المحيط البرهاني في الفقه النعماني

الفصل السادس: فيما يجوز وما لا يجوز بيعه
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
نوع من ذلك في بيع الدين بالدين وبيع الأثمان، وبطلان العقد بسبب الافتراق قبل القبض فنقول: بيع الدين بالدين جائز إذا تفرقا عن المجلس بعد قبض البدلين حقيقة أو بعد قبض البدلين حكماً، سواء كان عقد صرف أو لم يكن، أما بعد قبض البدلين حقيقة بأن اشترى من آخر ديناراً بعشرة دراهم حتى كان صرفاً أو لم تكن الدنانير والدراهم بحضرتهما ثم نقدا في المجلس وتفرقا جاز.
فكذلك إذا اشترى فلوساً أو طعاماً بدراهم حتى لم يكن صرفاً ولم يكن بحضرتهما ثم نقدا في المجلس وتفرقا جاز، وأما بعد قبض البدلين حكماً بأن كان لرجل على آخر بعشرة دراهم وللآخر عليه دينار فاشترى كل واحد منهما ما عليه بماله على صاحبه كان العقد صرفاً أو لم يكن صرفاً بأن كان على آخر فلوساً أو طعاماً، وللآخر عليه دراهم فاشترى كل واحد منهما ما عليه بماله على صاحبه وتفرقا كان العقد جائزاً، وهذا فراق بعد قبض البدلين حكماً، وأما بعد قبض البدلين أحدهما حقيقة، والآخر حكماً بأن كان لرجل على رجل عشرة دراهم، فاشترى من عليه الدراهمُ الدراهمَ بدينار نقد الدينار وتفرقا عن المجلس فالعقد جائز، وهذا افتراق بعد قبض البدلين أحدهما حقيقة والآخر حكماً.
وكذلك إن كان لرجل على رجل حنطة فاشترى من عليه الحنطةُ بالدراهم ونقد الدراهم في المجلس جاز.

وذكر في صلح «الفتاوى» مسألة الحنطة وقال: لا يجوز البيع وإن نقد الدراهم في المجلس قالوا: وما ذكر في صلح «الفتاوى» محمول على ما إذا كانت الحنطة مسلماً فيها؛ لأن الاستبدال بالمسلم فيه قبل القبض لا يجوز، أما إذا كانت الحنطة قرضاً أو ثمن بيع جاز البيع على ما ذكرنا، وأما إذا حصل الافتراق بعد قبض أحد البدلين في بيع الدين بالدين إن حصل الافتراق بعد قبض أحد البدلين حقيقة جاز في غير الصرف.
بيانه: فيمن اشترى ديناراً بعشرة دراهم حتى كان العقد صرفاً فقبض الدينار ولم يسلم العشرة حتى تفرقا أو سلم العشرة ولم يقبض الدينار حتى تفرقا كان البيع فاسداً.
ولو اشترى فلوساً أو طعاماً بدراهم حتى لم يكن العقد صرفاً وتفرقا بعد قبض أحد البدلين حقيقة كان العقد جائزاً وأما إذا حصل الافتراق بعد قبض أحد البدلين حكماً كان

(6/320)


العقد فاسداً سواء كان عقد صرف أو غير عقد صرف.
بيانه: فيما إذا كان له على رجل دينار، فاشترى الدينار الذي عليه بعشرة دراهم حتى كان العقد صرفاً، أو تفرقاً قبل نقد العشرة كان باطلاً.

وكذلك إذا كان عليه فلوس أو طعام فاشترى ما عليه بدراهم حتى لم يكن العقد صرفاً وتفرقا قبل نقد الدراهم كان العقد باطلاً، وهذا افتراق بعد قبض أحد البدلين حكماً؛ لأن ما في ذمة أحدهما مقبوضة وهذا فصل يجب حفظه والناس عنه غافلون.
فإن العادة فيما بين الناس إن كان له على آخر حنطة أو شعير أو ما أشبه ذلك فصاحبها يأخذ ممن عليه عند غلاء الشعير حطاً بالذهب أو بالفضة ويسمون ذلك فيما بينهم كندم رابها كردن، فإنه فاسد لكونه افتراقاً عن دين بدين، وإنما جاز هذا العقد بعد قبض البدلين حقيقة أو حكماً لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فإنه سأل رسول الله عليه الصلاة والسلام وقال: إني أكري الإبل من البقيع إلى مكة بالدراهم وآخذ مكانها دنانيراً أو بالدنانير وآخذ مكانها دراهم، فقال عليه السلام: «لا بأس بأن تأخذ بسعر يومها وقد افترقتما وليس بينكما عمل» معناه إذا افترقتما ولا يبقى أحد البدلين ديناً لأحدكما في ذمة الآخر بعد ما تفرقتما، فقد جوز رسول الله عليه الصلاة والسلام بيع الدين بالدين وإن كان صرفاً إذا تفرقا وليس بينهما عمل على التفسير الذي قلنا، وإذا جاز هذا في الصرف جاز فيما ليس بصرف من الطريق الأولى وصار هذا البيع مستثنياً عن حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله عليه الصلاة والسلام «نهى عن بيع الكالئ بالكالئ» أي: الدين بالدين.
وأما إذا تفرقا بعد قبض أحد البدلين حقيقة فإن كان صرفاً، فالعقد باطل؛ لأنهما افترقا وقد بقي بينهما عمل فإن أحد البدلين بقي ديناً لأحدهما على صاحبه فيحتاج إلى قبضه بعد ما تفرقا عن المجلس، ورسول الله عليه الصلاة والسلام جوز بيع الدين بالدين في الصرف إذا افترقا وليس بينهما عمل لم يكن داخلاً تحت المجوز، فيكون داخلاً تحت المحرم وهو النهي عن بيع الدين بالدين.
وإن لم يكن صرفاً فالعقد جائز؛ لأن البدل المقبوض صار عيناً بالقبض فيكون هذا افتراقاً عن عين بدين وإنه لا يفسد العقد في غير الصرف وعلى هذا جميع بياعات الناس، وأما إذا تفرقا بعد قبض أحد البدلين حكماً لا يجوز سواء كان عقد صرف أو غير صرف؛ لأنهما افترقا عن دين بدين وإنه يفسد العقد صرفاً كان أو غير صرف.

وإذا اشترى دراهم بيضاء فأعطاه البائع مكانه سوداء ورضي به المشتري جاز؛ لأن السود دراهم ولكن مع العيب فكان الجنس واحداً، فإذا رضي المشتري بسقوط حقه عن

(6/321)


الجودة كان مستوفياً لا مستبدلاً فيجوز، والمراد من السود المضروب من النقرة السوداء لا الدراهم التجارية حتى لو قبض مكان الدراهم البيض درهماً تجارياً لا يجوز؛ لأن الجنس مختلف فيكون هذا استبدالاً فلا يجوز.

وإذا أعطى البيض مكان السود ذكر شمس الأئمة السرخسي والشيخ أبو الحسن القدوري رحمهما الله: أنه يجبر على القبول وإليه أشار عصام في «مختصره» .
وإذا باع فلساً بفلسين حالة الرواج، فهذه المسألة على ثلاثة أوجه: (46أ3)
أحدها: أن يبيع فلساً بغير عينه بفلسين بغير أعيانهما، وفي هذا الوجه البيع فاسد لوجهين:
أحدهما: أن هذا بيع الدين بالدين.
والثاني: أن الجنس بانفراده محرِّم للنساء عندنا على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.
الوجه الثاني: إذا باع فلساً بعينه بفلسين بأعيانهما وفي هذا الوجه البيع جائز في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: لا يجوز.
وجه قوله: أن الفلوس أثمان حتى لا يتعين بالتعيين وبيع الأثمان واحداً باثنين لا يجوز كبيع الدراهم والدنانير واحداً باثنين، ولأبي حنيفة وأبي يوسف: أن ثمنية الفلوس إنما تثبت باصطلاح الناس، فإذا عيناه فقد أبطلا جهة الثمنية فعادت سلعة كما كانت فيجوز البيع متساوياً متفاضلاً.
فإن قيل: الثمنية تثبت باصطلاح الكل، فلا يبطل باصطلاحهما على خلاف ذلك.
قلنا: الثمنية في حقهما يثبت باصطلاح غيرهما عليهما، وإن قلنا: إن الثمنية لا تبطل إلا أن ربا النقد إنما يجري بالجنس والقدر وهو الكيل أو الوزن وههنا إن وجد الجنس لم يوجد القدر، أما الكيل فظاهر.
وأما الوزن؛ فلأن الناس تعارفوا بيع الفلوس عدداً إلا وزناً، ولهذا قلنا: إذا باع فلساً بعينه وأحدهما أثقل من الآخر وزناً إنه يجوز، ولو كان موزوناً لكان لا يجوز كما إذا باع درهماً بدرهم أثقل من الآخر وزناً وههنا لما جاز علمنا أن الوزن ساقط الاعتبار في الفلوس فلم يوجد إلا لجنس فلا يجري الربا.
قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني: وكل جواب ذكرناه في الفلوس فهو في الدراهم التجارية أعني بها العطارف من جملة الفلوس؛ لأنها صفر كالفلوس، وكذلك الجواب في الرصاص والستوقة قالوا: ويجب أن يكون في العدلي كذلك؛ لأن الصفر فيه غالب فصار بمنزلة الفلوس.
الوجه الثالث: إذا كان أحد البدلين عيناً والآخر ديناً وفي هذا الوجه إن كان ما في الذمة مؤجلاً لا يجوز البيع لما ذكرنا أن الجنس بانفراده يحرم النسّاء عندنا، وإن كان ما في الذمة غير مؤجل لا شك أن على قول محمد: لا يجوز؛ لأن عنده لو باع فلساً بعينه بفلسين بأعيانهما لا يجوز، فإذا كان أحد البدلين بغير عينه أولى.
وأما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: فقد اختلف المشايخ بعضهم قالوا: يجوز؛

(6/322)


لأن الفلوس عندهما تصير بمنزلة العرض حال مقابلته بجنسه، قالوا: لو باع فلساً بعينه بفلسين بأعيانهما يجوز كما لو باع قمقمة بقمقمين، فإذا صار الفلس المعين على مذهبهما بمنزلة العرض كان بمنزلة ما لو باع عرضاً بعينه بفلسين في الذمة.

ومنهم من قال: لا يجوز؛ لأن الفلس عندهما إنما تتعين بالتعيين حال تعيين أحد البدلين فلا (يجوز) ؛ وهذا لأن الفلوس الرائجة لها حكم العرض من وجه.
ولهذا قال في ظاهر الرواية: يجوز السلم في الفلوس، والسلم إنما يجوز في المثمنات لا في الأثمان، فمن هذا الوجه الفلوس بمنزلة العروض ولها حكم الأثمان من وجه.

ولهذا قالوا: إذا قوبلت بخلاف جنسه لا يتعين كالدراهم والدنانير حتى لو هلكت الفلوس المشار إليها لا يبطل العقد، وإذا كان للفلوس حكم العروض من وجه وحكم الأثمان وفرنا على الشبهين حظهما فلشبهها بالعروض قالا: بالتعين حال تعين البدلين إلحاقاً لها بالعروض ولشبهها بالدراهم قالا: بعدم التعين حال تعيين البدلين إلحاقاً لها بالدراهم، وإذا ألحقاها بالدراهم في هذه الحالة كان بمنزلة ما لو باع درهماً بعينه بدرهمين بغير أعيانها.
ثم إذا باع فلساً بعينه بفلسين بأعيانهما حتى جاز العقد عند أبي حنيفة، هل يشترط التقابض في المجلس؟ ذكر محمد رحمه الله هذه المسألة في صرف «الأصل» ولم يشترط التقابض فهذا دليل على أن التقابض ليس بشرط، وذكر في «الجامع الصغير» : ما يدل على أنه شرط.
فإنه قال: إذا باع فلساً بفلسين يجوز يداً بيد إذا كان بعينه من مشايخنا من لم يصحح ما ذكر في «الجامع الصغير» : لأن التقابض مع العينية إنما يشترط في الصرف وهذا ليس بصرف، ومن مشايخنا من صحح ما ذكر في «الجامع الصغير» لأن الفلوس لها حكم العروض من وجه وحكم الأثمان من وجه، فمن حيث إن لها حكم العروض جوزنا بيع واحد باثنين إذا كان عينين كما لو باع سيفاً بسيفين، ومن حيث إن لها حكم الدرهم شرطه التقابض في المجلس صح العينية عملاً بالدليلين بقدر الإمكان.
وذكر القدوري في «شرحه» : إذا باع الفلس بالفلس وقبض أحدهما ما اشترى ولم يقبض الآخر حتى تفرقا، أو تقابضا ثم استحق ما في يد أحدهما بعد الافتراق، فالعقد صحيح على حاله.
وكذا لو باع الفلوس بالدراهم أو بالدنانير فقد اكتفى بقبض أحد البدلين لصحة هذا العقد ولبقائة على الصحة فهذا دليل أن التقابض ليس بشرط.
وروى هشام عن محمد: فيمن اشترى فلوساً بدراهم وقبض الفلوس ولم يقبض الدراهم حتى افترقا فهو جائز قال: ألا ترى أني أسلم الدراهم في الفلوس فقد اكتفى بقبض الفلس لصحة العقد.
k
ووجه ذلك من أحدهما: أن الفلوس في الأصل عرض وليست بأثمان وإنما يثبت لها وصف الثمنية بعارض، فيجب إثبات هذا الوصف على وجه لا ينعدم المعنى

(6/323)


الأصلي، فاكتفينا بقبض أحد البدلين كما في العروض إذ به يخرج من أن يكون ديناً بدين، فأما قبض البدلين إنما يعين فيما هو أثمان بقبضه الأصل، وهذا ليس بهذه الصفة.

والثاني: أن قضية القياس أن لا يجب قبض البدلين في المجلس، وإن كان العقد صرفاً ولكن عرفنا اشتراط التقابض في عقد الصرف بالنص، والنص الوارد في بيع الصرف لا يكون وارداً في بيع الفلس؛ لأن ثمنية الفلس عارضة على شرف الزوال بالكساد فرد بيع الفلس إلى ما يقضتيه القياس.
ذكر القدوري في «شرحه» أيضاً: قال محمد رحمه الله: فإذا اشترى فلوساً على أن كل واحد منهما بالخيار وتقابضا وتفرقا عن ذلك فالبيع فاسد؛ لأن الخيار يمنع الملك وصحة القبض، فكأنهما افترقا من غير قبض، ولو كان أحدهما بالخيار فالبيع جائز. ويجب أن يكون هذا قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله على أصلهما: خيار المشتري لا يمنع ثبوت الملك له فيما اشترى، فلا يمنع صحة القبض فينعدم القبض المستحق من أحد الجانبين.
والقبض إنما يعتبر فيهما لا في أحدهما، أما على قول أبي حنيفة يؤمر من الجانبين، فإنه كما لا يملك على المشروط له الخيار البدل الذي من جانبه عند أبي حنيفة لا يملك هو البدل الذي من جانب صاحبه، فاشتراط الخيار لأحدهما يمنع صحة القبض وتمامه فيهما جميعاً.
قالوا: وينبغي على قول أبي حنيفة وأبي يوسف إذا باع فلساً بعينه بفلسين بأعيانهما بشرط الخيار أن يجوز البيع؛ لأنهما بمنزلة العروض في هذه الحالة عندهما فلم يكن القبض شرطاً.
ولو اشترى بفلوس كاسدة في موضع لا ينفق فإن كانت بأعيانهما جاز، وإن لم تكن معينة لا يجوز؛ لأنها بعد الكساد تعود عرضاً، وشرط صحة العقد في العروض التعيين.

قال محمد رحمه الله في «الجامع» : وإذا استقرض الرجل كراً من طعام وقبضه ثم إن المستقرض اشترى من المقرض الكر الذي له عليه بمائة درهم (صح شراؤه) ؛ لأن المستقرض صار ملكاً للمستقرض بنفس القبض ووجب عليه للمقرض كراً مثله، فيصح شراؤه بخلاف ما إذا اشترى غير من عليه الكر حيث لا يجوز؛ لأن هناك الحاجة إلى التسليم ولا يمكنه للتسليم إلا بالقبض، فكان عاجزاً عن التسليم في الحال (46ب3) وههنا لا حاجة إلى التسليم؛ لأن المبيع في يد المشتري؛ لأنه في ذمته، وإذا جاز الشراء إن نقد المائة في المجلس فالشراء ماض على الصحة، وإن افترقا من غير قبض بطل الشراء، وهذا بخلاف ما لو وجب للمستقرض على المقرض كر حنطة، ثم إن كل واحد منهما اشترى ما عليه لصاحبه عليه وتفرقا حيث يجوز؛ لأن في المسألة الأولى الافتراق حصل بعد قبض أحد البدلين حكماً، وفي المسالة الثانية حصل بعد قبض البدلين حكماً.
قالوا: وهذا الجواب الذي ذكر في «الكتاب» قول أبي حنيفة ومحمد؛ لأن عندهما المستقرض يصير ملكاً للمستقرض بنفس القبض، فيجب عليه مثله ديناً في الذمة فيصح الشراء، أما على قول أبي يوسف: المستقرض لا يصير ملكاً للمستقرض إلا بالاستهلاك

(6/324)


بعد القبض فلم يجب في ذمة المستقرض للحال شيء، فلا يصح الشراء، فإذا استهلكه ثم اشتراه الآن يصح الشراء بلا خلاف.

ثم إذا نقد المشتري وهو المستقرض المائة في المجلس ثم وجد بالكر القرض عيباً لم يرده؛ لأنه لا وجه إلى رده حكم الشراء لم يتناوله ولا وجه إلى رده بحكم القرض؛ لأن القرض ينزع لا يوجب السلامة عن العيب لكن يلزم المستقرض مثل المقبوض ولكن يرجع بنقصان العيب من الثمن؛ لأن المبيع كر وجب في الذمة بحكم القرض والمقبوض بحكم القرض معيب فكذا ما وجب بدلاً عنه، والعقد يقتضي السلامة عن العيب، وقد ظهر العيب بالمبيع وتعذر رده؛ لأنه كان ديناً في ذمة المستقرض وقد سقط عن ذمته كما اشتراه وهلك فهو بمنزلة ما لو اشترى عبداً وهلك في يد المشتري ثم اطلع على عيب به.
ولو كان القرض المقبوض مستهلكاً كان الجواب كما قلنا إلا أن الفصل الأول يكون مختلفاً، والفصل الثاني يكون مجمعاً، وكذلك الجواب في كل مكيل وموزون غير الدراهم والدنانير والفلوس إذا كان قرضاً.
ولو كان المستقرض اشترى الكر الذي عليه بالقرض بكر مثله جاز، إذا كان ديناً لا يجوز إلا إذا قبضه في المجلس لما مر، فإن وجد المستقرض بالقرض (عيباً) لم يرده ولم يرجع بنقصان العيب بخلاف الفصل الأول.
والفرق: أن في هذا الفصل لو رجع بنقصان العيب يرجع ببعض الكر الذي دفع المستقرض فيكون هذا مبادلة كل كر من طعام بأقل من الكر وذلك ربا، أما في الفصل الأول لو رجع بنقصان العيب يرجع بنقصان الدراهم التي دفع المستقرض عوضاً من الكر المستقرض فيكون هذا مبادلة كر بأقل من مائة درهم وذلك جائز.
وإذا اشترى المستقرض الكر المستقرض بعينه وهو مقبوض لم يصح شراؤه عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأنه صار ملك المستقرض بنفس القبض، فإنما اشترى ملك نفسه وعلى قول أبي يوسف يصح؛ لأنه صار ملك المقرض.
فإن قيل: لم لا يقدم فسخ القرض تصحيحاً لما قصدا كما تقدم فسخ البيع بألف على البيع بألفين تصحيحاً لما قصدا.

قلنا: فسخ القرض لا يتم إلا برد المقرض، وذلك فعل والأفعال لا يمكن إثباتها بطريق الاقتضاء، فلا يثبت فسخ القرض إلا إذا سقط اعتبار الرد الفسخ مقتضى الإقدام على البيع ولا وجه إلى ذلك؛ لأن ما صار شرطاً للشيء لا يسقط اعتباره، وإن كان ثبوت ذلك الشيء بطريق الاقتضاء.
ونظير هذا ما قال أبو حنيفة فيمن قال لغيره: أعتق عبدك عني بغير شيء لا يثبت الهبة بطريق الاقتضاء؛ لأن القبض شرط لها، وإنه فعل فلا يمكن إثباتها بطريق الاقتضاء إلا إذا سقط اعتبار القبض شرطاً للهبة ولم يسقط، وإن كان ثبوت الهبة مقتضى غيره وهو الإعتاق عن الأمر كذا ههنا.

ولو اشترى المقرض من المستقرض غير القرض صح (عند) أبي حنيفة؛ لأنه ملك المستقرض، وعلى قول أبي يوسف: لا يصح؛ لأنه بقي على ملك المقرض.

(6/325)


رجل أقرض رجلاً ألف درهم على أنها جياد فقبضها ثم اشتراها المقرض ما عليه بعشرة دنانير صح، أما على قول أبي حنيفة: فلأنه وجب على المستقرض مثل تلك الدراهم ديناً في الذمة بنفس القبض، وأما على قول أبي يوسف: فلأن العقد لا يتعلق بالدراهم المعينة بالإشارة، فلا يتعلق في الدراهم التي في الذمة بالإضافة إليها بل يتعلق بمثلها، ويصير هو بائعاً الدنانير بمثل تلك الدراهم فصار وجوب تلك الدراهم في الذمة والعدم بمنزلة، بخلاف مسألة الطعام؛ لأن العقد يتعلق بالطعام المعين بالإشارة إليه، فيتعلق بما في الذمة بالإضافة، فإذا لم يكن في ذمته شيء لا يصح الشراء.
ثم إذا صح الشراء ههنا بالاتفاق فإن لم ينقد الدنانير في المجلس وافترقا بطل العقد، وإن قبض الدنانير في المجلس فالعقد ماض على الصحة؛ لأن في الوجه الأول افترقا بعد قبض أحد البدلين حكماً.

وفي الوجه الثاني: افترقا بعد قبض البدلين أحدهما حقيقة والآخر حكماً، فإن وجد المستقرض الدراهم القرض زيوفاً أو نبهرجة لم يردها على ما ذكرنا، ولا يرجع بنقصان العيب ههنا أيضاً بخلاف مسألة شراء الكر (يرجع) عليه بالدراهم.
والفرق: أن العقد يتعلق بالكر الذي هو عين بالإشارة فيتعلق بالكر الذي في ذمة المستقرض بالاضافة، وإذا تعلق العقد بالكر الذي في ذمة المستقرض فلو رجع بحصة العيب من الدراهم كان مشترياً الكر بأقل من المائة، وإنه ليس بربا. أما العقد لا يتعلق بالدراهم التي في ذمة المستقرض بدلاً عن الدنانير وللمقرض على المستقرض ألف درهم مثل ذلك بزعمهما فالتقيا قصاصاً وصار المستقرض قاضياً ما كان للمقرض بما وجب للمستقرض في ذمة المقرض بالشراء، فلو رجع عليه بنقصان العيب يسلم له ألف درهم وشيء بمقابلة ألف درهم وهو الربا.
وإذا ادعى رجل على غيره شيئاً مما يكال أو يوزن أو يعد فاشتراه المدعى عليه من المدعي بمائة دينار ثم تصادقا أنه لم يكن للمدعي على المدعى عليه شيء فالعقد باطل تفرقا أو لم يتفرقا؛ لأن العقد يتعلق بالكر في الذمة بالإضافة، فإذا تبين أنه لم يكن في الذمة تبين أنه باع المعدوم وبيع المعدوم باطل.
ولو ادعى دراهم أو دنانير أو فلوساً فاشتراها المدعى عليه بدراهم ونقد الدراهم ثم تصادقا أنه لم يكن عليه شيء، ففي مسألة الدراهم والدنانير إن لم يتفرقا ورجع بمثل ما اشترى في المجلس يصح العقد؛ لأن العقد لم يتعلق بالمسمى في الذمة فيجعل كأنه وجد مطلقاً، فلا يبطل بتأخير القبض إلى آخر المجلس.

ولو تفرقا عن المجلس بطل العقد لافتراقهما عن المجلس قبل أخذ البدلين حقيقة في الفلوس لا يبطل العقد، وإن تفرقا عن المجلس قبل قبض ما اشترى؛ لأن في بيع الفلوس بالدراهم يكتفي بقبض أحد البدلين حقيقة؛ لأنه ليس بصرف على ما ذكرنا.

ولو اشترى الرجل من غيره شيئاً بدراهم على المشتري وهما يعلمان أنه لا شيء للبائع على المشتري لا يجوز الشراء، ويكون هذا بمنزلة الشراء بغير ثمن؛ لأنه سمى ما لا يتصور ثمناً.

(6/326)


وإذا باع درهماً كبيراً بدرهم صغير أو درهماً جيداً بدرهم صغير رديء يجوز؛ لأن لهما فيه غرضاً صحيحاً.
فأما إذا كانا مستويين في القدر والصفة فبيع أحدهما بالآخر هل يجوز وهل يصير مثله ديناً في الذمة؟ واختلف المشايخ قال بعضهم: لا يجوز، وإليه أشار محمد رحمه الله في «الكتاب» : وبه كان يفتي الحاكم الإمام أبو أحمد.
وإذا اشترى من آخر ألف درهم بمائة دينار ونقد مشتري الدراهم الدينار ولم ينقد بائع الدراهمِ الدراهمَ وقد كان لبائع الدراهم (47أ3) على مشتري الدراهم ألف درهم دين قبل عقد الصرف، فقال بائع الدراهم لمشتري الدراهم: اجعل الألف التي وجب لك علي بعقد الصرف بالألف التي لي عليك ورضي به المشتري جاز، وهذا استحسان.
والقياس: أن لا يجوز. ولقب المسألة أن المتصارفين إذا تقاصّا بدل للصرف بدين وجب قبل عقد الصرف جاز استحساناً؛ لأنهما لما قصدا وقوع المقاصة فقد حولا عقد الصرف إلى ذلك الدين، ولو أضافا إليه العقد في الابتداء بأن اشترى بالعشرة التي له ديناراً وبقبض الدينار في المجلس يجوز، فكذا إذا حولا العقد إليه في الانتهاء، وهذا لأنهما قصدا تصحيح هذه المقاصة وتحويل الصرف إلى ذلك الدين. طريق تصحيح هذه المقاصد وما يتوصل به إلى المقصود يكون مقصوداً لكل أحد.

ولهذا شرطنا التراضي منهما على المقاصة وإن كان في سائر الديون يقع المقاصة بدون التراضي؛ لأن هذا تحويل العقد إلى ذلك الدين والعقد قديم بهما، فالتصرف فيه بالتحويل لا يكون إلا بتراضيهما، وأما المقاصة بدين وجب بالشراء بعد عقد الصرف بأن اشترى رجل من رجل دراهم بدينار ونقد الدينار ولم يقبض الدراهم حتى اشترى مشتري الدراهم من بائع الدراهم ثوباً بدراهم، فقال بائع الدراهم: اجعل الدراهم التي عليك بالدراهم التي لك علي بعقد الصرف، وتراضيا عليه؛ ذكر في رواية أبي سليمان أنه يجوز، وإليه أشار في «الزيادات» . وذكر في رواية أبي حفص: أنه لا يجوز وهو الأصح.

وجه ذلك: أنهما يملكان تحويل العقد إلى ما كان يصح منهما إضافة العقد إليه في الابتداء، وذلك في الدين (الذي) سبق وجوبه على عقد الصرف لا في الدين الذي تأخر وجوبه عن عقد الصرف.
قال محمد رحمه في «الجامع» : وإذا بيعت الدراهم المغشوشة بالفضة الخالصة فهو على ثلاثة أوجه:
الأول: أن تكون الفضة فيها مغلوبة بأن كان ثلثا هذه الدراهم صفراً وثلثها فضة فبيع بعض هذه الدراهم بالفضة الخالصة وزناً بوزن، فإن كان وزن الفضة الخالصة مثل وزن هذه الدراهم المغشوشة يجوز؛ لأن قدر ما في الدراهم المخلوطة من الفضة يقابله من الفضة الخالصة مثل وزنه، والباقي من الفضة الخالصة بإزاء الصفر الذي في الدراهم، فيقع الأمن عن الربا. وإن كانت الفضة الخالصة مثل وزن ما في الدراهم المخلوطة من الفضة كان باطلاً؛ لأن الصفر لا يقابله شيء من هذه الصفرة فيكون ربا، وكذلك إن كانت

(6/327)


الفضة الخالصة أقل وزناً من الفضة التي في الدراهم لا يجوز من الطريق الأولى.

وكذلك إذا كان لا يدرى أي الفضتين أكثر الخالصة منهما أو المخلوطة أو هما سواء لا يجوز؛ لأن هذا البيع يجوز بجهة واحدة وهي أن يكون الفضة الخالصة أكثر، ولا يجوز من وجهين وهو أن تكون الفضة المخلوطة أكثر أو كانا سواء، فكان ما يوجب الفساد غلب فيرجح جانب الفساد.
الوجه الثاني: أن تكون الفضة في الدراهم المغشوشة غالبة بأن كان ثلثاها (فضة) وثلثها صفراء فبيعت الفضة الخالصة لم يجز إلا سواء بسواء؛ لأن الصفر إذا كان أقل كان مغلوباً مستهلكاً فلم يعتبر وصار تحت الفضة فاعتبر بيع الزيوف بالجياد، وقد جاءت السنة في هذا أن جيدها ورديئها سواء، فلم يعتبر الصفر حال كونه مغلوباً بل أهدره.
وفرق بين الصفرة والفضة حيث اعتبر الفضة وإن كانت مغلوبة، ولم يجعلها هدراً.
والفرق بينهما: هو أن الفضة وإن كان أقل فهي قائمة للحال حقيقة، فإنها ترى وتشاهد، فإن اللون لون الفضة ومتى أذيبت تخلص الفضة وتخرج بيضاً خالصة ولا تحترق وإنما يحترق الصفر، وما أمكن تحصيله لا يكون مستهلكاً، فكانت الفضة قائمة باعتبار الحال والمآل، هذا من جهة الحقيقة، وأما من جهة العرف فلأن الفضة لا يجعل في الصفر ليصير خلطاً للصفر بل لترويج الصفر بالفضة ولهذا سموه دراهم، ولهذا جعلوا الفضة ظاهراً والصفر باطناً، فكانت الفضة معتبرة وإن كان أقل من الصفر، فأما الصفر إذا كان أقل، فإنه مستهلك باعتبار الحال؛ لأنه لا يشاهد في الدراهم وكذا باعتبار المآل فإن الصفر يحترق عند التمييز؛ لأنه أضعف جوهراً من الفضة فكان أشد احتراقاً على ما يقوله أهل هذه الصنعة وهم السباكون، فلم يكن به عبرة هذا من جهة الحقيقة، وكذا من جهة العرف، فإن الصفر إنما يحصل في الفضة ليكون خلطاً للفضة ورداءة لها عن الجودة إلى الرداءة، فصار بمنزلة جيد الفضة فسقط اعتباره وصار هذا البيع بمنزلة بيع فضة جيدة بفضة رديئة فيعتبر فيه المساواة على ما مر.

وأما الوجه الثالث: وهو ما إذا كانا على السواء بأن كانت الدراهم المخلوطة نصفها فضة ونصفها صفر، فبيعت بالفضة الخالصة.
قال في «الكتاب» : هذا على وجهين: إما إن كانت الفضة التي في الدراهم غالبة على الصفر أو لم تكن فإن كانت الفضة هي الغالبة، فهذا والوجه الثاني من الباب سواء لا يجوز بيعها بالفضة الخالصة إلا وزناً بوزن، وإن لم تكن الفضة هي الغالبة بل كانا على السواء فهو بمنزلة الأول من الباب فيكون على التفصيل الذي مر.
فإن قيل: كيف يستقيم هذا التفصيل؟ إن الفضة التي في الدراهم إما أن تكون أغلب من الصفر التي فيها أو على السواء، وقد وضع المسألة فيما إذا تساويا.
قلنا: معنى هذا الكلام ما حكي عن العلماء من الصيارفة أن الصفر والفضة إذا دخلا في النار، فالصفر أشدهما احتراقاً وأسرعهما ذهاباً فيجوز أن يكون النصف من هذا والنصف من ذاك حال حملهما إلى النار للذوب وبعدما حملا إلى النار وأذيبا واختلطا

(6/328)


يحترق شيء من الصفر قبل أن يذوب شيء من الفضة، فتصير الفضة في النار غالبة على الصفر، فإنما أراد بقوله النصف من هذا والنصف من ذاك حال حملهما إلى النار.
وما فصل من الجواب فقال: إذا كانت الفضة غالبة أو كانا على السواء أراد بذلك بعدما أذيبا فربما ينتقص الصفر فيصير الفضة غالبة وربما لا ينتقص فيبقيان على السواء، فإن كانت الفضة هي الغالبة كان نظير الوجه الثاني من الباب، وإن كانا نظير الوجه الأول من الباب فيكون على التفاصيل الذي مر.
ولم يذكر محمد رحمه الله في هذه المسألة ما إذا كان الصفر غالباً على الفضة، وإنما لم يذكر؛ لأنه وضع هذه المسألة فيما إذا كانت الفضة والصفر سواء حال حملهما إلى النار، ويعتبر الغلبة بعد الذوب والاختلاط وعليه الصفر بعد الذوب إذا كانا سواء مثل ذلك لا يكون بحال؛ لأن الصفر أكثر احتراقاً من الفضة على ما مر.

فإنما لم يذكر هذا الوجه في هذه المسألة، لهذا قال في «الجامع» أيضاً: وإذا كانت الدراهم ثلثاها صفراً وثلثها فضة فاشترى بها رجل متاعاً وزناً جاز على كل حال ولا تتعين تلك الدراهم، وإن اشترى بدراهم مسماة من هذه الدراهم يعتبر عينها عدداً وهي بينهم وزناً فلا خير في ذلك؛ لأن قوله: اشتريت بكذا درهماً انصرف إلى الوزن؛ لأنهم متى تعاملوا الشراء بها وزناً لا عدداً تقررت الفضة الأصلية للدراهم وهي الوزن وصارت العبرة للوزن، والثمن إذا كان موزوناً فإنما يصير معلوماً بأحد أمرين إما بذكر الوزن، وإما بالإشارة إليها ولم يوجد شيء من ذلك (47ب3) فكان الثمن مجهولاً وهذا جهالة يوقعها في المنازعة؛ لأن فيها الخفاف والثقل معتبر عند الناس متى تعاملوا الشراء بها وزناً، فلهذا لم يجز.

وإن اشتراها بعينها عدداً فلا باس وإن كان تعامل الناس المبايعة بها وزناً؛ لأن جهالة الوزن في المشار إليه لا يمنع جواز البيع فيصح، ويصير معتبراً لبيان النقد والمقدار، فيصير كأنه قال: اشتريت بمثل وزن هذه الدارهم، فبعد ذلك إن أدى من غيرها يحتاج إلى وزن هذه الدارهم المشار إليها ليمكنه معرفة قدرها بالوزن، فيتمكن من أداء غيرها بمثل وزن هذه الدارهم، وإن أدى عينها صح من غير وزن كما في الدراهم الخالصة.
ولو عين هذه الدراهم وسماها وقال: اشتريت منك هذا المتاع بهذه الدراهم وهي كذا وكذا درهماً، أراد به تسمية الوزن وكانت تباع فيما بين الناس وزناً وقع ذلك على الوزن؛ لأن تقدير كلامه اشتريت منك هذا العرض بهذه الدارهم على أنها ألف أو على أنها مائة، ولو قال هكذا وجب على المشتري أن يوفيها وزن الذي يكون في بلادهم كذا ههنا.

هذا إذا كان بينهم وزناً، وإن كان بينهم عدداً، فاشترى بها يعتبر عينها عدداً جاز، وإن كان فيها الخفاف والثقال؛ لأن الناس تعاملوا الشراء بها عدداً لا وزناً، فالجهالة من حيث الثقل والخفة لا يوقعها في المنازعة فلا يمنع الجواز.

(6/329)


وإن كانت الدراهم ثلثاها فضة وثلثها صفراً فهي بمنزلة الدراهم الزيوف والنبهرجة إن اشترى بها إن لم يكن مشاراً إليها لا يجوز الشراء إلا وزناً كما لو كان الكل فضة زيفاً، ولهذا لم يجز استقراضها إلا وزناً، وإن كان مشاراً إليها يجوز الشراء بها من غير وزن كما في الدراهم الزائفة، وإن كانت الدراهم نصفها صفراً ونصفها فضة، فالجواب فيما إذا كانت الدراهم ثلثاها صفراً وثلثها فضة سواء عند الاستواء لا تصير الفضة تبعاً للصفر، فلا يجوز الشراء في حق الفضة إلا بطريق الوزن، فكذا في حق الصفر.
ولو اشترى رجل من آخر ثوباً بدراهم بعينها من التي ثلثاها صفر وهي عندهم وزناً أو عدداً فلم يتفرقا حتى ضاعت لم ينتقض البيع حتى يعطيه مثلها؛ لأنها إن كانت تباع عدداً فهي بمنزلة الفلوس الرائجة، وأيهما كان لا يتعين بالتعيين فهلاكها لا يوجب انتقاض البيع، وهذا إذا علم عددها أو وزنها حتى يتمكن المشتري من اعطاء مثلها عدداً أو وزناً كما قال محمد رحمه الله في «الكتاب» : أما إذا لم يعلم ينتقض البيع؛ لأن الثمن يصير مجهولاً فلا يتهيأ للمشتري رد مثل المشار إليه والحالة هذه.
وإن كانت الدراهم ثلثاها فضة وثلثها صفراً فهو بمنزلة الدراهم النبهرجة والزيوف لا ينتقض البيع بهلاكها ويرد مثلها وزناً إن علم وزن المشار إليه، فإن لم يعلم وزن المشار إليه ينتقض البيع، وكذلك الجواب فيما إذا كان نصفها فضة ونصفها صفراً؛ لأنه إذا كان هكذا فهو بمنزلة فضة ضم إليها فلس رائج فلا يتعين أيضاً، وإن كانت الدراهم ثلثاها صفر بيعت وزناً كالسلع يجب أن تتعين بالتعيين، فيبطل البيع بهلاكها قبل التسليم، كذا قاله مشايخنا رحمهم اللَّه.

وإذا كانت الدراهم صنوفاً مختلفة منها ما ثلثها فضة، وثلثها صفر، ومنها ما نصفها صفر فلا بأس ببيع إحدى هذه الصنوف بالصنف الآخر متفاضلاً يداً بيد ولا خير في ذلك نسيئة يريد به أنه لا بأس ببيع ما كان الصفر فيه غالباً بما كان الصفر فيه مغلوباً وببيع ما كان الصفر فيه مغلوباً بما كان الصفر والفضة فيه على السواء، وعلى العكس يداً بيد وإن كان متفاضلاً؛ لأنه تصرف فضة هذا إلى صفر ذلك وصفر ذلك إلى فضة هذا، وجعل بمنزلة ما لو باع صفراً وفضة بصفر وفضة فإنه يجوز كيف ما كان، ولكن بعد أن كان يكون يداً بيد، وأما لا خير فيه نسيئة؛ لأن الوزن يجمعهما وهما ثمنان فيحرم النَّساء.
g
فأما إذا باع جنساً منها بذلك الجنس متفاضلاً ففيما إذا كانت الفضة غالبة لا يجوز؛ لأن المغلوب ساقط الاعتبار، فكان الكل فضة فلا يجوز إلا مثلاً بمثل، وفيما إذا كان الصفر غالباً أو كانا على السواء يجوز متساوياً ومتفاضلاً؛ لأن الصفر معتبر والفضة كذلك، فأمكن صرف الجنس إلى خلاف الجنس، ويشترط أن يكون يداً بيد باعتبار صورة الفضة.
وعلى قياس هذه المسألة قالوا: إذا باع من العدليات في زماننا واحداً باثنين يجوز بعد أن يكون يداً بيد هذه الجملة من «الجامع الكبير» وفي «نوادر ابن سماعة» سئل أبو يوسف عن بيع درهم بخاري بدرهمين وقد يكون في بعض البخاري من النحاس دانقين

(6/330)


ونصف وفي بعضها دانقين قال: لا يجوز من قبل أن الفضة غالب فلا يجوز إلا مثلاً بمثل وزناً (بوزن) قال: ولو كان النحاس غالباً لا يجوز أيضاً إلا مثلاً بمثل، وفي زمن العطارف ببخارى أكثر المشايخ كانوا يفتون بجواز بيع عطريفة بعطريفتين يداً بيد وكانوا يقولون: في كل عطريفة سدس فضة فإن بيع منها الثنتان أو ثلثه أو أربعه أو خمسه بدرهم فضة خالصة يجوز، ويجعل من الفضة الخالصة بمثل الفضة التي في العطارف والفضل بإزاء النحاس.

وسئل أبو حنيفة عن الدراهم البخارية إذا كان الغالب فيها النحاس فقال: هي بمنزلة الفلوس، وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله لا يفتي بجواز بيع العطارف واحداً باثنين، وكان يقول: تقررت العطارف ثمناً في بلادنا بحيث لا تتبدل ولا تتغير فالتحقت بالدراهم الجياد.
وروى بشر عن أبي يوسف أنه قال: إذا كان النحاس هو الغالب على الفضة في الدراهم وكل واحد منهما يتخلص على حدة إن خلص لم يجز أن يشتريها إلا بأكثر من الفضة التي فيها، وإن كان يحترق الفضة ويبقى النحاس فهو نحاس كله لا بأس بأن يشتريها بأقل من الفضة التي فيها، وهي بمنزلة الفلوس لا تحتسب بالفضة التي تحترق فلا يبقى. وإن كانت الفضة تبقى والصفر تحترق بل تحتسب بالصفر وعومل به كما يعامل بالفضة، ثم قال: كل شيء من ذلك يحترق فيذهب ويذوب لم يحتسب به.

وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل اشترى من آخر ديناراً بعشرين درهماً وقبض الدينار ولم يدفع الدراهم حتى وهب الدينار لبائعه ثم فارقه قبل أن يدفع إليه الدراهم قال: الهبة في الدينار جائزة ولبائع الدينار على مشتري الدينار دينار مثله؛ لأن بالافتراق قبل قبض الدراهم بطل عقد الصرف، فوجب على المشتري رد ما قبض من الدينار وقد عجز عن رد عينه، فيلزمه فلم يحكم بانتقاض الهبة ببطلان عقد الصرف.
وروى بشر عن أبي يوسف: أن البيع باطل والهبة باطلة؛ لأنها بناء على البيع وقد بطل البيع بالافتراق ولا شيء على المشتري لبائع الدينار؛ لأن بانتقاض الهبة رجعت الهبة إلى بائعها بحكم قديم ملكه فلا شيء له غير ذلك.

وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل له على رجل كر حنطة فباعه إياه بعشرة دراهم على أن مشترى الكر فيه بالخيار إلى أجل مسمى وقبض الدراهم قال: هذا فاسد؛ لأن مشتري الكر لم يملك الدراهم حين شرط الخيار لنفسه في الكر. فهذا دين بدين؛ لأنه اشترى الكر وهو دين بعشرة دراهم وهو دين حين لم يملكها من بائع الكر واللَّه أعلم.

