي، وقضى القاضي بها ثبتت حقيقة السقوط، فإذا لم يتصل بها القضاء، وقد تمت الحجة ثبتت شبهة السقوط إن لم تثبت حقيقة السقوط وإنها مانعة من الاستيفاء، وكل شهادة لو قامت عند القاضي بعدما ثبت القصاص عنده وسع القاضي أن يطلق ولي القصاص في الاستيفاء، وإن تأنى ولبث كان أفضل، فكذا إذا قامت عند الوارث كان الوارث في سعة من الاستيفاء، وإن تأنى ولبث فهو أفضل؛ لأن القتل مما لا يمكن تداركه وتلافيه متى وقع فيه الخطأ، فقد أثبت المشهود به شهادة شاهدين من وجه حتى قال: لا ينبغي للوارث أن يقتله.

وقد قال في كتاب الحدود: إذا شهد أربعة على رجل بالزنا، وهو محصن، والشهود عدول، فقتله رجل قبل القضاء عليه بالرجم كان على القاتل القصاص، ولم يثبت

(5/305)


المشهود به قبل القضاء بوجه ما، وإنما كان كذلك؛ لأن المشهود به في باب الزنا الحد، والحد مما يدرأ بالشبهات، فلا يمكن إيجابها بوجه دون وجه مع الشبهات، والمشهود به ههنا سقوط القصاص، وإنه مما يثبت مع الشبهات، فإنه يثبت بشهادة رجل وامرأتين، فأمكننا الإثبات من وجه دون وجه.I

وكل جواب عرفته في القتل، فهو الجواب في المال في كل موضع يسع الابن استيفاء القصاص إذا عاين الابن القتل، أو أقر القاتل بين يديه، فكذا إذا عاين أخذ المال، أو أقر بين يديه بأخذ المال كان له استيفاء المال.
وفي كل موضع لا يكون للابن استيفاء القصاص بأن شهد عنده عدلان بالقتل، فكذا إذا شهد عنده عدلان بأخذ المال لا يكون له ولاية استيفاء المال، وكل من عاين مع الابن ذلك وسعه إعانة الابن إذا امتنع منه، وإن أبى ذلك على نفسه إذا كان في موضع لا يقدر فيه على السلطان يأخذ بحقه؛ لأنه يمنع ماله بغير حق، فيعتبر بما لو أراد أخذ ماله في الابتداء بغير حق، وهناك كان لصاحب الحق، فإن عاين ذلك المقاتلة معه كذا ههنا.

الفصل الرابع في الصلاة، والتسبيح، وقراءة القرآن، والذكر، والدعاء ورفع الصوت عند قراءة القرآن والذكر والدعاء
الزيادة على الثمان في صلاة الليل بتسليمة مكروهه، والزيادة على الأربع في صلاة النهار بتسليمة مكروهه؛ لأن السنة في صلاة الليل وردت إلى الثمان، وفي صلاة النهار (81ب2) إلى الأربع، وما وردت بالزيادة، فيكره الزيادة لعدم ورود السنة.

السنة في ركعتي الفجر: أن يأتي بها الرجل في بيته، فإن لم يفعل فعند باب المسجد إذا كان الإمام يصلي في المسجد، وإن لم يمكنه ففي المسجد الداخل إذا كان الإمام في المسجد الخارج، وفي مسجد الخارج إذا كان الإمام في المسجد الداخل، وإن كان المسجد واحداً فخلف أسطوانة أو نحو ذلك، ويكره أن يصلي خلف الصفوف بلا حائل، وأشدها كراهة أن يصلي في الصف مخالطاً للقوم.
وأما السنن التي بعد الفرائض، فلا بأس بالإتيان بها في المسجد، والمكان الذي يصلي الفريضة، والأفضل أن يمشي خطوة أو خطوتين، والإمام يتأخر عن المكان الذي صلى الفريضة فيه لا محالة.
وفي «الجامع الأصغر» : إذا صلى الرجل المغرب في المسجد إن كان يخاف أنه لو رجع إلى بيته يشتغل بشيء (فالأفضل أن يصلي في المسجد) ، وإن كان لا يخاف، فالأفضل أن يصلي في بيته لقوله عليه السلام: «خير صلاة الرجل في المنزل إلا المكتوبة» وفي

(5/306)


«شرح الآثار» للطحاوي: إن الركعتين بعد الظهر، والركعتين بعد المغرب يؤتى بهما في المسجد، وأما سواهما فلا ينبغي أن يؤتى بها في المسجد، وهذا قول البعض، وبعضهم قالوا: التطوع في المساجد حسن، وفي البيت أفضل، وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب «الصلاة» : أن من فرغ من الفريضة في المسجد في الظهر والمغرب والعشاء، فإن شاء صلى التطوع في المسجد، وإن شاء رجع، فتطوع في منزله.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : وليس قبل العيدين صلاة، وإن شاء تطوع بعد الفراغ من الخطبة، قال القاضي الإمام أبو جعفر.....: كان شيخنا أبو بكر الرازي يقول: معنى قول أصحابنا: وليس قبل العيدين صلاة؛ ليس قبل العيدين صلاة مسنونة؛ لأن الصلاة قبلها مكروهة، وقد نص الكرخي على الكراهة في كتابه، فقال: ويكره إن حضر المصلي يوم العيد التنفل قبل الصلاة.

الصلاة على الجنازة في المسجد الذي تقام فيه الجماعة مكروهة، والأصل فيه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له» ، وفي رواية: «لا أجر» ، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى أن يصلى عليه في بيت عائشة رضي الله عنها مع قرب المسجد، ولو لم تكن الصلاة على الجنازة في المسجد مكروهة ما أوصى بالصلاة في بيت عائشة رضي الله عنها؛ ولأن مساجد الجماعة أعدت لأداء المكتوبات، فلا يقام غيرها فيها، وجرى التوارث في الأمصار بإيجاد مكان على حدة لأداء صلاة الجنازة، وإنه دليل على كراهية أداء صلاة الجنازة في مسجد الجماعات، ولأن تنزيه المساجد عن التلوث واجب، وفي إدخال الميت في المسجد احتمال تلويث المسجد بأن يسيل من الميت شيء.

ثم هذه المسألة على أربعة أوجه؛ إن كانت الجنازة والإمام والقوم في المسجد فالصلاة مكروهة بالاتفاق.
وإن كان الإمام مع بعض القوم، والجنازة خارج المسجد وباقي القوم في المسجد؛ ذكر نجم الدين النسفي في «فتاويه» : أن الصلاة غير مكروهة بالاتفاق، وكثير من مشايخنا ذكروا في هذه الصورة اختلاف المشايخ؛ بعضهم قالوا: يكره، وإليه مال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني، والشيخ الإمام الزاهد ركن الإسلام الصفار رحمهما الله، وحكي أن هذه الواقعة وقعت في زمن الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني، فجلس ولم يصل، وتابعه من كان معه في مسجد الأنباء، ثم زجر الناس على المنبر أشد الزجر، وقال: هذه بدعة، وكان هذا القائل يعتمد المعنى الأول في الوجه الأول. وبعض مشايخنا قالوا: لا تكره الصلاة في هذه الصورة، وكان هذا القائل اعتمد المعنى الثالث في الوجه الأول.
وإن كانت الجنازة وحدها خارج المسجد، والقوم مع الإمام في المسجد فمن اعتبر المعنى الأول يقول بالكراهية ههنا، ومن اعتبر المعنى الثالث لا يقول بالكراهية ههنا.

(5/307)


وإن كانت الجنازة وحدها في المسجد والإمام والقوم خارج المسجد، فمن اعتمد المعنى الأول لا يقول بالكراهية ههنا، ومن اعتمد المعنى الثالث يقول بالكراهة ههنا.
ويكره للإنسان أن يدخل في الصلاة وبه غائط أو بول؛ لأنه عسى يشغله ذلك عن أفعال الصلاة، فإن دخل في الصلاة مع ذلك وشغله عن الصلاة قطعها؛ لأنه قطع بعذر، وإن مضى في صلاته جاز، وقد أساء؛ وسواء كان ذلك به قبل افتتاح الصلاة، أو حدث بعد افتتاح الصلاة، ففي الحالين جميعاً يقطع الصلاة إذا شغله ذلك عن بعض أفعال صلاته، وإن مضى على صلاته جاز، وقد أساء.
الصلاة في الحمام مكروهة: إذا كان هناك تماثيل، وإن لم يكن والموضع الذي يصلى فيه طاهر؛ اختلف المشايخ فيه؛ بعضهم قالوا: يكره، وأكثرهم على أنه لا يكره، وكثير من أئمة بخارى كانوا يفعلون ذلك، حكي عن الشيخ الإمام إسماعيل الزاهد رحمه الله: أنه كان يصلي الفريضة في الحمام بالجماعة مع الخادم وغيره.
وأما الصلاة في موضع جلوس الحمامي فلا شك أن على قول من يقول بعدم الكراهة داخل الحمام لا يكره في موضع جلوس الحمامي، ومن قال بالكراهية داخل الحمام اختلفوا فيما بينهم في الكراهية في موضع جلوس الحمامي؛ وإنما اختلفوا لاختلافهم في علة الكراهية داخل الحمام.
(إذا) صلى وهو مشدود الوسط لا يكره، ذكره في «مجموع النوازل» . ويكره أن يصلي مواجهاً لإنسان؛ لأنه يصير كالمعظم له، ولا بأس بأن يصلي إلى ظهر رجل قاعد يحدث، ومعه قوم يتحدثون؛ لأن الكراهة في الفصل الأول لمعنى التعظيم، ولا تعظيم ههنا، ولأن الناس يصلون الفرائض بالجماعات صفاً صفاً، فتقع صلاة بعض القوم إلى ظهر من قبله، قالوا: وهذا إذا كان حديثهم لا يشوش عليه أمره، فأما إذا كان يشوش فهو مكروه، وعليه يحمل النهي الوارد في هذا الباب.

ولا بأس أن يصلي وبين يديه في القبلة مصحف معلق، أو سيف معلق إذ ليس فيه شبهة العبادة، فإن أحداً لا يعبد المصحف والسلاح، وقد صح أن (82أ2) رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى عنزته، ولو كان فيه شبهة العبادة ما صلى إليها.
وتكره الصلاة إلى كانون أو تنور فيه (نار) تتوقد؛ لأنه تشبه بالمجوسي، ولا تكره الصلاة إلى قنديل أو سراج أو شمع إذ ليس فيه تشبه بالمجوس؛ لأنهم لا يعبدون إلا ناراً متوقداً. ثم من المشايخ من سوى بين أن يكون التنور مفتوح الرأس أو مخبوء، ومنهم من فرق بينهما.
وتكره الصلاة فوق الكعبة؛ قيل: في معنى الكراهة: إن الظهور على سطح الكعبة

(5/308)


استخفاف بالكعبة؛ ألا ترى أنه يكره الظهور على سطح سائر المساجد، وسقوفها فما ظنك بالكعبة.
وفي «الجامع الصغير» : لو صلى على بساط وفيه تصاوير، ولم يقع سجوده على الصورة لا يكره، ولو وقع سجوده على الصورة يكره؛ لأنه إذا وقع سجوده على الصورة صار المصلي كالمتعبد للصورة، ولا كذلك ما إذا لم يقع سجوده على الصورة، وذكر هذه المسألة في «الأصل» وذكر الكراهية مطلقاً من غير فصل؛ لأن البساط الذي يصلي عليه معظم من بين سائر البسط، فيؤدي إلى تعظيم الصورة، وإذا كانت التصاوير على السقف أو فوق رأس المصلي، أو بين يديه، أو بحذائه على الحائط، أو على الستر أو على الوسادة، والوسادة قائمة أو معلقة يكره، وإن كان التمثال مقطوع الرأس، فليس بتمثال.
يجب أن يعلم بأن الصورة نوعان؛ صورة جماد كالشجر ونحوه، وصورة حيوان، فصورة الجماد لا يكره اتخاذها والصلاة إليها صغيرة كانت أو كبيرة؛ لأن الصلاة إلى مثل هذه الصورة لا تشبه التعبد؛ لأن مثل هذه لا تعبد.

وصورة الحيوان إن كانت صغيرة بحيث لا تبدو للناظر من بعيد لا يكره اتخاذها والصلاة إليها؛ لأن هذا مما لا يعبد، وقد صح أنه كان على خاتم أبي هريرة رضي الله عنه ذبابتان، وكان على خاتم أبي موسى الأشعري كركيان، وكان على خاتم دانيال صلوات الله عليه صورة الأسد، وإن كانت الصورة كبيرة بحيث تبدو للناظر من بعد؛ يكره إمساكها والصلاة إليها؛ لأن إمساك الصورة تشبه بمن يعبد الصنم، والصلاة إليها يشبه تعظيمها وعبادتها فتكره، إلا إذا كانت مقطوعة الرأس، فحينئذٍ لا تكره؛ لأن بدون الرأس لا تعبد، وتفيسر قطع الرأس في هذا الباب أن يمحي رأس الصورة بخيط يخاط عليها، بحيث لا يبقي للأصل أثراً أصلاً، أو يطلي على رأسه شيئاً بحيث لا يبقي للرأس أثراً أصلاً.

وأما إذا خيط ما بين الرأس والجسد، فلا عبرة له، ولا تخرج الصورة به من أن تكون صورة؛ لأنه يصير شبه الطوق، ومن الطيور ما هو مطوق، فلا يخرج به من أن يكون صورة، واختلف المشايخ في رأس الصورة بلا جثة أنه هل يكره اتخاذه والصلاة عنده؟.
ثم الكراهة في الصورة في حق المصلي على التفاوت بعضها فوق بعض، فأشدها كراهة ما يكون على القبلة أمام المصلي، ودونه في الكراهة ما يكون فوق رأس المصلي، ودونه ما يكون خلفه على الحائط، أو على الستر أو على الوسادة، واتخاذ الصورة في البيوت.
والنبات في غير حالة الصلاة على نوعين؛ نوع يرجع إلى تعظيمها فيكره، ونوع يرجع إلى تحقيرها فلا يكره، وعن هذا قلنا: إذا كانت الصورة على البساط مفروشاً لا يكره، وإذا كان البساط منصوباً يكره، وقلنا في حق المصلي على البساط الذي فيه صورة؛ إن كانت الصورة في موضع القدم لا تكره، وإن كانت في موضع السجود تكره.

(5/309)


مع هذا إذا صلى في هذه الوجوه لا يحكم بفساد صلاته لاستجماع شرائطها وأركانها، ولكن ينبغي أن يقال: تجب بالإعادة على غير وجه الكراهة، وكذلك الحكم في كل صلاة أديت مع الكراهة؛ هكذا ذكره القاضي الإمام صدر الإسلام رحمه الله، وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله نحو ما ذكره صدر الإسلام في مسألة أخرى.
وصورتها: إذا صلى خلف إمام يلحن في القراءة؛ ينبغي أن يعيد الصلاة، وكان يروى ذلك عن عمر رضي الله عنه، وكثير من هذا النوع مذكور في كتاب الصلاة، وكان يروى: أنه لو صلى مكشوف الرأس، وهو يجد ما يستر به الرأس؛ إن كان تهاوناً بالصلاة يكره؛ وللتضرع يستحب.

مسائل التسبيح
رجل ذكر الله تعالى في مجلس الفسق، فإن كان من نيته أن الفساق يشتغلون بالفسق، وأنا أشتغل بالتسبيح، فهو أحسن وأفضل؛ كمن سبح الله تعالى في السوق، فكان من نيته أن الناس يشتغلون بأمر الدنيا، وأنا أسبح الله تعالى في مثل هذا الموضع؛ كان أفضل من أن يسبح الله تعالى وحده في السوق، وإن سبح على وجه الاعتبار كان حسناً، ويؤجر على ذلك أيضاً؛ أما إذا سبح على أنه يعمل عمل الفسق يأثم؛ كمن جاء إلى آخر يشتري منه ثوباً، فلما فتح التاجر الثوب سبح الله تعالى، أو صلى على النبي عليه السلام؛ أراد به إعلام المشتري جودة توبه وذلك مكروه، فهذا كذلك.
حارس يقول: لا إله إلا الله، أو قال فقاعي عند فتح الفقاع: لا إله إلا الله، أو قال: صلى الله على محمد يأثم؛ لأنه يأخذ لذلك ثمناً بخلاف العالم إذا قال في مجلس العلم: صلوا على النبي، أو قال الغازي للقوم: كبروا، حيث يثاب.
رجل يسمع اسم الله تعالى يجب عليه أن يعظمه، ويقول: سبحان الله، أو تبارك الله؛ لأن تعظيم اسم الله واجب في كل زمان.

مسائل قراءة القرآن

قال محمد رحمه الله في كتاب «العلل» : لا بأس بقراءة القرآن في الحمام، وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه، وكره النخعي قال مشايخنا: ولا خلاف في الحقيقة؛ لأن النخعي إنما كره ذلك إذا كان يرفع صوته بالقراءة؛ لأنه يقرأ القرآن عند قوم مشاغيل، فلا يسمعون له، فيكون استخفافاً بالقرآن، وعندنا يكره إذا كانت الحالة هذه، وعن هذا كره بعض مشايخنا التصدق على ... الذي يقرأ القرآن في السوق زجراً له عن ذلك؛ لأنه يقرأ عند قوم مشاغيل، فكره التصدق عليه زجراً وتأديباً له، والتسبيح والتحميد نظير القراءة، ورأيت في «فوائد الفقيه أبي جعفر» : أن قراءة القرآن في الحمام، أو في

(5/310)


المغتسل، أو في موضع ينصب فيه الماء الذي غسل به النجاسة مكروه؛ سواء كان خفية أو جهراً؛ لأن هذا يؤدي إلى الاستخفاف بالقرآن؛ أما إذا قرأ القرآن خارج الحمام في موضع ليس فيه غسالة الناس؛ نحو مجلس صاحب الحمام أو الثيابي فقد اختلف علماؤنا فيه قال أبو حنيفة: لا يكره ذلك، وقال محمد: يكره، وليس عن أبي يوسف رواية (82ب2) منصوصة.
وفي «الواقعات» : لا يقرأ القرآن في المخرج والمغتسل والحمام إلا حرفاً حرفاً، وفي «النوازل» : أنه يكره حرفاً حرفاً، والأول أصح.
وفي «الفتاوى» : قراءة القرآن في القبور عند أبي حنيفة رضي الله عنه تكره، وعند محمد لا تكره، قال الصدر الشهيد رحمه الله: ومشايخنا أخذوا بقول محمد، وحكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله: أن القراءة على المقابر إذا أخفى، ولم يجهر لا تكره، ولا بأس به، وإنما كره قراءة القرآن في المقبرة جهراً، وأما المخافتة، فلا بأس به وإن ختم، وقيل إن نوى أن يؤنسه بصوته يقرأ، وكان الفقيه أبو إسحاق الحافظ رحمه الله حكى عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن إبراهيم أنه قال: لا بأس بأن يقرأ على المقابر سورة الملك؛ سواء أخفى أو جهر، وأما غيرها، فإنه لا يقرأ في المقابر، ولم يفرق بين الجهر والخفية؛ لأن الأثر فيه ورد، وحكي عن أبي بكر بن أبي سعيد أنه قال: يستحب عند زيارة القبر قراءة سورة الإخلاص: {قل هو الله أحد} (الإخلاص:1) سبع مرات، فإنه بلغني أنه من قرأها سبع مرات إن كان ذلك غير مغفور له يغفر له، وإن كان مغفوراً له غفر لهذا القارىء، ووهب ذنوبه من الميت.
ولا بأس بقراءة القرآن إذا وضع جنبه على الأرض لقوله تعالى: {وعلى جنوبهم} (آل عمران:191) ، ولكن ينبغي أن يضم رجله عند القراءة، ويكره أن يتخذ شيئاً من القرآن حتماً لشيء من الصلاة؛ لا يتجاوز عنه إلى غيره؛ لكن هذا إذا اعتقد أن غيره لا يجوز، أما إذا عرف أنه يجوز لكن هذا أيسر علىه، وقرأ متبركاً بقراءة رسول الله عليه السلام، فلا بأس.

في كراهية «شرح الطحاوي» : قراءة القرآن من الأسباع جائزة، والقراءة من المصحف أحب؛ لأن الأسباع محدثة، والصحابة كانوا يقرؤون من المصاحف. رجل يقرأ القرآن كله في يوم واحد، ورجل آخر يقرأ سورة الإخلاص في يوم واحد خمسة آلاف مرة، فإن كان الرجل قارئاً فقراءة القرآن أفضل؛ لأنه جاء في الختم ما لم يجىء في غيره.

إذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم، وأراد به قراءة القرآن يتعوذ قبله، وإن أراد به افتتاح القرآن كما يقرأ التلميذ على الأستاذ لا يتعوذ، فعلى هذا لا ينبغي للجنب أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم إذا أراد قراءة القرآن، وإن أراد به التسمية أو افتتاح القراءة لا بأس به.
عن محمد بن مقاتل فيمن أراد قراءة سورة أو قراءة آية، فعليه أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويتبع ذلك بسم الله الرحمن الرحيم، فإن استعاذ لسورة الأنفال وسمى،

(5/311)


ومر في قراءته إلى سورة التوبة وقرأها كفاه ما تقدم من الاستعاذة والتسمية، ولا ينبغي له أن يخالف الذين ألفوا وكتبوا المصاحف التي في أيدي الناس، فإن اقتصر على ختم سورة الأنفال، فقطع القراءة، ثم أراد أن يبتدىء سورة التوبة كان كإرادته ابتداء قراءة آية من الأنفال، فيستعيذ ويسمي.
وكذلك سائر السور المعلمة في حالة الحيض تعلم الصبيان حرفاً حرفاً، أي: كلمة كلمة، ولا تعلمهم آية تامة؛ لأن الضرورة تندفع بالأول، والمسقط هي الضرورة. قراءة الفاتحة بعد المكتوبة لأجل المهمات مخافته أو جهراً مع الجمع مكروهة، وكذلك قراءة الكافرون مع الجمع مكروهة؛ لأنها بدعة لم ينقل عن الصحابة، وعن التابعين رضوان الله عليهم أجمعين. القارىء إذا سمع النداء، فالأفضل له أن يمسك ويستمع النداء.
القارىء إذا سمع اسم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لا تجب عليه الصلاة؛ لأن قراءة القرآن على نظمه وتأليفه أفضل من الصلاة على النبي عليه السلام، فإذا فرغ من قراءته، إن صلى على النبي عليه السلام فحسن، وإن لم يصلِّ فلا شيء عليه.
في «فتاوى أهل سمرقند» : ورأيت في «فوائد الفقيه أبي جعفر» : أن الرجل إذا كان يقرأ القرآن ويؤذن المؤذن؛ روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه: أنه يرد جواب المؤذن بقلبه، وعن محمد: أنه يمضي على القراءة، ولا يلتفت إليه ولا يشغل قلبه، كما لا يشغل لسانه.

مسائل الدعاء
روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه قال: يكره للرجل أن يقول في دعائه: اللهم إني أسألك بمقعد العز من عرشك يروى هذا اللفظ بروايتين: بمقعد العز من عرشك عن العقد، وبمقعد العز من عرشك من القعود، فبالرواية الثانية لا شك في الكراهة؛ لأنه وصف الله تعالى بما لا يليق به، وهو القعود والتمكن على العرش، وهو قول المجسمة. وأما في اللفظ الأول؛ فلأنه يوهم تعلق عزه بالعرش، وأن عزه حادث إذا تعلق بالحادث، والله تعالى متعالٍ عن صفة الحدث، وعن أبي يوسف أنه لا يكره؛ قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وبه نأخذ، فقد جاء في الحديث عن رسول الله عليه السلام أنه كان يقول: «اللهم إني أسألك بمعقد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك، واسمك الأعظم وجدك الأعلى، وكلماتك التامة» .
ويكره أيضاً: أن يقول الرجل في دعائه: اللهم إني أسألك بحق أنبيائك ورسلك؛ لأنه لا حق لأحد من المخلوقين على الله تعالى. وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به. ويكره أن يقول: أدعوك بمقعد العز من

(5/312)


عرشك قال ثمة: والدعاء المأذون فيه، والمأثور به ما استفيد من قوله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} (الأعراف: 10) ، وإنما كره بمقعد العز من عرشك؛ لأنه لا يدعوه به.
قال ثمة أيضاً: وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يصلي أحد على أحد إلا على النبي، وهو قول محمد رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا بأس به، وإن ذكر غير النبي على أثر النبي في الصلاة، فلا بأس به بلا خلاف، ويكره الدعاء عند ختم القرآن في شهر رمضان، وعند ختم القرآن بجماعة؛ لأن هذا لم ينقل عن النبي عليه السلام وأصحابه؛ قال الفقيه أبو القاسم الصفار: لولا أن أهل هذه البلدة قالوا: إنه يمنعنا من الدعاء، وإلا لمنعتهم عنه.

المصلي لا يدعو بما يحضره من الدعاء، بل ينبغي أن يدعو في صلاته بدعاء محفوظ؛ لأنه يخاف أن يجري على لسانه ما يشبه كلام الناس، فتفسد به صلاته؛ أما في غير حالة الصلاة ينبغي أن يدعو بما يحضره، ولا يستظهر الدعاء؛ لأن حفظ الدعاء يذهب برقة القلب.
رجل يدعو وهو ساه، فإن كان دعاؤه على الرقة، فهو أفضل، وإن لم يمكنه أن يدعو إلا وهو ساه، فالدعاء له أفضل من تركه؛ (83أ2) لأن وسعه ذلك.
إذا دعى المذكر على المنبر دعاءً مأثوراً، والقوم يدعون معه كذلك، فإن كان ليعلم القوم فلا بأس، ولو لم يكن ليعلم القوم فهو مكروه؛ لأنه بدعة.

الكافر إذا دعا هل يجوز أن يقال يستجاب دعاؤه؟ ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» : فيه اختلاف المشايخ؛ بعضهم قالوا منهم أبو الحسن..... إنه لا يجوز؛ لأنه لا يدعو الله تعالى؛ لأنه لا يعرفه؛ وهذا لأنه وإن أقر به، إلا أنه لما وصفه بما لا يليق به فقد رفض إقراره، والذي روي في الحديث «أن دعوة المظلوم وإن كان كافراً تستجاب» ؛ معناه إن صح: كافر النعمة؛ لا كافر الديانة، هذا كقوله عليه السلام: «من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر» معناه: كفر كفران النعمة؛ لا كفران الديانة، وبعضهم قالوا: منهم أبو القاسم الحكيم، وأبو نصر الدبوسي: يجوز، واستدلوا بقوله تعالى حكاية عن إبليس: {قال رب أنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين} (الأعراف:14 15) وهذه إجابة، قال الصدر الشهيد: وهو الصحيح.9

ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» عن الحسن رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يكره رفع الصوت عند قراءة القرآن وعند الجنائز» ، وعن قيس بن عباد،

(5/313)


ويروي عبادة أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يكرهون رفع الصوت عند الجنائز والذكر، ففي حديث الحسن ذكر قراءة القرآن مقام الذكر، ولا تنافي بينهما، فاسم الذكر اسم عام يتناول الدعاء والتسبيح والتهليل، ويتناول الوعظ وقراءة القرآن فإن قراءة القرآن ذكر، بل هو أشرف الأذكار، قال الله تعالى: {ولذكر الله أكبر} (العنكبوت:45) قال ابن عباس أي: ولتلاوة القرآن أكبر.
فأما رفع الصوت عند الجنائز فيحمل: أن المراد منه النوح وتمزيق الثياب، وخشن الوجوه، وذلك مكروه، ويحتمل أن المراد منه: أن يقوم رجلُ، بعدما اجتمع القوم للصلاة، ويدعو للميت، ويرفع صوته، وذلك مكروه؛ لأن السنة في الأدعية الخفية، ويحتمل: أن المراد منه ما كان عليه أهل الجاهلية من الإفراط في مدح الميت عند جنازته حتى كانوا يذكرون ما هو سببه المحال، وأما رفع الصوت عند الذكر، فإن كان المراد من الذكر الدعاء، فإنما كره ذلك؛ لأن الأصل في الأدعية الخفية، ولأن فيه رياء، ولأجل هذا كره رفع الصوت بالتسبيح والتهليل.
وإن كان المراد منه الوعظ، فليس المراد رفع الواعظ صوته عند الوعظ، وإنما المراد رفع بعض القوم صوته بالتهليل والصلاة على النبي عند ذكره. وقد صح (أنه) قيل لابن مسعود رضي الله عنه: إن قوماً اجتمعوا في مسجد يهللون ويصلون على النبي عليه السلام، ويرفعون أصواتهم، فذهب إليهم ابن مسعود، وقال: ما عهدنا هذا على عهد رسول الله، وما أراكم إلا مبتدعين، فما زال يذكر ذلك حتى أخرجهم من المسجد.

وإن كان المراد قراءة القرآن، فإنما كره رفع الصوت بها؛ لأنه ينافي الخشوع، ولأن فيه رياءً، ولأن فيه منع غيره عن شغله، فإنه يلزمه الاستماع، وقيل: المراد منه المستمع؛ يعني أن المستمع إذا سمع آية فيها ذكر النار، فتعوذ بالله من النار، ورفع صوته، وذلك مكروه، أو القارىء ينقل ذلك، ويرفع بها صوته، وذلك مكروه لما ذكرنا أن السنة في الأدعية الخفية، ومن قال من المشايخ: إن ختم القرآن بالجماعة جهراً يسمى بالفارسية؛ «سي ياره خواندن» مكروه، تمسك بالحديث الذي رواه الحسن، ولما روى قيس عن أصحاب رسول الله عليه السلام؛ إن كان المراد من الذكر قراءة القرآن، والمعنى ما ذكرنا.
المسائل المتفرقات من هذا الفصل: إذا أراد أن يصلي أو يقرأ القرآن، ويخاف أن يدخل عليه الرياء؛ لا يترك القراءة والصلاة لأجل ذلك، وكذا في جميع الفرائض، ولو افتتح الصلاة يريد بها وجه الله، ثم دخل الرياء بعد ذلك في قلبه، فالصلاة على ما أسس؛ لأن التحرز عن هذا غير ممكن.
ولا بأس للجنب أن يكتب القرآن إذا كانت الصحيفة على الأرض، ولا يضع يده عليها. وقال محمد رحمه الله: أحب إلي أن لا يكتب إن كانت الصحيفة على الأرض، ولا يضع يده عليها، والآية وما دونها في تحريم الكتابة سواء على رواية محمد؛ لأن الكتابة بمنزلة القراءة، والآية وما دونها في تحريم القراءة سواء على رواية محمد، فكذا الكتابة.

(5/314)


رجل تعلم بعض القرآن، ثم وجد فراغاً فتعلم باقي القرآن، أفضل من صلاة التطوع، وتعلم الفقه أفضل من تعلم باقي القرآن. الرجل إذا أمكنه أن يصلي بالليل، وينظر في النهار في العلم فعل ذلك، وإن لم يمكنه، فإن كان له ذهن يعقل الزيادة وتعلم، فالنظر في العلم أفضل، فقد جاء في الحديث عن النبي عليه السلام؛ قال: «مذاكرة العلم ساعة خير من إحياء ليلة» .
المرأة إذا أرادت تعلم القرآن من الأعمى جاز، ولكن التعلم من المرأة أولى؛ لأن صوتها عورة.

قالوا: من أراد أن يقرأ القرآن ينبغي أن يكون على أحسن أحواله، يلبس أحسن ثيابه ويتعمم، ويستقبل القبلة، تعظيماً للقرآن، وكذا العالم يجب أن يعظم العلم.
وسئل شمس الأئمة الأوزجندي رحمه الله؛ أن الاشتغال بالدعاء بعد الفريضة أولى، أو الاشتغال بالسنة؟ قال: الاشتغال بالسنة.
رجل يصلي على الأرض، ويسجد على خرقة وضعها بين يديه يتقي به الحر لا بأس به، وقد روي أن أبا حنيفة رضي الله عنه فعل ذلك، فمر به رجل فقال: يا شيخ لا تفعل مثل هذا فإنه مكروه، فقال أبو حنيفة: أفي مساجدكم حشيش قال: نعم، قال: أتجوز السجدة على الحشيش، ولا تجوز على الخرقة.
رجل أم قوماً وهم له كارهون؛ إن كانت الكراهية لفساد فيه، أو لأنهم أحق بالإمامة منه كره له أن يؤمهم، هكذا روى الحسن البصري عن أصحاب رسول الله عليه السلام، وإن كان هو أحق بالإمامة منهم ولا فساد فيه، مع هذا يكرهون إمامته لا يكره له أن يؤمهم.
الترجيع بقراءة القرآن هل يكره؟ تكلم المشايخ فيه قال بعضهم: لا بأس به لقوله عليه السلام: «زينوا القرآن بأصواتكم» ، وقال عليه السلام: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» ، وقال أكثرهم: هو مكروه، ولا يحل الاستماع إليه؛ لأن فيه تشبهاً بفعل الفسقة في حال فسقهم، ولهذا كره هذا النوع في الأذان.
رجل قرأ القرآن ويلحن في قراءته، فسمع إنسان إن علم أنه لو لقنه الصواب لا تدخل عليه الوحشة يلقنه.
قالوا: يجب على المولى أن يعلم مملوكه من القرآن قدر ما يحتاج إليه. إذا سال الدم من أنف إنسان، فكتب فاتحة الكتاب (83ب2) .
بالدم على أنفه، وجبهته جاز للاستشفاء والمعالجة، و (لو) أراد أن يكتب ذلك بالبول؛ لم ينقل ذلك عن

(5/315)


المتقدمين، وقد قيل: لا بأس به إذا علم أن فيه شفاء؛ وهذا لأن الحرمة تسقط عند الاستشفاء على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.

وإذا أراد المصلي التعوذ، فالذي هو موافق للقرآن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ولو قال: أعوذ بالله العظيم، أعوذ بالله السميع العليم؛ لأنه يصير فاصلاً بين التعوذ، وبين القراءة، وينبغي أن تكون القراءة متصلة بالتعوذ.

الفصل الخامس في المسجد والقبلة والمصحف وما كتب فيه شيء من القرآن، نحو الدراهم والقرطاس، أو كتب فيه ذكر الله تعالى
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : ولا بأس بأن ينقش المسجد بالجص والساج وماء الذهب؛ قوله لا بأس يدل على (أن) المستحب غيره، وهو الصرف إلى الفقراء؛ إلا أنه إن فعل لا يأثم ولا يزجر عليه، ومن العلماء من قال: إن نقش المسجد قربة حسنة، ومن العلماء من قال: هو مكروه.
حجة من قال: إنه مكروه قوله عليه السلام: «من أشراط الساعة نقوش المساجد» ، وعن علي رضي الله عنه أنه مر بمسجد مزخرف، فقال: لمن هذه البيعة. وعن عمر بن عبد العزيز أنه لما رأى مالاً ينقل إلى مسجد المدينة قال: المساكين أحوج إلى هذا من الأساطين.
وجه من قال إنه قربة، ما روي أن داود عليه السلام بنى مسجد بيت المقدس، ثم سليمان صلوات الله عليه أتمه بعده وزينه حتى نصب الكبريت الأحمر على رأس القبة، وكان ذلك من أعز ما يوجد في ذلك الوقت، ولأن فيه ترغيب الناس في الاعتكاف والجماعة، وفيه تعظيم بيت الله تعالى.

والأصح على قول علمائنا رحمهم الله أنه ليس بقربة؛ إلا أنه لا يكره؛ أما ليس بقربة فإن مسجد رسول الله بالمدينة كان مسقفاً من جريدة النخل حيطانه من الحجر، فقيل لرسول الله: ألا نزيد لك، فقال: «لا بل عريش كعريش موسى صلوات الله عليه» ، وكان يكف إذا حل به المطر، قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: رأيته يسجد في ماء وطين، فدل أنه ليس بقربه، إلا أنه لا بأس به لما روينا من الأحاديث، ولما روي أن عثمان رضي الله عنه رفع بناء مسجد رسول الله عليه السلام، وزاد فيه وزينه، وفرش الحصا فيه على هداية القوم فدل أنه لا بأس به، وكره بعض مشايخنا القوس على المحراب وحائط القبلة؛ لأن ذلك يشغل قلب المصلي إذا نظر فيه، وروي أنه أهدي إلى رسول الله عليه السلام ثوب معلم فصلى فيه، ثم نزعه فقال: «كان يشغلني علمه عن

(5/316)


بعض صلاتي» ، وذكر الفقيه أبو جعفر في «شرح السير الكبير» : أن تنقيش الحيطان مكروه، قل ذلك أو كثر، وأما تنقيش السقف، فالقليل منه يرخص والكثير مكروه.
قال محمد رحمه الله: وأكره أن تكون قبلة المسجد إلى المخرج أو الحمام أو القبر. يجب أن تعلم بأن جهة القبلة جهة يجب تعظيمها، والتحرز عن الاستخفاف بها، جاء عن النبي عليه السلام «نهى أن يبزق الرجل في جهة القبلة» ، وإذا كان يقرب القبلة أنجاس وأرجاس فذلك استخفاف بالقبلة، وعن هذا قلنا إن من صلى وقدامه عذرة أو بول يكره.
ثم تكلم المشايخ في معنى قول محمد: أكره أن تكون قبلة المسجد إلى الحمام؛ قال بعضهم: لم يرد به حائط الحمام، وإنما أراد به المستحم هو الموضع الذي نصب فيه الحميم، وهو الماء الحار؛ لأن ذلك موضع الأنجاس، واستقبال الأنجاس في الصلاة مكروه على ما تقدم ذكره، فأما إذا استقبل حائط الحمام فلم يستقبل الأنجاس، وإنما استقبل الحجر والمدر، فلا يكره.

وكذلك تكلموا في معنى قوله: أكره أن تكون قبلة المسجد إلى المخرج، قال بعضهم: أراد به نفس المخرج، وقال بعضهم: أراد به حائط المخرج، وتكلموا أيضاً في معنى الكراهة إلى القبر، قال بعضهم: لأن فيه تشبهاً باليهود، وقال بعضهم: لأن في المقبرة عظام الموتى، وعظام الموتى أنجاس وأرجاس هذا كله إذا لم يكن بين المصلي وبين هذه المواضع حائط أو سترة، أما إذا كان لا يكره، ويصير الحائط فاصلاً، وإذا لم يكن بين المصلي وبين هذه المواضع سترة، فإنما يكره استقبال هذه المواضع في مسجد الجماعات أما في مساجد البيوت لا يكره إذ ليس لمساجد البيوت حكم المساجد على الإطلاق؛ ألا ترى أنه يدخله الجنب من غير كراهة، ويأتي فيه أهله ويبيع ويشتري من غير كراهة.
قال محمد رحمه الله: وتكره المجامعة والبول فوق المسجد؛ لأن لسطح المسجد حكم المسجد، وهذا لما عرف أن حكم المسجد ثابت في الهواء والعرصة جميعاً، ولهذا قلنا: من قام على سطح المسجد مقتدياً بإمام في المسجد، وهو خلف الإمام يجوز، والمعتكف إذا صعد سطح المسجد لا ينتقض اعتكافه، ولا يحل للجنب والحائض والنفساء صعود سطح المسجد، فعلم أن لسطح المسجد حكم المسجد، ثم لا تجوز المجامعة والبول في المسجد، فكذا فوقه.
قال محمد رحمه الله: ولا بأس بالبول فوق بيت فيه مسجد، يريد المكان المعد للصلاة؛ وهذا لأن كل مسلم مندوب إلى أن يتخذ في بيته مسجداً، ليصلي فيه النوافل والسنن، وقد فعل رسول الله عليه السلام ذلك في بيت جماعة، وقال الله تعالى في قصة

(5/317)


موسى عليه السلام: {واجعلوا بيوتكم قبلة} (يونس:87) وقال عليه السلام: «لا تتخذوا بيوتكم قبوراً» ، وأراد به أن لا يكون فيه مكان الصلاة، فثبت أن كل مسلم مندوب إلى أن يعد في بيته مكاناً يصلي فيه؛ إلا أن هذا المكان لا يأخذ حكم المسجد على الإطلاق؛ لأنه باق على ملكه له أن يبيعه، فهو كما لو بال على سطح بيت فيه مصحف، وذلك لا يكره، فكذا ههنا.

والمجامعة والبول في الموضع المعد لصلاة الجنازة لا ذكر له في الكتب، وقد اختلف المشايخ فيه؛ بعضهم قالوا: يكره؛ لأنه موضع أعد لإقامة الصلاة فيه بجماعة، فيكره البول والمجامعة فيه، كما في الجامع والمساجد التي على قوارع الطرق عند الحياض، وبعضهم قالوا: لا يكره، وإليه مال الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي، ألا ترى أنه لابأس بإدخال الميت، وقد أمرنا بتجنيب المساجد الموتى بخلاف الجامع؛ لأنه أعظم المساجد، والمساجد على القوارع لها حرمة المسجد على الإطلاق.

وفي «فتاوى أبي الليث» مصلى الجنازة له حكم المسجد في حق جواز الاقتداء عند انفصال الصفوف، وحرمة دخول الجنب فيه (84أ2) وبعض مشايخنا قالوا: الجواب في حق جواز الاقتداء صحيح، أما في حق دخول الجنب والمرتد فيه لا يعطى له حكم المسجد رفقاً بالناس.
قال: ويكره لأهل المسجد أن يغلقوا باب المسجد؛ لأن المسجد أعد لذكر الله تعالى فيه قال الله تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع، ويذكر فيها اسمه} (النور:36) ، فإذا أغلقوا باب المسجد فقد منعوا عن الصلاة والذكر فيه، فدخلوا تحت قوله تعالى: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} (البقرة:114) قال مشايخنا: وهذا في زمانهم، أما في زماننا، فلا بأس بإغلاق أبواب المساجد في غير أوان الصلاة؛ لأنه لا يؤمن على متاع المسجد وبنائه وحصره من قبل السارق؛ لأن الغلبة في زماننا لأهل الفسق والحكم يختلف باختلاف أحوال الناس، ألا ترى أن النساء كن يحضرن الجماعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم منعن ذلك لفساد أحوال الناس، وهو الصواب كذا في مسألتنا.
وفي «الأجناس» : رجل بنى مسجداً في أرض غصب؛ لا بأس بالصلاة فيه، وفي «أمالي أبي يوسف» : لا ينبغي لأحد أن يصلي فيه، ولو جعله طريقاً لا يمر فيه، ولو بنى حانوتاً أو حماماً لا يستأجر الحمام والحانوت وله أن يدخل فيه لشراء المتاع.

الطريق إذا كان واسعاً، فبنى فيه أهل المسجد مسجداً للعامة، ولا يضر ذلك بالطريق، فلا بأس به، وإن أراد أهل المحلة أن يدخلوا في دورهم شيئاً من الطريق ولا يضر ذلك بالعامة ليس لهم ذلك، نص عليه في «العيون» . وفي «فتاوى أبي الليث:» مسجد بني على سور المدينة، فلا ينبغي أن يصلى فيه. علل الصدر الشهيد رحمه الله فقال:؛ لأن السور للعامة، فصار كما لو بنى مسجداً في أرض الغصب، وإنه يخالف ما حكيناه عن «الأجناس» .

