المحيط
البرهاني في الفقه النعماني كتاب اللقطة
هذا الكتاب يشتمل على أربعة فصول:
1 * في أخذ اللقطة والانتفاع بها وتملكها
2 * في تعريف اللقطة، وما يصنع بها بعد التعريف
3 * فيما يضمن الملتقط، وفيما لا يضمن إذا هلكت اللقطة في يد الملتقط
4 * في الخصومة في اللقطة، والاختلاف فيها، والشهادة
(5/431)
الفصل الأول في أخذ
اللقطة والانتفاع بها وتملكها
يجب أن يعلم بأن التقاط اللقطة على نوعين: نوع من ذلك يفترض وهو ما إذا خاف
ضياعها، ونوع من ذلك لا يفترض وهو ما إذا لم يخف ضياعها ذلك ينافي أخذها،
أجمع عليه العلماء، فاختلفوا فيما بينهم أن الترك أفضل أو الرفع، ظاهر مذهب
أصحابنا أن الرفع أفضل؛ لأنه لو لم يرفع هو ربما تصل إليها يد خائنة، وبعض
المتقدمين قالوا: الترك أفضل؛ لأن صاحبها يطلبها في المكان الذي سقطت منه،
فإذا تركها وصل إليها يد المالك، ومن العلماء من قال: إن كان..... ....
يأمن على نفسه الخيانة، فالرفع أفضل، وإن كان فاسقاً لا يأمن على نفسه
الخيانة فالترك أفضل، ثم ما يجده الرجل......... .... أن صاحبه لا يطلبه
كالنورة في مواضع مختلفة، وكقشور الرمان في مواضع متفرقة، وفي هذا الوجه له
أن يأخذها وينتفع بها................ وجدها في يده بعدما جمعها، فله أن
يأخذها، ولا يصير ملكاً للآخذ، هكذا ذكر شيخ الإسلام خواهر زاده، وشمس
الأئمة السرخسي في شرح كتاب اللقطة وهكذا ذكر القدوري في «شرحه» في المسائل
المنثورة من «كتاب الحظر» والإباحة.
ووجه ذلك: أن إلقاء هذه الأشياء إذن بالأخذ، وإباحة الانتفاع بها عادة وليس
تمليك؛ لأن التمليك من المجهول لا يكون، والإباحة لا تزيل ملك المبيح،
والمباح لم ينتفع به على حكم ملكه، فإذا وجدها صاحبها في يده فقد وجد عين
ملكه، فكان له الأخذ، وذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب اللقطة أنه ليس للمالك
أن يأخذها من يده بعدما جمعها أو احتجزها وتصير ملكاً للآخذ، وكذلك الجواب
في التقاط السنابل، فإن كان الرامي قال حالة الرمي: فليأخذه من يشاء، لا
يكون للرامي أن يأخذ بعد ذلك من الأخذ بلا خلاف، وتأويل هذا؛ إذا قال:
لأقوام معلومين ذكره الفقيه أبو الليث في فتاويه في كتاب «الهبة والصدقة»
أما إذا لم يقل ذلك لأقوام معلومين؛ يكون للرامي أن يأخذه من الآخذ.
وذكر في كتاب البيوع من «فتاوى أبي الليث» : رجل رمى ثوبه لا يجوز لأحد أن
يأخذه إلا إذا قال وقت الرمي: فليأخذه من أراد، وتأويله ما ذكرنا، وهذا
الذي ذكرنا من التأويل في المسألتين اختيار الفقيه أبي الليث، وبعض مشايخنا
قالوا: ليس للرامي أن يأخذ بعد ذلك، وإن لم يقل الرامي ذلك لأقوام (107ب2)
معلومين، ويستدل هذا القائل بقوله عليه السلام حين نحر بدنة «من يشاء
اقتطع» ومعلوم أن هذا لم يختص بقوم معلومين، بل يتناول الكل.