(48أ3) نوع آخر
في بيع الأشجار وفي بيع الثمار والكرم والأوراق والمبطخة وفي بيع الزرع والرطبة والحشيش: ذكر في «فتاوي أبي الليث» : رحمه الله فيمن اشترى أشجاراً ليقطعها من وجه الأرض، فلم يفعل حتى أتى على ذلك مدة وجاء أوان الصيف فأراد المشتري أن يقطعها، فهذا على وجهين:

(6/331)


الأول: أن لا يكون في القطع ضرر بين بالأرض وأصول الأشجار، وفي هذا الوجه له أن يقطعها؛ لأنه يتصرف في ملكه.
الثاني: أن يكون في القطع ضرر بين بالأرض وأصول الأشجار، وفي هذا الوجه ليس له أن يقطع دفعاً للضرر عن صاحب الأرض والأشجار.
وإذا لم يكن للمشتري ولاية القطع في هذه الصورة ماذا يصنع؟ اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: يدفع صاحب الأشجار قيمة الأشجار إلى مشتريها وتصير الأشجار له، واختلفوا فيما بينهم أنه يدفع قيمتها مقطوعة أو قائمة.
عامتهم على أنه يدفع قيمتها قائمة؛ لأنه يتملكها قائمة وهو الصحيح، وبعضهم قالوا: ينتقض البيع بينهما في الأشجار ويرد صاحب الأرض على المشتري ما دفع إليه من ثمن الأشجار؛ لأنه عجز عن التسليم معنى، وبه كان يفتي الفقيه أبو جعفر الهندواني، واختاره الصدر الشهيد في «واقعاته» : وهكذا كان يفتي في جنس هذه المسألة نحو بيع الأوراق وغير ذلك.

في «فتاوي أهل سمرقند» : طلب الرجل من آخر أن يبيع منه أشجاراً في أرضه للحطب، فاتفقا على رجال من أهل البصر لينظروا إلى أشجار بعينها أنها كم وقراً تكون من الحطب، فاشتراها بثمن معلوم، فلما قطعها كانت أكثر من خمسة وعشرين وقراً، فأراد البائع أن يمنع الزيادة ليس له ذلك؛ لأن هذا وصف الشجر فيطيب للمشتري كالزيادة في الثوب.
وفي «فتاوي أبي الليث» : رجل (عنده) مشجرة جعل على بعض الأشجار علامة، فباع المشجرة إلا الأشجار التي عليها العلامات، فقطع المشتري الأشجار ثم ادعى البائع على المشتري أنك قطعت بعض الأشجار التي عليها العلامة، وأنكر المشتري فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنه منكر.
وإن ادعى البائع أنه كسر أغصان الأشجار التي عليها العلامة، وقال المشتري: لم أتعمد ذلك ولكن لم يكن منه بد إذا قطعت أشجاري، فإن كان ذلك مما يمكن التحرز عنه فعليه ضمان النقصان؛ لأنه غير مأذون من جهة البائع في ذلك، وإن كان ذلك مما لا يمكن التحرز عنه فلا ضمان؛ لأنه مأذون من البائع في ذلك دلالة.
وفي «واقعات الناطفي» : إذا باع شجراً وعليه ثمرة قد أدرك أو لم يدرك جاز، وعلى البائع قطعه من ساعته؛ لأن المشتري يملك الشجرة فيجبر البائع على تسليمها فارغة، وكذلك لو أوصى بنخلة لرجل وعليه تمر ثم مات الموصي أجبر الورثة على قطع التمر وهو المختار من الرواية.

وفي «فتاوي أهل سمرقند» : شجرة جوز أصلها واحد ولها فرعان باع صاحبها أحد الفرعين جاز إن عين موضع القطع ولم يكن في القطع ضرر؛ لأن هذا بيع استجمع شرائطه، باع نصيباً له من الشجرة بغير إذن شريكه وبغير رضا، فإن كانت الأشجار قد بلغ أوان قطعها فالبيع جائز؛ لأن المشتري لا يتضرر بالقسمة، وإن لم يبلغ أوان قطعها لم يجز؛ لأن المشتري يتضرر بالقسمة.

(6/332)


وفي «العيون» : اشترى رجل نخلة فيها تمر وتواضعا على أن لأحدهما النخلة وللآخر الرطب، فالبيع جائز ويقسم الثمن على قيمتها؛ لأن كل واحد منهما تفرد بالبيع.
وكذا لو اشترى أرضاً فيها نخيل على أن لأحدهما الأرض وللآخر النخيل جاز، ولصاحب الشجر أن يقلعه، فإن كان في قلعه ضرر بيّن فهو بينهما؛ لأنه حينئذ بمنزلة الفص مع الخاتم، والحلية مع السيف، ويجوز شراء الشجرة بشرط القلع، وأما شراؤها بشرط القطع فقد اختلف المشايخ فيه، والصحيح أنه يجوز.
في شفعة شيخ الإسلام في شفعة الأرضين والأنهار: وأما بيع الثمار على الأشجار فهو على وجهين:
الأول: أن يبيعها قبل الطلوع أي قبل الظهور، وفي هذا الوجه لا يجوز البيع.
الوجه الثاني: أن يبيعها بعد الطلوع وإنه على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يبيعها قبل أن تصير منتفعاً بأن لم يصلح لتناول بني آدم وعلف الدواب، وفي هذا اختلاف المشايخ ذكر شمس الأئمة السرخسي، وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده: لا يجوز، وذكر الشيخ أبو الحسن القدوري والقاضي الإمام الإسبيجابي أنه يجوز، وإليه أشار محمد رحمه الله في كتاب الزكاة في باب الغرر في «الجامع» في كتاب الإجارات.
والحيلة في ذلك: حتى يجوز البيع على قول الكل أن يبيعه مع أوراقه بأن يبيع الكمثرى في أول ما يخرج من ورده مع أوراقه، فيجوز في الكمثرى تبعاً للبيع في الأوراق، ويجعل كأنه ورق كله حتى يجوز البيع.
الوجه الثاني: إذا باعه بعدما صار منتفعاً به، وتناهى عظمه، ولا شك أن في هذا الوجه يجوز البيع إذا باعه مطلقاً أو بشرط القطع.
وإن باع بشرط الترك فالقياس: أن لا يجوز، وبه أخذ أبو حنيفة وأبو يوسف، وفي الاستحسان: يجوز، وبه أخذ محمد.

وجه ما ذهب إليه محمد رحمه اللَّه: أن شرط الترك لو أوجب فساد العقد في هذه الصورة، إما أن يوجب من حيث إنه بيع شرط فيه إجارة أو عارية ولا وجه إليه؛ لأن إجارة النخل وإعارته لا تتحقق، أو من حيث إنه شرط فيه زيادة مال يحصل للمشتري من ملك البائع سوى المبيع ولاوجه إليه أيضاً؛ لأنه تناهى عظمه بخلاف ما إذا لم يتناه عظمه؛ لأن فيه اشتراط زيادة من مال البائع سوى المبيع.

فأما أبو حنيفة وأبو يوسف: ذهبا في ذلك إلى أنه شرط في هذا البيع ما لا يقتضيه العقد، ولأحد العاقدين فيه منفعة.
بيانه: أنه إن كان لا يثبت بهذا الشرط إجارة أو عارية أو زيادة مال من مال البائع سوى المبيع يحصل للبائع زيادة وطراوة وللمشتري فيه منفعة، والبيع لا يقتضي هذا، ومثل هذا الشرط يوجب فساد البيع.
الوجه الثالث: إذا باعه بعدما صار منتفعاً إلا أنه لم يتناه عظمه وفي هذا الوجه البيع

(6/333)


جائز إذا باع مطلقاً أو بشرط القطع، وإن باع بشرط الترك فالبيع فاسد؛ لأن هذا بيع شرط فيه مالا يقتضيه البيع، ولأحد العاقدين فيه منفعة.
بيانه: أن المشتري شرط لنفسه زيادة مال يحصل له سوى ما دخل تحت البيع من مال البائع، وهذا شرط لا يقتضيه العقد، ولأحد العاقدين فيه منفعة، ومثل هذا يوجب فساد البيع لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله.
ثم إذا جاز البيع إذا باع مطلقاً أو بشرط القطع: إذا ترك المشتري حتى أدرك هل يطيب له الزيادة؟ إن ترك بإذن البائع أو استأجر منه الأشجار يطيب له الزيادة؛ لأن الزيادة إنما استفادها المشتري من مال البائع بإذنه، فيطيب له ذلك.

وإذا اشترى ثمار بستان على ما هو العرف ويقال بالفارسية: برباغ وبعض الثمار قد خرج وبعضها لم يخرج بعد، هل جاز هذا البيع؟ ظاهر المذهب أنه لا يجوز، وكان شمس الأئمة الحلواني رحمه الله يفتي بجوازه في الثمار والباذنجان والبطيخ وغير ذلك، وكان يزعم عن أصحابنا رحمهم الله، وهكذا عن الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل البخاري أنه كان يفتي بجواز هذا البيع، وكان يقول: أجعل الموجود أصلاً في هذا العقد وما يحدث بعد ذلك تبعاً، ولهذا (شرط) أن يكون الخارج أكثر؛ لأن الأقل يجعل تابعاً للأكثر، أما الأكثر لا يجعل تابعاً للأقل.
وقد روي عن محمد رحمه الله في بيع الورد على (48ب3) الأشجار أنه يجوز، ومعلوم أن الورد لا يخرج جملة، ولكن يتلاحق البعض بالبعض. قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: والأصح عندي أنه لا يجوز؛ لأن المصير إلى هذا الطريق إنما يكون عند تحقيق الضرورة ههنا؛ لأنه يمكنه أن يبيع أصول هذه الأشياء مع ما فيها من الثمرة؛ وما يتولد بعد ذلك يحدث على ملك المشتري، وعلى هذا نص في «القدوري» .
وإن كان البائع لا يعجبه بيع الأشجار، فالمشتري يشتري الثمار الموجودة ببعض الثمن فيؤخر العقد في الباقي إلى وقت وجوده، أو يشتري الموجود بجميع الثمن، ويحل له البائع الانتفاع بما يحدث، فيحصل مقصودهما بهذا الطريق، فلا ضرورة إلى تجويز العقد في المعدوم.

وإذا اشترى الكرم وبعض الثمار صار منتفعاً لاشك أن هذا الشراء جائز على قول من قال بجواز شراء الثمار قبل أن يصير منتفعاً، ومن قال بأن شراء الثمار قبل أن يصير منتفعاً لا يجوز اختلفوا فيما بينهم. قال شمس الأئمة السرخسي: والأصح عندي أنه لا يجوز، وطريقه ما قلنا.

وفي «فتاوي أهل سمرقند» : إذا اشترى أنزل الكرم وبعضه ني وبعضه قد أنضج، فإن كان كل نوع بعضه ني وبعضه قد أنضج جاز، وإن كان بعض الأنواع نياً والبعض قد أنضج لا يجوز، قال: لأن المجوز العرف ولا عرف ههنا، والصحيح أنه يجوز في الوجهين جميعاً.
وإذا باع الكل فإن باع البعض وبعضها ني وبعضها قد أنضج، أو الكل ني لا

(6/334)


يجوز. وكذلك إذا كان مشتركاً بين رجلين باع أحدهما نصيبه وبعضه ني أو الكل ني لا يجوز؛ لأنه يحتاج إلى القسمة والمنتفع يقسم وغير المنتفع لا يقسم.
هذا إذا باع من أجنبي، فإن باع من شريكه أفتى ركن الإسلام السغدي أنه لا يجوز، وبعضهم قالوا: لو باع من العامل لا يجوز، ولو باع العامل من رب الكرم يجوز كما في الزرع على ما يأتي بياناً بعدُ إن شاء الله تعالى.
فأما إذا باع من الأجنبي لا يجوز ولكن لا لما قالوا: إنه يجوز ولكن لما قالوا: إنه يحتاج إلى القسمة وغير المنتفع؛ لأن بعض الثمار ينتفع قبل النضج انتفاع أعلاف الدواب بها، ومع هذا لا يجوز البيع في الكل.
ولكن الوجه في ذلك أنه يحتاج إلى القسمة ولا تتأتى القسمة إلا بالقلع وفي القلع ضرر للمشتري.
وفي «متفرقات شمس الإسلام الأوزجندي» رحمه الله: أن بيع الثمار على رؤوس الأشجار قبل أن يبدو صلاحها وبعدما بدا صلاحها يجوز وفسد بدو الصلاح بصيرورته منتفعاً.
قال: ولا يشترط النضج إلا في الكمثرى والجوز والخوخ؛ لأن هذه الأشياء غير منتفع بها من حيث الأكل قبل النضج، وهذا (ليس ب) صواب في الكمثرى؛ لأن قبل النضج يصير منتفعاً من حيث أعلاف الدواب.

وفي «صلح فتاوى أبي الليث» : إذا باع الثمار قبل أن يدرك أن كان الثمار حصرماً أو تفاحاً أو ما أشبه ذلك يجوز، وإن كان خوخاً أو كمثرى لا يجوز إلا أن يكون قد أدرك بعضها فيجوز فيما أدرك وفيما لم يدرك على تلك الشجرة إذا لم يشترط الترك، وهذا كما قال أبو يوسف: فيمن باع الفيلق وبعضها دود لم يصر فيلقاً جاز البيع في الكل، والجواب الذي ذكر غير مستقيم في الكمثرى لما مر.
ولو باع نزل الكرم والعنب كالمج إن عبر بعبارة العنب لا يجوز البيع، وإن صار عنباً لا ينقلب البيع جائزاً، وإذا لم يعبر بعبارة العنب لا يجوز البيع في الحال؛ لأنه لا ينتفع به أصلاً، وإذا باع عنباً فذلك البيع جائز.

وإذا باع الثمر على الشجر والبعض قد خرج ثم خرج الباقي، فإن حلل له البائع جاز.
ولو اختلط الحادث بالموجود، فإن كان يعرف الحادث فالعقد صحيح على حاله، ولو اختلط الحادث بالموجود، فإن كان قبل التخلية فسد البيع؛ لأنه تعذر التسليم بسبب الاختلاط فيعتبر بما لو تعذر بسبب الهلاك. وإن كان بعد التخلية لا يفسد العقد؛ لأن تمام العقد بالتسليم وقد وجد فانتهى نهايته فلا يفسد بالاختلاط وقد اختلط ملك أحدهما بالآخر، فإن كانا شريكين فيه فالقول قول المشتري في قدر ذلك؛ لأنه في يده.
وفي «القدوري» أيضاً: إذا اشترى ثمرة بدا صلاح بعضها وصلاح الباقي يتقارب وشرط الترك جاز عند محمد؛ لأن المعتاد أن الثمرة يدرك أكثرها ويتلاحق فصار كما لو

(6/335)


كان الكل مدركة فصح شرط الترك عنده، وإن كان يتأخر إدراك البعض تأخراً كثيراً فالبيع جائز فيما أدرك ولم يجز في الباقي، وهذا إنما يكون في العنب غالباً؛ لأن بلوغ الأسود منه يتقدم ويتأخر كثيراً، فيصير كالجنسين إذا بلغ أحدهما ولم يبلغ الآخر، فيجوز بيع ما قد بلغ عنده بشرط الترك دون ما لم يبلغ لما عرف من أصله.

وإذا اشترى الرجل عنب كرم على أنه ألف منٍ فلم يخرج منه إلا قدر تسعمائة، فللمشتري أن يطالب البائع بحصة مائة مَنَ من الثمن؛ لأن البيع بقدر المائة المَنَ لم يصح لمكان العدم وصح بقدر التسعمائة المَنِّ فيطالب البائع بحصة ما لم يصح فيه البيع.
قالوا: على قياس قول أبي حنيفة: ينبغي أن يفسد العقد في الباقي؛ لأن العقد فسد في البعض بمفسد مقارن للعقد وهو العدم، والأصل عنده: أن العقد متى فسد في البعض بمفسد مقارن للعقد يفسد العقد في الباقي، وكان القاضي أبو الحسين قاضي الحرمين يروي عن أبي حنيفة في جنس هذا أن العقد فاسد في الكل، وبه كان يقول شمس الأئمة الحلواني وعليه كثير من المشايخ، وكان شمس الأئمة السرخسي يقول: بأن العقد فيما وجد صحيح عند الكل؛ لأن البائع ما ضم المعدوم إلى الموجود في البيع بل باع الموجود، وظن أنه مقدار معين وتبين أنه لم يكن ذلك المقدار، ولهذا لا يصير بائعاً، وسيأتي جنس هذه المسألة بعد هذا إن شاء الله.
وفي «النوازل» : إذا قال الرجل لغيره: بعت منك عنب هذا الكرم (كل) وقر بكذا، والوقر معروف لهم، فهذا على وجهين: أما إن كان العنب من جنس واحد، وفي هذا الوجه يجوز البيع في الكل ذكر مطلقاً من غير ذكر خلاف.
قال الصدر الشهيد في «واقعاته» : يجب أن يكون المسألة على الخلاف على قول أبي حنيفة رحمه الله: يجوز في وقر واحد، وعلى قولها: يجوز في الكل بناء على مسألة الصبرة إذا قال لغيره: بعتك هذه الصبرة كل قفيز بدرهم على قول أبي حنيفة: يجوز في قفيز واحد، وعندهما: يجوز في الكل، قال رحمه الله: والفتوى على قولهما تيسيراً للأمر على الناس، وإن كان العنب أجناساً مختلفة فعلى قول أبي حنيفة ينبغي ألا يجوز أصلاً، وعلى قولهما: يجوز في الكل.

وفي «النوازل» أيضاً: وإذا باع أوراق الشجرة وقد ظهرت على الشجر بثمن معلوم وقبض الثمن ولم يأخذ المشتري الأوراق حتى ذهب وقتها، فأراد الرجوع بالثمن، فإن كانت الأوراق بأغصانها وكان موضع القطع معلوماً ليس له الرجوع؛ لأنه قادر على قبض المشترى بالقطع إلا أنه إذا كان في القطع فساد الشجر تخير البائع: إن شاء رضي بالقطع، وإن شاء نقض البيع.
قال الصدر الشهيد: وهذا هو المختار في مسألة بيع الاشجار التي تقدم ذكرها، فإن كان اشترى الأوراق بدون الأغصان كان له الرجوع بالثمن؛ لأنه لما بقي إياماً يفسد البيع؛ لأنه لا بد وأن يخرج شيء من الأوراق في هذه المسألة، فيتخلط المبيع بغير المبيع وكذلك بيع ثمار الاشجار على هذا.

(6/336)


وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا اشترى أوراق التوت (49أ3) على أن يقطعها من ساعته يجوز، وإن اشتراها على أن يأخذ شيئاً فشيئاً لا يجوز؛ لأنه يزداد فيختلط المبيع بغير المبيع، وإن اشتراها ولم يشترط شيئاً، فإن أخذها في اليوم جاز، وإن مضى يوم فسد البيع؛ لأنه يزداد ويمكن التحرز عنه.
والحيلة في ذلك أن يشتري الشجرة بأصلها، ويأخذ الأوراق ثم يبيع الشجرة من البائع.
وأما بيع المبطخة: رجل أراد بيع مبطخة على وجه يصح البيع بالاتفاق ينبغي أن يبيع الحشيش وأشجار البطيخ ببعض الثمن الذي اتفقا عليه حتى أن ما يحدث بعد ذلك يحدث على ملك المشتري، ثم يؤاجر الأرض من المشتري ببقية الثمن ليتمكن المشتري من إبقاء الحشيش والأشجار، فيحصل مقصودهما.
في «فتاوي الفضلي» : إذا باع من آخر شجرة البطيخ قبل أن يخرج الحدجة بهذه اللفظة: أين خيار زار بتوفر وختم؛ جاز لأن البيع يقع على شجرة البطيخ دون ما يخرج من الحدجة، ثم (ما) يخرج من الحدجة يخرج على ملكه.

وفي هذا الموضع أيضاً: مبطخة بين شريكين باع أحدهما نصيبه من إنسان لا يجوز (قلعه لأن) في قلعه ضرر يلحق غير البائع، والإنسان لا يجبر على عمل الضرر، وإن رضي به فينبغي أن يشتري كل المبطخة من الشريكين ثم يفسخ البيع في النصف، وسئل شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله عن بيع الغاليين قبل أن يظهر شيء قال: لا يجوز.
وأما بيع الزرع والحشيش: إذا باع الزرع وهو بقل إن باعه على أن يقطعه المشتري أو على أن يرسل دابته فيها لتأكل جاز؛ لأنه شرط ما يقتضيه العقد، وإن باعه على أن يتركه حتى يدرك لا يجوز؛ لأنه شرط ما لا يقتضيه العقد، وكذلك إذا باع رطبة وفارسيته سبست زار، فهو على التفصيل الذي ذكرنا هو المختار، وبه أخذ الفقيه أبو الليث رحمه الله.

في «فتاوي أبي الليث» : أرض بين رجلين فيها زرع لهما، باع أحدهما نصف الزرع الذي هو نصيبه من غيره بدون الأرض فهذا على وجهين: إن كان الزرع مدركاً يجوز؛ لأنه لا يتضرر بهذا البيع صاحبه؛ لأن أكثر ما فيه أن المشتري يقلع الزرع ليمكنه أخذ النصف إلا أنه لا ضرر على صاحبه في ذلك إن كان مدركاً، وإن كان غير مدرك لا يجوز إلا برضا صاحبه باع مطلقاً أو بشرط القطع، وإن باع بشرط الترك لا يجوز وإن رضي به صاحبه، أما إذا باع بشرط الترك إنما لا يجوز وإن رضي به صاحبه؛ لأن هذا بيع شرط فيه شرط فاسد، وإنه لا يوجب الفصل بين الرضا.
f

وأما إذا باع مطلقاً وبشرط القطع إنما لا يجوز إذا رضي به صاحبه؛ لأنه ضمن

(6/337)


إلحاق الضرر بصاحبه؛ لأنه لا يمكن للمشتري قلع النصف وإبقاء النصف باعتبار مساحة الأرض؛ لأن الزرع في أطراف الأرض يتفاوت قد يكون في بعضها مبلغاً ولا يكون في البعض كذلك، فتتعذر القسمة باعتبار مساحة الأرض، فيجب اعتبار القسمة باعتبار المقلوع، فإذا قلع الكل يتضرر به صاحبه إذا لم يكن مدركاً، وأحد الشريكين إذا تصرف في المحل المشترك تصرفاً يتضرر به صاحبه وإنه يقبل الرد لا يجوز تصرفه إلا برضا صاحبه، هذه الجملة من صلح شيخ الإسلام رحمه الله.
ومسألة المبطخة التي تقدم ذكرها مع تعليلها أن الإنسان لا يجبر على تحمل الضرر وإن رضي به دليل أن بيع نصف الزرع بدون الأرض لا يجوز وإن رضي به صاحبه.
ولو باع أحدهما نصف الزرع مع نصف أرضه جاز، وقام المشتري مقام البائع، ثم في الفصل الأول إذا لم يجز بيع نصف الزرع أو لم يفسخ العقد حتى أدرك الزرع انقلب العقد جائزاً؛ لأن المانع من الجواز قد زال ويعلم من هذه المسألة كثير من المسائل، فإذا كان الزرع كله لرجل باع نصفه من رجل بدون الأرض إن كان الزرع مدركاً يجوز، وإن لم يكن مدركاً لا يجوز؛ لأن هذا البيع يتضمن إلحاق الضرر بالبائع في غير ما تناوله البيع، فيكون فاسداً كبيع الجذع في السقف.
وإذا كان الزرع من الأرض مشتركاً بين رجلين باع أحدهما نصيبه من الزرع من شريكه بدون الأرض لا يجوز إذا لم يكن الزرع مدركاً؛ لأن هذا هذا بيع يضمن إلحاق الضرر بالمشتري فيما ليس بمعقود عليه؛ لأن البائع يأمر المشتري بقلع ما اشترى منه ليفرغ أرضه وعلى هذا القطن وسائر أنواع الزرع إذا كان مشتركاً بين اثنين باع أحدهما نصيبه من صاحبه بدون الأرض، وأما إذا باع نصف الزرع مع نصف الأرض من شريكه أو من أجنبي بغير رضا شريكه جاز في شفعة شيخ الإسلام.

وفي «الأجناس» : إذا باع النصف من الزرع المشترك من شريكه يجوز في ظاهر الرواية، وروى هشام عن محمد أنه لا يجوز.
وإذا كان الزرع بين رب الأرض وبين الأكار، فباع رب الأرض نصيبه من الأكار لا يجوز، ولو باع الأكار نصيبه من رب الأرض جاز؛ لأنه لا يحتاج في التسليم إلى القسمة فلا يتضرر به أحدهما.
في الباب الأول من بيوع «الواقعات» : ولو كان مدركاً جاز بيع كل واحد منهما نصيبه من صاحبه، ومن مزارعة «الجامع الأصغر» قال: يصير مزارعاً بالثلث، باع نصيبه من الزرع من رب الأرض أو غيره لا يجوز. وفي «نوادر إبراهيم بن رستم» عن محمد: رجل دفع أرضه مزارعة ثم باع الأرض بزرعه يعني بنصيبه من الزرع والزرع بقل، فأجاز المزارع فهو جائز، وإن أجاز على أن يكون نصيبه في الأرض مزارعة فهذا فاسد.
قال في «البقالي» : وإذا استحصد الزرع وقد كان سمى الزرع في البيع جاز البيع وقسم الثمن على قيمة الأرض ونصيب البائع، فأحاله إلى كتاب المزارعة.
وفي «المنتقى» : رواية مجهولة: إذا اشترى الرجل أرضاً فيها زرع للبائع والحراب لمشتري الأرض بنصيب البائع من الأرض، فإن طلب تسليم الأرض لم يجز، وإن قال:

(6/338)


أنا أسكت حتى تستحصد الأرض جاز؛ ولا يتصدق المشتري بشيء من الزرع؛ لأنه زاد في أرضه.
وفي «البقالي» : إذا كان الأرض بين رجلين فزرعها أحدهما ونبت الزرع فتراضيا على أن يعطيه الأجر مثل نصف البذر، ويكون الزرع بينهما ولا يجوز قبل أن ينبت. ولو طلب الآخر القطع قسمت الأرض ويؤمر الزارع بقلع ما في نصيب الشريك، ويغرم نقصان نصيب الشريك إن كانت الزراعة قد نقصت الزرع.
ومن اشترى أرضاً وزرعها فأشرك غيره في الأرض والزرع جاز، ولو أشركه في الزرع دون الأرض لا يجوز، ذكره محمد رحمه الله في النصاب.

وإذا اشترى أرضاً وفيها زرع والزرع بقل، فقبل أن يقبض الأرض دفعها مزارعة إلى البائع بالنصف لا يجوز؛ لأنه يصير بائعاً الزرع وهو منقول قبل القبض، وإذا باع الأرض مع نصف الزرع أشار في كتاب المزارعة في باب العذر في المزارعة أنه لا يجوز ثم بيع نصف الزرع بدون الأرض، وإنما لا يجوز في موضع كان لصاحب الزرع حق القرار بأن زرع في ملكه، أما إذا لم يكن له حق القرار بأن كان متعدياً في الزراعة كالغاصب جاز بيع نصف الزرع؛ لأنه إذا لم يكن لصاحب الزرع حق القرار كان القلع مستحقاً عليه ومستحق القلع كالمقلوع، ولو كان مقلوعاً حقيقة جاز بيع نصفه كذا ههنا. وعلى هذا إذا باع نصف (49ب3) البناء بدون الأرض إن (كان) محقاً في البناء لا يجوز، وإن كان متعدياً جاز؛ ذكر هذه الجملة شيخ الإسلام في شرح كتاب الشفعة في باب الفروض.

وإذا اشترى الفضل فهذا على وجهين:
الأول: أن يشتريه قبل أن يصير منتفعاً وفي جوازه اختلاف على نحو ما بينا في الثمار.
الثاني: إذا يشتريه بعد ما صار منتفعاً به يصلح لعلف الدواب، فإن اشتراه بشرط القطع أو أطلق الكلام فالبيع جائز، وإن اشتراه بشرط الترك فالعقد فاسد.
ثم إذا جاز بأن اشتراه بشرط القطع أو مطلقاً، فاستأجر المشتري الأرض مدة معلومة جاز، وفي الثمار لو استأجر الأشجار مدة معلومة في مثل هذه الصورة لا يجوز.
وفرق آخر بينهما: أن ههنا لو استأجر الأرض إلى وقت الإدراك يلزمه أجر المثل ولا يطيب له الفضل، ولو استأجر الأشجار إلى وقت إدراك الثمر في مثل هذه الصورة يطيب له الفضل ولا يلزمه شيء من الأجر.
والفرق: أن الإجارة في مسألة النخيل أضيف إلى غير محلها وهي الأشجار؛ لأن الحادث من الأشجار زيادة في التمر والزيادة في التمر عين وليس بمحل الإجارة، فالتصرف المضاف إلى غير محله لا جواز له ولا انعقاد، فيبقى مجرد الإذن بالترك من غير عقد ولا فساد فيه، فيطيب الفضل ولا يجب الأجر.

أما في مسألة الفضل: الإجارة أضيفت إلى محلها وهو الأرض. والحاصل من الأرض منفعة ... فأما الزيادة في الحب يحصل من الفضل؛ لأن الفضل للحب

(6/339)


كالشجر للتمر لما وجدنا ههنا أصلاً بحصول زيادة العين إليه كان الحاصل من الأرض مجرد منفعة ... فتنعقد الإجارة عليها بوصف الصحة عند بيان المدة، وبوصف الفساد عند ترك بيان المدة، فما حصل من الزيادة بسبب خبيث وهو العقد الفاسد فيجب التصدق مع أجر المثل.
وإذا باع جزة من الكرات بعدما غلا يجوز، وإن باع كذا كذا جزة لا يجوز؛ لأن البيع إنما ينعقد على ما هو موجود، وقد غلا وهي الجزة الأولى، أما الجزة الثانية والثالثة معدومة لم يثبت بعد فلا يجوز البيع، وكذلك هذا في سائر البقول إذا باع منه جزة بعدما غلا يجوز، وإن باع كذا كذا جزة لا يجوز.
وكذلك في الفضل إذا باعه بعدما غلا ليفضل في الحال يجوز البيع، وكذلك هذا في الأشجار إذا باعها وهي نابتة ليقطع أو ليقلع في الحال فهو جائز، وأما قوائم الخلاف وسعف النخيل فقد اختلف المشايخ في جواز بيعها، ونص الكرخي في «كتابه» على الجواز ورواه عن أصحابنا.
ولو باع حشيشاً في أرضه إن كان صاحب الأرض هو الذي أنبت بأن سقاها لأجل الحشيش، فنبت بتكلفه جاز؛ لأنه ملكه ألا ترى أنه ليس لأحد أن يأخذه بغير إذنه، وإن نبت بنفسه لا يجوز؛ لأنه ليس بمملوك له، بل هو مباح الأصل، ألا ترى أن لكل أحد أن يأخذه فلهذا لم يجز بيعه، هكذا ذكر في «النوازل» : وفي «القدوري» : ولا يجوز بيع الكلأ في أرضه، وكذا لا يجوز بيع الكمأة في الأرض، قال ثمة: ولو ساق الماء إلى أرضه وبحصة موته حتى خرج الكلأ لم يجز بيعه، قال: لأن الشركة في الكلأ ثابتة بالنص، وإنما تنقطع الشركة بالحيازة، وسوق الماء إلى أرضه ليس بحيازة للكلأ على الشركة فلا يجوز بيعه. وما ذكر القدوري رحمه الله يخالف ما ذكر في «النوازل» .

نوع آخر

في بيع المرهون والمستأجر والمغصوب والآبق وأرض القطيعة والأخاد والإكارة: اختلفت عبارة الكتب في بيع المرهون وقع في بعض (الكتب بيع) المرهون فاسد ووقع في بعضها أن البيع موقوف، من مشايخنا من قال: في المسألة روايتان، وعامتهم على أن الصحيح أن البيع موقوف إن قضى الراهن المال أو أبرأه المرتهن منها ورد الرهن عليه ورضي به تم البيع وإن لم يجز المرتهن بيعه وطلب المشتري من القاضي التسليم، فالقاضي يفسخ العقد بينهما، وهذا لأن البيع صدر من المالك، وللمرتهن حق في المحل، وكما يجب مراعاة حق صاحب الحق وإنما يصير الحقان مراعاً إذا قلنا بالتوقف.
ومعنى قوله في بعض الكتب: أن بيع المرهون فاسد أنه لا حكم له، فكان فاسداً في حكم الحكم؛ وهذا لأن البائع مالك للغير وتأثير حق الغير في دفع الحكم لا في إفساد العقد في نفسه كبيع مال الغير وبيع المستأجر نظير بيع المرهون موقوف عند عامة

(6/340)


المشايخ وهو الصحيح، وللمشتري الخيار إذا لم يعلم وقت الشراء أن المشترى مرهون أو مستأجر لتأخر التسليم بحق المرتهن والمستأجر، وإن (كان) عالماً به وقت الشراء فكذلك عند محمد يثبت له الخيار؛ لأن كون المشترى مرهوناً أو مستأجراً عند محمد بمنزلة الاستحقاق.
ومن اشترى من غيره مال غيره والمشتري يعلم أن المشترى مال الغير كان للمشتري حق النقض، والرجوع على البائع بالثمن، وعند أبي يوسف: ليس له حق نقض الشراء؛ لأن كون المشترى مستأجراً أو مرهوناً عنده بمنزلة العيب.
ومن اشترى شيئاً معيباً وعلم بكونه معيباً وقت الشراء فلا خيار له في فسخ العقد، وذكر شمس الأئمة الحلواني الخلاف على هذا الوجه في شرح «حيل الخصاف» وأحاله إلى «النوادر» ، وذكر الصدر الشهيد في «واقعاته» : أنه إذا كان يعلم بكونه مرهوناً أو مستأجراً فله الخيار في ظاهر الرواية.

وذكر القاضي الإسبيجابي في «شرحه» : أنه إذا كان عالماً به، فلا خيار له في ظاهر الرواية، وكذلك إذا اشترى أرضاً ولها إكار فهو على هذين الوجهين يعني في حق ثبوت الخيار للمشتري.
إذا علم وقت الشراء أن لها أكاراً، أو لم يعلم، ذكره الصدر الشهيد، وليس للمستأجر حق فسخ البيع بلا خلاف؛ لأن حقه في المنفعة والبيع صادف الرقبة، فأما المرتهن هل له حق فسخ هذا البيع؟ اختلف المشايخ فيه منهم من قال: ليس له ذلك؛ لأن حقه في اليد لا في الرقبة، والبيع لا يصادف الرقبة، ومنهم من قال: له حق الفسخ؛ لأن البيع يبطل ملك الرقبة، وهو وسيلة إلى استيفاء الدين منه عند الهلاك، وليس للراهن الآخر حق فسخ هذا البيع؛ لأن هذا البيع ينعقد صحيحاً في حقهما نص عليه الخصاف في أدب ما لا يجب فيه اليمين، وإنما التوقف في حق المستأجر والمرتهن.

وفي رهن «المنتقى» : إذا باع الراهن المرهون من رجل بغير إذن المرتهن، ثم باعه من المرتهن جاز البيع من المرتهن، وهو نقض للبيع الأول.
وفي الباب الأول من رهن «الجامع» : إذا باع الراهن المرهون من رجل بغير إذن المرتهن، ثم باعه من رجل آخر بغير إذن المرتهن أيضاَ، ثم أجاز المرتهن أحد العقدين نفذ البيع الذي لحقته الإجازة واليمين للمرتهن يستوفي منه حقه، وروي عن أبي يوسف إن البيع الأول نفذ، وإن أجاز البيع الثاني ينفذ البيع الثاني، ولو كان مكان البيع الثاني رهناً أو إجارة، وأجاز المرتهن الرهن أو الإجارة ينفذ البيع ويبطل الرهن والإجارة.
والآجر إذا باع المستأجر من رجل بغير إذن المستأجر، ثم باعه من المستأجر جاز البيع من المستأجر، وهو نقض للبيع الأول.

وأما بيع المغصوب فقد ذكره محمد رحمه الله في «الأصل» : أنه موقوف إن أقر به الغاصب تم البيع ولزم، وإن جحد وكان للمغصوب منه بينة عادلة، فكذلك (50أ3) الجواب، وإذا لم يكن بينة، ولم يسلمه حتى هلك انتقض البيع، بعض مشايخنا قالوا: قول محمد في «الكتاب» وإن لم يكن للمغصوب منه بينة، ولم يسلمه حتى هلك انتقض

(6/341)


البيع بظاهره غير صحيح، وينبغي أن لا ينقض البيع ههنا إلا أن يختار المشتري النقض.
فكان تأويل قول محمد: انتقض إذا اختار المشتري النقض، وبعضهم قالوا: قول محمد بظاهره صحيح، وينتقض البيع من غير اختيار المشتري النقض؛ لأن الغاصب هي ضمن القيمة بملك المغصوب من وقت الغصب، وبيع المولى كان بعد ذلك، فيظهر أنه كان بائعاً مال الغير، وهو الغاصب بخلاف ما لو قبل بعد البيع أو غصب؛ لأن القيمة هناك وجبت بعد البيع، فمتى بقي البيع لا يؤدي إلى أن يصير بائعاً مال الغير.
وفي «نوادر بشر» : قال: سألت محمداً عمن اشترى المغصوب منه، وهو في يد الغاصب، والغاصب جاحد له، قال: يجوز، ويقوم المشتري في دعواه ذلك مقام المالك قال: وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله.
وذكر ابن سماعة في «نوادره» عن أبي يوسف: أنه قال: قال أبو حنيفة: لا يجوز بيعه من غير الغاصب، وقلت أنا: هو جائز.
وروى بشر عن أبي يوسف في رجل غصب من آخر طعاماً وتصدق به، وكان قائماً في يد المساكين حتى اشتراه الغاصب من المغصوب منه جاز شراؤه ويرجع في صدقته، ولا يجزئه عن كفارة يمينه، وإن استهلك المساكين الطعام بعد الشراء ضمنوا، ولو لم يشتر وضمن قيمته جازت صدقته وأجزأت عنه ولم يرجع فيها، ولو كان الطعام مستهلكاً حال ما اشتراه الغاصب من المغصوب منه في أيدي المساكين، فالشراء باطل إلا أن يقول: أشتري منك ما لك علي من الطعام، فيجوز الشراء وجازت الصدقة للمساكين.

قال محمد في «الجامع» : رجل غصب من آخر عبداً، ثم أن الغاصب أمر رجلاً حتى يشتريه له من مولاه، فاشترى صح الشراء، وصار الآمر قابضاً له بنفس الشراء؛ لأنه في يده مضمون بضمان نفسه، ومثل هذا القبض ينوب عن قبض الشراء، فكأن الآمر جدد القبض، أكثر ما في الباب أن حق القبض للوكيل لا للموكل، ولكن هذا لا يمنع صحة قبض الموكل، بالبيع ليس له حق قبض الثمن من المشتري مع هذا لو قبض صح كذا ههنا.
وكذلك لو أمر رجل أجنبي الغاصب أن يشتريه له، ففعل صح، وصار الآمر قابضاً بنفس الشراء؛ لأنه وجد في حق المأمور، وهو الغاصب قبض ينوب هو عن قبض الشراء، فصار هو قابضاً، وقبض المأمور بمنزلة قبض الآمر، فصار الآمر قابضاً من هذا الوجه.
قال في «الجامع» أيضاً: رجل غصب من آخر جارية، وغصب رجل من رب الجارية عبداً، وتبايعا العبد بالجارية وتقابضا، ثم بلغ المالك ذلك فأجازه كان باطلاً؛ لأن الإجازة إنما تعمل في العقد الموقوف لا في العقد الباطل، وهذا العقد وقع باطلاً؛ لأن البيع تمليك بتملك، وذلك لا يكون في بيع مال الرجل بماله.

توضحه: أن الإجارة في الانتهاء بمنزلة الإذن في الابتداء، ولو أذن المالك لهما في الابتداء بذلك لا ينفذ، فإذا فعلا بغير إذنه لا يتوقف أيضاً، ولو كان مالكهما رجلين فبلغهما، وأجازا كان جائزاً، وصارت الجارية لغاصب الغلام، والغلام لغاصب الجارية،

(6/342)


هذا لأن كل واحد منهما صار مشترياً ما في يد صاحبه بما في يده بائعاً ما في يده بما في يد صاحبه، ولا يوقف في الشراء، فقد عرف إن شراء الفضولي لا يتوقف على إجازة بل ينفذ على المشتري، وإنما التوقف في البيع، فصار شراء كل واحد منهما واقعاً لنفسه كأن كل واحد من المالكين قال لغاصبه: اشترِ مملوك فلان لنفسك بمملوكي، وإنما احتيج إلى الإجازة لنفاذ البيع، فانعقد تصرف كل واحد منهما على أن يفيد الملك للمشتري، ولكن عند إجازة المالك، وعلى صاحب الغلام قيمة الغلام لمولاه، وعلى صاحب الجارية قيمة الجارية لمولاها؛ لأن كل واحد منهما صار مستقرضاً ما غصب حتى يكون البدل على من يثبت له الملك في المبدل.
واستقراض الحيوان، وإن كان لا يجوز إلا أنه إنما لا يجوز إذا حصل ابتداءً، والاستقراض منهما حصل في ضمن الشراء، وإنه تصرف مشروع فيصير مشروعاً بشرعته، والمستقرض فيما لا يصل مضمون بالقيمة، فيوجب على كل واحد من الغاصبين قيمة ما غصب من هذا الوجه.
وفيه أيضاً: لو أن رجلاً غصب من رجل مائة دينارٍ وغصب آخر من رب الدينار ألف درهم، ثم تبايعا الدراهم بالدنانير يعني الغاصبان وتقابضا وتفرقا، ثم بلغ المالك ذلك فأجازه جاز.

فرق بين هذا وبين المسألة المتقدمة، والفرق: أن ههنا العقد ما ورد على الدراهم والدنانير بأعيانهما، وإنما وقع على مثلهما ديناً في الذمة، فلم يقع على مالين لمالك واحد، فصح البيع بلا توقف.

ألا ترى أن مالك الدراهم والدنانير لو لم يجز وأخذ دراهمه ودنانيره، ولم يتفرقا حتى نفذ كل واحد منهما من مال نفسه يجوز، ولا يفسد البيع، فعلم أن العقد وقع على مثلهما دينا في الذمة إلا أن كل واحد منهما صار قابضاً ما وجب في ذمته بما غصب، فإذا أجاز المالك، وجاز صار مقرضاً، أما في المسألة المتقدمة العقد وقع على العرضين بأعيانهما؛ لأن العرض يتعين في عقد المعاوضة، فإذا كانا لشخص واحد لم ينعقد العقد على ما بينا، والفلوس في هذا نظير الدراهم والدنانير؛ لأنهما لا يتعينان بالتعيين.
وفيه أيضاً: رجل غصب من رجل جارية، وغصب رجل من صاحب الجارية مائة دينار، فباع غاصب الجارية الجارية من غاصب الدنانير بتلك الدنانير، فبلغ المالك، فأجاز صح؛ لأن الجارية إن تعينت في العقد فالدنانير لم تتعين، فلم يقع العقد على مالين لواحد، بل وقع على جارية مغصوبة بدنانير في الذمة، فإذا أجازه صحت الإجازة في حق البيع؛ لأن بيع الجارية قد توقف على إجازته؛ لأنه يملك الإذن ببيع جاريته بالدنانير، فيملك الإجازة فيه إذا غصب علم المغصوب منه أنه نفذ من ماله، ويصير هو مقرضاً الدنانير من مشتري الجارية؛ وهذا لأن الشراء لمّا تعلق بدنانير في الذمة صار مشتري الجارية بنقد الدنانير المغصوبة قاضياً ما عليه بمال غير متوقف على إجازته.
فإذا جاز النقد أيضاً يلزم ذلك قرضاً للدنانير على ما مر، فصارت الدنانير ملكاً لمشتري الجارية

(6/343)


بالقرض مقتضى القضاء، وصار المشتري قاضياً دنانير نفسه، وقد نفذ بيع الجارية على مالكهما بالإجازة، وتثبت الوكالة بالإجازة، فيصير بائع الجارية قابضاً الدنانير لمالك الجارية بحكم الوكالة، فإن بقيت الدنانير في يد بائع الجارية فهي للمغصوب منه، وإن هلكت في يده فلا ضمان؛ لأنها هلكت في يد الوكيل.