(5/318)


وفي «الأجناس:» لا بأس بالنوم في المسجد، وفي «الأصل» : لا بأس للمعتكف أن يبيت في المسجد. وفي صلاة «الأثر» قال: سأل محمداً عن دكان اتخذ للمسجد من المسجد وبينه طريق وهو بادٍ من المسجد اتخذ ليصلى عليه في الحر، أيضاعف الأجر بالصلاة عليه كما يضاعف بالصلاة في المسجد؟ قال: نعم.
في «فتاوى أهل سمرقند» : لا بأس بمسح الرجل في التراب الذي في المسجد إذا كان مجتمعاً، وكذا بالحصير المحرق والحشيش المجتمع، وأما إذا كان التراب منبسطاً قال الصدر الشهيد: المختار ما قاله أبو القاسم الصفار؛ لأنه لا.... ذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب الصلاة في باب الوضوء والغسل بقريب من آخره ما يفعل في زماننا من وضع البواري في المسجد ومسح الأقدام عليها فهو مكروه عند الأئمة أجمع.

البزاق في المسجد لا يلقى فوق البواري ولا تحت البواري للحديث: «إن المسجد ... من النخامة» الحديث، وينبغي أن يأخذ النخامة بكمه أو بشيء من ثيابه، وإن اضطر إلى ذلك كان الإلقاء فوق البواري أولى من الإلقاء تحت البواري؛ لأن البواري ليست من المسجد حقيقة، وإن كان لها حكمه، وما تحت البواري من المسجد حقيقة.
وفي كراهية «العيون» : إذا كان في المسجد عش الخطاف ويقذر المسجد لا بأس بأن يرمى بما فيه؛ لأن فيه تنقية المسجد.

وفي «النوازل» : لا يتخذ في المسجد بئر الماء، وما كان قديماً كبئر زمزم يترك، كذلك إذا ضاق المسجد على أهله، وبجنبه أرض لرجل تؤخذ أرضه منه بالقيمة كرهاً، هكذا روي عن الصحابة أنهم فعلوا بالمسجد الحرام.
الخياط إذا كان يخيط الثوب في المسجد يكره ذلك لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه رأى خياطاً يخيط في المسجد، فأمر به فأخرج من المسجد، وكذا الوراق إذا كان يكتب في المسجد بأجر يكره، فعلى هذا الفقهاء إذا كانوا يكتبون الفقه بالأجر في المسجد يكره، وإن كان بغير أجر لا؛ لأنه إذا كان بأجر، فهو عمل العبد، والمسجد ما بني لذلك؛ لأنه بيت الله تعالى، هذه الجملة من «فتاوى أبي الليث» .
وفي كراهية «العيون» : معلم جلس في المسجد، أو وراق كتب في المسجد، فإن كان المعلم يعلم بأجر، والوراق يكتب لغيره بأجر يكره إلا أن تقع لهما الضرورة، ويكره أن يجعل.... في كاغد فيه اسم الله تعالى؛ بخلاف الكيس يكتب فيه اسم الله؛ لأن الكيس يعظم أما الكاغد، والقرطاس فيستهان.

(5/319)


معلم معه خريطة فيها كتب من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، أو كتب أبي حنيفة رضي الله عنه أو غيره، فتوسد بالخريطة، إن قصد الحفظ لا يكره، إذ ليس فيه ترك التعظيم، وإن لم يقصد الحفظ يكره؛ لأن فيه ترك التعظيم.
روي عن إبراهيم النخعي رضي الله عنه أنه قال: المصحف لا يورث، إنما هو للقارىء من الورثة، وعندنا يورث كسائر الأموال، إلا أنه لا قطع فيه؛ لأن المقصود ما فيه وهو القرآن.

سئل الفقيه أبو جعفر عمن كان في كمه كتاب، فجلس يبول؛ أيكره ذلك؟ قال: إن أدخله مع نفسه المخرج يكره، وإن اختار لنفسه مبالاً طاهراً في مكان طاهر؛ لا يكره، وعلى هذا إذا كان في بيته دراهم مكتوب فيها اسم الله تعالى، أو شيء من القرآن، أو كان في هميانه دنانير كتب فيها اسم الله تعالى، أو شيء من القرآن، فأدخلها مع نفسه المخرج يكره، وإن أعد لنفسه مبالاً طاهراً في مكان طاهر لا يكره، وعلى هذا إذا كان عليه خاتم، وعليه شيء من القرآن مكتوب، أو كتب عليه اسم الله تعالى، فدخل المخرج معه أو أعد لنفسه مبالاً في مكان طاهر.

وعنه أيضاً: فيمن غرس الأشجار في المسجد؛ إن كان يفعل ذلك للظل؛ لا بأس، وإن كان يفعل ذلك لبيع الأوراق أو لمنفعة أخرى يكره إذا كانت تضيق على الناس مسجدهم لصلاتهم، أو يقع فيه تفريق الصفوف، قال: بلغنا أن عمر رضي الله عنه قطع شجرة كانت في قرب الكعبة، وكانت تضيق على القوم في طوافهم، ورأيت مسألة الأغراس في المسجد في موضع آخر، وكان جواب المسألة ثمة أنه إن كان للمسجد فيها نفع لا بأس به، وما لا فلا، ونفع المسجد أن يكون المسجد إذا ترك وأساطينه لا يستقر، فيغرس الأشجار ليجذب ذلك عروقها، وإن كان كذلك تجوز، وما لا فلا؛ وهذا لأن غرس الأشجار في المسجد تشبيه له بالبيعة، فلا يجوز ذلك إلا لحاجة، قالوا: ومشايخ بخارى إنما جوزوا ذلك في جامع بخارى لهذه الحاجة.
ولا يمس الجنب المصحف، ولا اللوح المكتوب عليه آية تامة من القرآن، والحائض كالجنب، والمحدث يساويهما في حكم المسح، ويفارقهما في القراءة.

والوجه في ذلك: أن الجنابة تشمل الفم واليد والحيض كذلك، ولهذا يجب إيصال الماء إلى الفم في الغسل عن الحيض والجنابة، فلا يجوز (84ب2) المس له (كما لا) يجوز لهما القراءة، وأما الحدث يحل باليد أما لا يحل بالفم، ولهذا لا يجب إيصال الماء إلى الفم في الوضوء عن الحدث، فيقرأ ولا يمس، فإن غسل الجنب الفم أو اليد، وأراد أن يقرأ القرآن، أو يمس المصحف لا يحل له ذلك، وكذلك المحدث إذا غسل اليد، وأراد أن يأخذ المصحف ليس له ذلك؛ لأن الجنابة لا تتجزأ ثبوتاً وزوالاً، والحدث كذلك. وكما لا يحل لهؤلاء مس الكتابة، لا يحل لهم مس البياض.
وإن مس المصحف بغلافه لا بأس به، والغلاف الجلد الذي عليه؛ المتصل به عند بعض المشايخ، وعند بعضهم المنفصل عنه كالخريطة ونحوها؛ لأن المتصل بالمصحف

(5/320)


من المصحف؛ ألا ترى أنه يدخل تحت بيع المصحف من غير ذكر، وإن مس المصحف بكمه أو ذيله لا يجوز عند بعض المشايخ؛ لأن ثيابه تبع لبدنه، ألا ترى أنه لو قام على النجاسة في الصلاة وفي رجليه نعلان أو جوربان لا تجوز صلاته، ولو فرش نعليه، وقام عليهما جاز، وعن هذا قالوا: إذا بسط الرجل كمه على النجاسة، وسجد عليه لا يجوز، وأكثر المشايخ على أنه لا يكره؛ لأن المحرم هو المس، وإنه اسم للمباشرة باليد من غير حائل، ألا ترى أن المرأة إذا وقعت في طين وردغة حل للرجل الأجنبي أن يأخذ بيدها من غير حائل ثوب، وكذا لا تثبت حرمة المصاهرة بالمس بحائل.
ويكره للجنب ومن بمنعاه مس كتب التفاسير، وكذا يكره مس كتب الفقه، وما هو من كتب الشريعة؛ لأنها لا تخلو عن آيات القرآن، أو إن لم يكن فيها آيات القرآن فيها معنى القرآن، والمشايخ المتأخرون توسعوا في مس كتب الفقه للمحدث بالحكم للضرورة والبلوى، وكره بعض مشايخنا دفع المصحف واللوح الذي عليه القرآن إلى الصبيان، وعامة المشايخ لم يروا به باساً؛ لأنهم غير مخاطبين بالوضوء، وفي التأخير تضييع حفظ القرآن.

وإذا صار المصحف خلقاً بحيث لا يقرأ منه لا يحرق؛ إليه أشار محمد رحمه الله في «السير» في باب ما يوجد من الغنيمة، فيكره قسمته، وبه نأخذ، ولا يكره دفنه، ومن أراد دفنه ينبغي أن يلفه بخرقة طاهرة، ويحفر لها حفرة ويلحد ولا يشق؛ لأنه متى شق ودفن يحتاج إلى إهالة التراب عليه، وفي ذلك نوع تحقير واستخفاف بكتاب الله تعالى، وإن شاء غسله بالماء حتى يذهب ما به، وإن شاء وضعه في موضع طاهر لا تصل إليه يد المحدثين، ولا تصل إليه النجاسة تعظيماً لكلام الله تعالى، تصغير المصحف حجماً وأن يكتب بقلم دقيق مكروه.
في كراهية «واقعات الناطفي» : ويكره مد الرجلين إلى القبلة في النوم وغيره عمداً، وكذلك يكره مد الرجلين إلى المصحف، وإلى كتب الفقه لما فيه من ترك تعظيم جهة القبلة، وكلام الله تعالى، ومعاني كلام الله تعالى، وإذا كان للرجل جوالق، وفيها مراسم مكتوب فيها شيء من القرآن، أو كان في الجوالق كتب الفقه، أو كتب التفسير أو المصحف، فجلس عليها أو نام، فإن كان من قصده الحفظ فلا بأس، وقد مر جنس هذا فيما تقدم، وإذا كتب اسم الله تعالى على كاغدة، ووضع تحت.... يجلسون عليها، فقد قيل: يكره، وقد قيل: لا يكره؛ قال: ألا ترى أنه لو وضع في البيت لا بأس بالنوم على سطحه؛ كذا ههنا، وإذا حمل المصحف أو شيء من كتب الشريعة على دابة في جوالق، وركب صاحب الجوالق على الجوالق؛ لا يكره.

ومما يتصل بهذا الفصل

المجاورة بمكة وقد كرهها أبو حنيفة رضي الله عنه؛ روى هشام عنه: أنه كره الجوار بمكة، قال:؛ لأنها ليست بأرض هجرة، وروى الحسن عنه: أنه كره الجوار بمكة

(5/321)


والمقام بها، وكان يقول: هاجر رسول الله عليه السلام منها. ذكر هشام في «نوادره» عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رضي الله عنهم؛ قال: أكره إجارة بيوت مكة في أيام الموسم، وأرخص فيها في غير أيام الموسم، وهكذا روى هشام عن محمد عن أبي حنيفة رضي الله عنهم قال: وكان يقول لهم أن ينزلوا عليهم في دورهم إذا كان لهم فضل، وإذا لم يكن فلا، قال هشام: وإنما قال: لهم أن ينزلوا في دورهم لقوله تعالى: {سواء العاكف فيه والباد} (الحج:25) ، وإنما فرق أبو حنيفة رضي الله عنه بين أيام الموسم، وغيرها في كراهية الإجارة؛ لأن في أيام الموسم يزدحم الخلق، وتقع الضرورة في النزول في مساكنهم، فأنزل منازلهم كالمملوك للنازلين من وجه نظراً ومرحمة لهم، وبعد أيام الموسم ترتفع الضرورة، فيعاد إلى الأصل.
ثم هذه المسألة دليل على صحة أمر إجارة البناء بدون الأرض؛ لأن الإجارة ههنا لا ترد على الأرض عند أبي حنيفة رضي الله عنه كالبيع، وإنما ترد على البناء، وقد رخص فيها في غير أيام الموسم.

الفصل السادس في سجدة الشكر
روي عن إبراهيم النخعي رضي الله عنه: أنه كان يكره سجدة الشكر، وعن محمد أن أبا حنيفة كان لا يراها شيئاً، ويستحبها قال محمد: وقد جاء فيها غير حديث، وتكلم المتقدمون في معنى قول محمد، وكان أبو حنيفة رضي الله عنه لا يراها شيئاً؛ بعضهم قالوا: معناه لا يراها قربة، وهكذا ذكر الطحاوي في اختلاف العلماء، وفي «القدوري» معناه كان لا يراها مسنوناً، وهو قريب من الأول، وبعضهم قالوا: معناه لا يراها شكراً تاماً، فتمام الشكر أن يصلي ركعتين كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، ولم يذكر محمد رحمه الله قول أبي يوسف في شيء من الكتب وذكر القاضي الإمام الزاهد ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله في «شرح كتاب السير» قول أبي يوسف رحمه الله مع محمد رحمه الله، احتج بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل به زمانة فسجد، وأمر أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فسجدا، وعن أبي بكر رضي الله عنه أنه لما أتاه فتح اليمامة سجد، وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول: السجود ركن من أركان الصلاة مفرداً، فلا يتقرب بها إلى الله تعالى على الانفراد تطوعاً قياساً على القيام المفرد، والركوع المفرد، وأما ما روي من الأحاديث قلنا: يحتمل أن المراد من السجدة المذكورة فيها الصلاة، فأهل الحجاز يسمون الصلاة سجدة، قال الله تعالى: {يا مريم اقنتي لربك واسجدي} (آل عمران:43) أي صلي، وإذا جاز تسمية الصلاة سجدة احتمل أن يكون المراد من الحديث الصلاة، فلا يكون حجة مع الاحتمال.
وبعض المتأخرين من مشايخنا قالوا: لم يرد محمد رحمه الله بقوله، وأما أبو حنيفة: فكان لا يراها شيئاً، نفي شرعيتها قربة، وإنما أراد به نفي وجوبه كذا ههنا، فعلى

(5/322)


قوله ههنا يرتفع الخلاف. ولو أتى بها إنسان لا يكون مكروهاً.

وجه الكراهة على قول النخعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما على ما ذكره «القدوري» : أنه لو فعلها من كان منظوراً إليه، وظن ظان أنه واجب (85أ2) أو سنة متبعة عند حدوث نعمة فقد أدخل في الدين ما ليس منه، وقد قال عليه السلام: «من أدخل في الدين ما ليس منه فهو مكروه» .

الفصل السابع في المسابقة
قال محمد رحمه الله: ولا بأس بالمسابقة بالأفراس ما لم يبلغ غاية لا يحتملها الفرس؛ جاء في الحديث: تسابق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فسبق رسول الله، وصلى أبو بكر وثلث عمر، معنى قوله صلى أبو بكر: أنه كان راش دابة أبي بكر عند صلاة دابة رسول الله وهو الذنب، وكذلك لا بأس بالمسابقة بالإبل والرمي لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه السلام أنه قال: «لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر» ، والمراد بالحافر الفرس، والمراد بالنصل الرمي، والمراد من الخف الإبل.
فإن شرطوا لذلك جعلاً، فإن شرطوا الجعل من الجانبين فهو حرام.
وصورة ذلك: أن يقول الرجل لغيره: تعال حتى نتسابق، فإن سبق فرسك، أو قال: إبلك أو قال: سهمك أعطيك كذا، وإن سبق فرسي، أو قال: إبلي، أو قال: سهمي أعطني كذا، وهذا هو القمار بعينه؛ وهذا لأن القمار مشتق من القمر الذي يزداد وينقص، سمي القمار قماراً؛ لأن كل واحد من المقامرين ممن يجوز أن يذهب ماله إلى صاحبه، ويستفيد مال صاحبه، فيزداد مال كل واحد منهما مرة وينتقص أخرى، فإذا كان المال مشروطاً من الجانبين كان قماراً، والقمار حرام، ولأن فيه تعليق تمليك المال بالخطر، وإنه لا يجوز.
وإن شرطوا الجعل من أحد الجانبين، وصورته: أن يقول أحدهما لصاحبه إن سبقتني أعطيك كذا، وإن سبقتك فلا شيء لي عليك، فهذا جائز استحساناً، والقياس أن لا يجوز.
وجه القياس: أن المال إذا كان مشروطاً من أحد الجانبين؛ إن كان لا يتمكن فيه معنى القمار؛ لأن المشروط له المال لا يذهب ماله بحال من الأحوال، والقمار أن يكون واحد من المقامرين بحال يجوز أن يذهب ماله، ويجوز أن يستفيد مال صاحبه لما ذكرنا

(5/323)


من اشتقاق القمر، إلا أن فيه تعليق تمليك المال بالخطر، وإنه لا يجوز، ألا ترى أن الاستباق فيما عدا هذه الأشياء الثلاثة نحو البغال والحمير لا يجوز، وإن كان المال مشروطاً من أحد الجانبين إنما لم يجز؛ لأن فيه تعليق تمليك المال بالخطر.

وجه الاستحسان: ما روينا من حديث أبي هريرة؛ ووجه الاستدلال به: أن النبي عليه السلام نفى السباق عاماً بقوله: «لا سبق» ، واستثنى الأشياء (الثلاثة) بقوله: «إلا في خف أو نصل أو حافر» ، والاستثناء من النفي إثبات، ومن التحريم إباحة، وليس المراد من الحديث ما إذا لم يكن المال مشروطاً أصلاً، فإن الاستباق بدون شرط المال جائز في الأشياء كلها، وليس المراد ما إذا كان المال مشروطاً من الجانبين؛ لأن ذلك قمار، والقمار حرام بالإجماع وبنص التنزيل، فكان المراد ما إذا كان المال مشروطاً من أحد الجانبين، والنص الوارد في الأشياء الثلاثة إذا كان مشروطاً من أحد الجانبين لا يكون وارداً فيما عدا الأشياء الثلاثة؛ لأن فيما عدا الأشياء الثلاثة نص آخر بخلافه، وهو قوله: «لا سبق» نفى السبق عاماً، واستثنى الأشياء الثلاثة ففيما عدا الأشياء الثلاثة ينتفي السبق بالنفي العام، ولأن الأشياء الثلاثة من آلات الحراب، وللناس إلى المخاطرة والرهان (في) حاجة حتى يتعلموا الفروسية والرمي، فأما ما عدا الأشياء الثلاثة فليس من آلات الحراب، ولا حاجة إلى الرهان في ذلك، وكذلك النص الوارد في الأشياء الثلاثة إذا كان المال مشروطاً من أحد الجانبين لا يعتبر وارداً فيما إذا كان المال مشروطاً من الجانبين، فالمانع فيه شيئان: القمار، وتمليك المال بالخطر، وإذا كان المال مشروطاً من أحد الجانبين، فالمانع فيه شيء واحد، وهو تمليك المال بالخطر، والجواز عند قلة المانع لا يدل على الجواز عند كثرة المانع.

ثم إذا كان المال مشروطاً من الجانبين، فأدخلا بينهما ثالثاً، وقالا للثالث: إن سبقتنا فالمالان، وإن سبقناك فلا شيء لنا، يجوز استحساناً لانتفاء معنى القمار في حق الثالث، وهو مروي عن سعيد بن المسيب.

ثم إذا أدخلا ثالثاً، فإن سبقهما الثالث استحق المالين، وإن سبقا الثالث إن سبقاه معاً فلا شيء لواحد منهما على صاحبه؛ لانعدام شرط وجوب المال فيما بينهما، وهو سبق أحدهما على صاحبه، وإن سبقاه على التعاقب، فالذي سبق صاحبه يستحق المال على صاحبه لوجود الشرط في حقه، وصاحبه لا يستحق المال عليه، لانعدام الشرط في حق صاحبه.
قال محمد رحمه الله في «الكتاب» : إدخال الثالث إنما يكون حيلة للجواز إذا كان الثالث يتوهم أن يكون سابقاً ومسبوقاً، فأما إذا كان يتيقن بأنه يسبقهما لا محالة، أو يتيقن أنه يصير مسبوقاً لا يجوز؛ لأن القياس أن لا يجوز، وإن انتفى معنى القمار في حقه لما فيه من تعليق تمليك المال بالخطر؛ إلا أنا جوزناه بخلاف القياس بالنص، وهو ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «من أدخل فرساً بين فرسين، فإن كان يأمن أن يسبق، فلا خير فيه، وإن كان لا يأمن أن يسبق، فلا بأس به» ، فالحديث أفاد الجواز

(5/324)


بشرط أن يتوهم أن يكون الثالث سابقاً ومسبوقاً، وما ثبت نصاً بخلاف القياس يراعى فيه جميع الشرائط التي ورد بها النص.
ولم يذكر محمد في «الكتاب» المخاطرة في الاستباق على الأقدام، ولا شك أن المال إذا كان مشروطاً من الجانبين فإنه لا يجوز، وإن كان مشروطاً من أحد الجانبين يجب أن يجوز لحديث الترمذي فإن كانت المسابقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخيل والركاب والأرجل، ولأن الغزاة يحتاجون إلى رياضة الجسم كما يحتاجون إلى رياضة الدواب.
وحكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل أنه إذا وقع الاختلاف بين المتفقهين في مسألة، فأراد الرجوع إلى الأستاذ، ويشترط أحدهما لصاحبه إن كان الجواب كما قلت؛ أعطيتك كذا، وإن كان الجواب كما قلت فلا آخذ منك شيئاً؛ ينبغي أن يجوز على قياس الاستباق على الأفراس.

وكذلك إذا قال واحد من المتفقهة لمثله: تعال حتى نطارح المسائل، فإذا أصبتَ وأخطأتُ أعطيك كذا، وإن أصبتُ وأخطأتَ، فلا آخذ منك شيئاً يجب أن يجوز؛ لأن في الأفراس إنما جوز ذلك حثاً على تعلم الفروسية، فيجوز ههنا أيضاً حثاً على تعلم الفقه؛ لأن كل ذلك (85ب2) يرجع إلى تقوية الدين وإعلاء كلمة الله تعالى، وبه أخذ الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله.

الفصل الثامن في السلام، وتشميت العاطس
ذكر في «النوازل» : إذا أتى إنسان باب دار غيره، يجب أن يستأذنه، ثم إذا دخل يسلم، والأصل في ذلك قوله تعالى: {لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها} (النور:27) والمراد بالاستئناس الاستئذان (لأمر) الله تعالى به، أما الاستئذان قبل السلام، وهذا في البيوت، أما في الفضاء يسلم أولاً ثم يتكلم لقوله عليه السلام: «من كلم قبل السلام فلا تجيبوه» .
وإذا قال السائل على الباب: السلام عليكم لا يجب رد السلام؛ لأن هذا ليس بسلام تحية بل هو شعار لسؤالهم، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: إذا مررت على قوم، فسلم عليهم، وإذا سلمت عليهم وجب عليهم رد السلام، والأصل في وجوب رد السلام قول الله تعالى: {فحيوا بأحسن منها أو ردوها} (النساء:86) .
واختلفوا في أن أيهما أفضل أجراً؟ قال بعضهم: الراد أفضل أجراً؛ لأن رد السلام

(5/325)


واجب، والسلام ابتداءً ليس بواجب، ولا شك أن الآتي بالواجب أفضل أجراً، وقال بعضهم: المسلم أفضل أجراً؛ لأنه سابق، فالسابق له فضل السبق، والأفضل للمسلم أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والمجيب كذلك يرد، ولا ينبغي أن يزاد على البركات شيء، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «لكل شيء منتهى، ومنتهى السلام البركات» .

ويسلم الماشي على القاعد، والصغير على الكبير، والراكب على الماشي، ويسلم الذي يأتيك من خلفك، وإذا التقى الرجلان ابتدرا بالسلام؛ نقل ذلك عن عطاء رضي الله عنه. قال الحسن: قوم يستقبلون قوماً، يبدأ الأقل بالأكثر، وقد قيل: ابتدروا، وفي حديث يزيد بن وهب عن النبي عليه السلام قال: «يسلم الراكب على الماشي، ويسلم الذي يأتيك من خلفك، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير» .
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: إذا دخل جماعة على قوم، فإن تركوا السلام، فكلهم آثمون في ذلك، وإن سلم واحد منهم جاز عنهم جميعاً، وإن سلم كلهم، فهو أفضل، وإن تركوا الجواب فكلهم آثمون وإن رد واحد منهم أجزأهم، به ورود الأثر، وهو اختيار الفقيه أبو الليث، وإن أجاب كلهم، فهو أفضل، وقال بعض المشايخ: يجب الرد على الكل، ولا نأخذ به، وينبغي للمجيب إذا رد جواب السلام أن يُسمع المسلم؛ حتى لو لم يسمعه لا يكون جواباً، ولا يخرج عن العهدة، ألا ترى أن المسلِّم إذا سلم ولم يسمع لا يكون جواباً، فإن كان المسلم أصم ينبغي أن يريه تحريك شفتيه، وكذلك في جواب العطسة.

وينبغي للمسلم إذا سلم على غيره أن يسلم بلفظ الجماعة؛ لأن المخاطب (لا) تكون معه الملائكة، وكذلك المجيب إذا رد الجواب ينبغي أن يذكر بلفظ الجماعة؛ لما قلنا.
وفي «النوازل» : رجل جالس مع قوم؛ سلم عليه رجل، وقال: السلام عليك، فرده بعض القوم ينوب ذلك عن الذي سلم عليه المسلم، ويسقط عنه الجواب، يريد به ما إذا أشار ولم يسم؛ علل فقال:؛ لأن قصده التسليم على الكل، ويجوز أن يشار إلى الجماعة بخطاب الواحد؛ هذا إذا لم يسم ذلك الرجل، فأما إذا سماه، فقال: السلام عليك يا زيد، فأجابه غير زيد، لا يسقط الفرض عن زيد، وإن لم يسم، فأشار إلى زيد يسقط؛ لأن قصده التسليم على الكل ولكن يريده زيادة.
في «فتاوى أهل سمرقند» : حكي عن الفقيه أبي جعفر أن بعضاً من العلماء من أصحاب أبي يوسف رحمه الله كان إذا مر في السوق لم يقل: السلام عليكم، ولكن قال: سلام الله عليكم، فقيل له في ذلك، فقال: التسليم تحية، وإجابة التحية فرض، قال الله تعالى: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} (النساء:86) فإذا لم يجيبوني

(5/326)


لزمني الأمر بالمعروف، فأما سلام الله تعالى عليهم دعاء ليس بتسليم فلا يلزمهم شيء، ولا يلزمني الأمر بالمعروف، فأختار سلام الله تعالى، لهذا اختلف المشايخ في التسليم على الصبيان، قال بعضهم: لا يسلم عليهم، وهو قول الحسن؛ وهذا لأن رد السلام فرض، والصبي لا تلزمه الفرائض، فلا يلزمه رد السلام، فلا يسلم عليه لهذا، وقال بعضهم: التسليم عليهم أفضل، وهو قول شريح، قال الفقيه: وبه نأخذ، وقد روي عن أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: كنت مع الصبيان إذ جاء رسول الله، وسلم علينا.

وأما التسليم على أهل الذمة، فقد اختلفوا فيه أيضاً؛ قال بعضهم: لا بأس به لما روي عن أبي إمامة الباهلي رضي الله عنه أنه قال: «أمرنا رسول الله عليه السلام بإفشاء السلام على كل مسلم ومعاهد» ، وقال بعضهم: لا يسلم عليهم لما روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالتسليم» ، وعن علي رضي الله عنه أنه قال: لا يسلم على اليهود والنصارى والمجوس، وهذا إذا لم يكن للمسلم حاجة إلى الذمي، وإن كان له حاجة، فلا بأس بالسلام عليه؛ لأن النهي عن السلام عليه لتوقيره، ولا توقير للذمي إذا كان السلام لحاجة. ويكره مصافحة الذمي؛ لأن فيه توقير الذمي، ولا بأس برد السلام على أهل الذمة، ولكن لا يزاد على قوله: وعليكم، روى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي عليه السلام أنه قال: «إن اليهود إذا سلموا عليكم فقولوا: وعليكم» ، قال الفقيه أبو الليث: إذا مررت بقوم وفيهم كفار؛ فأنت بالخيار؛ إن شئت قلت: السلام عليكم، وتريد به المسلمين، وإن شئت قلت: السلام على من اتبع الهدى، قال مجاهد: إذا كتبت إلى اليهودي، وإلى النصراني في حاجة، فاكتب: السلام على من اتبع الهدى.

وإذا دخل الرجل بيته يسلم على أهل بيته، وإن لم يكن في البيت أحد يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، رواه سعيد عن قتادة.
وإذا مر الرجل بالقارىء، فلا ينبغي أن يسلم عليه؛ لأنه يشغله عن قراءة القرآن، فإن سلم مع ذلك تكلموا فيه، واختار الصدر الشهيد رحمه الله أنه يجب عليه الرد، وهكذا حكى اختيار الفقيه أبي الليث؛ بخلاف السلام وقت الخطبة، هكذا ذكر رحمه الله في «واقعاته» ، ورأيت في «فوائد» الفقيه أبي جعفر: إذا سلم رجل على الذي يصلي، أو يقرأ القرآن؛ روي عن أبي حنيفة أنه يرد السلام بقلبه، وعن محمد أنه يمضي على

(5/327)


القراءة، ولا يشغل قلبه كما لا يشتغل لسانه.

وفي «الأصل» : لا ينبغي للقوم أن يشمتوا العاطس ولا أن يردوا السلام (86أ2) يعني وقت الخطبة، وفي صلاة «الأثر» روى محمد عن أبي يوسف: أنهم يردون السلام، ويشمتون العاطس، وتبين بما ذكر في صلاة «الأثر» ، أن ما ذكر في «الأصل» قول محمد.
قالوا: الخلاف بين أبي يوسف ومحمد في هذا بناءً على أنه إذا لم يرد السلام في الحال؛ هل يرد بعد الفراغ من الخطبة؟ على قول محمد: يرد، وعلى قول أبي يوسف: لا يرد، ولما كان من مذهب محمد الرد بعد الفراغ لو اشتغل برد السلام يفوته الاستماع، ولو اشتغل بالسماع يتأخر رد السلام ولا يفوت، والتأخير أهون من التفويت، وعند أبي يوسف لما كان يمكنه الرد بعد الفراغ لو لم يرد السلام في الحال يفوته الرد أصلاً، ولو رد يفوته الاستماع في البعض، ولا شك أن تفويت البعض أهون من تفويت الكل.
وإذا دخل القاضي المسجد، فلا ينبغي له أن يسلم على أحد الخصمين، ولو سلم على الخصوم تسليماً عاماً، فقد اختلف المشايخ فيه؛ بعضهم قالوا: له ذلك، وبه أخذ الخصاف؛ لأن السلام سنة متبعة، ولا يجوز ترك السنة بسبب تقلد العمل، وهذا القائل يقول بأن الأمير أو الوالي إذا دخل المسجد ينبغي أن يسلم، لا يسعه تركه للمعنى الذي ذكرنا، ومنهم من قال: الأولى أن لا يسلم، وهذا القائل يقول في الوالي والأمير أيضاً: إن الأولى لهما إذا دخلا المسجد أن لا يسلما؛ وهذا لأنهم إذا سلموا ترتفع الهيبة وتقل الخشية، ومبنى أمر هؤلاء على الهيبة والخشية، فلا يسلموا حتى تبقى الهيبة والخشية، هذا هو الكلام في وقت دخول المسجد، فأما إذا دخل القاضي المسجد، وجلس ناحية منه لفصل الخصومات؛ لا ينبغي له أن يسلم على الخصوم، ولا ينبغي للخصوم أن يسلموا عليه، أما القاضي؛ لأنه جلس لفصل الخصومة، فلا يشتغل بغيره، فأما الخصوم لا يسلمون؛ لأن السلام تحية الزائرين، والخصوم ما أتوه لأجل الزيارة، إنما أتوه لأجل الخصومة، هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» .

بعض مشايخنا قاسوا الولاة والأمراء على القاضي، فقالوا: إذا جلس الوالي والأمير في المسجد أو في بيته، فلا يسلم على الرعية، والرعية لا يسلمون عليه؛ قال الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي: الصحيح هو الفرق بين القضاة، وبين الأمراء والولاة، فالرعية يسلمون على الأمراء والولاة، والخصوم لا يسلمون على القضاة.
والفرق: أن السلام تحية الزائرين، والخصوم ما تقدموا إلى القاضي زائرين، فأما الرعية تقدموا إلى الأمير والوالي زائرين.
فعلى قول هذا الفرق لو جلس القاضي للزيارة، فالخصوم يسلمون عليه، ولو جلس الأمير لفصل الخصومة، فالخصوم لا يسلمون عليه، ولو سلم الخصوم على القاضي بعدما جلس ناحية من المسجد للقضاء، فلا بأس بأن يرد عليهم السلام، وهذا إشارة إلى أنه لا يجب عليه رد السلام؛ وهذا لأن الرد جواب السلام، والسلام إنما يستحق الجواب إذا كان في أوانه، أما إذا كان في غير أوانه فلا؛ ألا ترى أن من سلم على المصلي لا

(5/328)


يستحق الجواب؟ وإنما لا يستحق الجواب لما قلنا.
حكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله أنه كان يقول: من جلس لتعليم تلامذته، فدخل عليه داخل وسلم، وسعه أن لا يرد؛ لأنه جلس للتعليم لا لرد السلام، فلا يكون السلام في أوانه، وكذلك كان يقول فيمن جلس للذكر، أي ذكر كان فدخل عليه داخل وسلم عليه، وسعه أن لا يرد؛ لأنه جلس للذكر لا لرد السلام، فلا يكون السلام في أوانه.
Y

قال في كتاب «العلل» : ولا بأس بالسلام على أهل الحمام؛ وإن كانوا عراة؛ لأن ظاهر قوله عليه السلام: «وأفشوا السلام» مطلق لا فصل فيه بين شخص وشخص، وإن ترك ذلك بطريق التأديب، والزجر لهم حتى لا يفعلوا مثل ذلك، فلا بأس به. وكذلك على هذا السلام على الذي يلعب بالشطرنج، وهذا إذا كان اللعب بالشطرنج للتلهي؛ أما إذا كان لشحذ الخاطر لا بأس بالتسليم عليه؛ لأن من التابعين من لعب به، وهو الشعبي هكذا قالوا، وكتب في..... لم يرَ أبو حنيفة رضي الله عنه بالتسليم على من يلعب بالشطرنج بأساً ليشغله ذلك عما هو فيه، وكره أبو يوسف ذلك تحقيراً لهم.
ذكر محمد رحمه الله في باب الجعائل من «السير» حديثاً يدل على أن من بلغ إنساناً سلاماً عن غائب كان عليه أن يرد الجواب على المبلغ أولاً، ثم على ذلك الغائب؛ وهذا لأن المبلغ هو المسبب لوصول السلام إليه، والمسبب إلى الخير كالمباشر له، ولو أنه باشر السلام عليه استحق الرد، فكذا إذا سبب، أو نقول: الغائب محسن إليه بالسلام، والمبلغ بالتبليغ، فكان عليه أن يجازيهما. وفي «البقالي» عمن قال لآخر: أقرىء فلاناً السلام؛ يجب عليه أن يفعل.

تشميت العاطس
إذا عطس الرجل خارج (السلام) ، فينبغي أن يحمد الله تعالى، فيقول: الحمد لله رب العالمين، أو يقول: الحمد لله على كل حال، ولا يقول غير ذلك، وينبغي لمن حضره أن يقول: يرحمك الله، ويقول له العاطس: يغفر الله لنا ولكم، أو يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم، ولا يقول غير ذلك، وقد عرف في كتاب الصلاة أن المصلي إذا قال عند عطسة غير المصلي: الحمد لله، لا تفسد صلاته وإن أراد به الجواب، ولو قال: يرحمك الله؛ تفسد صلاته.

ولو عطس ثلاث مرات ينبغي أن يحمد الله في كل مرة، ولمن حضره أن يشمته ما بينه وبين ثلاث مرات، فإن زاد على الثلاث فالعاطس يحمد الله؛ أما من حضره، فبالخيار؛ إن شاء شمته، وإن شاء لم يشمته كل ذلك حسن، وعن محمد أن من عطس

(5/329)


مراراً يشمت في كل مرة، فإن أخر يكفيه مرة واحدة، فإذا عطست المرأة فلا بأس بتشميتها؛ إلا أن تكون شابة، وإذا عطس الرجل فشمتته المرأة، فإن كانت عجوزاً يرد الرجل عليها، وإن كانت شابة يرد في نفسه، والجواب في هذا كالجواب في السلام.

الفصل التاسع فيما يحل للرجل النظر إليه، وما لا يحل، وما يحل له مسه، وما لا يحل
يجب أن تعلم بأن مسائل النظر تنقسم إلى أربعة أقسام: نظر الرجل إلى الرجل، ونظر المرأة إلى المرأة، ونظر المرأة إلى الرجل، ونظر الرجل إلى المرأة (86ب2) .
أما بيان القسم الأول فنقول: يجوز أن ينظر الرجل إلى الرجل، إلا إلى عورته، وعورته ما بين سرته حتى يجاوز ركبته، والأصل فيه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده؛ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عورة الرجل ما دون سرته حتى تجاوز ركبته» ، والتعامل في الحمام في إزار واحد من غير نكير منكر، ومثل هذا التعامل حجة في الشرع.

وكان أبو عصمة سعد بن معاذ المروزي يقول: إن السرة عورة؛ لأنها إحدى حدي العورة فتكون عورة كالركبة، بل أولى؛ لأنها في معنى الاشتهاء فوق الركبة، وحجتنا في ذلك حديث عمرو بن شعيب على ما روينا عن عمر رضي الله عنه: أنه كان إذا اتزر أبدى عن سرته، والتعامل الظاهر فيما بين الناس: أنهم إذا دخلوا الحمام، أبدوا عن سرتهم عند الاتزار من غير نكير منكر، ومثل هذا التعامل حجة، وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل يقول: ما دون السرة إلى موضع نبات الشعر ليس بعورة، لتعامل بعض الناس في الإبداء عن ذلك الموضع عند الإتزار، ولكن هذا بعيد، فإن التعامل إنما يعتبر فيما لا نص فيه، دون السرة نص على ما روينا، وما جاز النظر إليه جاز مسه؛ لأن ما ليس بعورة فمسه والنظر إليه على السواء، وسيأتي الكلام فيه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وأما بيان القسم الثاني: فنقول: نظر المرأة إلى المرأة كنظر الرجل إلى الرجل؛ لأن المرأة لا تشتهي المرأة؛ كما لا يشتهي الرجل الرجل، فكما جاز للرجل النظر إلى الرجل؛ فكذا يجوز للمرأة النظر إلى المرأة.
وأما بيان القسم الثالث: فنقول: نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي تنظر إلى جميع جسده إلا ما بين سرته حتى تجاوز ركبته؛ لأن السرة فما فوقها وما تحت الركبة من الرجل ليس بعورة، وما ليس بعورة فالنظر إليه مبلغ الرجال والنساء جميعاً.

(5/330)


وأشار في «الكتاب» إلى أنها لا تنظر إلى ظهره وبطنه؛ لأن لهم النظر عند اختلاف الجنس، ألا ترى أنه لا يحل للمرأة غسل الرجل الأجنبي بعد موته، ويحل للرجل ذلك، وما ذكرنا من الجواب فيما إذا كانت المرأة تعلم يقيناً أنها لو نظرت إلى بعض ما ذكرنا من الرجل لا يقع في قلبها شهوة، فأما إذا علمت أنه يقع في قلبها شهوة أو شكت، ومعنى الشك استواء الظن، فأحب إليَّ أن تغض بصرها منه؛ هكذا ذكر محمد في «الأصل» ؛ وهذا لأن النظر عن شهوة نوع زنا، قال عليه السلام: «العينان تزنيان وزناهما النظر» ، والزنا حرام بجميع أنواعه، فقد ذكر الاستحسان فيما إذا كان الناظر إلى الرجل الأجنبي هي المرأة.
وفيما إذا كان الناظر إلى المرأة الأجنبية هو الرجل، قال: يجتنب بجهده على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله، وهو دليل الحرمة، وهو الصحيح في الفعلين جميعاً، ولا تمس شيئاً إذا كان أحدهما شاباً في حد الشهوة، وإن أمنا على أنفسهما الشهوة فقد حرم المس، وإن أمنا على أنفسهما الشهوة إذا كان أحدهما في حد الشهوة، فلم يحرم النظر إذا أمنت على نفسها الشهوة؛ لأن حكم المس أغلظ من حكم النظر حتى إن من مس سائر الأعضاء يوجب حرمة المصاهرة إن كان المس عن شهوة، والنظر إلى سائر الأعضاء سوى عين الفرج لا يوجب حرمة المصاهرة، وإن كان عن شهوة، والصوم يفسد بالمس عن شهوة، إذا اتصل به الإنزال، ولا يفسد بالنظر عن شهوة وإن اتصل به الإنزال والبلوى الذي تتحقق في النظر لا تتحقق في المس، فالرخصة في النظر عند الأمن عن الشهوة لا توجب الرخصة في المس.
فأما الأمة فيحل لها النظر إلى جميع أعضاء الرجل الأجنبي سوى ما بين سرته حتى تجاوز ركبته، وتمس جميع ذلك إذا أمنا على أنفسهما الشهوة؛ ألا ترى أنه جرت العادة فيما بين الناس أن الأمة تغمز رجل زوج مولاتها من غير نكير منكر، وإنه يدل على جواز المس.

وأما بيان القسم الرابع: فنقول: نظر الرجل إلى المرأة ينقسم أقساماً أربعة؛ نظر الزوج إلى زوجته ومملوكته، ونظر الرجل إلى ذوات محارمه، ونظر الرجل إلى الحرة الأجنبية، ونظر الرجل إلى إماء الغير.
أما نظر الرجل إلى زوجته ومملوكته: فهو حلال من فرقها إلى قدمها، عن شهوة وبغير شهوة، وهذا ظاهر؛ إلا أن الأولى أن لا ينظر كل واحد منهما إلى عورة صاحبه، قالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا رأى مني مع طول صحبتي إياه، وقال عليه السلام: «إذا أتى أحدكم أهله فليستتر ما استطاع، ولا يتجردان تجرد

(5/331)


البعير» ، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: الأولى أن ينظر الرجل إلى فرج امرأته وقت الوقاع ليكون أبلغ في تحصيل معنى اللذة، وعن أبي يوسف في «الأمالي» قال: سألت أبا حنيفة رضي الله عنه عن الرجل يمس فرج امرأته، أو تمس هي فرجه ليتحرك عليها؛ هل ترى بذلك بأساً؟ قال: أرجو أن يعظم الأجر.
وأما النظر إلى ذوات محارمه فنقول: يباح النظر إلى موضع زينة الظاهرة والباطنة، والأصل فيه قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن} (النور:31) الآية، فالاستدلال بالآية أنه ليس المراد من الزينة المذكورة في الآية عين الزينة تباع في الأسواق ويراها الأجانب، وإنما المراد مواضع الزينة، والثاني: أن الله تعالى أباح لهن إبداء الزينة للمحارم، وهي على مواضع الزينة؛ لأن إبداء الزينة، وهي على غير مواضع الزينة تباح للأجانب، وأثر الزينة وهي على موضع الزينة لا يتصور إلا بإبداء موضع الزينة، فيدل ذلك على إباحة إبداء مواضع الزينة.

