المحيط البرهاني في الفقه النعماني

كتاب التحري
هذا الكتاب يشتمل على فصول:
1 * في مسائل الصلاة
2 * في مسائل الزكاة
3 * في التحري في الثياب والأواني والمساليخ والموتى
4 * في المتفرقات

(5/411)


الفصل الأول في مسائل الصلاة
يجب أن يعلم بأن معرفة جهة الكعبة إما بدليل يدل عليها أو بالتحري عند انعدام الدلالة، فمن الدلائل؛ المحاريب المنصوبة في كل موضع؛ لأن ذلك باتفاق من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم، فإن الصحابة فتحوا العراق، وجعلوا القبلة ما بين المشرق والمغرب، ثم فتحوا خراسان، وجعلوا القبلة ما بين المغربين؛ مغرب الشتاء ومغرب الصيف، وكانوا يصلون إليها، ولما ماتوا جعلت قبورهم إليها أيضاً من غير نكير أحد منهم، وكفى بإجماعهم حجة.

ومن الدليل السؤال في كل موضع؛ لأن أهل كل موضع أعرف بقبلتهم من غيرهم عادة، ومن الدليل النجوم أيضاً على ما حكي عن عبد الله بن المبارك أنه قال: إن أهل الكوفة يجعلون الجدي خلف القفا في استقبال القبلة، ونحن نجعل الجدي خلف الأذن اليمنى، وكان الشيخ الإمام الزاهد رئيس أهل السنة إمام الهدى أبو منصور الماتريدي رحمه الله يقول: السبيل في معرفة جهة القبلة أن ينظر إلى مغرب الشمس في أطول أيام السنة فيعينه، ثم ينظر إلى مغرب الشمس في أقصر أيام السنة فيعينه ثم يدع الثلثين على يمينه والثلث على يساره، فيكون مستقبلاً للجهة إذا وجد ذلك الموضع، وعند انقطاع هذه الأدلة فإصابة جهة القبلة بالتحري.
وجملة هذا الفصل على أربعة أوجه:

أحدها: إذا صلى إلى جهة من غير شك ولا تحر ولم يخطر بباله وقت التكبير أن هذه قبلة وليست بقبلة، وفي هذا الوجه إن علم أنه أصاب أو كان أكثر رأيه ذلك يجزئه؛ لأنه لو لم يعلم أنه أصاب أو لم يصب يجزئه؛ لأن الجواز أصل فيما يفعله المسلم العاقل، فلأن يجزئه إذا علم أنه أصاب أو كان أكثر رأيه ذلك كان أولى. وإن علم أنه أخطأ لا يجزئه؛ لأن الجواز في الوجه الأول بنوع ظاهر من حيث إن الجواز أصل فيما يفعله العاقل المسلم، وهذا نوع ظاهر، والثابت بالدليل فوق الثابت بالظاهر، وكذلك إذا كان أكثر الرأي أنه أخطأ؛ لأن أكثر الرأي أقيم مقام العلم في حق العمل، وهذا كله إذا علم أنه أصاب أو أخطأ بعد الفراغ من الصلاة.
فأما إذا علم في خلال الصلاة أنه أصاب القبلة أو كان أكثر رأيه، ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» أنه لا يجوز ويلزمه الاستقبال، وذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» : أن فيه اختلاف المشايخ، كان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل يقول: لا يجزئه ويلزمه الاستقبال؛ لأن ما ظهر من الحالة في الانتهاء فوق الحالة الماضية؛ لأن التوجه إلى القبلة في الحالة الماضية كان ثابتاً بظاهر الحال وبعدما علم أنه أصاب أو كان أكثر رأيه ذلك فالتوجه إلى القبلة ثابت بالدليل، ولا شك أن الثابت بالدليل فوق الثابت باستصحاب الحال، فإذا كان ما ظهر من الحالة في الانتهاء فوق الحالة

(5/413)


الأولى لم يمكنه بناء الباقي على ما مضى؛ لأن الأقوى لا يجوز أن يبنى على الأضعف، ألا ترى أن المؤمن إذا قدر على الركوع والسجود في خلال الصلاة والأمي إذ اصار قادراً لا يبني، وكان الشيخ الإمام الزاهد أبو بكر بن حامد يقول: يجزئه ولا يلزمه الاستقبال؛ لأن صلاته كانت صحيحة في الابتداء لانعدام الدليل المفسد فالتغيير لا تزداد القوة حكماً بخلاف ما بعد الشك؛ لأن هناك صلاته بنيت صحيحة إلا بالتيقن بالأصلية، فإذا شعر أنه أصاب فقد يقوى حاله حكماً فلزمه الاستقبال (104أ2) .