(5/433)
ونوع آخر
يعلم أن صاحبه يطلبه كالذهب والفضة، وسائر العروض وأشباهها، وفي هذا الوجه
له أن يأخذها ويحفظها، ويعرضها حتى يوصلها إلى صاحبه، وقشور الرمان والنوى
إذا كانت مجمعة فهي من النوع الثاني؛ لأن صاحبها لما جمعها فالظاهر أنه ما
ألقاها إنما سقطت منه، فكانت من النوع الثاني، وفي «غصب النوازل» إذا وجد
جوزة ثم أخرى ثم أخرى؛ حتى بلغت عشراً، وصار لها قيمة، فإن وجدها في موضع
واحد فهي من النوع الثاني بلا خلاف، وإن وجدها في مواضع متفرقة، فقد اختلف
المشايخ فيه، قال الصدر الشهيد: والمختار أنها من النوع الثاني بخلاف
النوى، وقشور الرمان، ورمي هذه الأشياء إباحة للانتفاع، ولا كذلك الجوز،
قيل: إلا إذا وجدها تحت أشجار الجوز في الخريف، فقد تركها صاحبها عند
اجتناء الثمار وجمعها، صح له أن يأخذ وينتفع بها؛ لأنه تركها تحت الأشجار
في هذا الوقت لانتفاع الناس بها معتاد.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» الحطب الذي يوجد في الماء لا بأس بأخذه والانتفاع
به وإن كان له قيمة، وكذلك التفاح والكمثرى إذا وجد في نهر جاري لا بأس
بأخذه والانتفاع به وإن كثرت.
إذا مر في أيام الصيف بثمار ساقطة تحت الأشجار، فهذه المسألة على وجوه: إن
كان ذلك في الأمصار لا يسعه التناول منها إلا أن يعلم أن صاحبها قد أباح
ذلك له نصاً أو دلالة بالعادة؛ لأنه لا عادة ههنا في الإباحة، وإن كان في
الحائط، والثمار مما يبقى كالجوز ونحوه لا يسعه الأخذ إلا إذا علم الإذن،
وإن كانت الثمار مما لا يبقى تكلم المشايخ فيه؛ منهم من قال: لا يسعه أن
يأخذ ما لم يعلم أن صاحبها قد أباح ذلك، ومنهم من قال: لا بأس به ما لم
يعلم النهي إما صريحاً أو دلالة، وهو المختار، وإن كان ذلك في الرساتيق
الذي يقال بالفارسية «مرا ست» ، وكان ذلك من الثمار التي تبقى لا يسعه
الأخذ إلا إذا علم الإذن، وإن كان ذلك من الثمار التي لا تبقى يسعه الأخذ
بلا خلاف ما لم يعلم الآخذ النهي، وهذا الذي ذكر بأكله إذا كانت الثمار
ساقطة تحت الأشجار، أما إذا كانت على الأشجار والأفضل أن لا يأخذ من موضع
إلا بالإذن؛ إلا إذا كان موضعاً كثير الثمار يعلم أنه لا يشق عليهم ذلك
فيسعه الأكل، ولا يسعه الحمل.
في «واقعات الصدر الشهيد» : حمل..... من السقاية إلى منزله يكره ولا يحل،
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : امرأة رفعت ملاء امرأة، تركت ملائها عوضاً، ثم
جاءت المرأة التي أخذت ملائها، وأخذت ملاء المرأة الآخرة ليس لها أن تنتفع
بها، وطريق ذلك أن تتصدق بهذه الملاء على ابنتها إن كانت فقيرة على نية أن
الثواب لصاحبتها إن رضيت، ثم تهب الابنة الملاءة منها فيسعها الانتفاع بها؛
لأنها بمنزلة اللقطة، ولا يحل الانتفاع ابتداءاً إن كانت غنية، ويحل إن
كانت فقيرة، وكذلك الجواب
(5/434)
في المكعب إذا سرق وترك عوضاً، وفي «فتاوى
أبي الليث» : إذا كان في المقبرة حطب يجوز للرجل أن يحتطب منها، هكذا ذكر
في «العيون» وهذا إذا كان يابساً، فأما إذا كان رطباً يكره كذا ذكر في
«فتاوى أبي الليث» ؛ لأنه ما دام رطباً يسبّح، وربما يكون للميت أنس
بتسبيحها، ولهذا قلنا: بيع الحشيش الرطب بلا حاجة لا يستحب؛ لأنه ما دام
رطباً يسبح.
في «شرح القدوري» في كتاب الحظر والإباحة عن أبي يوسف: في رجل ألقى شاة
ميتة فجاء آخر وأخذ صوفها كان له أن ينتفع به، ولو جاء صاحب الشاة بعد ذلك
كان له أن يأخذ الصوف منه، ولو سلخها ودبغ جلدها ثم جاء صاحبها كان له أن
يأخذ الجلد، ويرد ما زاد الدباغ فيه.