ومواضع الزينة: الرأس والأذن العنق والصدر والعضد والساعد والكف والساق والرجل والوجه، فالرأس موضع التاج والإكليل، والشعر موضع العقاص، والعنق موضع القلادة، والصدر كذلك، فالقلادة قد تنتهي إلى الصدر وكذلك الوشاح، والأذن موضع القرط، والعضد موضع الدملج، والساعد موضع السوار، والكف موضع الخاتم والخضاب، والساق موضع الخلخال والخضاب، والقدم موضع الخضاب، ولأن المحارم يدخل بعضهم على بعض من غير استئذان ولا حشمة، والمرأة في بيتها تكون في ثياب مهنتها، ولا تكون مستترة، فلو أمرناها بالستر من محارمها أدى إلى الحرج.
وما يحل النظر إليه حل مسه، وغمزه من غير حائل، (78أ2) والأصل في ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل رأس فاطمة، وأبو بكر رضي الله عنه قبل رأس عائشة رضي الله عنها، وقال عليه السلام: «من قبل رجل أمه، فكأنما قبل عتبة الجنة» ، ولكن إنما يباح النظر إذا كان يأمن على نفسه الشهوة، فأما إذا كان يخاف على نفسه الشهوة، فلا يحل له النظر لما بينا قبل هذا، وكذلك المس إنما يباح له إذا أمن على نفسه وعليها الشهوة؛ أما إذا خاف على نفسه أو عليها الشهوة، فلا يحل المس له، ولا يحل أن ينظر إلى بطنها، ولا إلى ظهرها، ولا إلى جنبها، ولا يمس شيئاً من ذلك، والوجه في ذلك: أن الله تعالى سمى الظهار في كتابه منكراً من القول وزوراً، وصورة الظهار: أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي لولا أن ظهرها محرم عليه نظراً

(5/332)


ومساً، وكل شيء وإلا لما سمى الظهار منكراً من القول وزوراً، وإذا ثبت هذا في الظهر ثبت في البطن والجنبين.

وذوات المحارم من (يحرم) عليه نكاحهن بالنسب نحو الأمهات والبنات والجدات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، أو ما يحرم بالرضاع، وقد صح أن عائشة رضي الله عنها سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت: إن أفلح يدخل علي وأنا في ثياب فضل، قال عليه السلام: «ليلج عليك أفلح، فإنه عمك من الرضاعة» ، وكذلك الحرمة بالمصاهرة، إذا كانت بالنكاح بلا خلاف.
واختلفوا فيما إذا كانت بالزنا فبعض المشايخ؛ قالوا: لا يثبت بها حل النظر والمس؛ لأن ثبوت الحرمة على الزاني بطريق العقوبة لا بطريق النعمة؛ ولأنه قد جرب مرة وظهرت جناية فلا يؤتمن ثانياً، قال شمس الأئمة السرخسي: والأصح أنه لا بأس بذلك، وقاسه على ما إذا كانت هذه الحرمة بسبب النكاح.

قال محمد رحمه الله: ويجوز له أن يسافر بها، وأن يخلو بها يعني لمحارمه إذا أمن على نفسه، وهذا لقوله عليه السلام: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر فوق ثلاثة أيام ولياليها إلا ومعها زوجها، أو ذي رحم محرم» ، فقد أباح للمرأة المسافرة مع ذي الرحم المحرم، وإنه يوجب إباحة المسافرة للمحرم معها، ولأن حرمة المسافرة والخلوة بالأجنبيات لخوف الفتنة بواسطة الشهوة، والإنسان لا يشتهي محارمه غالباً، فصار من هذا الوجه كالخلوة والمسافرة مع الجنس، فإن علم أنه يشتهيها، أو تشتهيه لو سافر بها أو خلا بها، أو كان أكثر رأيه ذلك أو شك، فلا يباح له ذلك لما ذكرنا، وإن احتاج إلى حملها، وإنزالها في السفر، فلا بأس بأن يأخذ ببطنها وظهرها من وراء الثياب؛ لأن المس من فوق الثياب لا يفضي إلى الشهوة غالباً، فصار كالنظر، وقد صح أن ابن عمر رضي الله عنهما: رأى رجلاً حمل أمه على عاتقه يطوف بها، ولم ينكر عليه، فإن خاف الشهوة على نفسه أو عليها، فليجتنب بجهده، وذلك بأن يجتنب أصلاً متى أمكنها الركوب والنزول بنفسها، وإن لم يمكنها ذلك تكلف المحرم في ذلك زيادة تكلف بالثياب حتى لا تصل إليه حرارة بدنها، وإن لم يمكنه ذلك؛ تكلف لدفع الشهوة عن قلبه يعني: لا يقصد بما فعل قضاء الشهوة.
وأما النظر إلى إماء الغير، والمدبرات وأمهات الأولاد، فهو كنظر الرجل إلى ذوات محارمه، والأصل في ذلك ما روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: كن جواري عمر رضي الله عنه يخدمن الضيفان كاشفات الرؤوس مظهرات اليدين، ولأن الأمة تحتاج إلى الخروج لحوائج مولاها، وإنما تخرج في ثياب مهنتها، فحالها مع جميع الرجال في معنى

(5/333)


البلوى؛ كحال المرأة مع ذوي محارمها، وكان محمد بن مقاتل الرازي يقول: يجوز النظر إلى بطنها وظهرها وجنبها، ويروى في ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: من أراد أن يشتري جارية، فلينظر إليها، إلا إلى موضع المئزر، وهذا القول ليس بصحيح. تأويل الحديث: أن المرأة قد تتزر على الصدر، فهو مراد ابن عباس رضي الله عنه، قال: وكل ما يباح النظر إليه منها يباح مسه إذا أمن الشهوة على نفسه وعليها، والأصل في ذلك ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه مر بجارية تباع، فضرب يده على صدرها، ومس ذراعيها وقال: اشتروا فإنها رخصة، والمعنى أن المسح للنظر الحاجة، وكما مست الحاجة إلى النظر مست الحاجة إلى اللمس ليعرف أن يشتريها.
ولم يذكر محمد رحمه الله في شيء من الكتب الخلوة، والمسافرة بإماء الغير، وقد اختلف المشايخ فيه؛ منهم من قال: يحل، وإليه مال الحاكم الشهيد، ومنهم من قال: (لا) يحل، وبه كان يفتي الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي، والذين قالوا بالحل اختلفوا فيما بينهم؛ بعضهم قالوا: ليس له أن يعالجها في الإنزال والإركاب؛ لأنه يشتهيها، وبعضهم قالوا: له ذلك إذا أمن على نفسه الشهوة وعليها؛ وهذا لأن المولى قد يبعثها إلى بلدة أخرى في حاجته، وعسى تحتاج إلى من يركبها وينزلها، ولأجل الحاجة جوز النظر والمس في سائر المواضع.

وأما النظر إلى الأجنبيات: فنقول: يجوز النظر إلى مواضع الزينة الظاهرة منهن، وذلك الوجه والكف في ظاهر الرواية، والأصل فيه قوله تعالى: {ولا يبديين زينتهن إلا ما ظهر منها} (النور:31) قال علي وابن عباس رضي الله عنهم: ما ظهر منها الكف والخاتم، وروي: أن امرأة عرضت نفسها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى وجهها، فلم يرَ فيها رغبة، ورأى رسول الله عليه السلام كف امرأة غير مخضوبة فقال: «أكف رجل هذا» ؟ ولما ناول فاطمة أحد ولديها بلالاً أو أنساً، قال: «رأيت كفها كأنها فِلْقَة قمر» ؛ ولأنها تحتاج إلى إبداء وجهها في المعاملات لتحل الشهادة عليها، وتحتاج إلى إبداء كفها عند الأخذ والإعطاء.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنهما: أنه يجوز النظر إلى قدمها أيضاً؛ لأنها تحتاج إلى إبداء قدمها إذا مشت حافية أو متنعلة، فإنها لا تجد الخف في كل وقت، وفي رواية أخرى عنه قال: لا يجوز النظر إلى قدمها.
وفي «جامع البرامكة» عن أبي يوسف: أنه يجوز النظر إلى ذراعيها أيضاً؛ لأنها تصير مبتلياً بإبداء ذراعيها عند الغسل والطبخ، قيل: فكذلك يباح النظر إلى ثناياها؛ لأن ذلك يبدوا منها عند التحدث مع الرجال في المعاملات، وذلك كله إذا لم يكن النظر عن شهوة، فإن كان يعلم أنه لو نظر (87ب2) اشتهى، أو كان أكثر رأيه ذلك، فليجتنب

(5/334)


بجهده ولا يحل له أن يمس وجهها ولا كفها، وإن كان يأمن الشهوة بخلاف النظر؛ وهذا لأن حكم المس أغلظ من حكم النظر، والضرورة في المس قاصرة فلا يلحق المس بالنظر؛ هذا إذا كانت شابة تشتهى.

فإن كانت عجوزاً لا تشتهى فلا بأس بمصافحتها، ومس يدها، والأصل في ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصافح العجائز في البيعة، ولا يصافح الشواب، ولأن الحرمة في الشواب لخوف الفتنة، ولا خوف في العجائز، وكذلك إذا كان شيخاً يأمن على نفسه وعليها فلا بأس بأن يصافحها، وإن كان لا يأمن على نفسه أو عليها، فليجتنب لما مر من قبل هذا.
ثم إن محمداً رحمه الله أباح المس للرجال إذا كانت المرأة عجوزاً، ولم يشترط كون الرجل بحال لا يجامع مثله فيما إذا كان الماس هي المرأة، قال: إذا كانا كبيرين لا يجامع مثله، ولا يجامع مثلها، فلا بأس بالمصافحة، فليأمل عند الفتوى.
وإن كان عليها ثياب، فلا بأس بأن يتأمل جسدها؛ لأن نظره إلى ثيابها لا إلى جسدها، فهو كما لو كانت في بيت فنظر إلى جدارها، وهذا إذا لم تكن ثيابها ملتزقة بها، بحيث تصف ما تحتها،...... .... ولم يكن رقيقاً بحيث يصف ما تحته، وإن كانت بخلاف ذلك فينبغي له أن يغض بصره؛ لأن هذا الثوب من حيث إنه لا يسترها بمنزلة شبكة عليها، والأصل فيه ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا تلبسوا نساءكم الكتان والقباطي، فإنها إن تشف تصف، وهذا إذا كانت في حد الشهوة، وإن كانت صغيرة لا يشتهى مثلها، فلا بأس بالنظر إليها ومن مسها؛ لأنه ليس لبدنها حكم العورة، ولا في النظر والمس معنى خوف الفتنة، والأصل فيه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يقبل زب الحسن والحسين في صغرهما» ، وروي: أنه كان يأخذ ذلك من أحدهما، فيجره والصبي يضحك.

ثم النظر إلى الحرة الأجنبية قد يصير مرخصاً عند الضرورة لما عرف: أن مواضع الضرورة مستثناة عن قواعد الشرع، ومن مواضع الضرورة إذا دعي الرجل إلى شهادة يعني أداء الشهادة عليها، وأراد الحاكم أن ينظر إليها ليجيز إقراره عليها، وكان إذا نظر اشتهى، أو كان أكثر رأيه ذلك، فلا بأس بالنظر إليها؛ لأن الشاهد لا يجد بداً من النظر إلى المشهود عليه في أداء الشهادة، ليكون الأداء عن علم، وكذلك القاضي لا يجد بداً من النظر وقت الحكم حتى لا يقع الحكم على غير المستحق عليه.
وكذلك لو أراد أن يتزوجها؛ لا بأس بالنظر إليها وإن كان فيه شهوة، قال عليه السلام للمغيرة بن شعبة حين أراد أن يتزوج امرأة: «انظرها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما» ، ولكن

(5/335)


عند النظر ينبغي أن لا يقصد قضاء الشهوة، وإنما يقصد أداء الشهادة والحكم عليها.
واختلف المشايخ فيما إذا دعي إلى تحمل الشهادة عليها، وهو يعلم أنه لو نظر إليها اشتهى، فمنهم من جوز ذلك، بشرط أن يقصد تحمل الشهادة لا قضاء الشهوة، قال شيخ الإسلام رحمه الله: والأصح أنه لا يباح ذلك؛ إذ لا ضرورة في تحمل الشهادة، فقد يوجد من لا يشتهيها بالنظر إليها؛ بخلاف حالة الأداء؛ لأن الشاهد التزم تلك الأمانة، وهو متعين لأدائها.
وكذلك إذا اشترى جارية، فلا بأس بأن ينظر إلى شعرها وصدرها وساقها وإن اشتهى؛ لأن المالية مطلوبة بالشراء، ولا يصير مقدارها معلوماً إلا بالنظر إلى هذه المواضع، فلأجل الحاجة جاز النظر، ولا يحل له أن يمس شيئاً منها إن اشتهى، أو كان عليه أكثر رأيه، فقد ذكرنا أن حكم المس أغلظ من حكم النظر.

قال: ولا يحل النظر إلى العورة، إلا عند الضرورة؛ قال سلمان الفارسي رضي الله عنه:؛ لأن أخرّ من السماء، فأنقطع نصفين؛ أحب إلي من أن أنظر إلى عورة أحد، أو ينظر أحد إلى عورتي، مع هذا إذا جاء العذر، فلا بأس بالنظر إليها، فمن جملة الأعذار الختان، والختان ينظر عند ذلك الفعل، وكذلك الخافضة تنظر؛ وهذا لأن الختان سنة، وهو من جملة الفطرة في حق الرجل لا يمكن تركه، ومن ذلك عند الولادة، والمرأة تنظر إلى موضع الفرج من المرأة وغيره؛ لأنه لابد من قابلة تقبل الولد وتعالجه، وبدونها تخاف الهلاك على الولد، وعند قبول الولد ومعالجته يحتاج إلى النظر فأبيح لأجل الحاجة، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جوز شهادة القابلة على الولادة، فذلك دليل على أنه يباح لها النظر.
وكذلك ينظر الرجل من الرجل إلى موضع الاحتقان عند الحاجة إليه؛ بأن كان مريضاً؛ لأن الضرورة قد تحققت، والاحتقان من المداواة، قال عليه السلام: «تداووا عباد الله، فإن الله تعالى لم يخلق داءً إلا وخلق له الدواء، إلا السام والهرم» ، وقد روي عن أبي يوسف: أنه إذا كان به هزال، فاحتقن؛ قيل له: إن الحقنة تزيل ما بك من الهزال، فلا بأس بأن يبدي ذلك الموضع للمحتقن، وهذا صحيح، فإن الهزال الفاحش نوع مرض يكون آخره.... والسل، وحكي عن الشافعي قال: إذا قيل له: إن الحقنة تقويك على المجامعة، فلا بأس بذلك، وهذا ضعيف؛ لأن الضرورة لا تتحقق بهذا. وكشف العورة من غير ضرورة لمعنى الشهوة لا يجوز.

وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب الصوم أن الحقنة إنما تجوز عند الضرورة، وإذا لم يكن ثمة ضرورة، ولكن فيها منفعة ظاهرة بأن كان يتقوى بسببها على

(5/336)


الجماع لا يحل عندنا، وإن كان به هزال، فإن كان هزالاً يخشى منه التلف يحل، وما لا فلا، وذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في «فتاويه» في باب الطهارات؛ قال محمد بن مقاتل الرازي: لا بأس بأن يتولى صاحب الحمام عورة إنسان بيده عند التنوير إذا كان يغض بصره كما أنه لا بأس به إذا كان يداوي جرحاً أو قرحاً، قال الفقيه: وهذا في حالة الضرورة لا في غيرها؛ لأن كل موضع لا يجوز النظر إليه لا يجوز مسه، إلا من فوق الثياب، وينبغي لكل أحد أن يتولى عانته بيده إذا تنور، فإنه روي عن النبي عليه السلام كان يتولى ذلك بنفسه.f
وإذا أصابت المرأة قرحة في موضع لا يحل للرجل أن ينظر إليه، علم امرأة دواءها لتداويها؛ لأن نظر الجنس إلى الجنس أخف وكذا في امرأة العنين تنظر إليها النساء، فإن قلن: هي بكر (88أ2) فرق القاضي بينهما، وكذا لو اشترى جارية على أنها بكر، فقبضها فقال: وجدتها ثيباً؛ تنظر إليها النساء للحاجة إلى فصل الخصومة، وإن لم يجدوا امرأة تداوي تلك القرحة، ولم يقدروا على امرأة تعلم ذلك، وخافوا أنها تهلك، أو يصيبها بلاء أو وجع، فلا بأس بأن يستر منها كل شيء إلا موضع تلك القرحة، ثم يداويها رجل، ويغض بصره ما استطاع إلا عن ذلك الموضع؛ لأن نظر الجنس إلى غير الجنس أغلظ، فيعتبر فيه تحقق الضرورة، وذلك عند خوف الهلاك، وذوات المحارم والأجنبيات في هذا على السواء؛ لأن النظر إلى العورة لا يحل بسبب المحرمية.

والعبد فيما ينظر إلى مولاته كالحر الأجنبي حتى لا يحل له أن ينظر إلا إلى وجهها وكفها، وهذا مذهبنا، وقال مالك: نظره إليها كنظر الرجل إلى ذوات محارمه لقوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانهن} (المؤمنين:6) ، ولا يجوز أن يحل ذلك على الإماء؛ لأن الإماء دخلن في قوله تعالى: {أو نسائهن} (النور:31) ؛ ولأن هذا مما لا يشكل أن الأمة تنظر إلى مولاتها، وإنما يحمل البيان على موضع الإشكال، ولأن إباحة النظر إلى ذوات المحارم لأجل الحاجة، وهو دخول البعض من غير استئذان ولا حشمة، وهذا يتحقق فيما بين العبد ومولاته.
حجتنا في ذلك حديث سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير فإنهما قالا: لا تغرنكم سورة النور، فإنها في الإناث دون الذكور، ومرادهما قوله تعالى: {وما ملكت أيمانهن} (المؤمنون: 6) والموضع موضع الإشكال؛ لأن حالة الأمة تقرب من حال الرجال؛ حتى تسافر بغير محرم، فكان يشكل أنه هل يباح لها الكشف بين يدي أمتها؟ ولم يزل هذا الإشكال، بقوله تعالى: {أو نسائهن} (النور: 31) ؛ لأن مطلق هذا اللفظ يتناول الحرائر دون الإماء، والمعنى فيه: أنه ليس بينهما زوجية ولا محرمية. وحل النظر إلى مواضع الزينة الباطنة؛ يبنى على هذا السبب؛ وهذا لأن حرمة النظر إلى مواضع الزينة الباطنة لمعنى خوف الفتنة، وخوف الفتنة ينعدم بالمحرمية؛ لأن الحرمة المؤبدة تقلل الشهوة، فأما الملك لا يقلل الشهوة، بل يحملها على رفع الحشمة، ومعنى البلوى لا يتحقق أيضاً؛ لأن العبد إنما يتخذ لخدمة خارج البيت؛ لا يخدم داخل البيت على ما قيل من الحد عند الخدمة داخل البيت،

(5/337)


فهو كسجّان

ويستوي في ذلك الخصي والفحل؛ قالت عائشة رضي الله عنها: الخصي مثله، فلا يبيح ما كان حراماً قبله، ولأن معنى الفتنة لا تنعدم بالخصي، فالخصي قد يجامع، وقيل: هو أشد الناس جماعاً، وكذلك المجبوب الذي لم يجف ماؤه؛ لأنه ينزل بالسحق فلا ينعدم معنى الفتنة، وإن كان مجبوباً قد جف ماؤه، فقد رخص بعض مشايخنا في حقه بالاختلاط بالنساء؛ لوقوع الأمن من الفتنة، والأصح أنه لا يحل ذلك، ومن رخص فيه تأول قول الله تعالى: {أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال} (النور:31) الآية وبين أهل التفسير كلاماً في معنى هذا، فقيل: هو المجبوب الذي جف ماؤه، وقيل: هو المخنث الذي لا يشتهي النساء، والكلام في المخنث عندنا أنه إن كان مخنثاً في الرديء من الأفعال، فهو كغيره من الرجال، هو من.... وينحى عن النساء، فأما إذا كان في أعضائه لين، أو في لسانه تكسر بأصل الخلقة، ولا يشتهي النساء، ولا يكون مخنثاً في الرديء من الأفعال، فقد رخص بعض مشايخنا في ترك مثله مع النساء لما روي أن مخنثاً كان يدخل بعض بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع منه رسول الله عليه السلام كلمة فاحشة، فإنه قال: لعمر بن أبي سلمة: إن فتح الله تعالى على رسوله الطائف لأدلنك على بنت غيلان فإنها تقبل بأربع، وتدبر بثمان فقال: «ما كنت أعلم أنه يعرف مثل هذا، أخرجوه» ، وقيل: المراد بقوله: {أو التابعين غير أولي الإربة} الذي لا يدري ما يصنع بالنساء، إنما همته بطنه، وفي هذا كلام أيضاً عندنا إذا كان شاباً ينحى عن النساء، وإنما ذلك إذا كان شيخاً كبيراً قد ماتت شهوته، فحينئذٍ يرخص في ذلك، والأصح أن يقول قوله تعالى: {أوالتابعين} من المتشابه، وقوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} (النور:3) محكم فنأخذ بالمحكم، فنقول: كل من كان من الرجال لا يحل لها أن تبدي موضع الزينة الباطنة بين يديه، ولا يحل له أن ينظر إليها إلا أن يكون صغيراً، فحينئذٍ لا بأس بذلك، بقوله تعالى:

{أو الطفل الذين} (النور:31) الآية ولا بأس بدخول الصبي على النسوان ما لم يبلغ حد الحلم، وذلك خمس عشر سنة؛ لأنه لا يحتلم.

ومما يتصل بهذا الفصل
جماع الحائض في الفرج: وإنه حرام بالنص، يكفر مستحله ويفسق مباشرة لقوله تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض} (البقرة:222) ، وفي قوله تعالى: {ولا تقربوهنَّ حتى يطهرن} (البقرة: 222) ، دليل على أن الحرمة تمتد إلى الطهر، وقال عليه السلام: «من أتى امرأته في غير مأتاها أو أتاها في حالة الحيض، أو أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد» ، ولكن لا يلزمه بالوطء سوى الاستغفار والتوبة، ومن العلماء من

(5/338)


يقول: إن وطئها في أول الحيض فعليه أن يتصدق بدينار، وإن وطئها في آخر الحيض فعليه أن يتصدق بنصف دينار، ورووا فيه حديثاً شاذاً، ولكن الكفارة لا تثبت بمثله.
وحجتنا في ذلك: ما روي أن رجلاً جاء إلى الصديق رضي الله عنه، فقال: إني رأيت في منامي كأني أبول دماً، فقال: أتصدقني؟ فقال: نعم، فقال: إنك تأتي امرأتك في حالة الحيض، فاعترف بذلك فقال: استغفر الله ولا تعدْ، ولم يلزمه الكفارة.
واختلفوا فيما سوى الجماع، فقال أبو حنيفة رضي الله عنه: له أن يستمتع بها فوق المئزر وليس له ما تحته، وقال محمد رحمه الله: يتجنب شفار الدم وله ما سوى ذلك، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنهما، وذكر الطحاوي قول أبي يوسف مع أبي حنيفة، وذكر الكرخي مع محمد.

وجه قوله الاستدلال بقوله تعالى: {قل هو أذى} (البقرة:222) ففيه بيان أن الحرمة لمعنى استعمال الأذى، وذلك في محل مخصوص، وروي في «الكتاب» عن الصلت بن دينار، وعن معاوية بن مرة قال: سألت عائشة رضي الله عنها ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض، قالت: يتجنب شفار الدم، وله ما سوى ذلك، وفي حديث آخر عن عائشة رضي الله عنها قالت: للرجل من امرأته الحائض كل شيء إلا النكاح يعني الجماع، والمعنى فيه أن ملك النكاح باقٍ زمان الحيض، وحرمة الفعل لمعنى استعمال الأذى، وذلك فعل لا يكون فيه معنى استعمال الأذى، فهو حلال مطلق كما كان قبل الحيض، وقاسه بالاستمتاع (88ب2) فوق المئزر.
وحجة أبي حنيفة رضي الله عنه قوله تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض} (البقرة:222) فظاهره يقتضي تحريم الاستمتاع بكل عضو منها فيما اتفق عليه الآثار صار مخصوصاً من هذا الظاهر، وبقي ما سواه على الظاهر، وروي أن وفداً سألوا عمر رضي الله عنه عما يحل للرجل من امرأته الحائض، فقال: سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «للرجل من امرأته الحائض ما فوق المئزر، وليس له ما تحته» ، والمعنى فيه: أن الاستمتاع في موضع الفرج يحرم عليه، وإذا قرب من ذلك الموضع لا يأمن على نفسه أن يقع في الحرام، فليجتنب من ذلك بالاكتفاء بما فوق المئزر.

ولا ينبغي أن يعتزل فراشها، فإن ذلك تشبه باليهود، وقد نهينا عن التشبه بهم؛ روي أن ابن عباس رضي الله عنهما فعل ذلك، فبلغ ميمونة رضي الله عنهما، فأنكرت عليه وقالت: أترغب عن سنة رسول الله عليه السلام تضاجعنا في فراش واحد في حالة الحيض.

ذكر في «الجامع الصغير» عن أبي حنيفة رضي الله عنه: إذا حاضت الأمة لم تعرض في إزار واحد ترتديه مكشوف البطن والظهر؛ لأنها إذا حاضت فقد بلغت، وثبت لأعضائها حكم العورة، فلا يحل للأجنبي النظر إلى بطنها وظهرها، وإنما يحل النظر إلى مواضع الزينة الظاهرة والباطنة كما في المحارم.

(5/339)


الفصل العاشر في اللبس؛ ما يكره من ذلك، وما لا يكره
ذكر محمد رحمه الله في «السير» في باب العمائم حديثاً يدل على أن لبس السواد مستحب، وأن من أراد أن يجدد اللف بعمامته ينبغي أن ينقضها كوراً كوراً، وإن ذلك أحسن من رفعها عن رأسه وإلقائها في الأرض دفعة واحدة، وإن المستحب إرسال ذنب العمامة بين الكتفين، واختلفوا في مقدار ما ينبغي أن من يكون من ذنب العمامة، منهم من قدره بشبر، ومنهم من قال: إلى وسط الظهر، ومنهم من قال: إلى موضع الجلوس.
وذكر فيه أيضاً: أنه لا بأس بلبس القلانيس، فقد صح أنه كان لرسول الله عليه السلام قلانيس يلبسها.
ذكر في «الجامع الصغير» عن أبي حنيفة: أنه كان يكره لبس الحرير والديباج، وكان لا يرى بالتوسد به والنوم عليه بأساً، وقال محمد رحمه الله: يكره التوسد والنوم كما يكره اللبس، وقول أبي يوسف رحمه الله مثل قول محمد.
يجب أن تعلم بأن لبس الحرير وهو ما كان لحمته حريراً وسداه حريراً حرام على الرجال في جميع الأحوال عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا يكره في حالة الحرب، ويكره في غير حالة الحرب، ومن العلماء من قال: لا يكره ذلك في الأحوال كلها. وفي «شرح القاضي الإمام الإسبيجابي» رحمه الله: أن عند أبي يوسف ومحمد إنما لا يكره لبس الحرير للرجال في حالة الحرب إذا كان صفيقاً يدفع مضرة السلاح.
والكلام في موضعين: في حالة الحرب، وفي غير حالة الحرب:
أما في حالة الحرب: فحجة قول من قال بعدم الكراهية ما روى عقبة بن عامر أن النبي عليه السلام صلى وعليه حرير.

وجه قول عامة العلماء: ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن لبس الحرير والديباج، وقال: «إنما يلبسه من لا خلاق له في الآخرة» ، وعنه عليه السلام أنه نهى عن لبس الحرير والديباج إلا قدر إصبعين، أو ثلاثة، أو أربعة، وأراد به الأعلام،

(5/340)


وعن عمر رضي الله عنه: أنه بعث جيشاً وغنموا غنائم، فلما رجعوا فلبسوا الحرير والديباج، فلما رآهم أعرض عنهم، وقال: انزعوا عنكم ثياب أهل النار، فنزعوا.
وما رواه الخصم محمول على ما قبل التحريم؛ الدليل عليه ما روى أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس جبة حرير، وذلك قبل أن ينهى عنه، ولأن هذا من زي الأعاجم وتشبه بالأكاسرة، وذلك منهي. قال عمر رضي الله عنه: «إياكم وزي الأعاجم» ، وهذا إذا لم تقع الحاجة إليه، فأما إذا وقعت الحاجة إليه فلا بأس بلبسه؛ لما روي عن عبد الرحمن بن عوف، والزبير رضي الله عنهما أنه كان بهما جرب كثيرة، فاستأذنا رسول الله عليه السلام في لبس الحرير فأذن لهما فيه.

وكما يكره لبس ما كان لحمته حريراً وسداه حريراً في غير حالة الحرب، فكذلك يكره لبس ما كان لحمته حريراً وسداه غير حرير، وأما ما كان سداه حريراً ولحمته غير حرير فلا بأس بلبسه بلا خلاف بين العلماء، وإنما كان كذلك؛ لأن الثوب إنما يصير ثوباً بالنسج، والنسج إنما يتأتى باللحمة والسدى، واللحمة آخرهما فيضاف صيرورته ثوباً على اللحمة، فإذا كانت اللحمة من الحرير فكأن الكل من الحرير حكماً، وإذا كانت اللحمة غير حرير، فكأن الكل غير حرير، فقد اعتبر اللحمة في هذه المسائل، فقيل: هذا إذا كانت اللحمة غالبة على السدى، وقيل: لا بل العبرة للحمة على كل حال وهو الصحيح، وعليه عامة المشايخ.

وذكر شيخ الإسلام في شرح «السير» في باب الثوب: إذا كان لحمته من قطن أو كتان، وسداه من إبريسم، فإن كان الإبريسم يرى كره للرجال لبسه، وإن كان لا يرى لا يكره لهم لبسه، فعلى هذا يكره للرجال لبس العتابي، وإليه أشار محمد رحمه الله في هذا الباب أيضاً؛ هذا هو الكلام في غير الحرب.
جئنا إلى حالة الحرب، فنقول: لا شك أن ما كان لحمته غير حرير وسداه حرير يباح لبسه في حالة غير الحرب، فلأن يباح لبسه في حالة الحرب والأمر فيه واسع كان أولى. وأما ما كان لحمته حريراً وسداه غير حرير، فإنه يباح لبسه في حالة الحرب بالإجماع، وإنما يباح لنوع ضرورة وحاجة تختص بحالة الحرب؛ وذلك لأن في لبسه يهيب بصورته، وبريقه، ولمعانه، ولونه، وبمعناه يحصل دفع حضور السلاح كان القز يدفع مضرة السلاح، وقد جاءت السنة في الإطلاق عند الحاجة، فإن النبي عليه السلام أطلق للزبير، وعبد الرحمن بن عوف لبس الحرير على ما روينا، وأما ما كان لحمته حريراً وسداه حريراً، ففي لبسه حالة الحرب خلاف بين علمائنا على ما مر.

(5/341)


حجتهما: حديث الشعبي أن النبي عليه السلام رخص في لبس الحرير والديباج في الحرب، ولأن الحاجة مست إلى ذلك؛ لأن الخالص أدفع لمضرة السلاح، وأهيب في عين الناظرين.
واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه بعموم النهي، ورد عن الحسن وعكرمة أنهما قالا: التولي عن الحرام في حالة التعرض للشهادة أولى، ولأن الحرام لا يحل إلا عند الضرورة، والضرورة اندفعت بالمخلوط؛ لأن المخلوط ما لحمته حرير أو سداه حرير، والذي سداه حرير ولحمته غير حرير ليس له حكم الحرير بالإجماع، والذي لحمته حرير، وإن كان (89أ2) حريراً في الحكم، ففيه شبهة الغزل؛ لأنه موجود وإن لم ينسب إليه، فصار هذا حريراً ناقصاً، والمهابة تحصل بظاهره، والدفع بمعناه يحصل أيضاً؛ لأنه إن كان للخالص من الحرير مزية الخلوص، فلهذا مزية القوة والثخانة فاستويا، فيجب أن يكتفى بالأدنى عن الأعلى، فيباح الأدنى ويبقى الأعلى على أصل الحرمة، وحديث الزبير وعبد الرحمن بن عوف، فإنما أطلق لهما؛ لأن ضرر الحكة كان لا يندفع إلا بالدقيق الخالص، وأمر الحرب على ضد ذلك، أو نقول: كان ذلك قبل النهي والتحريم.

هذا هو الكلام في حق الرجال، بقي الكلام في حق النساء؛ قال عامة العلماء: يحل لهن لبس الحرير الخالص، وبعضهم قالوا: لا يحل، وهذا القائل يحتج بعموم النهي، وعامة العلماء احتجوا بما روى علي وابن عمر وأبو موسى الأشعري، وعقبة بن عامر رضي الله عنهم؛ أن النبي عليه السلام خرج يوماً وبإحدى يديه حرير وبالأخرى ذهب، فقال: «هذان حرام على ذكور أمتي حلّ لإناثهن» . وأعطى رسول الله عليه السلام حريراً لعلي رضي الله عنه فكره ذلك عليه، وأمره أن يقطعه خُمراً للفواطم الأربع، وهي: أمه، وفاطمة الزهراء زوجته، وفاطمة حمزة، وفاطمة أخرى رضي الله عنهن، وأما لبس ما علمه حرير أو مكفوف به فمطلق عند عامة الفقهاء خلافاً لبعض الناس بعموم النهي.

ولعامة العلماء حديث عائشة رضي الله عنها في لبس رسول الله عليه السلام قطيفة علمها حرير، وفي حديث أسماء: أن النبي عليه السلام كان يلبس جبة مكفوفة بالحرير؛ لأن القليل من الفضة وهو الخاتم يحل للرجال ترغيباً في نعيم الآخرة، فكذلك العلم. وذكر «القدوري» في «شرحه» :: أن النبي عليه السلام لبس خوذة أطرافها من الديباج، فهذا دليل على أنه لا بأس بمثل هذا الثوب، وعن هشام عن أبي حنيفة

(5/342)


رضي الله عنهما أنه لم يرَ بأساً بالعلم في الثوب قدر أربعة أصابع؛ قال: لأن العلم يكون تابعاً للثوب، فلا يكون لابساً له.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: إذا لبس قميصه حريراً، أو عروة أو إزراراً لم يكن عندي بذلك بأس، وهو كالعلم يكون في الثوب، ومعه غيره (فلا) بأس به، وإن كان وحده كرهه، وأكره تكة الحرير؛ لأنها تلبس وحدها؛ وهذا لأنه إذا كان مع غيره فاللبس لا يكون مضافاً إليه؛ بل يكون هو تبعاً في اللبس، والمحرم لبس الحرير.
وفي شرح «الجامع الصغير» لبعض المشايخ؛ لا بأس بتكة الحرير للرجل عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وذكر الصدر الشهيد رحمه الله في أيمان «الواقعات» أنه يكره عند أبي يوسف ومحمد، وفي حاشية شرح «الجامع الصغير» للصدر الشهيد مكتوب بخطه أن في تكة الحرير اختلاف بين أصحابنا.
ويكره لبس الثوب المعصفر للرجال، روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس المعصفر وقال: «إياكم والحمرة فإنها زي الشيطان» ، وفي «المنتقى» : وكان أبو حنيفة رضي الله عنه يكره للرجال أن يلبسوا الثوب المصبغ بالمعصفر أو بالورس أو بالزعفران للأثر الوارد فيه، وذكر هشام عن محمد أنه لم يرَ باللباس المرتفع جداً بأساً، وكذا لم يرَ باللبد الأحمر للسرج بأساً.
وفي «مجموع النوازل» وسئل عن الزينة والتجمل في الدنيا، قال: خرج رسول الله عليه السلام ذات يوم وعليه رداء قيمته ألف درهم، وربما قام إلى الصلاة وعليه رداء قيمته أربعة آلاف درهم، ودخل عليه رجل يوماً من أصحابه وعليه خز، فقال عليه السلام: «إن الله تعالى إذا أنعم على عبد نعمة يحب أن يرى آثار نعمته عليه» وأبو حنيفة رضي الله عنه كان يرتدي رداء قيمته أربع مائة دينار، وأباح الله تعالى الزينة لقوله: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده} (الأعراف: 32) ، وكان أبو حنيفة رضي الله عنه يقول لنا بكوفة: إذا رجعتم إلى أوطانكم فعليكم بالثياب النفيسة، وإياكم والثياب الخسيسة فإن الناس ينظرون إليكم بعين الرحمة، فهو مع زهادته وورعه كان يوصيهم بهذا.
ومحمد بن الحسن رحمه الله كان يلبس الثياب النفيسة، فقيل له في ذلك، فقال: لي نساء وجوار فأزين نفسي كيلا ينظرون إلى غيري، ومحمد بن الحسن كان يتعمم بعمامة سوداء، فدخلت عليه يوماً مستغنية وقفت متحيرة تنظر في وجهه، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أتعجب من بياض وجهك تحت سواد عمامتك، فوضعها عن رأسه ولم يتعمم بعمامة سوداء بعد ذلك.

قيل للشيخ: أليس روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يلبس قميصاً عليه كذا كذا

(5/343)


رقعة، قال: إنما فعل عمر رضي الله عنه لنوع من الحكمة، وهو أنه كان أمير المؤمنين، فلو لبس ثياباً نفيسة واتخذ لنفسه ألواناً من الأطعمة، فعماله وحشمه يقتدون به، وربما لا يكون لهم مال فيأخذون من المسلمين، فإنما اختار ذلك لهذه المصلحة. وحكي أن حاتم الأصم رحمه الله خرج حاجاً فدخل المدينة، وقصد زيارة مالك بن أنس، فلما انتهى إلى باب داره استأذن فلم يؤذن له، وقيل له: اجلس حتى يخرج إلى الصلاة، فخرج وصلى ودخل عليه حاتم، فرأى داراً مرتفعة مفروشة بألوان الفرش، ورأى خدماً وغلماناً، فسلم عليه حاتم وجلس فقال: أخبرني ماذا يجب على العباد بعد التوحيد؟ فقال: الفرائض، قال: ثم ماذا؟ قال: السنن والآداب، فقال: أخبرني عن دورك هذه، وغلمانك هؤلاء من الفرائض ومن السنن؟ قال: يا حاتم؛ إن الله تعالى قسم هذا قسماً حلالاً، ثم قال: يا حاتم؛ إن لنا رباً يعرف المؤمن تحت الخز والبز كما يعرف الكافر تحت العبادة واللبد، فلما خرج من عنده قال: لو لم أشهد هذا المشهد؛ خفت على نفسي أن أخرج من الدنيا على غير دين الإسلام لكثرة ما أوقع في الفقهاء وأغنى بهم.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: اتقوا الشهرتين في اللباس؛ معناه لا ينبغي للإنسان أن يختار لنفسه اللبسة المحصورة التي ترجع إلى الإهانة، ولا اللبسة المشهورة التي تجعل اللابس نفسه أعجوبة للخلق ينظر إليه كل ناظر، بل يختار فيما بين ذلك، فالوسط محمود في كل شيء.

ذكر الحاكم في «المنتقى» : لا بأس بلبس الخز، والخز اسم لدابة يكون على جلدها خز، وإنه ليس (من) جملة الحرير، والمحرم على الرجال لبس الحرير لا لبس غيره. قال شمس الأئمة السرخسي في شرح كتاب الكسب: ينبغي أن يلبس عامة الأوقات الغسيل ويلبس أحسن ما يجد في بعض الأوقات إظهاراً لنعم الله، فإن ذلك مندوب إليه، ولا يلبس أحسن ما يجد في جميع الأوقات؛ لأن ذلك يؤذي المحتاجين.
وكذلك لا ينبغي في زمن الشتاء أن يظاهر بين جبتين أو ثلاثة إذا كان يكفيه لدفع البرد جبة (89ب2) واحدة؛ لأن ذلك يؤذي المحتاجين، وهو منهي عن اكتساب سبب أذى الغير.
وأما التوسد بالحرير والديباج والنوم عليه حرام عند محمد رحمه الله، وهو قول أبي يوسف، وعند أبي حنيفة لا بأس به، وعلى هذا الاختلاف نشر الخز، وتعليقه على الأبواب لحماً لما روي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: لأن أتوسد على الجمر أحب إلي من أن أتوسد على الحرير.
j
وعن علي رضي الله عنه: أنه أتي بدابة على سرجها حرير، فقال: هذا لهم في الدنيا ولنا في الآخرة، ولأن التنعم بالجلوس والنوم عليه مثل

(5/344)


اللبس، وذلك من عادة المسرفين، وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول: النص ورد بتحريم اللبس، والنوم عليه دون اللبس في الاستعمال فلا يلحق به، ولأنا أجمعنا على أن القليل من الملبوس حلال، وهو ما قلنا من الأعلام فكذلك من اللبس والاستعمال؛ وهذا لأن التوسد والنوم عليه وافتراشه استعمال على سبيل الامتهان، فقصر معنى الاستعمال والتزين فيه، فلم يبعد حكم التحريم من اللبس الذي هو استعمال كامل إليه؛ بل كان تقليل الملبوس أشبه ليصير سبباً للرغبة في الآخرة.

وفي «المنتقى» ابن سماعة عن محمد رحمه الله: وليس القعود على الحرير والديباج كاللبس فإن أراد بقوله: ليس القعود على الحرير والديباج كاللبس نفي الكراهة عن القعود أصلاً جاء عن محمد روايتان؛ فإن ظاهر مذهبه أن القعود على الديباج مكروه، وإن أراد به إثبات التفاوت في الكراهة لا يصير في المسألة روايتان؛ بل كل واحد منهما مكروه، إلا أن اللبس أشد كراهة؛ لأن الاستعمال فيه أكثر.
وفي «شرح القدوري» عن أبي يوسف: أنه قال: أكره ثوب القز يكون بين الفرو وبين الظهارة، ولا أرى بحشو القز بأساً؛ وذلك لأن الثوب إذا كان بين ثوبين فهو ملبوس، ولبس الحرير لا يجوز للرجال، فأما الحشو ليس بملبوس إذ ليس منه عليه شيء فلا يكره عند أبي حنيفة رضي الله عنه لهذه العلة. وعندهما ليس بملبوس ولا مفروش فلا يكره.