أما ههنا بخلاف الوجه الثاني إذا اشتبهت عليه القبلة، فلم يتحر وصلى إلى جهة إن علم أنه أخطأ، أو أكثر رأيه ذلك أو لم يعلم أنه أخطأ أوأصاب لا يجزئه، وإن علم أنه أصاب بجهته هذا كله قبل الفراغ من الصلاة، أما إذا لم يعلم أنه أخطأ أو أصاب إنما لا يجزئه؛ لأن التحري افترض عليه حالة الاشتباه شرطاً لجواز الصلاة، فإذا ترك التحري فقد ترك شرطاً من شرائط جواز الصلاة فلا يجزئه كما لو ترك شرطاً آخر، وإذا ظهر الكلام فيما إذا لم يعلم أنه أخطأ أو أكثر رأيه ذلك من طريق الأولى.

فرق بين هذا وبين المسألة الأولى، فإن في المسألة الأولى: إذا لم يعلم أنه أصاب أو لم يصب، فإنه يجزئه ووجه الفرق: أن في المسألة الأولى لم يصر تاركاً شرطاً من شرائط جواز الصلاة؛ لأن التحري إنما يجب حالة الاشتباه، ولم يشتبه عليه أن القبلة في المسألة الأولى أما ههنا اشتبه عليه أمر القبلة، فافترض عليه التحري شرطاً لجواز الصلاة، فإذا ترك ذلك فقد ترك شرطاً من شرائط جواز الصلاة فإن قيل: لو كان تاركاً شرطاً من شرائط جواز الصلاة لكان لا يجزئه، وإن علم أنه أصاب كما لو تحرى ووقع تحريه على جهة فترك تلك الجهة وصلى إلى جهة أخرى. الجواب: التحري ما افترض لعينه وإنما افترض لغيره، وهو إصابة القبلة؛ لأن التحري طلب، والمقصود من الطلب المطلوب لا عين الطلب، فإذا علم أنه أصاب القبلة تبين أن التحري لم يكن فرضاً عليه؛ لأن ما افترض لغيره لا يبقى فرضاً متى حصل المقصود منه بدونه كالسعي إلى الجمعة لا يبقى فرضاً متى حصل المقصود بدونه؛ بخلاف ما لو تحرى ووقع تحريه على جهة فتوجه إلى جهة أخرى؛ لأن هناك لعينه؛ لأن التوجه إلى الجهة التي وقع عليها التحري افترض لعينه؛ لأن هذه الجهة صارت قبلة له بنص الكتاب كالكعبة حالة العيان، والتوجه إلى الكعبة حالة العيان فرض لعينه فكذا التوجه إلى الجهة التي أدى تحريه. ومن ترك من صلاته ما هو فرض لعينه لا تجوز صلاته، وإن أتى بشيء آخر، كما لو ترك ركوعاً وأتى بثلاث سجدات.
فأما إذا كان أكثر رأيه أنه أصاب، وكان ذلك بعد الفراغ من الصلاة هل يجزئه؟ لم يذكر محمد رحمه الله هذا في «الأصل» ، وقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: يجزئه؛ لأن أكثر الرأي أقيم مقام العلم، ولو علم أنه أصاب يجزئه، فكذا هنا.
الدليل عليه: أن محمداً رحمه الله سوى بين العلم وأكثر الرأي قبل الفراغ من الصلاة، فقال: لو كان أكثر رأيه أنه صلى إلى القبلة قبل الفراغ من الصلاة يلزمه

(5/414)


الاستقبال كما لو علم أنه صلى إلى القبلة، ومنهم من قال: لا يجزئه؛ لأن التحري لزمه بيقين، فلا يسقط إلا بيقين مثله، وغالب الرأي لا يوجب علم اليقين فلا يسقط به فرض التحري، وهذا بخلاف ما لو كان أكثر رأيه في الصلاة أنه أصاب، فإنه يلزمه الاستقبال كما لو علم يقيناً؛ لأن أكثر الرأي في الصلاة إما أن يلحق بالعلم أو بالجهل، وبأي ذلك ما ألحقنا يلزمه الاستقبال إن ألحقناه بالعلم، فلأن الحالة الثابتة أقوى من الحالة الماضية، فلا يمكنه البناء على الماضي، وإن ألحقناه بالجهل فلفساد الشروع فأما بعد الفراغ فالتحري كان فرضاً عليه بيقين، فلا يسقط عنه إلا بيقين مثله.