وهلاك الثمن في يد الوكيل لا يوجب عليه ضماناً، وإن كان النقد بعد الإجازة، وهلكت الدنانير في يد بائع الجارية، فالمغصوب منه بالخيار إن شاء ضمن بائع الجارية، وإن شاء ضمن مشتري الجارية، وهذا لأن الإجازة إذا حصلت قبل النقد فليس الجارية ذلك بإذن في النقد؛ لأن النقد لم يكن موجوداً، ولا يدري هل ينقد المغصوب أو لا ينقد؟ فلم تعمل الإجازة في حق النقد، فصار مشتري الجارية يأخذ دنانير المغصوب منه بغير إذنه، وصار هو غاصباً بالنقد، وصار بائع الجارية غاصباً لها بالقبض.

فإذا هلكت كان للمالك الخيار في (50ب3) تضمينها، فإن ضمن مشتري الجارية ظهر انه ملك الدنانير من وقت القبض السابق، وأنه نقد ملك نفسه، فصح النقد، وصار بائع الجارية قابضاً دنانير مشتري الجارية بإذنه فكان أميناً فيها، وإن ضمن بائع الجارية رجع البائع على المشتري؛ لأن قبض البائع لم يسلم ثمناً له لما استحق عليه عوضه، فاستوجب الرجوع به على المشتري، كما لو كانت الدنانير قائمة بأعيانها، فأخذت من يده.

وإذا ادعى رجل أرضاً في يدي رجل، وأقام البينة على ما ادعى، وقضى القاضي بالأرض له، فباعها من رجل، ثم ظهر أنه قد كان باع هذه الأرض قبل أن يدعيها عند القاضي من رجل آخر، فالجائز هو البيع الأول؛ لأنه يتبين أنه باع المغصوب وله بينة، فجاز الأول، ومن ضرورة جواز الأول بطلان الثاني، فأما بيع الآبق، فقد ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» : أنه لا يجوز، فقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام «نهى عن بيع الآبق» ؛ ولأنه معجوز التسليم، والقدرة على التسليم شرط جواز البيع، وهذا بخلاف ما لو باع عبداً أرسله في حاجته؛ لأن القدرة على التسليم هناك ثابتة وقت العقد حكماً واعتباراً؛ لأن الظاهر عوده إلى المولى، ولا كذلك الآبق، فإن عاد من الإباق وسلمه إلى المشتري روي عن محمد: أنه يجوز، به أخذ الكرخي وجماعة من مشايخنا، وهكذا القاضي الإسبيجابي في «شرحه» : والمذكور في «شرحه» : إذا ظهر الآبق وسلمه إلى المشتري يجوز البيع، وأيهما امتنع إما البائع عن التسليم، أو المشتري عن القبض يجبر عليه، ولا يحتاج إلى بيع جديد إلا إذا كان المشتري رفع الأمر إلى القاضي، وطلب التسليم من البائع، وظهر عجزه عند القاضي، وفسخ القاضي العقد بينهما، ثم ظهر العبد حينئذ يحتاج إلى بيع جديد، وهذا لأن المانع من الجواز العجز عن التسليم بسب الإباق، وقد ارتفع العجز حين ظهر من الإباق.

(6/344)


h
وروي عنه رواية أخرى: أنه لا يجوز البيع، ويحتاج إلى بيع جديد، وبه أخذ جماعة من مشايخنا، وبه كان يفتي أبو عبد الله البلخي، وهكذا ذكر شيخ الاسلام رحمه الله في شرح كتاب البيوع الفاسدة؛ لأن شرط جواز العقد، وهو القدرة على التسليم كان فائتاً وقت البيع فلا يجوز البيع، وإن وجد من بعد.

وصار كما لو باع خمراً، فصار خلاً في المجلس وتسلمه، أو باع طيراً في الهواء، أو سمكاً في الماء، أو وحشاً في الفضاء، ثم أخذه، وسلم في المجلس فإنه لا يجوز البيع، وطريقه ما قلنا، ومن أخذ بهذه الرواية الأولى أنهما تراضيا عليه عند العبد، فينعقد بينهما بالتعاطي.

إما أن يقال: بأن ذلك العقد يجوز فلا، وإن جاء رجل إلى مولى الآبق، وقال: إن عبدك الآبق عندي، وقد أخذته فبعه مني، فباعه جاز، ولو قال: عود هو عبد فلان قد أخذه فبيعه، فباعه لا يجوز.
الفرق: أن فساد بيع الآبق عرف بالأثر، والأثر ورد في الآبق المطلق، وهو الآبق في حق أحد المتعاقدين، وفيما إذا قال الذي يريد شراءه: هو عبدي قد أخذته، فهذا ليس بآبق في حق المشتري، فلا يكون آبقاً مطلقاً، وفيما إذا قال: هو عبد فلان، فهو آبق في حق البائع والمشتري، فكان آبقاً مطلقاً؛ ولأن في الصورة الأولى العبد غير معجوز التسليم في حق المشتري، ولا كذلك في الفصل الثاني، وروى الحسن عن أبي حنيفة: أن بيع الآبق جائز ذكر القدوري هذه الرواية.
وكان أبو الحسن الكرخي يقول: بيع الآبق فاسد إلا أن يرضي المشتري أن ينتظر حتى يتمكن البائع من التسليم، وفاسد بيع المرهون والمستأجر.

وفي «المنتقى» : رواية الحسن عن أبي حنيفة: إذا باع الآبق، والمشتري يعلم بمكانه جاز، فإن باعه وقبضه، ثم اختلفا فقال المشتري: لم أعلم بمكانه حين بعتني، وقال البائع: لا بل علمت، فالقول قول البائع وهو الصحيح، وإن باعه ولا يعلم أحدهما بمكانه لم يجز، وأما بيع أرض القطيعة جائز، وهي التي أقطعها الإمام لقوم وخصهم بها؛ لأنهم ملكوها بالقطيعة فيجوز بيعهم، وأما بيع أرض الإجارة والإكارة، فالإجارة هي الأرض الخراب يأخذها إنسان بأمر صاحبها فيعمرها ويزرعها، وإن كانت الأرض التي في يد الأكرة، فنقول: إن باعها صاحبها جاز؛ لأنه مالك رقبتها، وإن باع الذي له أجارتها وآكارتها لا يجوز البيع؛ لأن له العمارة لا غير، وإنه مال متقوم، وإذا باع الأرض وهي في عقد مزارعة أخرى، قال شمس الآئمة الحلواني: المزارعة أولى في مدته من أيهما كان البذر، فإن أجاز المزارع البيع فلا أجر لعمله.
في «مجموع النوازل» : إن أجاز المزارع يكون كلا النصيبين للمشتري يريد به إذا كان في الأرض غلة، وإن لم يجز لا يجوز البيع، وكذا في الكرم سواء ظهر الثمار، أو لم يكن هذا الفصل في الزتدويستي.
وقيل: الجواب على التفصيل إن كان البذر من المزارع لا يجوز في حقه؛ لأن مستأجر الأرض، وكذا في الكرم إن لم يظهر الثمار، ويجوز البيع، وبه كان يفتي ظهير الدين رحمه الله.

(6/345)


نوع آخر في بيع الحيوانات

قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : ولا يجوز بيع السمك في حظيرة لا يستطيع الخروج منها إذا كن لا يؤخذن إلا بصيد، وإن كن يؤخذن بغير صيد جاز البيع، والمشتري بالخيار إذا رآهن، يجب أن يعلم بأن هذه المسألة على وجهين: إما إن اجتمعن فيها باحتياله واصطيادهن، ثم أرسلهن في الحظيرة، وفي هذا الوجه إن كان لا يقدر على أخذهن من غير احتيال جاز بيعهن؛ لأن ملكهن بالاصطياد، فقد باع ملكه، وهو قادر على التسليم، فيصح كما لو باع عبداً له قد أرسله في حاجته، وإن اجتمعن في الحظيرة لا باحتياله واصطياده لا يجوز بيعهن أمكن أخذهن من غير اصطياد واحتيال، أو لم يمكن؛ لأنه لم يحرزهن فلم يملكهن، فقد باع ما ليس بمملوك له.

فرع على هذا الفصل
وهو ما إذا اجتمعن في الحظيرة لا باحتياله واصطياده، فقال: لو سد موضع دخول الماء، فصرن بحالة لا يستطعن الخروج عنها لا يجوز البيع عند بعض المشايخ؛ لأنه لم يملكها؛ لأن هذا القدر ليس بإحراز فهو بمنزلة طير طار في بيت إنسان، فسد الباب والكوة، وهناك لا يصير محرزاً له بهذا القدر ما لم يأخذه كذا ههنا، ولا ملك بدون الإحراز، فإنما باع ما لا يملك فلا يجوز.
وعند بعض المشايخ: يجوز البيع إذا أمكن أخذهن من غير اصطياد؛ لأنه بما فعل صار آخذاً لهن حكماً، فصرن ملكاً له بمنزلة ما لو وقع في شبكته، فيجوز بيعه، وهذا الخلاف إذا لم يهيء الحظيرة لاصطياده، فأما إذا هيأها ملكهن بلا خلاف، فيجوز بيعهن.
وفي كل موضع جاز بيع السمك في الماء، فإذا قبضه المشتري ورآه فله الخيار؛ لأنه اشترى ما لم يره، وإذا أخذ سمكة وجعلها في حب ماء فالجواب فيه على التفصيل الذي قلنا في الحظيرة: إن كان يقدر على أخذها من غير اصطياد جاز بيعه، وإن كان في الحظيرة سمك وقصب باع السمك والقصب جملة، فإن كان لا يمكن أخذ السمك إلا بصيد، فالبيع فاسد في الكل اصطاد السمكه قبل ذلك أولا، أما في السمك؛ فلأنه باع ما لا يقدر على تسليمه، وأما في القصب فلجهالة الثمن؛ لأن قيمة السمك مجهولة لا يدرى إذا كان لا يؤخذ بغير صيد، وجهالة قيمة السمك توجب جهالة حصة القصب، فيفسد البيع في القصب بجهالة الثمن، وإن كان يمكن أخذ السمك من غير صيد إن لم يكن اصطاد السمك قبل ذلك فالبيع فاسد في السمك وهل يفسد في القصب؟ قالوا: (51أ3) على قياس قول أبي حنيفة: يفسد؛ لأن قبول العقد في السمك يصير شرطاً لقبوله في القصب إذا كانت الصفقة واحدة، وقبول العقد في السمك شرط فاسد، فيفسد العقد في القصب، وعلى قياس قولهما لا يفسد؛ لأن قيمة السمك معلومة إذا كان يؤخذ بغير صيد، فيكون حصة القصب معلومة.

(6/346)


والصحيح: أن على قولهما يفسد في القصب؛ لأن حصة القصب تصير معلومة بالحرز والظن إذ الصفقة متحدة وما يعرف بالحزر يكون مجهولاً، فهو نظير ما لو اشترى عبدين بألف درهم، فإذا أحدهما حر، وإن كان اصطاد السمك قبل ذلك يجوز البيع في الكل عندهم جميعاً.
ذكر شيخ الإسلام هذه الجملة في شرح كتاب الشفعة قبيل باب تسليم الشفعة، وإذا أراد الرجل أن يبيع برج حمام مع الحمام إن باع ليلاً جاز؛ لأن في الليل يكون الحمام بجملته داخل البرج، ويمكن أخذه من غير احتيال، فيكون بائعاً ما يقدر على تسليمه.

وفي النهار بعضه يكون خارج البرج لا يمكن أخذه باحتيال، فيكون بائعاً ما لا يقدر على تسليمه. قال محمد رحمه الله: في «الجامع الصغير» عن أبي حنيفة: ولا يجوز بيع النحل وقال: إنما النحل بمنزلة الزنبور وهو قول أبي يوسف.
وقال محمد رحمه الله: يجوز بيعه إذا كان مجموعاً، وجه قول محمد: إن هذا حيوان ينتفع به ويتمول فيصح بيعه، وإن لم يؤكل كالحمار والبغل، ولأبي حنيفة وأبي يوسف أن النحل لا ينتفع بعينه، وإنما ينتفع بما يحدث، فقبل الحدوث لا يكون منتفعاً، والعين إنما يصير مالاً بكونه منتفعاً به، ولأنه من جملة الهوام، فلا يجوز بيعه كالزنبور.
وذكر القدوري في «شرحه» : إذا كان في كوارتها عسل، فاشترى الكوارة بما فيها من النحل جاز عند أبي حنيفة، ويدخل النحل في البيع تبعاً للعسل، وأنكر أبو الحسن الكرخي رحمه الله: جواز بيع النحل مع العسل، فقال: إنما يدخل الشيء في العقد تبعاً لغيره إذا كان من حقوقه كالشرب مع الأرض، وهذا ليس من حقوقه.
وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا اشترى العلق الذي يقال له بالفارسية مرنمك يجوز، وبه أخذ الصدر الشهيد رحمه الله لحاجة الناس، فإن الناس يحتاجون إليه ويتمولونه.
وفي «القدوري» : ويجوز بيع دود القز إن ظهر القز فيه، وإن لم يظهر لا يجوز، هذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد رحمه الله: يجوز البيع، وإن لم يظهر فيه القز لما قلنا في النحل، قال الصدر الشهيد في «واقعاته» : والفتوى على قول محمد، وأما بيع دود القز فعلى قول أبي حنيفة: لا يجوز؛ لأنه غير منتفع باعتبار ذاته بل باعتبار غير معدوم، وعندهما: يجوز اعتباراً للعادة؛ ولأنه يتولد منه ما هو منتفع به، فصار كبذر البطيخ، فيجوز بيعه، والصدر الشهيد في «واقعاته» : اختار قولهما.

ولا يجوز بيع هوام الأرض كالحية والعقرب والوزغ، وما أشبه ذلك؛ لأن لانتفاع بهذه الأشياء حرام ومحليته يعتمد جواز الانتفاع بها، ولا يجوز بيع ما يكون في البحر كالصفد والسرطان وغيره إلا السمك، وما يجوز الانتفاع بجلده أو عظمه، والحاصل: أن جواز البيع يدور مع حل الانتفاع، وسيأتي بيان ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وأما بيع الكلب وأشباهه فقد ذكر في «القدوري» : بيع كل ذي ناب من السباع وذو مخلب من الطير جائز معلماً كان، أو غير معلم، وفي رواية «الأصل» ولا شك في جواز بيع الكلب المعلم؛ لأنه آلة الحراسة والاصطياد، فيكون محلاً للبيع.
ألا ترى أنه جاز بيع البازي المعلم والصقر المعلم، وإنما جاز؛ لأنه آلة الاصطياد؛ وهذا لأنه إذا كان آلة

(6/347)


الحراسة والاصطياد كان منتفعاً حقيقة وشرعاً، فيكون مالاً؛ لأن المال غير الأدمي خلق لمنافع الأدمي والمال محل للبيع، وأما بيع كلب غير المعلم.

فقد ذكر شمس الأئمة السرخسي: أنه إذا كان الحال يقبل التعليم يجوز بيعه قال رحمه الله: هو الصحيح من المذهب، وهذا لأنه إذا كان يقبل التعليم كان منتفعاً به، فيكون محلاً للبيع، الدليل عليه أنه ذكر في «النوادر» : ولو باع الجرو وجاز بيعه؛ لأنه يقبل التعليم، فهذا يبين لك أن غير المعلم إذا كان يقبل التعليم، فهو والمعلم سواء في حق محلية البيع، وإنما لا يجوز بيع العقور والذي لا يقبل التعليم ولا يصطاد به لا يجوز البيع، والفهد والبازي يقبلان التعليم على كل حال، فيجوز بيعهما.
وأما القرد فقد اختلفت الروايات فيه عن أبي حنيفة روى الحسن عنه: أنه يجوز بيعه، وروى أبو يوسف عنه: أنه لا يجوز بيعه، وبيع الفيل جائز؛ لأنه منتفع به حقيقة وشرعاً، فهو كسائر الحيوانات، وأما الهرة فقد ذكر شيخ الإسلام في «شرح السير» : أنه يجوز بيعها، سئل عطاء بن رباح عن ثمن الهرة فقال: لا بأس به.

نوع آخر في بيع المحرمات

بيع المحرم الصيد لا يجوز، وكذلك بيع صيد الحرم لا يجوز، وإن كان المتبايعان حلالين، وهما في الحرم، والصيد في الحل جاز ذلك في قول أبي حنيفة.
وقال محمد: إن قوام العقد بالعاقد والمحل، ثم المحل إذا كان في الحرم لا يجوز بيعه، فكذا إذا كان العاقدان في الحرم، وجه قول أبي حنيفة رحمه الله: أن المحرم.
وهذا ليس صيد الحرم، ولهذا لو أمر إنساناً بإتلافه جاز، ولا شك أن الأمر بالإتلاف فيما يرجع إلى التعويض للصيد دون العقد عليه، فإذا لم يحرم ذلك لكون الصيد خارج الحرم، فكذا العقد، ولو أحرم وفي يده صيد لغيره، فباعه مالكه، وهو حلال جاز، ويجبر على التسليم، وعليه الجزاء إن تلف، وهذا لأن البائع عقد البيع على ملك نفسه، وهو حلال فصح، وإحرام الذي هو في يديه لا يمنع رد الوديعة، فيجب الرد إلا أنه صار مضموناً عليه بالإمساك وهو محرم، فلا يبرأ من الضمان مع بقاء الإحرام إلا بالإرسال، ولو وكل محرم حلالاً ببيع صيد فباعه، فالبيع جائز في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: البيع باطل، والخلاف في هذا نظير الخلاف في المسلم إذا وكّل ذمياً ببيع الخمر وشرائه، وسيأتي الكلام فيه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
ولو وكل الحلال محرماً ببيع الصيد أو شرائه لا يجوز، وهذا إذا تبين لك أن المعترف العاقد، ولو وكل رجل رجلاً ببيع صيد فأحرم الآمر، وباع المأمور، فالبيع جائز في قول أبي حنيفة، وعندهما البيع باطل، وهذا لأن الوكالة ليست بلازمة، وما ليس

(6/348)


بلازم، فلدوامه حكم إنشاء الوكالة بعد الإحرام، وإنه على الخلاف، فهذا بناء عليه.
ولو اشترى حلال من حلال صيداً، فلم يقبضه حتى أحرم أحدهما انتقض البيع؛ لأن للقبض شبهاً بالعقد، فيجعل المقارن للعقد، ألا ترى أنه لما نزلت آية الربا أبطل رسول الله عليه السلام ما لم يقبض من الربا، وأجاز ما قبض.

ولا يجوز بيع ذبيحه المجوسي والمرتد وغير الكتابي، وكذلك لا يجوز بيع ما تركت التسمية عليه عمداً، ويجوز بيع ذبائح أهل الكتاب، وهو بناء على ما قلنا: أن جواز البيع يدور مع حل الانتفاع، ولا يحل الانتفاع بهذه الأشياء، فلا يجوز بيعها.
وفي «العيون» : لا بأس ببيع عظام الفيل وغيره من الميتة؛ لأن الموت لا يحل العظام ولا دم فيه، فلا يتنجس، فيجوز بيعه إلا عظم الأدمي والخنزير، فإنَّ بيعها لا يجوز، وهذا إذا لم يكن على عظم الفيل وأشباهه (51ب3) دسومة، فأما إذا كان فهو نجس، فلا يجوز بيعه.

وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا ذبح كلبه، وباع لحمه جاز، وكذا إذا ذبح حماره وباع لحمه جاز، وهذا فصل اختلف فيه المشايخ بناء على اختلاف في طهارة هذا اللحم بعد الذبح، واختيار الصدر الشهيد على طهارته.
ولو ذبح الخنزير، وباع لحمه لا يجوز؛ لأن لحم الكلب المذبوح والحمار منتفع به؛ لأنه يجوز أن يطعم به لسؤره؛ لأنه طاهر، ولا كذلك لحم الخنزير؛ لأنه ليس له أن يطعم به لسوره؛ لأنه نجس، وفرق بين الكلب والحمار بين ما إذا كانا مذبوحين، وبينما إذا كانا ميتين، فلم يجز بيع لحمهما إذا كانا ميتين؛ لأن لحم الميت ليس بمنتفع إذ ليس له أن يطعم به سؤرة، قال عليه الصلاة والسلام: «لا تنتفعوا من الميتة بشيء» .
وأما لحوم السباع فقد ذكر القدوري: أنه لا يجوز بيعها من غير فصل، وروي عن أبي حنيفة: أنه يجوز بيعها إذا ذبحت.
وفي «الفتاوي» : إذا كان السبع ميتاً لا يجوز بيع لحمه بلا خلاف، وإن كان مذبوحاً، ففيه اختلاف المشايخ، قال بعضهم: لا يجوز وبه أخذ الفقيه أبو جعفر والفقيه أبو الليث؛ لأن على قولهما: هذا اللحم نجس وقال بعضهم: يجوز؛ لأن هذا اللحم طاهر، وهو اختيار الصدر الشهيد، وروى إسماعيل بن حماد وابن أبي مالك عن أبي يوسف: أنه لا يجوز بيعها وإن كانت مذبوحة.

وأما جلود السباع والحمير والبغال، فما كانت مذبوحة أو مدبوغة جاز بيعها، وما كان بخلافه لم يجز، وهذا بناء على أن الجلود كلها تطهر بالذكاة أو بالدباغ إلا جلد الإنسان والخنزير، وإذا طهرت بالدباغ أو بالذكاة جاز الانتفاع به، فيكون محلاً للبيع، وحكي عن شمس الأئمة الحلواني: أن هذه الجلود إنما تطهر بالذكاة إذا كانت الذكاة مع

(6/349)


التسمية، أما بدون التسمية لا يطهر، ولا يجوز بيع شعر الخنزير؛ لأن الخنزير عينه نجس بجميع أجزائه منع الشرع عن الانتفاع به إهانة لعينه واستقباحاً لذاته، وفي البيع إعزاز له إلا أن رخص للخراز الانتفاع به من حيث الخرز؛ لأجل الضرورة مستثناة عن قواعد الشرع، وعن أبي يوسف أنه كره الانتفاع به للخرازين؛ لأنه نجس ولا ضرورة في الانتفاع به؛ لأن الخرز يحصل بغيره، وعن بعض السلف أنه لا يلبس مكعباً ولا خفاً أخرز من شعر الخنزير.
وشعر الميتة وعظمها وصوفها وقرنها لا بأس بالانتفاع بها، وبيع ذلك كله جائز؛ لأنه لا حياة في هذه الأشياء، فلا يحلها الموت فلا يتنجس.
وأما العصب ففيه روايتان: من رواية جاز الانتفاع به وبيعه؛ لأنه طاهر، فقد صح أن رسول الله عليه السلام استعمله في اصطلاح القوس، وشعر الأدمي طاهر، ولا يجوز الانتفاع به.

ويجوز بيع السرقين والبعر والانتفاع بها، وأما العذرة فلا يجوز الانتفاع بها ما لم يخلط بالتراب ويكون التراب غالبا، وهذا لأن محلية البيع بالمالية، والمالية بالانتفاع، والناس اعتادوا الانتفاع بالبعر والسرقين من حيث الإلقاء في الأرض لكثرة الريع، أما ما اعتادوا الانتفاع بالعذرة ما لم يكن مخلوطاً بالتراب، ويكون التراب هو الغالب.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: كل شيء أفسده الحرام والغالب عليه الحلال، فلا بأس بأن يبيعه وتبين ذلك، ولا بأس بالانتفاع به كالفأرة تقع في السمن والعجين، وما كان الغالب عليه الحرام لم يجز بيعه ولا هبته.

وكذلك الزيت إذا وقع فيه ودك الميت، فإن كان الزيت غالباً جاز بيعه، وإن كان الودك غالباً لم يجز، والمراد من الانتفاع حال عليه الحلال الانتفاع في غير الأبدان، وأما في الأبدان فلا يجوز الانتفاع به، ويجوز بيع البربط والطبل والمزمار والنرد، وأشباه ذلك في قول أبي حنيفة، وعندهما لا يجوز بيع هذه الأشياء.
وجه قولهما: إن هذه الأشياء أعدت للمعصية حتى صارت بحال لا يستعمل إلا في المعصية، فسقطت ماليتها والتحقت بالعدم، ومن شرط جواز البيع المالية.
ولأبي حنيفة: إن هذه الآلات ليست بمحرمة العين، وكونها آلة المعصية إنما يوجب سقوط التقوم والمالية إذا كانت متعينة للمعصية، وهذه الأشياء لم تتعين آلة للمعصية؛ لأن الانتفاع بهذه الأشياء ممكن بوجه حلال بأن يجعل النرد صنجات الموازين، والبربط والطبل والدف ظروف الأشياء، وإذا لم تكن متعينة للمعصية تقومها كالمعيبة فإنه لما تصور الانتفاع يعينها بطريق حلال لا يسقط تقومها وماليتها حتى جاز بيعها كذا ههنا.
وذكر أبو الحسن في «الجامع الصغير» المنسوب إليه: ذبيحة المجوسي، وكل شيء يعملونه وهو عندهم ذكاة كالخنق والضرب حتى يموت فإنه يجوز البيع بينهم عند أبي يوسف، ولو استهلكها مسلم ضمن القيمة، وليس كالميت حتف أنفه.
وقال محمد: هو في الميت حتف أنفه سواء؛ لأن الذكاة فعل شرعي، فإذا لم يكن

(6/350)


الفاعل من أهله صار الذبح في حقه والموت حتف أنفه سواء، ولأبي يوسف: أنهم يتمولونه كما يتمولون الخمور، ونحن أمرنا ببناء الأحكام على اعتقادهم، وان نتركهم وما يدينون، فظهر حكم ديانتهم في حقهم بخلاف الميت حتف أنفه، لأنه ليس بمال في حق أحد.
وقال أبو حنيفة: يجوز بيع الأشربة المحرمة كلها إلا الخمر، وعلى مستهلكها الضمان.

وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجوز بيعها ولا يجب الضمان على مستهلكها؛ لأنه حرم شربها وقد قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله تعالى إذا حرم شربه حرم بيعه وأكل ثمنه» ، أوجب تحريم البيع عند تحريم الشرب، وفيه إشارة إلى سقوط التقويم، وذلك شرط وجوب الضمان.

ولأبي حنيفة: أن حرمة هذه الأشربة ما يثبت على طريق النص، بل بالاجتهاد الذي يوجب العمل دون العلم، فلا يوجب سقوط التقوم اللذان كانا من قبل، والحديث منصرف إلى ما يثبت فيه الحرمة مطلقا وهو الخمر.
وروى الحسن عن أبي حنيفة في العصير: إذا ذهب ثلثه، واشتد أنه يجوز بيعه بخلاف المنصف، ولا يجوز بيع المكاتب والمدبر وأم الولد ومعتق البعض.
أما المكاتب؛ فلأنه استحق يداً على نفسه ومكاتبه، وبالبيع يبطل ذلك، فيجب صيانته برد البيع إذا باع المكاتب بغير رضاه، وإن باعه برضاه، ذكر المشايخ في كتبهم: أنه يجوز البيع وتنفسخ الكتابة، وحكي عن الكرخي رحمه الله: أنه كان يقول: لا رواية فيه عن أصحابنا رحمهم الله نصاً، وإنما هذا شيء يقوله مشايخنا المتأخرون وقد أشار إليه محمد في «الجامع» : إلى أنه لا يجوز ولا ينفسخ الكتابة.

فقد قال في «الجامع» : إذا أمر الرجل مكاتبه أن يتزوج على رقبته حرة جاز، وكان على المكاتب أن يسعى في قيمته، ولم تنفسخ الكتابة مقتضى جعل الرقبة مهراً إذ لو انفسخت الكتابة لتعلق النكاح برقبتها، ويفسد النكاح؛ لأنها تملك رقبة زوجها، ولا يفسد النكاح حتى وجبت عليه السعاية في قيمته علم أن الكتابة لم تنفسخ، وقد رضي المولى والمكاتب بانفساخ الكتابة؛ لأنهما رضيا بضرورة رقبت مهر المولي بالأمر بالتزوج على رقبة والمكاتب بالأقدام على التزوج على رقبته، ولن تصير رقبته مهراً إلا بفسخ (52أ3) الكتابة، وهذا لم يفسخ الكتابة، ولم تصر رقبته مهراً، فقياس هذه المسألة أن لا يجوز بيع المكاتب برضاه، ولا تنفسخ الكتابة ههنا مقتضى جعل رقبته مهراً هذا جملة ما نقل عن الكرخي.
ومن مشايخنا من فرق بين المسألتين فقال: الكتابة لو انفسخت في هاتين الصورتين

(6/351)


إنما تنفسخ تصحيحاً للنكاح للبيع في مسألتنا، وليس في فسخ الكتابة تصحيح النكاح ثمة، فإن الكتابة إذا انفسخت يصير رقبته مهراً، وتملك المرأة رقبة زوجها مقارناً للنكاح، فلم يكن في فسخ الكتابة فائدة.
وأما معتق البعض؛ فلأنه بمنزلة المكاتب عند أبي حنيفة، وعندهما بمنزلة آخر عليه دين.
I
وأما أم الولد فلقوله عليه السلام في حقها: «لا تباع ولا توهب» وهو حر من جميع المال.
وأما المدبر فهو نوعان: مقيد ومطلق، فجواز بيعه مجمع عليه، وإن كان مطلقاً فعدم جواز بيعه مذهبنا، والمسألة معروفة، وأولاد الإماء من ذلك بمنزلة الأصول؛ لأن الأصل إن ما يثبت في الأصل يتعدى إلى الفروع لهذا كان ولد الحرة حراً، وولد الأمة رقيقاً، وكذلك الولد المشترى في حالة الكتابة والولدان، وأما من سواهم من ذوي الأرحام، فلا يدخلون في الكتابة، ويجوز بيعهم في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجوز بناء على أن الكل يدخلون في الكتابة عندهما، فيمتنع بيعهم كما يتبع بيع الأولاد والولدان، والمسألة معروفة في كتاب المكاتب.

نوع آخر في بيع الجنس بالجنس
قال أبو حنيفة رحمه الله: ويجوز بيع التمر بالرطب متساوياً كيلاً، ولا يجوز متفاضلاً، وعندهما بالآخر متساوياً كيلاً ومتفاضلاً، فالأصل أن كل مكيل أو موزون قوبل بجنسه إن كانت المجانسة بينهما ثابته من كل وجه يكتفي بالمماثلة الخالية بجواز البيع، عرف ذلك بالحديث المعروف، وهو قوله عليه السلام: «الحنطة بالحنطة مثلاً بمثل كيلاً بكيل، والذهب بالذهب مثلاً بمثل وزناً بوزن» قيد الجواز بالمماثلة إذا كانت المجانسة قائمة للحال من كل وجه.
بعد هذا قال أبو يوسف ومحمد: التمر جنس الرطب من وجه دون وجه، فإن بعض معانيه فائت بالجفاف، والبعض باقي، فلا يكتفي بالمماثلة الخالية بجواز البيع، وأبو حنيفة رحمه الله قال: المجانسة بين الرطب وبين التمر قائمة من كل وجه؛ لأنها كانت ثابتة من كل وجه قبل الجفاف، ولاتحاد الاسم ولاتحاد المنفعة، وبعد الجفاف الاسم متحد؛ لأن الرطب يسمى تمراً وبالجفاف لا يزول جنس المنفعة بأصلها، فإنه يجيء من التمر جميع ما يجيء من الرطب إنما يتمكن من نقصان، والمجانسة إذا كانت ثابتة من كل وجه إذا فات جنس منفعة بأصلها كما في الحنطة مع الدقيق، فإنه بالطحن يزول جنس منفعة أصلاً، وهي منفعة الزراعة، واتخاذ الهريسة وكما في المقلية مع غير المقلية، فإن بالقلي يفوت جنس منفعة بأصلها وهي منفعة الزراعة وهاهنا لم يفت جنس منفعة بأصلها،

(6/352)


فكانت المجانسة ثابتة من كل وجه، فيكتفي بها جواز البيع.
وأما بيع الرطب بالرطب يجوز إذا تساويا كيلاً عند علمائنا رحمهم الله، وكذلك بيع ما يلي الرطب أما بيع البسر بالتمر، فلا ذكر له في الكتب.
وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح بيوعه: أنه يجوز بالإجماع إذا تساويا كيلاً يداً بيد، وأما بيع العنب بالزبيب، فعند أبي حنيفة وأبي يوسف يجوز إذا تساويا كيلاً هكذا ذكر في «نوادر هشام» .

وذكر في موضع آخر أن على قول أبي يوسف إنما يجوز هذا البيع على سبيل الاعتبار، وتفسيره: أن يكون الزبيب أكثر حتى يكون الزبيب بالزبيب من العنب، والباقي بإزاء الماء العالمة للحال، وعلى قول محمد: لا يجوز، وذكر شمس الأئمة السرخي في «شرحه» : أن بيع العنب بالزبيب نظير بيع التمر بالرطب على قول أبي حنيفة يجوز إذا تساويا كيلاً، أو على قولهما: لا يجوز، فعلى ما ذكره شمس الأئمة السرخي لا يحتاج إلى الفرق لأبي يوسف بين بيع العنب بالزبيب، وبين بيع الرطب بالتمر، وعلى ما ذكره هشام يحتاج الى الفرق.

والفرق: أن الرطوبة التي في الرطب من أجزاء التمر، ولهذا ينطلق عليه اسم التمر، ولو كانت الرطوبة شيئاً آخر وأجزاء التمر شيئاً آخر لكان لا ينطلق على الرطب اسم التمر كما لا ينطلق على العنب اسم الزبيب، فإذا اعتبرت الرطوبة من أجزاء التمر كانا شيئاً واحداً إلا أن المجانسة بينهما قائمة من وجه دون وجه، والمماثلة في الحال في مثل هذا لا يكتفي بجواز البيع، فأما الرطوبة التي في العنب ليست من أجزاء الزبيب ولهذا لا ينطلق على العنب اسم الزبيب، بل هما شيئان ماء وتفل فكانا كالسمسم مع الدهن.
وإذا باع الحنطة المبلولة بالحنطة اليابسة على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يجوز إذا تساويا كيلاً، وعلى قول محمد: لا يجوز هكذا ذكر في «الأصل» قال شمس الأئمة الحلواني في «شرحه» : إن الرواية محفوظة عن محمد أن بيع الحنطة اليابسة بالمبلولة إنما لا يجوز إذا ابتل وانتفخ، أما إذا لم ينتفخ بعد ولكن بل من ساعته يجوز بيعه باليابسة إذا تساويا كيلاً.
قال محمد رحمه: وهذا نظير زبيب يابس بزبيب قد بل بالماء عند أبي حنيفة يجوز هذا البيع إذا لم ينتفخ، وإذا انتفخ لا يجوز، وأما بيع الحنطة الرطبة بالحنطة اليابسة، ذكر بعض مشايخنا أنه على الخلاف المذكور في بيع الحنطة المبلولة بالحنطة اليابسة.

على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يجوز إذا تساويا كيلاً، وعلى قول محمد: لا يجوز، وبعضهم ذكر قول أبي يوسف في هذه المسألة مع قول محمد، فعلى قول هذا القائل يحتاج أبو يوسف إلى الفرق بين بيع المبلولة باليابسة وبيع الرطبة باليابسة.
والفرق: أن المبلولة مع اليابسة جنس واحد من كل وجه؛ لأن بالبل لم يزل الاسم ولا جنس منفعة، فإن المبلولة تصلح للطحن والزراعة كاليابسة إلا أنه يمكن فيه نوع نقصان، فإذا بقيت المجانسة من كل وجه كان الشرط جواز البيع المماثلة في الحال وقد وجدت.

(6/353)


وأما الرطبة مع اليابسة جنسان من وجه، وفي مثل هذا المماثلة لا تكفي، وأما بيع الحنطة المبلولة، فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يجوز إذا تساويا كيلاً، وكذا الزبيب المنقع بالزبيب المنقع والتمر المنقع، وفي بيع المقلية اختلاف المشايخ، والأصح إن تساويا كيلاً؛ لأن المجانسة بينهما فائته من وجه؛ لأن بالقلي يفوت جنس المنفعة بأصلها، وهي منفعة الزراعة والجنس والمماثلة الخالية في مثل هذا لا يكفي للجواز.
وأما بيع المقلية بالمقلية: فيجوز إذا تساويا كيلاً؛ لأن المجانسة بينهما قائمة من كل وجه، ويكتفي بجواز البيع بالمماثلة الخالية، ولا فرق في بين الحنطة بالدقيق متساوياً ومتفاضلاً؛ لأن المجانسة بين الحنطة والدقيق ثابتة من وجه دون وجه؛ لأن أثر الطحن في تفريق الأجزاء لا غير، والمجتمع لا يصير شيئاً آخر بالتفريق، ولهذا بقي حرمة ربا الفضل بين الحنطة والدقيق، وأما فائتة من وجه بدليل اختلاف الاسم والصورة والمعنى، والمماثلة الخالية في مثل هذا لا يكتفي للجواز.

وبيع الدقيق بالدقيق يجوز إذا تساويا كيلاً؛ لأن المجانسة بينهما قائمة من كل وجه، والاتفاق في القدر ثابت، فيجوز البيع عند التساوي كيلاً، كبيع الحنطة، وكبيع الدقيق بيان المجانسة ظاهر بيان الاتفاق في القدر أن الدقيق كيلي، فإنَّ الناس اعتادوا بيعه كيلاً، ولهذا جاز السلم فيه كيلاً، ويجوز بيعه في الذمة كيلاً، وكذا يجوز استقراضه كيلاً.
حكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل: أن بيع الدقيق بالدقيق إذا تساويا كيلاً إنما يجوز إذا كانا مكبوسين، وإذا باع الحنطة بالحنطة وزناً لا يجوز، والأصل: أن ما يثبت كيله بالنص لا يجوز بيعه بجنسه وزناً، كالحنطة بالحنطة، وما ثبت وزنه بالنص لا يجوز بيعه بجنسه وكيلاً كالدراهم (52ب3) بالدراهم كيلاً، وكالدنانير بالدنانير كيلاً، وما لا نص فيه، ولكن عرف كونه كيلاً على عهد رسول الله عليه، فهو مكيل أبداً، وإن اعتاد الناس بيعه وزناً في زماننا، وما عرف كونه موزوناً في ذلك الوقت، فهو موزون أبداً، وما لا يعرف حاله على عهد رسول الله عليه يعتبر فيه عرف الناس، فإن تعارفوا كيله فهو مكيل، وإن تعارفوا وزنه فهو وزني، وإن تعارفوا كيله ووزنه، فهو كيلي ووزني، وهذا كله قول أبي حنيفة ومحمد.
فأما على قول أبي يوسف: المعتبر في جميع الأشياء العرف سواء عرف كونه مكيلاً على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام أو موزوناً.
قال الشيخ الإمام: وأجمعوا على أن ما يثبت كيله بالنص إذا بيع وزناً بالدراهم يجوز، وكذا ما يثبت وزنه بالنص إذا بيع كيلاً بالدراهم يجوز.
وعن محمد في «المنتقى» في باب صفة تسليم الثمن بالثمن إن شراء البر وزناً لا يجوز، فإن أخذه رد مثله بكيل، فإن أكله قبل أن يكيله فالقول قوله أنه كذا كذا قفيراً مع يمينه، قال: وأستحسن في الثمن أن يجوز بيعه وزناً، أو كان الثمن بعينه، فيقول: أبيعك منه كذا رطلاً بدرهم.

وفي «المنتقى» أيضاً: في باب السلم الصحيح والفاسد رواية إبراهيم عن محمد لا تجوز الحنطة في السلم وزناً، وفي آخر هذا الباب، وقال أبو يوسف: لا بأس بالسلم في الحنطة بالوزن، وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف: إذا أسلم في التمر وزناً جاز استحساناً، وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة لا يجوز.
وفي «المنتقى» أيضاً: في باب القرض وصحته وبطلانه عن محمد: لا

(6/354)


تجوز الحنطة أن تقرض وزناً، فإن أخذه وأكله قبل أن يكيله، فالقول قول المستقرض أنه كذا كذا قفيزاً، وقال هشام: قلت لمحمد: إن التمر بالذي يباع وزناً، فما نقول فيمن أقرضه وزناً؟ قال: لا يصح ذلك؛ لأن أصله كيل.

وفي باب الربا من «المنتقى» : إذا باع تمراً بتمر كيلاً بكيل مثلاً بمثل، ويتفاوت الوزن يجوز، وإن كان وزناً بوزن مثلاً بمثل والكيل يتفاوت، ذكر في موضع من هذا الباب أنه يجوز؛ لأن التمر يكال، وذكر في موضع آخر من هذا الباب أنه لا يجوز، وفي هذا الباب أيضاً: إذا بيع رطل من سمن الغنم كيلاً برطل من سمن الغنم وزناً بالميزان، فالبيع باطل حتى يعلما قبل البيع أنهما سواء لا يختلفان لا كيلاً ولا وزناً.
والعسل والسمن والزيت على الوزن بالميزان إذا اتفق جاز، وإن كان يختلف في كيل الرطل، وفي هذا الباب أيضاً: وكل ما يوزن وما يكال فلا بأس ببيعه بجنسه كيلاً ووزناً وفي «الأصل» : ولا خير في بيع الحنطة بالحنطة مجازفة، قالوا: وهذا إذا كانت الحنطة بحيث يكال، فأما إذا كانت قليلاً يجوز بيع البعض بالبعض مجازفة.

وكذلك الجواب في كل مكيل أو موزون، وإن بيعت الحنطة بالحنطة مجازفة، ثم كيلاً بعد ذلك فكانا متساويين لا يجوز، فالأصل: أن في كل موضع اعتبرت المماثلة بين البدلين في المعيار الشرعي شرطاً بجواز العقد بشرط العلم بالمماثلة في المعيار وقت مباشرة العقد، ويجوز بيع الفضة بالفضة الكفة بالكفة، وإن لم يعلم مقدار كل واحد منهما؛ لأنا تيقنا بالتساوي في الوزن، وإن لم يعلم مقدار ذلك.
وفي «الأصل» : إذا باع قفيز حنطة بنصف قفيز هو أجود لا يجوز، وبهذه المسألة تبين أن أدنى ما يكون مال الربا من الحنطة نصف قفيز، وذكر شمس الأئمة السرخي في باب الصرف في شرح الأجارات: أن أدنى ما يجري فيه الربا من الأشياء المكيلة نحو الحنطة وأشباهها نصف صاع، وذلك مدّان، حتى لو باع مدّين من الحنطة بثلثه أيضاً من الحنطة فصاعداً لا يجوز ذلك، لكن إذا باع منوين بمنون من الحنطة، ومنوين من الشعير بمنوين من الشعير يجوز.
وكذلك لو باع نصف مَنّ الحنطة بمنوين فصاعداً يجوز.
وقد صح عن عبادة بن الصامت: أنه قال في خطبته بالشام: أيها الناس إنكم أحدثتم نوعاً لا يدري ما هي ألا وإن الحنطة بالحنطة مدين بمدين، وإن الشعير بالشعير مدين بمدين، وذكر في التمر والملح مثل ذلك، ثم قال: فمن زاد أو استزاد فقد أربى بهذا، تبين أن ماذكر محمد رحمه الله في «الأصل» أن أدنى مال الربا من الحنطة نصف قفيز أن المراد منه نصف صاع، أو يكون في المسألة روايتان، وإذا باع حنطة بحنطة، وفي كل واحد من الجانبين حبات شعير أنه لا يجوز إلا متماثلاً؛ لأن الشعير مغلوب فكان مستهلكاً.