وعنه أيضاً: وما كان من الثياب الغالب عليه غير القز كالخز ونحوه فلا بأس بلبسه للرجال، وما كان ظاهره قزاً فهو مكروه، وكذا ما كان خط منه قز وخط منه خز وهو ظاهر فهو مكروه.
وفي «شرح القدوري» أيضاً: عن أبي حنيفة: أنه قال: لا بأس بالفراء كلها؛ السباع وغير ذلك الميتة المدبوغة والذكية، وقال: دباغه ذكاته؛ وهذا لأن الجلود كلها تطهر بالدباغ إلا جلد الإنسان والخنزير. والأصل فيه قوله عليه السلام: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يتوضأ من ماء في شن فقيل: إنه جلد حمار ميت، فقال عليه السلام: «أليس في الشب والقرظ ما يطهره، فإنما يلبس عيناً طاهراً أفلا يكون به بأساً» .

الجبة إذا كانت كفافها من ديباج هل يكره للرجال لبسها؟ اختلف المشايخ فيه، وذكر الطحاوي في «شرح الآثار» حديثين أحدهما يدل على الكراهة، والآخر يدل على عدم الكراهة، وذكر الشيخ الإمام شيخ الإسلام في شرح «السير الكبير» الصحيح أنه لا

(5/345)


يكره، وذكر القاضي ركن الإسلام علي السغدي في «شرحه» : أنه لا يكره، ولم يذكر اختلاف المشايخ، وإليه أشار محمد رحمه الله في رواية «السير» .

الفصل الحادي عشر في استعمال الذهب والفضة
في «الجامع الصغير» عن أبي حنيفة رضي الله عنه: أنه كان يكره الأكل والشرب في آنية الفضة والذهب، والأدهان فيها، والأصل في ذلك ما روي عن رسول الله عليه السلام أنه نهى عن الشرب في آنية الذهب والفضة وألحق الوعيد بالشارب منها، فإنه قال: «من شرب منها فكأنما يجرجر في بطنه نار جهنم» ، وفي بعض الأخبار: «من أكل أو شرب» ، وروي أن حذيفة رضي الله عنه: نزل عند وفد من العجم، فقدم إليه الشراب في آنية الفضة فردها عليه، وقال: إن رسول الله عليه السلام كان نهانا عن الشرب في أواني الفضة، والمعنى فيه أنه تشبه بالأكاسرة والجبابرة، والتشبه بهم فيما له بدّ منه مكروه، وإذا ثبت الكراهة في الأكل والشرب؛ ثبت الكراهة في الأدهان؛ إما لأن للأدهان منفعة تخص البدن فيكون بمنزلة الأكل والشرب أو لأن كراهة الأكل والشرب في الذهب والفضة لمكان التشبه بالأكاسرة، وذلك موجود في الأدهان.
قالوا: وهذا إذا كان يصب الدهن من الآنية على رأسه أو بدنه؛ أما إذا أدخل يده في الإناء وأخرج منها الدهن ثم استعمله لا بأس به، وكذلك إذا أخذ الطعام من القصعة ووضعه على خبز أو ما أشبه ذلك، ثم أكل لا بأس به.
قال: ويستوي فيه الرجل والمرأة؛ يعني الأكل والشرب من الذهب والفضة لعموم النهي، فإن كلمة (من) عامة.

قال: وكان أبو حنيفة رضي الله عنه لا يرى بالإناء المفضض بأساً إذا وضع فاه على.... وعلى الكوز، وكره أبو يوسف ذلك، وكذلك في الإناء المصبب، وكذلك الكرسي المصبب بالذهب والفضة لا بأس بالجلوس عليه عند أبي حنيفة رضي الله عنه.
وكذلك المداهن والمجامر، والسرير المصبب لا بأس به عنده، وكره أبو يوسف ذلك، وكذا إذا جعل المصحف مذهباً أو مفضضاً لا بأس به عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وكره عند أبي يوسف، وقياس قول أبي حنيفة: أن لا يكره في الباب والسرج واللجام، وقول محمد مثل قول أبي يوسف، هكذا حكاه القاضي الإمام أبو عاصم

(5/346)


العامري المروزي، وهذا كله إذا كان يخلص.
فأما التمويه: وهو أن يجعل الدهن ماء بحيث لا يخلعن بعد ذلك لا بأس به بالإجماع، فحدَّ بها العمومات الواردة بالنهي عن استعمال الذهب والفضة، ومن استعمل إناءً كان مستعمل جزء منه فكره؛ وهذا لأن الحرمة في استعمال الذهب والفضة في الإناء وغيره؛ إنما كان لما فيه من التشبه بالأكاسرة والجبابرة، فكل ما كان بهذا المعنى يكره بخلاف خاتم الفضة للرجال، وحلية السيف والمنطقة حيث لا يكره؛ لأن الرخصة جاءت في ذلك نصاً، أما ههنا بخلافه.

ولأبي حنيفة رضي الله عنه حرفان:
أحدهما: أن الأصل في المخلوقات إباحة الانتفاع بها، والحرمة لعارض، والنص ورد في تحريم الشرب والأكل في آنية الذهب والفضة، فكل ما يشبه المنصوص عليه في الاستعمال يلحق بالمنصوص عليه، وما لا يشبه المنصوص عليه (90أ2) يبقى على أصل الإباحة، وهناك يتصل الذهب والفضة بيده، وههنا لا يتصل بيده، فلم يكن نظير المنصوص عليه في الاستعمال، فالحاصل أن أبا حنيفة على هذا الوجه اعتبر حرمة الاستعمال فيما يتصل بيده صورة.

والثاني: أن هذا مانع فلا يكره، كالجبة المكفوفة بالحرير، والعلم في الثوب، وقياساً على الشرب من يده وعلى خنصره خاتم فضة، فإن ذلك لا يكره، وقد قال بعض مشايخنا في الشرب من الفضة الصبة، والصبة الذهب العريض أو الفضة العريضة تجعل على وجه الباب، وما أشبه ذلك أن الصفات على القصعة إذا كانت لتقوم القصعة بها لا للزينة لا بأس بوضع الفم على الصاب، وإن كانت الصاب لأجل الزينة لا لتقوم القصعة بها كره وضع الفم على الصاب.
وهذا القائل يستدل بمسألة ذكرها محمد في «السير» في باب الأنفال.
وصورتها: إذا قال الأمير للخيل: من أصاب ذهباً أو فضة فهو له، فأصاب رجل قصعة مصببة بالذهب أو الفضة، أو قدراً مصبباً، فإن كانت الصباب لزينة القصعة لا لتقوم القصعة بها كانت الصباب للمنفل له، وإن كانت الصباب لتقوم القصعة بها بحيث لو نزعت الصباب فتبقى القصعة متقومة لم يكن الصباب للمنفل له، ولأن الصباب إذا كانت لتقوم القصعة بها يعتبر من أجزاء القصعة غير الذهب والفضة معنى، ألا ترى أنه لا تجعل الصباب في هذه الصورة للمنفل له، وإنما تجعل؛ لأنها غير الذهب والفضة معنى كذا ههنا، فيجوز وضع الفم عليها.
ثم فرق بين التختم بالذهب وبالفضة فإنه حلال، وبين الجلوس على كرسي الفضة فإنه حرام.

والفرق: أنه لا بد من إطلاق القليل في الدنيا ليصير نموذجاً لما وعد الله تعالى في الآخرة لمن آمن وعمل صالحاً، ولا يطلق على وجه يصير مقصوداً، والحرير والديباج لباس أهل الجنة، قال الله تعالى: {ولباسهم فيها حرير} (الحج:23) فيجب إطلاق القليل

(5/347)


منه كالعلم، والقليل من لبسه نحو الافتراش ليكون نموذجاً لذلك الكثير الكامل، فأما الفضة فليس منها في دار الآخرة لباس، وإنما يكون منه الكرسي والسرير وما أشبه ذلك، فلو أطلقنا ذلك في الدنيا لصار عين الموعود في دار الآخرة مطلقاً، وعين الموعود لا يصلح نموذجاً، فصار هذا نظير لبس الحرير الخالص، ولبس الحرير الخالص حرام، فكذلك الجلوس على الكرسي من الفضة، وصار لبس الفضة مثل افتراش الحرير.
وفي «المنتقى» : روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه كان يكره أن يستجمر بمجمر ذهب أو فضة، كما هو قول أبي يوسف، ولا خير في أن يكتحل بمكحلة من فضة، أو بميل من ذهب أو فضة وكذا المرآة......، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا بأس بحلقة المرأة من الفضة إذا كانت المرآة حريراً، وقال أبو يوسف: لا خير فيه، وذكر الحاكم في «المنتقى» : لا خير في أن يلبس الرجل ثوباً فيه كتابة بذهب أو فضة ولم يذكر أنه قول....، وذكر «القدوري» : أنه قول أبي يوسف قال: وعلى قياس قول أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لا يكره، وأما المرأة فلا بأس بأن تلبسه.
وفي «الجامع الصغير» : لا يتختم إلا بالفضة؛ هذا اللفظ بظاهره يقتضي أن التختم بالذهب والحديد والصفر، والشبة وما أشبه ذلك حرام على الرجال؛ أما التختم بالذهب فحرمته على الرجال مذهب عامة العلماء، وقال بعض: لا بأس به لحديث البراء بن عازب أنه لبس خاتم ذهب، وقال: كسانيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى ابن طلحة بن عبد الله قد قيل: وعليه خاتم ذهب، وقاس التختم بالذهب على التختم بالفضة، وإنه حلال بلا خلاف.

وجه قول عامة العلماء حديث علي، وعبد الله بن مسعود، وأبي هريرة رضي الله عنهم أن رسول الله عليه السلام نهى عن ذلك، وقوله عليه السلام: «هذان حرامان على ذكور أمتي حلال لإناثها» . وحديث البراء بن عازب محمول على ما قبل النهي الدليل عليه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من ذهب، فاتخذ الناس خواتم ذهب، ثم رماه رسول الله عليه السلام وقال: «لا ألبسه» فرماه الناس، وحديث طلحة معارض لحديث علي، وابن مسعود، وأبي هريرة.
وقياس التختم بالذهب على التختم بالفضة قياس فاسد؛ لأن جواز التختم بالفضة عرف بالحديث، فإنه روي أن رسول الله عليه السلام بعدما رمى بخاتم الذهب اتخذ خاتماً من الفضة، وفي الذهب نص بخلافه، ونوع من المعنى يدل على التزين، فإن التختم بالفضة إنما جاز للحاجة إلى الختم أو ليكون نموذجاً، والحاجة تندفع بالفضة، فيبقى الذهب على أصل الحرمة.
فأما التختم بالحديد والرصاص والصفر والشبة فهو حرام على النساء والرجال

(5/348)


جميعاً، والأصل فيه ما روي أن رسول الله عليه السلام؛ رأى على رجل خاتم صفر، فقال: «ما لي أجد منك ريح الأصنام، ورأى رسول الله عليه السلام على رجل خاتماً من حديد، فقال: ما لي أرى عليك حلية أهل النار» ، وإذا ثبت التحريم في حق الحديد والصفر ثبت التحريم في حق الشبة؛ لأنه قد يتخذ منه الصفر فيؤخذ منه ريح الأصنام، وهو المعول عليه في النهي عن التختم بالصفر على ما وقعت الإشارة إليه في الحديث.

وأما التختم بالحجر الذي يسمى يشب فقد اختلف المشايخ فيه، وظاهر عموم النهي في الكتاب دل على الحرمة، قال: لا بأس بأن يكون الفص من الحجر، وهذا دليل على أن العبرة في الحظر والإباحة للخدم لا للفص وهو المذهب؛ لأنه إنما يصير مستعملاً للحلقة لا للفص. قال: ولا بأس بمسمار الذهب يجعل في الفص؛ يريد به المسمار ليحفظ به الفص، وإنما لا يكره ذلك؛ لأنه تابع للفص، ولأنه لا يتزين به في العادة؛ لأنه لا يظهر ولا قليل، فصار كالقليل من الحرير، وقد ورد في القليل من الحرير نص، وهو قدر أربعة أصابع.
وفي «الفتاوى» : ولا بأس بأن يتخذ خاتم حديد قد سوي عليه فضة، وألبس بفضة حتى لا يرى؛ لأن التزين يقع بالفضة دون الحديد؛ لأن الحديد ليس بظاهر، ذكر في «الجامع الصغير» وينبغي أن يكون قدر فضة الخاتم المثقال ولا يزاد عليه، وقيل: لا يبلغ به المثقال، وبه وردت الآية على ما يأتي بهد هذا إن شاء الله تعالى.
ثم التختم سنة، ولكن في حق من يحتاج إلى التختم بأن يكون سلطاناً أو قاضياً، فإن النبي عليه السلام إنما تختم عند حاجته إلى الختم (90ب2) فأما إذا لم يكن محتاجاً إلى الختم فالترك أفضل، وحكي أن الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رأى بعض تلامذته قد تختم حالة التعلم، فقال: إذا صرت قاضياً فتختم، وذكر الفقيه أبو الليث في «البستان» كره بعض الناس اتخاذ الخاتم إلا لذي سلطان، وأجازه عامة أهل العلم، وإذا تختم ينبغي أن يجعل الفص إلى بطن الكف لا إلى ظهر الكف؛ هكذا روي عن رسول الله عليه السلام، وهذا في حق الرجال، وأما النسوان فلا يفعلن كذلك يعني لا يجعلن الفص إلى بطن الكف إن شئن؛ لأن التزين مباح لهن، والتزين لا يحصل إلا به.

قال في «الفتاوى» : وينبغي أن يلبس الخاتم في خنصره اليسرى دون سائر أصابعه، ودون اليمنى؛ لأن لبسه في اليمنى علامة الرفض، فأما الجواز ثابت في اليمنى والشمال جميعاً، وبكل ذلك ورد الأثر ذكره الفقيه أبو الليث في «البستان» ، وقال عليه السلام لواحد من أصحابه: «اتخذه من ورق ولا يبلغ به مثقالاً وتختم به في يمينك» .
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : ولا تشد الأسنان بالذهب وتشد

(5/349)


بالفضة، يريده إذا تحركت الأسنان وخيف سقوطها، فأراد صاحبها أن يشدها شدها بالفضة ولا يشدها بالذهب، وهذا قول أبي حنيفة رضي الله عنه، وقال محمد: يشدها بالذهب أيضاً، ولم يذكر في «الجامع الصغير» قول أبي يوسف؛ قيل: هو مع محمد، وقيل: هو مع أبي حنيفة رضي الله عنه.

وعلى هذا الخلاف إذا خلع أنفه أو أذنه فأراد أن يتخذ أنفاً أو أذناً من ذهب أو فضة، فعلى قول أبي حنيفة رضي الله عنه: يتخذ ذلك من الفضة دون الذهب، وعند محمد من الذهب أيضاً.
وعلى هذا الاختلاف إذا سقط منه فأراد أن يتخذ سناً آخر على قول أبي حنيفة رضي الله عنه يتخذ من الفضة دون الذهب، وعند محمد يتخذ من الذهب أيضاً.
حجة محمد رحمه الله: ما روي أن عرفجة أصيب أنفه يوم الكلاب، فأخذ أنفاً من الفضة، فأنتن فأمره رسول الله عليه السلام أن يتخذ أنفاً من ذهب.

وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول: الشرع حرم استعمال الذهب على الرجال من غير فصل، قال عليه السلام: «هذان حرامان على ذكور أمتي» ، غير أن الاستعمال لحاجة خارج عن التختم، والحاجة تندفع بالفضة وحكمه أقل، فلا يباح الذهب كما في التختم، وأما حديث عرفجة قلنا: الحاجة في حقه لا ندفع بالفضة حيث أنتن، وذكر هذه المسألة في «النوادر» ، وذكر الخلاف فيها على الوجه الذي ذكر في «الجامع الصغير» فقال: على قول محمد يشدها بالذهب أيضاً؛ قال بشر: وهو قول أبي يوسف، قال: ثم رجع أبو يوسف وقال: لا يشدها بالذهب، وهو قول الشافعي رحمه الله.
وذكر الحاكم في «المنتقى» : لو تحرك ثنية رجل وخاف سقوطها فشدها بذهب أو فضة، لم يكن به بأس عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه فرق بين السن والأنف، فقال في السن: لا بأس بأن يشدها بالذهب، وفي الأنف كره ذلك، قال:؛ لأن الأنف شيء ظاهر، فكان اتخاذ ذلك راجعاً إلى الزينة، فكان كاستعمال الحرير، واتخاذ الخاتم من الذهب، وأما السن فشيء باطن، فلم يكن اتخاذ ذلك راجعاً إلى الزينة، فصار كمسمار الذهب في فص الخاتم.

ومما يتصل بهذا الفصل
ما روى بشر عن أبي يوسف في «الأمالي» : أنه إذا سقط ثنية رجل، فإن أبا حنيفة رضي الله عنه يكره أن يعيدها ويشدها بذهب أو فضة، وكان يقول: هي كسن منه يشدها مكانها؛ قال: ولكن يأخذ سن شاة ذكية ويشد مكانها، وقال أبو يوسف: لا بأس بأن يشد ثنية مكانه؛ قال أبو يوسف: بين سنه وبين سن ميت فرق، وإن لم يحضرني، قال بشر: قال أبو يوسف: سألت أبا حنيفة عن ذلك في مجلس آخر، فلم يرَ بإعادتها بأساً.

(5/350)


الفصل الثاني عشر في الكراهية في الأكل
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وينبغى للرجل أن لا يكثر الأكل، ولا يأكل فوق الشبع، فإن ذلك مذموم عند الله تعالى وعند الناس، وهو مضر بالبدن؛ روي عن بعض الأطباء أنه قيل له: هل نجد الطب في كتاب الله تعالى؟ قال: نعم، قد جمع الله تعالى الطب في هذه الآية، وهو قوله: {كلوا واشربوا ولا تسرفوا} (الأعراف:31) يعني أن الإسراف في الأكل والشرب يتولد منه الأمراض، وقيل: إذا كان الرجل قليل الأكل كان أصح جسماً، وأجود حفظاً، وأذكى فهماً، وأقل نوماً، وأخف نفساً.
وذكر محمد رحمه الله في كتاب الكسب؛ وكل واحد منهي عن إفساد الطعام، قال من الإفساد السرف، والسرف في الطعام أنواع، فمن ذلك أن يأكل فوق الشبع فإنه حرام.
ومن المتأخرين من استثنى ذلك أنه إذا كان له غرض صحيح في الأكل فوق الشبع فحينئذٍ لا بأس به، وذلك بأن يأتيه ضيف بعدما أكل قدر حاجته، فيأكل لأجل الضيف حتى لا يخجل، أو يريد صوم الغد فيتناول فوق الشبع.
ومن الإسراف في الطعام الإكثار في المباحات والألوان، فذلك منهي إلا عند الحاجة؛ بأن قبل حاجة واحدة، فيستكثر من المباحات ليستوفي من كل نوع شيئاً، فيجمع له مقدار ما يتقوى به على الطاعة، وكذلك إذا كان من قصده أن يدعو بالأضياف قوماً بعد قوم إلى أن يأتوا على آخر الطعام، فلا بأس بالاستكثار في هذه الصورة.
ومن الإسراف أن يأكل وسط الخبز، ونزع حواشيه، أو يأكل ما انتفخ من الخبز كما يفعله بعض الجهال يزعمون أن ذلك ألذ، ولكن هذا إذا كان غيره لا يتناول ما ترك من حواشيه؛ فأما إذا كان غيره يتناول ذلك فلا بأس بذلك، كما لا بأس بأن يختار لتناوله رغيفاً بعد رغيف.

ومن الإسراف التمسح بالخبز عند الفراغ من الطعام من غير أن يأكل ما يتمسح به؛ لأن غيره يستقذره فلا يأكله، فإما إذا أكل ما يتمسح به فلا بأس. ومن الإسراف إذا سقط من يده لقمة أن يتركها؛ بل ينبغي أن يبدأ بتلك اللقمة؛ لأن في تركها استخفاف بالخبز، ونحن أمرنا بإكرام الخبز؛ قال عليه السلام: «أكرموا الخبز فإنها من بركات السماء والأرض» ، (91أ2) وينبغي أن لا ينتظر الإدام إذا حضر الخبز، ويؤخذ في الأكل قبل أن يؤتى بالإدام.
ويستحب غسل اليدين قبل الطعام وبعده، فإن فيه بركة، قال سليمان: قرأت في

(5/351)


التوراة الوضوء قبل الطعام وبعده بركة، يعني غسل اليدين، وإذا غسل يديه بالنخالة، أو غسل رأسه بذلك أو أحرقها، فإن لم يبق فيها من الدقيق شيء، وهو بحال يعلف بها الدواب فلا بأس بذلك؛ لأنها بمنزلة التبن.

وينبغي أن يصب الماء من الآنية على يده بنفسه ولا يستعين بغيره، وقد حكي عن بعض مشايخنا أنه قال: هذا كالوضوء، ونحن لا نستعين بغيرنا في وضوئنا، ولا يؤكل طعام حار، به ورد الأثر، ولا يشم الطعام فإن ذلك عمل البهائم. ولا ينفخ في الطعام والشراب؛ لأن ذلك يسوء الأدب.
ومن السنة أن لا يأكل الطعام من وسطه، يعني في ابتداء الأكل، ومن السنة أن يلعق أصابعه قبل أن يمسحها بالمنديل، وتركه من أمر العجم والجبابرة، ومن السنة أيضاً لعق القصعة، جاء في الحديث أن النبي عليه السلام أمر بلعق الصفحة، ومن السنة أن يأكل ما سقط من المائدة، ومن السنة أن يبدأ بالملح، ويختم بالملح.
بيان ما يكره من الحيوانات وما لا يكره يأتي في كتاب الصيد؛ إن شاء الله تعالى.
ذكر في «عيون المسائل» : إذا مر الرجل بالثمار في أيام الصيف، وأراد أن يتناول منها، والثمار ساقطة تحت الأشجار، فإن كان ذلك في المصر لا يسعه التناول إلا إذا علم أن صاحبها قد أباح إما نصاً أو دلالة بالعادة، وإن كان في الحائط، فإن كان من الثمار التي تبقى مثل الجوز وغيره لا يسعه إلا إذا علم الإذن، وإن كان من الثمار التي لا تبقى تكلموا. قال الصدر الشهيد: والمختار أنه لا بأس بالأكل ما لم يتعين النهي إما صريحاً أو عادة، فإن كان ذلك في الرساتيق الذي يقال بالفارسية بير استه فإن كان من الثمار التي تبقى لا يسعه الأخذ إلا إذا علم الإذن، وإن كان من الثمار التي لا تبقى، فالمختار أنه لا بأس بالتناول ما لم يبين النهي.
وأما إذا كانت الثمار على الأشجار فالأفضل أن لا يأخذ في موضع ما إلا بإذن، إلا أن يكون موضعاً كثير الثمار؛ يعلم أنه لا يشق عليهم أكل ذلك يسعه الأكل، ولا يسعه الحمل، وأما أوراق الشجر إذا سقط على الطريق في أيام العتاق، فأخذ إنسان شيئاً من ذلك بغير إذن صاحب الشجر، فإن كان هذا ورق شجر ينتفع بورقه نحو التوت وما أشبهه؛ ليس له أن يأخذ، ولو أخذ يضمن، وإن كان لا ينتفع به له أن يأخذ، وإذا أخذ لا يضمن.
p
رفع الكمثرى من نهر جار ورفع التفاح وأكلهما يجوز، وإن كثر. في «فتاوى أهل سمرقند» وفي هذا الموضع: الجوز الذي يلعب به الصبيان في يوم العيد لا بأس بأكله إذا لم يكن لعبهم على وجه القمار، وفي «فتاوى أبي الليث» لا بأس بالأكل متكئاً إذا لم يكن على وجه التكبر.

الأكل يوم الأضحى قبل الصلاة فيه روايتان؛ والمختار أنه لا يكره، ولكن يستحب

(5/352)


الإمساك. أكل الطين مكروه هكذا في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله، وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح....: أنه إذا كان يخاف على نفسه أنه لو أكله أورثه ذلك علة أو آفة؛ لا يباح له التناول، وكذلك هذا في كل شيء سوى الطين، وإن كان يتناول منه قليلاً، وكان يفعل ذلك أحياناً لا بأس به، والمرأة إذا اعتادت أكل الطين تمنع من ذلك إذا كان ذلك يوجب نقصاناً في جمالها في هذا الموضع أيضاً.

ومما يتصل بمسائل
الأكل ووضع المملحة على الخبز على الخوان، وإنه مكروه؛ لأنه استخفاف بالخبز، ولكن ينبغي أن يوضع الملح وحده على الخبز، هكذا ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» ، وكان الفقيه أبو القاسم الصفار رحمه الله يقول: لا أجد نية الذهاب إلى الضيافة سوى أن آمر برفع المملحة عن الخبز، وأئمة بخارى لم يروا به بأساً، وكذلك تعليق الخبز بالخوان مكروه، وكذلك يكره وضع الخبز تحت القصعة، وفي مسح الإصبع والسكين بالخبز إذا كان يأكل، وكذا الخبز بعد ذلك، ومن مشايخ زماننا من أفتى بكراهة مسح الإصبع والسكين بالخبز، وإن أكل الخبز.
بعد ذلك مضغ العلك للنساء لا بأس به بلا خلاف واختلف المشايخ في مضغه للرجال؛ منهم من كره ذلك، ومنهم من قال: إن كان الرجل يمضغ كما تمضغ المرأة، وكان يرى هيئته هيئة النساء يكره، وإن كان يمضغ جلداً كمضغ الرغيف؛ لا يكره. قال شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب الصوم: والصحيح أنه لا بأس به في حق الرجال والنساء جميعاً إن كان لغرض صحيح.
وفي «مختلفات الفقيه أبي الليث» : إذا ماتت دجاجة وخرج منها بيضة؛ جاز أكلها عند أبي حنيفة رضي الله عنه اشتد قشرها أو لم يشتد، ويجوز استعمال.... الميت عند أبي حنيفة مائعة كانت أو جامدة، ومن ظاهره عنده على كل حال، وعندهما إن كانت مائعة فهي نجسة فلا تستعمل، وإن كانت جامدة تغسل وتستعمل.

الفصل الثالث عشر في الهبة، ونثر الدراهم، والسكر، وما رماه صاحبه
ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» : أن الهبة جائزة إذا أذن صاحبها فيها، والأصل فيه ما روي عن رسول الله عليه السلام أنه نحر خمس بدنات أو ست بدنات، وقال: «من شاء اقتطع» .
إذا عرفنا هذا فنقول: إذا وضع الرجل مقداراً من السكر، أو عدداً من الدراهم بين

(5/353)


قوم، وقال: من شاء أخذ منه شيئاً، أو قال: من أخذ منه شيئاً فهو له، فكل (من أخذ) منه شيئاً يصير ملكاً له، ولا يكون لغيره أن يأخذ ذلك منه؛ لأن هذا بمنزلة الهبة منه.
بيانه: أن قول صاحب السكر والدراهم: من أخذ منه شيئاً فهو له؛ تمليك للسكر، والدراهم من الآخر بغير مال، وهو تفسير الهبة، والأخذ من الآخذ قبول لتلك الهبة، فقد جرى بين صاحب الدراهم والسكر وبين الآخذ عقد الهبة، وقد اتصل بها القبض فيصير المقبوض ملكاً للقابض، فهو معنى قولنا: إن هذا بمنزلة الهبة.

فإن قيل: هذا التصرف إن كان تمليكاً من الآخذ إلا أنه كما يحتمل الهبة منه؛ يحتمل الإقراض منه، وجعله إقراضاً أولى؛ لأنه أقل، فيكون متيقناً هذا كما قلنا فيمن دفع إلى رجل ألف درهم، وقال: خذ هذه الدراهم فاعمل بها على أن يكون الربح كله لك، كان ذلك إقراضاً ولم يكن هبة؛ لأنه احتمل كلا الأمرين والقرض أقلها، وكذلك إذا دفع الرجل إلى رجل كر حنطة، وقال: ازرعه في أرضي على أن يكون الخارج كله (91ب2) لك؛ كان معيراً للأرض منه، ومقرضاً الكر منه، وإن لم يجعل هبة منه وطريقه ما قلنا، وجواب هذا هكذا في كل موضع لم يترجح احتمال كونه هبة على احتمال كونه قرضاً كما في تلك المسألتين، وههنا احتمال كونه هبة ترجح بحكم العرف، فإن المتعارف والمعتاد فيما بين الناس أنهم يريدون في مثل هذا الهبة دون القرض؛ الدليل عليه أنه كما جرى التعارف بهذا فيما يصح فيه الإقراض، وهو ما كان من ذوات الأمثال؛ جرى فيما لا يصح فيه الإقراض، وهو ما ليس من ذوات الأمثال، فإن التاجر إذا أثقل عليه أمتعته في المفازة وعجز عن حمله يطرحها، ويقول: من أخذ شيئاً فهو له، وههنا لا يمكن حمله على القرض؛ لأن إقراض المتاع لا يصح، فعلمنا أن المتعارف من مثل هذا التصرف الهبة دون القرض، والدليل عليه أن الناس تعارفوا نثر السكر والدراهم في العرس والوليمة، وأحد لم يقل بأن المأخوذ يكون قرضاً على الآخذ؛ مع أنه يصلح للقرض، فعلمنا أن المتعارف في هذا الباب الهبة دون القرض.
فإن قيل: كيف يمكن أن يجعل هذا هبة، وإن الموهوب له وقت الهبة مجهول، وجهالة الموهوب له وقت الهبة تمنع جواز الهبة؛ ألا ترى أنه لو قال: وهبت هذا العين لواحد من عرض الناس كانت الهبة فاسدة، وفسادها بجهالة الموهوب له، وكذلك الموهوب مجهول، وجهالة الموهوب تمنع جواز الهبة.

والجواب أن الموهوب له والموهوب وإن كانا مجهولين وقت الهبة، إلا أن هذه الجهالة تزول عند القبض، وما يمنع جواز الهبة إذا زال وقت القبض يحكم بجواز الهبة، ويجعل كأنه لم يوجد وقت الهبة؛ ألا ترى أن من وهب من رجل مشاعاً يحتمل القسمة، وقسمه وسلم تجوز الهبة، ويجعل كأن الهبة من الابتداء وردت على المقسوم، وهذا لما عرف أن تمام الهبة بالقبض، فتكون العبرة لحالة القبض، ووقت القبض الهبة معلومة، والموهوب له معلوم، فيجوز كما لو وهبه منه عند الأخذ، وكذلك الموهوب إذا كان غائباً عن مجلس الهبة، وإن الواهب (أمر) الموهوب له بقبضها فقبض جازت الهبة لما ذكرنا أن

(5/354)


العبرة لحالة القبض، وصار من حيث المعنى كأنه قال: اقبضها، ثم أمسكها لنفسك هبة، وكذلك إذا وهب الدين من غير من عليه الدين وأمره بقبضه يجوز؛ لأن الهبة عند القبض تصير عيناً، فكأنه قال: اقبضه ثم اجعله لنفسك هبة، فكذا ههنا عند الأخذ يصير كأن المالك قال له: خذه هبة لك، وعند الأخذ الهبة والموهوب له معلومان، والدليل عليه فصل نثر السكر في العرس وغيره، فإن هناك من أخذ شيئاً يصير ملكاً له؛ لأن صاحب السكر بالنثر ملك السكر ممن ينتهبه؛ لأنه نثره للاتهاب، وصار راضياً بصيرورة المتهب ملكاً للمتهب بالاتهاب، ويصير عند الاتهاب كأنه قال للمتهب: هو لك هبة فجاز لكون الموهوب له معلوماً وقت الأخذ، وإن كان مجهولاً وقت النثر كذا ههنا.
اختلف المشايخ في نثر الدراهم والدنانير والفلوس التي كتب عليها اسم الله تعالى، منهم من كره ذلك؛ لأنها بين قوائم الذين ينتهبونها فيطؤوها، وفيه ترك تعظيم اسم الله تعالى، ومنهم من لم يكره ذلك؛ لأنه يقصد بذلك تعظيم الدراهم وإعزازها لا.... لذلك....

وإذا نثر السكر فحضر رجل لم يكن حاضراً وقت النثر قبل أن ينتهب المنثور، وأراد أن يأخذ منه شيئاً هل له ذلك؟ اختلف المشايخ فيه؛ قال بعضهم: له أن يأخذ، واستدل هذا القائل بقول النبي عليه السلام: «من شاء اقتطع» ، ومعلوم أن هذا يتناول الحاضر، والذي يحضر. وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يقول: ليس له ذلك.
وإذا نثر السكر ووقع في ذيل رجل أو كمه وأخذه غيره؛ كان ذلك للآخذ؛ هكذا ذكر في «المنتقى» ، وذكر هذه المسألة في «فتاوى أهل سمرقند» وفصل الجواب تفصيلاً، قال: إن كان بسط ذيله أوكمه، ليقع عليه السكر لا يكون لأحد أخذه، ولو أخذه كان لصاحب الذيل والكم أن يسترده منه، وإن لم يبسط ذيله أو كمه لذلك فالسكر للآخذ، وليس لصاحب الذيل والكم أن يسترده منه.

وإذا دخل الرجل مقصورة الجامع، ووجد فيها سكراً جاز له الأخذ؛ إلا على قول الفقيه أبي جعفر؛ لأن السكر إنما يدخل في المقصورة لأجل النثار في العقد غالباً، فصار بقية النثار غالباً إلا أن هذا الرجل لم يكن حاضراً وقت النثر، فلا يملك الأخذ على قول الفقيه أبي جعفر، ولو مر بسوق.... فوجد سكراً ملقى لم يسعه أن يأخذها؛ لأن الغالب أنه سقط من حوانيتهم، والحكم للغالب.

وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا دفع الرجل إلى غيره سكراً، أو دراهم لينثره على العروس، فأراد أن يحبس لنفسه شيئاً، ففيما إذا كان المدفوع دراهم ليس له ذلك؛ لأنه مأمور بالنثر لا بالحبس، وكذا ليس له أن يدفع الدراهم إلى الغير لينثر ذلك الغير؛ لأن صاحب الدراهم ائتمنه ... ائتمن غيره، وإذا نثر ليس له أن يلتقط منه شيئاً، وفيما إذا

(5/355)


كان المدفوع سكراً، له أن يحبس قدر ما يحبسه الناس في العادة، هكذا اختيار الفقيه أبي الليث قال: لأن أمر السكر على السهولة، وأمر الدراهم على الاستقصاء، وبعض مشايخنا قالوا: ليس له ذلك، قال الفقيه أبو الليث: وله أن يدفع السكر إلى غيره لينثر، وإذا نثر له أن يلتقط، وبعض مشايخنا قالوا: ليس له ذلك كما في الدراهم.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل نفق حماره وألقاه في الطريق فجاء إنسان وسلخه، ثم جاء صاحب الحمار فلا سبيل له على أخذ الجلد، ولو لم يلق الحمار على الطريق فأخذه رجل من منزل صاحبه وسلخه وأخذ جلده، فلصاحب الجلد أن يأخذ الجلد، ويرد ما زاد الدباغ فيه.
وعنه أيضاً: في شاة ميتة نبذها أهلها، فأخذ رجل صوفها وجلدها فدبغها فذلك له، فإن جاء صاحبها بعد ذلك أخذ الجلد ورد ما زاد الدباغ فيه، وجوابه في مسألة الشاة يخالف جوابه في مسألة الحمار، فيكون كل واحد من المسألتين نقضاً على الأخرى، فيصير في المسألتين روايتان، ومن هذا الجنس مسائل كثيرة تأتي في كتاب اللقطة إن شاء الله تعالى (92أ2) .

الفصل الرابع عشر في الكسب
بدأ محمد رحمه الله كتاب «الكسب» الذي صنعه بحديث رواه ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «طلب الكسب فريضة على كل مسلم» ، كما أن طلب العلم فريضة؛ وهذا لأن الله تعالى فرض الفرائض على عباده، ولا يتوصل إلى أداء الفرائض إلا بالكسب، فكان فريضة بمنزلة الطهارة لأداء الصلاة، ولأن ذلك يمكنه من أداء الفرائض بقوة بدنه، ولا حصول لقوة البدن عادة إلا بالقوت، ولا حصول للقوت، وكذلك لا بد للصلاة من ستر العورة، إنما يحصل بالثوب، وطريق تحصيل الثوب الكسب، فهو معنى قولنا: لا يتوصل إلى أداء الفرائض إلا بالكسب فصار فرضاً؛ كيف وإن الله تعالى أمرنا بالتجارة في كتابه، لقوله: {وإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} (الجمعة:10) والمراد منه التجارة والأمر على الوجوب، ولأن الكسب طريق الأنبياء والرسل عليهم السلام، أول من اكتسب أبونا آدم عليه السلام، فلما أهبط إلى الأرض أتاه جبرائيل عليه السلام بالحنطة وأمره أن يزرعها، فزرعها وسقاها وحصدها ودرسها وطحنها وخبزها. وكذلك نوح عليه السلام كان نجاراً يأكل من كسبه، وإدريس عليه السلام كان خياطاً، وإبراهيم عليه السلام كان بزازاً، وداود كان بزازاً حتى روي أن

(5/356)


نبينا عليه الصلاة والسلام، قال: «عليكم بالبز، فإن أباكم إبراهيم كان بزازاً» ، وداود عليه السلام كان يصنع الدرع، وسليمان عليه السلام كان يصنع المكاييل، وزكريا عليه السلام كان نجاراً، وعيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه، وربما كان يلتقط السنابل، فعلم أن الكسب طريق الأنبياء والمرسلين صلاة الله عليهم أجمعين، ونحن أمرنا بالاقتداء بهم قال الله تعالى: {فبهداهم اقتده} (الأنعام:90) .

ثم الكسب على مراتب، فمقدار ما لابد لكل أحد منه يعني ما يقيم به صلبه يفترض على كل أحد اكتسابه ههنا؛ وكذلك إذا كان له عيال من زوجة، وأولاد صغار، فإنه يفترض عليه الكسب بقدر كفايتهم عيناً؛ لأن نفقة الزوجة مستحقة على الزوج، وكذلك نفقة الولد مستحقة على الوالد، ولا يتوصل إليها إلا بالكسب، فصار الكسب مستحقاً عليه، وكذلك إذا كان له أبوان معسران يفترض عليه الكسب بقدر كفايتهما؛ لأن نفقتهما فرض عليه، وما زاد على قدر كفايته وكفاية عياله مباح إذا لم يرد به الفخر والرياء.
ثم المذهب عند جمهور الفقهاء: أن جميع أنواع الكسب في الإباحة على السواء فبعض الفقهاء قالوا: الزراعة مذمومة، والصحيح ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أزدء بالحرف قال عليه السلام: «اطلبوا الرزق في خبايا الأرض» يعني الزراعة، فكان لابن مسعود والحسن بن علي وأبي هريرة أراض بسواد العراق يزرعونها ويؤدون خراجها.

ثم اختلف مشايخنا في التجارة والزراعة أيهما أفضل؛ قال بعضهم: التجارة أفضل، قال عمر رضي الله عنه: لأن أموت بين شعبتي رحلي أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله أحب إليَّ من أن أقتل مجاهداً في سبيل الله. وأكثر مشايخنا على أن الزراعة أعم نفعاً؛ لأنه يتناول مما حصل بزرعه هو والدواب.
قال: وعلى الناس اتخاذ ... لنقل الماء إلى النساء؛ لأنها تحتاج إلى الماء للشرب، ولا يمكنها الخروج للشرب من الأنهار، والحياض؛ لأنهن أمرن بالقرار في البيوت، فكان على الزوج أن يأتي بذلك إليها؛ لأن الشرع ألزمه ما هو من حوائجها كالنفقة، والماء من حوائجها.
قال: ومن امتنع من الأكل حتى مات وجب عليه دخول النار؛ لأنه قتل نفسه قصداً، فهو بمنزلة ما لو قتل نفسه بحديدة. وفي «واقعات الناطفي» : إسكاف أمره إنسان أن يتخذ له خفاً مشهوراً على زي الفسقة أو المجوس، وزاد له في الأجرة له أن يفعل ذلك، وكذلك الخياط إذا أمره إنسان أن يخيط له ثوباً على زي الفساق، وذلك مكعب الرجال مع سرير وقع الزنار من النصارى، وبيع قلنسوة المجوس من المجوسي جائز من

(5/357)


غير كراهة، وقالوا: وبيع مكعب الفصص من الرجال إذا علم أنه ملبوس مكروه، والكلام ههنا أظهر من الكلام في بيع المكعب مع سريره.
في «العيون» : إذا استأجره رجل لغسل الميت فلا أجر له، لو استأجره لحمل الميت أو حفر القبر فله الأجر. في «القدوري» ذكر مسألة الغسل وحمل الميت، وقصد الجواز فيهما تفصيلاً، فقال: إن كان في موضع لا يجد من يغسله أو يحمله غير هؤلاء فلا أجر لهم، وإن كان ثم إنسان غيرهم فلهم الأجر، وستأتي هذه المسألة في كتاب «الإجارات» إن شاء الله تعالى.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : استأجر رجلاً لضرب الطبل؛ إن كان للهو لا يجوز؛ لأنه معصية، وإن كان للعدو والقافلة يجوز؛ لأنه طاعة. وفي «المنتقى» : إبراهيم عن محمد امرأة نائحة، أو صاحب طبل أو مزمار اكتسب قال: إن كان على شرط رده على أصحابهم إن عرفهم يريد بقوله على شرط إن شرطوا لها أو له مالاً بإزاء النياحة أو بإزاء الغناء؛ وهذا لأنه إذا كان الأخذ على شرط كان المال بمقابلة المعصية، فكان الأجر معصية، والسبيل في المعاصي ردها، ولذلك ههنا يرد المأخوذ إن تمكن من رده بأن عرف صاحبه، وبالتصدق منه إن لم يعرفه ليصل إليه نفع ماله إن كان لا يصل إليه عين ماله؛ أما إذا لم يكن الأخذ على شرط لم يكن الأخذ بمعصية، والرفع حصل عن المالك برضاه فيكون له (92ب2) ويكون حلالاً له.

فيه أيضاً عن محمد في «الكسب» : إن قضى به دينه لم يكن لصاحب الدين أن يأخذه؛ لأنه في يده بمنزلة الغصب، وأما في القضاء فهو مخير على الأخذ، وينبغي على قياس المسألة المتقدمة أنهاإذا أخذت ذلك من غير شرط أن يسع رب الدين أن يأخذه.
فيه أيضاً عن أبي يوسف: إذا ورث خمراً، وهم مسلمون لا أقسم الخمر بينهم، ولكنها تتخلل ثم تقسم.
مات وماله من بيع السارق إن تورع الورثة عن أخذ ذلك كان أولى، ويردوا على أربابها إن عرفوا أربابها؛ لأنه تمكن فيه نوع خبث، وإن لم يعرفوا أربابها، فالميراث حلال لهم في الحكم، ولا يلزمهم التصدق به وفسقا بأخذ هذا بل هو حرام مطلق على الورثة، قال: وإن تورعوا أو تصدقوا كان أولى، وكذا الجواب فيما إذا أخذه برشوة ظلماً إن تورع الورثة كان أولى، وإذا أراد الوارث أن يتصدق بين خصمائه.
في «فتاوى أهل سمرقند» : وأما الذي تأخذه النائحة والقوال والمغني فالأمر فيه أيسر؛ لأن فيه إعطاء برضاه من غير عقد، وقد ذكرنا الكلام في كسب المغنية والنائحة قبل هذا، والفتوى على ما ذكرنا قبل هذا.
سئل الفقيه أبو جعفر عمن اكتسب ماله من أمر السلطان، وجمع المال من أخذ الغرامات المحرمة وغير ذلك؛ هل يحل لأحد عرف ذلك أن يأكل من طعامه؟ قال: أحب إلي في دينه أن لا يأكل، ويسعه أكلها حكماً إذا كان الطعام لم يقع في يد المطعم غصباً أو رشوة.