الوجه الثالث: إذا شك وتحرى وصلى إلى الجهة التي وقع التحري عليها، وفي هذا الوجه تجزئه صلاته، وإن علم أنه أخطأ القبلة، وقال الشافعي رحمه الله: لا تجزئه صلاته، وإذا علم أنه أخطأ القبلة وجه قوله أنه أدى حكماً عن اجتهاده، وقد ظهر خطؤه بيقين فيلزمه الإعادة، كما لو توضأ بماء على ظن أنه طاهر ثم تبين أنه نجس.

وجه قول علمائنا رضي الله عنهم حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة وإنه معروف، وإنما مسألة الثوب، وإنا قلنا: القياس في القبلة أن لا يجوز كما في الثوب والماء، إلا أنا تركنا القياس في القبلة بالنص، وماثبت بخلاف القياس لا يقاس عليه غيره، والنص الوارد في القبلة لا يكون وارداً في الماء والثوب دلالة؛ لأن الصلاة إلى غير القبلة أخف من الصلاة بغير وضوء وفي ثوب نجس؛ لأن التطوع إلى غير القبلة يجوز بالعذر الذي لا تجوز بمثله الصلاة بغير وضوء، ولا في ثوب نجس، فإنه تعذر السير فيما دون السفر يجزئه التطوع إلى غير القبلة، ولا يجزئه بغير طهارة، ولا في ثوب نجس، وإذا كان أخف فالنص الوارد في القبلة بخلاف القياس، ويكون وارداً فيهما دلالة فرد فصل الماء والثوب إلى ما يقتضيه القياس والقياس ما قاله، وهذا إذا كان بعد الفراغ من الصلاة.
فأما قبل الفراغ من الصلاة إذا علم أنه أصاب القبلة فإنه يمضي في صلاته، ولا يستقبل؛ لأن الحالة الثانية مثل الحالة الأولى؛ لأن الجهة التي وقع عليها التحري صارت قبلة بالنص كالكعبة، وإذا كانت الحالة الثانية مثل الأولى لا فوقه أمكنه البناء على الحالة الأولى، ألا ترى أن أهل قباء كانوا يصلون إلى بيت المقدس، فلما تحولت القبلة إلى الكعبة تحولوا إليها، وهم في الصلاة وأجزأتهم صلاتهم؟
الوجه الرابع: إذا شك وتحرى، وأعرض عن الجهة التي وقع تحريه عليها وصلى إلى جهة أخرى لا يجزئه في ظاهر رواية أصحابنا، وروى أبو سليمان الجوزجاني عن أبي يوسف أنه يجوز، وجه ظاهر الرواية ما ذكرنا، وجه رواية أبي سليمان أن التوجه إلى الجهة التي وقع تحريه عليها لم يفترض لعينه بل إنها كعبة حقيقة، فإذا أصاب الكعبة بجهة أخرى فقد حصل المقصود من التوجه إلى الجهة التي وقع تحريه عليها فيسقط فرضه التوجه إليها.

ومما يلحق بهذا الفصل إذا صلى إلى الجهة التي وقع تحريه عليها ركعة أو ركعتين، ثم علم أنه أخطأ فعليه أن يتحول إلى جهة الكعبة، ويبني على صلاته، وإذا وقع تحريه

(5/415)


إلى جهة فصلى إليها ركعة ثم تحول رأيه إلى جهة أخرى؛ يتحول إلى الجهة الثانية، وكذا في الثالثة، والرابعة، والأصل فيه حديث أهل قباء على ما روينا، واختلف المتأخرون فيما إذا صلى ركعة إلى جهة بالتحري، ثم وقع تحريه على جهة أخرى فصلى إليها ركعة، ثم وقع تحريه على الجهة الأولى، فمنهم من قال ينتقل إلى تلك الجهة أيضاً، ومنهم من قال: يلزمه الاستقبال.

ومما يتصل بهذا الفصل معرفة مكان التحري
ذكر في باب صلاة المريض (104ب2) من الأصل مسألة تدل على أن التحري في باب القبلة كما جوز خارج المصر يجوز في المصر، وصورتها قوم مرضى في بيت بالليل أمهم واحد وصلى بعضهم إلى القبلة، وبعضهم إلى غير القبلة، وهم يظنون أنهم أصابوا يعني تحروا، فصلاتهم جائزة؛ لأنه يجوز ذلك من الأصحاء حالة الاشتباه فمن المرضى أولى، ووجه الاستدلال بها أن محمداً رحمه الله حكم بجواز صلاتهم من غير فصل، بينما إذا كان البيت في المصر أو خارج المصر.