في «واقعات الناطفي» : إذا أسقط في الطريق في أيام الصبغ فيها القز ورق
الشجر، إلى أن ينتفع بورقه كالثوب وأشباهه، فليس له أن يأخذه، وإن أخذه
ضمنه؛ لأنه مملوك منتفع، وإن كان ورق شجر لا ينتفع به له أن يأخذ، في
«فتاوى الفضلي» المزارع إذا التقط السنابل بعدما حصد الزرع وجد، كان له
خاصة؛ لأنه لو لم يلتقطها المزارع لم يلتقطها رب الأرض، وكان مباح التملك،
فإن كان الأرض لليتامى يجوز، إن ترك السنابل إن كانت السنابل بحيث لو
استؤجر على جمع ذلك أمراً يبقى للصبي بعد موت الأجير شيء ظاهر لا يجوز
تركه، قال: وهو كثوب خلق رماه صاحبه فرفعه غيره كان له، وقد ذكرنا مسألة
الثوب قبل هذا، وفي «مزارعة النوازل» ..... بقيت فيها فانتهبها الناس، قال
الفقيه أبو بكر: إذا تركها أهلها ليأخذها من يشاء من ذلك لا بأس به، وهو
نظير من يرفع زرعه، ويترك عنه السنابل، فالتقطها غيره لا بأس به كذا ههنا،
في «النوازل» ما يجمع لله في................. الذي هو حر من الأوقية هل
يطيب لهم؟ إن كان بحال يسيل الدهن من خارج الأوقية لا من داخلها يطيب؛ لأن
ما هو خارج الأوقية فليس بمستتر، أو كان الدهن يسيل من داخل الأوقية أو من
الداخل والخارج، أو لا يعلم، فإن زاد الدهان لكل واحد من المشتري شيئاً طاب
له ما ينظر، وإن لم يزد لا يطيب ويتصدق به، ولا ينتفع به إلا أن يكون
محتاجاً؛ لأن سبيله سبيل اللقطة، والحكم في اللقطة هذا على ما يتبين إن شاء
الله تعالى.
قوم أصابوا بعيراً مذبوحاً في طريق البادية إن لم يكن قريباً من الماء،
ووقع في الظن أن صاحبه فعل ذلك؛ لأنه أباحه للناس فلا بأس بالأخذ والأكل،
وفي «العيون» وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا أذن فيها صاحبها جاز الأخذ في
الأصل، في كراهية «فتاوى أهل سمرقند» رجل له دار يؤاجرها، فجاء إنسان بإبله
فأناخ في داره، واجتمع من ذلك بعير كثير، قال: إن ترك صاحب الدار ذلك على
وجه الإباحة، ولم يكن من دابة أن.... وكل من أخذ هو أولى، وإن كان من رأي
صاحب الدار أن.... فصاحب الدار أولى؛ (108أ2) لأنه أعد الدار للاحتراز.
(5/435)
وفي «نوادر هشام» في سرقين الدابة في الخان
إذا ذهب صاحبها فهي لمن أخذها؛ لا لصاحب الخان، وفي «دعوى الفضلي» رجل قاطع
داراً شيئاً معلومة، وسكنها، فاجتمع فيها سرقين كثيرة، وقد جمع المقاطع،
فهي لمن هذا مكانه، وإن لم يفعل ذلك أحد، فهي لمن سبقت يده إليها بالأخذ
والرفع، وكان القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله يقول: هي لمن
سبقت يده إليها بالرفع على كل حال، وكان لا يعتبر تمدي المكان حتى قال: إذا
ضرب حائطاً، وجعل موضعاً يجتمع فيه الدواب فسرقينها لمن سبقت يده إليها،
بخلاف ما إذا.... مكاناً لأجل الصيد؛ لأن هناك ما اعترض على فعله لحل معتبر
من غيره؛ لأنه لا عبرة لفعل الصيد، وههنا اعترض على فعله فعل معتبر من
غيره، وهو إدخال صاحب الدواب الدواب في هذا المكان.
وفي «فتاوى أبي الليث» : سئل أبو نصر عن الغنم يجتمع في مكان فيجمع من ذلك
بعر كثير في آخره التقطها قال: إن كان أرباب الغنم جمعوا ذلك، أو نصبوا
مرابض لغنمهم ليجتمع بعرها، أو كانوا يشحون على ذلك لا يجوز لأحد أن يأخذ
ذلك من غير إذنهم، وإن لم يكن شيء من ذلك فلا بأس بالأخذ منه، وفي «دعوى
الفضلي» : ساحة فضاء يطرح فيها أصحاب السكة التراب والسرقين والرماد ونحوه،
حتى اجتمع من ذلك شيء كثير، فإن كان أصحاب السكة طرحوها على معنى الرمي بها
وكان صاحب الساحة هيأ الساحة لذلك، فهي لصاحب الساحة، وإن لم يكن هيأ
الساحة لذلك فهي لمن سبقت يده إليها بالرفع، وكان القاضي الإمام ركن
الإسلام علي السغدي يفتي لمن سبقت يده إليها على كل حال.