(6/355)


في «الجامع» : في باب الدراهم المخلوطة، وذكر شمس الأئمة السرخي رحمه الله في شرح «الزيادات» : في باب الوصية بعد باب المهر قبل باب الحيض: إذا بيع شعير بالحنطة إن كان مثل ما يكون في الشعير يجوز، وإذا باع الدقيق بالدقيق وزناً لا يجوز كما لا يجوز بيع الحنطة بالحنطة وزناً، وبيع السويق بالسويق، وبيع النخالة بالسويق نظير بيع الدقيق بالدقيق.
وإذا باع دقيقاً منخولاً بدقيق غير منخول جازا تساوياً؛ لأنهما جنس واحد إلا أن أحدهما أجود، وبيع الحنطة بالسويق نظير بيع الحنطة بالدقيق، وبيع الدقيق بالخبز، وبيع الحنطة بالخبز يجوز متساوياً ومتفاضلاً بعد أن يكون يداً بيد، وهذا لأن المجانسة بين الخبز والحنطة، وإن كانت قائمة من وجه؛ لأن الخبز أجزاء دقيق قد طبخت، فالإتفاق في القدر فائت من وجه؛ لأن أحدهما كيلي والآخر عددي.
وفي مثل هذا لا يجرى الربا فالأصل أن الربا النقد لا يحرم إلا بوصفين، وهو القدر والجنس، ونعني بالقدر الكيل في المكيلات، والوزن في الموزونات، فإذا انفق البدلان جنساً وكيلاً، أو وزناً يحرم الفضل، وما لا فلا، وبيع أحدهما بالآخر مسألة من مسائل السلم نذكره في فصل السلم إن شاء الله تعالى.
وبيع الدقيق بالنخالة لا يجوز إلا على طريق الاعتبار عند أبي يوسف.
وتفسير الاعتبار، أن يكون النخالة الخالصة أكثر من النخالة التي في الدقيق، وقال محمد: لا يجوز إلا إذا تساويا كيلاً، أو تفاضلا، وعندهما يجوز تساوياً بعد أن يكون يداً بيد.
وإذا باع الزيت بالزيتون فهو على أربعة أوجه:
إما إن كان الدهن الخالص أكثر من الدهن الذي في الزيتون، وفي هذا الوجه البيع جائز، ويجعل الدهن الذي في الزيتون بمثله من الدهن الخالص، والباقي من الدهن الخالص بإزاء التفل، وإن كان الدهن الخالص مثل الدهن الذي في الزيتون لا يجوز البيع؛ لأن الدهن يصير بمثله، ويبقى التفل خالياً عن العوض فيكون الربا.

قالوا: وهذا إذا كان التفل في الآخر شيئاً له قيمة، وإن لم يكن له قيمة جاز البيع في هذا الوجه إذ لا يؤدي إلى الربا، وإن كان الدهن الخالص أثقل من الدهن الذي في الزيتون لا يجوز البيع إذ يبقى بعض الدهن خالياً عن العوض، وإن كان لا يدري لا يجوز لجواز أن الدهن الخالص مثل الدهن الذي في الزيتون أو أقل، والبيع، قال: الربا عند مقابلة الجنس بالجنس كما يبطل بفضل موهوم، ألا ترى أن بيع الحنطة بالحنطة مجازفة لا يجوز، وإنما لا يجوز بفضل موهوم.

وإذا باع دهن السمسم بالسمسم، أو العصير بالعنب، أو التمر الذي فيه نوى بالتمر الذي ليس فيه نوى، أو الرطب بالدبس، أو اللبن بالسمن، أو المحلوج بالقطن، أو لب الجوز بالجوز، فهو على ما ذكرنا في بيع الزيت بالزيتون، وهذا الذي ذكرنا قول علمائنا.
وقال مالك والشافعي: لا يجوز البيع، وإن كان المقدار أكثر في المسائل كلها،

(6/356)


والصحيح مذهب علمائنا؛ لأن في الزيتون والسمسم شيئين حقيقة الدهن والتفل، فيمكننا تجويز هذا البيع متى كان الخالص أكثر بأن يجعل ما في الزيتون زيت، والسمسم بمثله من الخالص (53أ3) والباقي بإزاء التفل كما بعد التميز، وكان القياس فيما إذا باع الزيتون بالزيتون، أو السمن بالسمن، أو الحنطة بالحنطة، أو التمر بالتمر متفاصلاً أن يجوز، ويصرف الجنس إلى خلاف الجنس؛ لأن في الزيتون تفل ودهن في الجانب الآخر كذلك، وفي التمر تمر ونوى وفي الحنطة دقيق ونخالة إلا أنا تركنا هذه الحقيقة بالنص، فإن النص لما أثبت الربا في هذه الأموال علمنا أنه أسقط اعتبار الحقيقة، وجعل الكل شيئاً واحداً؛ لأن الربا لا يتصور مع اعتبار هذه الحقيقة، وإذا اعتبر الكل شيئاً واحداً لا يجوز مع التفل بالزيادة من الخالص إلا باعتبار المماثلة؛ لأن التفل دهن حكماً لما اعتبر التفل مع الزيت شيئاً واحداً، ولم توجد المماثلة بين الزيادة، وبين الخالص، وبين التفل، فلا يجوز.

قلنا: والنص الوارد بإسقاط هذه الحقيقة في تلك الصورة لايكون وارداً فيما تنازعنا فيه؛ لأن فيما تنازعنا فيه تحقق الربا مع اعتبار هذه الحقيقة في جنس الأموال بأن يكون الدهن الخالص مثل الدهن الذي في السمسم أو أقل، وإذا كان الربا في المتنازع فيه تحقق في بعض الأموال مع اعتبار هذه الحقيقة لا ضرورة إلى إسقاط اعتبار هذه الحقيقة، فإذا لم يسقط اعتبار هذه الحقيقة حصل بيع الدهن الخالص بجنسه وبالتفل فالتقريب ما مر.
وفي «المنتقى» : ولا خير في القطن المحلوج بالقطن الذي فيه حبّ إلا مثلاً بمثل، وكذلك التمر بالتمر المشقوق، وإذا كان اشترى تمراً بنوى تمر لا يجوز إلا إذا كان في التمر من النوى أقل.
وكذا إذا اشترى قطناً بحب قطن، وكذا إذا اشترى دقيقاً غير منخول بنخالة، وإذا باع السمن بالزبد، فعن أبي حنيفة أنه أفسده على كل حال؛ لأن الزبد إذا حمل إلى النار انتقص.
قيل: لم لا تعامل الفضل بتفل الزبد إذا كان السمن الصافي أكثر؟ قال: لأن له قيمة، وقد مر جنس هذا فيما تقدم، وذكر المعلى عن أبي يوسف أنه كان يكره التمرة بالتمرتين، وكان يقول: كل شيء حرم منه الكثير فالقليل منه حرام، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله في «المجرد» في مئة جوزة بمائتي جوزة يداً بيد بأعيانهما يجوز.

وفي «الأصل» : لو باع تمرة بتمرتين، أو جوزة بجوزتين، أو تفاحة بتفاحتين، فالبيع جائز عندنا من غير ذكر خلاف.
فإن قيل: الجوز والبيض جعلا مثالاً في ضمان المستهلكات، فينبغي أن لا يجوز بيع الواحد باثنين.
قلنا: لا مماثلة بينهما حقيقة للتفاوت صغراً أو كبراً إلا أن الناس اصطلحوا على إهدار التفاوت، فيعمل بذلك في حقهم، وهو ضمان العدوان دون الربا الذي هو حق الشرع عليهم.

(6/357)


وإذا باع شاة بلحم، فإن كانت الشاة مذبوحة مسلوخة جاز إذا تساويا وزناً؛ لأن كل واحد منهما موزون، فقد باع موزوناً بجنسه متساوياً فيجوز، وأراد بالمسلوخة غير المفصولة عن السقط، وإن كانت مذبوحة غير مسلوخة لا يجوز إلا على سبيل الاعتبار بأن يكون اللحم المفصول أكثر؛ ليصير بعضه بإزاء السقط، وإن كانت حية فالقياس: أن لا يجوز إلا على سبيل الاعتبار، وهو قول محمد.
وعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يجوز من غير اعتبار؛ لأن الشاة مع اللحم المفصول جنساً مختلفاً عرفنا ذلك بالنص فإن الله تعالى قال: {فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر} (المؤمنون: 14) أي: بعد نفخ الروح، فعلمنا أن الحي جنس آخر غير الجماد، فجعلنا الشاة الحية مع اللحم جنسان نصاً، فيجوز بيع أحدهما بالآخر كما لو كانا جنسين حقيقة بأن باع لحم البقر بالشاة وما أشبهه.
وإذا باع ثوبا منسوجاً بالذهب الخالص لابد لجوازه من الاعتبار، وهو أن يكون الذهب المنفصل أكثر، وكان ينبغي أن يجوز البيع من غير اعتبار؛ لأن الذهب الذي نسج في الثوب خرج من أن يكون وزنياً، ولهذا لا يباع وزناً، وربا الفضل يعتمد المجانسة والمعيار، والجواب وهو الأصل في جنس هذه المسائل أن الناس متى تركوا الوزن في شيء للتعذر لا يخرج ذلك الشيء من أن يكون موزوناً.

ألا ترى أنه لو باع لبّ الجوز بالجوز لا يجوز إلا على طريق الاعتبار، والجوز عددي، واللب موزون، فينبغي أن يجوز البيع من غير الاعتبار، ولكن مثل اللب الذي في الحب موزون، وإن ترك الناس وزنه؛ لأنهم إنما تركوا للتعذر بسبب اتصاله بالقشر، فلم يخرجه من أن يكون موزوناً، فقد باع الموزون بجنسه وبشيء آخر فيشترط الاعتبار، ومتى تركوا الوزن في شيء مع الإمكان، فإنه يخرج من أن يكون موزوناً، فإنه لو باع قمقمة من حديد أو صفر ونحاس بقمقمتين من جنسها، وتلك القمقمة لا يباع وزناً، فإنه يجوز يداً بيد؛ لأن الناس تركوا وزنها مع الإمكان، وتركوا الوزن مع الإمكان ينسخ الاصطلاح على الوزن في هذه الأشياء ثبت باصطلاحها بخلاف قمقمة من ذهب أو فضة بقمقمتين من ذلك لا يجوز، وإن تعارفوا بيعاً عدداً؛ لأن صفة الوزن في الذهب والفضة منصوص عليها، فلا يتغير ذلك بالعرف، ولا يخرج من أن يكون موزوناً بالعادة.

إذا ثبت هذا فنقول: الذهب المنسوج لا يوزن لمكان التعذر، فترك الوزن فيه لا يخرجه من أن يكون مال الربا، فعلى هذا الأصل يخرج جنس هذه المسائل.
وفي «البقالي» : أن في الاعتبار الذهب في السقف روايتان، ولا يعتبر العلم في الثوب، وعن أبي حنيفة وأبي يوسف: أنه يعتبر وإذا اشترى شاة حية على ظهرها صوف بصوف منفصل لا يجوز إلا على طريق الاعتبار، أطلق محمد رحمه الله الجواب في المسألتين في «الأصل» .
قال الطحاوي رحمه الله: ما ذكر محمد من الجواب في المسألتين قوله، أما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يجوز هذا البيع من غير صفة الاعتبار، وجعلت هذه المسألة فرع مسألة بيع اللحم بالشاة؛ لأن الصوف ما دام على ظهر الشاة، واللبن في ضرعها،

(6/358)


فهو من أوصافها نظير اللحم الذي في الشاة، ومن المشايخ من قال: ما ذكر من الجواب في المسألتين قول الكل، وإطلاق محمد رحمه الله في «الكتاب» يدل عليه.

وفي «نوادر هشام» : قال: أخبرني محمد أن أبا يوسف قال: لا خير في صوف الشاة على ظهرها بصوف إلا أن يكون الصوف المنفصل أكثر من الصوف الذي على ظهر الشاة، فأما في اللبن فهو جائز؛ وإن كان اللبن أقل مما في ضرعها؛ لأن اللبن مكنون ليس بظاهر.
ذكر المعلى عن أبي يوسف في اللبن أنه لا يجوز أيضاً، وقال هشام: سألت أبا يوسف عن دورق عصير بدورق خل قال: لا بأس به، وأما دورق عصير بدورق.... لايجوز؛ لأن العصير لاينتقص إذا صار خلاً وينتقص إذا صار.... وروى أبو سليمان عن أبي يوسف في بيع العصير على خلاف رواية هشام، وذكر أبو سليمان في كتاب الحج عن محمد لابأس بالخبز قرص بقرصين يداً بيد، وإن كان بعض ذلك أكثر من بعض؛ لأن ذلك قد خرج من الكيل، وليس مما أصله الوزن.
ذكر أبو الحسن الكرخي أن ثمار النخيل كلها جنس واحد، قال عليه الصلاة والسلام: «التمر بالتمر» ، وهذا عام؛ ولأن الأصل متحد، والمقصود كذلك، وأما بقية الثمار، فثمرة كل نوع من الشجر جنس واحد كالعنب كلها جنس واحد، وإن اختلفت أنواعها، وكذلك الكمثرى كلها جنس واحد، وإن اختلفت أنواعها، وكذلك التفاح كلها جنس واحد حتى لم يجز بيع نوع من العنب متفاضلاً، وعلى هذا التفاح والكمثرى، ويجوز بيع الكمثرى بالتفاح متفاضلاً، وكذا بيع (53ب3) التفاح بالعنب متفاضلاً.
واللحوم معتبر بأصولها، فالبقر والجواميس جنس واحد لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً، وكذلك الغنم جنس واحد ضأنها ومعزها.
وزاد في «المنتقى» : والضأن والمعز جنس واحد في اللبن واللحم، ولو باع لحم الغنم بلحم البقر متفاضلاً يجوز عندنا اعتباراً بالأصول، وكذلك لو باع لبن الغنم بلبن البقر متفاضلاً يجوز، ويعتبر في اللبن الأصول أيضاً كما في اللحم.

وفي «نوادر ابن سماعة» : عن أبي يوسف في لبن المخيض مع لبن الحليب إذا كان المخيض اثنان والحليب واحداً لا بأس به، وإن كان المخيض واحداً، والحليب اثنان فلا خير فيه من قبل أن الحليب فيه زيادة زبد.

(6/359)


وقيل أيضاً: فيما إذا كان الحليب اثنان فلا خير فيه من قبل أن الحليب فيه زيادة زبد.
وقيل أيضاً: فيما إذا كان الحليب اثنان إن كان الحليب بحيث لو أخرج زبده نقص من رطل فهو جائز، وإن كان لا ينقص فلا خير فيه.
وفي «نوادر بشر» : عن أبي يوسف: أن الزبيب جنس واحد، وإن اختلفت ألوانه وأجناسه، وفيه أيضاً: لحوم الطير وما لا يوزن من اللحمان فلا بأس به واحد باثنين؛ لأنه لا يوزن، فإن كان في جنس منه يوزن فلا خير فيما يوزن منه إلا مثلاً بمثل، قال: وكل يصير لا يوزن فيه بأس بأن يباع هناك طابق بطابقين إنما أنظر إلى حال بلده في ذلك.
والحديد والرصاص والصفر والشبه أجناس لاختلاف المقاصد والاسم والصورة والمروي مع المروي جنسان مختلفان لاختلاف المقصود والصورة.
وكذلك الثوب المتخذ من القطن مع الثوب المتخذ مع الكتان، إما لاختلاف الأصل أو لاختلاف الصنعة على وجه أوجب اختلاف الاسم والمقصود، وكذلك الزبد مع الوداري جنسان مختلفان، ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح بيوعه، والمعنى ما ذكرنا.
وفي «المنتقى» : ولا يصلح غزل قطن ابن بغزل قطن حسن إلا مثلاً بمثل القطن سواء، وإنما نفرق بينهما بالنسج، ولا بأس بغزل قطن بغزل قطن كتان واحداً باثنين يداً بيد.
وكذلك غزل خز بغزل قطن، وكذلك شعر بغزل صوف لا بأس به واحداً باثنين يداً بيد، والإلية واللحم جنسان يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً، وكذلك الإلية وشحم البطن جنسان وشحم الجنب من جنس اللحم وهو مع الألية، وشحم البطن جنسان، ولا يجوز بيع غزل القطن بالقطن متساوياً؛ لأن القطن ينقص بالغزل.

فهو نظير الحنطة مع الدقيق، والخل مع الزيت جنسان لاختلاف أصلها، وإذا كان أصلهما واحداً، واختلف المضاف إليه كانا جنسين كالبنفسج مع.... ويجوز بيع قفيز سمسم مربى بقفيزي سمسم غير مربى، والزيادة بإزاء الرائحة؛ لأن الرائحة بمنزلة الزيادة في عينها، وقال أبو يوسف: إنما يعتبر الرائحة إذا كانت تزيد في وزنه بحيث لو خلص نقص؛ لأنه إذا كان بحال ينقص لو خلص نقص؛ لأنه علم أن ذلك زيادة في عينه، أما إذا كان لا ينقص لو خلص لم يكن ذلك زيادة في عينه فلا يعتبر.
وفي «المنتقى» : وإذا باع مكوك سمسم مربى ببنفسج بخمس مكاييل سمسم غير مربى يداً بيد يجوز، وإن كان المربى مثله في الكيل لا يجوز وكذلك سويق ملتوت بسمن أو محلى بسكر بسويق غير ملتوت وغير محلى.

وفي «المنتقى» عن أبي يوسف: أن الصوف والمرعزي جنسان لا بأس به واحداً باثنين يداً بيد، والصوف مع الشعر جنسان أيضاً، والقز مع الابريسم كالدقيق مع الحنطة،

(6/360)


وعن محمد جواز بيع غزل القطن بالقطن متساوياً، وعن أبي يوسف: أنه لا يجوز إلا إذا كان القطن أكثر، وعلى هذا بيع الصوف بغزله.
وفي «البقالي» : عن أبي حنيفة جواز التفاضل في الماء، وعن محمد خلافه، وعن أبي يوسف لا خير في الجبن باللبن؛ لأن الجبن لم يخرج عن حد الوزن كما خرج الخبز من حد الكيل والفلوس من حد الوزن، ولا بأس بالسمن بالجبن.
وفي «الأصل» : وإذا باع حنطة قد أدرك في سنبلها بحنطة منقاة خرصاً لا يجوز.

قال شيخ الاسلام في «شرحه» : إذا كانت الحنطة المنقاة مثل الحنطة في سنبلها أكثر أو أقل، أو لا يدري، أما إذا كانت أكثر يجوز قال عليه الصلاة والسلام: «الناس شركاء في ثلاث في الماء والكلأ والنار» ؛ والمراد من الماء المذكور في الحديث الماء الذي في الآبار والأنهار؛ لأن هذا الماء وجد بإيجاد الله تعالى في مكانه، فبقي على الإباحة على أصل الخلقة حتى يؤخذ في الجرار، فإذا أخذه وجعله في جرة، أو ما أشبهها من الأوعية، فقد أحرزه فصار أحق به، فيجوز بيعه وتصرفه فيه كالصيد الذي يأخذه، فأما بيع ما جمعه الإنسان في حوضه من الماء ذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده في شرح كتاب الشرب: أن الحوض إذا كان مجصصاً، أو كان الحوض من نحاس أو صفر جاز البيع على كل حال، فكأنه جعل صاحب الحوض محرزاً الماء بجعله في حوضه، ولكن بشرط أن ينقطع الجري حتى يختلط المبيع بغير المبيع، وإن لم يكن الحوض من الصفر أو النحاس، ولم يكن مجصصاً، فقد اختلف فيه على حسب اختلافهم في الجمد في المجمدة في الصيف على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله.
قال رحمه الله: والمختار في هذه المسألة أنه إن سلم أولاً على سوم البيع، ثم باع بعد التسليم جاز، وإن باع أولاً ثم سلم لا يجوز؛ لأن الحوض ينصب شيئاً من الماء، فيهلك بعض المبيع، فإذا كان البيع أولاً كان الهلاك قبل القبض، فتسقط حصته من الثمن، وقدر الهلاك مما لا يعرف، فتكون حصة الباقي من الثمن مجهولة، وإنها توجب فساد العقد.
ورأيت في موضع آخر إن كان صاحب الحوض ملأ الحوض من ساحة نهر لا يجوز بيعه؛ لأنه لم يصر محرزاً له بحوضه فإنما باع ما لم يملك وإن كان ملأه ماء بجرة، أو بالقربة جاز البيع؛ لأنه ملكه بالإحراز بالجرة أو بالقربة، فقد باع ما ملكه فجاز.
وأما بيع الجمد في المجمدة إن كان البيع في الشتاء وكان الجمد بحيث لا يذوب في ذلك الوقت ولا ينتقص يجوز، وإن كان البيع في الصيف، فقد أنكره بعض مشايخ بلخ، وقال: لا يجوز على كل حال.
وقال الفقيه أبو بكر الإسكاف: إن يسلم أولاً على سوم البيع، ثم باع بعد التسليم

(6/361)


يجوز البيع، وإن باع أولاً، ثم سلم لا يجوز؛ لأنه في زمان الصيف يذوب بعض الجمد، فيهلك بعض المبيع، فإذا كان البيع أولاً كان الهلاك قبل التسليم، ولا يدري قدر الهلاك حتى يسقط حصة من الثمن، فيكون ثمن الباقي مجهولاً، وإنها توجب فساد المبيع، وهذا المعنى لا يتأتى فيما إذا كان التسليم أولاً.
كان الفقيه أبو جعفر رحمه الله: يفتي بالجواز على كل حال لتعامل الناس، وكان الفقيه أبو نصر محمد بن محمد سلام البلخي يقول: يجوز البيع بعد التسليم وقبل التسليم إذا لم يتخلل بين البيع والتسليم مدة طويلة بأن سلم بعد البيع بيوم أو يومين، أما لو سلم بعد ثلاثة أيام لا يجوز؛ لأن قدر ما يذوب في المدة القصيرة ساقط الاعتبار فيما بين الناس، فصار وجوده والعدم بمنزلة، وعلى هذا أكثر مشايخ ما وراء النهر.
ثم إذا جاز البيع يثبت للمشتري خيار الرؤية إذا رآها حين وقع التسليم، فإن رآها بعد ما وقع التسليم، فإن وقع التسليم لتمام ثلاثة أيام لم يكن له خيار الروية، وإن وقع التسليم بعد ذلك يبقى خيار الرؤية إلى تمام ثلاثة أيام من وقت العقد.
ذكر الصدر الشهد رحمه الله في الباب الأول من بيوع «واقعاته» وفي كتاب الشرب: إذا باع الشرب وحده لا يجوز، وإذا باع الشرب (54أ3) مع الأرض يجوز، إذا باع أرضاً مع شرب أرض آخر، لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل، وحكي عن الفقيه أبي نصر محمد بن محمد بن سلام: أنه يجوز.

قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله في «الكتاب» : ولو قال: بعت منك هذه الأرض بألف درهم، وبعت منك شربها هل يجوز بيع شرب؟ اختلف المشايخ فيه، في شرب شيخ الإسلام: وإذا اشترى كذا كذا قربة من الفرات جاز استحساناً، فإذا كانت القربة نفسها لتعامل الناس قيل: إنما يجوز إذا تبين مكان رفع نحو ما فكاه كنش؛ لأن.... أو أشباه ذلك.
وذكر الحسن بن زياد في «المجرد» عن أبي حنيفة في رجل اشترى من سقّا كذا وكذا قربة بدرهم من ماء دجلة على أن يوفيها في منزله كان جائزاً، إذا كانت قربة بعينها، وكذلك إذا قال: بعني كل راويتين من ماء دجله بدرهم على أن يوفيها في منزلي، وروى ابن أبي مالك عن أبي حنيفة أن هذا البيع فاسد لوجهين:

أحدهما: أن الماء ليس عنده.
والثاني: أن القربة وعاء إذا ضاعت لا يعرف ما مقدارها، وإذا قال لغيره: اسق دوابي كذا شهراً بدرهم لم يجز، ولو قال: كل شهر كذا قربة فهو جائز إذا أراه القربة، ولو قال لغيره: أسقيك ملاء قرابك ماء ففتح له من نهره وسقاه فلا شيء له، ولو قال: اسقِ دوابك من نهري، أو من حوض كذا فذلك جائز.

(6/362)


نوع آخر في جهالة المبيع أو الثمن
جهالة المبيع أو الثمن مانعة جواز البيع إذا كان يتعذر معها التسليم، وإن كان لا يتعذر لم يفسد العقد كجهالة كيل الصبرة بأن باع صبرة بعينه، ولم يعرف قدر كيلها، وكجهالة عدد الثياب المعينة بأن باع أثواباً معينة، ولم يعرف عددها، وهذا لأن الجهالة ما كانت مانعة لعينها، بل للإفضاء إلى المنازعة المانعة من التسليم والتسليم ينعدم عند ذلك ما هو فائدة العقد، فإذا لم يكن مانعة من التسليم والتسليم، فقد انعدم المعنى الذي لأجله صارت الجهالة مفسدة للعقد، فينعدم الفساد.
قال محمد في «الجامع الصغير» : رجل اشترى من آخر ثوباً كل ذراع بدرهم، ولم يعلم قدر جملة ذرعان الثوب، فاعلم بأن ههنا أربع مسائل:

إحداها: في العدديات المتفاوتة كالأغنام والبناءات.
وصورة المسألة فيها: إذا أشار الرجل إلى قطيع من الغنم أو إلى جراب هروي قال: بعتك كل شاة منها بعشرة، أو قال: بعتك كل ثوب منها بعشرة، فهذا على ثلاثة أوجه:
الأول: أن يبين جملة عدد الأغنام والثياب، ولم يبين جملة الثمن بأن قال: بعت منك هذا القطيع، وهي مئة شاة كل شاة منها بعشرة، أو قال: بعتك هذا الجراب، وهي مئة ثوب كل ثوب بعشرة، ولم يبين جملة الثمن بأن لم يقل: بألف، وفي هذا الوجه يجوز البيع بإجماع؛ لأن المبيع صار معلوماً بالإشارة والتسمية وجملة الثمن أيضاً معلوم حالة العقد؛ لأنها لما بينا عدد الأغنام مئة وبينّا لكل غنم عشرة فكأنهما قالا: بعتك هذه الأغنام، وهي مئة بألف درهم كل غنم بعشرة، فالبيع معلوم، والثمن معلوم فيجوز.
الوجه الثاني: أن يبين جملة الثمن، ولم يبين عدد الأغنام بأن قال: بعتك هذه الأغنام بألف درهم كل غنم منها بعشرة، أو قال: بعتك هذا الجراب بألف درهم كل ثوب منه بعشرة، وفي هذا الوجه يجوز البيع أيضاً؛ لأن جملة الثمن صارت معلومة بقوله: ألف، وكذلك ثمن كل شاة صار معلوماً بقوله: كل شاة بعشرة، والمبيع صار معلوماً بالإشارة حيث قال: بعتك هذه الأغنام، فالاشارة إلى المبيع، أو إلى مكان المبيع كافية للأعلام، وإن كان لا يعلم ما هو وما مقداره كما لو قال: بعتك جميع ما في هذا البيت، بعتك جميع ما في كفي، فإن هذه الصورة يجوز البيع، ويصير المبيع معلوماً بالإشارة.

الوجه الثالث: إذا لم يبين جملة الثمن، ولا جملة الأغنام أو الثياب، وإنما بين حصة كل ثوبٍ بأن قال: بعتك هذا القطيع كل شاة منها بعشرة، أو قال: بعتك هذا الجراب كل ثوب منها بعشرة، وفي هذا الوجه لا يجوز العقد أصلاً أن يعلم عدد الأغنام في المجلس، فينقلب العقد جائزاً، وكان للمشتري الخيار إن شاء أخذ بما ظهر له من الثمن، وإن شاء ترك، وعلى قول أبي يوسف ومحمد: العقد جائز في الكل، ولا خيار للمشتري إن كان قد رآه.

(6/363)


المسألة الثانية: في المكيلاًت والموزونات: صورتها: إذا أشار إلى صبرة وقال: بعتك هذه الصبرة كل قفيز منها بعشرة، فهو على ثلاثة أوجه أيضاً: إن بين عدد القفزان وبين ثمن كل قفيز إلا أنه لم يبين جملة الثمن، أو بين جملة الثمن، وبين ثمن كل قفيز إلا أنه لم يبين عدد جملة القفزان بأن قال: بعت منك هذه الصبرة كل قفيز منها بدرهم، فالعقد جائز بالإجماع.
وإن بين ثمن كل قفيز ولم يبين عدد جملة القفزان ولا جملة الثمن بأن قال: بعت منك هذه الصبرة كل قفيز منها بدرهم، فالعقد جائز عند أبي حنيفة في قفيز واحد، ولا يجوز فيما زاد على ذلك إلا أن يعلم عدد القفزان في المجلس، فيجوز البيع في الكل، وكان للمشتري الخيار، وعلى قول أبي يوسف ومحمد: البيع جائز في الكل.
المسألة الثالثة: في العدديات المتقاربة: والجواب فيها كالجواب في المكيلات والموزونات.
لأن العدديات المتقاربة ألحقت بالمكيلات والموزونات، وصورتها: إذا قال الرجل لغيره: بعت منك هذه الجوزات كل جوزة بفلس.

(المسألة) الرابعة: في الذرعيات صورتها: إذا قال لغيره: بعت منك كل ذراع من هذه الدار بدرهم، أو قال: من هذا الثوب بدرهم، والجواب فيها كالجواب في الأغنام؛ لأن الذرعان من الدار الواحدة مما يتفاوت في نفسها من حيث القيمة، وكذلك الذرعان من الثوب الواحد مما يتفاوت في نفسها من حيث القيمة، فإن الذراع من مقدم البيت والثوب يكون أكثر قيمة من الذارع من مؤخر البيت أو الثوب، فصار الجواب فيها كالجواب في الأغنام من هذا الوجه.
فوجه قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: أنه لو لم يجز هذا البيع إنما لم يجز؛ لأن جملة الثمن ليست بمعلومة الحال إلا أن طريق تحصيل العلم قائم بالرجوع إلى عدد الأغنام من غير مشقة، فإنه إذا عد الأغنام يصير جملة الثمن معلومة، والجهالة إذا كانت مشتركة يمكن رفعها من غير مشقة لا يفسد العقد كما لو باع بوزن هذا الحجر ذهباً.
ولأبي حنيفة: إن كلمة كل إذا دخلت على ما لا يعلم نهايته يتناول الواحد من تلك الجملة كما في قوله: أجرتك هذه الدار كل شهر، وكما في قوله لامرأة الغير: كفلت لك عن زوجك نفقة كل شهر، وإذا تناول واحداً من الجملة صار بائعاً شاة واحدة من القطيع وثوباً من الجراب وذرعاً واحداً من الثوب أو الدار وقفيزاً واحداً من الصبرة وجوزاً واحداً من الجوزات الكبيرة، إلا أن بيع شاة واحدة من القطيع، وبيع ثوب واحد من الجراب، وبيع ذراع من الثوب أو من الدار لا يجوز بيع قفيز واحد من الصبرة يجوز فكذا ههنا.

وعبارة بعض مشايخنا لأبي حنيفة في المسألة: أنه لا وجه إلى تجويز البيع في الكل في العدديات المتفاوتة، وما ألحق بها؛ لأن ثمن الكل مجهول في الحال، ولا وجه إلى تجويز في واحدة منها، وإن كان ثمن الواحدة منها مجهولة في نفسها لكونها (54ب3) متفاوتة.
ألا ترى أنه لو باع واحدة من القطيع أو واحداً من الجراب لا بعينها لم يجز.

فأما في المكيلاًت والعدديات المتقاربة إن تعذر تجويز البيع في الكل؛ لأن ثمن الكل مجهول أمكن تجويز البيع في واحدة؛ لأن ثمنها معلوم بالقسمة والواحدة منها معلوم

(6/364)


أيضاً؛ لأنه غير متفاوت في نفسه؛ لأنه من ذوات الأمثال.
ألا ترى لو باع قفيزاً من الصبرة في الابتداء بثمن معلوم جاز ذلك كان القياس أن يجوز البيع في الثاني والثالث من القفزان مما لا يتفاوت في نفسها لكن تركنا القياس فيما زاد على الواحدة؛ لأنا لو عملنا بالقياس، وجوزناً البيع في الثاني والثالث لزمنا تجويزه في الكل إذ ليس الثاني والثالث بأولى من الرابع والخامس؛ لأن الثاني والثالث تبع للكل كالرابع والخامس، فيؤدي إلى تجويز البيع في الكل مع أن ثمن الكل مجهول.
أما تجويز البيع في الواحد لا يؤدي إلى تجويز البيع في الثاني والثالث؛ لأن الأول يتصور بدون الثاني والثالث فتجويز البيع في الواحد لا يؤدي تجويز البيع في الكل فلهذا افترقا، وليس كما لو كان الثمن دراهم مشار إليها؛ لأن المشار إليه معلوم من كل وجه بالإشارة كما في جانب البيع.

ألا ترى أنه يمكن للمشتري أخذ المشار إليه من غير رجوع إلى شيء، ولا يمكن للبائع أخذ جميع الثمن ههنا إلا بعد الرجوع إلى عد الأغنام، وكذا إذا أشار الحجر لأن الحجر معيار للدراهم؛ لأنها يوزن به فصارت الإشارة إلى معيارها كالإشارة إليها، وهاهنا لم وجد الإشارة الى جملة الثمن، ولا الى معيار؛ لأن القطيع ليس معياراً للثمن؛ لأنه لا يوزن به، ولم يوجد تسمية جملة الثمن، فبقي جملة الثمن مجهولة إلا أن هذه جهالة يتوهم زوالها بعد الأغنام، فقلنا بفساد العقد للحال و.... علم عدد الأغنام في المجلس فأثبتنا الخيار للمشتري؛ لأن الثمن كان مجهول القدر عنده، وإنما صار معلوماً بعد الأغنام، فيخير كما لوكان المبيع مجهول الوصف، وزالت الجهالة بالرؤية، ويسمى هذا خيار بكشف الحال لو رضي به المشتري، فليس للبائع أن يأبى، ثم شرط في «الكتاب» بجواز هذا العقد إن علم عدد الأغنام في المجلس؛ لأن ساعات المجلس لها حكم ساعة واحدة في حق العقد، فصار كأنها إنشاء العقد في الحال، فكان طريق تجويز العقد طريق رافع للفساد، فأما ساعات بعد الافتراق عن المجلس مع ساعات المجلس ليس لها حكم ساعة واحدة ليجعل كأنها إنشاء العقد، فكان طريق تجويز العقد طريق رفع الفساد، ورفع الفساد إنما يجوز في موضع كان الفساد بسبب شرط في العقد كأجل مجهول، أو خيار يزيد على الثلاث لا في موضع الفساد في صلب العقد، والفساد ههنا في صلب العقد.

وبعض مشايخنا قالوا: إن عند أبي حنيفة إذا علم عدد الأغنام في المجلس، أو بعد الافتراق عن المجلس ينقلب العقد جائزاً على كل حال، وهذا القائل يقول: ذكر المجلس في الباب وقع اتفاقاً.
وقال شمس الأئمة الحلواني: الأصح عندي أن على قول أبي حنيفة، وإن علم عدد الأغنام في المجلس ينقلب العقد جائزاً، ولكن إن كان البائع دائماً على رضاه ورضي به

(6/365)


المشتري ينعقد بينهما عقد مبتدأ بالتراضي.

وسيأتي مثل هذا فيما إذا باع شيئاً برقمه هذا الذي ذكرنا إذا قال: كل شيء بعشرة، أو قال: كل ذراع، أو قال: كل قفيز، فأما إذا قال: كل شاتين بعشرة، ففي الأغنام، وما أشبهها من العدديات المتفاوتة لا يجوز البيع عندهم في الوجوه الثلاث بأن بين عدد الأغنام، أو لم يبين جملة عدد الأغنام ولا جملة الثمن، وإنما قال: كل شاتين بعشرة، وهذا لأن ثمن كل شاة ههنا غير معلوم بنفسها بل يحتاج إلى ضم شاة أخرى إليها، ثم يقسم العشرة إلى قيمتها ولا يعرف كيفية الضم أنه ضم الجيد إلى الجيد أو الرديء إلى الجيد والوسط، فيبقى ثمن كل واحدة مجهولاً، وهذه جهالة مفضية إلى المنازعة، فإنه إذ وجد بشاة أو ثوب عيباً بعد القبض يرد المعيب خاصة، ويتمكن المنازعة بينهما في ثمنه، وكذا إذا هلك أحدهما قبل القبض أو تقايلا البيع في واحدة، أو استحق واحد، فعرفنا أن هذه الجهالة تفضي إلى المنازعة، فيفسد العقد بينهما.
وفي المكيل والموزون وما ألحق بهما من العدديات المتقاربة إن بين جملة عدد القفزان، ولم يبين جملة الثمن أو بين جملة الثمن، ولم يبين جملة عدد القفزان، فالبيع جائز عندهم جميعاً؛ لأن أكثر ما فيه أن كل قفير مبيع لا يعرف ثمنه إلا بانضمام غيره إليه إلا أن القفيز الذي يضم إليه مما لا يتفاوت في نفسه بخلاف الشاة على ما بينا.
ألا ترى أنه لو باع قفيزين من صبرة بعشرة كان جائزاً، ولو باع شاتين من قطيع بعشرة لا يجوز، وإن لم يبين واحداً منهما، ولكن قال: بعتك هذه الصبرة كل قفيزين منها بعشرة بحيث أن تكون المسألة على الخلاف على قول أبي حنيفة: يجوز البيع في قفيزين منها بعشرة، ولا يجوز فيما زاد على ذلك إلا أن يعلم عدد القفزان في المجلس، وعلى قول أبي يوسف ومحمد يجوز في الكل كما لو قال: كل قفيز منها بدرهم، وعلى هذا إذا قال: كل ثلاثة بكذا.

ولو أشار إلى نوعين حنطة وشعير، وقال: أبيعك بهاتين الصبرتين كل قفيز منها بدرهم صح العقد على قفيز واحد منهما في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: يجوز في الصبرتين.

وفي «المنتقى» : رجل قال لآخر: بعتك هذه السفين الآجر كل ألف بعشرة دراهم، فالبيع فاسد؛ لأن البيع وقع على جميعه ولا يدري إن أصاب ببعضها عيب ما حصته؛ لأن الآجر متفاوت، ولو قال: أبيعك منه ألفاً بعشرة، فإن عد له الألف ثم البيع فيها، ولكل واحد منهما أن يمنع من البيع ما لم يعد له.
وفي «نوادر ابن سماعة» : قال: سألت محمداً عن رجل دنى إلى وقر بطيخ وقال: بكم عشر بطيخات من هذه البطيخات بغير عينها، فقال: بكذا، فاشترى، ثم عزله البائع بعشر بطيخات وحملها المشتري ومضي على ذلك القول، والبطيخ متفاوت قال: هو جائز استحساناً بمنزلة رجل قال للقصاب: بعني من هذا اللحم كذا، فباعه منه وقطع له منه واحدة على ذلك، فالبيع جائز.

(6/366)


وكذلك الرمان وهذا لأن البائع لما عزل كان ذلك منه بمنزلة ابتداء العقد فان قبل المشتري، ثم البائع إلا أن قال: ثمة ولو أتى إلى مائة شاة وقال لصاحبها: بكم عشرة منها قال: بكذا، فاشترى فالبيع باطل.
قالوا: وعلى قياس مسألة البطيخ والرمان يجب أن يقال: إذا عزل البائع عشرة منها وحملها المشتري ومضى على ذلك أنه يجوز، وعلى قياس مسألة الشهادة يجب أن يقال في البطيخ والرمان: إذا لم يعزل البائع أو عزل، ولكن لم يقبل المشتري أنه لا يجوز، فإذاً لا فرق بين هذه المسائل.
وفي «المنتقى» : رجل معه درهم قال لغيره: اشتريت منك هذا الثوب مثلاً بهذا، وأشار إلى ما معه من الدرهم، فباعه فوجده زيوفاً، فالبيع فاسد، رجل قال لغيره: بعت منك هذه المئة الشاة بهذه المئة الشاة كل شاة منها بشاة فالبيع فاسد.
رجل قال لآخر: بعت منك هذه البقرة، وهي حية كل رطل بدرهم، فقبضها فضاعت منه ضمن قيمتها أشار الى فساد هذا البيع، وعند محمد فيمن قال لآخر: بعتك هذه الشاة كل ثلاثة أرطال بدرهم توزن حية، فالبيع باطل؛ لأنها تنقص وتزيد، وكذلك إذا قال: وزنها خمسون رطلاً، فاشترى منه كل ثلاثة أرطال بدرهم، وكذلك إذا قال: بعت منك هذه الرمانة؛ لأنها قد تنقص.
وفي «القدوري» : إذا قال الرجل لغيره: بعت منك هذا اللحم كل رطل بكذا، فالبيع فاسد في الكل عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: البيع جائز في الجميع، ولا خيار له.
والخلاف في هذا نظير الخلاف فيما إذا قال: بعت (55أ3) منك هذا القطيع كل شاة منها بدرهم، وإنما لم يجز البيع في رطل واحد عند أبي حنيفة بخلاف مسألة الصبرة؛ لأن القفزان من الصبرة لا يختلف، فيمكن تجويز العقد في قفيز واحد؛ لأن ثمنه معلوم، أما موضع اللحم من الشاة مما يختلف، فلا يمكن تجويز العقد في رطل واحد، ولو باع شيئاً بربح ده يازده، فالبيع فاسد حتى يعلم المشتري فيختار أو يدع.

وهذه رواية ابن رستم عن محمد، وهذا لأن الثمن مجهول عند المشتري جهالة يمكن بإعلام فقيل بالفساد في الحال لمكان الجهالة وقيل: الجواز إذا زالت الجهالة عملاً بالأمرين.
وروى ابن سماعة عن محمد: أن البيع جائز وتأويله أنه موقوف يحكم بالجواز عند ارتفاع الجهالة بدليل ما فسر أنه لو هلك ذلك الشيء، أو باعه، فالبيع فاسد ويلزمه قيمته، فهذا الدليل على أن العقد محكوم بفساده الى أن تزول الجهالة.
وقال أبو يوسف: إن مات البائع قبل أن يرضى المشتري، وقد قبض أو لم يقبض انتقض العقد؛ لأن رضى المشتري ههنا بمنزلة الإجازة في العقد الموقوف، ثم في

(6/367)


الإجازة يشترط قيام المتعاقدين والمعقود عليه كذا ههنا.