وعن أبي يوسف: أن الرجل إذا كان ضيفاً وكان ليلاً، ولم يجد أحداً يسأل فأراد أن يصلي التطوع جاز له التحري، وذكر شمس الأئمة الحلواني في «شرحه» مسألة الضيف، فقال: إذا كان الرجل ضيفاً في بيت إنسان فنام القوم، فأراد الضيف أن يتهجد بالليل، وكره أن يوقظهم، وذكر أن بعض مشايخنا قالوا: لا يجوز له التحري، وبعضهم قالوا: إن كان يريد إقامة المكتوبة لا يجوز له التحري، وإن كان يريد التهجد بالليل؛ يجوز له التحري، قال شمس الأئمة الحلواني عن مشايخه إن الصحيح أنه لا يجوز التحري في المصر؛ لأنه يتوصل إلى إصابة الجهة بالسؤال، ويجد من يسأله غالباً، والحكم يبنى على الغالب، قالوا: وما ذكرنا في باب صلاة المريض محمول على البيت الذي يكون في الرباط، ولا يكون.. في.... والمرضى مسافرون.
وفي «فتاوى النسفي» : التحري في المسجد في ليلة مظلمة يجوز حتى لو صلى المغرب في المسجد بالتحري، ثم جيء بالسراج وظهر أنه أخطأ القبلة لا يجب عليه الإعادة سواء كان المسجد له محراب أو لم يكن؛ لأن في مس الحائط لطلب المحراب احتمال الضرر، قال: وهذا جواب السيد الإمام أبي شجاع، وبه كان يفتي ظهير الدين المرغيناني، وفي النهار لا يجوز.

وفي كتاب التحري: رجل دخل مسجداً لا محراب فيه، وقبلته مشكلة، وفيه قوم من أهله فتحرى هذا الرجل القبلة وصلى، ثم تبين أنه أخطأ فعليه أن يعيد الصلاة، وإن علم أنه أصاب جازت صلاته؛ لأن السؤال من أهله ما افترض لعينه، بل لإصابة القبلة، فإذا أصاب فقد حصل المقصود بدونه فيجوز، ألا ترى أنه قد صلى بعد الشك بدون التحري؛ لأن التحري ما افترض بعينه بل لإصابة الكعبة، فإذا أصاب فقد حصل

(5/416)


المقصود، قال في كتاب التحري عقيب ذكر هذه المسألة: وهو نظير من أتى حياً من الأحياء ولم يجد ماءً فتيمم وصلى، ثم وجد الماء فإن كان في الحي قوم من أهله ولم يسألهم لا يجوز له التيمم، وإن كان في الحي قوم من غير أهله فلم يسألهم، أو سألهم فلم يخبروه، أو لم يكن بحضرته من يسأله جازت صلاته، وذكر القدوري في «شرحه» عن محمد رحمه الله فيمن بان له الخطأ بمكة بأن كان به محبوساً في بيت فاشتبهت عليه القبلة فتحرى، فلم يكن عنده من يسأله أنه لا إعادة عليه قال ثمة: وهو الأقيس؛ لأنه إذا كان محبوساً في بيت وانقطع عنه سائر الأدلة تعين عليه التحري، فقد أتى بما أمر به فيجوز، قال ثمة: وقال أبو بكر الرازي: عليه الإعادة؛ لأنه تيقن بالخطأ بمكة؛ لأن القبلة بمكة مقطوع بها، قال ثمة: وكذلك لو كان بالمدينة؛ لأن القبلة بالمدينة مقطوع بها؛ نصبها رسول الله عليه السلام بالوحي بخلاف سائر البقاع.h