وفي «فتاوى أبي الليث» : رجل له فرخ حمام اختلط بها حمام أهل لغيره لا
ينبغي له أن يأخذه، وإن أخذه يطلب صاحبه؛ لأنه في معنى الضالة واللقطة؛ فإن
فرخ عنده، فإن كان الأم غريباً لا يتعرض لفرخه، وإن كان الأم لصاحب البرج
والغريب ذكر، فالفرخ له؛ لأن الفرخ والبيض متولد من الأم، فيكون لصاحب
الأم، فإن لم يعرف أن في برجه غريب لا شيء على صاحب البرج إن شاء الله
تعالى، وفي «شرح العبد» لشمس الأئمة السرخسي أن من اتخذ برج حمام، وأوكرت
حمامات الناس فيها، فما يأخذ من فراخها لا يحل له؛ إلا إذا كان فقيراً،
فيحل له أن يتناول لحاجة، وإن كان غنياً ينبغي أن يتصدق بها على فقير، ثم
يشتريها منه بشيء.d
وفيه أيضاً: رجل أخذ حمامة في المصر يعلم أن منها لا يكون وحشة فعليه أن
يعرفها، وفيه أيضاً ومن أخذ بازياً أوشبهه في سواد أو مصر، وفي رجليه سير،
أو خلاخل وهو يعرف أن له أهل، فعليه أن يعرفه، فيرده على أهله، فإنه يتعين
ثبوت يد الغير عليه؛ لأنه لا يخرج من القفص مع الخلاخل والسير، فأما إذا
انفلت من يد صاحبه، أو أرسله وأياً ما كان لا يزيل ملك صاحبه عنه، فكان
بمنزلة اللقطة، وكذلك إذا وجد ظبياً في عنقه قلادة.
(5/436)
الفصل الثاني في
تعريف اللقطة، وما يصنع بها بعد التعريف
قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني: أدنى ما يكون من التعريف أن يشهد
عند الأخذ، ويقول: أخذتها لأردها، فإن فعل ذلك ثم لم يعرفها بعد ذلك كفى،
ومن المشايخ من قال: يأتي على أبواب المساجد وينادي، وقد ذكر محمد رحمه
الله في «الكتاب» : يعرفها حولاً، ولم يفصل بين القليل والكثير، عن أبي
حنيفة رضي الله عنه روايتان: روى الحسن عنه في «المجرد» : إن كانت مائتي
درهم فما فوقها يعرفها حولاً، وإن كان أقل من مائتي درهم إلى عشرة يعرفها
شهراً، وإن كانت أقل من عشرة يعرفها ثلاثة أيام، وروى محمد عنه إن كانت
عشرة فما فوقها يعرفها حولاً، وإن كانت أقل من عشرة يعرفها على حسب ما يرى،
وروى الحسن عن أصحابنا: إن كانت مائتي درهم فصاعداً يعرفها حولاً، وإن كانت
عشرة فصاعداً يعرفها شهراً، وإن كانت ثلاثة فصاعداً يعرفها عشرة، وإن كانت
درهماً فصاعداً يعرفها ثلاثة، وإن كانت دانقاً يعرفها يوماً، وإن كان دون
ذلك نظر ثمنه و....... ونصبها في كف فقير.
والفقيه أبو جعفر كان يقول: إذا بلغ مالاً عظيماً بأن كان كيساً فيه ألف
درهم أو مائة دينار يعرف ثلاثة أحوال، وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي
يحكي عن الشيخ الإمام أنه كان يروي عن محمد يعرف اللقيطة ثلاث سنين قل أو
كثر، كان الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي يقول: شيء من هذا ليس بتقدير
لازم، بل يبني الحكم على غالب الرأي، ويعرف القليل والكثير أن يغلب على
رأيه أن صاحبه لا يطالب بعد ذلك، وفي «المنتقى» : قدر مدة التعريف في
السنور، والطائر بيوم.