ولو قبض المشتري أو باعه قبل العلم، أو مات المشتري، فالعتق والبيع جائز وعليه القيمة، أما جواز العتق والبيع فلحصولهما في ملك المعتق والبائع، أما وجوب القيمة فلتقرر الفساد، وبإزالة العتق عن ملكه قبل العلم بالثمن، ولو أعتق بعدما علم برأس المال، فعليه الثمن؛ لأن الجهالة زالت، فزال الفساد إلا أن المشتري كان له الخيار، وقد يسقط خياره بالإعتاق فلزمه الثمن.
ولو كان عتق عليه بحكم القرابة، ولم يكن علم بالثمن حتى قبضه، فعليه القيمة؛ لأنه لا فرق بين الإعتاق والعتق عليه فيما يرجع إلى فوات المحل فيقرر الفساد.
وفي «الأصل» : إذا قال: أخذت هذا منك بمثل ما يبيع الناس فهو فاسد، ولو قال بمثل ما أخذ به فلان من الثمن، فإن علما مقدار ذلك وقت العقد فالبيع جائز، وإن لم يعلما فالعقد فاسد، فإن علما بعد ذلك إن علما وهما في المجلس ينقلب العقد جائزاً، أو يتخير المشتري؛ لأن ما يلزم المشتري من الثمن إنما يظهر للحال وهذا خيار يكشف حاله.
وقد مر نظير هذا فيما تقدم، وإذا اشترى شيئاً برقمه، فالعقد فاسد، فإن علم بعد ذلك إن علم في المجلس جاز العقد، وكان الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني يقول: وإن علم بالرقم في المجلس ينقلب ذلك العقد جائزاً، ولكن إن كان البائع على ذلك الرضا ورضي به المشتري ينعقد بينهما عقد ابتداء بالتراضي.
وفي «نوادر بشر» : عن أبي يوسف: رجل له على رجل عشرة دراهم، فقال لمن عليه العشرة: بعني هذا الثوب ببعض العشرة وبعني هذا الآخر بما بقي، فقال: نعم قد بعتك، فهو جائز، وإن قال: هذا ببعض العشرة قال: لا يجوز.
وقيل: ينبغي أن لا يجوز في الوجهين؛ لأن ثمن كل واحد منهما مجهول، وهذه الجهالة مفضية إلى المنازعة، فإنه إذا وجد بأحدهما عيباً بعد القبض يرد المعيب خاصة ويتنازعان في ثمنه.
وفي «المنتقى» : إذا باع عدل بز برقمه، ثم باعه البائع قبل أن يتبين الثمن الأول، فبيعه جائز من الثاني، ولو أخبره بالثمن، فلم يختر أخذه حتى باعه البائع من غيره لم يجز بيعه الثاني، وأشار إلى الفرق، فقال: لأن في الفصل الثاني أوجب البيع الأول، وهو فيه بالخيار يعني الأول، يريد بهذا أن البيع قد صح من الأول لما أخبر البائع الأول بالرقم إلا أنه له خيار يكشف الحال، وإذا صح البيع من الأول صار العدل ملكاً للأول، فالبيع الثاني صادف ملك الأول، فلم يصح قال: وفي الفصل الأول لم يتبين له الثمن، فكان له الخيار، يريد به أنه إذا لم يتبين الثمن الأول فاسداً، فيكون للبائع خيار نقضه، والبيع الثاني نقض الأول مقتضاه سابقاً عليه، فكان البيع الثاني مصادفاً ملك البائع فيصح.
ثم قال عقيب هذه المسألة: ألا ترى لو استهلكه بعدما أخبره كان عليه الثمن، ولو استهلكه قبل أن يخبره بالثمن، فعليه القيمة، ثم قال: كل بيع يكون على المشتري فيه القيمة فللبائع أن ينقضه وأن يبيعه قبل أن يسلمه، وكل بيع يكون على المشتري فيه الثمن،

(6/368)


ويكون له فيه الخيار، فليس للبائع أن ينقضه، وإذا كان البيع بالتولية أو برقمه، ولا يعلم رأس ماله فهو بمنزلة البيع الفاسد في حكم الضمان، وفي حكم النقض إلا أنه يخالف البيع الفاسد من وجه. وفي البيع الفاسد إذا قال البائع: لا أتم البيع لا يجبر عليه فهاهنا لو قال البائع: لا أخبرك بالثمن يجبر عليه.

وفي «الإملاء» عن أبي حنيفة: إذا قال لغيره: بعتك هذا الطعام كل كر بمئة درهم، فإنما وقع البيع في كر فإن كال المشتري أو البائع الطعام، وعرف المشتري كيله كله فله أن يرضاه ويأخذه كله كل كر بمئة درهم، وليس للبائع أن يمتنع منه، وهذا رواية محمد عن أبي حنيفة، وروى أبو يوسف عنه: أنه لا يجوز العقد فيما زاد على الكر الا بتراضيهما؛ لأن العقد لما وقع فاسداً لجهالة الثمن أوجب ذلك خيار الفسخ لكل واحد منهما، فلا يلزم إلا بتراضيهما، وإن لم يرضَ به المشتري بعد ما علم بكيله باع البائع ما بقي من الطعام من رجل آخر، ثم قال المشتري الأول بعد ذلك: رضيت بالطعام كله لم يلتفت إلى رضاه، وكان له من الطعام كر والباقي للمشتري الآخر.
وإذا باع جراباً من بر قال: بعتك هذا الجراب بخمسين درهماً، فالبيع فاسد في الكل، فإن عد البائع الثياب، وعرف المشتري عددها فقال: رضيته بذلك، فليس للبائع أن يمتنع عنه، وجاز البيع للمشتري.
وفي «المنتقى» : رجل اشترى من آخر مئة جوزة كبيرة بثمن معلوم، فلما عدها له البائع قال: لا أرضى، فليس له في ذلك، ولو اشترى من قصاب كذا رطلاً من لحم بدرهم، فقطع القصاب اللحم ووزنه، وهو ساكت حين قطعه ووزنه، ثم قال: لا أرضى فله ذلك حتى يقول بعد الوزن: رضيت، قال: ولا يشبه هذا الجوز وأشار إلى العلة فقال: لأن الجوز شيء واحد والله أعلم.

روى الحسن عن أبي حنيفة فيمن قال لغيره: بعتك نصيبي من هذا الطعام، ولم يبين كم هو فالبيع باطل، وإن بيّنه بعد ذلك، وهو قول زفر.

وفي «المنتقى» عن محمد: إذا قال الرجل لغيره:

(6/369)


بعتك نصيبي من هذه الدار، ولم يبين النصيب، وقول أبي حنيفة: أنه فاسد، وقال أبو يوسف: هو جائز والمشتري بالخيار إذا علم إن شاء أخذ، وإن شاء لم يأخذ، قال الحاكم أبو الفضل: قول محمد هاهنا بخلاف ما ذكر في «الأصل» ، وروى الحسن ابن أبي مالك قال: سمعت أبا يوسف يقول عن أبي حنيفة: إذا باع نصيبه من هذه الدار، ولم يبين النصف، فالبيع فاسد إلا أن يتصادقا أنهما كانا يعرفان كم هو فيجوز، قال ابن أبي مالك: وهو قول أبي يوسف قال: وكان أبو حنيفة أولاً يقول: بيع نصيبه جائز؛ لأنه معلوم في نفسه، وإن كان مجهولاً عندهما.
ألا ترى أنه إذا ولاه ما اشترى ولم يخبره فالبيع جائز، وإن كان مجهولاً عندهما لما كان معلوماً في نفسه، ثم رجع أبو حنيفة رحمه فقال: بيع النصف فاسد، وهو قول أبي يوسف، ثم رجع أبو يوسف عن هذا القول، وقال: هو جائز بمنزلة التولية.
ذكر الحسن ابن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: إذا قال الرجل لغيره: أبيعك من هذا البيض عشرة بكذا أن القياس فيه أن البيع فاسد مثل الرمان وأشباهه، ولكن أستحسن تجويزه.
وروى ابن مالك عن أبي (55ب3) أبي يوسف أيضاً: أن من قال لغيره: بعتك كر طعام، وعنده كر طعام، فالبيع على الكر الذي عنده، وكذلك إذا قال: بعتك جارية، وعنده جارية، فإن كان عنده جارية فالبيع فاسد، وفي شرح كتاب العتق إذا قال لغيره: بعت منك عبداً لي بكذا، وله عبد واحد، إن قال: عبداً لي في مكان كذا جاز البيع، وإن لم يقل: في مكان كذا قال شمس الأئمة الحلواني: عامة المشايخ على أنه لا يجوز البيع، قال رحمه الله: وهو الصحيح، وإليه أشار محمد رحمه الله في كتاب العتاق.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : وإذا اشترى الرجل من آخر عشرة أذرع من مئة ذراع من الحمام، أو من الدار، فالبيع فاسد عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: البيع جائز إذا كانت الدار مئة ذراع.

وإذا اشترى عشرة أسهم من مئة سهم من الدار جاز البيع عندهم جميعا، ذكر الخصاف في هذه المسألة أن فساد البيع عند أبي حنيفة بجهالة الذرعان، فأما إذا عرف مساحتها يجوز عنده، وجعل هذه المسألة على قياس ما لو باع كل شاة من القطيع بعشرة إن كان عدد جملة الشياه معلومة يجوز عنده، وإن لم يكن معلوماً لايجوز، وذكر أبو زيد الشروطي أن على قول أبي حنيفة البيع فاسد، وإن علما ذرعان الجملة، وهكذا ذكر شيخ الاسلام في شرح بيوع «الأصل» وهو جواب «الجامع الصغير» ، وهذا أصح مما قاله الخصاف.

فوجه قولهما: أن عشرة أذرع من مئة ذراع عشر الدار وربع عشر الدار جائز بالاتفاق كما لو باع عشرة أسهم من مئة سهم من الدار، فاللفظ مختلف، أما المعنى لايختلف، ولأبي حنيفة رحمه الله أن المبيع مجهول؛ لأن الذراع حقيقة اسم لخشبة تذرع بها الممسوحات ولكن يستعار لما يحله مجازاً، وما يحله عين؛ لأن الخشبة محل العين، أما لا يحل الشائع فلم يصح أن يستعار هذا لاسم الشائع، فكان الداخل تحت العقد موضعاً معيناً، فإذا لم يبين ذلك الموضع أنه من مقدم الدار أو من مؤخره وجوانب الدار متفاوتة في القيمة كان المعقود عليه مجهولاً جهالة تفضي إلى المنازعة بخلاف السهم؛ لأنه اسم بجزء شائع، ألا ترى أن ذراعاً من مئة ذراع، وذراعاً من عشرة أذرع سواء، وسهم من عشرة أسهم لايساوي سهما من مئة سهم فيظهر الفرق.
وذكر في بيوع «الأصل» : إذا قال: بعتك ذراعاً من عشرة أذرع من هذه الدار، وجعله على الخلاف الذي ذكرنا قال شيخ الإسلام: وأجمعوا على أنه لو باع سهماً من عشرة أسهم من هذه الدار أنه يجوز، ولم يذكر ما إذا باع عشرة أذرع من هذه الدار، ولم يقل: من مئة أذرع كيف الجواب فيه؟

على قولهما من مشايخنا من قال: يجوز، ومنهم من قال: لا يجوز؛ لأن المعقود عليه، وإن كان مجهولاً إلا أن هذه جهالة مستدركة يمكن رفعها بأن يذرع الدار بأسرها،

(6/370)


فإن كانت مئة ذراع علم أن المبيع عشرها، وإن كان خمسين ذراعاً علم أن المبيع خمسها.
ولو قال: بعتك ذراعاً من هذه الدار إن عين موضعه بأن قال: من هذا الجانب إلا أنه يميزه بعد، فالعقد منعقد غير نافذ حتى لا يجبر البائع على التسليم؛ لأنه باع مالاً معلوماً إلا أنه لايقدر على التسليم إلا بضرر يلحقه في غير ماتناوله العقد، وإن لم يعين موضع الذراع، على قول أبي حنيفة: لايجوز أصلاً.
وعلى قولهما: يجوز ويذرع الدار، فإن كانت عشرة أذرع صار شريكاً بمقدار عشر الدار، هكذا ذكر شيخ الإسلام، وذكر شمس الأئمة الحلواني: أن على قولهما اختلف المشايخ، والأصح: أنه لايجوز، وإذا باع سهماً من الدار، ولم يعين موضعه ذكر شمس الأئمة الحلواني: أنه لايجوز إجماعاً، فعلى هذا يحتاج أبو يوسف ومحمد إلى الفرق بين الذراع والسهم.
والفرق: أن المعقود عليه مجهول في الفصلين جميعاً إلا أن في الذراع رفع الجهالة ممكن بذرع جملة الدار، أما في السهم غير مستدركة، فلا يجوز إجماعاً، وإذا قال: بعتك ذراعاً من هذا الثوب ولم يبين موضعه، أو قال: من هذه الخشبة ولم يعين موضعه، ذكر بعض مشايخنا: أنه على الخلاف الذي في مسألة الدار، وذكر بعض المشايخ: أنه لايجوز بالإجماع، فعلى قول هذا القائل يحتاج أبو يوسف ومحمد إلى الفرق بين الدار وبين الثوب.

وأشار شيخ الإسلام إلى الفرق فقال: في مسألة الدار الذراع أضيف إلى غير محله من حيث العرف والعادة؛ لأن الدار لاباع ذراعاً عرفاً وعادة، فلا يمكن العمل بحقيقة اسم الذراع في الدار، فيجعل كناية عن السهم من حيث الذراع اسم مقدار كالسهم، فصار كما لو باع سهماً من هذه الدار، فأما في مسألة الثوب الذراع أضيف الى محله عرفاً وعادة، فأمكن العمل بحقيقة اسم الذراع، فلا يجعل كناية عن غيره.
قلنا: والذراع اسم للخشبة حقيقة ولما يحله مجازاً وما يحله يميز، فإذا لم يعين موضعاً يبقى المعقود عليه مجهولاً على نحو ما قلنا لأبي حنيفة رحمه الله فلم يجز لهذا.
وفي «المنتقى» : إذا باع ذراعاً من خشبة أو ثوب من جانب معلوم، فالبيع فاسد، فان قطعه وسلمه إلى المشتري له أن يمتنع من قبوله.
وفيه أيضاً: عن أبي يوسف أن البيع جائز، وللمشتري الخيار إذا قطعه البائع إن شاء أخذ، وإن شاء ترك.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : رجل اشترى داراً على أنها ألف ذراع بألف درهم، فوجدها أكثر فهي له كلها، وإن كان قال: كل ذراع بكذا، فوجدها أكثر، فالمشتري بالخيار إن شاء ردها وإن شاء أخذها، وزاد في الثمن بحساب ذلك، وإن وجدها أنقص، فهو بالخيار إن شاء أخذ، وإن شاء ترك.
أصل هذا أن الذراع فيما يذرع يشبه الأوصاف، فإن الاسم لا يتغير بزيادة الذرع ونقصانه، بل يتغير وصفه، فيصير أطول وأقصر، ولكنه غير منتفع به يزداد القيمة بزيادته، فمن هذا الوجه أصل، فيجب العمل بالشبهين في حالين، وإذا لم يقابل الثمن بالذرعان يراعي فيه شبه الأوصاف، فيستحق تبعاً

(6/371)


لاستحقاق الأصل، وإن لم يتناوله العقد كفناء الدار يستحق من غير ذكر.
وكجمال الجارية يستحق من غير ذكر، وإذا اعتبر وصفاً، فإن زاد سلم المشتري من غير خيار، وإن انتقص تخير المشتري، ولكن لا يحط شيء من الثمن كمالو سقط أطراف المبيع، فإن هناك يتخير المشتري، ولا يسقط شيء من الثمن كذا ههنا.

وإذا قابل الثمن بالذرعان بأن قال: كل ذراع بكذا يراعي فيها شبه الأصالة، ويصير كل ذراع بمنزلة مبيع على حدة، فإن ازداد يخير المشتري؛ لأنه يقع تسوية ضرر؛ لأنه إن ازداد المبيع يلزمه زيادة ثمن، فيتخير المشتري، وإن انتقص تخير المشتري أيضاً؛ لأنه يقع تسوية ضرر؛ لأنه إن انتقص المبيع.
وعلى هذا إذا اشترى من آخر ثوباً على أنه عشرة أذرع بكذا، ولم يبين حصة كل ذراع، أو بين ووجده أزيد بأن وجده أحد عشر ذراعاً، أو وجده تسعة أذرع، فالعقد جائز على كل حال غير أنه إذا لم يبين حصة كل واحد من الذرعان ووجده زايداً سلمت له الزيادة مجاناً، ولو وجده ناقصاً لايسقط شيء من الثمن، ولكن تخير المشتري، وإن تبين حصة كل ذراع، ووجده زائداً فله الخيار، إن شاء أخذه ولزمه حصة الزيادة، وإن شاء نقض العقد، والجواب (56أ3) في الخشب والأرض نظير الجواب في الأرض والدار؛ لأنه مذروع كالثوب، والدار.

في «المأذون الكبير» : في باب بيع الكيل والوزن إذا قال: أبيعك هذه الدار على أنها أقل من ألف ذراع فوجدها كما قال، أو أكثر، فالبيع جائز؛ لأن المذروع في هذه الحالة شبيه الأوصاف، فكأنه اشتراها على أنها ضيقة، ومن اشترى داراً على أنها ضيقة فوجدها كذلك، أو وجدها واسعة كان البيع جائزاً كذا ههنا.

ومن هذه الجنس مسائل
مسألة الذرعيات: وهي هذه، ومسألة في الكيليات والوزنيات.
وصورتها: رجل باع من آخر صبرة على أنها خمسون قفيزاً مثلاً، أو اشترى زيتاً على أنه خمسون مَنّاً، فوجده أزيد بأن وجده إحدى وخمسين أو أنقص بأن وجده تسعة وأربعين، فالبيع جائز، بين حصة كل قفيز ومَنّ، أو لم يبين؛ لأنه متى وجده أحداً وخمسين والداخل تحت العقد خمسون صار مشترياً خمسين قفيزاً من أحد وخمسين قفيزاً، وذلك جائز سمي لكل قفيز ثمناً أو لم يسم؛ لأن الحنطة من ذوات الأمثال حتى يضمن مستهلكاً المثل من جنسها والحادي والخمسون الذي لم يدخل تحت العقد مما لا يتفاوت في نفسها حتى يصير الباقي مجهولاً، ومتى وجده تسعة وأربعين ولذلك البيع جائز؛ لأنه لو لم يجز لجهالة ثمن الباقي، وثمن الباقي معلوم، أما إذا تبين لكل قفيز ثمناً فظاهر، وأما إذا لم يبين؛ فلأن القفزان لا تتفاوت في أنفسها فيقسم الثمن باعتبار عدد القفزان، فيصير حصة الذاهب معلوماً بيقين، وإذا صار حصة الذاهب معلوماً كان حصة الباقي معلوماً، ولهذه المسألة تفريعات لم يذكرها محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» ولا في بيوع «الأصل» .

(6/372)


فمن جملتها إذا قال لغيره: أبيعك هذه الحنطة بكذا على أنها أقل من كر، فاشتراها على ذلك، فوجدها أقل من كر، فالبيع جائز إلا رواية عن أبي يوسف رواها المعلى؛ لأن المبيع معلوم بالإشارة، ووجده على شرطه الذي سماه، والثمن معلوم بالتسمية فيجوز، وإن وجدها كراً، أو أكثر من ذلك فالبيع فاسد؛ لأن البيع يتناول بعض الموجود، وهو أقل من الكر كما سمي وذلك مجهول؛ لأنه لا يدري أن المشترى أقل من الكر بقفيز أو قفيزين، وهذه الجهالة تفضي إلى المنازعة.

وكذلك إذا قال: على أنها أكثر من كر، فوجدها أكثر من الكر بقليل أو كثير، فالبيع جائز إلا رواية عن أبي يوسف رواها المعلى؛ لأنه وجدها على شرطه، والبيع يتناول جميعها، وإن وجدها أقل من كر أو كراً فالبيع فاسد؛ لأنه لا بد من إسقاط حصة النقصان من الثمن، وذلك غير معلوم وتشتبه تقع المنازعة، ولو قال: على أنها كر أو أقل من كر، فوجدها كراً أو أقل من كر فهو جائز، ولو وجدها أكثر من كر، فكذلك البيع جائزاً؛ لأنه يصير مشترياً كراً من صبرة وذلك جائزاً، ولزم المشتري كر بجميع الثمن، والزيادة على الكر للبائع؛ لأنه لم يدخل تحت البيع.
H
ولو قال: على أنها كر أو أكثر، فالبيع جائز وجدها أكثر منه، أو أقل غير أنه إن وجدها كراً أو أكثر، فذلك سالم للمشتري بجميع الثمن ولا خيار له، وإن وجدها انقص فالمشتري بالخيار، إن شاء أخذ الموجود بحصته من الثمن لو قسم الثمن على الركام، وإن شاء ترك.

والوجه في ذلك أن البائع أدخل كلمة، أو بين مقدارين، فكان المراد أحدهما، فإذا وجده أنقص من كر لم يوجد واحد من المقدارين حتى يتعين مراداً لابد لنا من إثبات أحد المقدارين، إما الكر أو الأكثر، فنقول: إثبات الكر أولى من إثبات أكثر من الكر؛ لأن في إثبات الكر تجويز العقد.

فإن اشترى من أخر حنطة على أنها كر، فوجدها أقل من الكر يجوز وفي إثبات الأكثر إفساد العقد فإن من اشترى من آخر حنطة على أنها أكثر من الكر، فوجدها أقل من الكر يفسد العقد، والعقد متى احتمل الصحة والفساد يحمل على وجه الصحة، فأثبتنا المقدار الذي منه يجوز العقد وهو الكر، وصار كأنه اشتراها على أنها كر، فوجدها أقل، وهناك يقسم الثمن على الفائت والقائم فكذا ههنا هذه الجملة في «المأذون الكبير» في باب بيع الكيل والوزن، ولم يذكر ما إذا اشتراها على أنها كر، وينبغي أن يجوز البيع سواء وجدها كراً أو أقل من الكر أو أكثر غير أنه إذا وجدها كراً لزم المشتري ذلك من غير خيار، وإذا وجدها أكثر من الكر لزم المشتري قدر الكر من غير خيار ويرد الزيادة، وإذا وجدها أنقص يتخير المشتري إن شاء أخذ الموجود بحصته، وإن شاء ترك.
وعلى قياس هذه المسائل يخرج ما إذا اشترى عيناً معيناً في كرم معين على أنه كذا مناً، فوجده كذلك، أو أقل أو أكثر، ومسألة في العدديات المتقاربة ألحقت بالمكيل والموزون في ضمان الاستهلاك حتى ضمن مستهلكاً المثل من جنسها كالأغنام والثياب.

(6/373)


وصورتها: رجل اشترى عدل زطي على أنه خمسون ثوباً، أو اشترى قطيعاً من الغنم على أنه خمسون شاة بكذا، فوجدها زايداً بأن وجدها واحداً وخمسين، أو وجد ناقصاً بأن وجدها تسعة وأربعين، فإن وجدها زايداً، فالبيع فاسد سمي لكل واحد ثمناً على حده بأن قال: كل ثوب بكذا، أو لم يسم؛ لأن المبيع مجهول جهالة يوقعهما في المنازعة؛ لأن المبيع خمسون ثوباً، فما زاد على ذلك يجب رده على البائع، ولا يدري أي ثوب يرد على البائع، ولذا كان المردود مجهولاً.

وإن وجدها أنقص من ذلك إن لم يسمِ لكل ثوب ثمناً فالبيع فاسد؛ لأن الثمن مجهول، وإن حصة الذاهب يوجب جهالة حصة الباقي، وهذا لأنه إذا لم يسمِ لكل واحد ثمناً، فالثمن ينقسم باعتبار القيمة، ولا يدري قيمة الذاهب بيقين؛ لأنه لا يدري إن كان جيداً أو وسطاً أو رديئاً، فكان حصة الذاهب مجهولاً والتقريب ما ذكرنا، فإذا سمى لكل واحد ثمناً بأن قال: كل ثوب مثلاً بعشرة كان البيع جائزاً في الثياب الموجودة، وهي تسعة وأربعون؛ لأن المبيع معلوم والثمن.

كذلك أكثر مشايخنا على ما ذكر في «الكتاب» : أن البيع جائز في الثياب الموجودة قولهما أما على قول أبي حنيفة، فالعقد فاسد في الكل؛ لأن العقد فسد في البعض بمفسد مقارن، وهو العدم والأصل عند أبي حنيفة أن العقد متى فسد في البعض بمفسد مقارن للعقد يفسد في الباقي، وكان أبو الحسن قاضي الحرمين يروي عن أبي حنيفة أن العقد فاسد في الكل في هذا الفصل وقد ذكر محمد رحمه الله في «الجامع» مسألة تدل على هذا.
وصورتها: رجل اشترى ثوبين على أنهما مرويان كل ثوب بعشرة، فإذا أحدهما هروي والآخر مروي، وذكر أن البيع فاسد في الهروي والمروي جميعاً عند أبي حنيفة، وعندهما يجوز في الهروي، والفائت في مسألة «الجامع» الصفة لا أصل الثوب، فإذا كان فوات الصفة في أحد البدلين يوجب فساد العقد في الكل على مذهبه، ففوات أحدهما من الأصل لا يوجب فساد العقد في الكل عنده أولى، بعض مشايخنا قالوا: لا بل ما ذكر من الجواب قول الكل، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، قال شمس الأئمة الحلواني: الصحيح عندي أن على قول أبي حنيفة: يفسد العقد في الكل، قال محمد رحمه الله: وعلى هذا إذا اشترى حنطة على أنها كر، فوجدها ببعض قفيراً يفسد العقد في الباقي عند أبي حنيفة هو الصحيح قال رحمه الله: (56ب3) وعلى هذا إذا اشترى مئة جوزة كل جوزة بفلس، فوجد بعض الجوز خاوياً، فإن العقد لا يجوز.

في «الحاوي» : ويتعدى الفساد إلى الباقي عند أبي حنيفة، ثم إذا جاز البيع في الثياب الموجودة ذكر أن المشتري تخير إن شاء أخذ كل ثوب بما سمي، وإن شاء ترك، وذلك لأن الصفقة تفرقت على المشتري قبل التمام، وإنه يوجب الخيار.
وذكر في «النوادر» أن من اشترى من آخر ثوباً على أنه عشرة أذرع كل ذراع بدرهم، فوجده عشرة ونصفاً، أو تسعة ونصفاً أخذه بأحد عشرة درهماً إن شاء، وعلى قول أبي

(6/374)


حنيفة إن شاء رده، وقال محمد: إن وجده عشرة ونصفاً أخذه بعشرة ونصف إن شاء، وإن وجده تسعة ونصفاً أخذه بتسعة ونصف، وما قال محمد رحمه الله ظاهر؛ لأن من ضرورة مقابلة كل درهم بكل ذراع مقابلة نصف درهم بنصف ذراع، وأبو يوسف يقول: لما صح الشرط صار كل ذراع في حكم المقابلة كثوب على حدة بيع على أنه ذراع، فإنه إذا وجده أنقص أسقط شيء من الثمن، ولكن يثبت الخيار كذا ههنا، وما قاله أبو حنيفة أصح؛ لأن الذراع وما دونه في حكم الصفة على ما مر.
وإنما يعتبر أصلاً بقضية مقابلة الثمن، والمقابلة مقدرة بذراع، فإذا عدم الذراع لم يثبت جهة الأصالة، فبقيت العبرة لكونها صفة، فصار زيادة نصف ذراع بمنزلة زيادة صفة الجودة، فيسلم له من غير شيء، وصار نقصان نصف ذراع بمنزلة تسعة أذرع جيدة فيتخير.

ومن المتأخرين من قال: ما ذكر من الجواب في «الكتاب» في فصل الثوب في القميص والسراويل والعمائم والأفنية أما إذا اشترى كرباساً لا يتفاوت جوانبها على أنه عشرة أذرع بعشرة دراهم، فإذا هو أحد عشر لا يسلم له الزيادة؛ لأن هذا الكرباس في معنى الموزون والمكيل، وإن كان متصلاً بعضها ببعض لكن ليس في الفصل ضرر، فيصير بمنزلة اعتبار خفيفة كالموزون لما كان لا يتمكن فيه العيب بتميز البعض عن البعض اعتبر كل قفيز أصلاً فكذا ههنا، وعلى هذا إذا باع ذراعاً من هذا الكرباس، ولم يعين موضعه يجوز كما في الحنطة إذا باع قفيزاً منها.

قال محمد في «الجامع» : إذا اشترى الرجل من غيره زق زيت بمائة درهم على أن له الزق وما فيه من الزيت على أن وزن ذلك كله مئة رطل، فوزن ذلك فوجد كله تسعين رطلاً الزق من ذلك عشرون رطلاً، والزيت سبعون، فإن النقصان من الزيت خاصة، فيقسم الثمن على قيمة الظرف، وعلى قيمة ثمانين رطلاً من زيت، فما أصاب الزيت يطرح ثمنه، ويجب الباقي، فكان للمشتري الخيار فيما بقي إن شاء أخذ بما قلنا، وإن شاء بما ترك، فقد جعل النقصان من الزيت خاصة.
وعلل في «الكتاب» : مما يزيد وينقص، والزق مما لا يزيد ولا ينقص، ومعنى هذا الكلام أن الزيت لما كان يزيد وينقص لو صح صرفنا النقصان إلى الزيت احتمل كلامه الصدق بأن يجعل كأن الزيت وقت البيع كان ثمانين رطلاً، والزق عشرين، فجملته مائة، ثم انتقص من الزيت عشرة أرطال قبل القبض، أما لو صرفنا النقصان إلى الزق، وأنه لا يحتمل الزيادة والنقصان لا يمكن حمل كلامه على الصدق إذ لا يمكن ان يجعل كأن الزق ثمانون رطلاً، ثم صار عشرين فصرفنا النقصان إلى الزق حملاً لكلامهما على الصحة، قال أكثر: مشايخنا ينبغي أن يفسد العقد في الكل عند أبي حنيفة.
وقيل: لا يفسد عنده أيضاً، وقد مر ذلك من قبل، وإن وجد المشتري الزق ستين رطلاً، والزيت أربعين رطلاً، فإن الزق لا يبلغ ذلك القدر في مبايعات الناس كان للمشتري الخيار، إن شاء أخذ الكل بكل الثمن، وإن شاء ترك الزق إذا لم يبلغ ذلك المقدار في مبايعات

(6/375)


الناس يتمكن الخلل في الرضى فيثبت له الخيار لتمكن الخلل في الرضا.
وإن وجد المشتري الزق مئة رطل، والزيت خمسين رطلاً كان البيع فاسداً؛ لأنه باع الزق مع ما يكمل مئة رطل من الزيت، وذلك الزيت معدوم عند كون الزق مائة، وهذا الجواب لا يشكل على قول أبي حنيفة؛ لأن عنده فساد العقد في البعض بمفسد مقارن يوجب فساد العقد فيما بقي، وإنما يشكل على قولهما.

والوجه لهما: أنه لما قابل الثمن بالزق وبما يكمل مئة رطل من الزيت لا بد وأن يضم إلى الزق شيئاً من الزيت لا لإدخاله في العقد لكن ليقسم الثمن عليهما حتى يظهر حصة الزق، والقليل يصلح لذلك، والكثير يصلح أيضاً، وليس البعض أولى من البعض، فكان ثمن الزق مجهول الثمن يوجب فساد العقد.
ولو وجد وزن الزق عشرين رطلاً، ووزن الزيت مئة رطل لزم المشتري الزق، وثمانون رطلاً من الزيت بجميع الثمن، ويرد الباقي على البائع؛ لأنه اشترى الزق، وقدر ما يكمله مئة رطل من الزيت وذلك قدر ثمانون، والوزن في الزيت معتبر، فكانت الزيادة على مال البائع، فيرد عليه كما لو اشترى الزيت وحده على أنه ثمانون رطلاً فوجده مئة رطل.
وكذلك لو كان الزق على حدة، والزيت على حدة، فاشتراها جملة كان الجواب كما قلنا؛ لأنا صرفنا الزيادة والنقصان إلى الزيت للمعنى الذي ذكرنا، وذلك المعنى لا يتفاوت بينما إذا كان الظرف وعاء لما ضم إليه من الزيت أو لم يكن.
ولو اشترى زيتاً في ظرف، وسمناً في ظرف آخر، فاشتراهما بغير ظرف على أن يكون ذلك كله مئة رطلاً، والزيت ستين، فإنه يرد من الزيت على البائع عشرة أرطال، ويطرح من ثمن السمن مقدار عشرة أرطال من السمن، وإنما كان هكذا؛ لأنه أضاف الوزن إليهما، وكل واحد منهما يحتمل الزيادة والنقصان، وانقسم عليهما نصفين، فإذا وجد أحدهما أزيد، والآخر أنقص، رد الفضل، وسقط حصة النقصان من الآخر بخلاف المسألة الأولى، فإن الوزن وإن أضيف إلى الزق والزيت إلا أن أحدهما قابل للزيادة والنقصان، وهو الزيت، والوزن فيه معتبر، فكان صرف النقصان إلى ما يحتمله، وهو موزون حكماً أولى.
وكذلك إذا اشترى حنطة في جوالق، وشعيراً في جوالق آخر بغير الجوالق على أن الكل مئة مَنّ فهو على هذا، وكذلك إذا أضاف المئة إلى ثلاثة أصناف المكيلاًت دخل تحت العقد من كل صنف ثلث المئة لما قلنا والله أعلم.

نوع آخر في بيع الأشياء المتصلة بغيرها، وفي البيوع التي فيها استثناء
قال محمد: ولا يجوز شراء ألبان الغنم في ضرعها كيلاً ولا مجازفة بدراهم، أو غير ذلك إن كان مجازفة فلوجهين:

(6/376)


أحدهما: أن فيه غرر، فإنه لا يدري ما في الضرع أنه لبن أو دم أو ريح.
والثاني: أن البيع يتناول اللبن الموجود حالة العقد لا ما يحدث، فإنه يحدث ساعة فساعة فما يحدث بعد البيع يختلط بالمبيع خلطاً يتعذر تمييزه، فيصير قدر المبيع مجهولاً جهالة تفضي إلى المنازعة مكايلة، فالمعنى الأول، وكذلك لا يجوز بيع الولد في البطن؛ لأن فيه غرراً، فإنه لا يدري أن ما في البطن ريح أو ولد، وكذلك لا يدري (57أ3) أنه حي أو ميت.
ولو باع الحنطة في سنبلها جاز بخلاف الولد في البطن واللبن في الضرع، ولا فرق بينهما من حيث الصورة؛ لأن وجود الحنطة في السنبل ثابت من حيث الظاهر، وإذا لم يكن بالسنبل آفة، وكذا وجود الولد في البطن، ووجود اللبن في الضرع ثابت من حيث الظاهر إذا لم يكن الانتفاخ لعلة.
وإنما جاز الفرق؛ لأن في الوصفين الموجود وإنما كان ثابتاً إلا أنه بعد ما يثبت الوجود من حيث الظاهر تمكن في الولد واللبن غرراً آخر، وهو العذر في كونه مالاً، فإنه لا يدري أن الذي في البطن حي أو ميت، ولا يدري أن في الضرع لبن أو دم، وفي السنبلة متى يثبت الوجود من حيث الظاهر لا يتمكن العذر في كونه مالاً أو غير مال؛ لأن الحنطة على أي صفة ما كانت كان مالاً.
هذا إذ باع حنطة في سنبلها، فأما إذا باع حنطة مكايلة، وله حنطة في سنبلها جاز البيع أيضاً؛ لأن الحنطة أيضاً موجودة في ملكه.

ولو اشترى تبن تلك الحنطة قبل الكدس لا يجوز، وكذا بيع الصوف على ظهر الغنم لا يجوز؛ لأن فيه غرراً؛ لأنه يحدث ساعة فساعة، وما يحدث ملك البائع، فيختلط المبيع بغير المبيع على وجه يتعذر التمييز ولا يدري قدر ما دخل تحت العقد، فيصير المعقود مجهولاً، وبعض مشايخنا قالوا: ما ذكر من الجواب قول محمد أما على قول أبي يوسف: ينبغي أن يجوز البيع على قياس مسألة ذكرها في كتاب الصلح.
صورتها: إذا ادعى الرجل في يد رجل غنماً، فصالح من في يديه الأغنام على صوف على ظهرها جاز الصلح عند أبي يوسف خلافاً لمحمد، ومنهم من قال: ما ذكر من الجواب في البيع قول الكل، وهذا القائل يحتاج إلى الفرق لأبي يوسف بين مسألة البيع وبين مسألة الصلح.
والفرق: أن طريق جواز الصلح في تلك المسالة استيفاء بعض الحق وترك البعض، فأمكن تجويز هذا الطريق؛ لأن الصلح يجوز بدون الحق، وإنما يتحقق التجوز بدون الحق باستيفاء البعض وترك البعض، فأما البيع فتمليك ابتداء، والصوف على ظهر الغنم لا يقبل التمليك ابتداء.
وقد ذكرنا قبل هذا أن بيع شاة على ظهرها صوف بصوف منفصل بطريق الاعتبار جائز بلا خلاف، وبدون الاعتبار على الخلاف عند بعض المشايخ، وإنما قوائم الخلاف، وسعف النخل، اختلف المشايخ فيه منهم: من لم يجوز بيعه، ومنهم: من جوز بيعه، وذكر أبو الحسن الكرخي في كتابه جوازه، وروي الحسن بن زياد عن أصحابنا

(6/377)


جوازه، ومن لم يجوزه من المشايخ اختلفوا فيما بينهم في العلة، بعضهم قالوا: لأنه يزيد ساعة فساعة، فيختلط المبيع بغير المبيع على وجه يتعذر تمييزه، فكان نظير بيع الصوف على ظهر الغنم، وبعضهم قالوا: لأن موضع القطع مجهول، ومن جوز بيعه من المشايخ يجيب عن الأول ويقول: بأن القوائم تزيد من الأعلى.

ألا ترى أنا إذا جعلنا على موضع القطع علامة، فإذا مضى زمان فالعلامة لا تعلو بل يبقى في موضعه، فتكون الزيادة حاصلة من ملك المشتري بخلاف الصوف؛ لأن الصوف ينمو من أسفله، ألا ترى أنك إذا حصفت أسفله، ومضى زمان فالحصاف يعلو، فالزيادة إنما يحدث من ملك البائع، فيكون للبائع وقد اختلط بالمبيع، ولا يدري قدره، فيصير قدر المبيع مجهولاً، ويجيب عن الثاني، ويقول: إن كان موضع القطع مجهولاً، فهذه جهالة لا توقعهما في المنازعة، وإذا باع الصوف على ظهر الشاة، ثم إن البائع جز الأصواف، واختار المشتري أخذها بالبيع، روى بشر عن أبي يوسف أنه ليس ذلك له إلا أن يستقبل البيع عن تراض بينهما.
وروى هشام عن محمد هذه المسألة بعبارة أخرى فقال: إن ينفذه البائع دفعه إلى المشترى لم يجز، ولا يجوز بيع الؤلؤة في الصدف.
وروي عن أبي يوسف: أنه يجوز؛ لأن الصدف لا ينتفع به إلا بالشق، فأمكن تسليم المعقود عليه من غير ضرر، وجه ظاهر الرواية: أنه لا يمكن المعقود إلا بالشق، والشق شيء زائد لم يوجبه العقد، وإذا باع حب قطن في قطن بعينه، أو باع نوى تمر لا يجوز، وأشار أبو يوسف إلى الفرق بين هذا وبينما إذا باع الحنطة في سنبلها، فقال: لأن الغالب في السنبل الحنطة ألا ترى أنك تقول: هذه حنطة وهي في سنبلها، ولا يقول: هذا حب وهو في القطن؟ وإنما يقول: هذا قطن وكذلك في التمر.
وفي «نوادر هشام» عن محمد: إذا باع البذر الذي في البطيخ ممن يريد البذور، ورضي صاحب البطيخ أن يقطع له البطيخ، فالبيع باطل.
وكذلك إذا باع خد السمسم وزيت الزيتون لا يجوز، فإن سلم البائع ذلك لم يجز هكذا ذكر القدوري في «شرحه» قال: ولا يشبه هذا الجذع، يريد به أن من باع الجذع في السقف لا يجوز، ولو نزعه البائع وسلمه إلى المشتري جاز البيع.

والفرق: أن الجذع غير مال في نفسه، وإنما ثبت الاتصال بينه وبين غيره تعارض إلا أنه عد عاجزاً حكماً لما فيه إفساد بناء غير مستحق بالعقد وفيه ضرر، فإذا قلع والتزم الضرر زال المانع، فأما خد السمسم وزيت الزيتون فهو معدوم، فلا يكون محلاً للبيع وبذر البطيخ والنوى في التمر، وإن كان موجوداً إلا أنه متصل به اتصال خلقة، فكان بائعاً له فكان العجز عن التسليم هناك معنى أصلياً؛ لأنه اعتبر عاجزاً حكماً لما فيه من إفساد شيء غير مستحق بالعقد.
وفي «نوادر ابن سماعة» قال: سألت محمداً عمن باع فصاً في خاتم أوجذعاً في سقف، وذلك لا ينتزع لا بضرر أيملك المشتري، أو هو موقوف لا يملكه المشتري ما دام للبائع فيه خيار إن شاء سلم، وإن شاء لم يسلم، أشار الى ما قبل القلع، فإذا صار

(6/378)


بحال لا يقدر البائع فيه على الامتناع من دفعه ملكه المشتري، فإن لم يخاصم المشتري في ذلك حتى باع البائع الخاتم بأسره، أو باع البيت بأسره من إنسان آخر، ودفعه إليه، قال محمد رحمه الله: بيع البائع ثانياً ينقض بيعه أولاً.
قلت: أرأيت إن باعني رجل فصاً في خاتم، أو مسمار في باب، أوجذعاً، ثم دفع إلي الخاتم بأسره، أو دفع الباب، أو البيت بأسر، هـ فهلك في يدي، قال محمد: القياس: أن لا يكون قابضاً لما أشرت، ويهلك من مال البائع، ولا أعلمه إلا قول أبي يوسف: أنه لا يكون قابضاً حتى يدفعه إليه مفصولاً مخلصاً.
وذكر في «المنتقى» : أصلاً من جنس هذه المسائل قال: كل شيء كنت أجبر البائع على دفعه الى المشتري فقبضه على ذلك، فضاع لزمه وكل ما لم أجبره على دفعه اليه لا يكون قابضاً، ولا ضمان عليه إذا هلك.
بيانه: مسألتنا هذه إذا كان الفص لا ينزع إلا بضرر لا يجبر البائع على دفعه، فإذا دفعه إليه مع الحلقة وضاع فلا ضمان، وإذا كان الفص ينزع من غير ضرر يجبر على دفعه إليه مع الحلقة، ثم ضاع من يده، فقد لزمه البيع، وعليه ثمنه، ولا ضمان عليه في الحلقة، وكذلك أجناسه.

قال ابن سماعة: قلت لمحمد: أرأيت إن اغتصبت جذعاً فسقفت به بيتاً أو اغتصبت آجراً فبنيت به، أو اغتصبت مسماراً فجعلته في باب، ثم أني بعت البيت، أو الباب، أو الدار، يجوز البيع في ذلك، وإذا علم المشتري بذلك أيكون له الخيار في رد الدار والبيت والباب؟ قال: البيع جائز، وليس (57ب3) للمشتري فيه خيار؛ لأن المغصوب منه لا يقدر على ذلك.
روى إبراهيم عن محمد في رجل إذا نظر إلى ألف مَنٍ قطن، فقال: قد اشتريت من حليج هذا القطن مئة مَنّ قال: هذا فاسد.

وعنه أيضاً: فيمن اشترى ذراعاً من خشبة، أو من ثوب من جانب معلوم أن البيع فاسد، فإن قطعه وسلمه إلى المشتري له أن يمتنع من قبوله، وله أن يفسخ البيع قبل أن يسلم إليه البائع، وعن أبي يوسف في هذه الصورة إن البيع جائز والمشتري بالخيار، إذا قطع البائع ذلك له إن شاء أخذه، وإن شاء ترك.
وعن محمد رواية ابن سماعة إذا اشترى الرجل من آخر نصف الثوب من أحد الطرفين، أو نصف الخشبة من هذا الرافض أنه فاسد، فإن قطعه البائع فهو جائز ويدفعه إلى المشتري، وله أن يمتنع.
قال هشام: قلت لمحمد: إن كان لرجل شاة مذبوحة، فاشترى رجل كروشها، أو مسلخوها فهو جائز، والسلخ وإخراجه على البائع وللمشتري الخيار إذا رآه، ولو كانت بطيخة مكسورة كانت بمنزلة الشاة المذبوحة يجوز بيع بذرها.
وفي «الأصل» : إذا اشترى من آخر كذا قيماناً بعينه.
من هذه الصبرة لا يعرف قدره بأن قال: اشتريت منك من هذه الصبرة بهذا الزنبيل، ولا يعرف كم يسع في الزنبيل، أو

(6/379)


قال: بوزن هذا الحجر، ولا يعرف وزن الحجر جاز يداً بيد شرط في «الأصل» أن يكون يداً بيد.
وفي «القدوري» لم يشترط ذلك وجعل الجواب جواب المشهور من الرواية.