(5/358)


(رجل) يبيع التعويذ في المسجد، ويكتب فيه التوراة والإنجيل، ويأخذ عليه مالاً، ويقول: إني أوقع هذا هدية لا يحل له المأخوذ؛ لأنه نص على الهدية، وأخذ المال لا يجوز.
ذكر رحمه الله تعالى في كتاب «الكسب» كسب الخصي حرام لم يرد به ما اكتسبه، وإنما أراد به أن اتخاذه خصياً، وإخصاؤه مكروه؛ نقل عن كتاب «الطحاوي» هكذا، والله أعلم.

الفصل الخامس عشر في نقل الميت
روى ابن أبي مليكة: أن عبد الرحمن بن أبي بكر مات خارج مكة على اثني عشر ميلاً، فنقل إلى مكة ودفن بمكة، فجاءت حاجة أو معتمرة وزارت قبره، وقالت: أما والله لو شهدتك ما دفنتك إلا في مكانك الذي مت فيه؛ قولها أما والله لو شهدتك ما زرتك تكلم المشايخ في تأويله وفي معناه، بعضهم قالوا: أرادت بهذا بيان أن زيارة القبور ليست بواجبة، وإلى هذا القول مال القاضي الإمام علي السغدي، وبعضهم قالوا: أرادت بهذا بيان عذرها في زيارته، فإن ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: «لعن الله زوارات تمنع النساء عن زيارة القبور» والحديث وإن كان مؤولاً، فلحشمة ظاهرة، قالت ما قالت، ووجه العذر أنه قال: عليها لقاؤه عند الموت فزارت قبره ليكون لقاء قبره قائماً مقام لقائه عند الموت، وإلى هذا مال الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي، وبعضهم قالوا: أرادت بهذا بيان أن زيارة القبور مع أنها مكروهة في حق النساء، وإن الحديث الوارد في هذا الباب منسوخ نسخه قوله عليه السلام «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ولا تقولوا هجراً» ولكن الترك أولى إلا أنها قالت: لو شهدتك ما زرتك، وإلى هذا القول مال الشيخ الإمام شيخ الإسلام، وقولها: لو شهدتك ما زرتك إلا في مكانك الذي مت فيه؛ دليل دفن الميت في مكانه الذي مات فيه، وفي مقابر ذلك القوم أفضل.

قال محمد رحمه الله في «السير» : أحب إلينا أن ندفن الميت والقتيل في المكان الذي مات فيه في مقابر المسلمين ... وإن نقل ميلاً أو ميلين أو نحو ذلك فلا بأس به، فقد نهى الناس عن النقل ميلاً أو ميلين، فهذا دليل على أن الزيادة على ذلك مكروه، وإنما صار قدر ميلين عفواً؛ لأنه لا بد منه في الأعم الأغلب، فإن الغالب في كل بلد أن تكون مقابرها بفنائها، وربما يكون من المكان الذي مات فيه إلى المقبرة قدر ميلين فصار هذا القدر عفواً، فأما الزيادة على ذلك.... الأعم والأغلب، وفيه تشبه باليهود

(5/359)


وحمل الجنائز من غير فائدة فيكره؛ قال شمس الأئمة السرخسي في شرح «السير» : لو لم يكن في نقله إلا تأخير دفنه، لكان كافياً في كراهته، وذكر شيخ الإسلام في «شرحه» : أن نقل الميت من بلد إلى بلد لغرض ليس بمكروه.
وفي «العيون» : ذكر مطلقاً أن نقل الميت من بلد إلى بلد ليس بمكروه، وحكم قراءة القرآن في المقابر مر قبل هذا فلا نعيده.

الفصل السادس عشر في معاملة أهل الذمة
........ التي تعود إليهم يجب أن يعلم بأن أهل الذمة لا يمنعون عن الدخول في سائر المساجد، سوى المسجد الحرام عندنا خلافاً لمالك، وهل يمنعون؛ ذكر في «الجامع» ذكر محمد رحمه الله تعالى في «السير الكبير» في باب دخول الكافر في المسجد: أنهم يمنعون، وذكر في «الجامع الصغير:» أنهم لا يمنعون، وهكذا ذكر الكرخي في «مختصره» ؛ قيل: ما ذكر في «الجامع الصغير» قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وبه كان يقول محمد أولاً ثم رجع وقال: يمنعون، وهو المذكور في «السير» .
فوجه قول محمد الآخر قول الله تعالى: {فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} (التوبة:28) أي بعد عام الفتح، فقد خص المسجد الحرام بالنهي عن الدخول، فيدل على حرمة الدخول إليه، واختصار الحرمة عليه.
j
وجه قول أبي حنيفة وأبي يوسف: أن القاضي إنما يجلس للقضاء في المسجد الحرام، وأهل الذمة لا يجدون بداً من رفع خلافاتهم إليه، وكذلك المسألة ربما يكون به حق على الذمي فلا يجد بداً من إدخاله المسجد، فلو لم يجز لهم الدخول في المسجد الحرام أدى إلى إبطال حقوقهم، وحقوق المسلمين، وفساد ذلك ما لا يخفى بهذا الطريق؛ جاز الدخول في سائر المساجد، والجواب عن التعليق بالآية ما حكي عن الفقيه أبي جعفر الهنداوي: أنه ليس المراد من القربان المذكور في الآية القربان من جهة الدخول، وإنما المراد القربان من حيث التدبير والاستيلاء، والقيام بالعمارة، فرؤساء قريش كانوا يلون ذلك قبل الفتح، وبعد الفتح منعوا عن ذلك، فإنه روي عن النبي عليه الصلاة والسلام: أنه لما دخل مكة عام الفتح أخذ مفاتيح المسجد منهم، ودفعها إلى من أراد من المسلمين.
وجواب آخر إن كان المراد من القربان المذكور في الآية الدخول، ولكن على الوجه الذي اعتادوا في الجاهلية، وهو الدخول لعبادة غير الله تعالى والطوف لا على الوجه المشروع، فإنه روي أنهم كانوا يطوفون بالبيت عرياناً.

(5/360)


ثم إن أصحابنا رحمهم الله تعالى فرقوا بين الكافر وبين المسلم (93أ2) الجنب، فلم يجوزوا للمسلم الجنب الدخول في المسجد؛ مع أن الكافر جنب، قال: من الكفار (من) لا يغتسل ومنهم من يغتسل، ولكن لا يدري كيفيته، ولهذا يؤمر بالاغتسال إذا أسلم، والفرق: أن المسلم يدين وجوب الاغتسال بالجنابة، ويعتقد كون الجنابة مانعة من دخول المسجد فتعاملنا معه على حسب اعتقاده، وثبتنا الحكم على ما يدينه، فأما الكافر فلا يدين وجوب الاغتسال بالجنابة أو لا يدين كيفيته ولا يعتقد الجنابة مانعة من الدخول في المسجد، فتعاملنا معه على حسب اعتقاده، وثبتنا الحكم في حقه على ما يدينه فلهذا افترقا.

وإذا قال الكافر من أهل الحرب، أو من أهل الذمة لمسلم: علمني القرآن فلا بأس بأن يعلمه، ويفقهه في الدين؛ علل فقال: لعله يقبل بقلبه؛ قال الله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} (التوبة:6) معناه حتى يسمع فيفهم، فيقف على مجلس الإسلام والشريعة، فربما يرغب في الإيمان، وهو معنى قول محمد في «الكتاب» : لعله يقبل قلبه، وروي أن واحداً من الكفار سمع القرآن فأسلم، وقال: وجدت له حلاوة.
قال القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي: وتعليم الفقه كذلك أيضاً؛ لأن في الفقه معالم الدين، وسنن الهدى، فربما يصير ذلك سبباً لإسلامه.
قال محمد رحمه الله: يكره الأكل والشرب في أواني المشركين قبل الغسل؛ لأن الغالب والظاهر من حال أوانيهم النجاسة، فإنهم يستحلون الخمر والميتة ويشربون ذلك، ويأكلون من قصاعهم وأوانيهم، فكره الأكل والشرب فيها قبل الغسل اعتباراً للظاهر، كما كره التوضؤ بسؤر الدجاجة؛ لأنها لا تتوقى من النجاسات في الغالب، والظاهر مع هذا لو أكل أو شرب فيها قبل الغسل جاز، ولا يكون آكلاً ولا شارباً حراماً؛ لأن الطهارة في الأشياء أصل والنجاسة عارض، فيجري على الأصل حتى يعلم حدوث العارض، وما يقول بأن الظاهر هو النجاسة، قلنا: نعم، ولكن الطهارة كانت ثابتة، واليقين لا يزال إلا بيقين مثله؛ ألا ترى أنه لو أصاب عضو إنسان أو ثوبه سؤر الدجاجة، أو الماء الذي أدخل فيه يده، وصلى مع ذلك جازت صلاته، وطريقه ما قلنا: أن الأصل في الأشياء الطهارة، وقد تيقنا بالطهارة وشككنا في النجاسة فلا تثبت النجاسة بالشك، وهذا إذا لم يعلم بنجاسة الأواني.
فأما إذا علم فإنه لا يجوز أن يشرب ويأكل منها قبل الغسل، ولو شرب أو أكل كان شارباً وآكلاً حراماً، وهو نظير سؤر الدجاجة إذا علم أنه كان على منقارها نجاسة، فإنه لا يجوز التوضؤ به.
والصلاة في سراويلهم نظير الأكل والشرب من أوانيهم، إن علم أن سراويلهم نجسة لا تجوز الصلاة فيها، وإن لم يعلم تكره الصلاة فيها، ولو صلى يجوز، ولا بأس بطعام اليهود والنصارى كله من الذبائح وغيرها لقوله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل

(5/361)


لكم} (المائدة: 5) من غير فصل بين الذبيحة وغيرها، ويستوي الجواب بين أن يكون اليهود والنصارى من بني إسرائيل أو من غيرهم، كنصارى العرب؛ لأن ما تلونا من الآية لم تفصل.
ولا بأس بطعام المجوس كله إلا الذبيحة، فإن ذبيحتهم حرام، قال عليه السلام: «سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم، ولا آكلي ذبائحهم» ولم يذكر محمد رحمه الله الأكل مع المجوسي ومع غيره من أهل الشرك أنه هل يحل أم لا، وحكي عن الحاكم عبد الرحمن الكاتب أنه إن ابتلي به المسلم مرة أو مرتين فلا بأس به، فأما الدوام عليه يكره؛ لأنا نهينا عن مخالطتهم وموالاتهم وتكثير سوادهم، وذلك لا يتحقق في الأكل مرة أو مرتين، إنما يتحقق بالدوام عليه.

رجل له امرأة ذمية، أو أب ذمي ليس له أن يقوده إلى البيعة، وله أن يقوده من البيعة إلى منزله؛ لأن الذهاب إلى البيعة معصية وإلى المنزل لا، ولا يحمل الخمر إلى الخل ولكن يحمل الخل إليها، وكذلك لا يحمل الجيفة إلى الهرة ويحمل الهرة إلى الجيفة.
مسلم له امرأة من أهل الذمة ليس له أن يمنعها من شرب الخمر؛ لأنه حلال عندها، لكن يمنعها من ادخارها في بيته، ولا يجبرها على الغسل من الجنابة؛ لأن ذلك ليس بواجب عليها.

وقال في «القدوري» : في النصرانية تحت مسلم لا تنصب في بيته صليباً، وتصلي في بيته حيث شاءت، ومن سأل من أهل الذمة مسلماً عن طريق البيعة فلا ينبغي له أن يدل عليه؛ لأنه أعانه على المعصية، ولا بأس بالذهاب إلى ضيافة أهل الذمة؛ لأنه نوع بر، وإذا آجر المسلم نفسه من ذمي ليعصر له فيتخذ خمراً فهو مكروه، ولو آجر نفسه ليعمل في الكنيسة ويعمرها فلا بأس به؛ إذ ليس في نفس العمل معصية، ولا بأس أن يصل المسلم المشرك قريباً كان أو بعيداً، محارباً كان أو ذمياً، وأراد بالمحارب المستأمن، فأما إذا كان غير مستأمن فلا ينبغي بأن يصله بشيء، والأصل في ذلك قوله تعالى {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلو في الدين} (الممتحنه: 8) الآية إلى آخرها، فالله تعالى بين بأول الآية أنه ما نهانا عن مبرة الذمي، وبين بآخر الآية أنه نهانا عن مبرة أهل الحرب؛ إلا أن المستأمن صار مخصوصاً عن آخر الآية؛ لأن الأمان المؤبد أو المؤقت خلف عن الإسلام في أحكام الدنيا، فكما لا يكون بصلة المسلم بأساً، فلا يكون بصلة المستأمن بأساً؛ بخلاف غير المستأمن؛ لأنه لم يوجد في حقه ما هو خلف عن الإسلام؛ حتى يلحق بالمسلم في حق هذا الحكم، فبقي داخلاً تحت النهي؛ هذا هو الكلام في صلة المسلم المشرك.

جئنا إلى صلة المشرك المسلم، فقد روى محمد رحمه الله في «السير الكبير» أخباراً متعارضة في بعضها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هدايا المشرك، وفي بعضها أنه لم يقبل، فلا

(5/362)


بد من التوفيق، واختلفت عبارة المشايخ في وجه التوفيق، فعبارة الفقيه أبي جعفر الهندواني أن ما روي أنه لم يقبلها محمول على أنه لم يقبلها من شخص غلب على ظن رسول الله عليه السلام أنه وقع (93ب2) عند ذلك الشخص أن رسول الله عليه السلام إنما يقاتلهم طمعاً في المال؛ لا لإعلاء كلمة الله، ولا يجوز قبول الهدية من مثل هذا الشخص في زماننا، وما روي أنه قبلها محمول على أنه قبل من شخص غلب على ظن رسول الله أنه وقع عند ذلك الشخص أن رسول الله عليه السلام إنما يقاتلهم لإعزاز الدين، وإعلاء كلمة الله لا لطلب المال، وقبول الهدية من مثل هذا الشخص جائز في زماننا أيضاً؛ لأن قبول الهدية حينئذٍ لا يكون لترك القتال بل للتألف وإنه جائز.
ومن المشايخ من وفق من وجه آخر، فقال: لم يقبل من شخص علم أنه لو قبل منه تقل صلابته وعزمه في حقه، وبين له بسبب قبول الهدية على ما قال عليه السلام: «الهدية تذهب وحر الصدر» ومتى كانت الحالة هذه لا يجوز قبول الهدية؛ لأن سبيل المسلم أن يكون غليظاً شديداً على الكفرة، وقبل من شخص علم أنه لا تقل صلابته، وعزمه في حقه، ولا يلين له بسبب قبول الهدية.

قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : ويأمر الإمام أهل الذمة بإظهار الاستنحاب والركوب على السرج الذي هو كهيئة الأكف؛ هذا هو لفظ «الجامع الصغير» ، ولفظ كتاب العشر والخراج من «الأصل» : وينبغي أن لا يترك أحداً من أهل الذمة يتشبه بالمسلمين في ملبوسه ولا في ركوبه، ولا في زيه وهيئته، والأصل فيه ما روي عن عمر رضي الله عنه: أنه كتب إلى أمراء الأمصار أن لا يتركوا أهل الذمة يتشبهون بالمسلمن في لباسهم، ومركبهم، وهيآتهم، فهذا روي عن عمر رضي الله عنه ولم يرو عن غيره خلافه، فحل محل الإجماع.
قال: ويمنعون عن ركوب الفرس؛ لأن ركوب الفرس من باب العز والشرف، وما كان من باب العز فأهل الذمة يمنعون عنه؛ لأنهم من أهل الصغار، فيمنعون عنه إلا إذا وقعت الحاجة إلى ذلك؛ بأن استعان الإمام بهم في المحاربة، والذب عن المسلمين، ولا يمنعون عن ركوب البغل؛ لأنه نتيجة الحمار، ولا يمنعون من ركوب الحمار؛ لأن كل أحد لا يقدر على المشي، لكنهم يمنعون من أن يضعوا على الراكب سرجاً كسرج المسلمين، وينبغي أن يكون على قربوس سرجهم مثل الرمانة؛ وهذا لأنهم كما أمروا بالمخالفة في هيئة اللباس، فكذلك أمروا بالمخالفة في هيئة المركب من حديث عمر رضي الله عنه.
واختلفوا في قوله وعلى قربوس السرج مثل الرمانة؛ قال الفقيه أبو جعفر: لم يرد بقوله: وعلى قربوس السرج مثل الرمانة أن يكون مقدم سروجهم مثل مقدم سروجنا، ثم تكون عليه رمانة، وإنما أراد به أن يكون مقدم سرجهم مثل مقدم الإكاف، وهو كالرمانة

(5/363)


وغيره. قال: أراد به أن يكون مقدم سروجهم مثل مقدم سروجنا، ثم تكون عليه الرمانة.

ويمنعون عن لبس الرداء والعمائم التي يلبسها علماء الدين؛ لأن فيه شرفاً، وكذلك يمنعون أن يكون شراك نعالهم كشراك نعالنا، وكذلك يمنعون أن تكون خفافهم كخفافنا، ونعالهم كنعالنا، وينبغي أن يؤخذوا حتى يأخذ كل واحد منهم مثل الخيط بعقد ليكون ذلك علامة فلا نعظمهم، وينبغي أن يكون ذلك الخيط غليظاً، ولا يكون رقيقاً؛ بحيث لا يقع عليه البصر؛ إلا أن يبالغ في النظر، وينبغي أن لا يكون من الإبريسم؛ لأن ذلك من باب التزين والتجمل.

ثم اختلف المشايخ أن المخالفة بينهم وبيننا شرط بعلامة واحدة، أو بعلامتين، أو بثلاث علامات، قال بعضهم: العلامة الواحدة تكفي إما على الرأس كالقلانس الطحال المصرية، أو على الوسط كالنسيج، أو على الرجل كالنعل والمكعب على خلاف نعالنا ومكاعبنا، وبعضهم قالوا: لابد من العلامات الثلاث، وبعضهم قالوا في النصراني: يكتفى بعلامة واحدة، وفي اليهودي: يشترط علامتان، وفي المجوسي: يشترط ثلاث علامات، وذكر شيخ الإسلام أنه يشترط الثلاث في حق كل شخص، وكان الحاكم الإمام أبو محمد الكوفي يقول: إن كان صالحهم الإمام وأعطاهم الذمة لعلامة واحدة، فلا يزاد على ذلك، فأما إذا فتح بلدة عنوة وقهراً كان للإمام أن يلزمهم العلامات الثلاث، وكذلك في الهيئات من حيث المركب والملبوس وغير ذلك مما ذكرنا من الجواب فيما إذا فتح بلدة عنوة، فأما إذا فتحت صالحاً، وأعطاهم الصلح على بعض ما ذكرنا لا يزاد على ما وقع عليه الصلح وهو الصحيح.
ولا ينبغي أن يتركوا أن يحدثوا بيعة وكنيسة في مصر من أمصار المسلمين؛ لأن في إحداث البيع والكنائس إعلان دين الكفر، وقد منعوا من إعلان دينهم، فإنا إنما أعطيناهم الذمة بشرط أن لا يعلنوا ما في دينهم. فإن أرادوا أن يحدثوا ذلك في القرى؛ روى الحسن عن أبي حنيفة: أنهم يمنعون عنه، وفي ظاهر الرواية: لا يمنعون عنه، فإن أحدثوا بيعة في قرية من القرى، ثم بنى فيها أبنية كثيرة فمصرها الإمام، فالإمام ينقض ذلك، وكذلك لو أحدثوا كنيسة بقرب مصر، وبني هناك أبنية حتى اتصل ذلك الموضع بالمصر، وصار كمحلة من محال المصر، فإن الإمام ينقض ذلك كله، ويضمن لهم قيمة ذلك ليشتروا موضعاً ويبنوا فيه مثلها، أو يعوض لهم مكاناً آخر فارغاً حتى يبنوا فيها مثلها، هذا جواب ظاهر الرواية. وعن أبي حنيفة رضي الله عنه في هاتين الصورتين: أن الإمام لا ينقض ذلك.
وجه رواية الحسن قوله عليه السلام: «لا خصاء ولا كنيسة في الإسلام» وأراد الإحداث، فإن القديمة يجوز تركها في القرى، فالنبي عليه السلام نهى عن إحداث

(5/364)


الكنيسة، ولم يفصل بين القرى والأمصار، ولأن في إحداث الكنيسة إعلان دينهم، وهم كما منعوا عن إعلان دينهم في المصر منعوا عنه في القرى؛ ألا ترى أنهم يمنعون عن إظهار بيع الخمور والخنازير، وعقود الربا في القرى كما يمنعون عنها في الأمصار.
وجه ظاهر الرواية: أن إحداث الكنيسة والبيعة تصرف مباح بنفسه؛ لأنه بناء وعمارة بمكان، وإنه مباح في الإسلام، ألا ترى أنه لو وجد مثل ذلك من المسلم كان مباحاً، وإنما الحرمة بقصدهم أن هذا البناء للبيعة والكنيسة (94أ2)

فكان هذا الفعل مباحاً لعينه حراماً لغيره، وهو قصد الفاعل، فلو كان مباحاً من كل وجه تركوا في الأمصار والقرى كبناء الدار، ولو كان حراماً لعينه كبيع الخمر والخنزير لمنعوا عنه في المواضع كلها، فإذا كان مباحاً لعينه حراماً لغيره منعوا عنها في المصر اعتباراً لجانب الحرمة، ولم يمنعوا عنها في القرى اعتباراً لجانب الإباحة، وكان العمل على هذا الوجه أولى من العمل على العكس؛ لأن للمصر حرمة زائدة ليست للقرى، فإنها إقامة الجمع والأعياد وجلوس المفتي والقضاء بخلاف بيع الخمر؛ لأنه حرام لعينه؛ ألا ترى أنه لو وجد من المسلم كان حراماً ومعصية، وهم منعوا عن إظهار المعاصي في دار الإسلام؛ المصر والقرى في ذلك على السواء ولا كذلك بناء البيعة والكنيسة على ما ذكرنا.
فأما الكنائس القديمة والبيع القديمة في الأمصار والقرى ذكر في عامة الكتب أنها تترك على حالها ولا تنقض، وفي كتاب العشر والخراج من «الأصل» : يشير إلى أنها تهدم، وهو قول الحسن، والصحيح ما ذكر

(5/365)


في عامة الروايات، وهذه الروايات فيما إذا ظهر الإمام عليهم عنوة وقهراً، فأما إذا وقع الصلح بينهم وبين الإمام فالكنائس والبيع تترك على حالها، ولا يتعرض لها باتفاق الروايات.
ثم إذا كانت الكنائس قديمة وقد ظهر الإمام عليهم عنوة، حتى لم يكن للإمام نقضها على ظاهر الرواية، انهدمت كنيسة منها كان لهم بناؤها؛ لأن هذا ليس بإحداث؛ بل إعادة للأول، فكأنه غير الأول، فلا يمنعوا عنه إلا إذا أرادوا أن يبنوا أوسع من الأول، فحينئذٍ يمنعون عن الزيادة في حق الزيادة إحداث.
ولا ينبغي أن يتركوا حتى يشتري أحد منهم، داراً أو منزلاً في مصر من أمصار المسلمين، ولا ينبغي أن يتركوا بأن يسكنوا في مصر من أمصار المسلمين؛ هكذا ذكر في كتاب العشر والخراج من «الأصل» ، فعلى رواية كتاب العشر والخراج: لم نمكنهم من المقام في أمصار المسلمين، وفي عامة الكتب نمكنهم من المقام في أمصار المسلمين إلا أن يكون المصر من أمصار العرب نحو أرض الحجاز وما أشبهه، فحينئذٍ لا يمكنون من المقام فيها؛ قال عليه السلام: «لا يجتمع في جزيرة العرب دينان» والصحيح ما ذكر في عامة الكتب، فقد صح أن عمر رضي الله عنه فتح بيت المقدس صلحاً، وترك أهل الذمة فيها، وخالد بن الوليد رضي الله عنه فتح بلدة وترك أهل الذمة فيها، وفتح عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان أرض الشام عنوة وقهراً، وتركوا أهل الذمة فيها، وأبو موسى الأشعري وعثمان بن العاص، وعتبة بن عمرو فتحوا نهاوند وتركوا أهل الذمة، فهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم جوزوا ترك أهل الذمة في أمصار المسلمين من بلاد العجم، فيصير فعلهم حجة لما ذكرنا في عامة الكتب.

إذا قال لذمي: أطال الله تعالى بقاءك، إن كان نيته أن الله تعالى يطيل بقاءه ليسلم أو يؤدي الجزية عن ذل وصغار فلا بأس به، وإن لم ينوِ شيئاً يكره، وفي «فتاوى أهل سمرقند» وفي هذا الموضع أيضاً: مسلم دعاه نصراني إلى دار ضيفاً حل له أن يذهب؛ لأن فيه ضرب من البر، وقد ندبنا إلى بر من لم يقاتلنا في الدين؛ قال الله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم} (الممتحنة: 8) . وفي أضحية «النوازل» : المجوسي أو النصراني إذا دعا رجلاً إلى طعامه يكره الإجابة، فإن قال اشتريت اللحم من السوق؛ لأن المجوسي يبيح المنخنقة والموقوذة، والنصراني لا ذبيحة له، وإنما يأكل ذبيحة المسلم، أو، وإن كان الداعي يهودياً فلا بأس به؛ لأنه لا يأكل إلا من ذبيحة اليهودي، أو من ذبيحة المسلم، وما ذكر في حق النصراني يخالف رواية محمد على ما تقدم ذكرها.
وفي «الجامع الصغير» عن أبي حنيفة رضي الله عنه: ولا بأس بعيادة اليهودي والنصراني؛ لأن العيادة من باب البر والصلة، ولا بأس بالبر في حقهم، وقد صح أن رسول الله عليه السلام عاد يهودياً في جواره قد مرض.

الفصل السابع عشر في الهدايا والضيافات
هدايا القضاة وتأتي في كتاب أدب القاضي من هذا الكتاب، وأما هدية المستقرض المقرض، فإن كانت مشروطة في الاستقراض فهي حرام، ولا ينبغي للمقرض أن يقبل، وإذا لم تكن مشروطة في العقد، ولم يعلم أنه أهدى إليه لأجل الدين، أو لا لأجل الدين؛ ذكر شيخ الإسلام لا بأس بقبولها، والتورع عنه أولى، وهكذا حكي عن بعض مشايخنا.

بعد هذا قالوا: إذا كانت المهاداة تجري بينهما قبل القرض بسبب القرابة أو الصداقة أو كان المستقرض معروفاً بالجود والسخاء، فهذا قائم مقام العلم أنه أهداه لا لأجل الدين، فلا يتورع عنه، وإن لم يكن شيئاً من ذلك، والحالة حالة الإشكال، فيتورع

(5/366)


عنه حتى ينص أنه أهدى لا لأجل الدين، ومحمد رحمه الله لم يرَ به بأساً بلا تفصيل.
جئنا إلى فصل الدعوة، قال محمد رحمه الله: ولا بأس بأن يجيب دعوة رجل له عليه دين، قال شيخ الإسلام: هذا هو جواب الحكم، فأما الأفضل أن يتورع عن الإجابة إذا علم أنه لأجل الدين، أو أشكل عليه الحال؛ قال شمس الأئمة الحلواني: حالة الإشكال؛ إنما يتورع إذا كان يدعوه قبل الإقراض في كل عشرين يوماً بعد الإقراض جعل يدعوه في كل عشرة أيام، أو زاد في ... أما إذا كان يدعوه بعد الإقراض في كل عشرين كما كان يدعوه قبل الإقراض، ولا يزيد في ... فلا يتورع إلا إذا نص أنه أضاف لأجل الدين، فإن كان لا يدعوه قبل الإقراض أصلاً، وجعل يدعوه بعد الإقراض يتورع إلا إذا نص أنه أضافه لا لأجل الدين، وههنا زيادة تفريع سيأتي في كتاب أدب القاضي إن شاء الله تعالى.
وأما هدايا الأمراء في زماننا؛ حكي (عن) الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل أنه سئل عن هدايا الأمراء في زماننا قال: ترد على إبانها والشيخ الإمام الزاهد أبو بكر محمد بن حامد سئل عن هذا، فقال: يوضع في بيت المال، وهكذا ذكر محمد في «السير الكبير» فذكر ذلك الشيخ الإمام الجليل محمد بن الفضل، فقال: كنت أعلم أن المذهب هذا؛ إلا أني لم أجب به مخافة أن يوضع في بيت المال، ثم الأمراء يصرفونها إلى شهواتهم ولهوهم، فقد علمنا أنهم إنما يمسكون (94ب2) بيت المال لشهواتهم؛ لا لجماعة المسلمين، وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يمنع عماله عن قبول الهدايا، وإذا قبلوها ردوهاعلى أصحابها إن قدروا عليهم، وإن لم يقدروا عليهم وضعوها في بيت المال.

واختلفت الصحابة ومن بعدهم في جواز قبول الهدية من أمراء الجور، فكان ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم يقبلان هدية المختار، وعن إبراهيم النخعي: أنه كان يجوز ذلك، وأبو ذر وأبو درداء كانا لا يجوزان ذلك، وعن علي رضي الله عنه: أن السلطان يصيب من الحلال والحرام، فإذا أعطاك شيئاً فخذه، فإن ما يعطيك حلال لك، وحاصل المذهب فيه أنه إن كان أكثر ماله من الرشوة والحرام لم يحل قبول الجائزة منه ما لم يعلم أن ذلك له من وجه حلال، وإن كان صاحب تجارة وزرع وأكثر ماله من ذلك، فلا بأس بقبول الجائزة ما لم يعلم أن ذلك له من وجه حرام، وفي قبول رسول الله عليه السلام الهدية من بعض المشركين دليل على ما قلنا.

وفي «عيون المسائل» : رجل أهدى إلى إنسان أو أضافه إن كان غالب ماله من حرام لا ينبغي أن يقبل ويأكل من طعامه ما لم يخبر أن ذلك المال حلال استقرضه أو ورثه، وإن كان غالب ماله من حلال فلا بأس بأن يقبل ما لم يتبين له أن ذلك من الحرام؛ وهذا لأن أموال الناس لا تخلو عن قليل حرام وتخلو عن كثيره، فيعتبر الغالب ويبنى الحكم عليه.
r

(5/367)


وفي «فتاوى أهل سمرقند» : رجل دخل على السلطان فقدم إليه بشيء مأكول، فإن اشتراه بالثمن أو لم يشتر، ولكن هذا الرجل لا يعلم أنه مغصوب بعينه حل له أكله؛ أما إذا اشتراه بالثمن فلأن العقد يقع على مثل الثمن المشار إليه؛ لا على عين المشار إليه، فلا يتمكن الخبث في المشترى هكذا ذكر، وههنا كلمات تأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى في مسائل الغصب، وأما إذا لم يشترِ، ولكن لا يعلم الداخل أنه مغصوب بعينه، فلأن الأشياء على أصل الإباحة ما لم يعلم دليل الحرمة، فلا يحرم لو علم دليل الحرمة بأن علم بأن هذا الشيء مغصوب بعينه لا يحل له الأكل هكذا ذكر، والصحيح أنه ينظر إلى غالب مال السلطان، ويبنى الحكم عليه على ما ذكرنا قبل هذا.

وفي «فتاوى أهل سمرقند» : لا يباح اتخاذ الضيافة في المصيبة بعد ثلاثة أيام، ويقال فيما بين الناس «سه ديكر» ، وفي «النوازل» : الضيف إذا أعطى اللقمة بعضهم لبعض يعتبر في ذلك تعامل الناس، ويترك القياس بالاستحسان، ولا يجوز أن يعطي سائلاً؛ لأنه لا تعامل فيه. وفي «العيون» : إذا كان الرجل ضيفاً عند إنسان فناول لقمة من طعامه إلى من كان ضيفاً أيضاً؛ قال بعض مشايخنا: لا يحل للمناول أن يفعل ذلك، ولا يحل له الأكل على فوره؛ بل يضعها على المائدة ويأكل من المائدة، وهكذا روي عن محمد، وكثير من المشايخ جوزوا ذلك استحساناً لوجود الإذن عادة، ولا يجوز للضيف أن يعطي من ذلك إنساناً دخل عليهم لطلب إنسان أو حاجة أخرى؛ لأنه لا تعامل فيه، وكذا لا ينبغي له أن يعطي سائلاً؛ لأنه لا تعامل فيه، ولو ناول من المائدة هرة صاحب الدار، أو هرة غير صاحب الدار شيئاً من الخبز، أو قليلاً من اللحم فلا بأس به؛ لأن فيه تعامل، فكان الإذن به ثابتاً عادة، وإن كان شيئاً من الخبز المحرق أما لشبهة، فهو في سعة منه؛ لأن فيه تعامل، وأما رفع الزلة فهو حرام بكل حال إلا أن يأذن صاحب الضيافة بها نصاً.
وفي هبة «العيون» : لو دعا رجل قوماً إلى منزله لضيافة، وفرقهم على الأخونة فليس لأهل إحدى الخوانين أن يتناول من طعام الخوان الآخر؛ لأنه إنما أباح طعام كل خوان لجماعة معينين، فلا تثبت الإباحة في حق غيرهم.

وفي «فتاوى أهل سمرقند» : رجل يأكل خبزاً مع أهله، فاجتمع كسرات الخبز، ولا يشتهيها أهله فله أن يطعم الدجاجة أو البقرة أو الشاة؛ ذكر الشاة والبقر والدجاجة ولم يذكر الكلب والهرة قال: لا ينبغي أن يلقيها في الطريق، أو في النهر إلا إذا وضع لأجل النمل ليأكل، فحينئذٍ يجوزه، هكذا نقل عن السلف.

أب الصبي إذا أهدى إلى معلم الصبي أو إلى مؤدبه في العيد إن لم يسأل ولم يلح عليه لا بأس به؛ لأنه بر وبر المعلم مستحب، وأما أجرة المعلم فنقول: لا بأس بها في زماننا، وسيأتي ذلك في كتاب الإجارات مع ما يجانسها.
وحكي عن الإمام أبي الليث الحافظ أنه كان يقول: كنت أفتي بثلاثة أشياء، ورجعت عنها؛ كنت أفتي أنه لا يحل للمعلم أخذ الأجر على تعليم القرآن، وكنت أفتي أنه لا ينبغي للعالم أن يدخل على السلطان، وكنت أفتي أن لا ينبغي لصاحب العلم أن

(5/368)


يخرج إلى القرى فيذكرهم بشيء ليجمعوا له شيئاً، فرجعت عن ذلك كله، وإنما رجع تحرزاً عن ضياع القرآن والحقوق والعلم.

الفصل الثامن عشر في الغناء، واللهو، وسائر المعاصي، والأمر بالمعروف
ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنه دخل على أخيه البراء بن مالك وهو كان يتغنى، قوله: وهو يتغنى بظاهره حجة لمن قال: لا بأس للإنسان أن يتغنى إذا كان يسمع ويؤنِّس نفسه، وإنما يكره إذا كان يسمع ويؤنس غيره، ومن الناس من يقول: لا بأس به في الأعراس والوليمة، ألا ترى أنه لا بأس بضرب الدفوف في الأعراس والوليمة، وإن كان ذلك نوع لهوٍ وإنما لم يكن به بأس؛ لأن فيه إظهار النكاح وإعلانه، وبه أمر صاحب الشرع حيث قال: «أعلنوا النكاح، ولو بالدف» فكذلك التغني، ومنهم من قال: إن كان يتغنى ليستفيد به نظم القوافي، ويصير فصيح اللسان لا بأس به، ومنهم من قال: إذا كان وحده فغنى لدفع الوحشة عن نفسه فلا بأس به، وبه أخذ شمس الأئمة السرخسي، وإنما المكروه على قول هذا القائل ما يكون على سبيل اللهو، وذكر شيخ الإسلام أن جميع ذلك مكروه عند علمائنا، ويحتج بظاهر قوله تعالى: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} (لقمان: 6) جاء في التفسير أن المراد منه الغناء، وحديث البراء بن مالك محمول على أنه كان ينشد الشعر المباح، يعني الشعر الذي فيه الوعظ والحكمة؛ وهذا لأن الغناء كما ينطلق على الغناء المعروف ينطلق على غيره، قال عليه السلام: «من لم يتغن بالقرآن (95أ2) فليس منا» .
قلنا: وإنشاد ما هو مباح من الأشعار لا بأس به، وإذا كان في الشعر صفة المرأة إن كانت امرأة بعينها، وهي حية يكره، وإن كانت ميتة لا يكره، وإن كانت امرأة وسيمة لا يكره؛ هذه الجملة من شرح «السير الكبير» .
وفي «فتاوى أهل سمرقند» استماع صوت الملاهي كالضرب بالقصب، وغير ذلك من الملاهي حرام، وقد قال عليه السلام: «استماع الملاهي معصية والجلوس عليها فسق والتلذذ بها من الكفر» وهكذا خرج على وجه التشديد بعظم الذنب؛ قالوا: إلا أن يسمع نفسه فيكون معذوراً، والواجب على كل أحد أن يجتهد حتى لا يسمع.

روى محمد بن الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنه: في الرجل يدعى إلى وليمة أو

(5/369)


طعام، فوجد ثمة لعباً أو غناء، فلا بأس بأن يقعد ويأكل؛ قال أبو حنيفة رضي الله عنه: ابتليت بذلك مرة. واعلم بأن هذه المسألة على وجهين:
الأول: أن يكون اللعب والغناء على المائدة، وفي هذا الوجه لا ينبغي له أن يقعد لقوله تعالى: {فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين} (الأنعام: 68) ، وكذلك إذا كان على المائدة قوم يشربون الخمر، فلا ينبغي له أن يقعد، فقد صح أن رسول الله عليه السلام نهى أن يتناول الطعام في مجلس يشرب فيه الشراب، وكذلك إذا كان على المائدة قوم يغتابون لا يقعد، والغيبة أشد من اللهو واللعب؛ لأنها أشد من الزنا؛ قال عليه السلام: «الغيبة شر من الزنا» .

والوجه الثاني: أن يكون اللعب والغناء في المنزل، وفي هذا الوجه لا بأس بأن يقعد على المائدة ويأكل، وهو المراد من المذكور في «الكتاب» ، قيل: هذا إذا كان الرجل ذا حشمة يتركون ما هم عليه بحشمته، فأما إذا لم يكن بهذه الصفة لا ينبغي أن يقعد ويأكل بل يعرض عنهم، وقول أبي حنيفة رضي الله عنه: ابتليت بهذا مرة يحمل أنه كان بعدما صار ذا حشمة، وعلى قياس هذا القول ينبغي أن يقال في الوجه الأول: إذا كان الرجل ذا حشمة يتركون ما هم عليه لحشمته لا بأس بأن يقعد ويأكل؛ بل القعود أولى ليصير ذلك سبباً لامتناعهم عن المعصية، وقيل أيضاً: ما ذكر في الوجه الثاني أن يقعد محمول على ما إذا كان الرجل خامل الذكر، ولا يقتدى به؛ أما إذا كان عالماً ويقتدى به لا يقعد ولا يأكل حتى لا يصير قدوة للشر، وقول أبي حنيفة رضي الله عنه ابتليت بهذا مرة؛ محمول على أنه كان قبل أن يصير معتداً، وقيل: يقعد في الوجه الثاني على كل حال، وإطلاق محمد رحمه الله في «الكتاب» يدل عليه، وجه ذلك أن التناول من الوليمة والضيافة سنة، واللعب والغناء حرام، يباشره غيره، ولا يجوز ترك سنة لحرام يباشره غيره، إلا إذا كان في المجلس كما في الوجه الأول، ولم يوجد ذلك ههنا، وهذا كله إذا علم بعد الحضور، فإذا علم قبل الحضور لا يحضر أصلاً، وقد قيل: لو كان هذا الرجل بحال يمتنعون عن الفسق لو امتنع هو عن الإجابة يفترض عليه الامتناع عن الإجابة، وإن كان بحال لا يمتنعون عن الفسق لو امتنع عن الإجابة لا بأس بأن يجيب ويطعم منكراً للهو غير مصغ إليه.
وفي «النوازل» : قراءة شعر الأدب إذا كان فيه ذكر الخمر والفسق والغلام يكره، وقد ذكرنا شيئاً من ذلك في أول هذا الفصل، والاعتماد في الغلام على ما ذكرنا في المرأة ثمة.

(5/370)


رجل أظهر الفسق في داره، فقدم إليه الإمام، فإن كف عنه لم يتعرض له، وإن لم يكف عنه فالإمام بالخيار؛ إن شاء حبسه، وإن شاء أدبه بضرب سياط، وإن شاء أزعجه عن داره؛ لأن الكل يصلح للتعزير؛ ذكر في «فتاوى النسفي» : أنه يكسر دنان الخمر، وإن كان قد ألقى فيها الملح، وذكر أن الكاسر لا يضمن الدنان، وستأتي هذه المسألة مع أجناسها في كتاب الغصب إن شاء الله تعالى.
في «النوازل» : رجل رأى منكراً وهذا الرائي يرتكب مثل هذا المنكر يلزم الرائي أن ينهى عنه؛ لأن الواجب عليه ترك المنكر والنهي عنه، فإن ترك أحدهما لا يوجب ذلك ترك الآخر.
رجل يعلم أن فلاناً يتعاطى من المناكير، فأراد أن يكتب إلى أبيه بذلك؛ قال: إن وقع في قلبه أنه يمكن للأب أن يغير على ابنه فليكتب؛ لأن الكتابة تفيد، فإن وقع في قلبه أنه لا يمكنه ذلك لا يكتب؛ لأن الكتابة لا تفيد في هذه الصورة سوى وقوع العداوة بين الوالد والولد، وكذلك هذا الحكم بين الزوجين، وبين السلطان والرعية.
قال محمد رحمه الله في «السير الكبير» : لا بأس بأن يحمل الرجل وحده على المشركين، وإن كان غالب رأيه أنه يقتل إذا كان في غالب رأيه أنه ينكي فيه نكاية بقتل أو جرح أو هزيمة، وإن كان غالب رأيه أنه لا ينكي فيهم أصلاً، لا بقتل ولا جرح ولا هزيمة ويقتل هو، فإنه لا يباح أن يحمل وحده، والقياس أن يباح له في الأحوال كلها، وإن علم أنه يقتل؛ لأنه يبتغي بما قصد الحياة الدائمة؛ يعني فإن الشهداء أحياء قال الله تعالى: {بل أحياء عند ربهم} (آل عمران: 169) إن كان مهلكاً نفسه صورة، والعبرة للمعنى؛ لكن ترك القياس فيما إذا كان يعلم أنه يقتل، ولا ينكي فيهم نكاية بالإجماع، ولا إجماع فيما إذا كان يعلم أن بخروجه لا ينكي فيهم نكاية، فيعمل فيه بقضية القياس.