ثم على قول من قدر مدة التعريف بحول أو أكثر؛ اختلف المشايخ فيه؛ بعضهم
قالوا: يعرفها كل جمعة، وبعضهم قالوا: كل شهر، وبعضهم قالوا: كل ستة أشهر،
وهذا كله إذا كانت اللقطة شيئاً يبقى، وأما إذا كانت شيئاً لا يبقى إلى أن
ينتهي إلى وقت يخشى عليها الفساد، ثم بعدما مضى مدة التعريف لو لم يظهر لها
طالب يدفعها إلى الإمام، هكذا ذكر في «النوازل» ، ولم يذكر في «المبسوط» أن
الملتقط يدفعها إلى الإمام، قال في «المنتقى» : قال أبو يوسف والحسن: له أن
يأمر غيره ويعطيها حتى يعرفها عنه إذا أعجز عن التعريف بنفسه، وإن مات في
يده فلا ضمان على أحد في ذلك، ثم إذا دفعها إلى الإمام كان الإمام بالخيار،
إن شاء قبل منه، وإن شاء لم يقبل، فإن قبل فهو بالخيار؛ إن شاء عجل تصدقها
على الفقراء، وإن شاء أقرضها من رجل موثوق مليء، وإن شاء دفعها مضاربة،
والحاصل أن الإمام نصب ناظم الفعل ما رآه أصلح في حق صاحب اللقطة.
وإذا ردها على الملتقط فالملتقط بالخيار إن شاء أمسكها وأدام الحفظ فيها
حتى
(5/437)
يظهر له طالب، وإن شاء تصدق بها على أن
يكون الثواب لصاحبها، وإن شاء باعها، وإن لم يكن دراهم أو دنانير، وأمسك
ثمنها، فإن تصدق وحضر صاحبها فله الخيار؛ إن شاء بعد التصدق والثواب له،
وإجازته الصدقة في الانتهاء بمنزلة الإذن في الابتداء، وإن شاء لم يجز
الصدقة، وعند (108ب2) عدم الإجازة إن كانت قائمة في يد الفقير أخذها منه،
وإن كانت هالكة كان له الخيار؛ إن شاء ضمن الفقير، وإن شاء ضمن الملتقط،
فإن قيل: كيف يضمن الملتقط وقد تصدق بإذن الشرع؟ قلنا: الشرع ما ألزمه
التصدق، إنما أذن له في ذلك، ومثل هذا الإذن يسقط الإثم ما لا يسقط عصمةً
يثبت حقاً للعبد كالإذن في الرمي إلى الصيد، حتى حكي عن القاضي الإمام أبي
جعفر يقول: ما ذكر في «الكتاب» محمول على ما إذا تصدق بغير أمر القاضي،
فأما إذا تصدق بأمر القاضي فليس للمالك أن يضمن الملتقط.
وإن كان الملتقط محتاجاً له فله أن يصرف اللقطة إلى نفسه بعد التعريف؛ لأن
الصرف إلى فقير آخر والصرف إلى نفسه سواء، وإن كان غنياً فليس له أن يصرفها
إلى نفسه، وإن باع القاضي اللقطة أو باع الملتقط بأمر القاضي، ثم حضر
صاحبها وهي قائمة في يدي المشتري كان لصاحبها الخيار؛ إن شاء أجاز البيع
وأخذ الثمن، وإن شاء أبطل البيع وأخذ عين ماله؛ لأن هذا بيع صدر لا عن
ولاية، فيتوقف على إجازة المالك، وإن كانت قد هلكت، فالمالك بالخيار؛ إن
شاء ضمن البائع، وعند ذلك هذا البيع من جهة البائع في ظاهر الرواية، وبه
أخذ المشايخ، وفي رواية أخرى يبطل البيع، وبه أخذ بعض المشايخ.
وفي الوديعة: إذا باعها المودع، وسلمها إلى المشتري فهلكت في يد المشتري،
ثم إن المالك ضمن البائع لم ينفذ البيع باتفاق الروايات، هكذا ذكر شيخ
الإسلام في شرحه، وذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» : أن بيع المودع ينفذ
من جهته كبيع الملتقط، وأشار إلى المعنى الجامع فقال: الملتقط حين دفعها
ليبيعها بغير إذن القاضي صار ضامناً لها فيستند ملكه إلى تلك الحالة فينفذ
بيعه، وإن شاء ضمن المشتري قيمتها، ورجع بالثمن على البائع، وجعل استرداد
القيمة من يده بمنزلة استرداد العين من يده، في وديعة «فتاوى أهل سمرقند» :
غريب مات في دار رجل، وليس له وارث معروف، وخلف من المال ما يساوى في
دراهم، وصاحب الدار فقير، فأراد أن يتصدق بها على نفسه، فله ذلك؛ لأنه في
معنى اللقطة.