وفي «المنتقى» : رجل اشترى من آخر طعاماً على أن يكيله بزنبيله، أو إناء يشبه الزنبيل ليس بمكيال، فقال: اشتريت منك ملأ هذا من هذه الصبرة بكذا أن ذلك لا يجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن هذا الإناء لا يعرف مملوءه كما يعرف المكيال، فليس هذا بمكايلة ولا مجازفة، معناه: ليس هذا بيع مكايلة ولا بيع مجازفة قال ثمة: وكذلك إذا اشترى شيئاً موزوناً، واشترط وزن صخرة أو حجر لا يعرف وزنه، فهو مثل هذا الإناء، ثم رجع أبو يوسف عن هذا، وقال: إذا كان الإناء لا يتسع إذا حشي فيه الشيء الذي يكال به أنه يجوز.
وروى إبراهيم عن محمد: إذا اشترى ملأ هذا الجراب بدرهم لم يجز؛ لأن الجراب مما يتسع ويضيق، وكذلك الزنبيل قال: إلا أن يكون الزنبيل معراً يابساً لا يتسع، فيجوز البيع به وقيل: ما ذكر في «الأصل» ، وفي «القدوري» محمول على ما إذا كان الإناء من خزف، أو حديد، أو خشب، أو ما أشبه ذلك مما لا يحتمل الزيادة والنقصان، أما إذا كان مما يحتمل الزيادة والنقصان كالزنبيل والجراب والغرارة لا يجوز البيع.
m
مسائل الاستثناء: ذكر القدوري في «شرحه» : إذا باع حمله واشتثنى منه شيئاً، فإن استثنى ما جاز إفراده بالعقد جاز الاستثناء نحو أن يستثني جزءاً مشاعاً، وما لا يجوز إفراده بالعقد لا يصح استثناؤه كما لو استثنى عضواً من الشاة، وهذا لأن الاستثناء استخراج ما تناوله الكلام في حق الحكم، فإنما يصح في محل يمكن إثبات حكم الكلام فيه مقصوداً.
ذكر ابن سماعة في «نوادره» عن محمد: إذا قال لغيره: أبيعك هذه الدار إلا طريقاً فيها من هذا الموضع إلى باب الدار وصف طوله وعرضه، وشرط ذلك لنفسه أو لغيره، فالبيع جائز، والثمن الذي سمى كله ثمن ما بقي من الدار سوى الطريق؛ لأنه هذا شيء استثناه من المبيع لا حصة له في الثمن.

قال ثمة: ألا ترى أن من قال لآخر: أبيعك هذا العبد على أن لي ربعه، فقبل المشتري البيع كان له ثلاثة أرباع العبد بثلاثة أرباع الثمن، ولو قال في بيع الدار: على أن للبائع فيها طريقاً، ووصف طوله وعرضه لا يجوز ذكر هذا الفصل في «العيون» .
وفيه أيضاً: إذا قال لغيره: أبيعك هذه الدار بعشرة آلاف درهم على أن لي هذا البيت، فالبيع فاسد، ولو قال: إلا هذا البيت جاز البيع بجميع الثمن، وذكر شمس الأئمة في شرح كتاب القسمة أن بيع زفت الطريق على أن يكون للبائع حق المرور فيه جائز البيع بخلاف بيع حق المرور في رواية فإنه لا يجوز، وبيع السفل على أن يكون للبائع حق قرار العلو جائز.
وفي «الأمالي» عن محمد: إذا قال الرجل لغيره: بعتك هذا العبد بألف درهم إلا نصفه بخمسمائة درهم، فالبيع جائز في جميع العبد بألف وخمسمائة، وكذلك لو قال: إلا

(6/380)


نصفه بمائة درهم، فالعبد كله للمشتري بألف درهم ومائة درهم.
الحسن بن زياد في كتاب الاختلاف عن أبي يوسف وزفر إذا قال لغيره: بعتك هذه الدار بألف درهم إلا مائة ذراع، فالبيع فاسد في قول أبي حنيفة، وفي قول أبي يوسف: البيع جائز، والمشتري بالخيار إذا علم ذراع الدار، فإن شاء كان البائع شريكاً معه في الدار بالمائة الذراع، وإن شاء ترك.
ولو قال: أبيعك هذا الطعام بألف إلا عشرة أقفزة منها فالبيع فاسد في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: البيع جائز، والمشتري بالخيار إذا عزل منه العشرة الأقفزة، فإن شاء أخذ ما بقي بما سمي من الثمن، وإن شاء ترك.
وروى بشر عن أبي يوسف: إذا قال لغيره: أبيعك هذه المائة الشاة بمائة درهم على أن لي هذه الشاة لشاة بعينها فالبيع فاسد، وكذلك لو قال: ولي هذه الشاة، ولو قال: إلا هذه الشاة، كان ما بقي مائة درهم، ولو قال: هذه المائة لك بمائة درهم إلا نصفها، فإن النصف بمائة درهم، ولو قال: لي نصفها كان النصف بخمسين درهماً.

وفي «الأمالي» عن محمد: إذا قال: له بعتك هذا العبد بألف درهم أن لي نصفه بثلثمائة درهم، أو أو بستمائة درهم، أو قال: بثلث الثمن، أو قال: بمائة دينار، فالبيع فاسد في هذا كله، وهذا بمنزلة رجل قال لغيره: بعتك هذا العبد بألف درهم على أن نصفه بيعاً منك بثلثمائة درهم، أو بمائة دينار، أو قال: بحصة من الثمن، فالبيع جائز في جميع العبد، ويكون نصفه بتسعمائة، ونصفه بثلثمائة.

وكذلك لو قال: بعتك هذين العبدين بألف درهم على أن هذا لك بثلاثمائة، أو قال: على أن هذا بثلاثمائة درهم، فالبيع جائز منهما بألف درهم، والعبد الذي عنيه بثلاثمائة هو بثلاثمائة، والعبد الآخر بباقي الألف.
ولو قال: بعتك هذا العبد بألف درهم على أن نصفه بمائة دينار، أو قال: على أن نصفه لك بيعاً بمائة دينار، وإنما هذا بمنزلة رجل قال لغيره: بعتك هذا العبد على أن نصفه مردود علي أني لابيع فيه، والنصف المردود بيع لك بمائة دينار.
ولو قال: بعتك هذين العبدين بألف درهم على أن هذا العبد بعينه منهما لك بمائة دينار، ففي قياس من قول أبي حنيفة البيع فيهما جميعاً باطل؛ لأن حصة الباقي من الألف مجهول، وقال محمد: يجوز البيع في الذي سمي بمائة دينار، ولا يجوز البيع في الآخر والله أعلم.

نوع آخر
في البيع على شيئين أحدها لا يجوز البيع فيه إذا جمع بين عبدين في البيع، ثم ظهر أن أحدهما حر، فإن لم يبين حصة كل واحد منهما من الثمن، فالعقد فاسد في الكل بالإجماع، وإن بين حصة كل واحد منهما من الثمن، فكذلك الجواب عند أبي حنيفة يفسد العقد في الكل، وعندهما يجوز العقد في الثمن.

(6/381)


وكذلك لو اشترى دنين من خل، ثم ظهر أن أحدهما خمر، إن لم يبين حصة كل دن من الثمن، فالعقد فاسد في الكل وإن بين، فكذلك عند أبي حنيفة يفسد العقد في الكل، وعندهما يجوز العقد في الخل، وكذلك إذا اشترى مسلوخين (58أ3) وثم ظهر أن أحد المسلوخين ميتة، فهو على التفصيل والخلاف الذي ذكرنا، فوجه قولهما أن الفساد موجب المفسد، فيتقدر بقدر المفسد، وأكد ذلك بمسائل منها:
أنه إذا باع عبده وعبد غيره بألف درهم كل عبد بخمسمائة، ولم يجز ذلك الغير البيع في عبده، فإن البيع يجوز في عبد البائع؛ لأن سبب الفساد وجد في البعض، وهو الاستحقاق، وإذا باع عبدين، وأحدهما مدبر، أو مكاتب، أو أم ولد، وسمى لكل واحد ثمناً، فالبيع جائز في العبد، وإذا اشترى عبدين، وقبض أحدهما، ولم يقبض الآخر حتى باعهما جميعاً بألف على أن كل واحد بخمسمائة جاز البيع فيما قبض، ولم يجز فيما لم يقبض.
وكذلك إذا اشترى عبداً بألف درهم، وقبض العبد، ولم ينقد الثمن حتى باعه مع عبدٍ آخر له من البائع ألف درهم كل واحد منهما بخمسمائة، فإنه يجوز البيع في عبده، ولا يجوز في العبد الذي اشتراه؛ لأن سبب الفساد وهو بيع ما اشترى بأقل مما اشترى قبل من نقد الثمن وجد في البعض، ولا يلزم على ما قلنا إذا لم يبين حصة كل واحد من العبدين حتى ظهر أن أحدهما حر، فإن العقد يفسد في الكل؛ لأن سبب الفساد هناك وجد في جميع العقد في حصة العبد والحر جميعاً، أما في حصة الحر فظاهر، وأما في حق العبد فجهالة الحصة ابتداء؛ لأن الحر بدله غير داخل تحت العقد أصلاً بدليل أنه لو قبض الحر لا يملكه ولا بدله، وإنما دخل في العقد العبد مع بدله لا غير، فيصير مشترياً القن بما يخصه من الألف ابتداء لو قسم الألف عليه وعلى الحر، وجهالة الحصة ابتداءً يوجب فساد العقد.

ألا ترى أن من قال لغيره: بعت منك هذا العبد بما يخصه من الألف لو قسم الألف عليه وعلى هذ الحر، فإن البيع لا يجوز، وإنما لا يجوز لما قلنا، فأما إذا بين حصة كل واحد منهما، فسبب الفساد وجد في حق الحر لا غير؛ لأن سبب الفساد في حق القن حالة الإجهال جهالة حصته من الثمن، والجهالة ترتفع عند بيان حصة كل واحد منهما، ولا يلزم بيع الدرهم بالدرهمين؛ لأن هناك سبب الفساد وجد في حق الكل؛ لأن الدرهم الواحد قوبل بالدرهمين، فيجب قسمتها على الدرهمين.

وإذا قسمناه على الدرهمين يتمكن الربا في الدرهمين جميعاً؛ لأنه يصير كل واحد منهما بنصف درهم، ولا يلزم إذا اشترى عبداً بألف درهم ورطل من خمر، فإنه يفسد العقد في جميع العبد، أما في حصة الخمر فظاهر، وأما في حصة الألف؛ فلأن ما يخص الألف من العبد مجهول جهالة مقارنة من وجه إن كانت طارئة من وجه؛ لأن الخمر لا يدخل تحت العقد حتى يملك بدله بالقبض، فباعتبار البدل تكون الجهالة طارئة، وباعتبار الغير تكون الجهالة مقارنة يوجب الفساد، والطارئة لا توجب، فرجحنا ما يوجب الفساد على ما يوجب الجواز احتياطاً، فقد وجد بسبب الفساد في جميع العقد، أما في حصة الحر

(6/382)


فظاهر وأما في حصة القن، فهو اشتراط الربا.
بيانه: أن بدل الحر صار مشروطاً في حصة القن من حيث المعنى؛ لأن الصفقة الواحدة إذا أضيفت إلى شيئين موجودين، فقبول العقد في كل واحدة منهما يصير شرطاً لصحة القبول في الآخر حتى لو قبل المشتري العقد في أحدهما لا يجوز، وإذا صار قبول العقد في الحر شرطاً لقبول العقد في القن من حيث المعنى صار بدله مشروطاً في حصة القن، وبدل الحر ربا؛ لأنه مال متقوم شرط في العقد من غير عوض أصلاً، فيكون رباً وقد صار مشروطاً في حصة القن غير مقابل بالقن فيصير رباً كما لو قال: بعتك هذا العبد بخمسمائة على أن تسلم إلي خمسمائة أخرى بغير شيء، وأما إذا باع عبده وعبد غيره.
قلنا: هناك لم يوجد بسبب الفساد في حصة عبده، وهو اشترط الربا؛ لأن قبول المستحق مع بدله، وإن صار شرطاً في عبده إلا أن بدله في نفسه ليس بربا؛ لأنه مقابل بما يصلح عوضاً، وهو المستحق، والربا عبارة عن مال ملك بالبيع بغير عوض أصلاً، أو بعوض لا يصلح عوضاً عنه بوجه ما.
فإن قيل: إن لم يوجد سبب الفساد في حصة عبده من هذا الوجه وجد من وجه آخر، وهو جهالة الحصة.
قلنا: ليس كذلك؛ لأن المستحق مع بدله دخلا تحت العقد، فكان البدل في الابتداء جميع المسمى وهو ألف درهم، وإنه معلوم، وإنما يصير بالحصة بعد ذلك إذا لم يجزه المستحق، فتكون جهالة طارئة من كل وجه، وإذا جمع بين عبدين، وأحدهما مكاتب، أو مدبر، أو أم ولد.
قلنا: هناك لم يتمكن بسبب الفساد في حصة القن، وهو اشتراط الربا؛ لأن هؤلاء دخلوا في العقد مع القن لقيام المالية فيهن، وبدلهم ملك بمقابلة ما يصلح عوضاً عنه، فإنه مقابل المال، فلا يكون بدل الحر على ما مر.
وأما مسألة الجراب: فقد ذكرنا قبل هذا عن أبي حنيفة أن العقد فاسد في الثياب الموجودة عند أبي حنيفة على رواية قاضي الحرمين، وهو اختيار شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، واستشهد بمسألة «الجامع» ، ومن قال من المشايخ أن على قول أبي حنيفة يجوز البيع في الثياب الموجودة، ففرق لأبي حنيفة بين مسألة «الجامع» وبين مسألة الجراب.

ووجه الفرق: أن الإضافة إلى الثوبين في مسألة «الجامع» قد صحت لوجود الخصاف إليه من حيث الحقيقة، وصار قبول العقد في المروي شرطاً بقبول العقد في الهروي، وصار بدله مشروطاً في الهروي أيضاً وبدله رباً؛ لأنه بدل معدوم، فإنه أشار وسمي، والمشار إليه من خلاف جنس المسمى، والمسمى معدوم، وبدل المعدوم رباً كبدل الحر.

وأما في مسألة الجراب: فالإضافة إلى الثوب الخمسين لم يصح أصلاً؛ لأنه لا بد من صحة الإضافة من مضاف إليه موجود، فإذا كان معدوماً لم تصح الإضافة أصلاً، ولم

(6/383)


يصر قبول العقد في المعدوم شرطاً لقبول العقد في الموجود، ولم يصر بدل المعدوم الذي هو ربا مشروطاً في الموجود، فخلت حصة الموجود عن شرط الربا.
وإذا باع عبدين أحدهما مقبوض، والآخر غير مقبوض، ففي حق المقبوض لم يوجد اشتراط الربا؛ لأن بدل غير المقبوض من البيع لا يكون رباً؛ لأن الربا عبارة عن فضل مال ملك بالبيع لا يقابله عوض وقد قابله عوض، وأما مسألة شراء ما باع بأقل مما باع قلنا: هناك لم يوجد سبب الفساد في العبد الذي لم يشتر، وهو اشتراط الربا لما ذكرنا أن الربا فضل مال خالي عن العوض، ولم يوجد هذا فيما اشترى.
وذكر أبو الحسن الكرخي عن أبي يوسف: فيمن باع جارية في عنقها طوق بألف درهم نساءً أن البيع باطل في الجميع في قول أبي يوسف الأخير، فجعل أبو الحسن رجوع أبي يوسف في هذه المسألة رجوعاً في جميع ما هو من هذا الجنس من المسائل.
وإذا اشترى ضيعة، وفيها قطعة من الوقف كان الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله يقول: البيع فاسد في الوقف والملك كما لو جمع بين عبد وحر، وكان القاضي إمام الإسلام أبو الحسن علي السغدي يقول: البيع جائز (58ب3) في الملك كما لو جمع بين عبد ومدبر، ثم رجع شمس الأئمة إلى قول ركن الإسلام.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا باع كرماً فيه مسجد قديم، وقد أطلق العقد هل يفسد البيع في الكرم؟ ينظر إن كان المسجد عامراً يفسد؛ لأن المسجد لا يدخل تحت البيع بالإجماع فكان الفساد قوياً، فيظهر في حق الباقي كما لو جمع بين حر وبين عبد، وإن كان المسجد خراباً لا يفسد العقد الباقي؛ لأن في دخول المسجد تحت البيع إذا خرب واستغنى عنه أهله خلاف.

فعند بعض العلماء المسجد إذا خرب واستغني عنه أهله يعود إلى ملك الواقف إن كان حياً، وإلى ملك ورثته إن كان ميتاً، فلم يكن الفساد قوياً، فصار كما لو باع عبداً ومدبراً، والذي ذكرنا في الوقف، فكذلك في المقبرة.
وإذا كان الأرض مشتركاً بين رجلين باع أحدهما جميع الأرض من صاحبه كان الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله يقول بفساد البيع، وكذا كان يقول: فيما إذا صالح المدعى عليه مع المدعي عن دعواه على دار مشتركة بينهما، وكان يشير إلى المعني أن ملك المشتري ليس بمحل للبيع في حق المشتري، فكان بمنزلة ما لو جمع بين حر وعبد في البيع ولكن فيه نظر؛ لأن نصيب المشتري محل للبيع في الجملة، فيكون بمنزلة ما لو جمع بين مدبر وعبد.
والدليل عليه: أن رب المال إذا اشترى من المضارب شيئاً من مال المضاربة بعدما ظهر الربح يجوز، وإن كان المشتري ملك المشترى، وإذا كان الفساد بسب الافتراق لا لمعنى في نفس العقد، فإنه يبطل بقدره خاصة.
وذلك أن يسلم عشرة دراهم في شيء خمسه دين نقد، وكذلك في باب الصرف إذا قبض البعض دون البعض فسد بقدر ما لم يقبض خاصة، ولو اشترى عبداً بخمسمائة نقد

(6/384)


وخمسمائة له على فلان أو بخمسمائة إلى العطاء فسد البيع في الكل ذكره القدوري في «شرحه» .

وفي «المنتقى» : رجل اشترى داراً أو طريقاً من طرق المسلمين محدودة معلومة يعني جمع بين الدار وبين طريق المسلمين في البيع، فاستحق بعدما قبضهما المشتري، فإن شاء المشتري رد الدار، وإن شاء أمسكها إذا كان الطريق مختلطاً بالدار، فإن كان مميزاً لذمته الدار بحصتها ولم يكن له الخيار، وإن كان الطريق ليس بمحدود لا يعرف قدره فسد البيع، ولو كان مكان الطريق مسجد خاص يجمع فيه، فالقول فيه مثل الطريق المعلوم، وإن كان مسجد جماعة فسد البيع كله؛ لأن بيع المسجد الجامع لا يجوز ولا يحل، وكذلك إذا كان مهدوماً أو أرضاً ساحة لا بناء فيها بعد أن يكون الأصل مسجد جامع.

نوع آخر في شراء ما باع بأقل مما باع
يجب أن يعلم أن شراء ما باع الرجل بنفسه أو بيع له بأن باع وكيله بأقل مما باع ممن باع أو ممن قام مقام البائع كالوارث قبل نقد الثمن لا يجوز إذا كانت السلعة على حالها لم ينتقض بعيب، وكذلك إن بقي عليه شيء من ثمنه وإن قل، أما إذا اشترى ما باع بنفسه، فللحديث المعروف، ولأجل شبهة الربا؛ لأن بين الثمن الثاني وبين الثمن الأول شبهة المقابلة من حيث إن العقد الثاني أوجب تأكيد الثمن الأول؛ لأن الثمن الأول كان بعرض السقوط بالرد وهذه العرضية تزول بالبيع الثاني.

فهو معني قولنا: إن البيع الثاني يوجب تأكيد الثمن الأول، وللمؤكد حكم الموجب حتى أن شهود الطلاق قبل الدخول إذا رجعوا ضمنوا نصف الصداق؛ لأنه كان بعرض السقوط بالفرقة الجائية من قبلها، فهم بإضافة الفرقة إلى الزوج أزالوا تلك العرضية وأكدوه، فكانوا كالموجبين له كذا ههنا، وإذا ثبت أن البيع الثاني مؤكد للثمن الأول، وللتأكيد حكم الإيجاب كان وجوب الثمن الأول مضافاً إلى العقد الثاني موجباً الثمن الأول حكماً، والثمن الثاني حقيقة، فكان بينهما شبهة المقابلة من حيث إن وجوبها مضاف إلى عقد واحد في حالة واحدة، ولو ثبت بينهما حقيقة المقابلة يثبت شبهة الربا بخلاف ما بعد قبض الثمن؛ لأن هناك العقد الثاني أوجب تأكيد الثمن الأول؛ لأن الثمن الأول صار موكداً بالقبض، ولم يبق له عرضية السقوط قبل العقد الثاني، فلم يكن تأكيداً له.
وأما إذا اشترى ما بيع له بأن باع وكيله لا يجوز أيضاً، فقد جعل الموكل بائعاً بيع الوكيل حتى لم يجز شراؤه ما باع وكيله بأمره بأقل مما باع قبل نقد الثمن، وأبو حنيفة رحمه الله لم يجعل الموكل مشترياً بشراء الوكيل حتى قال: لو باع الرجل شيئاً بنفسه، ثم وكل رجلاً بأن يشتري له ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن، فاشتراه الوكيل، فإنه يجوز عند أبي حنيفة خلافاً لهما.
والفرق لأبي حنيفة: أن شراء الموكل منعقد ونافذ بدون التوكيل، ولهذا اشترى بدون التوكيل نفذ عليه، وصار الملك له، فلم يكن التوكيل محتاجاً إليه لانعقاد شراء

(6/385)


الوكيل ولا لنفاذه، فلم يكن شراء الوكيل مضافاً إلى الموكل لا انعقاداً ولا نفاذاً، فلم يصر الموكل مشترياً بشراء الوكيل أصلاً؛ لأن بعد ما تم شراء الوكيل ونفذ عليه ينتقل الملك إلى الموكل بشراء حكمي ينعقد بينهما، فلأجل ذلك احتيج إلى التوكيل، فيصير الوكيل مشترياً لنفسه، ثم بائعاً من الموكل حكماً.

ولو اشتراه لنفسه حقيقة من غير توكيل، وباع حقيقة من البائع الأول جاز ههنا كذلك، فأما بيع الوكيل لا ينفذ بدون التوكيل إن كان ينعقد بدون التوكيل، فكان التوكيل محتاجاً إليه لنفاذ بيعه، فصار بيعه مضافاً إلى الموكل فيما يرجع إلى النفاذ إن لم يصر مضافاً إليه فيما يرجع إلى الانعقاد، فصار الموكل بائعاً ببيع الوكيل فيما يرجع إلى النفاذ، فإذا اشترى بعد ذلك صار مشترياً من وجه ما باع بأقل مما باع، فرجحنا جانب الفساد احتياطاً.
وكذلك الجواب فيما إذا اشترى من وارث من باع منه بأقل لا يجوز، فقد جعل الشراء من وارث من باع منه بمنزلة الشراء ممن باع منه، ولم يجعل محمد رحمه الله شراء البائع حتى قال: لو مات البائع فاشترى وارثه ما باع بأقل مما باع جاز، وعن أبي يوسف أنه لا يجوز في الفصلين جميعاً؛ لأن وارث كل واحد منهما مقامه.
وجه الفرق لمحمد: أن وارث البائع ما قام مقام البائع في هذا الشراء بحكم الإرث صار شراؤه وأجنبي آخر سواء، فأما وارث من بيع منه وهو المشتري قام مقام المشتري في هذا البيع بحكم الإرث، فإنه كان لا يملك البيع حال حياته مورثه؛ لأنه ملك موروثه، ولما قام الوارث مقام المشتري في بيع هذا الغير بحكم الإرث صار بيع الوارث وبيع الموروث سواء، فكما لا يجوز بيع المشتري، فكذا لا يجوز بيع وارثه.
بعض مشايخنا قالوا: قول أبي حنيفة فيما إذا كان المشتري وارث البائع نظير قول أبي يوسف: إذا كان وارثاً تقبل شهادته له، أما إذا كان وارثاً لا تقبل شهادته له كالوالد ومن بمثابتهما لا يجوز شراؤه عند أبي حنيفة؛ لأن على قوله ولد البائع ووالده، وكل من لا تقبل شهادته له لو اشتراه في حال حياة البائع لنفسه لا يجوز خلافاً لهما؛ لأن منافع الأملاك بينهم متصلة، فصار شراء هؤلاء واقعاً للبائع، فكأن البائع اشترى بنفسه، فكذا بعد وفاته.

وبعضهم قالوا: على قول أبي حنيفة: يجوز شراء وارث البائع على كل حال سواء كان وارث البائع ممن نقبل شهادته له، أو ممن لا تقبل شهادته له كما هو قول محمد، وفرق هذا القائل على قول أبي حنيفة بين حال حياة البائع وبينما بعد موته.
والفرق: أن حال حياة البائع إنما لا يجوز شراء والده وولده وجميع من لا نقبل (59أ3) شهادته له باعتبار أن منافع الأملاك متصلة بينهم، فيصير شراء هؤلاء بمنزلة شراء البائع بنفسه، وهذا المعنى قد انقطع بالموت، وإنما شرطنا أن تكون السلعة قائمة على حالها لم تنتقص بعيب؛ لأن بعدما انتقص لا يتأتى شبهة الربا؛ لأن نقصان الثمن يجعل بمقابلة ما فات بالعيب، فيصير مشترياً ما باع بمثل الثمن الأول معنى وذلك جائز،

(6/386)


ولو رخص سعر السلعة من غير أن حدث بها عيب، فلا ينبغي أن يشتريها بأقل مما باع؛ لأن رخص السعر غير معتبر في حق الأحكام إذا بقي العين على حاله كما في حق الغاصب وأشباه ذلك، فيجعل وجوده كعدمه.

ولو باع المشتري المشترى من رجل، ثم إن البائع الأول اشتراه من المشتري الثاني بأقل مما باع جاز، فإن عاد المشتري إلى المشتري الأول إن عاد بسبب هو فسخ في حق الناس كافة لا يجوز للبائع الأول أن يشتريه بأقل مما باع، وعاد إليه بسبب هو فسخ في حقهما بيع جديد في حق الثالث كان للبائع أن يشتريه بأقل مما باع.
وكذلك لو أن المشتري وهب السلعة من إنسان، ثم أن البائع اشتراه من الموهوب له بأقل مما باع جاز، وكذلك لو وهبه الموهوب له من الواهب، وهو المشتري بعد ذلك، ثم إن المشتري باعه من البائع بأقل جاز.

وكذلك لو أن المشتري باع العبد من إنسان، ثم اشتراه، ثم باعه من البائع بأقل جاز، ولو أن المشتري وهبه من إنسان وسلمه، ثم رجع في الهبة، ثم باعه من البائع بأقل لا يجوز؛ لأن الرجوع في الهبة من كل وجه فسخ سواء كان بقضاء أو بغير قضاء، فيعود إلى المشتري قديم ملكه المستفاد من جهة البائع وصار كأنه لم يهب حتى باعه من بائعه بأقل لا يجوز فههنا كذلك.
h
ولو كان المشتري أوصى بهذا العبد لرجل وقبل الموصى له الوصية، ثم مات الموصي فباع الموصى له العبد من بائع الموصي بأقل جاز؛ هكذا ذكر في «الزيادات» وفرق بين الموصى له من وجهة المشتري وبين الوارث المشتري، فإن وراث المشتري لو باعه من بائع موروثه بأقل لا يجوز.
والفرق: وهو أن ملك الوارث غير ملك المورث، ولهذا كان للوارث أن يرد على بائع مورثه، ويصير الوارث مغروراً من جهة بائع مورثه كما يصير الموروث مغروراً، فكان بيع الوارث كبيع المورث، فأما ملك الموصى له غير ملك الموصي، ولهذا لا يرد على بائع الموصي بالعيب ولا يصير مغروراً من جهة، فأشبه المشتري والموهوب له، ثم المشتري من المشتري وهو الموهوب له من جهة المشتري لو باع من البائع الأول بأقل يجوز فكذا الموصى له.
وقد كتبت في «السير» أن مسألة الوصي على خلاف ما ذكر في «الزيادات» وإذا وكلّ الرجل رجلاً ببيع عبد له بألف درهم فباع الوكيل، ثم أن الوكيل أراد أن يشتري العبد بأقل مما باع لنفسه أو لغيره بأمره قبل نقد الثمن لا يجوز إما شراؤه لنفسه؛ لأن الوكيل بالبيع بائع لنفسه في حق الحقوق، فكان هذا شراء البائع من وجه.

والثابت من وجه في باب الحرمات كالثابت من كل وجه، وأما لغيره بأمره، فلأن شراء المأمور واقع له من حيث الحقوق، فيكون هذا شراء ما باع لنفسه من وجه، وكما لا يجوز للبائع أن يشتري ما باع بأقل مما باع، فكذا لا يجوز لعبده أن يشتري ما باع بأقل سواء كان على العبد دين أو لم يكن، أما إذا لم يكن عليه دين، فلأن شراء العبد إذا لم يكن عليه دين يوجب الملك للمولى في المشترى على الحقيقة، فصار شراء العبد كشراء المولي بنفسه.

(6/387)


دوأما إذا كان على العبد دين، أما على قول أبي يوسف ومحمد؛ لأن دين العبد عندهما لا يمنع وقوع الملك للمولى في كسب العبد، فكان شراء عبده في هذه الحالة كشرائه بنفسه، وأما على قول أبي حنيفة؛ فلأن شراء العبد إذا كان عليه دين إن كان يمنع وقوع الملك للمولى في كسب العبد حقيقة لا يمنع ثبوت حق الملك له في كسبه، فكان شراء عبده في هذه الحالة بمنزلة شراء به من وجه، وكذا لا يجوز شراء مكاتبه؛ لأن للمولى في أكساب مكاتبه حق الملك، فيكون شراء مكاتبه كشرائه بنفسه من وجه.
ولو باع المدبر أو العبد أو المكاتب لم يكن للمولى أن يشتري ما باع بأقل، ولو اختلف جنس الثمن جاز الشراء، وإن كان الثمن الثاني أقل؛ لأن المانع في الجنس الواحد شبهة الربا، والربا لا يتحقق عند اختلاف الجنس، قال: إلا أن يكون أحدهما دراهم والآخر دنانير، والثاني أقل قيمة من الأول، فيكون البيع فاسداً استحساناً؛ لأن الدراهم والدنانير جنس واحد معنى لكونها ثمن الأشياء وقيمتها، فاكتفينا بالمجانسة المعنوية احتياطاً.
وفي «القدوري» ولا يجوز أن يبيع سلعة بثمن حال، ثم يشتريها بذلك الثمن إلى أجل؛ لأن هذا في معني شراء ما باع بأقل مما باع؛ لأن الأجل يمكن نقصاناً في المالية؛ لأن المؤجل أنقص من الحال.
ولو باعه بألف درهم نسيئة سنة، ثم اشتراه بألف درهم نسيئة سنتين لا يجوز؛ لأن هذا في معنى شراء ما باع بأقل مما باع؛ لأن الزيادة في الأجل يمكن نقصاناً في المالية، وإن زاد على الثمن درهماً أو أكثر جاز، ويجعل الزيادة في الثمن الثاني بمقابلة النقصان المتمكن بزيادة الأجل، فينعدم النقصان معني.

نوع آخر في صور البيوع الفاسدة والباطلة
فمن جملة صورة الفاسدة أن يبيع بخمر أو خنزير، ومن جملة ذلك بيع الدين من غير من عليه الدين، ومن جملة ذلك صفقتان في صفقة نحو أن يقول: أبيعك هذا على أن تبيعني هذا، ومن جملة ذلك بيعان في بيع نحو أن يقول: بعتك بقفيز حنطة أو بقفيزي شعير.
ومن جملة ذلك شرطان في بيع نحو: إن أعطيتني الثمن حالاً فبكذا.
وإن كان مؤجلاً فبكذا، ومن جملة ذلك إذا باع وسكت عن الثمن؛ لأن البيع مبادلة المال بالمال، فيصير البدل مذكوراً بذكر البيع، ولكن يجعل المذكور هو القيمة؛ لأن الأصل في الأشياء هو القيمة، وإنما عدل عنها عند وجود التسمية وصحتها، ولم يوجد التسمية، وإذا صارت القيمة مذكورة صار كأنه قال: بعت بالقيمة، والبيع بالقيمة بيع فاسد، وأما إذا باع على أن لا ثمن له ففيه روايتان:
في رواية لا ينعقد أصلاً بخلاف ما إذا سكت عن ذكر الثمن أمكن أن يجعل تبعاً

(6/388)


بذكرالعوض دلالة وعند بقاء الثمن لا يمكن أن يجعل تبعاً بذكر الثمن دلالة إذ لا قوام للدلالة عند وجود الصريح بخلافها.

وفي رواية قال: ينعقد؛ لأن النفي منه لم يصح؛ لأنه نفي حكم العقد فصار وجود هذا النفي والعدم سواء، فكأنه سكت عن ذكر الثمن، ولو باع بالميتة أو الدم أو الربح، فالبيع باطل، وروي عن محمد إذا قال: أبيعك بما ترعى إبلي في أرضك أو بما تشرب من ماء بئرك أنه بيع منعقد؛ لأنه سمى شيئاً متقوماً، فإنه لو قطع الحشيش أو استقى الماء في إناء وباعه يجوز، ولكون المسمى ماء قلنا بالانعقاد، ولكونه مجهولاً قلنا بالفساد، وبخلاف الفصل الأول؛ لأن المسمى هناك ليس بمال أصلاً.
وكذلك لو باع عبد الجارية من جواري المشتري، ولم يبينها فهو بيع منعقد، ولو قال: أبيعك بالكعبة فهو بيع باطل؛ لأن المسمى ليس بمال، وإذا باع شيئاً بمكاتب أو مدبر أو أم ولد فهو بيع منعقد؛ لأن المالية ثابتة في هذه المحال، وإنما حرم بيعها بحق محترم لا لانعدام المالية وإنه لا يمنع انعقاد العقد بوصف الفساد والله أعلم.

الفصل السابع: في الشروط التي تفسد البيع والتي لا تفسد
يجب أن يعلم بأن (59ب3) الشرط الذي يشترط في البيع لا يخلو إما إن كان شرطاً يقتضيه العقد، ومعناه أن يجب بالعقد من غير شرط وأنه لا يوجب فساد العقد كشرط تسليم المبيع على البائع، وشرط التسليم الثمن بالثمن على المشتري، وهذا لأن اشتراط ما يجب بالعقد من غير شرط له؛ ولأنه لا يفيد شيئاً، فصار وجوده كعدمه، فكأنه لم يشترط شيئاً فيجوز البيع، وإن كان شرطاً لا يقتضيه العقد على التفسير الذي قلنا؛ إلا أنه يلائم العقد، ونعني به أنه يؤكد موجب العقد إذ تأكيد موجب الشيء يلائم ذلك الشيء، وذلك كالبيع بشرط أن يعطي المشتري كفيلاً بالثمن، والكفيل معلوم بالإشارة أو التسمية حاضر مجلس العقد، فقبل الكفالة، أو كان غائباً عن مجلس العقد، فحضر قبل أن يتفرقا وقبل الكفالة جاز البيع استحساناً، والكفالة إن لم تكن من مقتضيات البيع إلا أنها تؤكد موجب العقد، فما يؤكدها يكون ملائماً للعقد، فلا يؤثر في فساد العقد.
وكذلك البيع بشرط أن يعطي المشتري بالثمن رهناً والرهن معلوم بالإشارة أو التسمية جاز البيع استحساناً، وإن لم يكن الرهن من مقتضيات العقد؛ لأن الرهن يؤكد موجب العقد؛ لأن الرهن شرع وعقد وهو مؤكد لجانب الاستفاء، ولهذا اختص جوازه بالأموال القابلة للاستيفاء الثمن موجب العقد فما يؤكده يلائم موجب العقد.
قال الشيخ الإمام شيخ الاسلام المعروف بخواهر زاده في «شرحه» : فرّق محمد بين الكفيل وبين الرهن، فشرط حضرة الكفيل مجلس البيع، وقبول الكفالة بجواز البيع، ولم يشترط حضرة الرهن بجواز البيع وإنما شرط العلم به.

(6/389)


وفي «القدوري» شرط أن يكون الرهن معيناً، وهكذا شرط في «المنتقى» : وإن لم يكن الرهن معيناً، ولكن كان مسمى إن كان عرضاً لم يجز البيع، وإن كان مكيلاً أو موزوناً موصوفاً فهو جائز، وإن لم يكن الرهن معيناً ولا مسمى، وإنما شرطا أن يرهنه بالثمن رهناً فالبيع فاسد؛ لأن جهالة الرهن يوقعهما في منازعة مانعة من التسليم فالمشتري يعطيه رهناً، والبائع يطالبه برهن آخر.
قال في «المنتقى» : إلا إذا تراضيا على تعيين الرهن في المجلس، ودفعه المشتري إليه قبل أن يتفرقا، أو يعجل المشتري الثمن ويبطلان الأجل، فيجوز البيع استحساناً، وكذلك إذا لم يكن الكفيل معيناً ولا مسمى، فالعقد فاسد؛ لأن جهالة الكفيل يوقعهما في منازعة مانعة من التسليم؛ لأن الناس يتفاوتون في قضاء الدين وملاء الذمة، وإن كان الكفيل حاضراً في مجلس العقد وأبى أن يقبل الكفالة، أو لم يأتِ ولكن لم يقبل حتى افترقا، أو أخذا في عمل آخر، فالبيع فاسد استحساناً قبل بعد ذلك، أو لم يقبل.

وشرط الحوالة في هذا الباب نظير شرط الكفالة، يريد به إذا وقع البيع بشرط أن يحيل المشتري البائع على غريم من غرمائه، أما لو وقع البيع بشرط أن يحيل البائع على المشتري غريماً من غرمائه فالعقد فاسد قياساً واستحساناً.
وفي «المنتقى» : رواية ابن سماعة: إذا كان الرهن معيناً في العقد بأن اشترى رجل من آخر داراً بألف درهم على أن يعطيه بالثمن عبده هذا رهناً، فلما قبض الدار امتنع عن تسليم الرهن لم يجز عليه، ولكن يقال للمشتري: ادفعه أو افسخ العقد، أو عجل الثمن قال: ثمة وهو قول محمد.

وفي «القدوري» يقول: ولكن يقال للمشتري: إما أن تدفع الرهن أو قيمته أو يفسخ العقد؛ وهذا لأن الرهن من جانب الراهن محض تبرع؛ لأن الحق يبقى عليه بعد الرهن كما كان قبل الرهن، ولا خيار على التبرعات ولكن يخّير المشتري على نحو ما ذكرنا؛ لأن البائع ما رضي بزوال ملكه عن المبيع إلا بثمن مستوثق، فإذا فاتت الوثيقة فات وصف مرغوب، فيثبت له حق النقض إلا إن يفي المشتري بالشرط أو يدفع القيمة على ما ذكره «القدوري» ؛ لأن يد الاستيفاء للبائع إنما يثبت على المعنى وهو القيمة، فالاستيفاء في باب الرهن يقع عن معنى الرهن الا من عينه.
قال في «المنتقى:» وإن كان المشتري باع الدار أمر به أن يدفع العبد أو يعجل الثمن؛ لأن بعد البيع تعذر فسخ البيع، فيخير بين دفع العبد أو تعجيل الثمن قال ثمة: وإن مات العبد أمر به أن يدفع إليه رهناً يساوي قيمة العبد، أو تعجيل الثمن، وإن كان العبد لم يمت فقال المشتري أعطه رهناً آخر سوى العبد، فللبائع أن يمتنع منه.
وإن أراد المشتري أن يعطيه قيمة العبد دراهم أو دنانير، فليس للبائع أن يمتنع منه، ولو اشترى عبداً على أن يعطي البائع المشتري كفيلاً بما أدركه من أدرك، فهو على ما ذكرنا إن كان الكفيل مجهولاً، فالعقد فاسد، وإن كان معيناً ظاهراً وقيل، أو كان غائباً، فحضر قبل أن يفترق العاقدان وقيل، فالعقد جائز استحساناً.

(6/390)


وإن كان الشرط شرطاً يلائم العقد إلا أن الشرع ورد بجوازه كالخيار والأجل، أو لم يرد الشرع بجوازه، ولكنه متعارف كما إذا اشترى نعلاً وشراكاً على أن يحدوه البائع جاز البيع، وإن كان القياس يأبى جوازه؛ لأن التعارف والتعامل حجة يترك به القياس، ويخص به الأثر.

وروى هشام عن محمد: أنه إذا اشترى من رجل نعلاً على أن يحدوه البائع أن البيع فاسد، وإن كان الشرط شرطاً لم يعرف ورود الشرع بجوازه في صورة، وهو ليس بمتعارف إن كان لأحد المتعاقدين فيه منفعة، أو كان للمعقود عليه من أهل أن يستحق حقاً على الغير فالعقد فاسد.
وتفسير المنفعة المعقود عليه ما قال في «الكتاب» : إذا باع عبداً بشرط أن لا يبيعه ولا يهبه ولا يخرجه من ملكه بوجه من الوجوه، ففي هذا الشرط منفعة المعقود، فإن المملوك يسره أن لا تتداوله الأيدي، وإذا وافقهم في موضع لا يحبون البيع وبمثل قلبهم إلى ذلك الموضع، فالبيع بهذا الشرط لا يجوز عند علمائنا رحمهم الله.
وتفسير منفعة المتعاقدين: أن يقول للبائع: بعني هذا العبد على أن أهب لك كذا أو أقرضك كذا، فالمبيع بهذا الشرط فاسد، ثم إذا شرط منفعة المعقود عليه إنما يفسد العقد إذا كان المعقود عليه من أهل أن يستحق حقاً على الغير وذلك الرقيق، فأما سوى الرقيق من الحيوانات التي لايستحق على الغير حقاً، فاشتراط منفعة لا يفسد العقد حتى لو اشترى شيئاً من الحيوان سوى الرقيق بشرط أن لا يبيعه، أو لا يهبه، فالبيع جائز، وفي هذا الشرط منفعة للمعقود عليه.

فإن الناس يتفاوتون في الإحسان في حق دوابهم، فالمشتري وبما يكون أكثر تعاهداً بالمشترى من غيره، وإنما جاء الفرق؛ لأن المعقود عليه إن كان من أهل الاستحقاق، فالشرط يفسد وجوب المشروط في حقه أوضح، والشرط متى أفاد وجوباً يجب اعتباره، فالمشروط يطالب بحكم الشرط والمشروط عليه يمتنع بحكم الشرع، فإن الشرع نهى عن بيع وشرط مطلقاً إلا أن شرطاً يقتضيه العقد، أو يلائم موجب العقد، أو ورد الشرع بجوازه، وكان متعارفاً صار مخصوصاً عن قضية النهي، فبقي ما وراءه داخلاً تحت النهي فتقع المنازعة (60أ3) بينهما في إبقاء المشروط، وكل عقد يفضي إلى المنازعة يحكم بفساده، فأما إذا لم يكن المعقود عليه من أهل أن يستحق حقاً على الغير، فالشرط لا يغير وجوب المشروط، فيجعل وجوده والعدم بمنزلة، فكان البيع حاصلاً من غير شرط معنىً، وإن كان شرط المنفعة جرى بين أحد المتعاقدين وبين أجنبي بأن اشترى على أن يعوض البائع فلأن الأجنبي كذا وقبل المشتري ذلك.
ذكر الصدر الشهيد في «شرح الجامع» : في باب الزيادة في البيع من غير المشتري أن العقد لا يفسد. وذكر القدوري: أن العقد يفسد، وصورة ما ذكر القدوري إذا قال المشتري للبائع: على أن تعوضني، أو على أن تعوض فلاناً، وذكر أن العقد فاسد.
وفي «المنتقى» : قال محمد رحمه الله: كل شيء يشترط المشتري على البائع يفسد

(6/391)


به البيع، فإذا شرط على أجنبي فهو باطل من ذلك إذا اشترى من غيره دابة على أن يهب له فلان الأجنبي عشرين درهماً فهو باطل، كما لو شرط على البائع أن يهب له عشرين درهماً، وكل شيء يشترط على البائع لا يفسد به البيع، فإذا شرط على أجنبي فهو جائز، وهو الخيار.