وأما قوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} (البقرة: 195) فلأهل التفسير في تأويل الآية ومعناها كلام، فالمحققون فيهم قالوا: معنى الآية أنفقوا أرواحكم في الجهاد، ولا تلقوا بأيديكم إلى الموت المعتاد فراراً عن القتل بالجهاد، وأحسنوا تسليم أنفسكم وأموالكم التي اشتراها الله تعالى منكم بالجنة والنعيم، وبعضهم قالوا: معنى الآية: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} بترك الجهاد، ولها وجوه وعرف ذلك في كتب التفسير.
ثم فرقوا بين الحملة على المشركين، وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بين المسلمين، فقالوا: من أراد أن ينهى قوماً من فساق المسلمين عن منكر، وكان من غالب رأيه أنه يقتل لأجل ذلك، ولا ينكي فيه نكاية بضرب أو ما أشبهه، فإنه لا بأس بالإقدام عليه، وهو العزيمة، وإن كان يجوز له أن يترخص بالسكوت، وقالوا في الحملة على المشركين: إذا كان غالب رأيه أنه متى حمل عليهم يقتل من غير أن ينكي فيهم نكاية لا يحل له ذلك، ولا فرق بينهما من حيث المعنى؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينكي فيهم لا محالة. (95ب2)
وبيان ذلك من وجهين؛ أحدهما: أن المسلمين يتركون الفساد حال ما يشتغلون

(5/371)


بقتاله والمجادلة معه، فيقل الفساد، فيحصل نوع نكاية بالأمر بالمعروف بتقليل الفساد؛ أما الكفار لا يتركون الكفر والحراب حال ما يشغتلون بقتاله؛ بل يحققون ذلك ... لا يؤثر في تقليل الفساد، فتعتبر النكاية من حيث الجرح والضرب فلا يباح.
الثاني: أن القوم هناك يعتقدون ما نأمرهم به، فلا بد وأن يكون فعله مؤثراً في باطنهم، وههنا القوم لا يعتقدون ما يدعوهم، فلا يؤثر فعله في باطنهم، فتعتبر الآية حسب الظاهر، فإذاً لا فرق بينهما صورة، إنما الفرق من حيث المعنى؛ هذه الجملة من شرح شيخ الإسلام.

وذكر الفقيه أبو الليث في كتاب «البستان» : أن الأمر بالمعروف على وجوه؛ إن كان يعلم بأكثر رأيه أنه لو أمر بالمعروف يعقلون ذلك منهم، ويمتنعون عن المنكر، فالأمر واجب عليه، ولا يسعه تركه، ولو علم بأكثر رأيه أنه لو أمرهم بذلك قذفوه وشتموه فتركه أفضل، وكذلك لو علم أنهم يضربونه، ولا يصبر على ذلك، ويقع بينهم العداوة، وينتج منه القتال فتركه أفضل، ولو علم أنهم لو ضربوه وصبر على ذلك، ولم يشكو إلى أحد فلا بأس به وهو مجاهد، ولو علم أنهم لا يقبلون منه، ولا يخاف منهم ضرباً ولا شتماً فهو بالخيار، والأفضل أن يأمر.

الفصل التاسع عشر في التداوي والمعالجات، وفيه العزل، وإسقاط الولد
ذكر محمد رحمه الله في «السير» في باب دواء الجراحة عن أبي أمامة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم داوى وجهه بعظم بال في الحديث دليل على أنه لا بأس بالتداوي، وبه نقول ومن الناس من كره ذلك، ويروي آثاراً تدل على كراهيته، ونحن نستدل بما روينا، وبقوله عليه السلام: «تداووا عباد الله، فإن الله تعالى لم يخلق داءً إلا وقد خلق له دواءً إلا السام والهرم» ، ولكن ينبغي لمن يشتغل بالتداوي أن يرى الشفاء من الله لا من الدواء، ويعتقد أن الشافي هو الله دون الدواء.
وتأويل ما رووا من الأخبار إذا كان الشفاء من الدواء ويعتقد أنه لو لم يعالج لا يسلم، ونحن نقول: إنه لا يجوز التداوي لمثل هذا؛ قال محمد رحمه الله: ولا بأس بالتداوي بالعظم إذا كان عظم شاة أو بقرة أو بعير أو فرس أو غيره من الدواب؛ إلا عظم الخنزير والآدمي، فإنه يكره التداوي بهما، فقد جوز التداوي بعضم ما سوى الآدمي والخنزير من الحيوانات مطلقاً من غير فصل بينهما إذا كان الحيوان ذكياً أو ميتاً، وبينما

(5/372)


إذا كان العظم رطباً أو يابساً، وما ذكر من الجواب يجري على إطلاقه فيه إذا كان الحيوان ذكياً؛ لأن عظمه طاهر، رطباً كان أو يابساً يجوز الانتفاع به جميع أنواع الانتفاعات رطباً كان أو يابساً، فيجوز التداوي به على كل حال؛ أما إذا كان الحيوان ميتاً، فإنما يجوز الانتفاع بعظمه إذا كان يابساً، ولا يجوز الانتفاع به إذا كان رطباً؛ وهذا لأن اليبس في العظم بمنزلة الدباغ في الجلد من حيث إنه يقع الأمن عن فساد العظم باليبس، كما يقع الأمن عن فساد الجلد بالدباغ، ثم جلد الميتة يطهر بالدباغ، فكذا عظمه يطهر باليبس، فيجوز الانتفاع به، فيجوز التداوي به.
وإنما لم يجز الانتفاع بعظم الخنزير والآدمي؛ أما الخنزير فلأنه نجس العين بجميع أجزائه، والانتفاع بالنجس حرام، وأما الآدمي فقد قال بعض مشايخنا: إنه لم يجز الانتفاع بأجزائه لنجاسته، وقال بعضهم: لم يجز الانتفاع به لكرامته وهو الصحيح، فإن الله تعالى كرم بني آدم وفضلهم على سائر الأشياء، وفي الانتفاع بأجزائه نوع إهانة به.
امرأة تأكل ... تلتمس السِّمَن لا بأس به إذا لم تأكل فوق الشبع، وإن أكلت فوق الشبع فهو حرام؛ لأن الأكل فوق الشبع حرام، وليس هذا الحكم يختص بهذا الموضع بل هو الحكم في جميع المباحات، فأكل جميع المباحات حرام فوق الشبع، وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إن كانت تسمن نفسها لزوجها لا بأس به؛ لأن هذا فعل مباح لقصد المباح.

وفي «النوازل» : الرجل إذا ظهر به داء، فقال له الطبيب: قد غلبك الدم فأخرجه، فلم يخرجه حتى مات لا يكون مأخوذاً؛ لأنه لا يعلم يقيناً أن الشفاء فيه، وفيه أيضاً: استطلق بطنه، أو رمدت عينه، فلم يعالج حتى أضعفه ومات بسببه لا إثم عليه؛ فرق بين هذا وبينما إذا جاع ولم يأكل مع القدرة على الأكل حتى مات فإنه يأثم، والفرق: أن الأكل قدر قوته فيه شفاء يتعين، فإذا تركه صار مهلكاً نفسه، ولا كذلك المعالجة.
التداوي بلبن الأتان إذا أشاروا إليه لا بأس به؛ هكذا ذكر هنا.
قال الصدر الشهيد رحمه الله: وفيه نظر؛ لأن لبن الأتان حرام، والاستشفاء بالحرام حرام، وما قاله الصدر الشهيد فهو غير مجرىً على إطلاقه، فإن الاستشفاء بالمحرم إنما لا يجوز إذا لم يعلم أن فيه شفاءً؛ أما إذا علم أن فيه شفاء، وليس له دواء آخر غيره فيجوز الاستشفاء به؛ ألا ترى إلى ما ذكر محمد رحمه الله في كتاب الأشربة إذا خاف الرجل على نفسه العطش، ووجد الخمر شربها إن كان يدفع عطشه؛ لكن يشرب بقدر ما يرويه ويدفع عطشه، ولا يشرب للزيادة على الكفاية.
وقد حكي عن بعض مشايخ بلخ: أنه سئل عن معنى قول ابن مسعود رضي الله عنه: إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم؛ يجوز أن عبد الله قال ذلك في داء عرف له دواء غير المحرم؛ لأنه حينئذٍ يستغني بالحلال عن الحرام، ويجوز أن يقال: تكشف الحرمة عند الحاجة، فلا يكون الشفاء في الحرام، وإنما يكون في الحلال.

(5/373)


ولو أن مريضاً أشار إليه الطبيب بشرب الخمر؛ روي عن جماعة من أئمة بلخ: أنه ينظر إن كان يعلم يقيناً أنه يصح حل له التناول، وقال الفقيه عبد الملك حاكياً عن أستاذه: أنه لا يحل له التناول.
وفي «النوازل» : رجل أدخل مرارة في إصبعه للتداوي قال أبو حنيفة رضي الله عنه: يكره، وقال أبو يوسف: لا يكره، والفقيه أبو الليث أخذ بقول أبي يوسف لمكان الحاجة، وفيه أيضاً: العجين إذا وضع على الجرح إن عرف به الشفاء فلا بأس به، لأنه يكون دواء حينئذٍ. وإذا سال الدم من أنف إنسان، فكتب فاتحة الكتاب على جبهته بالدم وكتب بالبول، فقد ذكرنا قبل هذا في فصل القرآن.
جئنا إلى مسائل العزل، وتفسيره: أن يطأ الرجل امرأته أو أمته (96أ2) فيعزل عنها قبل أن يقع الماء في الرحم مخافة الحبل، فنقول: اختلف أصحاب رسول الله عليه السلام في العزل، فعلي رضي الله عنه يكره ذلك، وابن عباس وابن عمر وابن مسعود رضي الله عنهم كانوا لا يكرهون ذلك، إلا أن علماءنا رحمهم الله قالوا في المرأة المنكوحة: يشترط رضا المولى عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وعندهما يشترط رضا الأمة، وفي الأمة المملوكة لا يشترط رضاها بلا خلاف، والمسألة على هذا الوجه مذكورة في «الجامع الصغير» ، وفي «فتاوى أهل سمرقند:» أنه إذا عزل خوفاً من الولد السوء لفساد هذا الزمان فهو جائز من غير رضا المرأة.

وبعدما وصل الماء إلى رحمها إذا أرادت الإلقاء هل يباح لها ذلك: إن أرادت ذلك بعد مضي مدة ينفخ فيه الروح، فليس لها ذلك؛ لأنها تصير قاتلة؛ فإنه اعتبر هنا على غلبة الظاهر، فلا يحل لها كما بعد الانفصال، وإن أرادت الإلقاء قبل مضي مدة ينفخ فيه الروح؛ اختلف المشايخ فيه؛ قال بعضهم: يحل لها ذلك؛ لأن قبل مضي المدة التي ينفخ فيه الروح لا حكم لها، فهذا والعزل سواء.

وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا أرادت إسقاط الولد فلها ذلك إذا لم يستبن شيء من خلقه؛ لأن ما لا يستبين شيء من خلقه لا يكون ولداً، وكان الفقيه علي بن موسى القمي يقول: يكره لها ذلك، وكان يقول: مآل الماء بعدما وصل إلى الرحم الحياة، فإنه لا يحتاج إلى صنع أحد بعد ذلك، لينفخ فيه الروح، وإذا كان مآل الحياة للحال كما في بيضة الحرم لما كان مآلها أن تصير صيداً يعطى لها حكم الصيد حتى إن من أتلف بيضة صيد الحرم ضمن بخلاف العزل؛ لأن الماء قبل أن يصل إلى الرحم ليس مآله الحياة، فإنه يحتاج إلى صنع بعد ذلك لينفخ فيه الروح، وهو الإلقاء في الرحم، أما هنا بخلافه.
وفي نكاح «فتاوى أهل سمرقند» : امرأة مرضعة ظهر بها حبل وانقطع لبنها، وتخاف على ولدها الهلاك، وليس لأب هذا الولد سعة حتى يستأجر الظئر، هل يباح لها أن تعالج في إسقاط الولد؟ قالوا: يباح ما دام نطفة، أو علقة، أو مضغة لم يخلق له عضو؛ لأنه ليس بآدمي.... بالأم؛ ذكرت في «الواقعات» المرتبة في الباب الثالث من

(5/374)


النكاح في تعليل المسألة أن خلقه لا يستبين إلا في مائة وعشرين يوماً.
الحجامة والفصد وإلقاء العلق على الظهر بعد تحرك الولد لا بأس به، وقبل تحرك الولد، وحال قرب الولادة لا ينبغي أن يفعل ذلك.

الفصل العشرون في الختان والخصاء وقلم الأظافير، وقص الشوارب، وحلق المرأة شعرها، ووصلها شعر غيرها بشعرها.
أقصى وقت للختان اثنا عشر سنة، وأما أول وقته قال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا علم لي به، ولم يرو عن أبي يوسف ومحمد فيه شيء، واختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: أول وقته إذا بلغ سبع سنين، وبعضهم قالوا: إذا بلغ تسع سنين، وبعضهم قالوا: إذا بلغ عشر سنين؛ لأنه أول وقت يجوز إيصال الألم إليه؛ قال عليه السلام: «واضربوهم عليها إذا بلغوا عشراً» وبعضهم لم يؤقتوا في ذلك وقتاً، وقالوا: إذا كان الصبي بحال يطيق ألم الختان يحسن، وإلا فلا.

وإنه من جملة السنن حتى قالوا: إذا اجتمع أهل المصر على ترك الختان يحاربهم الإمام؛ لأن الختان سنة، فيحاربهم في تركه، كما يحاربهم في سائر السنن.
وفي «العيون» : غلام ختن فلم يقطع الجلدة كلها، فإن قطع أكثر من النصف يكون ختاناً؛ لأن الأكثر يقوم مقام الكل، وإن كان نصفاً أو دونه لا يكون ختاناً لانعدام الختان حقيقة وحكماً. وفي صلاة «النوازل» : الصبي إذا لم يختن، ولا يمكن أن يمد جلده ليقطع إلا بتشديد وحشفته قاصرة، إذا رآه إنسان يراه كأنه اختتن ينظر إليه الثقات، وأهل البصر من الحجامين، فإن قالوا: هو على خلاف ما يمكن الإحسان، فإنه لا يشد عليه ويترك؛ لأن الواجبات تسقط بالأعذار فالسنن أولى، وكذا الشيخ الضعيف من أهل المجوس إذا أسلم، وقال أهل البصر: إنه لا يطيق الختان يترك، وفي فوائد أكثر ... أختن الصبي ثم طال جلدته؛ إن صار بحال يستر حشفته يقطع، وما لا فلا.
اختلفت الروايات في ختان النساء؛ ذكر في بعضها أنها سنة، وهكذا حكي عن بعض المشايخ، واستدل هذا القائل بما ذكر محمد رحمه الله في كتاب الخنثى: أن الخنثى يختن، ولو كان مكرمة لا يختن؛ لأنه يحتمل أنه امرأة، وعلى هذا التقدير لا يجوز للمرأة أن تفعل ذلك، فيتعذر الفعل لانعدام الفاعل فيسقط، وذكر شمس الأئمة الحلواني في «أدب القاضي» للخصاف: أن ختان النساء مكرمة.

إخصاء الفرس لا بأس به عندنا، ومن الناس من كرهه، وكذلك إخصاء سائر

(5/375)


الحيوانات لا بأس به عندنا، ومن الناس من كرهه، والذي كرهه احتج بما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن إخصاء الإبل والبقر والغنم والخيل، وقوله تعالى: {ولآمرنهم فليغيرن خلق الله} (النساء:119) يشهد لما قالوا أويؤيد ما رووا، وعندنا لا بأس بإخصاء سائر الحيوانات سوى بني آدم، وتأويل الآية إخصاء بني آدم هذه الجملة من شرح «السير» ، وهذا هو التأويل لقوله عليه السلام: «لا خصاء في الإسلام» ، وقيل: تأويل الحديث أن يخصي الرجل نفسه وإنه حرام. وفي إجارات «الأصل» : إن إخصاء بني آدم حرام بالاتفاق، فأما إخصاء الفرس فقد ذكر شمس الأئمة الحلواني في «شرحه» : أنه لا بأس به عند أصحابنا، وذكر شيخ الإسلام في «شرحه» : أنه حرام، وقد صح عن عمر رضي الله عنه: أنه نهى عن إخصاء الفرس، وأما غيره من البهائم فلا بأس به إذا كان فيه منفعة، وإذا لم يكن فيه منفعة فهو حرام، وفي أضحية «النوازل» في إخصاء السنور إنه لا بأس به إذا كان فيه منفعة أو دفع ضرره. وفي «الواقعات» : لا بأس بإخصاء البهائم إن كان يراد به إصلاح البهائم، فأما كي البهائم فقد كرهه بعض المشايخ، وبعضهم جوزوه؛ لأن فيه منفعة ظاهرة فإنها علامة، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن كي الحيوان على الوجه، فهذا يشير إلى جوازه على غير الوجه. (96ب2)

وفي «النوازل:» إذا وقت يوم الجمعة لقلم الأظفار إن رأى أنه جاوز الحدّ قبل يوم الجمعة ومع هذا يؤخر إلى يوم الجمعة يكره؛ لأن من كان ظفره طويلاً كان رزقه ضيقاً، وإن لم يجاوز الحدود فيه تبركاً بالأخبار فهو مستحب؛ لأن عائشة رضي الله عنها روت عن النبي عليه السلام أنه قال: «من قلم أظافره يوم الجمعة أعاذه الله تعالى من البلايا إلى الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام» .

ولو قلم أظفاره أو جز شعره يجب أن يدفن، وإن رمى فلا بأس، وإن رماه في الكنيف والمغتسل فهو مكروه، ويغسل؛ لأنه يورث الدّاء.
وينبغى للرجل أن يأخذ من شاربه حتى يصير مثل الحاجب، قال الفقيه رحمه الله تعالى: وقد استدلّ بعض المشايخ من أصحابنا بهذه المسألة أن رجلاً لو توضأ ولم يصل الماء إلى ما تحت شاربه أنه يجوز؛ لأنه رخص في مقدار الحاجب، ثم لو لم يصل الماء تحت الحاجب يجوز، فكذا هذا وبه نأخذ وعليه الفتوى، وهذا الذي ذكرنا كله في حق غير الغازي، فأما الغازي في دار الحرب يندب إلى تطويل الأظفار ليكون سلاحاً له،

(5/376)


ويندب إلى تطويل الشارب ليكون أهيب في عين العدو.
وإذا حلقت المرأة شعرها؛ فإن حلقت لوجع أصابها فلا بأس به، وإن حلقت تشبهاً بالرجال فهو مكروه، وهي ملعونة على لسان صاحب الشرع، وإذا وصلت المرأة شعر غيرها بشعرها فهو مكروه، قال عليه السلام: «لعن الله الواصلة والمستوصلة» هي التي تصل شعر امرأة بشعر امرأة أخرى، وإنما جاءت الرخصة في شعر غير بني آدم، تتخذه المرأة، ويزيد في قرونها، هكذا ذكر في «النوازل» وهو مروي عن أبي يوسف، قال: وإذا لم يكن للعبد شعر في الجبهة، فلا بأس للتجار أن يعلقوا على جبهته شعراً؛ لأنه يوجب زيادة في الثمن، هذا دليل على أنه إذا كان العبد للخدمة، ولا يريد بيعه أنه لا يفعل ذلك.

الفصل الحادي والعشرون في الزينة، واتخاذ الخادم للخدمة
اعلم بأن الزينة نوعان: نوع يرجع إلى البدن، ونوع يرجع إلى غيره، نبدأ بالذي يرجع إلى البدن، فنقول اتفق المشايخ أن الخضاب في حق الرجال بالحمرة سنة، وأنه من سير المسلمين وعلاماتهم، والأصل فيه قوله عليه السلام: «غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود» وقال الراوي: رأيت أبا بكر على منبر رسول الله عليه السلام ولحيته كأنها صرام عرفج، والعرفج اسم لبنت في البادية هي أشد حمرة من النار.

وأما الخضاب بالسواد: فمن فعل ذلك من الغزاة ليكون أهيب في عين العدو فهو محمود منه، اتفق عليه المشايخ، ومن فعل ذلك ليزين نفسه للنساء، وليحبب نفسه إليهن فذلك مكروه عليه عامة المشايخ. وبنحوه ورد الأثر عن عمر رضي الله عنه، وبعضهم جوزوا ذلك من غير كراهية، روي عن أبي يوسف أنه قال: كما يعجبني أن تتزين لي يعجبها أن أتزين لها، هذه الجملة من شرح «السير الكبير» .
اتفق المشايخ على أنه لا بأس بالإثمد للرجل، واتفقوا على أنه يكره الكحل الأسود إذا قصد به الزينة، واختلفوا فيما إذ لم يقصد به الزينة عامتهم على أنه لا يكره في «شرح السير» أيضاً، وفي «فتاوى أهل سمرقند» : لا بأس بالاكتحال يوم عاشوراء، روي أن أم سلمة كحلت رسول الله عليه السلام يوم عاشوراء، وفي «المنتقى» : روى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: لا بأس بأن تخضب المرأة يدها ورجلها تتزين بذلك لزوجها، ما لم يكن خضاباً فيه تماثيل، ولا بأس بالخضاب للجارية الصغيرة والكبيرة، وأما الصبي فلا ينبغي أن تخضب يده ولا رجله كالرجل.

(5/377)


وأما الذي يرجع إلى غير البدن قال محمد رحمه الله: ولا بأس بأن يتخذ الرجل في بيته سريراً من ذهب أو فضة، وعليه الفرش من الديباج يتجمل بذلك للناس من غير أن يقعد أو ينام عليه، فإن ذلك منقول عن السلف من الصحابة والتابعين روي أن الحسن أو الحسين لما تزوج امرأة يزدجر، وزينت بيته بالفرش من الديباج والأواني المتخذة من الذهب والفضة، فدخل عليه بعض من بقي من أصحاب رسول الله؛ وقال: ما هذا الذي في بيتك يا ابن رسول الله؟ فقال: هذا امرأة تزوجتها فأتت بهذه الأشياء، فلم أستحسن أن أمنعها من ذلك، عن محمد بن الحنفية أنه زين داره بمثل هذه فعاتبه في ذلك بعض الصحابة، فقال: إنما أتجمل للناس بهذا، ولست أستعمله كيلا ينظر أحد إلي بغير الجميل، وقول محمد من غير أن يقعد أو ينام عليه، فذلك راجع إلى قول محمد؛ لأنه لا يرى القعود والنوم على الديباج على ما مرَّ. فأما على قول أبي حنيفة رضي الله عنه لا يتأتى؛ لأنه يرى النوم والقعود على الديباج على ما مرَّ.
ذكر الفقيه أبو جعفر في شرح «السير الكبير» : أنه لا بأس بأن تستر حيطان البيوت باللبود المنقشة إذا كان قصد فاعله دفع البرد، فإن كان قصد فاعله الزينة فهو مكروه، وذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرح السير» أيضاً: لا بأس بأن تستر حيطان البيت باللبود إذا كان قصد فاعله دفع البرد، وزاد عليها فقال: أو بالخيش إذا كان قصد فاعله دفع الحر؛ لأن مقصود فاعله الانتفاع دون الزينة، وإنما يكره من ذلك ما يكون على قصد الزينة، فقد صح أن عمر رضي الله عنه أمر بنزعه ولما رأى سليمان ذلك، فقال أبو.... بينكم هذا، وتحولت الكعبة في كبده أشار إلى معنى الكراهة وهو تشبيه سائر البيوت بالكعبة، وفي «فتاوى أهل سمرقند» إرخاء الستر على البيت مكروه، قالوا: نص عليه محمد رحمه الله في «السير الكبير» ؛ لأنه زينة وتكبر، ذكر محمد في «السير الكبير» عن ابن أبي جحيفة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة حمراء من أدم، يعني يوم فتح مكة، ورأيت بلالاً قد أدخل عليه وجوه لم يحرجه نهر نفسه الحديث إلى أن قال ثم خرج رسول الله عليه السلام وعليه حلة حمراء، في الحديث دليل على أنه لا بأس بالتزين، ألا ترى أنه كان لرسول الله عليه السلام جبة حمراء من أدم، وفيه دليل على أنه لا بأس للإنسان أن يكون معه من يخدمه، ألا ترى أنه كان بلال مع رسول الله عليه السلام، وكان يقوم بخدمة وضوئه وغير ذلك، ولكن ينبغي أن يكلفه الخدمة قدر ما يطيق، وعن هذا قلنا: إنه لا بأس للإنسان أن يذهب راكباً حيث شاء وغلامه يمشي معه بعد أن كان يطيق ذلك، وإن كان لا يطيق ذلك فهو مكروه.

بلغنا أن عثمان رضي الله عنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم (97أ2) راكباً، وغلامه يمشي مسرعاً، فكره ذلك رسول الله فقال: أولم تتركه في البيت، فأعتقه عثمان، وتأويله أنه

(5/378)


كان لا يطيق، وقوله: خرج رسول الله عليه السلام وعليه حلة، إن كان ذلك قبل تحريم الإبريسم على الرجال، فلا حاجة إلى حمله على محمل، وإن كان بعد ذلك فالمراد من الحلة المنسوج من القطن، فإن العرب كانوا يسمون المنسوج من القطن حلة لجودته، وقوله حمراء إن كان قبل تحريم لبس المعصفر والمزعفر على الرجال فلا حاجة إلى تأويله وحمله على محمل، وإن كان بعد ذلك فهو محمول على لون القطن، يعني وعليه جبة منسوجة خير من قطن لونه أحمر.

الفصل الثاني والعشرون في قتل المسلم والده المشرك، ومن بمعناه، وقتله سائر محارمه
قال محمد رحمه الله: لا بأس بأن يقتل الرجل المسلم كل ذي رحم محرم من المشركين نبذوا به إلا الوالد خاصة، وإنما يكره له أن يترك والده بذلك، والأصل فيه قول الله تعالى: {قاتلوا المشركين كافة} (التوبة: 36) من غير فصل بين كافر وكافر لكن تركنا ظاهره في حق الوالد بالإجماع، وبنص آخر وهو قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} (الإسراء: 32) ، والنهي عن التأفف نهي عن القتل بطريق الأولى، وتخصيص الوالد عن ظاهر ما تلونا لا يدل على تخصيص غير الوالد من الابن والأخ والعم والخال وأشباههم؛ لأنه اجتمع في حق الوالد حرمتان؛ حرمة القرابة وحرمة الأبوة، فإن للأب زيادة حرمة بسبب الأبوة ليست هي لغيره ممن له قرابة محرمة للنكاح، حتى لا يقتل الوالد بالولد، ولا يحبس بدينه، فخصص بالوالد عن ظاهر ما تلونا وله زيادة حرمة لا يدل على تخصيص غير الوالد، وليس له تلك الزيادة، وإذا ثبت هذا في الوالد ثبت في الوالدة من طريق الأولى؛ لأنه اجتمع في حقها ثلاث حرمات؛ حرمة القرابة، وحرمة الأمية، فإن للأم زيادة حرمة ليست لغيرها، حتى لا تقتل بولدها، ولا تحبس بدين الولد، والأنوثة، فإن الأنوثة مما يحرم القتل فيخصص الأب عن ظاهر الآية، وله حرمتان، فيكون مخصصاً للأم ولها ثلاث حرمات، فإن أثبت في هذا الحكم في حق الوالد والوالدة ثبت في حق الأجداد والجدات من قبل الأب والأم؛ لأنهم بمنزلة الآباء والأمهات، ألا ترى أنهم لا يقتلون بولد الولد، ولا يحبسون بدينه كالأب والأم.
وهذا إذا لم يضطره الوالد إلى قتله فلا بأس بقتله إذا لم يمكنه الهرب منه؛ لأن ترك الأب حتى يقتله إهلاك نفسه والمأمور به في حق الابن شرعاً أن لا يتعرض للأب بشيء، ابتداءً لا إهلاك نفسه، وهذا كما نهينا عن قتل الصبي والشيخ الفاني من المشركين ابتداءً، ثم إذا جاء الاضطرار منهم بأن قصد واحد منهم مسلماً بالقتل، كان للمسلم (أن يقتله) وطريقه ما قلنا، وإذا ظفر بوالده في الصف فلا يقصده بالقتل، ولا يمكنه من الرجوع حتى لا يعود حرباً على المسلمين، ولكن يلجئه إلى موضع ويمسك به حتى يجيء غيره ويقتله، قال محمد رحمه الله: وهو أحب إلينا، هذا هو الكلام فيما بين المسلمين والمشركين.

(5/379)


بقي الكلام بين أهل البغي، وبين أهل العدل، فنقول: لا ينبغي للعادل أن يبتدىء كل ذي رحم محرم من أهل البغي بالقتل؛ لأنه اجتمع في حق التناهي حرمتان؛ حرمة الإسلام، وحرمة القرابة، فكان نظير الأب المشرك الذي اجتمع فيه حرمة القرابة، وحرمة الأبوة، وهو نظير ما قالوا: لا ينبغي للمسلم أن يقتل كل ذي رحم محرم في الرحم، والخصومة بالأب لاجتماع الحرمتين، وهو حرمة الإسلام والقرابة.

الفصل الثالث والعشرون فيما يسع من الجراحات في بني آدم والحيوانات، وقتل الحيوانات، وما لا يسع من ذلك.
في «فتاوى أبي الليث» في امرأة حامل ماتت، وعليه أن ما في بطنها حي، فإنه يشق بطنها من الشق الأيسر، وكذلك إذا كان أكثر رأيهم أنه حي شق بطنها. في «القدوري» وفي نكاح «فتاوى أبي الليث» : البكر إذا جومعت فيما دون الفرج، فحبلت بأن دخل الماء فرجها، ودنا أوان الولادة، تزال عذرتها إما..... أو بطرف درهم؛ لأن بدونه لا يخرج الولد، ولو اعترض الولد في بطن حامل، ولم يوجد سبيل إلى استخراج ذلك إلا بقطع الولد إرباً إرباً، ولو لم يفعل ذلك يخاف الهلاك على الأم، فإن كان الولد ميتاً في البطن فلا بأس به، وإن كان حياً لا معنى لجواز القطع؛ لأن هذا قتل النفس لصيانة نفس آخر، والشرع لم يرد بمثله.
وفي «القدوري» و «العيون» : رجل ابتلع درة لرجل، فمات المبتلع ولم يدع مالاً، قال: لا يشق بطنه وعليه القيمة، وذكر في أول الفصل الثاني من كتاب «الحيطان» : أنه يشق بطن المبتلع، وصورة ما ذكر في كتاب «الحيطان» : رجل ابتلع عشر دنانير رجل، ومات المبتلع يشق بطنه، فعلى ما ذكر في «الحيطان» لا يحتاج إلى الفرق بين المبتلع وبين المرأة الحامل إذا ماتت واضطرب في بطنها شيء، وعلى ما ذكر في «العيون» يحتاج إلى الفرق، والفرق الثاني مسألة المبتلع لو جوزنا الشق كان فيه إبطال حرمة الأعلى، وهو الأوفى لصيانة الأدنى وهو المال، ولا كذلك مسألة الحامل.

وفي «البقالي» عن أبي يوسف أنه قال: أكره من طلب الصيد ما طلب منه للهو، قال: وأكره تعليم البازي بالطير الحي، يأخذه فيعذبه، وقال: ويعلم بالمذبوح، قال: ولا بأس بالحمار وغيره يكون به الداء ويكون صاحبها معها في.... ويعجز عن.... أن يذبحها، وعنه في الدابة تقطع يدها أو رجلها أنها إن كانت في مما يؤكل يذبحها وإلا عالجها، وعن بعض المتقدمين أنه لا بأس بقطع الألية من الشاة إذا كانت الألية بحالة يمنع بقاءها الشاة أن تلتحق بالقطيع وخيف عليها الذئب، وفي «فتاوى أبي

(5/380)


الليث» : رجل مضطر لا يجد ميتة خاف الهلاك، فقال له رجل: اقطع يدي وكلها، أو اقطع مني قطعة وكلها لا يسعه ذلك؛ لأنه ربما يؤدي إلى إتلافه.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : رجل له كلب عقور في قرية، كل من مرَّ عليه عقره، فلأهل القرية أن يقتلوا هذا الكلب دفعاً لضرره، فإن عقر أحداً هل يجب الضمان على صاحبه؟ إن لم يتقدموا إليه قبل العض فلا ضمان عليه، وإن تقدموا إليه فعليه الضمان، بمنزلة الحائط المائل إذا سقط على إنسان، وفيه نظر. وفي «الواقعات» لا ينبغي للرجل أن يتخذ كلباً (97ب2) في داره إلا كلباً يحرس ماله؛ لأن كل دار فيها كلب لا يدخلها الملائكة، وفي «العيون» : قرية فيها كلاب كثيرة، ولأهل القرية منها ضرر يؤمر أرباب الكلاب بقتل الكلاب دفعاً للضرر عنهم، فإن أبوا رفعوا الأمر إلى الإمام حتى يأمرهم الإمام بذلك.

وفي أضحية «النوازل» : رجل له كلاب لا يحتاج إليها ولجيرانه منها ضرر، فإن أمسكها في ملكه فليس لجيرانه منعه؛ لأنه يتصرف في ملكه، وإن أرسلها في السكة فلهم منعه، فإن امتنع رفعوا إلى القاضي أو إلى صاحب الحسبة حتى يمنعه عن ذلك، وكذلك من امتلك دجاجة أو جحشاً أو عجولاً في الرستاق، فهو على هذين الوجهين.

وفي «فتاوى أهل سمرقند» : الهرة إذا كانت مؤذية لا تضرب، ولا تفرك أذنها ولكنها تذبح بسكين حاد، وفي «فتاوى أهل سمرقند» : قتل الجراد يحل؛ لأنه صيد، لا سيما إذا كان فيه ضرر عام، وتكلم المشايخ في النملة، قال الصدر الشهيد: والمختار للفتوى أنها إذا ابتدأت بالأذى فلا بأس بقتلها، وإن لم تبتدىء يكره قتلها، والأصل في ذلك: ما روي أن نملة قرصت نبياً من الأنبياء، فأحرق بيت النملة، فأوحى الله تعالى هلاّ قتلت تلك النملة الواحدة، دليل على جواز قتلها عند الأذى، وعلى عدم الجواز عند انعدام الأذى، واتفقوا على أنه لا يجوز إلقاؤها في الماء، وقتل القملة يجوز على كل حال.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إحراق القمل والعقرب بالنار مكروه، جاء في الحديث: «لا يعذب بالنار إلا ربها» ، وطرحها حية مباح، ولكن يكره من حيث الأدب.... الذي يقال له بالفارسية: «تبله» يلقى في الشمس ليموت.... ولا يكون به بأس؛ لأن في ذلك منفعة للناس، ألا ترى أن السمكة تلقى في اليبس فتموت ولا يكون به بأس، ولا بأس بكيِّ الصبي إذا كان لداء أصابهم؛ لأن ذلك مداواة، ذكر في «واقعات الناطفي» ، وفيه أيضاً: لا بأس بثقب أذن الطفل من النعات، فقد صح أنهم كانوا يفعلون ذلك في زمن رسول الله عليه السلام من غير إنكاره.

(5/381)


الفصل الرابع والعشرون في تسمية الأولاد وكناهم
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «سموا أولادكم أسماء الأنبياء وأحب الأسماء إلى الله تعالى؛ عبد الله، وعبد الرحمن» قال الفقيه أبو الليث: لا أحب للعجم أن يسموا عبد الرحمن عبد الرحيم؛ لأن العجم لا يعرفون تفسيره، فيسمونه بالتصغير، وروي عن النبي عليه السلام: أنه نهى أن يسمى المملوك نافعاً أو بركة، أو ما أشبه ذلك، قال الراوي:؛ لأنه لم يحب أن يقال: ليس ههنا بركة، ليس ههنا نافع إذا طلبه إنسان، وفي الأثر: «لا يقول الرجل عبدي وأمتي، بل يقول: فتاي وفتاتي» .

وفي «الفتاوى» : التسمية باسم لم يذكره الله تعالى في كتابه ولا ذكره رسول الله عليه السلام، ولا استعمله المسلمون تكلموا فيه، والأولى أن لا تفعل.
وروي إذا ولد لأحدهم ولد فمات، فلا يدفنه حتى يسميه إن كان ذكراً باسم الذكر، وإن كان أنثى فباسم أنثى، وإن كان لم يعرف فباسم يصلح لهما.
وأما الكلام في الكنية فكان عادة العرب أنه إذا ولد لأحدهم ولد كان يكنى به، وامرأته كانت تكنى به أيضاً، يقال للزوج: أب فلان، ولامرأته: أم فلان، كما قيل: أبو سلمة، وامرأته أم سلمة، وأبو الدرداء، وامرأته أم الدرداء، وأبو ذر، وامرأته أم ذر، وكان الرجل لا يكنى له ما لم يولد له، ولو كنى ابنه الصغير بأبي بكر، أو غيره كره بعضهم، إذ ليس لهذا الابن ابن اسمه بكر ليكون هو أب بكر، وعامتهم على أنه لا يكره؛ لأن الناس يريدون بهذا التعالي أنه سيصير في ثاني الحال، لا التحقيق في الحال.
ولا بأس بأن يكنى بكنية رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «سموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي» ، فقد قيل: إنه منسوخ، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه سمى ابنه محمد وهو ابن الحنفية، وكناه أبو القاسم وقد كان استأذن منه. وعن عائشة رضي الله عنها: أن امرأة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني ولدت غلاماً فسميته محمداً وكنيته أبا القاسم، فذكر لي أنك تكره ذلك، فقال: «ما الذي حرم كنيتي وأحل اسمي» أو «ما الذي حلَّ اسمي، وحرم كنيتي» ، وعن محمد: أن من سمي باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أكره أن يكنى بكنيته، ذكره في الكشف.

(5/382)


الفصل الخامس والعشرون في الغيبة والحسد
ذكر في «العيون» : رجل اغتاب أهل قرية لم يكن غيبة حتى يسمي قوماً يعدون، وفي «فتاوى أهل سمرقند» : رجل ذكر مساوىء أخيه المسلم على وجه الاهتمام فلا بأس به؛ لأن هذا ليس بغيبة، الغيبة أن يذكر ذلك مريداً البت والنقص، ولو كان الرجل يصلي ويضر الناس باليد واللسان لاغيبة في ذكره بما فيه لقوله عليه السلام: «اذكروا الفاجر بما فيه» وإن أعلم السلطان لزجره، فلا إثم عليه.
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «لا حسد إلا في اثنين؛ رجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه في طاعة الله، ورجل آتاه الله علماً فهو يعلمه الناس ويقضي به» الحديث بظاهره دليل على إباحة الحسد في هذين؛ لأنه استثناء من التحريم إباحة، قال شيخ الإسلام: وليس الأمر كما يقتضيه ظاهر الحديث، والحسد حرام في هذين كما هو حرام في غيرهما، وإنما معنى الحديث؛ لا ينبغي للإنسان أن يحسد غيره، ولو حسد إنما يحسد في هذين لا لكون الحسد فيهما مباحاً، بل لمعنى آخر أن الإنسان إنما يحسد غيره عادة لنعمة يراها عليه، فيتمناها لنفسه، وما عدا هذين من أمور الدنيا ليس بنعمة؛ لأن مآل ذلك سخط الله، والنعمة ما يكون مآله رضا الله تعالى، وهذان مآلهما رضا الله فهما النعمة دون ما سواهما، ثم بعض مشايخنا قالوا: الحسد المذموم أن يرى على غيره نعمة، فيتمنى زوال تلك النعمة عن ذلك الغير، وكينونتها لنفسه، أما لو تمناها لنفسه فذلك لا يسمى حسداً، بل يسمى غبطة، وكان شيخ الإسلام يقول: لو تمنى تلك النعمة بعينها لنفسه يكون حراماً ومذموماً؛ لأنه بمعنى الزوال عن ذلك الغير، والأصل فيه قول الله تعالى: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} (النساء: 32) ، أما إذا تمنى مثل ذلك لنفسه فلا بأس به، وذكر شمس الأئمة السرخسي في معنى الحديث أن الحسد مذموم (98أ2) بغير الحاسد إلا فيما استثني فهو محمود في ذلك، وإنه ليس بحسد على الحقيقة بل هو غبطة، والحسد أن يتمنى الحاسد أن يذهب بنعمة المحسود

عنه، ويتكلف لذلك، ويعتقد أن تلك النعمة في غير موضعها، ومعنى الغبطة أن يتمنى لنفسه مثل ذلك من غير أن يتكلف، ويتمنى ذهاب ذلك عنه، أورد محمد رحمه الله هذا الحديث في «أدب القاضي» .

(5/383)


h

الفصل السادس والعشرون في دخول النساء الحمام، وفي ركوبهن على السروج
ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» عن عمر بن عبد العزيز: أنه كتب أن لا يدخل الحمام امرأة إلا نفساء أو مريضة، ولا تركب امرأة مسلمة على سرج، قوله: لا يدخل الحمام امرأة نهي على سبيل العموم، ولكن بصيغة الخبر، وقوله: إلا نفساء أو مريضة استثناءٌ لحالة العذر، ولا خلاف لأحد في إباحة الدخول لهن بهذه الأعذار.
أما بعذر المرض فإن للحمام أثراً في إزالة بعض الأمراض، فكان يشبه التداوي بسائر المداواة، وقد أبيح لها في حالة العذر ما هو أشد من هذا، وهو كشف العورة للتداوي.
وأما بعذر النفاس فلأنه نوع مرض، وقاس بعض مشايخنا الحيض على النفاس من حيث إنه مرض كالنفاس.
وأما دخولهن الحمام بغير هذه الأعذار، فقد اختلف المشايخ في ذلك؛ بعضهم قالوا: لا يباح، وإليه مال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده، ويستدل بهذا القائل بعموم قوله: لا يدخل الحمام امرأة، ويستدل أيضاً بامتناع محمد رحمه الله عن ردّ هذا الحديث عند ذكره، فإنه لم يقل: ولا نأخذ به، فدل أن ذلك قوله، ويؤيد ذلك قوله عليه السلام: «أيما امرأة وضعت جلبابها في غير بيت زوجها، فعليها لعنة الله والملائكة، والناس أجمعين» ولما دخلت نساء ... على عائشة رضي الله عنها قالت: أنتن من اللاتي يدخلن الحمام؟ فقلن: نعم، فأمرت بإخراجهن وغسل موضع جلوسهن.