الفصل الثاني في مسائل الزكاة
وإذا دفع الرجل زكاة ماله إلى رجل، ولم يخطر بباله عند الدفع أنه غني أو فقير؛ جاز الأداء إلا إذا علم أنه غني، وإن دفع إلى رجل ظن أنه فقير من غير أن يستدل على كونه فقيراً بما جعل أمارة على الفقر، فالجواب فيه كالجواب في الفصل الأول، ومعنى المسألة أنه لم يشك في أمر المدفوع إليه، بل كما رآه وقع في قلبه أنه فقير.
وإن اشتبه عليه حال المدفوع إليه، فدفع إليه بعدما تحرى، ووقع في أكثر رأيه أنه فقير أو أخبره المدفوع إليه أو أخبره عدل آخر أنه فقير، أو رآه في زي الفقراء، أو رآه جالساً في صف الفقراء، أو رآه يسأل الناس، ووقع في قلبه أنه فقير، وفي هذه الوجوه كلها إن علم أنه فقير أو أكثر رأيه أنه فقير، أو لم يعلم شيئاً، أو علم أنه غني، أو كان أكثر رأيه أنه غني؛ جاز في قول أبي حنيفة ومحمد رضي الله عنهما، وعند أبي يوسف الجواب كذلك إلا في وجه واحد؛ وهو ما إذا علم أنه غني؛ فإن في هذه الصورة: لا يجزئه عن زكاة ماله عند أبي يوسف، قال شيخ الإسلام: وله أن يسترد ما دفع إليه، وهو خلاف الرواية، فالرواية منصوصة عن أبي يوسف أنه لا يملك الاسترداد.
ثم إن محمد رحمه الله جمع بين فصول خمسة، بينما إذا أخبره المدفوع إليه أو عدل آخر أنه فقير، أو رآه في زي الفقراء أو جالساً في صف الفقراء، أو رآه يسأل الناس، ووقع في قلبه أنه فقير؛ ذكر هذا الشرط، وهو الوقوع في قلبه أنه فقير فيما إذا رآه يسأل الناس، ولم يذكره في الفصول الأخر، وإنه شرط في الفصول الأخر أيضاً، وهكذا ذكر في «النوادر» بعض الفصول الأخر مع هذا الشرط؛ وهذا لأنه إذا وقع في قلبه صدقه كان بمنزلة التحري.
ثم على قول أبي حنيفة ومحمد: إذا ظهر أن المدفوع إليه غني، وجازت الصدقة عند أبي حنيفة ومحمد هل يحل للقابض؟ اختلف المشايخ فيه؛ قال بعضهم: لا يطيب،

(5/417)


وقال بعضهم: يطيب، وقال بعضهم: يرد إلى المعطي على وجه التمليك.

ثم المعطي هل يثاب على ذلك؟ قال بعضهم: يثاب ثواب المجاملة مع الناس والبر بهم، ولا يثاب ثواب الصدقة، واستشهد في «الكتاب» حجة لأبي يوسف في المسألة المختلفة، قال: هو بمنزلة رجل توضأ بماء وصلى، ثم تبين أنه كان غير طاهر، وذكر أن هذا يجزئه ما لم يعلم، فإذا علم عاد، قال شمس الأئمة الحلواني: وتحت هذا اللفظ فائدة عظيمة، فإنه جعل تلك الصلاة مجزئة ما لم يعلم أنها فاسدة في الحقيقة قال رحمه الله: وكذلك كل صلاة وقعت فاسدة، وهو يظن أنها وقعت جائزة، فمات قبل العلم لم يعاقب، والعبرة لما عنده لا بما عند الله، قال رحمه الله: ونظيره ما روي عن أبي يوسف فيمن اشترى جاريته وطأها مراراً، ثم استحقت إن وطأها حلال له، ولا يسقط إحصانه؛ لأنه وطئها وعنده أنها ملكه فاعتبر ما عنده، وعلى قول أبي حنيفة ومحمد: الوطء حرام، إلا أنه لا إثم عليه.

وإذا شك في حال المدفوع إليه فدفع إليه من غير تحر إن ظهر أنه غني، أو وقع في أكثر رأيه أنه غني، أو لم يعلم شيء لا يجوز، وإن ظهر أنه فقير يجوز، وإن وقع في أكثر (105أ2) رأيه بعد ذلك أنه فقير اختلف المشايخ فيه، أكثرهم على أنه لا يجوز، وأما إذا اشتبه عليه حال المدفوع إليه، وتحرى ووقع في أكثر رأيه أنه غني، فدفع إليه مع ذلك لا يجزئه ما لم يعلم فقره، وإذا علم أنه فقير اختلف المشايخ فيه على ثلاثة أقاويل: بعضهم قالوا: يجوز إجماعاً، وبعضهم قالوا: لا يجوز إجماعاً، وبعضهم قالوا: عند أبي حنيفة ومحمد لا يجوز، وعند أبي يوسف يجوز على عكس ما ذكرنا من الاختلاف، قال شمس الأئمة السرخسي: والأصح هو الجواز.
ثم في المسألة المختلفة بين أبي حنيفة ومحمد وبين أبي يوسف، لو ظهر أن المدفوع إليه أب الدافع، أو ابنه كان على الخلاف في ظاهر الرواية، وذكر أبو شجاع عن أبي حنيفة أنه لا يجوز، لو ظهر أن المدفوع إليه هاشمي كان على الخلاف في ظاهر الرواية، وذكر في «جامع البرامكة» عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه لا يجوز، وإن ظهر أن المدفوع إليه ذمي، كان على هذا الخلاف في ظاهر الرواية، وذكر أبو يوسف في «الأمالي» عن أبي حنيفة: أنه لا يجوز، وإن ظهر أنه حربي مستأمن ذكر في «نوادر الزكاة» أنه على هذا الخلاف، وذكر في «جامع البرامكة» عن أبي حنيفة: أنه لا يجوز، وإن ظهر أنه حربي غير مستأمن لا يجوز عند أبي حنيفة باتفاق الروايات، وإن ظهر أنه عبده لا يجزئه إجماعاً، وإن ظهر أنه مكاتبه فعن أبي حنيفة رضي الله عنه روايتان.