من جملة ذلك إذا اشترى من آخر عبداً بمائة على أن يحط فلان الأجنبي عشرة دراهم عنه، فالبيع جائز وهو بالخيار إن شاء أخذها به، وإن شاء ترك.

وفي «نوادر ابن سماعة» : عن أبي يوسف: إذا اشترى من آخر شيئاً على أن يهب البائع لابن المشتري أو لفلان الأجنبي من الثمن ديناراً فالبيع فاسد، وإن كان شرطاً لم يكن لأحد المتعاقدين ولا للمعقود عليه منفعة، بل فيه لأحد المتعاقدين مضرة بأن باع ثوباً بشرط أن لا يبيعه ولا يهبه.
ذكر في آخر المزارعة ما يدل على أن البيع جائز، وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة: أن البيع فاسد، وهو قول أبي يوسف.
وجه الجواز لأبي حنيفة ومحمد: أن المشروط إن كان منفعة في حق أحد المتعاقدين إنما يوجب فساد العقد؛ لأن المشروط له يطالب بحكم الشرط، والآخر يمتنع بحكم الشرع، فيتنازعان ولا مطالبة في موضع الضرر، فصار وجود هذا الشرط والعدم بمنزلة.
وروى الحسن عن أبي حنيفة: إذا اشترى من آخر دابة أن لا يبيع ولا يهب، أو جملاً على أن لا يعلفه، فالبيع جائز، وكذلك إذا قال: على أن ينحره، وإن قال: على أن يبيعه من فلان، أو على أن لا يبيعه منه فالبيع فاسد.
وإن اشترى على أن يبيعه أو يهبه، ولم يقل: من فلان، فالبيع جائز.
قال في «المنتقى:» وهكذا روى ابن سماعة عن محمد، وإن اشترى على أن لا يبيع إلا بإذن فلان فالبيع فاسد أيضاً، وإن كان شرطاً ليس منه منفعة ولا مضرة نحو أن يبيع طعاماً بشرط أن يأكله، أو ثوباً بشرط أن يلبسه فالبيع جائز.
وإذا باع جارية بشرط أن يطأها المشتري، أو بشرط أن لا يطأها قال أبو حنيفة: البيع فاسد في الموضعين، وقال محمد: البيع جائز في الموضعين، وقال أبو يوسف: إن باعها بشرط أن يطأها فالبيع جائز، وإن باع يشرط أن لا يطأها فالبيع فاسد.
وإذا اشترى جارية بشرط أن لا يستخدمها، فعن أبي يوسف أن البيع فاسد، وكذا عن أبي يوسف: فيما إذا اشترى طعاماً بشرط أن لا يأكله ولا يطعمه أن العقد فاسد.
المعلى عن أبي يوسف: إذا اشترى من آخر شيئاً على أن يعطي الثمن فلان، فالبيع جائز سواء كان حاضراً أو غائباً.

وذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «شرح كتاب المكاتب» في الباب الثاني منه أن من باع على أن يعطي ثمنه من مال فلان، فقد اختلف المشايخ في جواز هذا البيع.
وفي «المنتقى» : إذا قال لغيره: أبيعك بألف درهم لك على فلان فصار مني لك عن فلان فالبيع جائز، وهو متطوع عن فلان.

وفي «نوادر ابن سماعة» : عن محمد: إذا باع الرجل عبداً له من رجل بالدين الذي

(6/392)


للمشتري على فلان، وهو ألف، ورضي به فلان فهو جائز، والمال للبائع على الغريم الذي عليه الدين؛ لأنه لو قال لمولى العبد: بع عبدك فلاناً بماله علي من الدين فهذا جائز، ولمولى العبد ألف على الغريم كأنه دفع عبده إلى الغريم ليبيعه بما للطالب عليه من الدين.
وفي «المنتقى» : إذا قال الرجل لغيره: أشتري منك هذا بالمائة التي على فلان فهو فاسد، وقال زفر: صحيح، وعليه خرجت تلك المائة أو لم تخرج، وإن قال: أبيعك ثوباً لك على فلان على أن تبرئ فلان الغريم عما عليه لك فهو جائز، وإذا قال لغيره: أبيعك هذه الجارية على أن تشتريها لنفسك فالبيع فاسد، هكذا ذكر في «المنتقى» .
وفي «البقالي» : عن أبي يوسف جوازه بخلاف قوله: على أن لا يشتريه، وإذا اشترى عبداً وشرط الخيار لنفسه شهراً على أنه عرضه على بيع أو استخدمه فهو على خياره فالبيع فاسد، وإذا كان لرجل على رجل دينار، فاشترى منه ثوباً على أن لا يقاضه فالبيع فاسد.
وإذا باع عبداً بشرط أن يعتقه المشتري فالبيع فاسد في ظاهر الرواية أصحابنا حتى لو أعتقه المشتري قبل القبض لا ينفذ عتقه، ولو قبضه، ثم أعتقه ينقلب البيع جائزاً حتى يلزمه القيمة، وروى ابن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة مثل قولهما.

وجه قولهما: أنهما شرطا شرطاً لا يقتضيه العقد ولا يلائمه، ولم يرد الشرع بجوازه، وإنه غير متعارف فيما بين الناس، وللمعقود عليه فيه منفعة، فيفسد العقد كما لو باع بشرط أن يدبر المشتري أو يكاتبه، أو باع جارية بشرط أن يستولدها المشتري.
وإنما قلنا: لا يقتضيه العقد؛ لأن البيع لا يوجب العتق على المشتري في غير القريب ولا يلائمه؛ لأن في العتق إزالة ملك المشتري عن العبد، والبيع يوجب الملك فما يزيله لا يكون ملائماً للبيع ولم يرد الشرع بجوازه، وإنه غير متعارف؛ لأن الشراء بهذا الشرط لا يكثر وجوده، والمتعارف ما يكثر وجوده فيما بين الناس كشراء النعل بشرط أن يحدوه البائع، وكان الاستصناع، وفيه منفعة للمعقود عليه، وإنه ظاهر أيضاً، والتقريب ما مر.
ولأبي حنيفة رحمه الله: أن الشراء بهذا الشرط متعارف من وجه من حيث إن الناس يبيعون المملوك بهذا الشرط، وغير متعارف من وجه من حيث إنه لا يكثر وجوده، فلكونه غير متعارف من وجه أفسدناه في الابتداء، ولكونه متعارفاً من وجه جعلناه جائزاً بعد العتق، أو نقول: هذا الشرط إذا كان متعارفاً من وجه دون وجه كان المفسد موجوداً من وجه دون وجه، فحكمنا بالفساد على سبيل التوقف لا على سبيل الثبات، فإن استهلك بوجه آخر يتقرر الفساد لكونه غير متعارف ويلزمه القيمة، وإن أعتقه يتقرر الجواز لكونه متعارفاً، ويلزمه الثمن.
وجه آخر لأبي حنيفة: إن هذا الشرط يلائم البيع، ولا يلائمه من وجه، من حيث إن فيه إزالة الملك لا يلائم البيع، ومن حيث إنه ينهي الملك ولا يقطع، وفي الإنهاء تقرير وإتمام يلائمه.

(6/393)


ولهذا قلنا: إن المشتري إذا أعتق العبد، ثم اطلع على عيب به كان له الرجوع بنقصان العيب كما لو مات حتف أنفه، فمن حيث (60ب3) إنه لا يلائم العقد حكمنا بفساد العقد في الحال، ومن حيث إنه لائم العقد حكمنا بجوازه إذا أعتق، ويمكن أن يقال: إذا كان شرط العتق يلائم البيع من وجه، ولا يلائمه من وجه حكمنا بفساد العقد على سبيل التوقف آخر ما ذكرنا.
وروى أبو شجاع عن أبي حنيفة: أن المشتري إذا أعتقه قبل القبض جاز، وهذا دليل على أن الفساد غير متقرر؛ إذ لو كان متقرراً كان لا يثبت الملك للمشتري قبل القبض وبدون الملك لا يصح إعتاقه، وهذا بخلاف شرط التدبير والاستيلاد والكتابة، والتدبير والاستيلاد شرط لا يلائم العقد بوجه؛ لأن هذه التصرفات إنهاء الملك؛ لأن إنهاء الملك إنما يتحقق إذا وقع الأمن عن الزوال عن تملك المشتري إلى ملك غيره كما في العتق والموت، وبهذه التصرفات لا يقع الأمن عن زوال الملك بجواز أن يباع فيقضي القاضي بجواز البيع في المدبر وأم الولد، ويجيز المكاتب بيع نفسه، وإذا لم تكن هذه التصرفات إنهاء للملك لا محالة لم يكن ملائماً للعقد بوجه ما.
l
وفي «الأمالي» : عن أبي يوسف برواية بشر: رجل اشترى داراً على أن يتخذها مسجداً للمسلمين فالبيع فاسد، قال: لأن المسجد يخرج عن ملك متخذه، وكذلك لو باع منه طعاماً يتصدق به.
وفي «المنتقى» : إذا اشترى جارية على أن يحسن إليها أو على أن يسيء إليها فالبيع جائز رواه عن الحسن.
وفي «البقالي» : إذا باع عبداً، وشرط أن يطعمه خبيصاً لم يجز.
وفي «المنتقى» : أيضاً رواية الحسن عن أبي حنيفة: إذا اشترى جارية على أن يكسوها القز، أو على أن يضربها فالبيع فاسد.
إذا اشترى من أحد داراً على أن يسلم البيع له وعلم أن لفلان فيها شيئاً، أو لم يعلم فالبيع فاسد. وقال الحسن: إن علم أن له فيها شيئاً فإن سلم المبيع جاز وإلا كان بالخيار في حصة البائع، فإن شاء أجازه، وإن شاء أبطله.

وفي «المنتقى» : إذا كان قال للمشتري: اشترِ هذا الثوب بكذا وأنت بريء، فاشترى فهو بريء.
وفيه أيضاً: إذا اشترى من آخر عيناً بكذا على أن يحط من ثمنه كذا أو على أنه حطه من ثمنه كذا فالبيع جائز، والحط جائز ويكون البيع بما وراء المحطوط، قال ثمة: وقوله: على أن يحط، مثل قوله: حططت، ألا ترى أنه لو قال لمديونه: صالحتك مما لي عليك على كذا على أن أحط لكنه كذا، فهذا حطه جائز ولو قال: بعتك هذا العبد بكذا على أني قد وهبت لك من ذلك كذا وهو حط.

وفي «فتاوي أبي الليث» : لو قال: علي أن أهب لك من ثمنه كذا لا يجوز وذكر في «المنتقى» : أنه يجوز.
وفي «نوادر هشام» : قال: سألت محمداً عن رجل قال لغيره: بعتك هذا الغلام

(6/394)


بألف درهم على أني قد بعتك هذا الآخر بمائة دينار، فقال المشتري: قبلت البيع في ذلك، فالبيع جائز على الغلامين جميعاً.
وعن محمد برواية هشام أيضاً: إذا قال: بعتك عبدي هذا بألف درهم على أن أبيعك هذا الآخر بمائة دينار إن هذا باطل، وإذا قال: بعتك هذا العبد بألف درهم وعلى أن تقرضني عشرة جاز البيع، ولا يعتبر قوله: وعلى أن تقرضني شرطاً؛ لأنه ذكر بحرف الواو، فكان معطوفاً على الأول لا شرطاً.
ومثله لو قال: على أن تقرضني عشرة يعتبر ذلك شرطاً حتى يفسد البيع، وهو نظير ما لو كان لرجل أرض بيضاء فيها نخيل، فقال: دفعت إليك النخيل معاملة على أن يزرع الأرض البيضاء فسدت المعاملة، واعتبر قوله: أن يزرع شرطاً للمزارعة في المعاملة، ولو قال: وعلى أن يزرع الأرض البيضاء لا يفسد المزارعة ولم يعتبر ههنا شرطاً، ويعرف عن هاتين المسألتين كثير من المسائل.
ذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهرزاده هاتين المسألتين في صلح «المبسوط» : في باب الصلح عن الدين، وإذا قال المشتري: زدتك في الثمن مائة على أن تبيعني بألف درهم، ففعل جاز البيع، وكان البيع بألف درهم ومائة، وكذلك إذا قال: أهب لك زيادة في الثمن.

رجل قال لغيره: بع عبدك هذا من فلان على أن أجعل لك مائة درهم جُعلاً على ذلك، فباعه من فلان بألف، ولم يكن في عقده البيع شرط فالبيع جائز، والجعل لا يلزم، وإن كان بعده فله أن يرجع فيه من قبل أن الجعل ليس في الثمن، ولو شرط ذلك في عقد البيع فالبيع فاسد، قال: وكذلك الهبة، كذا ذكر المسالة في «المنتقى» عن أبي يوسف.
وفي «المنتقى» : إذا قال: جعلت لك مائة درهم على أن تبيعني عبدك هذا بألف درهم، ففعل بطل البيع للشرط الذي فيه؛ لأن الجعل ليس من الثمن، وكذلك إذا قال: أهب لك، والمسألة بحالها، وكذلك أرشوك مائة درهم على أن تبيع من فلان بألف درهم فقال: نعم، ثم باع هو فلان، ولم يكن فيه ... يؤخذ الدين........ بالرشوة.
ولو باع من آخر ثوباً بعشرة دراهم سحتاً، أو رشوة فالبيع جائز.
وفي «نوادر ابن سماعة» : عن أبي يوسف: إذا اشترى من آخر شيئاً على أن يدفعه إلى المشتري الثمن فالبيع فاسد.
وفي «نوادر ابن سماعة» : عن محمد: رجل قال لغيره: بعتك عبدي هذا بكذا على أن تعطيني عبدك هذا، أو قال: على أن تجعل لي عبدك هذا فالبيع فاسد؛ لأن هذا عبدي على الهبة، فقد شرط في الهبة بيعاً، فيوجب فساد البيع إلا أن يقول: على أن تعطيني عبدك هذا زيادة فيجوز، ويكون العبد زيادة في البيع، وإذا قال: أبيعك هذا العبد على أن تبيعه وتعطيني ثمنه فالبيع فاسد، وإذا قال: بعتك عبدي هذا بألف درهم وعلى أن يخدمني سنة أو قال: على أن يخدمني سنة فهذا باطل، وكذلك لو قال: أبيعك عبدي بثلاثمائة درهم ويخدمنك سنة، أو قال: أبيعك عبدي لخدمتك سنة فهو كله باطل.

(6/395)


نوع آخر

إذا باع برذوناً على أنه هملاج فالبيع جائز، وإذا اشترى شاة على أنها حامل، أو اشترى ناقة على أنها حامل، فالبيع جائز ذكره الحسن في بيوعه؛ لأن المشروط صفة من أوصاف البيع؛ لأن الولد ما دام في البطن في حق التصرفات المضافة إلى الأم ألحق بسائر أوصافها من اليد والرجل، فصار اشتراط أنها حامل كاشتراط أنها ذات يد وذات رجل.
وفي ظاهر الرواية لا يجوز؛ لأن الحبل في البهائم زيادة، ولا يدري وجودها وقت البيع، فكان فيه غرراً، فيفسد به البيع كما لو باع معها، وكذا بخلاف ما لو باع برذوناً على أنه هملاج؛ لأن الوقوف على المشروط ممكن وقت البيع بالسر، أما ههنا بخلافه.
ولو باع شاة على أنها حلوب فالبيع جائز كذا ذكره الحسن في «المجرد» وكذا ذكر الطحاوي في اللبون؛ لأن المشروط صفة من أوصاف المبيع، ويمكن الوقوف على وجوده وقت البيع، فصار كما لو باع برذوناً على أنه هملاج، وبه أخذ الفقيه أبو الليث، والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمهما الله. وذكر الكرخي أن البيع فاسد، وهكذا روي ابن سماعة في «نوادره» ، وبه كان يفتي ظهير الدين المرغيناني رحمه الله.
وإذا اشترى جارية على أنها ذات لبن، فهذا وما لو اشترى شاة على أنها لبون سواء.
ووجه ذلك: أن المشروط وإن كان من أوصاف المبيع إلا أن هذا (61أ3) وصف لا يدري وجوده وقت البيع، فكان في البيع غرر فيكون فاسداً، ولو باع شاة على أنها تحلب كذا كذا، فالبيع فاسد باتفاق الروايات؛ لأن المشروط ليس بصفة بهذه الصورة، فإنه لم يقل: على أنها حلوب، وإنما قال: على أنها تحلب كذا كذا، فيكون اشتراط اللبن المحلوب، وإنه مجهول على خطر الوجود فاشتراطه يوجب غرراً في العقد، فيوجب الفساد.
وكذلك لو اشتراها على أنها تضع بعد شهر فالعقد فاسد، وكذلك لو اشترى سمسماً وزيتوناً على أن فيه كذا من الدهن فالعقد فاسد.

وإذا اشترى دابة على أنها ذات أسنان لبن فالشراء جائز؛ لأن المشروط صفة من أوصاف، المبيع والموقوف عليه ممكن وقت البيع.
فهو بمنزلة ما لو اشترى فرساًعلى أنه هملاج، ولو اشترى جارية على أنها حامل، فقد ذكر الفقيه أبو بكر البلخي رحمه الله: أن المشايخ اختلفوا في جواز العقد، بعضهم قالوا: لا يجوز كما لو اشترط الحمل في البهائم، وهذا القائل يستدل بما ذكر محمد رحمه الله في كتاب البيع: إذا باع جارية وتبرأ من الحمل يجوز، فإنما حكم بجواز البيع في الجارية إذا تبرأ من الحمل، فهذا دليل على أنه إذا اشترط الحمل يفسد، وهذا لأن المشروط مما لا يوقف عليه وقت البيع، وقال بعضهم: البيع جائز.

قال الفقيه أبو بكر البلخي رحمه الله: وهذا القول أصح عندي من قبل أن الحمل في ثبات أدم بعد نقصاناً لا زيادة، فإنه يوجب ضعفاً فيها واشتراط الحمل يكون تنبهياً من العيب، ولا يكون اشتراطاً كقولك: بعتك هذه الجارية على أنها عوراء أو عرجاء،

(6/396)


فالشراء عن العيب كما يثبت بلفظ البراءة يثبت بالشرط.
وعن الفقيه أبي جعفر رحمه الله: أن اشتراط الحمل إن كان من جهة البائع، فهو تبري عن العيب، ولا يفسد العقد، وإن كان من جهة المشتري، فهو شرط على الحقيقة، والمشروط خطر العدم فيفسد العقد، من المشايخ من قال: اشتراط الحمل في الجارية إن كان لأجل الزيادة، بأن كان يشتريها ليتخذها ظئراً يفسد البيع، وإن كان لاتخاذها ظئراً، فاشتراط الحمل على وجه التبري، فيكون البيع جائزاً، وقد ذكر هشام في «نوادره» عن محمد رحمهما الله ما هو قريب من هذا، فإنه روى أنه قال: البيع جائز إلا أن يظهر المشتري أن لا يشتريها للظؤورة لا يجوز البيع.

وذكر الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي رحمه الله: أن الجارية إن كانت نفيسة فالبيع جائز؛ لأن الحبل منها عيب، وإن كانت خسيسة بحيث يشتري ليتخذ ظئراً فالعقد فاسد؛ لأن الحبل في مثلها يعد زيادة، وإذا اشترى جارية على أنها تحيض، فوجدها لا تحيض لسبب الإياس كان له الرد؛ لأنه اشتراها للحبل، والآيسة لا تحبل.
ولو اشترى جارية على أن البائع لم يكن يطأها، ثم ظهر أنه قد كان وطئها ليس له أن يردها، وإذا باع جارية على أنها مغنية، أو باع قمرياً أو غيره، وشرط أنه يضع، أو طيراً بشرط أن يجيء من المواضع البعيدة، أو كبشاً نطاحاً، أو ديكاً مقاتلاً، فالبيع فاسد، في قول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن محمد؛ لأن هذه الجهات محظورة لكونها جهات محظورة فإدخالها في البيع يوجب فساد البيع.
وإن صياح القمري وصياح الديك وأشباه ذلك عسى لا يوجد، والإجبار عليه غير مكن، فكان المشروط شيئاً لا يقدر على تسليمه، فيوجب فساد البيع.
وروي عن محمد: إنه إذا باع قمرياً على أنها تصوت فصوتت جاز؛ لأن هذه خلقة فيها، فيمكن تسليم المشروط، فلهذا قال على هذه الرواية في المحرم: إذا قتل القمرية المصوتة إنه يضمن قيمتها مصوتة بخلاف ما لو قتل صيداً يجيء من المواضع البعيدة، فإن هناك لا يعتبر قيمة الصفة في الضمان؛ لأن ذلك ليس بخلقة هكذا ذكر القدروي.
وذكر في «المنتقى» : عن محمد: إذا باع فاختة أو قمرية على أنها تصوت، ولم يكن يذكر فصوتت، وأجاب بأنه يجوز، وذكر في «المنتقى» عن محمد: فيما إذا اشترى حمامة يجيء من الصالحين أن شريحا ضمنه حمامة يجيء من الصالحين وأنا ضمنه مثل ذلك ولا أجوزه في البيع، وإذا باع بازياً على أنه يصيد قال أبو يوسف: البيع جائز، وعن محمد روايتان، وإذا باع جارية على أنها مغنية على وجه التبري من العيب فهو جائز؛ لأنها كونها مغنية عيب فالتبري عن العيب في البيع لا يفسد البيع.

وفي «الأصل» : إذا باع كلباً على أنه عقور أو حمامة على أنها دوارة لا يجوز إلا أن يبين ذلك على وجه العيب، فعلى هذا في كبش النطاح والديك المقاتل إذا ذكر الصفة على وجه العيب.
وذكر في «المنتقى» : عن محمد: وإذا باع جارية على أنها مغنية أن الشراء جائز،

(6/397)


ولم يشترط ذكر ذلك على وجه العيب، قال ثمة: ولا أرد البيع إن كانت تغني أو لا تغني؛ لأن هذا عيب تبرأ منه.
قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : وإذا اشترى الرجل من آخر عبداً على أنه كاتب أو خباز فالبيع جائز، فإن قبضه المشتري فوجده كاتباً أو خبازاً على أدنى ما ينطلق عليه الاسم لا يكون له حق الرد بوجود المشروط، فإن المستحق بمطلق العقد أدنى ما ينطلق عليه الاسم لا النهاية في الجودة كذا ههنا.
وقوله: أدنى ما ينطلق عليه اسم الكتابة والخبز، معناه أن يفعل من ذلك ما يسمى الفاعل به خبازاً وكاتباً، وهذا لأن كل واحد في العادة لا يعجز من أن يكتب على وجه يبين حروفه وأن يخبز مقدار ما يدفع الهلاك عن نفسه، وبذلك لا يسمى كاتباً وخبازاً بشرط الإتقان بأدنى ما ينطلق عليه اسم الكاتب والخباز باعتباره لهذا، قال: وإن وجد الحسن الكتابة والخبز، ومعناه أنه لا يعرف من ذلك مقدر ما يسمي الفاعل به كاتباً وخبازاً كان للمشتري الرد، فإن امتنع الرد بسب من الأسباب رجع المشتري على البائع بحصته من الثمن، فيقوم العبد كاتباً وخبازاً على أدنى ما ينطلق عليه الاسم إذ هو المستحق بالشرط، ويقوم غير كاتب وخباز.
فينظر إلى تفاوت ما بين ذلك، فإن كان مثلاً العشر يرجع على البائع بعشر الثمن كما في خيار العيب، وإن كان التفاوت مثلاً الخمس يرجع على البائع بخمس الثمن، وسيأتي الكلام فيه في مسائل العيب إن شاء الله تعال.

وروى الحسن عن أبي حنيفة: أنه ليس للمشتري أن يرجع على البائع ههنا بشيء؛ لأن ثبوت الخيار للمشتري إنما كان بالشرط لا بالعقد، وتعذر الرد في خيار الشرط للمشتري لا يوجب الرجوع للمشتري على البائع بشيء، ولكن ما ذكر في ظاهر الرواية أصح؛ لأن ثبوت الخيار للمشتري ههنا ما كان بحكم الشرط، وليس أثر الشرط في إثبات الخيار للمشتري، بل أثره في صيرورة المشروط مستحقاً بالعقد، ثم ثبوت خيار لعجز البائع عن تسليم صفة السلامة، فإن وقع الاختلاف بين المشتري وبين البائع في هذه الصورة بعد ما مضى حين من وقت البيع فقال المشتري: لم آخذه كاتباً ولا خبازاً، وقال البائع: إني سلمته إليك كاتباً وخبازاً، ولكنه نسي عندك، وقد ينسى في مثل تلك المدة، فالقول قول المشتري، هكذا ذكر المسألة في «بيوع الجامع» : لأن الاختلاف وقع في وصف عارض؛ لأن الأصل عدم الكتابة والخبز، فيكون القول قول المنكر لهذا الوصف، وهو المشتري.

قال في «الجامع» أيضاً: وكذلك لو قال البائع: هو الساعة كما شرطت، وقال العبد: أنا كذلك إلا أني لا أفعل كان القول قول المشتري، ولا يعتبر قول العبد أما؛ لأنه لا شهادة له، ولأنه شهادة فرد، وروى ابن سماعة عن أبي يوسف: أن المشتري إذا زعم أن العبد ليس بخباز، فإني أسأل العبد فإن قال: لست بخباز رددته.
وإن اشترى جارية بغير شرط طبخ ولا خبز وهي تحسن ذلك فنسيت (61ب3) في يد البائع ردها؛ لأن الجارية بالعقد صارت مستحقة على الصفة الموجودة وصار

(6/398)


الاستحقاق بحكم الوجود كالاستحقاق بحكم الشرط في «القدوري» .
وكذلك اشترى جارية على أنها بكر، فإذا هي غير بكر عرف ذلك بإقرار البائع كان للمشتري الخيار لما مر، فلو امتنع الرد بسبب من الأسباب رجع المشتري على البائع بحصة البكارة من الثمن، فتقوم وهي بكر أو تقوم وهي غير بكر، فيرجع بفضل ما بينهما، ولكن من الثمن، ولو شرط الثيابة فوجدها بكراً، فهي له ولا خيار للبائع.

في «القدوري» وإن وقع الاختلاف بين البائع والمشتري، وكان الاختلاف بعد قبض المشتري الجارية، فقال المشتري: لم أجدها بكراً، وقال البائع: كانت بكراً لكن ذهبت البكارة عندك، كان القول قول البائع مع يمينه؛ لأن البكارة صفة أصلية في النساء، فكان المدعي لوجودها وقت التسليم، وهو البائع متمسكاً بالأصل لكن يحلف البائع إليه بالله لقد باعها وقبضها المشتري وإنها بكر.
وليس المراد من قول المشتري: لم أجدها بكراً الامتحان بالوطء فإن الوطء مانع من الرد بالعيب، ولكن معناه إني علمت أنها ليست ببكر بخبرها أو تحيرها، وهذا إذا وقع الاختلاف بعد قبض الجارية.
فأما إذا وقع الاختلاف قبل قبض مشتري الجارية، فقال المشتري: هي ليست ببكر، وقال البائع: هي بكر، فالقاضي يريها النساء بخلاف الوجه الأول؛ لأنه هناك اتفقا على عدم البكارة وقت الخصومة، إنما اختلفا فيما مضي، ورؤية النساء للحال لا يفيد العلم فيما مضى، أما هنا اختلفا في قيام البكارة للحال، ورؤية النساء في الحال يفيد العلم في الحال.
فإن قلن: هي بكر، ذكر في «الجامع» : أنه يلزم المشتري من غير يمين البائع؛ لأن شهادة النساء ههنا تأيدت بمؤيد، فإن البكارة أصل في بنات أدم، وشهادة النساء هي تأيدت بمؤيد صارت كشهادة النساء مع الرجل، ولو قامت شهادة النساء مع الرجال على البكارة لزمت الجارية المشتري من غير يمين البائع كذا ههنا.

ونظير هذا ما قال في كتاب «الاستحسان» : إن امرأة العنين إذا ادعت أنها بكر بعد مضي المدة، وادعى الزوج الوصول إليها، فالقاضي يريها النساء فإن قلن: هي بكر يجبر من غير يمين الزوج، فقد أثبت الفرقة بشهادتهن من غير يمين الزوج لما تأيدت شهادتهن بمؤيد فههنا كذلك، وإن قلن: إنها ليست ببكر يلزم المشتري مع يمين البائع بالله إنها لبكر، ولا ينتقض البيع؛ لأنا جعلنا في الابتداء القول للبائع، فلو ردت الجارية عليه إنما ترد بشهادة النساء بانفرادهن، وشهادة النساء بانفرادهن إذا لم تتأيد بمؤيد غير معتبرة لبناء الأحكام عليها، وهذا على أصل أبي حنيفة رحمه الله ظاهر؛ لأن عنده شهادة النساء حجة ضرورية الثيابة الرد بجواز أنها كانت بنتاً وقت البيع، وعلم المشتري بذلك، ورضي به، فلم تثبت الثيابة بشهادتهن في حق الرد.

فأما على قولهما: فشهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال حجة مطلقة، فينبغي أن يثبت الثيابة بشهادتهن في حق الفسخ، وقد روي عن محمد في «النوادر» في هذا الفصل أنه تثبت الثيابة بشهادتهن في حق الفسخ على قياس قولهما، فعلى هذا يحمل ما ذكر ههنا على أنه قول أبي حنيفة، وفائدة شهادة النساء ههنا على قول أبي حنيفة بوجهين: بوجه

(6/399)


اليمين على البائع، فإن قبل شهادتهن كان لا يتوجه اليمين على البائع والآن يتوجه.
والوجه في هذا: أن دعوى المشتري الثيابة على البائع لم يعتبر في حق توجيه اليمين على البائع عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه عارض دعوى المشتري ما يبطلها، وهو كون البكارة أصلاً في بنات آدم، وقد بطل اعتبار هذا الأصل بمعارضة شهادة النساء بقي دعوى المشتري معتبراً في حق توجيه اليمين على البائع، فإن نكل البائع ردت الجارية عليه، وإن حلف انقطعت الخصومة، ولزم المشتري الجارية.

أما قبل شهادة النساء لم يبطل كون البكارة أصلاً، فبقيت المعارضة بينهما وبين دعوى المشتري، فلا يعتبر دعوى المشتري في حق توجه اليمين على البائع، فإن لم يكن بحضرة القاضي من النساء من يثق بقولها ألزمت الجارية المشتري من غير يمين البائع لما ذكرنا أن دعوى المشتري من غير شهادة النساء غير معتبر في حق توجيه اليمين على البائع.
ولو كان المشتري اشترى عبداً على أنه كاتب أو خباز، فلم يقبضه المشتري حتى قال: ليس هذا كما شرطت لا يجبر على قبضه، ولو اشترى جارية على أنها بكر، فقال المشتري قبل القبض: ليس هذا كما شرطت لي يجبر على قبضه؛ لأن في الفصل الأول القول قول المشتري، فلا لعبد يجبر على القبض.
قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : وإذا اشترى قوصرة تمر على أنه فارسي، فإذا هو دقلاً ثبت له حق الرد لو امتنع الرد بسبب من الأسباب يقوم فارسياً على أدنى ما ينطلق عليه الاسم، ويقوم دقلاً على هيئة، ويرجع بفضل ما بينهما، ولكن من الثمن.
وكذا إذا اشترى قوصرة تمر فارسي على أنه جيد، فإذا هو رديء، وقد امتنع العيب بسبب من الأسباب يقوم فارسياً جيداً على أدنى ما ينطلق عليه الاسم، ويقوم ردياً كما هو، فيرجع بفضل ما بينهما، وإذا اشترى أرضاً على أن خراجها على البائع أبداً، فهذا على وجهين:
إما إن شرط جميع الخراج على البائع، وفي هذا الوجه البيع فاسد؛ لأنه شرط شرطاً لا يقتضيه العقد؛ لأنه شرط قضاء دين المشتري، والعقد لا يقتضيه ولا يلائمه، وإنه غير متعارف، وللمشتري فيه منفعة، فيوجب فساد العقد.

وإما إن شرط بعض الخراج على البائع وأنه على وجهين أيضاً: إن كان المشروط على البائع ما هو من أصل الخراج، فالعقد فاسد لما قلنا، وإن كان المشروط على البائع ما هو زائد على أصل الخراج فالبيع جائز؛ لأنه شرط في البيع أن لا يجب عمل الظلم على المشتري، وهذا ثابت بدون الشرط.

وفي «فتاوي أبي الليث» : إذا اشترى ضيعة مع خراج درهم وخراجها ثلاثة دراهم، فإن كان المشتري عالماً بأن خراجها ثلاثة دراهم فالعقد فاسد؛ لأن هذا بيع شرط أن

(6/400)


يجب الخراج على البائع، وهذا شرط فاسد لما مر، وإن لم يعلم المشتري بذلك فالبيع صحيح، وللمشتري الخيار، إن شاء قبلها بخراجها، وإن شاء تركها.
وقد قيل: إذا كان المشتري يعلم أن خراجها في الأصل درهم، وزيد عليه بعد ذلك درهمان يجب أن لا يفسد العقد كما في المسألة الأولى؛ إذ المعنى لا يوجب الفصل.
وفي «فتاوى الفضل» : إذا باع أرضاً خراجها درهم فإذا خراجها ثلاثة دراهم، فالعقد فاسد ذكر المسألة مطلقة من غير فصل بينهما، إذا علم المشتري أن خراجها ثلاثة دراهم، أو لم يعلم، ويجب أن تكون المسألة على التفصيل الذي ذكرنا في مسألة «فتاوى أبي الليث» .
t
ولو اشترى أرضاً بغير خراج والأرض خراجية فالبيع فاسد، وهذا إذا كانت الأرض خراجية في الأصل، فأما إذا لم تكن خراجية في الأصل، ثم وضع عليها الخراج ظلماً، فالبيع يكون جائزاً، وإذا كانت الأرض خراجية في الأصل، فإنما يفسد العقد إذا علم المشتري أنها خراجية على ما ذكرنا.
وسئل القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله: عن أرض خراجها عشرة، فباعها مالكها مع خراج خمسة عشر زاد عليها من خراج أرض أخرى، قال: البيع فاسد، وكذا في جانب النقصان هكذا أجاب، والجواب في جانب النقصان يؤل وتأويله ما ذكرنا، فسئل: وإن لم يعلم بمقدار أصل الخراج على هذه الأرض، واختلف البائع والمشتري في المقدار، فادعى المشتري أقل، وادعى البائع (62أ3) أكثر هل ينظر إلى خراج مثل هذه الأرض في تلك القرية؟ وإن أراد المشتري أن يحلف البائع ما يعلم أن أصل الخراج كذا له ذلك، قال: الخصم في الخراج نائب السلطان.

فسئل وما قوله إذا كانت البلدة خراجية إلا أنه لا يعلم كيف وضع أصل الخراج غير أنهم يوزعون الخراج على الشرب بذلك جرى العرف بينهم في القديم، فباع رجل أرضاً بغير خراج، أو بخراج قليل هل يجوز؟ قال: هذا مخالف لحكم الشرع.
إذا اشترى أرضاً على أنها حرة عن النوائب، فاذا طالب المشتري بالنوائب، فله أن يردها على البائع إن كان حياً وعلى ورثته إن كان ميتاً، وكذلك إذا اشتراها على أن قانونها نصف دانق، فإذا هو أكثر، فله أن يردها، ثم هذا البيع جائز.

بخلاف ما إذا اشترى الأرض على أنه لا خراج عليها، أو على أن خراجها درهم، فإذا هو أكثر فالعقد فاسد؛ لأن الخراج حق دين كسائر الديون، فقد شرط المشتري قضاء دين المشتري، فأما المؤنات والجنايات فالمشتري شرط في العقد أن لا يتحمل الظلم، وهذا ثابت بدون الشرط، فإذا باع أرضاً على أنها منظور عن القانون، أو على أنها مشفوع عن الخراج، وعلى أن لا يوجد منه الخراج فالعقد فاسد، كما إذا باع على لا يغصبه غاصب.
إذا باع من آخر حانوتاً على أن عليها عشرون، فإذا هي خمس عشر، فإن أراد بذلك أنها كانت تعمل فيما مضى كذا، فهذا شرط لا ينتفع به أحد، فلا يفسد به العقد، وإن

(6/401)


أراد بذلك أنها يعمل في المستقبل عشرين، فالعقد فاسد؛ لأن هذا شرط بشيء هو منتفع، وفي وجوده غرر، وإن أطلق ولم يفسر، ولم يرد به شيئاً فالعقد فاسد، وهو محمول على المستقبل؛ لأن مراد الناس من هذا في عرفهم وعاداتهم المستقبل فيحمل عليه.
وفي «فتاوي أهل سمرقند» : اشترى من آخر سكنى له في حانوت مركباً بمال معلوم، وقد أجبره بائع السكنى أن آجره هذا الحانوت بسنة، فإذا ظهر أن أجرته عشرة ليس له أن يرد على البائع، وإن لم يسلم له شرطه؛ لأنه إنما لم يسلم له شرطه في غير المشتري، قال: وللمالك أن يكلف المشتري رفع السكنى، وإن كان على المشتري ضرر؛ لأنه شغل ملكه.

قال محمد رحمه في «الأصل» : إذا اشترى الرجل من آخر طعاماً بطعام أو بغيره مما يكال أو يوزن، واشترط عليه أن يؤمن إياه في منزله، أو شرط عليه أن يحمله إلى منزله فهذا على وجهين:
إما إن اشتراه في المصر أو خارج المصر، وقد اشتراه بمثله من جنسه، أو بخلاف جنسه، وفيما إذا شرط عليه الحمل إلى منزله، فإن البيع يفسد اشتراه في المصر أو خارج المصر اشتراه بجنسه وبخلاف جنسه؛ لأنه شرط في البيع ما لا يقتضيه البيع؛ لأن حمل البائع المبيع إلى منزل المشتري ليس من قضايا البيع.
ألا ترى أن بدون الشرط لا يوجب على البائع الحمل إلى منزل المشتري؟ وإنما يجب عليه التسليم في مكان العقد إذا كان المبيع فيه.
فهو معنى قولنا: إنه شرط ما لا يقتضيه العقد، وللمشتري فيه منفعة، ومثل هذا الشرط يوجب فساد البيع، وإن شرط الإيفاء في منزله أن اشتراه خارج المصر، ومنزله في المصر، فالعقد فاسد سواء اشتراه بجنسه أو بخلاف جنسه؛ لأنه شرط في البيع ما لا يقتضيه البيع؛ لأن البيع يقتضي التسليم في مكان المبيع إذا كان المبيع فيه، ومتى كان العقد خارج المصر لا يكون منزله في المصر مكان العقد في حق الإيفاء لا حقيقة، وهذا ظاهر، ولا حكماً؛ لأن خارج المصر لم يجعل كمكان واحد في حق الإيفاء شرعاً.

ألا ترى أن في باب السلم لو شرط الإيفاء في المصر، فأراد المسلم إليه أن يسلم خارج المصر ليس له ذلك، ولا يجبر رب السلم على القبول، فأما إذا اشتراه في المصر، وشرط الإيفاء في منزله في المصر، إن اشتراه بجنسه بأن اشتراه بحنطة، فإن العقد فاسد لقوله: عليه الحنطة بالحنطة مثلاً بمثل والفضل رباً فقد جعل الفضل على المماثلة من حيث الكيل رباً بلا فصل بين فضل وفضل، فهو على الكل وقد شرط المشتري فضلاً لنفسه وهو الإيفاء في منزله.

فأما إذا اشتراه في المصر بخلاف جنسه وشرط الإيفاء في منزله، ومنزله في المصر، القياس: أن يكون البيع فاسداً، وبالقياس أخذ محمد رحمه الله.
وفي الاستحسان: أن البيع جائز وبه أخذ أبو حنيفة وأبو يوسف.
وجه القياس في ذلك: أنه شرط في العقد ما لا يقتضيه العقد، ولأحد المتعاقدين فيه منفعة، فيفسد العقد كما لو اشتراه خارج المصر، أو اشتراه في المصر بجنسه، أو شرط الحمل إلى منزله بيان العقد يقتضي تسليم البيع في مكان البيع إذا كان المبيع فيه

(6/402)


منزل المشتري ليس مكان العقد حقيقة، وهذا ظاهر، وكذلك حكماً؛ لأن خارج المنزل مع المنزل لم يجعل في حكم مكان واحد في حق الإيفاء شرعاً.
ألا ترى أن باب السلم لو شرط الإيفاء في منزل رب السلم، فأراد المسلم إليه أن يسلم خارج المنزل ليس له ذلك، فكان اشتراط الإيفاء في منزله اشتراط الإيفاء في غير مكان العقد والعقد لا يقتضيه ذلك.
وجه الاستحسان: أن شرط في البيع ما يقتضيه البيع؛ لأن شرط الإيفاء في مكان البيع والمصر مع اختلاف أماكنها جعل كمكان واحد في حق الإيفاء، أصله مسألة السلم، فإن في باب السلم إذا شرط الإيفاء في المصر جاز، وإن لم يبين محله من المصر، وهذا تبين لك أن المصر كله جعل كمكان واحد في حق الإيفاء، واذا صار هكذا صار منزله مكان العقد حكماً في حق الإيفاء، واشتراط الإيفاء في مكان العقد مما يقتضيه العقد، وأما إذا شرط الحمل إلى منزله، فهناك شرط ما لا يقتضيه العقد؛ لأن العقد لا يوجب الحمل إلى منزل المشتري.
وأما إذا اشترى خارج المصر هناك شرط ما لا يقتضيه العقد؛ لأنه الإيفاء في غير مكان العقد على ما مر، وأما إذا اشتراه بجنسه قلنا: هناك شرط ما لا يقتضيه العقد؛ لأن منزله ليس مكان العقد في حق الإيفاء متى حصل الشراء بجنسه، وهذا لأن منزله مكان العقد في حق الإيفاء حكماً لا حقيقة؛ لأن العقد لم يوجد في منزله حقيقة فاعتبرنا مكان العقد في حق الإيفاء متى حصل الشراء بخلاف الجنس عملاً بالحكم، ولا يعتبر مكان العقد في حق الإيفاء متى حصل الشراء بالجنس عملاً بالحقيقة، وإنا فعلنا هكذا؛ لأنا لو عملنا بالحقيقة متى حصل الشراء بالجنس وبينا الربا يلزمنا العمل بالحقيقة متى حصل الشراء بخلاف الجنس؛ لأن اختلاف الجنس أنفى للربا من اتفاق الجنس، فحينئذ يتعطل العمل بالشبهين فعملنا على الوجه الذي قلنا ليمكننا العمل بالشبهين.

وفي «الزيادات» : إذا اشترى وقر حطب في المصر، فعلى البائع أن يأتي به إلى منزله للمشتري، ولو هلك في الطريق يهلك من مال البائع، وإنما يجب على البائع ذلك؛ لأن الإتيان به إلى منزل المشتري مشروط عرفاً، ولكن يجعل المشتري شارطاً الإيفاء في منزله لا شارطاً الحمل؛ لأن شرط الحمل يفسد العقد، وشرط الإيفاء لا يفسد العقد عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
وفي «فتاوى أبي الليث» : رحمه الله أن التفاوت بين لفظة الحمل والإيفاء في العربية، فأما في الفارسية فلا تفاوت ففي كل موضع جاز شرط الإيفاء بالعربية يجوز شرطهما بالفارسية، ولو اشترى حطباً في قرية من رجل شراءً صحيحاً، وقال: موصولاً بالشراء من غير شرطه في الشراء: احمله إلى منزلي لا يفسد العقد؛ لأن هذا ليس بشرط في البيع بل هو كلام ابتداءً بعد تمام البيع، فلا يوجب فساد البيع.