الفصل الثالث فيما يضمن الملتقط، وفيما لا يضمن
إذا هلكت اللقطة في يد الملتقط
فهذا على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يأخذها ليردها على المالك، ويشهد عند الأخذ شاهدين أنه إنما
أخذها ليردها على المالك، وفي هذا الوجه لا ضمان؛ لأن أخذها ليردها على
المالك مندوب
(5/438)
إليه شرعاً، فلا يصلح سبباً للضمان.
الوجه الثاني: إذا أخذها لنفسه، وأقر بذلك، وفي هذا الوجه هو ضامن؛ لأنه
منهي عن الأخذ لنفسه، فيصير غاصباً ضامناً.
الوجه الثالث: إذا ادعا أنه أخذها ليردها على المالك إلا أنه لم يشهد على
ذلك، ولكن صدقه أنه أخذها ليردها على المالك وضمنها لا ضمان، وإن كذبه
المالك في ذلك، وادعى أنه أخذها لنفسه فعند أبي يوسف القول قول الملتقط مع
يمينه؛ لأن الظاهر شاهد له؛ لأن الظاهر مباشرة ما هو حلال، والحلال من
الأخذ ههنا الأخذ للرد على المالك، وعند أبي حنيفة ومحمد القول قول صاحب
اللقطة؛ لأن الأصل في عمل الحر أن يكون لنفسه ما لم يوجد دليل يدل على
العمل للغير، وذلك الدليل ههنا الإشهاد، فإذا ترك الإشهاد لم يوجد دليل
العمل لغيره، فعمل به يتضمنه الأصل.
وإن أشهد أنه التقط لقطة أو ضالة، أو قال: عندي لقطة فمن سمعتموه يطلب لقطة
فدلوه عليَّ، فلما جاء صاحبها قال: قد هلكت فهو مصدق، ولا ضمان عليه؛ لأنه
تبين بصدر الكلام أنه أخذه للرد، وأنه أمين فيها، وقول الأمين في دعوى
الهلاك مقبول، ولا يضره أن يسمي جنسها ولا صنعتها في التعريف؛ لأن ترك
تسمية ذلك لتحقيق الحفظ على المالك حتى لا يسمع ذلك إنسان فيدعيها لنفسه،
ويرفع الأمر إلى قاضي يرى الاستحلاف لمصيب العامة، وفيه خلاف ظاهر، على ما
يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
ولو وجد لقيطان أو ثلاثة وقال: من سمعتموه ينبذ لقطة فدلوه عليَّ، فهذا
تعريف للكل ولا ضمان إن هلكت الكل عنده، في «فتاوى أهل سمرقند» وجد لقطة في
طريق أو مفازة، ولم يجد أحداً يشهده عليه عند الأخذ، قال: يشهد إذا ظفر بمن
يشهده عليه، فإذا فعل ذلك لا يضمن؛ لأنه ليس في وسعه أكثر من هذا، وإن وجد
من يشهده ولم يشهد حتى جاوزه ضمن؛ لأنه ترك الإشهاد مع القدرة عليه، وإذا
التقط لقطة ليعرضها ثم ردها إلى مكانها الذي وجدها فيه فلا ضمان عليه
لصاحبها، وإن هلكت قبل أن يصل إليها صاحبها أو استهلكها غيره؛ لأن الأخذ
ليردها على مالكها لا يصلح سبباً للضمان، والرد إلى مكانه لا يصلح سبباً
للضمان والرد إلى مكانه لا يصلح سبباً، فامتنع وجوب الضمان.
قال الحاكم الشهيد في «إشاراته» : إن ما ذكر في الكل محمول على ما إذا
أعادها بعدما حولها ضمن، وإليه ذهب الفقيه أبو جعفر، وروي عن محمد أنه إذا
مشى خطوتين، أو ثلاثة خطوات ثم ردها، ووضعها في الموضع الذي أصابها فيه
يبرأ من الضمان، فلا يعتبر هذا القدر من التحويل، وإن كان أخذها لنفسه ثم
ردها إلى مكانه فهو ضامن لها؛ لأنه صار ضامناً بالأخذ، والضمان متى وجب لا
تقع البراءة منه إلا بالرد على المالك، والإعادة إلى موضعه ليس برد على
المالك، وهو نظير ما لو غصب من آخر دابة، ثم ردها على مالكها فلم يجده،
وربطها على مكانها.