الفصل الثالث في التحري في الثياب، والمساليخ، والأواني، والموتى
إذا كان مع الرجل ثوبان، أو ثياب، والبعض نجس، والبعض طاهر، فإن أمكن التمييز بالعلامة يميز، وإن تعذر التمييز بالعلامة إن كانت الحالة حالة الاضطرار بأن لا يجد ثوباً طاهراً بيقين، واحتاج إلى الصلاة، وليس معه ما يغسل به أحد الثوبين أو أحد

(5/418)


الأثواب يتحرى، وإن كانت الحالة حالة الاختيار إن كانت الغلبة للنجس أو كانا على السواء لا يتحرى، ثم في حالة الاضطرار إذا وقع تحريه في الثوبين على أحدهما أنه طاهر فصلى فيه الظهر، ثم وقع أكثر رأيه على الآخر أنه هو الطاهر فصلى فيه العصر لم يجزه العصر، فإن لم يحضره تحر أو لم يعلم أن في أحدهما نجاسة حتى صلى في أحدهما الظهر، وفي الآخر العصر، ثم نظر فإذا في أحدهما قذر، ولا يدري أهو الأول أو الآخر، فصلاة الظهر جائزة، وصلاة العصر فاسدة.

وفي «النوادر» : إذا كان أحد الثوبين نجساً فصلى في أحدهما الظهر من غير تحر، وصلى في الآخر العصر، ثم وقع تحريه على أن الأول طاهر قال أبو حنيفة رضي الله عنه: هذا لم يصل شيئاً، وقال أبو يوسف: صلاة الظهر جائزة.
وأما الثوب الواحد إذا أصاب طرفاً منه نجاسة مانعة جواز الصلاة، وهي غير مرئية، هل يجوز له أن يتحرى طرفاً منه فيغسله؟ بعض المتأخرين من مشايخنا جوزوا ذلك، وبعضهم قالوا: إذا غسل طرفاً منه من غير تحر وصلى فيه لا يحكم بفساد صلاته، وتأولنا للمشايخ خلاف ما ذكره هشام في «نوادره» عن محمد، فقد ذكر ثمة: أنه لا يجوز التحري في ثوب واحد، قال القاضي الإمام أبو علي النسفي: ونظير هذه المسألة مسألة أخرى لا يحفظ جوابها أن الحنطة التي تدلس بالخمر فيبول ويروث وتصب بعض الحنطة ويخلط ما أصيب منها بغيرها قالوا: لو عزل بعضها وغسل، ثم خلط الكل أبيح تناولها، وكذلك لو عزل بعضها ووهبه من إنسان أو باعه منه أو تصدق به عليه حل له تناول البقية ويباح للموهوب له، والمشتري والمتصدق عليه تناولها أيضاً.
ونظير هذا مسألة في «النوادر» : رجلان في السفر معهما ثوبان؛ أحدهما طاهر والآخر نجس، فصلى أحدهما في ثوب بالتحري، وصلى الآخر في الثوب الآخر بالتحري؛ تجوز صلاة كل واحد منهما، ولو أم أحدهما، واقتدى به الآخر، فصلاة الإمام جائزة دون صلاة المقتدي.
ونظيره مسألة أخرى: رجلان تلاعبا، فسال من أحدهما قطرة دم، وجحد كل واحد منهما أن ذلك منه، فصلى كل واحد منهما منفرداً، جازت صلاته، ولو اقتدى أحدهما بالآخر لا تجوز صلاة المقتدي.