وبعضهم قالوا: يباح إذا خرجت بإذن زوجها متعففة واتزرت حين دخلت الحمام، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي؛ وهذا لأن دخول الحمام إما لأجل الزينة، وهو بالنساء أليق منه بالرجال، أو للحاجة إلى الاغتسال، وحاجة المرأة إلى الحمام لذلك أشد من حاجة الرجال؛ لأن أسباب الاغتسال في حقهن أكثر، وهي لا تتمكن من الاغتسال في الحياض والأنهار، والرجل يتمكن من ذلك، فالإباحة في حق الرجل تدل على الإباحة في حق المرأة من طريق الأولى، فتأويل الأحاديث في التي تخرج بغير إذن الزوج غير متعففة.
وقوله: ولا تركب امرأة مسلمة على سرج بظاهره، نهى النساء عن الركوب على السرج، وبه نقول وإنه خرج موافقاً لقوله عليه السلام: «لعن الله الفروج على السروج»

(5/384)


والمعنى في النهي من وجهين؛ أحدهما: أن هذا تشبه بالرجال، وقد نهين عن ذلك، الثاني: أن فيه إعلان الفتن وإظهارها للرجال، وقد أمرن بالستر، قالوا: وهذا إذا كانت شابة، وقد ركبت السرج والفرج، فأما إذا كانت عجوزاً أو كانت شابة إلا أنها ركبت مع زوجها بعذر بأن ركبت للجهاد، وقد وقعت الحاجة إليهن للجهاد، أو للحج أو للعمرة فلا بأس إن كانت مستترة، فقد صح أن نساء المهاجرين كنَّ يركبن الأفراس، ويخرجن للجهاد، فكان رسول الله عليه السلام يراهن و (لا) ينهاهن، وكذلك بنات خالد بن الوليد كن يركبن، ويخرجن للجهاد يسقين المجاهدين في الصفوف ويداوين الجرحى.

الفصل السابع والعشرون في البيع، والاستيام على سوم الغير
ذكر محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : أن بيع السرقين جائز عندنا؛ لأن السرقين منتفع به، وإن كان نجساً يجوز بيعه كالثوب النجس، بيان الانتفاع أن الناس اعتادوا إلقاء السرقين في الأراضي لاستكثار الريع من غير تكثير، وإذا ثبت أنه منتفع كان مالاً عرفاً وشرعاً، ولأجل ذلك الناس يحرزونه، ويجري الشح والضنة فيه، وإذا ثبتت المالية جاز البيع.

ويكره بيع العذرة الخالصة؛ لأنها غير منتفع بها؛ لأن الناس لا يحرزونها ولا ينتفعون بها، وإنما ينتفعون بالمخلوط بالتراب، فالمخلوط بالتراب منتفع فيجوز البيع، أما غير المخلوط ليس يمنتفع فلا يجوز البيع، وهل يجوز استعمال العذرة الخالصة؟ فعن محمد رحمه الله أنه لا يجوز، وعن أبي حنيفة رضي الله عنه فيه روايتان.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» أيضاً: ولا بأس ببيع من يزيد وهو بيع الفقراء ومن كسدت بضاعته، والأصل فيه ما روي أن النبي عليه السلام باع حلساً وقدحاً ببيع من يزيد، ولأن الناس تعاملوا ببيع المزايدة في الأسواق من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا من غير نكير.
وإنما أورد هذه المسألة لإشكال، وهو أن الاستيام على سوم الغير منهي، قال عليه السلام: «لا يستام الرجل على سوم أخيه» وإذا أردت أن تعرف الفرق بين الاستيام على سوم الغير، وبين بيع المزايدة، فمعرفة ذلك بحرف، وهو أن صاحب المال إذا كان ينادي عن سلعته، فطلبه إنسان بثمن، فإن لم يكف عن النداء فلا بأس لغيره أن يزيد، ويكون

(5/385)


هذا بيع المزايدة، ولا يكون استياماً على سوم الغير. وإن كف عن النداء، ويمكن إلى ما طلب منه ذلك الرجل، فليس للغير أن يزيد في ذلك، ويكون هذا استيام على سوم الغير، وإن كان الدلال هو الذي ينادي على السلعة فطلبه إنسان بثمن، وقال الدلال: حتى أسأل المالك فلا بأس للغير أن يزيد في هذه الحالة، فإن أخبر مالكه بذلك فقال: بعه واقبض الثمن، فليس للغير أن يزيد بعد ذلك، ويكون هذا استياماً على سوم الغير؛ وهذا لأن النهي عن الاستيام على سوم الغير لدفع الدهشة والرحمة، إنما يجعل إذا ركن قلب صاحب السلعة إلى ما طلب منه وعزم على بيعها بذلك أما قبل ذلك فلا.

والدليل على صحة ما قلنا ما روي في حديث فاطمة بنت قيس أنها قالت: يا رسول الله عليك السلام إن معاوية وأبا الجهم يخطبانني فما ترى؟ فقال عليه السلام: «أما معاوية فصعلوك (98ب2) لا مال له، وأما أبو الجهم فلا يرفع عصاه عن أهله، انكحي أسامة بن زيد، ففعلت ووجدت منه خيراً كثيراً» ، فثبت بهذا الحديث صحة ما ذهبنا إليه من الفرق.

وفي وديعة «العيون» : رجل اشترى جارية وهي لغير البائع، أو اشترى ثوباً وهو لغير البائع، فوطىء المشتري الجارية ولبس الثوب وهو لا يعلم، ثم علم فهل المشتري آثم؟ روي عن محمد أن الجماع واللبس حرام، إلا أنه يوضع عن المشتري الإثم، وقال أبو يوسف: الوطء حلال وهو مأجور في إتيان الجارية، وإذا تزوج امرأة ثم تبين أنها كانت منكوحة الغير، وقد وطئها الزوج الثاني، يجب أن تكون المسألة على الخلاف الذي (ما) ذكرنا.

الفصل الثامن والعشرون في الرجل يخرج إلى السفر ويمنعه أبواه، أو أحدهما أو غيرهمامن الأقارب أو يمنعه الدائن، والعبد يخرج ويمنعه المولى والمرأة
قال محمد رحمه الله في «السير» : ولا يخرج الرجل إلى الجهاد وله أب أو أم إلا بإذنه، إلا من النفير العام، والأصل في ذلك ما روي عن رسول الله عليه السلام أنه سئل عن أفضل الأعمال، فقال: «الصلاة لوقتها، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله» فهذا تنصيص على تقديم بر الوالدين على الجهاد، والمعنى أن الجهاد فرض عام ينوب البعض فيه عن البعض، وطاعة الوالدين وبرهما فرض خاص لا ينوب البعض فيه عن البعض، ولا شك أن الاشتغال بالفرض الخاص الذي لا ينوب البعض فيه عن البعض

(5/386)


أولى من الاشتغال بالفرض العام الذي ينوب عنه فيه غيره، وهذا استحسان أن يخرج بغير إذنهما.
ولو أراد أن يخرح من بلدة إلى بلدة للتجارة أو للتفقه، وكان الطريق آمناً لا يخاف عليه الهلاك، فله أن يخرج من غير إذنهما قياساً واستحساناً.

وجه القياس: أن الجهاد قبل النفير العام إما أن يعتبر فرض كفاية أو يعتبر تطوعاً، فإن اعتبرناه تطوعاً، للولد إقامة التطوعات بحق الصلاة والصوم بغير إذن الوالدين، وإن اعتبرناه فرض كفاية، فكذلك للولد إقامة ما هو فرض كفاية بغير إذن الوالدين كصلاة الجنازة ورد السلام وما أشبهه.
وجه الاستحسان في ذلك ما روينا وما روي أن رجلاً قال لرسول الله عليه السلام: إني أريد الجهاد فقال له: «ألك أم» ؟ فقال: نعم، فقال له: «الزم أمك، فإن الجنة عند رجل أمك» يحتمل أن تكون الرواية بالجيم رجل أمك، ويحتمل أن تكون الرواية بالحاء رحل أمك، وروي أن رجلاً جاء إلى النبي عليه السلام وقال: جئت أجاهد معك، وتركت والديَّ يبكيان، فقال: «اذهب فأضحكهما كما أبكيتهما» وقال عليه السلام: «ليعمل البار ما شاء فلن يدخل النار، وليعمل العاق ما شاء فلن يدخل الجنة» وقال عليه السلام: «من أصبح ووالداه راضيان عنه، فله بابان مفتوحان إلى الجنة» فتركنا القياس في الجهاد بهذه الآثار، وما ثبت بخلاف القياس لا يقاس عليه غيره والنص الوارد لاشتراط إذن الوالدين في حق الجهاد قبل مجيء النفير عاماً، وفي الخروج إلى الجهاد إفجاعهما وإلحاق المشقة بهم لما يخافان عليه من الهلاك بالقتل في الجهاد، لا يعتبر وارداً دلالة في صلاة الجنازة وردِّ السلام ولا في غيرهما من التطوعات، وهما لا يخافان عليه بسبب إقامة هذه العبادات، وإذا لم يعتبر وارداً فيهما دلالة رد صلاة الجنازة ورد السلام إلى مما يقتضيه القياس، ولا يعتبر وارداً أيضاً؛ لأنه بعد مجيء النفير العام؛ لأن الجهاد، حال مجيء النفير العام فرض عين في حق من قدر على الجهاد حتى لو ترك مع القدرة أثم، كما لو ترك الصلاة المفروضة والصوم المفروض، وقبل النفير العام الجهاد فرض كفاية حتى لو ترك مع القدرة لم يأثم كما لو ترك سائر التطوعات، وفرض العين فوق فرض الكفاية، فالنص الوارد باشتراط الإذن

قبل النفير العام لا يصير وارداً بعد النفير العام؛ لأن النص يدل على مثله وعلى ما دونه، ولا يدل على ما فوقه، فرد هذه الحالة وهو ما بعد مجيء النفير العام إلى ما يقتضيه القياس، ولأن النفير إذا كان عاماً فكل واحد

(5/387)


من المسلمين مقصود بالقتل، فكان للولد الدفع عن نفسه بغير إذن الوالدين وإن كان في خروجه إفجاعهما، وإلحاق المشقة بهما؛ لأن الولد مضطر في ذلك، وصار كما لو قصد إنسان قتل الولد كان له دفعه عن نفسه بغير إذن الوالدين، فطريقه ما قلنا، فكذلك هذا بخلاف ما إذا لم يصر النفير عاماً؛ لأنه بالخروج إلى الجهاد لا يدفع القتل عن نفسه؛ لأن القتل لم يتجه عليه لا حقيقة ولا اعتباراً، فلا يضطر الولد في هذه الحالة إلى تفجيعهما وإدخال المشقة عليهما، وقد يمنع الولد من تفجيع الأبوين، ولهذا لا يقاد الوالد بقتل الولد، ولا يحبس بدينه ولا يحد حدَّ القذف بقذف الابن لما فيه من تفجيعهما، وإدخال المشقة عليهما، فلا يجوز له تفجيعهما بالخروج إلى الجهاد من غير ضرورة.

وإذا خرج للتجارة أو للتفقه بفقه يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى، وهكذا الجواب في العبد لا يخرج إلى الجهاد بغير إذن المولى إلا أن يقع النفير عاماً، والنص الوارد في الولد يكون وارداً في العبد دلالة، وذلك؛ لأن حق السيد في عبده أكثر من حق الوالدين في ولدهما؛ لأن للسيد حقيقة ملك في عبده، وليس للوالدين حقيقة ملك في رقبة ولدهما، ولا حق ملك وإنما لهما حق ملك في كسب ولدهما، وكما منع الولد من تفجيع والديه منع العبد من تفجيع مولاه حتى لا يقاد السيد بعبده كما لا يقاد الوالد بولده، فصار الجواب في العبد كالجواب فيما بين الولد والوالدين.

فإن قيل: الولد إنما كان له الخروج بغير إذن والديه إذا جاء النفير عاماً؛ لأن منافع الولد غير مملوك للوالدين، فأما منافع العبد مملوك فهذا إنما يقاتل بملك غيره فلا يحل إلا بإذن صاحب المال. قلنا: نعم يقاتل العبد بمنافع مملوك للمولى بغير إذنه، إلا أن القتال بملك الغير بغير إذنه حالة الضرورة مباح، فيباح للعبد ذلك بغير إذن المولى.
وإن كان له أبوان، وقد أذنا له بالخروج إلى الجهاد كان له الخروج؛ لأنه إنما منع من الخروج لحقهما، فإذا أذنا له بالخروج إلى الجهاد فقد زال المانع من الخروج فزال المنع، وكان كالعبد لا يخرج إلى الجهاد بغير إذن مولاه، وإذا أذن له مولاه بالخروج كان له الخروج؛ لأن المانع (99أ2) من الخروج قد زال، فكذلك هذا.
وإن أذن له أحدهما، ولم يأذن له الآخر، فإنه لا يخرج؛ لأنه كان ممنوعاً من الخروج لحق كل واحد من الأبوين، فإذا أذن له أحدهما في الخروج إلى الجهاد، ولم يأذن الآخر، فالمانع من الخروج لم يزل بعد فيبقى المنع، وكان كعبد بين شريكين أذن له أحدهما في الخروج إلى الجهاد، ولم يأذن له المولى الآخر، لا يباح له الخروج؛ لأنه كان ممنوعاً عن الخروج لحق كل واحد من الموليين، فإذا أذن له أحدهما، ولم يأذن الآخر لم يزل المانع فيبقى المنع، والوالدان في سعة من أن.... إذا كان يدخلهما من ذلك مشقة شديدة؛ لأنهما يحملانه على ما هو الأقوى في حقه، وهو برهما، ثم إن

(5/388)


كره الوالدان أو أحدهما خروجه إلى الجهاد لا فرق بين أن يخاف ضيعة عليهما، بأن كانا معسرين، وكان نفقتهما عليه، أو لا يخاف عليهما الضيعة متى خرج بأن كانا موسرين، ولم تكن نفقتهما عليه، فإنه لا يباح له الخروج في الحالين استحساناً؛ لأنه منع من الخروج قبل إذنهما شرعاً لما يلحقهما من التفجيع بما يخافان عليه من القتل، وهذا المعنى لا يوجب الفصل، بينما إذا كان يخاف الضيعة عليهما أو لا يخاف فهو عليهما.

هذا الذي ذكره كله إذا كان أبواه مسلمين، فأما إذا كان أبواه كافرين، أو أحدهما فاستأذنهما في الخروج إلى الجهاد فكرها له ذلك، أو كره الكافر منهما هل له أن يخرج؟ قال: فلينظر في ذلك، يريد بقوله: فلينظر في ذلك، أي فليتحر في ذلك، فإن وقع تحريه على أنه إنما كرها خروجه لما يلحقهما من التفجيع والمشقة لأجل ما يخافان عليه من القتل، فإنه لا يخرج؛ لأنه كما منع الولد عن إلحاق التفجيع لوالديه إذا كانا مسلمين، منع من إلحاق التفجيع بهما إذا كانا كافرين، ألا ترى أن الوالد المسلم كما لا يقاد بولده المسلم، لا يقاد بوالده الكافر، وكما لا يحبس الوالد المسلم بدين ولده المسلم، لا يحبس الوالد الكافر بدين ولده المسلم، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وصاحبهما في الدنيا معروفاً} (لقمان: 15) والوالد الكافر في هذا والمسلم سواء.
فأما إذا وقع تحريه على أنه إنما كرها خروجه للجهاد كراهة أن يقاتل مع أهل دينه وملته لا لما يلحقهما من التفجيع والمشقة لأجل ما يخافان عليه من قتله كان له الخروج بغير إذنهما؛ لأنهما نهياه عن مقاتلة أهل الكفر، والنهي عن مقاتلة أهل الكفر معصية، ولا يجب طاعة المخلوق في معصية الخالق، قال الله تعالى: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما} ، وقال عليه السلام: «لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق» فكان له أن يخرج بغير إذنهما إلا أن يخاف الضيعة عليهما، فإذا خاف الضيعة عليهما لا يسعه الخروج؛ لأن صيانتهما عن الضياع فرض عليه عيناً بحيث لا يسعه تركهما وإن كانا كافرين، ألا ترى أنه يلزمه نفقتهما صيانة لهما عن الضياع، والقتال مع الكفرة قبل النفير عاماً مما لا يسعه فإنه مخير في هذه الحالة بين أن يخرج وبين أن لا يخرج، ولا شك أن الاشتغال بما لا يسع تركه أولى من الاشتغال بما يسع تركه.
ولم يذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» أنه إذا تحرى، ولم يقع تحريه على شيء بل شك في ذلك، ولم يترجح أحد الظنين على الآخر أنهما كرها خروجه لما لا يلحقهما من التفجيع والمشقة لأجل ما يخافان عليه من قتله أو كرها خروجه لما فيه من القتال مع أهل دينهما، قالوا: وعلى ما ذكر محمد رحمه الله في «السير» في باب طاعة الوالي، يجب أن لا يخرج، فقد ذكر في باب طاعة الوالي أن الأمير إذا أمر الجند بشيء وشكوا أنهم ينتفعون به أو يتضررون به وتساوى الظنان، قال: عليهم أن يطيعوا الأمير ولا يسعهم

(5/389)


خلافه؛ لأن طاعة الأمير واجب عليهم بيقين ووقع الشك في سقوطه، فلا يسقط عنه بالشك، كذا طاعة الولد للوالدين فيما يأمرانه واجبة عليه بيقين ووقع الشك في سقوطه فلا يسقط بالشك، فإن كرها خروجه لكراهة قتاله مع أهل دينه، ولأجل المشقة عليه أيضاً لم يخرج لوجود المعنى المانع عن الخروج، وهو الخوف والمشقة عليه.

وإن كان له أبوان مسلمان أو كافران، وأذنا له في الخروج، وله جدان وجدتان؛ فكرها خروجه فليخرج، ولا يلتفت إلى كراهة الجدين والجدتين حال قيام الأبوين؛ لأن الأجداد والجدات حال قيام الأبوين ألحقوا شرعاً بالأخوة والأخوات ولم يلحقوا بالأبوين، ألا ترى أن الجد لا يلي على حافده لا في النفس ولا في المال حال قيام الأب، ولا يكون للجدة حق الحضانة حال قيام الأم، كما لا يكون للأخت..... بالأخ والأخت حال قيام الأبوين، فكما لا يعتبر كراهة الأخوة والأخوات في الخروج إلى الجهاد بعد وجود إذن الأبوين لا يعتبر كراهة الجد والجدة حال قيام الأبوين بعد وجود الإذن منهما.

فأما إذا كان الأبوان ميتين، وكان له جد من قبل الأب وجدة من قبل الأم أم الأم، لا يخرج إلا بإذنهما؛ لأن الجد بعد موت الأب بمنزلة الأب لا بمنزلة الأخ، ألا ترى أنه في حق الولاية على حافده قائم مقام الأب، فكذا في حق الإذن بالجهاد، والجدة أم الأم بعد موت الأم بعد موت الأم قامت مقام الأم في حق الحضانة، فكذا في حق الإذن بالجهاد تقوم مقام الأم، وإذا قاما مقام الأبوين لم يخرج إلا بإذنهما، كما لا يخرج إلا بإذن الأبوين.
وإن كان له جدان؛ أحدهما من قبل الأب والآخر من قبل الأم أب الأم، وجدتان إحداهما من قبل الأم أم الأم، والأخرى من قبل الأب أم الأب، فالإذن إلى أب الأب وإلى أم الأم، ولا عبرة للآخرين، ألا ترى أن الآخرين صارا محجوبين بأب الأب، وأم الأم في حق الولاية والحضانة بالأخ والأخت لا بالأبوين، كذا في حق الإذن يصيران محجوبين بهما، ويلحقان بالأخ والأخت، فيعتبر إذن أب الأب، وأم الأم وكذا ههنا لهذا، فإن لم يأذن له اللذان ذكرنا وهو الجد من قبل الأب، والجدة من قبل الأم، وأذن له الآخران، قال محمد في «الكتاب» : لا يعجبني أن يخرج، وكان المقام أحب إلي من الخروج، فلم تثبت الكراهة ههنا لحق الجد من قبل الأب، والجدة من قبل الأم، ولكن جعل المقام أحب من الخروج.
وفيما إذا كان له أبوان وجدان وجدتان، فلم يأذن له الأبوان، وأذن له الجدان (99ب2) والجدتان أثبت الكراهة، فقال: لا ينبغي أن يخرج، وإنما فعل هكذا؛ لأن الأبوين أقرب من الجدود والجدات، ولارتفاع درجة الأبوين أثبت الكراهة إذا لم يأذنا له في الخروج، ولانحطاط درجة الأجداد والجدات لم نثبت الكراهة إذا لم يأذن له الجد من قبل الأب، والجدة من قبل الأم بعد وجود الإذن من الجد من قبل الأم.

(5/390)


فإن لم يكن له جدة من قبل الأم أب الأم، فإنه لا يخرج للجهاد إلا بإذنهما، وإن أذن له أحدهما، ولم يأذن له الآخر، فإنه لا يخرج، علل محمد رحمه الله في «الكتاب» وقال: لأنهما بمنزلة الوالدين إذا لم يكن له والدين يريد بذلك والله أعلم أن أم الأب حال عدم الأم، والجدة من قبل الأم بمنزلة الأم، وليست بمنزلة الأخت في حق الحضانة حتى كانت أم الأب أولى بالحضانة حال عدم الأم، والجدة من قبل الأم ... من الأخت؛ فكذا في حق الإذن في الجهاد تكون بمنزلة الأم، ولم تكن بمنزلة الأخت، ولا يخرج إلى الجهاد بغير إذن الأم، فكذا لا يخرج بغير إذن أم الأم، والجد من قبل الأم أب الأم حال عدم الأب، والجد من قبل الأب إن لم يكن بمنزلة الأب في حق الولاية عليه بالنفس والمال، فهو بمنزلة الأب لا بمنزلة الأخ في حق الحبس حتى لا يحبس أب الأم بدين وجب لولد البنت عليه، ولا يقتص بقصاص وجب لولد البنت عليه، ولو قذف ولد البنت فإنه لا يحد حد القذف، فكان في هذه الأحكام بمنزلة الأب لا بمنزلة الأخ، فكذا في حق الإذن بالجهاد.

فإن كان له جد من قبل أب وأم، ولم يكن له أب، فإنه لا يخرج إلا بإذن الأم، وإذن الجد؛ لأن الجد من قبل الأب حال عدم الأب بمنزلة الأب في حق الولاية حتى كانت الولاية إلى الجد من قبل الأب في حق النفس والمال جميعاً حال عدم الأب، فلا يخرج إلا بإذنهما، كما لا يخرج إلا بإذن الأبوين.
وإن لم يكن له أم، وكانت له جدة من قبل الأم، وجدة من قبل الأب فأذنت له الجدة من قبل الأم، ولم تأذن له الجدة من قبل الأب فلا بأس بأن يخرج؛ لأن الجدة من قبل الأب حال قيام الجدة من قبل الأم بمنزلة الأخت في حق الحضانة والتربية حتى كان حق الحضانة إلى الجدة من قبل الأم، ولم يكن للجدة من قبل الأب كما لا يكون للأخت، فكذا في حق الإذن بالجهاد.

ولو كان له أم وأخت، فأذنت له الأم بالجهاد، ولم تأذن له الأخت كان له أن يخرج فكذا هذا.
فإن كانت له أم وجدات، فأذنت له الأم فلا بأس بأن يخرج؛ لأن الجدات حال قيام الأم بمنزلة الأخوات في حق الحضانة حتى لم يكن لهن حق الحضانة حال وجود الأم، كما لا يكون للأخوات، فكذا في حق الإذن بالجهاد قامت الجدات مع الأم مقام الأخوات.
h
وكذا إذا كان له أب وأجداد، فأذن له الأب فلا بأس بأن يخرج، ثم قال: وذلك؛ لأن الأجداد حال وجود الأب بمنزلة الإخوة لا بمنزلة الأب في حق الولاية والميراث، فكذا في حق الإذن في الجهاد.
قال: وكل سفر أراد الرجل أن يسافر غير الجهاد لتجارة أو لحج أو عمرة، فكره ذلك أبواه له أن يخرج بغير إذنهما، فهذا على وجهين: أما إن كان لا يخاف الضيعة

(5/391)


عليهما، فإن كانا موسرين، ولم تكن نفقتهما عليه، أو كان يخاف الضيعة عليهما بأن كانا معسرين، وكانت نفقتهما عليه، وكان السفر سفراً يخاف على الولد الهلاك فيه؛ كركوب السفينة في البحر، وكاجتياز البادية ماشياً في الحر الشديد، أو كان سفراً لا يخاف على الولد الهلاك فيه، فإن كان يخاف الضيعة عليهما، فإنه لا يخرج بغير إذنهما سواء كان السفر سفراً يخاف على الولد الهلاك فيه، أو لا يخاف، وذلك؛ لأن صيانتهما عن الهلاك بالإنفاق عليهما فرض عليه حتى يجبر على ذلك، والخروج للتجارة وللكسب مباح، والخروج للعمرة تطوّع، وللحج إن كان حجة الإسلام تطوع إذا لم يكن له مال يفي بالزاد والراحلة، ونفقة من يلزمه نفقته إلى أن يذهب إلى الحج ويجيء، وهنا ماله لا يفي بالكل حتى خاف الضياع عليهما فلا يفرض عليه الخروج للحج، ويكون بمنزلة حج التطوع، ولا يجوز الاشتغال بالتطوع والمباح، إذا تضمن ترك فرض.
فعلى هذا قالوا: لا يباح له الخروج للتفقه بغير إذن والديه إذا كان يخاف الضيعة عليهما، فأما إذا كان لا يخاف الضيعة عليهما متى خرج هل له أن يخرج بغير إذنهما؟ إن كان السفر سفراً لا يخاف على الولد الهلاك فيه كان له أن يخرج بغير إذنهما؛ لأن القياس أن يخرج في الجهاد بغير إذنهما لقوله تعالى: {اقتلوا المشركين} (النساء: 66) ولقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} (التوبة: 29) إلا أنا تركنا القياس في الجهاد بالنص، والنص الوارد في الجهاد بخلاف القياس، وفيه تفجيعهما وإلحاق المشقة بهما، لأجل ما يخافان الهلاك على ولدهما في الجهاد يعتبر وارداً دلالة في سفر لا يخافان الهلاك عليه، فيرد هذا إلى ما يقتضيه القياس، ولأن الخروج للتجارة خروج للتكسب، ولا بد للولد من التكسب لإصلاح معيشته، فإنه متى ترك ذلك ربما يحوجه ذلك إلى ما فيه مذلة، وهو السؤال من غيره من الناس، أو يلقيه في المهالك بأن يوقعه في السرقة، ألا ترى أن له الخروج إلى ضيعته للزراعة، وإلى سوقه للتجارة وإن لم يأذنا فيه كذا ههنا.

وإن كان سفراً يخاف عليه الهلاك، فإنه لا يخرج إلا بإذنهما؛ لأنه إذا كان سفراً يخاف عليه الهلاك كان بمنزلة الجهاد، ولا يخرج في الجهاد إلا بإذنهما، فكذلك هذا، وكذا الجواب فيما إذا خرج للتفقه إلى بلدة أخرى إن كان لا يخاف عليه الهلاك بسبب هذا الخروج كان بمنزلة السفر للتجارة، وإن كان يخاف عليه الهلاك كان بمنزلة الجهاد، وهذا إذا خرج للتجارة إلى مصر من أمصار المسلمين، فأما إذا خرج للتجارة إلى أرض العدو بأمان فكرها خروجه، فإن كان أمراً لا يخاف عليه منه وكانوا قوماً يوفون بالعهد (و) يعرفون بذلك (100أ2) وله في ذلك منفعة فلا بأس بأن يعصيهما؛ لأن أرض الحرب والحالة هذه من حيث الأمن بمنزلة أرض الإسلام، فكان الخروج إليها للتجارة، والخروج إلى مصر من أمصار المسلمين سواء، وإن كان يخرج في تجارة إلى أرض العدو ومع عسكر من عساكر المسلمين، فكره ذلك أبواه أو أحدهما، فإن كان ذلك العسكر عسكراً عظيماً مثل أهل الصائفة ونحوهم لا يخاف عليهم من العدو عليه أكثر الرأي، فلا بأس بأن يخرج؛ لأن الجيش إذا كان عظيماً، فالظاهر أنهم ينتصرون وينتصفون من

(5/392)


عدوهم، ولا يضيع من كان معهم فلا بأس بأن يخرج معهم، ويكون الخروج للتجارة إلى أرض العدو معهم والخروج إلى مصر من أمصار المسلمين سواء. وإن كان يخاف على أهل العسكر من العدو بغالب الرأي كان بمنزلة الجهاد فلا يخرج بغير إذنهما، وكذلك إذا كانت سرية أو جريدة جند ونحوها، فإنه لا يخرج إلا بإذنهما؛ لأن الغالب هو الهلاك في السرايا، فكان بمنزلة الجهاد، هذا الذي ذكرنا في الوالدين والأجداد والجدات.

فأما من سواهم من ذي الرحم المحرم كبناته وبنيه، وإخوته وعماته وأخواله وخالاته، وكل ذي رحم محرم منهم إذا كرهوا خروجه للجهاد، وكان يشق ذلك عليهم هل له أن يخرج بغير إذنهم؟ إن كان يخاف عليهم الضيعة بأن كان نفقتهم عليه، بأن لم يكن لهم مال، وكانوا صغاراً أو صغائر، أو كن كبائر إلا أنه لا أزواج لهن، أو كانوا كباراً زمنى لا حرفة لهم، فإنه لا يخرج بغير إذنهم لما ذكرنا في الوالدين، وإن كان لا يخاف عليهم الضيعة بأن لم تكن نفقتهم عليه، بأن كان لهم مال، أو لم يكن لهم مال إلا أنهم كبار أصحاء، أو كبار لهن أزواج، كان له أن يخرج بغير إذنهم؛ لأن القياس في الوالدين أن يخرج بغير إذنهما، إلا أنَّا تركنا القياس في الوالدين بالأثر بخلاف القياس، والنص الوارد في الوالدين بخلاف القياس، ولهما من الحرمة ما ليس لغيرهما من ذي الرحم المحرم حتى لم يحبسوا بدين أولادهم، ولم يقتصوا بقتل أولادهم، ولم يحدوا حد القذف لأولادهم، لا يعتبر وارداً دلالة فيما عدا الوالدين من ذي الرحم المحرم، وليس لهم هذه الحرمة، فيردون إلى ما يقتضيه القياس.
وأما امرأته إن كان يخاف الضيعة عليها، فإنه لا يخرج إلا بإذنها؛ لأن عليه نفقتها كما في الوالدين وغيرهما من ذي الرحم المحرم، وإن كان لا يخاف عليها الضيعة كان له الخروج بغير إذنها. وإن شق ذلك عليها، وترك القياس في الوالدين لا يوجب ترك القياس في المرأة، وليس للمرأة من الحرمة ما للوالدين.

قال محمد رحمه الله: إذا جاء النفير، فقيل لأهل مدينة أو مصر قريب من العدو، وقد جاء العدو يريدون أنفسكم وذراريكم وأموالكم، فلا بأس بأن يخرج الرجل بغير إذن والديه، وإن نهياه فلا بأس بأن يعصيهما إذا كان ممن يقدر على الجهاد، وقد ذكرنا هذا، وليس للوالدين أن ينهيا الولد عن الخروج في هذه الحالة؛ لأن القتال في هذه الحالة فرض عين، وليس لهما أن ينهيا الولد عما هو فرض عين، وهذا إذا كان بالولد قوة القتال أو يحصل بخروجه قوة للمسلمين.
فأما إذا لم يكن له قوة القتال ولا يحصل بخروجه قوة للمسلمين، فإنه لا يخرج إلا بإذنهما؛ لأن الجهاد بعد النفير العام إنما يفترض على القادر، أو على أن يحصل بخروجه قوة للمسلمين إن كان يقدر على القتال، ولا يجب على العاجز؛ لأن العجز مما يسقط الفرائض، فإذا كان لا يفترض عليه حالة العجز كان الجواب في حقه بعد مجيء النفير كالجواب في حق القادر قبل مجيء النفير العام كان لا يخرج القادر إلا بإذنهما، فكذلك هذا.

ثم الجهاد بعد مجيء النفير العام لا يفترض على جميع أهل الإسلام شرقاً وغرباً

(5/393)


فرض عين وإن بلغهم النفير، وإنما يفترض فرض عين على من كان يقرب من العدو، وهم يقدرون على الجهاد، فأما على من وراءهم يبعد من العدو، فإنه يفرض عليه فرض كفاية لا فرض عين حتى يسعهم تركه إذا لم يحتج إليه، فأما إذا احتيج إليه بأن عجز من كان يقرب من العدو من المقاومة مع العدو، أو لم يعجزوا عن المقاومة إلا أنهم تكاسلوا ولم يجاهدوا، فإنه يفترض على من يليهم فرض عين كالصوم والصلاة ولا يسعهم تركه، ثم إلى أن يفترض على جميع أهل الإسلام شرقاً وغرباً، على هذا الترتيب والتدريج، ونظيره الصلاة على الميت، فإن من مات في ناحية من نواحي البلدة، فعلى جيرانه وأهل محلته أن يقوموا بأسبابه، وليس على من كان يبعد على الميت أن يقوم بذلك، وإن كان الذي يبعد منه يعلم أن أهل المحلة يضيعون حقوقه، أو يعجزون عنه، فعلى الذين يبعدون منه أن يقوموا به، كذا ههنا.
ثم يستوي أن يكون عدلاً أو فاسقاً يقبل خبره في ذلك؛ لأن هذا خبر ينتشر ويشتهر في المسلمين في الحال، وكذا الجواب في منادي السلطان يقبل خبره عدلاً كان أو فاسقاً.
ثم استشهد في «الكتاب» لإيضاح ما تقدم فقال: ألا ترى أن رجلاً لو قطع الطريق على رجل ليأخذ ماله، أو ليقتله، أو أراد امرأة ليفجر بها، وقد حضر ذلك رجل يظن أن به قوة عليه أو أنه ينتصف منه، لم يسعه إلا أن يمنع المظلوم ممن يريد الظلم عليه، وإن كان مع الرجل الذي يريد أن يعينه أبواه فنهياه عن ذلك، فليس ينبغي له أن يطيعهما، ولا يسعهما أن يمنعاه إلا أن يكون به قوة عليه، فإن كان كذلك فليطعهما، وإنما ينبغي طاعة الوالدين في التطوع الذي يسع تركه، فنفاذ برهما أفضل من الجهاد التطوع، فإذا جاءت الفريضة والأمر الذي لا يسع الرجل فيه إلا أن ... لم يلتفت في هذا إلى طاعة الوالدين، وكانت طاعة الله تعالى أحقّ أن يؤخذ بها من طاعة الوالدين.

ولا تسافر المرأة من غير محرم ثلاثة أيام فما فوقها، واختلفت الروايات فيما دون ذلك، قال أبو يوسف: أكره لها أن تسافر يوماً بغير محرم، وهكذا روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه، وقال الفقيه أبو جعفر: اتفقت الروايات في الثلاث، فأما ما دون ذلك (100ب2) قال الفقيه أبو جعفر: هو أهون من ذلك، وقال حماد: لا بأس للمرأة أن تسافر بغير محرم مع الصالحين، والصبي والمعتوه ليسا بمحرمين، والكبير الذي يعقل محرم.

الفصل التاسع والعشرون في القرض ما يكره من ذلك، وما لا يكره
ذكر محمد رحمه الله في كتاب الصرف عن أبي حنيفة رضي الله عنه: أنه كان يكره كل قرض فيه جر منفعة، قال الكرخي: هذا إذا كانت المنفعة مشروطة في العقد، وذلك

(5/394)


بأن أقرضه غلته ليرد غلته صحاحاً أو ما أشبه ذلك، وإن لم يكن مشروطاً فأعطاه المستقرض أجود مما عليه فلا بأس به، وكذلك إذا أقرض رجلاً دراهم أو دنانير ليشتري المستقرض من المقرض متاعاً بثمن غالٍ فهو مكروه، وإن لم يكن شراء المتاع مشروطاً في القرض، ولكن المستقرض اشترى من المقرض بعد القرض متاعاً بثمن غالٍ، فعلى قول الكرخي لا بأس به، وذكر الخصاف في «كتابه» ، وقال: ما أحب له ذلك، وذكر شمس الأئمة الحلواني أنه حرام؛ لأن هذا قرض جر منفعة؛ لأنه يقول: لو لم أشتره منه طالبني بالقرض في الحال.

وذكر محمد رحمه الله في كتاب الصرف: أن السلف كانوا يكرهون ذلك، إلا أن الخصاف لم يذكر الكراهة، إنما قال: (ما) أحب له ذلك، فهو قريب من الكراهة، ولكنه دون الكراهة، ومحمد رحمه الله لم يرَ بذلك بأساً، فإنه قال في كتاب الصرف: المستقرض إذا أهدى للمقرض شيئاً لا بأس به من غير فصل، فهذا دليل على أنه رفض قول السلف، قال شيخ الإسلام: ما نقل عن السلف فذاك محمول على ما إذا كانت المنفعة وهو شراء المتاع في مسألتنا بثمن غال مشروط في الاستقراض، وذلك مكروه بلا خلاف، وما ذكر محمد رحمه الله محمول على ما إذا لم تكن المنفعة وهي الإهداء مشروطة في القرض، وذلك لا يكره بلا خلاف، هذا إذا تقدم الإقراض على البيع.
فأما إذا تقدم البيع على الإقراض؛ وصورة ذلك: رجل طلب من رجل أن يعامله بمائة دينار، فباع المطلوب منه المعاملة من الطالب ثوباً قيمته عشرون ديناراً، بأربعين ديناراً، ثم أقرضه ستين ديناراً على صار للمقرض على المستقرض مائة دينار، وحصل للمستقرض ثمانون ديناراً، ذكر الخصاف رحمه الله: أن هذا جائز، وهذا مذهب محمد بن سلمة إمام بلخ، فإنه روي أنه كان له سلع، فكان إذا استقرض إنسان منه شيئاً كان يبيعه أولاً سلعة بثمن غالٍ، ثم يقرضه بعض الدنانير إلى تمام حاجته.
وكثير من مشايخ بلخ كانوا يكرهون ذلك، وكانوا يقولون: هذا قرض جر منفعة، فإنه لولا ذلك القرض كان لا يتحمل المستقرض غلاء ثمن الثوب، فكان قرضاً جر منفعة، ومن المشايخ من قال: إن كانا في مجلس واحد يكره، وإن كانا في مجلسين مختلفين لا بأس به؛ لأن المجلس الواحد يجمع الكلمات المتفرقة، فكأنهما واحد من المنفعة المشروطة في القرض، وكان الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني يفتي بقول الخصاف، وبقول محمد بن سلمة، ويقول: هذا ليس بقرض جر منفعة، هذا بيع جر منفعة وهو القرض.

الفصل الثلاثون في ملاقاة الملوك، والتواضع لهم، وتقبيل أيديهم، أو يدغيرهم، وتقبيل الرجل وجه غيره، وما يتصل بذلك.
قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: من قبل الأرض بين يدي السلطان أو أمير، أو سجد له، فإن كان على وجه التحية لا يكفر، ولكن يصير آثماً مرتكباً الكبيرة، أما لا

(5/395)


يكفر؛ لأن السجدة على وجه التحية نفسها ليس بكفر، ألا ترى أن السجدة لغير الله تعالى على سبيل التحية كانت مباحة في الابتداء، والكفر لم يبح في زمان، والدليل على صحة ما قلنا أن الله تعالى أمر الملائكة بسجدة آدم عليه السلام، ولا يجوز أن يكون الكفر مأموراً به.
ثم تكلم العلماء أن سجدة الملائكة كانت لمن؟ بعضهم قالوا: كانت لله تعالى، ولكن التوجه إلى آدم كان تشريفاً وتكريماً لآدم، ألا ترى أنه تستقبل الكعبة في الصلاة، والصلاة تكون لله تعالى، والتوجه إلى الكعبة لتشريف الكعبة، كذا ههنا، وقال بعضهم: لا بل كانت السجدة لآدم على وجه التحية والإكرام له، ثم نسخ ذلك بقوله عليه السلام: «لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» أما الإثم فلأنه ارتكب ما هو محرم ومنهي عنه، وارتكاب المحرم يوجب الإثم.
والدليل على صحة ما قلنا مسألة ذكرها في «واقعات الناطفي» .
وصورتها: إذا قال أهل الحرب لمسلم: اسجد للملك وإلا قتلناك، فالأفضل له أن لا يسجد؛ لأن هذا كفر صورة، والأفضل للإنسان أن لا يأتي بما هو كفر صورة إن كان في حالة الإكراه، وإن أراد أن يسجد بنية التحية فالأفضل له أن يسجد؛ لأن هذا ليس بكفر، فهذه المسألة تؤيد ما ذكرنا فيمن سجد للسلطان على وجه التحية أنه لا يكفر، هذا إذا سجد بنية التحية، وإن سجد بنية العادة للسلطان أو لم تحضره النية، فقد كفر هذا هو الكلام في السجدة.
جئنا إلى الانحناء للسلطان أو لغيره، وإنه مكروه؛ لأنه تشبه بفعل المجوس.

وأما الكلام في تقبيل اليد، فإن (قدم) يد نفسه لغيره فهو مكروه؛ لأن ذلك من فعل الفساق، وإن قبل يد غيره، أو قبل يد عالم أو سلطان عادل لعلمه وعدله لا بأس به، هكذا ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» ، وقد صح أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أخذ بركاب زيد بن ثابت رضي الله عنه، فقال زيد: مهلاً يا ابن عم رسول الله، فقال عبد الله: هكذا كنا نصنع بعلمائنا من أكابر أصحاب رسول الله، فلما استوى زيد بن ثابت على بغلته، فقال لابن عباس: ناولني يدك فناوله، فقبل زيد يده، وقال: هكذا نصنع بأهل بيت رسول الله عليه السلام، فهذا يدلك على أنه لا بأس بتقبيل يد غيره لعلمه أو شرفه، وقد حكي عن سفيان أنه سمى تقبيل يد العالم، والسلطان العادل سنة، فقال له عبد الله بن المبارك: ومن يحسن هذا غيرك.

وإن قبل يد غير العالم، وغير السلطان العادل أراد به تعظيم المسلم وإكرامه فلا بأس به، وإن أراد به عبادة له أو يسأل منه شيئاً من عرض الدنيا فهو مكروه، وكان الصدر الشهيد يفتي بالكراهة في هذا الفصل من غير تفصيل، وعن علي الرازي أنه قال: كنا

(5/396)


ندخل على المأمون ونقبل يده، وبشر يقول: هذا فسق.
وأما الكلام في تقبيل الوجه؛ حكي عن الفقيه أبي جعفر الهندواني أنه قال: لا بأس بأن يقبل الرجل الرجل إذا كان فقيهاً (101أ2) أو عالماً أو زاهداً، يريد بذلك إعزاز الدين، فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بين عيني عمران بن مطعوم بعد موته، وقبل أبو بكر رضي الله عنه جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته، وذكر في «الجامع الصغير» : ويكره أن يقبل الرجل وجه آخر أو جبهته أو رأسه.