وفي «المنتقى» عن أبي يوسف: أنه إذا ردها إلى مكانها من غير أن يذهب بها
فلا ضمان من غير فصل، بينما إذا أخذها لنفسه أو أخذها ليعرفها، وإذا ذهب
بها؛ ثم ردها
(5/439)
إلى مكانه ضمن على كل حال، وقيل: إذا اعتمد
مع الإشهاد أنه يأخذ لنفسه فهو ضامن فيما بينه وبين الله تعالى، وإذا اعتمد
التعريف مع ترك الإشهاد فلا ضمان، وقيل: هذا التفصيل فيما إذا أخذها لنفسه،
أما إذا أخذها ليعرفها فلا ضمان من غير تفصيل كما ذكر في «الكتاب» .
الفصل الرابع في الخصومة في اللقطة، والاختلاف
فيها، والشهادة
في «المنتقى» ابن سماعة عن أبي يوسف في رجل التقط لقطة، وضاعت منه ثم وجدها
في يد رجل آخر فلا خصومة بينهما، قال: وليس الملتقط في (109أ2) هذا
كالمستودع، والفرق وهو: أن المستودع مأمور في الحفظ من جهة المالك نصاً،
ولا يتهيأ له الحفظ إلا باسترداد فكان مأموراً من جهة المالك بالاسترداد
والخصومة ولا كذلك الملتقط.
إذا وجد الرجل لقطة وهي دراهم أو دنانير فجاء رجل وادعى أنها له، وسمى
وزنها وعددها ووعاءها وأصابها، فلم يصدقه الملتقط فعلى قول مالك يجبر
الملتقط على دفعها إليه، وعلى قول علمائنا لا يجبر، بل يخير إن شاء دفعها،
وإن شاء أبى حتى يقيم البينة؛ لأن إصابة العلامة محتمل في نفسه قد يكون
جزافاً، وقد يعرف الإنسان ذلك في ملك غيره، وقد يسمع من مالكه عند طلبه،
والمحتمل لا يكون حجة للإلزام، فإن دفعها إليه أخذ منه كفيلاً نظراً منه
لنفسه، فلعله يأتي مستحقها، فيضمنها إياه، ولا يتمكن من الرجوع على هذا
الأخذ؛ لأنه يخفي شخصه فيحتاط بأخذ الكفيل.
وإن صدقه دفعها إليه، ولم يذكر محمد رحمه الله في «الأصل» أنه إذا أبى هل
يجبر على الدفع، وقد اختلف المشايخ فيه؛ بعضهم قالوا: لا يجبر، وقاسه على
ما إذا كان في يد رجل وديعة فجاء رجل، وقال: إني وكيل المودع في استرداد
الوديعة منك، فصدقه لا يجبر على الدفع إليه؛ لأنه أقر بحق القبض في ملك
الغير فكذا هذا، وبعضهم قالوا: يجبر على الدفع بخلاف مسألة الوديعة.
والفرق في مسألة الوديعة: الملك لغير الذي حضر ظاهر في الوديعة، فأما في
اللقطة ليس لغير الذي حضر ملك ظاهر، ثم إذا دفعها إليه في هذه الصورة في
آخر، وأقام بينة أنها له إن كان العين قائماً في يد القابض يقضى بالعين
للمدعي، وإن كان هالكاً كان للمدعي خياراً في التضمين، فإن ضمن القابض
فالقابض لا يرجع على الملتقط، وإن ضمن الملتقط، فالملتقط هل يرجع على
القابض؟ ذكر هذه المسألة في كتاب اللقطة في موضعين، قال في موضع: يرجع،
وقال في موضع: لا يرجع، ومن المشايخ من وفق بين الروايتين، والأصح أن في
المسألة روايتان؛ والاعتماد على رواية الرجوع.
وإذا وجد شاة أو بقرة أو بعيراً وحبسها، وأنفق عليها في مدة التعريف، ثم
جاء
(5/440)
رجل وأقام بينة أنها له لم يرجع بما أنفق،
إلا إذا كان الإنفاق بأمر القاضي، وإذا رفع الأمر إلى القاضي، فالقاضي لا
يأمره بالإنفاق ما لم يقم بينة أنه التقطها نظراً للمالك، وقدمنا نظيره قبل
هذا، فإن قال: لا بينة لي، فالقاضي يقول له: أنفق عليها إن كنت صادقاً، فإن
كان صادقاً يرجع، وإن كان كاذباً لا يرجع.