ومن هذا الجنس مسألة أخرى: ثلاثة نفر تلاعبوا، فسال من أحدهم قطرة دم أو فسى أحدهم أو ضرط، ثم تجاحدوا جميعاً، ثم أم أحدهم في الظهر، والثاني في العصر، والثالث في المغرب، فصلاة الظهر جائزة للكل ولا تجوز صلاة المغرب لإمام الظهر والعصر رواية واحدة، وفي إمام المغرب روايتان؛ وقال أبو القاسم الصفار: تجوز الصلوات كلها.
وإذا تحرى في الثياب ووقع تحريه على أحدهما أنه طاهر، وصلى فيه، ثم تبين أنه أخطأ؛ تلزمه الإعادة بخلاف أمر القبلة.
إذا كان في السفر ومعه أوان بعضها نجسة، وبعضها طاهرة إن كانت الغلبة للطاهرة

(5/419)


يجوز التحري حالة الاختيار وحالة الاضطرار، للشرب والوضوء جميعاً، وإن كانت الغلبة للنجس أو كانا سواء إن كانت الحالة حالة الاختيار للتحري لا للشرب، ولا للوضوء، وإن كانت الحالة حالة الاضطرار أن يتحرى للشرب بالإجماع، ولا يتحرى للوضوء عندنا، ولكنه يتيمم، فإن توضأ بالماءين إن مسح موضعاً واحداً في المرتين لا يجزئه، وإن مسح موضعين يجزئه.
وههنا مسألة أخرى لا ذكر لها في «المبسوط» : إذا اختلط إناؤه بأواني أصحابه في السفر، وهم غيب، قال بعضهم: يتحرى، ويأخذ آنيته ويتوضأ به بمنزلة طعام مشترك بين جماعة غاب أصحابه واحتاج الحاضر إلى نصيبه، رفع قدر نصيبه، وكذلك رغيفه إذا اختلط بأرغفة صاحبه قال بعضهم: يتحرى، وقال بعضهم: لا يتحرى في الأرغفة ولكن يتربص حتى يجيء أصحابه، وهذا كله في حالة الاختيار، أما في حالة الاضطرار جاز التحري في الأحوال كلها.

إذا كان للرجال مساليخ؛ بعضها ذبيحة، وبعضها ميتة إن أمكن التمييز بالعلامة يميز في الوجوه كلها، ويباح التناول، وإن تعذر التمييز بالعلامة، فإن كانت الحالة حالة الاضطرار ويعني به أنه لا يجد كسرتيّن واضطر إلى الأكل يتناول بالتحري على كل حال، وإن كانت الحالة حالة الاختيار، فإن كانت الغلبة للحرام أو كانا سواء لم يجز التناول بالتحري، وإن كانت الغلبة للحلال يتناول بالتحري، وليس هذا كالمطلقة ثلاثاً إذا اختلطت بغيرها من الإماء، والغلبة للحلال فإن هناك لا يطأ واحدة منهن بالتحري، ولو متن إلا واحدة لا يطؤها (105ب2) والزيت إذا اختلط به ودك الميتة إن كانت الغلبة للحرام أو كانا على السواء لا يجوز الانتفاع به بوجه من الوجوه، وإن كانت الغلبة للزيت لا يحل الأكل، ويحل ما عداه من الاستعمال، ودبغ الجلد به والبيع شرط أن يبين عنده.
إذا اجتمع موتى المسلمين وموتى الكفار، فإن أمكن التمييز بالعلامة تميز، وإن تعذر التمييز بالعلامة؛ إن كانت الغلبة للمسلمين يغسلون ويكفنون، ويدفنون في مقابر المسلمين، وإن كانت الغلبة للكفار لم يصل عليهم ويغسلون ويكفنون ويدفنون في مقابر المشركين، وإن كان سواء فكذلك الجواب لا يصلى عليهم، ويدفنون في مقابر المشركين، قيل: عند أبي يوسف يدفنون في مقابر المسلمين، وقال الفقيه أبو جعفر: تجد لهم مقبرة على حدة.

الفصل الرابع في المتفرقات
رجل أم قوماً في ليلة مظلمة، فتحرى القبلة، فصلى إلى المشرق، وتحرى من خلفه، وصلى بعضهم إلى القبلة، وبعضهم إلى دبر القبلة، وكلهم خلف الإمام، ولا يعلمون ما صنع الإمام أجزأهم، وهذا إذا كان عند كل واحد منهم أن وجه الإمام إلى هذا

(5/420)