رجل يختلف إلى رجل من أهل الباطل والشر ليدفع ظلمه وشره عن نفسه، فإن كان هذا الرجل مشهوراً ممن يقتدى به يكره؛ لأنه إذا كان يختلف إليه يظن أنه يرضى بأمره، فكان فيه مذلة أهل الحق، وإن لم يكن مشهوراً يقتدى به لا بأس به إن شاء الله تعالى؛ لأنه عري عن هذا المعنى.
رجل يدعوه الأمير فيسأله عن أشياء، فإن تكلم بما يوافق (الحق) يناله المكروه، لا ينبغي أن يتكلم بخلاف الحق، لقوله عليه السلام: «من تكلم عند ظالم بما يرضيه بغير حق، يغير الله تعالى قلب الطالب عليه، ويسلطه عليه» وهذا إذا لم يخف القتل أو تلف بعض جسده، أو أخذ ماله، فإن خاف ذلك لا بأس بذلك؛ لأنه مكره عليه معنى.

الفصل الحادي والثلاثون في الانتفاع بالأشياء المشتركة
ذكر في وديعة «العيون» و «الواقعات» : الأرض أو الكرم إذا كان بين حاضر وغائب، أو بين بالغ ويتيم أن الحاضر أو البالغ يرفع الأمر إلى القاضي، ولو لم يرفع الأمر إلى القاضي ففي الأرض يزرع بحصته ويطيب له وفي الكرم يقوم عليه، فإذا أدركت الثمرة يبيعها ويأخذ حصته، ويوقف حصة الغائب وسع له ذلك إن شاء الله تعالى، فإذا قدم الغائب؛ فإن شاء ضمنه القيمة، وإن شاء أجازه، وذكر عن محمد رحمه الله في موضع آخر؛ لو أن الشريك أخذ حصته من الثمرة وأكلها جاز له، ويبيع نصيب الغائب ويحفظ ثمنه، فإن حضر صاحبه وأجاز فعله يجيزه، وإلا ضمنه قيمته، وإن لم يحضر فهو كاللقطة يتصدق بها، قال الفقيه أبو الليث: وهذا استحسان وبه نأخذ.
قال: ولو أدى الخراج كان متطوعاً، وذكر محمد في شروط «الأصل» في الدار إذا كانت مشتركة، وأحد الشريكين غائب، فأراد الحاضر أن يسكنها إنسان، أو يؤاجرها

(5/397)


إنساناً، قال: فيما بينه وبين الله تعالى فلا ينبغي له ذلك؛ لأنه يتصرف في نصيبه ونصيب شريكه، والتصرف في ملك الغير حرام حقاً لله تعالى، وحقاً لصاحب الملك، وفي القضاء لا يمنع من ذلك؛ لأن الإنسان لا يمنع عن التصرف فيما بيده إذا لم ينازعه أحد، فإن أجر وأخذ الأجر ينظر إلى حصة نصيب شريكه من الأجر، ويرد ذلك عليه إن قدر، وإلا يتصدق؛ لأنه تمكن فيه خبث لحق شريكه، وكان كالغاصب إذا أجر، وقبض الأجر يتصدق أو يرده على المغصوب منه، أما ما يخص نصيبه يطيب له؛ لأنه لا خبث فيه، هذا إذا أسكن غيره.
فأما إذا سكن بنفسه وشريكه غائب، والقياس أن لا يكون له ذلك فيما بينه وبين الله كما لو أسكن غيره، وفي الاستحسان: له ذلك؛ لأن له أن يسكن الدار من غير إذن صاحبه حال حضرة صاحبه؛ لأنه يتعذر الاستئذان في كل مرة، وعلى هذا أمر الدور فيما بين الناس، فكان له أن يسكن حال غيبته، فأما ليس له إسكان غيره حال حضرة صاحبه بغير إذنه فكذا حال غيبته، وإلى هذا المعنى أشار محمد رحمه الله في «الكتاب» ، فقال: هكذا عامة الدور.
وفي «العيون» : لو أن داراً غير مقسومة بين رجلين غاب أحدهما، وسع الحاضر أن يسكن بقدر حصته فيسكن الدار كلها، وكذا خادم بين رجلين غاب أحدهما، فللحاضر أن يستخدم الخادم بحصته، وفي الدابة لا يركبها الحاضر؛ لأن الناس يتفاوتون في الركوب؛ أما لا يتفاوتون في السكنى واستخدام الخادم، فيتضرر الغائب بركوب الدابة، ولا يتضرر بالاستخدام والسكنى. في «إجازات النوازل» عن محمد بن مقاتل: أن للحاضر أن يسكن الدار قدر نصيبه، وعن محمد رحمه الله: أن للحاضر أن يسكن جميع الدار إذا خاف على الدار الخراب إن لم يسكنها.

وروى ابن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رضي الله عنه في الأرض: أنه ليس للحاضر أن يزرع بقدر حصته، وفي الدار له أن يسكنها. وفي «نوادر هشام» له ذلك في الوجهين.
فإن أراد الرجل إحداث مظلة في طريق العامة ولا ضرر بالعامة، فالصحيح من مذهب أبي حنيفة: أن لكل واحد من آحاد المسلمين حق المنع وحق الطرح، وقال محمد: له حق المنع من الإحداث وليس له حق الطرح، فإن كان يضر ذلك بالمسلمين، فلكل واحد من آحاد المسلمين حق الطرح والرفع، وإن أراد إحداث الظلة في سكة غير نافذة لا يعتبر فيه الضرر، وعدم الضرر عندنا بل يعتبر فيه الإذن من الشركاء.
وهل يباح إحداث الظلة على طريق العامة؟ ذكر أبو جعفر الطحاوي أنه يباح، ولا يأثم قبل أن يخاصمه أحد، وبعدما خاصمه لا يباح الإحداث، ولا يباح الانتفاع ويأثم بترك الظلة، وقال أبو يوسف ومحمد: يباح له الانتفاع إذا كان لا يضر ذلك بالعامة.
وفي «المنتقى» قال: إذا أراد أن يبني كنيفاً أو ظلة على طريق العامة، فإني أمنعه من ذلك، وإن بنى ثم اختصموا نظرت في ذلك، فإن كان فيه ضرر أمرته أن يقلع، وإن لم

(5/398)


يكن فيه ضرر تركته على حاله، وقال محمد: إذا أخرج الكنيف، ولم يدخله في داره، ولم يكن فيه ضرر تركته، وإذا أدخله داره منع عنه؛ لأنه إذا أدخله داره، فالبينة على الذي يخاصم أنه من الطريق.p
وقال في رجل له ظلة في سكة غير نافذة، فليس لأصحاب السكة أن يهدموها إذا لم يعلم كيف كان أثرها، وإن علم أنه بناها على السكة هدمت، ولو كانت السكة نافذة هدمت في الوجهين جميعاً، وقال أبو يوسف: إن كان ضرراً هدمتها وما لا فلا.
والحاصل أن ما كان على طريق العامة إذا لم يعرف حالها على قول محمد تجعل حديثة حتى كان للإمام رفعها، وما كان في سكة غير نافذة إذا لم يعلم حالها تجعل قديمة حتى لا يكون لأحد رفعها، قال شيخ الإسلام خواهر زاده: وتأويل هذا في سكة غير نافذة أن تكون داراً مشتركة بين قوم، أو أرضاً مشتركة بينهم بنوا فيها مساكن وحجراً ورفعوا بينهم طريقاً حتى يكون الطريق ملكاً لهم، فأما إذا كانت السكة في الأصل ... بأن يبنوا داراً ويتركون هذا الطريق للمرور، فالجواب فيه كالجواب في طريق العامة؛ لأن هذا الطريق بقي على ملك العامة، ألا ترى (101ب2) أن لهم أن يدخلوا هذه السكة عند الزحام، وحكي عن الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني أنه كان يقول في حد السكة الخاصة أن يكون فيها قوم يحصون، أما إذا كان فيها (قوم) لا يحصون فهي سكة عامة، والحكم فيها نظير الحكم في طريق العامة.

الفصل الثاني والثلاثون في المتفرقات
رجل له امرأة لا تصلي يطلقها، حتى لا تصحب امرأة لا تصلي، فإن لم يكن له ما يعطي مهرها فالأولى أن يطلقها، قال الإمام أبو حفص الكبير رحمه الله صاحب محمد بن الحسن رحمة الله عليه: إن لقي الله تعالى ومهرها في ذمته أحب إلي من أن يطأ امرأة لا تصلي.
غمز الأعضاء في الحمام من غير ضرورة مكروه في «فتاوى أهل سمرقند» ، قال الفقيه أبو جعفر: سمعت الشيخ أبا بكر يقول: لا بأس بأن يغمز الرجل الرجل إلى الساق، ويكره أن يغمر الفخذ ويلمسه من وراء ثوب أو غيره، قال الفقيه أبو جعفر: ونحن نبيح هذا، ولا بأس به، قال الفقيه أبو جعفر: وكان الشيخ أبو بكر يقول: يغمز الرجل رجل والديه، ولا يغمز فخذ والديه.
من أمسك حراماً لأجل غيره كالخمر ونحوه إن أمسك لمن يعتقد حرمته كالخمر يمسكه للمسلم لا يكره، وإن أمسك لمن يعتقد إباحته كما لو أمسك الخمر للكافر يكره.

(5/399)


سئل الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه عن قوم أرادوا الخروج على سلطانهم بجوره، هل يحل لهم ذلك؟ فأجاب، وقال: إن كانوا اثنا عشر ألفاً كلمتهم واحدة وسعهم ذلك، وإن كانوا أقل من اثني عشر ألفاً لا يسعهم ذلك، وكان يستدل بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لن يغلب اثنا عشر ألفاً عن قلة كلمتهم واحدة» ، ونقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر ووعد أن اثني عشر ألفاً لا يغلبون إذا كانت كلمتهم واحدة، ووعد النبي عليه السلام حق، وإذا كانوا لا يغلبون بوعد النبي عليه السلام، والخروج على السلطان لدفع جوره لا يكون سعياً إلى إهلاك أنفسهم فيسعهم ذلك، وإذا كانوا أقل من اثني عشر ألفاً لم يتيقن بغلبتهم، فلو خرجوا ولم يغلبوا يقصدهم السلطان الجائر بالأذى فكانوا ساعين في إهلاك أنفسهم، فلا يسعهم ذلك.
سئل الفقيه أبو بكر عن قراءة القرآن أهو أفضل للمنفعة أو دراسة الفقه؟ قال: حكي عن الفقيه أبي مطيع أنه قال: النظر في كتب أصحابنا من غير سماع أفضل من قيام ليلة.
في آخر «النوازل» ، وعن أبي عاصم أنه قال: طلب الأحاديث حرفة المفاليس، يعني به إذا طلب الحديث، ولم يطلب فقهه.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : يكره الجلوس في المسجد في المصيبة ثلاثة أيام، وفي غير المسجد جاءت الرخصة ثلاثة أيام للرجال، وتركه أحسن.
وفي «النوازل» : لا بأس أن يتخذ في المسجد بيت يوضع فيه البواري لتعامل الناس، وفي كراهية «واقعات الناطفي» : ويكره الوضوء في المسجد إلا أن يكون فيه موضع اتخذ لذلك، ولا يصلى فيه، وفي «القدوري» : كره أبو حنيفة وأبو يوسف الوضوء في المسجد، وقال محمد: لا بأس به إذا لم يكن عليه قذر، وفي «النوازل» : رجل مرَّ في مسجد ويتخذ منه طريقاً، فإن كان بعذر يجوز، وإن كان بغير عذر لا يجوز، ثم إذا جاز يصلي في اليوم مرة واحدة تحية المسجد، ولا يصلي أكثر من ذلك؛ لأن فيه حرج، وإذا تعلق بثياب المصلي بعض ... في المسجد من البواري والحشيش فأخرجه، فليس عليه أن يرجعه إلى المسجد إذا لم يتعمد ذلك؛ لأن ما في المسجد يخرجه خادمه عيسى، فإذا وقع خارج المسجد لا تجب الإعادة إلى المسجد.

رجل مات وأجلس ولداه على قبره رجلاً يقرأ القرآن؟ تكلموا فيه؛ بعضهم قالوا: يكره، وبعضهم قالوا: لا يكره، والمسألة في الحقيقة بناءاً على أن قراءة القرآن في المقبرة هل تكره؟ والمختار أنه لا تكره، وهل ينفع الميت؟ تكلموا فيه، والأشبه أنه ينفع؛ لأن الأخبار وردت بقراءة آية الكرسي، وسورة الفاتحة، وسورة الإخلاص وغير ذلك، وحكي عن الفقيه أبي بكر الفياض أنه أوصى موصى عند موته بذلك.
وفي «نوادر هشام» قال: سمعت أبا يوسف يقول: رجل اشترى ثوباً بعشرة دراهم، وأرجع له دانقاً، قال: لا يقبله حتى يقول: أنت في حل أو هو لك.

(5/400)


سئل محمد بن المقاتل عن رجل سرق (الماء) ، وساقه إلى أرضه وكرمه أنه يطيب له ما خرج بمنزلة رجل غصب شعيراً أو تبناً، وسمن به دابته، فإنه يجب عليه مثل ما غصب، وما زاد في الدابة يطيب له، قال الفقيه أبو الليث: وقد حكي عن بعض الزاهدين أن الماء وقع في كرمه في غير نوبته، فأمر بقطع كرمه، ونحن لا نقول بقطع كرمه؛ لأن فيه إفساد المال، ولكن لو تصدق بنزله كان حسناً أما لا يجب عليه التصدق في الحكم.

سئل الفقيه عن رجل زرع أرض رجل بغير إذنه، فلم يعلم صاحب الزرع حتى استحصد الزرع، فعلم ورضي به، هل يطيب للزارع الزرع؟ قال: نعم، قيل له: فإن قال: لا أرضى، ثم قال: رضيت، هل يطيب له؟ قال: يطيب له أيضاً، قال الفقيه أبو الليث: وهذا استحسان وبه نأخذ.
اختلف العلماء في كراهية تعليق الجرس على الدواب، فمنهم من قال بكراهيته في الأسفار كلها الغزو وغيره في ذلك سواء، وهذا القائل يقول بكراهيته في الحضر، كما يقول بكراهيته في السفر، ويقول أيضاً بكراهية اتخاذ الخلاخل في رجل الصغير، والمعنى في ذلك: أن الشيطان يستأنس ويتلهى بصوته، كما يستأنس ويتلهى بصوت المزامير، وقال محمد في «السير الكبير» : إنما يكره اتخاذ الجرس للغزاة في دار الحرب، وهو المذهب عند علمائنا أن تعليق (الجرس) على الدواب إنما يكره في دار الحرب؛ لأن العدو يشعر بمكان المسلمين، فإن كان بالمسلمين قلة يتبادرون إليهم فيقتلونهم، فإن كان بهم كثرة، والكفار يتحرزون عنهم ويتحصنون، فعلى هذا قالوا: إذا كان الراكب في المفازة في دار الإسلام ويخافون من اللصوص يكره لهم تعليق الجرس على الدواب أيضاً حتى لا يشعر بهم اللصوص، فلا يستعدون لقتلهم وأخذ أموالهم، والذي ذكرنا في الجواب في الجرس، فهو الجواب في الخلال، قال محمد رحمه الله في «السير» : فأما ما كان في دار الإسلام فيه منفعة لصاحب الراحلة فلا بأس به، قال: في الجرس منفعة جمة منها؛ إذا ضلّ واحد من القافلة يلتحق بها بصوت الجرس، ومنها أن صوت الجرس يبعد هوام الليل عن القافلة كالذئب وغيره، ومنها أن صوت الجرس يزيد في نشاط الدواب، وهو نظير الحدو، فإنه جوّز؛ لأنه يزيد في نشاط الدواب.
اختلف الناس في ضرب الدف في العرس قال بعضهم: لا بأس لما روي عن عائشة رضي الله عنها (102أ2) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعلنوا النكاح، واجعلوه في المساجد، واضربوا عليه بالدفوف» وقال محمد بن سيرين: نبئت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا سمع صوتاً أنكره سأل عنه، فإن قالوا: عرس أو ختان أقره، وقال بعضهم: يكره لقوله عليه السلام: «كل لهو المؤمن باطل إلا ثلاث؛ تأديبه فرسه ورميه عن قوسه وملاعبته مع أهله» قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: الدف الذي يضرب في زماننا هذا مع الصنجات والخلاخلات ينبغي أن يكون مكروهاً، وإنما الخلاف في الذي كان يضرب في الزمن المتقدم.

(5/401)


قال محمد في «الجامع الصغير» : مسلم باع خمراً، وأخذ ثمنه، وعلى بائع الخمر دين لرجل كره لصاحب الدين أن يقتضي دينه من ذلك، وإن كان البائع نصرانياً فلا بأس به، والوجه في ذلك أن الخمر ليست بمتقومة في حق المسلم، فلم يجز بيعه، ولم يملك ثمنها لا بالعقد ولا بالقبض، بل بقي الثمن على ملك مشتري الخمر، فإذا أخذ صاحب الدين ذلك فقد أخذ ملك المشتري بغير إذنه فلا يجوز، فأما الخمر متقوم في حق الذمي فجاز بيعه، وملك ثمنها، فلو أخذ صاحب الدين ذلك فقد أخذ ملك البائع بأمره فيجوز.
ولا ينبغي أن يتصدق على السائل في المسجد الجامع؛ لأنه إعانة لهم على أذى الناس، وقد قال خلف بن أيوب: لو كنت قاضياً لم أقبل شهادة من يتصدق في المسجد الجامع، وقال الفقيه أبو بكر بن إسماعيل الواهب بفلس يحتاج إلى سبعين فليساً ليصير كفارة له.
الصبرة إذا أصاب طرف منها نجاسة، ولا يعلم ذلك بعينه يعزل منها قفيزاً أو قفزين فعل ذلك، أو أزال ذلك عن ملكه ببيع أو هبة يحكم بطهارة ما بقي من الصبرة لجواز أن المعزول هو الذي أصابته النجاسة، فلا يقضى بنجاسة ما بقي، وقد عرفناه مباح التناول، فلا تثبت الحرمة بالشك.

ولا رواية عن أصحابنا في هذه المسألة، ومشايخنا استخرجوها ... من في «السير» ، وصورتها: أن رجلاً من أهل الذمة دخل حصناً من حصون أهل الحرب قد حاصره المسلمون، ثم إن المسلمين فتحوا الحصن، وأخذوا الرجال، وعلموا يقيناً أن الذمي فيهم، إلا أنهم لا يعرفونه بعينه، وكل واحد منهم يدعي أنه الذمي، فإنه لا يحل للمسلمين قتلهم، ولو قتل واحد من أهل الحصن بعدما دخل فيه الذمي أو مات، أو خرج واحد منهم، فإنه يحل للمسلمين قتلهم؛ لأنه بعدما مات واحد منهم أو قتل أو خرج من الحصن لم يتيقن أن فيهم من هو محرم القتل، لجواز أن محرم القتل قتل أو مات أو خرج، وقد عرفناهم مباح الدم في الأصل، فلا تثبت الحرمة بالشك.

صبي يسمع الأحاديث، وهو لا يفهم، ثم كبر؛ يجوز له أن يروي عن المحدث، وإذا قرىء صك على صبي وهو لا يفهم، ثم كبر لا يجوز له أن يشهد، ألا ترى أن البالغ إذا قرىء عليه صك وهو لا يفهم ما فيه لا يجوز له أن يشهد بما فيه، ولو سمع الأحاديث ولم يفهم معناه جاز له أن يروي.
تعلم علم الكلام والنظر فيه وراء قدر الحاجة منهي.
وتعلم علم النجوم قدر ما يعرف القبلة، ومواقيت الصلاة لا بأس به، وفيما عدا ذلك فهو حرام.
التمويه في المناظرة والحيلة فيها هل يحل أن يتكلمه متعلم مسترشد أو غيره على الإنصاف بلا تعنت لا يحل، وإن كان يكلمه من يدخل ... ويريد أن يطرحه يحل، بل

(5/402)


يحتال كل حيلة لدفعه عن نفسه؛ لأن دفع.... مشروع بأي طريق يكون الدفع.

قال هشام في «نوادره» : رأيت على أبي يوسف نعلين مخصوفتين بمسامير إلى زيد قلت له: أترى بهذا الحديث بأساً، فقال: لا، فقلت: إن سفيان وثور بن يزيد كرها ذلك؛ لأنه تشبه بالرهبان، فقال أبو يوسف: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي بها شعر، وإنها من لباس الرهبان، فقد أشار إلى أن صورة المشابهة فيما يتعلق به صلاح العبد لا يضر، وقد تعلق بهذا النوع من الأحكام صلاح العباد، فإن من الأراضي ما لا يمكن قطع المسافة البعيدة فيها إلا بهذا النوع من الأحكام.
قال في «الجامع الصغير» : ويكره هذه الخرقة التي تحمل، ويمسح بها العرق، وهكذا ذكر في «القدوري» ، من أصحابنا من قال: الكراهة في الخرقة التي لها قيمة؛ لأن إعداد ما له قيمة لإزالة العرق فيه تضييع لماله، ومنهم من قال بالكراهة على كل حال، وإطلاق لفظ «الكتاب» دل عليه، وإنما كره؛ لأنه بدعة محدثة لم يفعلها النبي عليه الصلاة والسلام، ولا الصحابة والتابعون رضي الله عنهم، وإنما كانوا يمسحون العرق بأطراف أثوابهم، ولأن فيه ضرب من التكبر وتشبه بزي الأعاجم، وكذلك الخرقة التي يمخط بها مكروهة، والخرقة التي يمسح بها الوضوء محدثة، ومنهم من طعن في ذلك لتوارث المسلمين ذلك، والحاصل أن من فعل شيئاً من ذلك تكبراً فهو مكروه وبدعة، ومن فعل ذلك لحاجة لا يكره، وهو نظير التربع في الجلوس والاتكاء قد يفعل الرجل نحوه تكبراً فيكره، وقد يفعله لحاجة فلا يكره، وحكي عن الحاكم الإمام أنه كان يكره استعمال الكواغد في وليمة ليمسح بها الأصابع، وكان يشدد فيه، ويزجر عنه زجراً بليغاً، ولا بأس بأن يربط الرجل في إصبعه خاتماً أو خيطاً للحاجة إلى التذكر، فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بعض أصحابه بذلك.

قال أبو يوسف: قال أبو حنيفة: ولا ينتفع من الخنزير بجلده ولا بغيره إلا الشعر للأساكفة، وقال أبو يوسف: يكره بالشعر أيضاً، وقول أبي حنيفة أظهر؛ لأن حاجة الأساكفة إلى شعرها حاجة ماسة إذ غيرها لا يقوم مقامها في إقامة مصلحة الخرز.
قال الفقيه أبو الليث: قد رخص بعض الناس أن يشرب الرجل قائماً، وكرهه بعضهم إلا من عذر وبه نقول.
التضحية بالديك أو بالدجاج في أيام التضحية ممن لا أضحية عليه لعسرته تشبهاً بالمضحين مكروه، ذكره الشيخ الإمام الزاهد الصفار في كتاب «بيان التوحيد» بالفارسية، وقال: هذا من رسم المجوس، روى نصر بن يحيى بإسناد له عن محمد بن الحسن رحمه الله أنه ليس للعالم من بيت المال نصيب؛ لأنه وارث الأنبياء، وقد قال الله تعالى في حق الأنبياء: {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} (الشورى: 23) وقال تعالى: {إن

(5/403)


أجري إلا على الله} (يونس: 72) قال: والقراء لهم نصيب من بيت المال.
المرأة في بيت زوجها، والأمة في بيت مولاها لا تطعم ولا تتصدق بالطعام المدخر كالحنطة ودقيقها، فأما بغير المدخر من الطعام تتصدق على....، وإن لم يأذن الزوج والمولى بذلك صريحاً، ويكون ذلك إذن المولى والزوج (102ب2) باعتبار العرف والعادة.
الحطب إذا وجد في نهر جار جاز أخذه والانتفاع، وإن كانت له قيمة وقت الأخذ.
الأب إذا احتاج إلى مال ولده، فإن كان في المصر واحتاج لفقره أكل بغير شيء، وإن كان في السفر واحتاج لعدم الطعام لا لفقره، بل هو موسر أكله بالقيمة، وحد اليسار ههنا أن لا تحل له الصدقة.
قال محمد رحمه الله: ويفترض على الناس إطعام المحتاج في الوقت الذي يعجز عن الخروج والطلب، وهذه المسألة تشتمل على ثلاثة فصول:

أحدها: أن المحتاج إذا عجز عن الخروج يفترض على كل من يعلم حاله أن يطعمه بمقدار ما يتقوى به على الخروج وأداء العبادات، إذا كان قادراً على ذلك حتى إذا مات ولم يعطه أحد ممن يعلم بحاله اشتركوا جميعاً في المأثم، والأصل فيه قوله عليه السلام: «ما آمن بالله من بات شبعان وجاره إلى جنبه طاو» وقال عليه السلام: «أيما رجل مات ضياعاً بين قوم أغنياء فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله» وكذلك إذا لم يكن عند من يعلم بحاله ما يعطيه، ولكنه قادر على أن يخرج إلى الناس ويخبرهم بحاله فيواسوه، يفترض عليه ذلك، فإن امتنعوا من ذلك حتى مات اشتركوا في المأثم، ولكن إذا قام به البعض سقط عن الباقين.

الفصل الثاني: إذا كان المحتاج قادراً على الخروج، ولكن لا يقدر على الكسب، فعليه أن يخرج، ومن يعلم بحاله فإن كان عليه شيء من الواجبات فليرده إليه حتماً وإن كان المحتاج يقدر على الكسب فعليه أن يكتسب، ولا يحل له أن يسأل.
الفصل الثالث: إذا كان المحتاج عاجزاً عن الكسب، ولكنه قادر على أن يخرج ويطوف على الأبواب، فإنه يفترض عليه ذلك، حتى إذا لم يفعل ذلك وقد هلك كان آثماً عند الله؛ وهذا لأن السؤال في حق من هو قادر على الكسب (لا يحل)
ثم قال: المعطي أفضل من الآخذ، وهذه المسألة على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون المعطي مؤدياً للواجب، والآخذ قادراً على الكسب ولكنه محتاج، فههنا المعطي أفضل بالاتفاق، ولأنه في الإعطاء يؤدي الفرض، والآخذ متبرع في الأخذ، فإن له أن لا يأخذ ويكتسب، ولا شك أن درجة المفترض أعلى من درجة المتبرع.

(5/404)


والثاني: أن يكون المعطي والآخذ كل واحد منهما شرع، أما المعطي فظاهر، وأما الآخذ بأن يكون قادراً على الكسب، وفي هذا الوجه المعطي أفضل؛ لأن العبادات مشروعة بطريق الابتلاء، ومعنى الابتلاء في الإعطاء أظهر؛ لأن الابتلاء في العمل الذي لا تميل إليه النفس، والنفس تميل إلى الأخذ، ولا تميل إلى الإعطاء.
والثالث: أن يكون المعطي متبرعاً، والآخذ مفترضاً بأن كان عاجزاً عن الكسب، وفي هذا الوجه المعطي أفضل عند أهل الفقه، وقال أهل الحديث؛ أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه الآخذ أفضل ههنا.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: إذا كان بالرجل يتلفه ذلك مثل الغدة في العين وغيره، أو كان به حجر فأراد استخراجه، ويخاف منه الموت قال: إن فعل أحد ونجا فلا بأس بأن يفعل.
لا بأس بالاستخبار عن الأخبار المحدثة في البلدة هو المختار لما فيه من المصلحة.
الغني إن أكل مما يتصدق به على الفقراء؛ إن أباح له الفقير ففي حل التناول اختلاف المشايخ، وإن ملكه من الغني لا بأس به بدليل حديث بريرة: «هي لها صدقة ولنا هدية» .
باع الجيران في الحضر أو الرفقة السفر متاع الميت الذي لا وارث له معه، ليصرفوه إلى تجهيزه وتكفينه ودفنه، فلهم ذلك.

في وديعة «العيون» وحكي عن نصر بن يحيى قال: سمعت أبا سليمان الجرجاني، قال: مات غريب عند محمد بن الحسن، فباع محمد بن الحسن كتبه، قال نصير: قلت لأبي سليمان: أكان محمد يومئذٍ قاضياً؟ قال: لا، وحكي أنه مات رقيق لوكيع بن الجراح في سفره، فباع وكيع متاعه وكتبه، وقرأ هذه الآية: {والله يعلم المفسد من المصلح} (البقرة: 220) ، وحكي عن الفقيه أبي جعفر الهندواني أنه قال في ميت في مسجده جمع أهل المحلة دراهم ليشتروا له بها كفناً فاشتروا له الكفن، وكفنوا به، وفضل من الدراهم فضلة، فإن كان ذلك الميت من قرابتهم أو من جيرانهم؛ قاموا بتكفينه لحق الصحبة أو القرابة، فإن ما فضل من المال ردّ عليهم، فإن (لم) يعرف مال كل واحد منهم فهو منهم جميعاً، وإن لم يردوا عليهم رد على ورثته، وإن لم يرد على ورثته فأحب إليّ أن يصرف إلى ميت فقير من أهل تلك المحلة، فيصرف ذلك إلى كفنه، وإن لم يكن بينهم وبين الميت وراثة ولا كان في جيرانهم وإنما هو غريب نزله الموت فيهم، أو أخرج فوضع عندهم ليكفنوه رأيت أن يصرف ما فضل من الدراهم إلى كفن ميت آخر محتاج.

التحليف بالطلاق والعتاق والأيمان المغلطة، ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» : أن بعض المشايخ رخصوا في ذلك، واختيار الصدر الشهيد الكبير حسام الدين رحمه الله أنه

(5/405)


يفتى بعدم الجواز، فإن بالغ المستفتي يكتب في الفتوى الرأي في ذلك للقاضي، وللرجل أن يدخل الدار التي آجرها، ويسلمها إلى المستأجر لينظر حالها ويرم ما استمر وبإذن المستأجر وبغير إذنه عند أبي يوسف ومحمد، وعند أبي حنيفة لا يدخل إلا بإذن المستأجر.
في سرقة «الأصل:» امرأة لها أب زمن، وليس للأب من يقوم عليه غير الابنة، والزوج يمنعها من تعاهد الأب، جاز لها أن تعصي الزوج، وتطيع الأب مسلماً كان الأب أو كافرا.

في نكاح «فتاوى أبي الليث» ابن السبيل: إذا تصدق عليه، ثم وصل إلى ماله، والصدقة قائمة لا بأس بأن يتناول من تلك الصدقة، وكذلك الفقير إذا تصدق عليه ثم استغنى، والصدقة قائمة لا بأس بأن يتناول من تلك الصدقة.
لا يجوز حمل تراب ربض المصر؛ لأنه حصن، فكان حق الجماعة، فإن انهدم شيء من الربض ولا يحتاج إليه لا بأس بحمله.
في «فتاوى أبي الليث» : الكرع مكروه، ذكر في فوائد الفقيه أبي جعفر لأمر النبي عليه السلام.
حكي عن إبراهيم النخعي: أن المصحف يورث، وهو للقارىء من الورثة، والمذهب عندنا أنه يورث كسائر الأموال.
سئل الفقيه أبو جعفر عن قوم قرؤوا قراءة ورد وكبروا بعد ذلك جهراً، قال: إن أرادوا بذلك الشكر لا بأس به، قال: وإن كبروا بعد الصلاة على أثر الصلاة فإنه يكره وإنه بدعه، وإذا كبروا في الرباطات لا يكره إذا أرادوا به إظهار القوة (103أ2) والموضع موضع الخوف، وإذا كبروا في مساجد الرباطات، ولم يكن الموضع مخوفاً يكره.
u
قال الفقيه أبو جعفر: سمعت شيخي أبا بكر يقول: سئل إبراهيم النخعي عن تكبير أيام التشريق على الأسواق والجهر بها، قال: ذلك تكبير الحوكة، وعن أبي يوسف: أنه يجوز، قال الفقيه: وأنا لا أمنعهم عن ذلك.
لا غيبة لمن يضر الناس يداً ولساناً، قال عليه السلام: «اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس» روي عن محمد بن الحسن أنه قال في تأويل هذا الحديث: مراد النبي عليه السلام أن يكون قصد الذاكر النصيحة حتى لا يتضرر به أحد، وفي هذه الصورة لا إثم عليه، بل على الذاكر، فإذا أكن في صدره أنفة وهتك ستره صار غيبة، وقال عليه السلام: «الغيبة أشد من الزنا.

قال الفقيه أبو نصر: إذا عرض بسط بحر عام لا يضر بالمارة فذلك مباح له، ولمن شاء من المسلمين أن يأخذه برفع ذلك، وإن جعله وقفاً صار وقفاً، فأما على مذهب

(5/406)


أصحابنا ليس له ذلك، وحكي أن محمد بن سلمة كان يدني دكاناً على ما به وارثاً البتة، فقيل للشيخ أبي نصر تقول (ما) به؟ قال: لا أبعده عن الصواب،.

وحكي عن أبي نصر أنه قال: كل شيء حازه الإنسان يملكه، كالطعام والماء الذي يحوزه بكوزه، فإن المضطر يقابله بما دون السلاح، وأما في ماء البئر وما أشبهه، فإنه يقابله بالسلاح، وغير السلاح.
وعن أبي يوسف في الرجل إذا طين جدار داره، وأشغل هواء المسلمين، فالقياس: أن لا ينقض ذلك، وفي الاستحسان: لا ينقض ويترك على حاله، وروي عن النصر بن محمد المروزي صاحب أبي حنيفة: أنه كان إذا أراد أن يطين داره نحو السكة، حد منه ثم طينه كيلا يأخذ شيئاً من الهواء.
سئل نصر بن يحيى عن الجذع إذا كان خارجاً من السكة أو متعلقاً بجدار الشريك، فأراد أن ينقض أو يقطع قال: إن كانت السكة نافذة فله أن ينقض، وإذا أراد نقضه لا يؤمر ببنائه، وليس لصاحب الجذع حق القرار، وإن كانت السكة غير نافذة، فإن كان قديماً فلصاحبه حق القرار، وليس للشريك حق النقض، ولو نقض يؤمر بالبناء ثانياً، وإن كان محدثاً فلصاحبه حق النقض، وإذا نقض لا يؤمر بالبناء ثانياً.
غزل الرجل إذا كان على هيئة غزل المرأة يكره.
في صوم شمس الأئمة الحلواني، تنحنح المؤذن عند الأذان والإقامة مكروه.
في «فتاوى أهل سمرقند» يكره أن يتخذ شيئاً من القرآن حتماً لشيء من الصلوات لا يتجاوز عنه إلى غيره، هكذا ذكر في كراهية «شرح الطحاوي» ، قال ثمة: وهذا إذا اعتقد أن غيره لا يجوز، أما إذا لم يعتقد ذلك وعرف أن غيره يجوز، ولكن هذا أيسر عليه، أو قرأه تبركاً بقراءة رسول الله عليه السلام لا يكره.
وتكره الإشارة إلى الهلال عند رؤيتها.

في «فتاوى سمرقند» قال: وفي هذا الموضع أيضاً: إذا وجد في المقبرة طريقاً لا بأس أن يمشي فيه إذا لم يقع في قلبه أنه محدث.
رجل أخذ من رجل شيئاً وهرب ودخل في داره لا بأس للمأخوذ منه أن يتبعه، ويدخل داره ويأخذ؛ لأنه موضع الضرورة.
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله تعالى؛ إذا رفع طيناً أو تراباً من طريق المسلمين ففي أيام الأوحال جاز، بل هو أولى، وفي غير أيام الأوحال إن لم يصر كالأرض، وكذلك وإن كان كالأرض، واحتاج الرافع إلى قلعه؛ لا يسعه ذلك إن كان فيه مضرة بالمارة، وفي هذا الموضع أيضاً: أهل قرية ابتلوا بالدياسة بالخمر فلا بأس به.
رجل مشى في الطريق، وكان في الطريق ماء فلم يجد مسلكاً إلا أرض إنسان فلا بأس بالمشي فيه؛ لأن فيه ضرورة، وذكر في «فتاوى أهل سمرقند» : المرور في أرض الغير على التفصيل؛ إن كان لأرض الغير حائط وحائل لا يمر فيها؛ لأن ذلك دليل عدم الرضا من صاحب الأرض بالمرور فيها، وإن لم يكن هناك حائط فلا بأس بالمرور فيها،

(5/407)


فالحاصل أن المعتبر في هذا الباب عادات الناس.

وفي «واقعات الناطفي» : نهر لرجل في أرض رجل، أراد صاحب النهر أن يدخل الأرض ليعالج نهره ليس له ذلك؛ لأن الأرض ملك الغير، ولكن ينبغي أن يمشي في بطن النهر، وإن كان النهر ضيقاً لا يمكنه المشي في بطنه؛ لا يدخل في الأرض أيضاً، قيل: هذا الجواب على قول أبي حنيفة؛ لأنه لا حريم للنهر عنده، وأما على قولهما للنهر حريم فله أن يمر على الحريم، وقيل: ما ذكر قول الكل، وتأويل المسألة على قولهما أن صاحب النهر باع الحريم من صاحب الأرض.
القيلولة المستحبة هي القيلولة من.... داس الحنطة وداس الشعير.

بساط أو مصلى كتب عليه في النسج الملك لله يكره بسطه، والقعود عليه واستعماله، فلو قطع حرف من حروفه وخيط على بعض الحروف حتى لم تبق الكلمة متصلة لا تسقط الكراهة؛ لأنه بقيت الحروف، وللحروف المفردة حرمة؛ لأن نظم القرآن وأخبار النبي عليه السلام بواسطة هذه الحروف، وقد روي أن واحداً من الأئمة رأى الشبان يرمون، وقد كان المكتوب على الهدف: أبو جهل لعنه الله، فمنعهم عن ذلك، ومضى بوجهه، ثم رجع، فوجدهم محوا اسم الله وكانوا يرمون كذلك، فقال: إنما أمنعكم لأجل الحروف.
قيل: الأعونة والسعادة والظلمة في أيام العمرة أفتى كثير من مشايخنا بإباحته، وقد حكي عن الشيخ الإمام الزاهد الصفار: أن الجصاص أورد في «أحكام القرآن» أن من ضرب الضرائب على الناس حل ذمته وكان السيد الإمام الأجل أبو شجاع السمرقندي يقول: يثاب قائلهم، وكان يفتي بكفر الأعونة، وكذلك القاضي الإمام عماد الدين بسمرقند يفتي بكفرهم ونحن لا نفتي بكفرهم.
إذا أدخل الرجل ذكره فم أمرأته فقد قيل: يكره؛ لأنه موضع قراءة القرآن، فلا يليق به إدخال الذكر فيه، وقد قيل بخلافه.
أيضاً السلطان إذا قال للخبازين: بيعوا عشرة أمناء من الخبز بدرهم ومن ينقص عن ذلك فعلت في حقه كذا وكذا، فاشترى رجل من الخباز عشرة أمناء من الخبز بدرهم، ولولا خوف السلطان، فالخباز لا يبيعه عشرة أمناء بدرهم لا يحل للمشتري أكله؛ لأن الخباز في معنى المكره على البيع، فإن أجاز البائع بعد ذلك من اختيار جاز، وحل للمشتري الأكل، فبيع المكره إذا لحقته الإجازة (103ب2) من البائع يخرج من أن يكون بمعنى مكره.

في عارية «الواقعات» : رجل أراد أن يستمد عن محبرة غيره فهذا على ثلاثة: أوجه: الأول أن يستأذنه، وفي هذا الوجه له أن يفعل ذلك إلا أن ينهاه، الثاني: أن يعلمه وفي هذا الوجه له ذلك أيضاً إذا لم ينهه؛ لأنه إذا لم ينهه فهو إذن له دلالة، الثالث: إذا

(5/408)


لم يستأذنه ولم يعلمه، وإنه على وجهين: إن كان بينهما انبساط فله أن يفعل ذلك لمكان الإذن عرفاً، وإن لم يكن بينهما انبساط ليس له أن يفعل؛ لأنه في الإذن عرفاً تودُّد.

وفي «فتاوى أهل سمرقند» : طلبة العلم إذا كانوا في مجلس ومعهم محابر فكتب واحد من محبرة غيره بغير إذنه صريحاً لا بأس به؛ لأنه مأذون دلالة، فإنه لو استأذنه يثقل عليه.
وفيه أيضاً: استأجر كتاباً ليقرأه، فوجد في الكتاب خطأ إن علم أن صاحب الكتاب يكره إصلاحه لا ينبغي له أن يصلحه؛ لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه، وإن علم أنه لا يكره إصلاحه فإن أصلحه جاز؛ لأنه مأذون دلالة، وإن لم يصلحه فلا إثم عليه؛ لأن الصلاح ليس واجب عليه.
رجل في داره شجرة فرصاً وقد باع أغصانها، وإذا أبقاه المشتري اطلع على عورات الجيران، فقيل ينبغي للجيران أن يرفعوا الأمر إلى القاضي حتى يمنعه عن ذلك، والمختار أن يخبر المشتري الجيران وقت الإيفاء ليستروا أنفسهم، يفعل ذلك في كل يوم مرة أو مرتين؛ لأن هذا جمع بين الحقوق، فإن لم يفعل ذلك إلا أن يرفع الأمر إلى الحاكم، فإن رأى الحاكم المنع منعه.
شوك أو حشيش نبت على القبور؛ إن كان رطباً يكره قلعه، وإن كان يابساً لا يكره؛ لأنه ما دام رطباً يسبح، فربما يكون للميت أنس بتسبيحها، ولا كذلك اليابس منه.
ميت دفن في أرض غيره، فإن شاء رب الأرض أمر بإخراجه وإن شاء سوى القبر مع الأرض وزرع عليه، فله أن يستخلص الظاهر والباطن وحده.

رجل يعمل أعمال البر، ويقع في قلبه أنه ليس بمؤمن، إن وقع في قلبه.... مؤمن..... أو أعماله لا تنفعه؛ لأنه عصى الله فهو مؤمن صالح، وإن وقع في قلبه أنه ليس بمؤمن ولم يعرف الله، واستقر قلبه على ذلك فهو كافر بالله، وإن خطر هذا بقلبه ووجد إنكار ذلك من نفسه فهو مؤمن؛ لأن التحرز عن هذا غير ممكن.
قيل: في الشفقة في الأولاد الشفقة عليهم إذا أراد الأب أن يأمر له بشيء أن يقول: «خوبت أبي بسر فلان كار بشور» ؛ لأنه لو أمره ربما يعلمه الابن فيصير عاقاً، رجل أتى بفاحشة ثم تاب وأناب إلى الله لا ينبغي له أن يخبر الإمام بما صنع لإقامة الحد؛ لأن الستر مندوب.

(5/409)