قالوا: إذا كانت اللقطة شيئاً يخاف عليها الهلاك متى لم ينفق عليها إلا أن
يقم البينة فالقاضي يقول له: أنفق عليها إن كنت صادقاً، فإن أقام بينة عند
القاضي أمره بالإنفاق يومين أو ثلاثة، بعد هذا إن كانت اللقطة شيئاً يمكن
إجارتها مؤاجرة ينفق عليها من أجرها، وإن كانت شيئاً لا يمكن إجارتها باعها
القاضي بنفسه، أو أمر الملتقط بالبيع، وأعطى الملتقط من الثمن ما أنفق
بأمره، وإن لم يبعها حتى جاء صاحبها، وأقام بينة قضى به القاضي له، وقضى
عليه بما أنفق الملتقط، وكان للملتقط أن يحبسها منه حتى يعطيه ما أنفق،
وهذا لا يشكل فيما إذا أمر بالإنفاق على أن يكون ديناً على صاحبها إذا لم
يشترط ذلك، فظاهر ما ذكر في هذا الكتاب يقتضي الرجوع، قال شيخ الإسلام: يجب
أن يكون في المسألة روايتان على نحو ما بينا في اللقيط.
في «المنتقى» إذا قال الرجل: وجدت لقطة وضاعت في يدي، وقد كنت أخذتها
لأردها على مالكها، وأشهدت بذلك،، وكان الأمر كما قال من الأخذ للرد على
المالك والإشهاد بذلك، إلا أن صاحبها يقول: ما كانت لقطة، وإنما وضعتها
بنفسي لا يرجع واحد، فإن كان في موضع ليس يقربه أحد، أو كان في طريق،
فالقول قول الملتقط إذا حلف أنها ضاعت عنده، وإن كان لا يدري ما قصتها ضمن
الملتقط، وإن قال صاحبها: أخذتها من منزلي، فقال الملتقط: أخذتها من الطريق
ضمن، وإن وجدها في دار قوم أو في منزلهم أو في نار فارغة ضمن، إذا قال
صاحبها: وضعتها لأرجع فآخذها، والأصل في ذلك كله أن أخذ مال الغير سبب
لوجوب الضمان، بعضه الأصل إلا إذا كان الأخذ على وجه الحفظ بأن يكون في
الطريق، أو يكون في مكان لا يكون يقربه أحد؛ لأنه يعوض التوى، والتلف إذا
كان بهذه الصفة، فكان الأخذ للرد على المالك، والحالة هذه من باب الحفظ،
فما لم يعلم ذلك أعمل فيه بعض الأصل.
وفي «الأصل» إذا قال المالك: أخذت مالي غصباً، وكان الملتقط يقول: كانت
لقطتة، وقد أخذتها لك، فالملتقط ضامن من غير تفصيل، وإذا كانت اللقطة في
يدي مسلم، فادعاها رجل فأقام عليه الثلاثة وأقر الملتقط بذلك أو لم يقر
ولكن قال: لا أردها عليك إلا عند القاضي فله ذلك، وإن مات في يده عند ذلك
فلا ضمان، في «المنتقى» : وإذا كانت اللقطة في يد مسلم ادعاها رجل، وأقام
على ذلك شاهدين كافرين لا تقبل هذه الشهادة، وإن كانت في يدي كافر، وباقي
المسألة بحالها، فكذلك قياساً؛ لأني أدري بعلمها بكل مسلم.
وفي الاستحسان: تقبل الشهادة؛ لأن المستحق بهذه الشهادة في الحال اليد
وإنها للكافر، وأما الكل فكما يتوهم أن تكون للمسلم يتوهم أن تكون للكافر،
فيعارض
(5/441)
الموهومان فيسقط اعتبارهما وتثبت العبرة
لليد، وإن كان في يد كافر ومسلم لم تجز شهادتهما على واحد منهما
قياساً، وفي الاستحسان جازت الشهادة على الكافر، وقضي بما في يد الكافر
لما قال في «المنتقى» بشر عن أبي يوسف رحمه الله: سارق دفع إلى رجل
متاعاً فينبغي للمدفوع إليه أن يتصدق به إذا لم يعرف صاحبه، وإن عرف
صاحبه ردَّه عليه، ولا يدفعه إلى السارق، ولا ينبغي له ذلك، ألا ترى
أنه لو وصل إلى أخذه بقي له أن يأخذه، ويرده على المالك، وهو ما جوز في
ذلك، فكيف يدفعه إلى السارق بعدما وصل إليه، والله أعلم بالصواب.
(5/442)
|