الجانب الذي إليه وجهه، ولم يتقدم على الإمام، أما إذا كان عند واحد منهم أن وجه الإمام إلى جهة أخرى، أو هو تقدم على إمامه لا تجوز صلاته، أما إذا كان عنده أنه تقدم على إمامه فظاهر، وأما إذا كان عنده أن وجه إمامه إلى جانب آخر، فلأنه زعم فساد صلاة إمامه لما أنه زعم أنه ترك القبلة، وهذا بخلاف ما لو صلوا في جوف الكعبة، فإنه تجوز صلاة الكل من كان وجهه إلى الجانب الذي إمامه إليه، ومن كان وجهه إلى جانب آخر؛ لأن هناك أحد لم يزعم فساد صلاة الإمام لما أنه ترك القبلة؛ لأن كل جهة حق بيقين، أما ههنا الجهات كلها ليست بحق بيقين بل الحق جهة واحدة، ولهذا أمر بالتحري، ولو كانت كل جهة حقاً لما احتيج إلى التحري، إنما الحق عند كل مجتهد ما أدى إليه اجتهاده، وما عند صاحبه خطأ، وكثير من مسائل التحري ذكرناها في أول كتاب الاستحسان فلا نعيده.
قال محمد رحمه الله في «السير الكبير» : ولا يخرج الرجل إلى الجهاد وله أم أو أب إلا بإذنه؛ إلا في النفير العام، وهذا استحسان، وإن كان أبواه كافرين أو أحدهما، وكرها له ذلك، أو كره الكافر؛ فليتحر في ذلك، فإن وقع تحريه على أنه إنما كره لما يلحقه من المشقة لأجل ما يخاف عليه من القتل، فإنه لا يخرج من غير إذنهما، وإن وقع تحريه على أنه إنما كرهه كراهة أن يقاتل مع أهل دينه وملته يخرج بغير إذنهما، وإن لم يقع تحريه على شيء بل شك في ذلك، ومعناه استواء الظنين، لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في «الكتاب» ، قالوا: وينبغي أن لا يخرج؛ لأن طاعة الوالدين على الولد واجب بيقين وقع الشك في سقوطها، فلا يسقط بالشك، واستدلوا بما ذكر محمد رحمه الله في «السير» في باب طاعة الوالي: أن الإمام إذا أمر الجند بشيء وشكوا أنهم ينتفعون به أو يتضررون، وتساوى الظنان أن عليهم أن يطيعوا الأمير؛ لأن طاعة الأمير واجب بيقين وقع الشك في سقوطه فلا يسقط بالشك.
وفي «مجموع النوازل» : إذا اشتبهت عليه القبلة في مفازة، فتحرى ووقع تحريه على جهة، فأخبره عدلان أن القبلة إلى جهة أخرى، فإن كانا مسافرين لا يلتفت إلى قولهما؛ لأنهما يقولان عن اجتهاد، ولا يجوز للمجتهد ترك اجتهاده باجتهاد غيره، أما إذا كانا من أهل ذلك الموضع لا يجوز له إلا أن يأخذ بقولهما؛ لأن خبرهما فوق اجتهاده.

وفيه أيضاً: رجل صلى في مفازة بالتحري، فاقتدى رجل به، ولم يتحرَ المقتدي، ثم ظهر أن الإمام أصاب القبلة؛ جازت صلاتهما، وإن ظهر أنه أخطأ لم تجز صلاة المقتدي، وجازت صلاة الإمام؛ لأن تحري الإمام لا يصير تحرياً للمقتدي، فصار المقتدي مصلياً بغير تحر عند اشتباه القبلة فلا يجوز. وفيه أيضاً: قوم صلوا في مفازة بالتحري؛ وفيهم مسبوق ولاحق، فلما فرغ الإمام من الصلاة قاما يقضيان، فظهر الخطأ في القبلة أمكن للمسبوق إصلاح صلاته دون اللاحق؛ لأن المسبوق فيما يقضي ينفرد، وللمنفرد أن ينتقل إلى ما تحول رأيه إليه بخلاف اللاحق؛ لأنه في الحكم كأنه خلف الإمام، فليس له أن يخالف الإمام في الجهة.

(5/421)


رجلان خرجا إلى المفازة، فجاء أوان الصلاة فتحريا، ووقع تحري كل واحد إلى جهة غير جهة صاحبه، فافتتح كل واحد منهما الصلاة منفرداً بالتحري، ثم بدا لأحدهما في وسط الصلاة أن يتحول إلى جهة صاحبه فتحول واقتدى به، فإن استقبل التكبير جاز، وما لا فلا.
في متفرقات شمس الأئمة الحلواني: الأعمى إذا صلى ركعة إلى غير القبلة فجاء رجل وسواه، وأقامه إلى القبلة واقتدى به، إن وجد الأعمى وقت الافتتاح من يسأل عنه لا تجوز صلاة الإمام، ولا صلاة المقتدي، وإن لم يجد من يسأل تجوز صلاة الإمام؛ لأنه معذور، ولا تجوز صلاة المقتدي؛ لأن في زعمه أن أول صلاة الإمام إلى غير القبلة والله أعلم. تم كتاب التحري من المحيط البرهاني بحمد الله تعالى.

(5/422)