في «فتاوي أهل سمرقند» : إذا اشترى حصانه حرف على أن يحرزه البائع جاز؛ لأنه عمل الناس، وكذا اشترى من خلقائي ثوب، وبه خرق على أن يخيطه، ويجعل عليه

(6/403)


الرقعة (62ب3) لما ذكرنا، وإذا اشترى من كرباسي كرباساً على أن يقطعه قميصاً، أو يخيطه لا يجوز؛ لأنه لا يعامل في هذا، وإذا اشترى داراً، وشرط مع الدار الفناء ذكر في «الواقعات» أن البيع فاسدٌ؛ لأن الفناء لا يصير مملوكاً للمشتري، فكان هذا شرطاً فاسداً في بيع الدار.
وفي «بيوع المنتقى» : إذا باع الرجل داراً وكتب بحقوقها وقفاً بها قال أبو حنيفة: العقد فاسد، قال ابن سماعة: إن البيع جائز، قال: وليس هذا عندنا على معنى التمليك منه للفناء، وقد علم الناس لا يبيعه الرجل من داره.

نوع آخر في شرط الأجل
إذا شرط الأجل في المبيع.... المواضع أجمع لكونه مغيراً لمقتضى العقد، وإنما جوزناه تيسيراً للأمر على الناس، وتخفيفاً عليهم ليكتب من له الأجل في مدة الأجل، فيؤدي عند محل الأجل، وهذا المعنى يتحقق في الديون لا الأعيان، فبقي الأجل في الأعيان على أصل القياس، وإنما كان الأجل المجهول في الدين مفسداً للعقد؛ لأن الجهالة في الأجل يفضي إلى منازعة مانعة من التسليم والتسلم، ومثل هذه الجهالة تفسد العقد، والأجل المجهول أن يبيع إلى الحصاد والدياس؛ لأن وقت الحصاد والدياس يتقدم في البلدان، ويتأخر في البعض، فالبائع يطالب المشتري بالثمن محتجاً عليه بدخول وقت الحصاد في بعض المواضع، والمشتري يمتنع عن الأداء محتجاً بعدم دخول وقت الحصاد في بعض المواضع فيتنازعان، وكذا إذا باعه إلى وقت قدوم الحاج؛ لأن قدوم الحاج قد يتقدم وقد يتأخر؛ لأن ذلك فعلهم.

وكذلك إذا باعه إلى وقت خروج العطاء؛ لأن خروج العطاء قد يتقدم وقد يتأخر، وما روت عائشة رضي الله عنها: أنها كانت تخير إلى خروج العطاء، فتأويله عندنا أن الخلفاء في زمانها كانوا لا يخلفون الميعاد، فكان لا يتقدم خروج العطاء ولا يتأخر حتى أن في زماننا لو لم يتقدم ولم يتأخر نقول بالجواز أيضاً.
وكذلك إذا باع إلى صوم النصارى؛ لأن صومهم قد يتقدم وقد يتأخر، فإن كانوا دخلوا في الصوم، فباع إلى فطرهم جاز؛ لأنه لما عرف ابتداء وقت الصوم ومدته معلوم صار الأجل معلوماً، وهذا كله إذا حصل البيع إلى هذه الآجال، أما إذا باشر البيع مطلقاً، ثم أن البائع أجل المشتري في الثمن إلى هذه الآجال صح التأجيل رواه ابن سماعة عن محمد رحمه الله، فصار نصاً، وهذا لأن الأجل إذا لم يكن مشروطاً في البيع لا يكون من نفس البيع، وكان تأثير الأجل في تأخير المطالبة إلى هذه الآجال، وتأخير المطالبة إلى هذه الآجال صحيحة في الكفالة، وإن أجله إلى شهر الريح فهو باطل، وإن قال في رجب: أجلتك إلى رجب القابل، وإن قال: إلى انسلاخه قال: انسلاخ هذا الرجب.

(6/404)


ثم في باب البيع من له الأجل إذا أسقط الأجل قبل دخول وقت الحصاد والدياس انقلب العقد جائزاً استحساناً عند علمائنا الثلاثة خلافاً لزفر والشافعي، وعلى هذا الاختلاف إذا باع بشرط الخيار إلى الأبد حتى فسد العقد بلا خلاف، ثم إن من له الخيار أسقط الخيار قبل مضي الثلاث ينقلب العقد جائزاً عند أبي حنيفة، وعندهما في أي وقت أسقط الخيار ينقلب العقد جائزاً، وعلى هذا إذا باع بشرط الخيار أربعة أيام حتى فسد العقد عند أبي حنيفة، ثم إن من له الخيار أسقط الخيار قبل مضي الثلاث ينقلب العقد جائزاً، واختلفت عبارة المشايخ في جنس هذه المسائل.

فعبارة أهل العراق أن العقد فاسد، ويرتفع الفساد بحذف الشرط، ويرفع المفسد، وعبارة أهل خراسان أن العقد موقوف، فإذا مضى جزء من اليوم الرابع في مسألة الخيار، أو دخل وقت الحصاد في بعض البلدان يفسد، وذكر أبو الحسن الكرخي نصاً عن أبي حنيفة في مسألة الخيار أن البيع موقوف على إجازة المشتري في المدة، وأثبت للبائع حق الفسخ قبل الإجازة، ومعنى هذا أن الخيار للمشتري، فيكون ولاية الإلزام له، ولكن لما كان العقد موقوفاً يتمكن البائع من الفسخ؛ لأن كل واحد من المتبايعين يتمكن في فسخ العقد الموقوف.
وأجمعوا ما إذا باع بألف ورطل من خمر، أو باع إلى أن يهب الريح، أو إلى أن تمطر السماء، ثم إن من له الخمر، ومن له الأجل إلى سقط الخمر والأجل لا ينقلب العقد جائزاً، هذا هو المذكور في عامة النسخ، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» في باب البيوع: إذا كان فيها شرط أنه إذا باع بألف ورطل من خمر، ثم اتفقا على إسقاط الخمر أن العقد ينقلب جائزاً، ولكن لا ينفرد أحدهما بالإسقاط بل يشترط اتفاقهما على الإسقاط وفي البيع إلى أجل مجهول ينفرد من له الأجل بالإسقاط.
ومن جملة الآجال المجهول أن يبيع إلى النيروز والمهرجان، وقد ذكر محمد رحمه الله مسألة النيروز والمهرجان في «الجامع الصغير» : وأجاب بالفساد مطلقاً.

وذكر في «الأصل» : وقال: إن كان لا يعرف بأن كان يتقدم ويتأخر لا يجوز كما في الحصاد والدياس، وإن كان معروفاً بالأيام بحيث لا يتقدم ولا يتأخر يجوز، وقد ذكر الكرخي في كتابه قريباً مما ذكر في «الأصل» : فإنه قيد الجواب بالفساد بما إذا كان المتعاقدان لا يعرفان، وفيه وله أحدهما، والصحيح من الجواب في هذه المسألة: أنهما إذا لم يبينا نيروز المجوس أو نيروز السلطان، فالعقد فاسد، وإذا بينا أحدهما وكانا يعرفان وفيه لا يفسد العقد، والبيع إلى الميلاد، فالبيع فاسد، هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» : فإن كان المراد ميلاد البهائم، فالجواب على ما أطلق في الكتاب؛ لأنه مما يتقدم ويتأخر، وإن كان المراد ميلاد عيسى عليه السلام، فما ذكر من الجواب محمول على ما إذا لم يعرفا.
وفيه: إذا باع من آخر شيئاً بألف درهم، وهما ببخارى على أن يوفيه الثمن بسمرقند مثلاً لا يجوز، ولو باعه بألف درهم إلى شهر على أن يوفيه الثمن بسمرقند يجوز سواء كان الثمن شيئاً له حمل ومؤونة أو كان شيئاً لا حمل له ولا مؤونة.

(6/405)


ولو استقرض من آخر ألف درهم ببخارى على أن يوفيه مثلها بسمرقند، أو استقرض من آخر ألف درهم ببخارى إلى شهر على أن يوفيه مثلها بسمرقند لا يجوز، فقد فرق بين الاستقراض وبين البيع فيما إذا شرط مع بيان مكان الإيفاء أجلاً معلوماً.

والفرق: أن الأجل في القرض لا صحة له، معلوماً كان الأجل أو مجهولاً، فصار ذكر الأجل وعدمه بمنزلة، ولو لم يشترط الأجل في القرض، وشرط أن يوفيه بسمرقند لا يجوز؛ لأنه قرض جر منفعة، وفي باب البيع الأجل المعلوم صحيح، وبيان مكان الإيفاء مع الأجل لا يفسد العقد.

والفقه: أنه إذا ذكر أجلاً معلوماً مع بيان مكان الإيفاء لا يكون شرط الإيفاء في ذلك المكان على وجه التأجيل، وإنما يكون تخصيص القبض بذلك المكان، فلا يفسد العقد، وأما إذا لم يذكر مع بيان مكان الإيفاء أجلاً معلوماً كان ذكر بيان الإيفاء على وجه التأجيل، وإنه يفسد العقد؛ لأنه أجل مجهول؛ لأنه لا يدري في أي قدر من المدة يأتي سمرقند، فيكون أجلاً مجهولاً، ثم إذا صح العقد مع الأجل المعلوم، وحل الأجل، فإن كان الثمن شيئاً له حمل ومؤونة لا يطالبه إلا في مكان الإيفاء باتفاق الروايات.
وإن كان الثمن شيئاً له حمل ومؤونة، فعلى ما أشار إليه في بيوع «الأصل» وهو رواية الطحاوي عن أصحابنا لا يطالبه إلا في مكان الإيفاء، وعلى رواية كتاب الأجارات وكتاب الصرف يطالبه في أي مكان شاء، ويلغو شرط الإيفاء في ذلك المكان؛ لأنه إنما يراعي من الشرائط ما لا يفسد، ولا يفيد وتعيين مكان الإيفاء إذا لم يكن له حمل ومؤونة.
فإن قيل: على رواية كتاب الأجارات (63أ3) وكتاب الصرف إذا لغى هذا الشرط إذا لم يكن للثمن حمل ومؤونة ينبغي أن يصح البيع إذا لم يشترط مع بيان مكان الإيفاء أجلاً معلوماً.
قلنا: يجب بهذا الشرط شيئان تأخير المطالبة إلى أن يأتي سمرقند، وتعيين سمرقند مكان الإيفاء لا يفيد فيما ليس له حمل ومؤونة، فأما في أن يتأخر المطالبة إلى أن يأتي سمرقند مفيد، فإن من عليه ينتفع به، فيعتبر هذا الشرط في حق تأخير المطالبة إن لم يعتبر في حق تعيين مكان الإيفاء.

وفي «القدوري» : إذا لم يذكر في الثمن أجلاً فسد العقد، وفي قول محمد رحمه الله، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف. وروي عن أبي يوسف رواية أخرى أن القياس أن يجوز العقد؛ لأن هذا الكلام عادة يذكر لتخصص القبض بمكان لا للتأجيل، فإذا أمكن الحمل على وجه الصحة لا يحمل على وجه الفساد، ولكنه استحسن فيما له حمل ومؤونة أن يفسد العقد؛ لأن الثمن لا يجب في غير ذلك المكان، فيعتبر في معنى التأجيل، فأما فيما ليس له حمل ومؤونة لا يفسد العقد؛ لأن فيما لا حمل له ولا مؤونة يطالبه حيث شاء، فلا يصير شرط التسليم في مكان معين في معنى التأجيل بل يلغو ذكر الشرط، ويصير كأنه أطلق العقد.

(6/406)


وفي «نوادر بشر» : عن أبي يوسف: أن اشتراط إيفاء الدراهم في حق عقد البيع في بلد آخر لا حكم له إن كان له حمل ومؤونة، أو لم يكن، وله أن يأخذه بها إذا حل أجلها حيث تعين وللمطلوب أن يقتضيه حيث تعين، وإن كره ذلك الطالب، وإن لم يكن للمال أجل فهو سواء في القياس غير أني أستحسن إذا فسد البيع إذا كان له حمل ومؤونة للشرط الذي فيه من الحمل والمؤونة.
وفي «مجموع النوازل» : رجل باع من آخر ثوباً بعينه ببغداد على أن يوفي المشتري الثمن أخ البائع بسمرقند، فالبيع فاسد؛ لأنه توهم اشتراط الثمن لغير البائع، وهو الأخ، واشتراط الثمن لغير البائع، أو على غير المشتري يوجب فساد البيع، وإن صورنا المسألة فيما إذا كان الثمن للبائع، والأخ وكيله بالقبض فالبيع فاسد أيضاً؛ لأن فيه أجلاً مجهولاً على نحو ما بينا.
وفيه أيضاً: رجل باع عبداً بألف درهم على أن ينقده خمسمئة عند مضي شهر، فقال البائع: أنا أطلب منك جميع الثمن قال: البيع فاسد لجهالة الأجل؛ لأنه لا يدري ماذا يمكنه تسليم عند كل أسبوع؟ وفيه نظر؛ لأن هذا بمنزلة ما لو باع على أن نصف الثمن مؤجل إلى شهر، والنصف بعد ذلك جائز فهاهنا كذلك.

وفي «المنتقى» : إذا باع عبداً على أن يؤدي ثمنه يوم القيامة، فقال المشتري: أودي الثمن في الحال جاز البيع.

نوع آخر
إذا باع من آخر شخصاً على أنها جارية، وأشار إليه، فإذا هو غلام فلا بيع بينهما، وهذا استحسان أخذ به علماؤنا رحمهم الله.
والقياس: أن ينعقد البيع، ويكون للمشتري الخيار، الأصل في هذه المسالة وما يجانسها أن الإشارة مع التسمية وإذا اجتمعتا في العقد فوجد المشار إليه على خلاف المسمى إن كان الخلاف من حيث الجنس، فالبيع باطل حتى إن من باع من آخر فصاً على أنه ياقوت، فإذا هو زجاج كان البيع باطلاً؛ لأن المشار إليه من خلاف جنس المسمى؛ لأن الزجاج من خلاف جنس الياقوت، وإنما كان البيع باطلاً في هذه الصورة؛ لأن المشار إليه إذا كان من خلاف جنس المسمى، فالعقد يتعلق بالمسمى وتلغو الإشارة، فإذا كان المسمى معدوماً كان المبيع معدوماً، والبيع على المعدوم باطل، وإنما كانت العبرة بالتسمية في هذه الصورة إذ لا يتمكن العمل بالإشارة والتسمية معاً في هذه الصورة؛ لأن الإشارة توجب تعلق العقد بالمشار إليه، وهو الزجاج، والتسمية توجب تعلق العقد بالمسمى وهو الياقوت، والعقد الواحد لا يجوز أن يتعلق بالياقوت والزجاج بكل واحد منهما على الإنفراد في وقت واحد، فلابد من العمل بأحدهما، وإلغاء الأخرى، فنقول: العمل بالتسمية وإلغاء الإشارة أولى من العمل على العكس؛ لأن الإشارة مع التسمية إن استويا من حيث إن التسمية كما يقطع الشركة بين المسمى وغيره من خلاف الجنس، ومن حيث إن التسمية إن كانت تعرف الماهية، والإشارة لا تعرفها،

(6/407)


فالإشارة تقطع الشركة بين المشار إليه وغيره من جنسه، والتسمية لا تقطع الشركة بين المسمى وبين غيره من جنسه، فاستويا من هذا الوجه؛ إلا أن ما في التسمية من تعريف الماهية فوق ما في الاشارة من التعريف بقطع الشركة بين المشار إليه، وبين غيره من جنسه؛ لأن الماهية مقصودة لعينها.

وقطع الشركة بين المشار إليه وبين غيره من جنسه مقصود لا مكان التسليم لا لعينه، ولا شك أن المقصود لعينه فوق المقصود لغيره، فترجحت التسمية على الإشارة من هذا الوجه، فوجب العمل بها دون الإشارة عند تعذر العمل بهما والتقريب ما ذكرنا.
وإن كان المشار إليه من جنس المسمى إلا أنه يخالفه في الصفة، فالعقد جائز، وللمشتري الخيار إذا رآه كما لو اشترى فصاً على أنه ياقوت أحمر، فإذا هو ياقوت أصفر، فالبيع جاز، وللمشتري الخيار، إذا رآه؛ لأن المشار إليه إذا كان من جنس المسمى، فالعبرة للإشارة؛ لأن المسمى وجد في المشار إليه، وهو المقصود من التسمية وهو تعريف الماهية قد حصل؛ لأن المشار إليه ياقوت كالمسمى، فصار حق التسمية بعضاً بقيت الإشارة لتعيين الذات؛ لأن المسمى شائع في الجنس، والإشارة تعينه، فكان في الإشارة زيادة تعريف في هذه الصورة، فكانت العبرة للإشارة حال اتفاق الجنس، وتلغو التسمية، فكأنه أشار في البيع، ولم يسم، وهناك ينعقد على المشار إليه فهاهنا كذلك إلا أنه يثبت للمشتري الخيار؛ لأنه شرط له زيادة وصف في المشار إليه حيث قال: على أنه أحمر كأنه قال من الابتداء: بعتك هذا على أنه أحمر، فإذا وجده أصفر، فقد فات الوصف المذكور في المشار إليه، فلهذا كان له الخيار، وصار كما لو قال: بعتك هذا على أنه كاتب أو خباز، ولم يسم العبد فوجده غير كاتب، وغير خباز، وهناك يجوز العقد، ويكون للمشتري الخيار، وكذا هاهنا إذا ثبت هذا، جئنا إلى بيان مسألتنا، وأنها على القياس والاستحسان.
وبيان وجه الاستحسان: أن الذكر مع الأنثى من بني آدم جنسان مختلفان؛ لأن اختلاف المجانسة بين الشيئين باختلاف الصورة، والمقصود في بني آدم مختلفة، وهذا ظاهر كذلك المقصود مختلف، فإن ما ينبغي من الذكر من الزراعة والجهاد لا ينبغي من الأنثى من الغزل والطبخ والاستفراش لا ينبغي من الذكر، وصار كالمروي مع الهروي، وكان كالزندنجي مع الوداري اعتبرا جنسين مختلفين لاختلاف الصورة والمقصود، وكذا هاهنا، وإذا ثبت أن الذكر مع الأنثى من بني آدم جنسان مختلفان يتعلق العقد بالمسمى، والمسمى معدوم فكان البيع باطلاً.
ولو اشترى شاة على أنها نعجة، فإذا هي ضأن فالبيع جائز؛ لأن الذكر مع الأنثى في البهائم جنس واحد؛ لأن الصورة، وإن كانت مختلفة فالمعنى واحد؛ لأن ما ينبغي من الذكر من العمل والأكل ينبغي من الأنثى، وفي منفعة الولاد يشتركان والمقصود راجح على الصورة، فترجح ما يوجب اتحاد الجنس، فجعلنا الجنس واحداً، وقد ذكرنا أن في الجنس الواحد العبرة للإشارة كأنه أشار ولم يسم، وهناك ينعقد العقد كذا هاهنا، ثم ما

(6/408)


ذكرنا أن المشار إليه إذا كان من خلاف جنس المسمى، فالعقد يتعلق بالمسمى (63ب3) فذلك إذا لم يعلم المشتري والبائع أن المشار إليه من خلاف جنس المسمى، فأما إذا علما بذلك، فالعقد يتعلق بالمشار إليه.
ألا ترى أن من قال لغيره: بعتك بعت منك هذا الحمار، وأشار إلى عبد قائم بينهما ينعقد العقد على العبد؟ وكذلك إذا قال لغيره: اشترِ لي بهذه الألف درهم جارية، وأشار إلى الدنانير وفي «الزيادات» ذكر مسألة الوكالة، وشرط لتعليق الوكالة بالمشار إليه، فعلم الوكيل والموكل بالمشار إليه، وعلم كل واحد منهما بعلم صاحبه بحال المشار إليه.

ومن هذا الجنس

لو باع داراً على أن بناءها آجر، فإذا هو لبن فالبيع باطل، الأغراض والمقاصد تتفاوت تفاوتاً فاحشاً فيلتحق بالجنس المختلف، فيتعلق العقد بالمسمى، والمسمى معدوم، ولو باع داراً على أن فيها بناء، فإذ لا بناء فيها فالبيع جائز، والمشتري بالخيار، ويأخذها بجميع الثمن إن شاء، وفي المسألة نوع إشكال، فإن انعدام الوصف أقوى من اختلاف الوصف، ثم اختلاف الوصف في المسألة الأولى منع انعقاد البيع، وعدم الوصف في المسألة الثانية لم يمنع.
والوجه في ذلك: أن في المسألة الأولى بين الموجود والمذكور تفاوت فاحش في الأغراض، وباعتبار فحش التفاوت التحقا بالجنسين المختلفين، فلا يدخل الموجود تحت المذكور، فلو أوجبنا العقد في الموجود، فقد أوجبناه في غير ما تناوله الذكر، وإنه لا يجوز، فأما اسم الدار فيتناول العرصة بانفرادها أيضاً، فإذا انعدم البناء لو أوجبنا العقد في العرصة، فقد أوجبناه فيما تناوله الذكر، فلهذا افترقا، فهذا غاية ما قيل في الفرق بين المسألتين ولم يتضح لنا وجه.
وذكر الخصاف: إذا اشترى داراً على أنها مبنية بالجص أو منتفعة بالساج، فكان بخلافه، أو كان معدوماً، فالبيع جائز، وكذا النخل على أنه دقل بخلاف الزرع على أنه حنطة، فإذا هو شعير، ولو باع جبة على أن ظهارتها كذا، وبطانتها كذا، أو حشوها كذا، فوجد الظهارة على ما شرط والبطانة والحشو على خلافه فالبيع جائز، ويتخير المشتري، وهذا لأن الجبة ينسب إلى ظهارتها ويعرف بها فهي الأصل، والبطانة والحشو تبع، فإذا وجد الظهارة على خلاف ما سمي جنساً كان المسمى معدوماً، فيقع العقد باطلاً، وإذا كانت الظهارة على وفاق ما سمي جنساً لم يكن المسمى منعدماً، فجاز أن ينعقد العقد.
وروي أن الظهارة إذا كانت أقل قيمة مثل أن يكون البطانة وبراً أو سموراً، والظهارة من كرباس، أو ما أشبهه، أن العقد لا يبطل، وإذا باع قباء على أن بطانته هروي، فإذا هي مروي، فالبيع جائز، ويتخير المشتري؛ لأن البطانة تبع، فالاختلاف يوجب الخيار، ولا يمنع الانعقاد، وكذا إذا قال: على أن حشوه قز، فإذا هو قطن، ولو باع ثوباً على أنه مصبوغ بعصفر، فإذا هو مصبوغ بزعفران فالبيع باطل؛ لأن الأغراض تتفاوت بتفاوت اللون تفاوتاً فاحشاً، فاختلفتا كالجنس المختلف.

(6/409)


ذكر القدوري المسألة على هذا الوجه، وهكذا روى ابن سماعة عن محمد، وأشار محمد إلى العلة فقال: لأنه باع مافي الثوب من الصبغ كما باع الثوب وشرط ذلك الصبغ عصفر، وتبين أنه غيره وهو شيء قائم في الثوب.

وفي «المنتقى» : إذا باع ثوباً على أنه مصبوغ بعصفر، فإذا هو أبيض فالبيع جائز، ويتخير المشتري إن شاء أخذ بجميع الثمن، وإن شاء ترك.
في «البقالي» : وهذا بخلاف بيعه أبيض، فإذا هو مصبوغ حيث لايجوز.
قال في «البقالي» : وكذلك شراء الدار على أن لا بناء فيها، فإذا فيها بناء يريد أن هذا وبيع الثوب على أنه أبيض، فإذا هو مصبوغ سواء حتى لايجوز، وإذا باع أرضاً على أن فيها نخيلاً وأشجاراً، فإذا ليس فيها نخيل وأشجار فالبيع جائز، ويتخير المشتري كما لو باع داراً على فيها بناء، فإذ لا بناء فيها، وإذا باع أرضاً بنخيلها وأشجارها فهذا وما لو باعها على أن فيها نخيلاً وأشجاراً سواء، وكذا إذا باع داراً بسفلها وعلوها، فإذ لا علو لها كان للمشتري الخيار؛ لأنه قال: بسفلها وعلوها، فكأنه قال: على أن لها علواً، وهناك للمشتري الخيار كذا هاهنا.

وإذا قال: بعتك هذه الدار بأخداعها وأبوابها وخشبها، فإذا ليس فيها أخداع ولا أبواب ولا خشب فهو بالخيار، وإن كان فيها بابان أو خدعان، فلا خيار له؛ لأن اسم الجمع يتناول اثنين فصاعداً، فقد وجد أدنى ما ينطلق عليه الاسم أنه كاف لإسقاط الخيار، ولو كان فيه باب واحد وخدع واحد فله الخيار؛ لأن اسم الجمع لا ينطلق على الواحد.
ولو قال: بعتكها بما فيها من الأخداع والأبواب والخشب والنخل، فلم يجد شيئاً من ذلك فلا خيار له؛ لأن في هذه الصورة لم يشترط هذه الأشياء في البيع، ولا جعلها صفة للبيع بل أخبر على وجودها فيه، وانعدام ما ليس بمشروط في البيع ولا صفة للمبيع لايوجب الخيار، أما في قوله: بأخداعها وأبوابها جعل هذه الأشياء صفة للدار، فالبيع يتناول الموصوف بصفة، فإذا لم يجده بتلك الصفة يثبت الخيار ضرورة هذه الجملة من «المنتقى» .
وفيه أيضاً: إذا اشترى أرضاً على أن فيها كذا نخيلاً، أو اشترى داراً على أن فيها كذا بيتاً، أو اشترى سيفاً على أنه محلى بمئة درهم فضة، أو اشترى نعلاً على أنها مشركة بشراك، أو خاتماً على أن له فصاً من ياقوت، أو فصاً على أنه مركب في حلقة، فإذا لا نخيل ولا شراك ولا بيوت إلخ أفكانت هذه الأشياء كما شرطت، فاحترق النخيل، وانهدمت البيوت، وتلف الشراك وأشباه ذلك قبل القبض، فالمشتري بالخيار في هذه الصورة إن شاء أخذ الباقي بجميع الثمن، وإن شاء ترك إلا في خصلة، وهو ما إذا اشترى فصاً على أنه مركب في حلقة ذهب، فلم توجد الحلقة، فإن هذه الصورة للبيع فاسد؛ لأن

(6/410)


للحلقة حصة من الثمن، ولا يعرف الحصة أما فيما عدا ذلك، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ بجميع الثمن، وإن شاء ترك.
والجملة في ذلك أن كل شيء يباع، ويدخل غيره في البيع تبعاً من غير ذكر ذلك الغير، فإذا بيع ذلك الشيء وشرط ذلك الغير معه في البيع، ووجد ذلك الشيء، ولم يوجد ذلك الغير، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ ذلك الشيء بجميع الثمن، وإن شاء ترك، بيانه في النخيل مع الأرض، فإن النخيل يدخل في البيع في بيع الأرض من غير ذكر تبعاً للأرض، فإذا شرط النخيل مع الأرض، ولم يوجد النخيل، فالمشتري يأخذ الأرض بجميع الثمن إن شاء، وكل شيء يباع ولا يدخل غيره في بيعه تبعاً له من غير ذكر، فإذا بيع ذلك الشيء، وشرط غيره معه في البيع، ولم يوجد ذلك الغير، فالمشتري يأخذ ذلك الشيء بحصته.
وذلك نحو أن يشتري أرضاً فيها نخيل، وشرط الثمن مع النخيل، فإذا لا تمر في النخيل، أو كان فيها تمر إلا أنه هلك قبل القبض، فالمشتري يأخذ الأرض والنخيل بحصتها من الثمن وعن هذا قلنا: إذا اشترى أرضاً فيها زرع، وشرط الزرع، فاحترق الزرع قبل القبض، فالمشتري يأخذ الأرض بحصتها من الثمن.
وإذا قال: بعتك هذا الثوب القز أو الخز فكان مختلطاً، فإن كان السدى ناشر مما شرط واللحمة من غيره، فالبيع باطل، وإن كانت اللحمة مما شرط فالبيع جائز، وتخير المشتري في فصل القز، وهذا لأن الثوب إنما يصير ثوباً بتركيب اللحمة بالسدى واللحمة آخرهما، فيضاف الثوب إلى اللحمة على خلاف المشروط كان المسمى معدوماً، فلا يصح العقد، فأما إذا كانت اللحمة من جنس المسمى كان المسمى موجوداً، ولكن اختلفت الصفة (64أ3) فانعقد البيع لوجود المسمى وثبت الخيار لفوات الصفة، وفي الخز لا خيار للمشتري إذا كانت اللحمة خزاً، والسدى من غيره؛ لأن الخز لا يوجد إلا بهذه الصفة.

قال بشر: سألت أبا يوسف: عن رجل اشترى من آخر ثوباً على أنه كتان، فإذا ثلثه قطن فله أن يرده، وإن قطعه لم يرجع بشيء، ولو كان أكثره قطناً فالبيع فاسد، وإذا اشترى عبداً على أنه فحل، فإذا هو خصي، فللمشتري أن يرده، وإذا اشتراه على أنه خصي، فإذا هو فحل روى الحسن ابن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه لا خيار له قال: وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول: الخصى في العبد عيب، فإذا شرط فإنما يبرأ عن العيب، وقال أبو يوسف الخصى في ثمنه أفضل من الفحل لرغبة الناس فيهم؛ لأنهم لا يمتنعون عن دخولهم كما يمتنعون عن دخول الفحل، قال: وهو في القيمة زيادة.
ولو اشتري على أنه فحل، فإذا هو خصي، وقد مات عند المشتري، أو حدث به عيب عنده، وقد اشتراه بعشرة آلاف درهم، وقيمته خصياً ثلاثة آلاف درهم، وقيمته فحلاً ألف درهم، قال محمد رحمه الله: في قياس أبي حنيفة وأبي يوسف: لا يلزمه شيء؛

(6/411)


لأن الخصي هاهنا أفضل قيمة من الفحل، وقال محمد: إن شاء البائع أعطاه قيمته خصياً ثلاثة آلاف درهم، وأخذ منه عشرة آلاف درهم الثمن، معناه إن رضي البائع أن يأخذ من المشتري قيمته خصياً ثلاثة آلاف درهم أعطاه المشتري ثلاثة آلاف درهم، وهذا لأن العبد لو كان قائماً كان للمشتري أن يرده على البائع، ويسترد منه الثمن، فإذا كان هالكاً رد قيمته ليكون رد للعبد معنىً غير أنه يشترط رضى البائع؛ لأن البيع ورد على صورة العبد بمعناه وتعذر رد الصورة.

وفي «نوادر بشر عن أبي يوسف» : إذا اشترى سفينة على أنها من ساج، فإذا فيها غير الساج، قال: إن كان شيئاً لا بد من أن يكون، فلا خيار له وهو بجميع الثمن، يريد بهذا: أنه إذا استعمل فيها شيء من غير الساج لا يصلح ذلك الشيء إلا من غير الساج، ولو كان كل السفينة غير الساج فلا بيع بينهما.

وروى بشر عن أبي يوسف أيضاً: في رجل قال لغيره: بكم هذا الثوب الهروي والثوب مصبوغ صبغ الهروي؟ فقال: بكذا فبايعه، قال أبو حنيفة: هو مثل الشرط أنه هروي، وهو قول أبي يوسف، يريد بهذا أنه لو تبين أنه مروي كان البيع باطلاً قال أبو يوسف: ألا ترى أنه لو قال لغيره: بكم هذا الغلام، وهو مشكل فبايعه، فإذا هو جارية أنه لا يقع بينهما بيع، وعن شريح أنه لم يجعله شرطاً.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل اشترى من آخر سمكة على أنها عشرة أرطال وزنها على المشتري، فوجد في بطنها حجراً وزنه ثلاثة أرطال ونحو ذلك، والسمكة على حالها، فالمشتري بالخيار، إن شاء أخذها بجميع الثمن، وإن شاء ترك، وإن كان قد شواها قبل أن يعلم بذلك، فإني أقوم السمكة على أنها عشرة أرطال وأقومها وهي سبعة أرطال، فيجمع بحصته ما بينهما من الثمن، فقد اعتبر محمد نقصان الوزن في السمكة بالعيب حتى قال: يقوم السمكة عشرة أرطال، ويقوم سبعة أرطال وهذا هو ذات العيب، ولم يعتبر نقصان العيب بنفسه إذ لو اعتبر ذلك لقال: يرجع بثلاثة أعشار الثمن، وعن أبي يوسف أنه قال في هذه الصورة: المشتري لا يرجع على البائع بشيء وإن وجد في بطنها طيباً أو ما أشبهه ذلك مما يأكل السمك، فإن ذلك مما يأكل السمك لزمه البيع، ولا خيار.
وقال محمد فيمن اشترى طشتاً على أنه عشرة أمناء فقبضه، فإذا هو خمسة أمناء فهو بالخيار، وإن شاء أمسكه بجميع الثمن، وإن شاء ترك، قال: وهذا بمنزلة العيب، وإن كان حدث بها عيب عند المشتري، وأبى البائع قبوله لأجل العيب، فإنه ينظر إلى الطشت، فإن كان قيمة الطشت على عشرة أمناء عشرون، والعيب ينقصه على قيمة خمسة أمناء درهم، فإنه يرجع على البائع بنصف الثمن لنقصان الوزن، ويرجع أيضاً بعشر الثمن لأجل العيب، وذلك درهم؛ لأن العيب قد ينقصه درهماً.

وإذا قال لغيره: أبيعك هذا الزق وهذا الزيت الذي فيه على أن الزق خمسون رطلاً، وعلى أن الزيت خمسون رطلاً كل رطل منها درهم، فوجد الزق ستين رطلاً،

(6/412)


والزيت أربعين رطلاً، فإن الثمن ينقسم على قيمة الزيت، وعلى قيمة الزق، ثم يزاد على الثمن حصة العشرة الآرطال التي وجدها ناقصة عن الزيت، ثم يقال له: إن شئت فخذ وإن شئت فدع؛ لأن الزق قد وقع البيع على جميعه.

قال محمد رحمه الله: وإذا اشترى مسكاً وزناً، فوجد فيها رصاصاً، فهو بالخيار إن شاء رد الرصاص وحط عن الثمن بقدر وزن الرصاص، وإن شاء ترك، وإذا اشترى سمناً وزناً، فوجد فيه زبأ، قال محمد: إذا كان زبأ يوجد مثله في السمن، ولا يعد عيباً لزمه بجميع الثمن، وإن كان يعد عيباً، فإن شاء أخذ بجميع الثمن، وإن شاء ترك، وإن كان زبأ لا يكون مثله في السمن، فإن شاء أخذ بحصته، وإن شاء ترك.
وهو نظير ما قال محمد رحمه الله في الثمار التي في السلال، وفي أسفلها الحشيش: إن الحشيش إذا كان قدر ما يوضع في مثله أنه لاخيار له، وقال أبو حنيفة رحمه الله: في الزيت يبيعه الرجل، فيجد فيه المشتري الطين، أو المسك يبيعه الرجل، فيجد فيه المشتري رصاصاً إن المشتري بالخيار إن شاء أخذه، وإن شاء رده، وقال ابن أبي ليلى: يرد الرصاص والطين وما أشبه ذلك بحسابه، وكذلك قال أبو يوسف في الرصاص والطين؛ لأن الرصاص ليس من المسك، والطين ليس من الزيت، فيردهما وأمثالهما بالحساب، وأما السمن يبيعه الرجل فيجد فيه زبأ يكون ذلك عيباً فيه، فهو بالخيار إن شاء أخذ، وإن شاء ترك؛ لأن هذا منه، وكذلك العود يشتريه الرجل على أنه هندي، فإذا هو غير هندي، قال: ولا أنظر في هذا إلى اليسير منه، وإنما أضع هذا على الكثير، فإذا كان في الكثير لايجب عليه أن يرده لم أمض عليه ذلك في اليسير.

وفي «الإملاء» عن محمد: إذا باع الفص دون الفضة وقلعه يضر بالفص دون الفضة أو يضر بهما، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ الفص بحصته من الثمن على قيمته غير ناقص وعلى قيمته ناقصاً لم يبطل عن المشتري حصة النقصان من الثمن، ويكون المشتري بالخيار إن شاء أخذ الفص بما بقي من الثمن، وإن شاء ترك، قال: ولا يشبه هذا شراء الفص والفضة جميعاً إذا صار قلع أحدهما يضر بالآخر، أو يضر بهما؛ لأن ذلك صرف إذا بطل بعضه بطل كله، والأول ليس بصرف إنما باعه الفص وحده، وإنما بطل البيع فيه بالضرورة، فإذا اندفعت الضرورة، أو رضي صاحبها جاز البيع.
قال: ألا ترى أن رجلاً لو اشترى من رجل خشبة في حائط يضر قلعها بالبائع إن يقلعها، وإن يبطل البيع، فإن لم يبطله حتى قلع البائع الخشبة سلمت الخشبة للمشتري إلا أن يكون القلع ينقصها ويضر بها، فيكون المشتري بالخيار على ما وصفت لك بالقبض في الفص.
إذا اشترى كفرى فصار تمراً قبل أن يقتضيه، أو اشترى بيضاً فخرج هاهنا فرخ قبل القبض، فهو بالخيار.
قال رحمه الله: إذا قال للقصاب: زن لي من هذا اللحم ثلاثة أرطال بكذا، فقطعه ووزنه فللمشتري الخيار؛ لأن هذا ليس بشيء معلوم ومعناه أن موضع اللحم يتفاوت،

(6/413)


فكان أن لايرضى بهذا، وإن قال: زن لي من هذا الجنب، أو من هذه الرجل ثلاثة أرطال بكذا، فوزن له منه، فلا خيار له؛ لأن اللحم من موضع معين من الشاة قلما يتفاوت، فهو بمنزلة ما لو اشترى قفيزاً من صبرة.

ولو قال: زن لي ما عندك من هذا اللحم على (64ب3) حساب ثلاثة آرطال بدرهم، فهو جائز، ولا خيار له قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: ذكر بشر بن الوليد عن أبي يوسف في هذه المسالة مثل ما قال محمد.

وفي «نوادر هشام» : عن محمد: رجل اشترى من آخر جراب ثياب هروي أو غيرها، أو اشترى قوصرة تمر فلم يقبضها حتى عمد البائع، وأخرج الثياب من الجراب، وأخرج التمر من القوصرة، ثم باع الجراب أو القوصرة، وترك التمر أو الثياب، أو لم يبع الجراب والقوصرة، ولكنه انتفع بها قال: المتاع والتمر لازم للمشتري وليس له أن يمتنع عن الثياب والتمر لمكان الجراب والقوصرة.
اشترى جارية بكراً ولم يسم البائع أنها بكر، فزالت بكارتها في يد البائع، فللمشتري الخيار، وقد ذكرنا وجه ذلك في فصل الخبازة.
وإذا اشترى من آخر رمان على أنها حامضة، فقال بعد الشراء من غير أن يكسرها: إنها حلوة وقال البائع: إنها حامضة، فالقول قول البائع؛ لأن الرمانة قد يكون حلوة وقد يكون حامضة، وروي في الحلو بخلاف هذا، فقد روي أن من اشترى من أخر رمانة على أنها حلوة، ثم اختلفا فيه، فالقول قول المشتري، وعلى البائع أن يوفيه شرطه، والمسألتان في بيوع «المنتقى» .
إبراهيم عن محمد: إذا اشترى من آخر من بر، فإذا فيه وكان عظيم أو باع بئراً من بر وقال: إنه كذا كذا ذراعاً، فإذا هو أقل من ذلك، وقد أكل بعض البر، فنقول: حكم المسألة قبل أكل شيء من البر أن المشتري بالخيار، وإن شاء أخذ بجميع الثمن وإن شاء ترك، وبعد أكل شيء من البر للمشتري أن يرد الباقي ومثل ما أكل، ويرجع بجميع الثمن، وروي هشام عن أبي يوسف مثل ماروي إبراهيم عن محمد.
قال: ولو كان طعاماً في قفيز أو في حب، فباعه بعشرة دراهم، فإذا نصفه بين قال: يأخذه بالثمن وأشار إلى الفرق، فقال: لأن القفيز والحب وما يكال بهما، ألا ترى لو قال: بعت منك ملاء هذا القفيز أو ملاء هذا الحب يجوز والبيت والبئر ما يكال بهما ولا يشتري بهما.
وإذا باع داراً على أنها ألف ذراع فكانت تسعمائة، فباعها المشتري قال: إن لم يرجع على الأول فالأول لا يرجع على صاحبها، وإن رجع الآخر عليه رجع هو أيضاً.

قيل: يجب أن يكون تأويل المسألة: أن المشتري باعها قبل أن يعلم أنها تسعمائة، أما لو علم أنها تسعمائة وباعها كذلك، فلا رجوع له على صاحبه، وإن رجع المشتري الآخر عليه.
وعلى هذا إذا اشترى طشتاً أو ملئها، اشترى حبة لؤلؤة وشرط لها وزناً وتقابضا،

(6/414)


ثم وجدها ناقصة وقد استهلكها، قال: لا يرجع عليها بشيء في قياس قول أبي حنيفة، ولكنه استقبح ذلك قياسه فيه؛ لأن نقصان اللؤلؤة يحط من الثمن شيئاً كثيراً، وجعل له أن يرجع بالنقصان.
إذا اشترى بستاناً فيه نخل وشجر وشرط له أنه عشرة أجربة وقبضه بغير مساحة، وأكل ثمره سنين، ثم وجد تسعة أجربة لم يرد، ولم يرجع الباقى في قياس قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: يقوم هذا الجرب الناقص أرضاً بيضاء مثل بقية أرض البستان، ويقوم النخل والتمر والشجر، ثم يقسم الثمن على ذلك، فما أصاب الجريب الناقص من الثمن رجع به هكذا ذكر في «المنتقى» ، وذكر بعد هذا عن أبي يوسف ما يدل على أن الجريب الناقص من الثمن رجع به هكذا ذكر في «المنتقى» ، وذكر بعد هذا عن أبي يوسف ما يدل على أن الجريب الناقص يقوم مراحاً ولا يغير النخل والشجر في التقويم، روي عن أبي يوسف مثل قول أبي حنيفة أيضاً: أنه لا يرجع بشيء، وذكر بعد هذا محمد فيمن اشترى أرضاً فيها نخل وكرم على أنها عشرة أجربة، وأكل ثمرها سنين، ثم تبين أنها خمسة أجربة قال: يقوم هذه الأرض وهي خمسة أجربة بكم تساوي، ولو كانت عشرة أجربة في مثل حالها بكم تساوي، فيرجع بفضل ما بينهما.
m
وإذا اشترى أرضاً بزرعها، فحصد المشتري الزرع، ثم وجد الأرض انقص جراباً مما اشترى أنه يرد الأرض بحصتها.

رجل معه قفيزان من حنطة في زنبيل، فباع قفيزاً من رجل بدرهم، ولم يبقض حتى باع من آخر قفيزاً منه بدرهم، ثم هلك أحد القفيزين، فالمشتريان بالخيار إن شاء أخذ كل واحد منهما نصف القفيز الباقي بنصف الثمن، وإن شاء ترك أحدهما حصته، فإن أراد الآخر أن يأخذ القفيز كله بدرهم، فليس له ذلك إلا إن شاء البائع من قبل أنه كان وجب للثاني قيمة نصفه، فإن قبض المشتري الآخر قفيزاً، أو لم يقبض الأول شيئاً، يريد به إذا لم يهلك أحد القفيزين، ثم إن المشتري الآخر رد ذلك القفيز على البائع بعيب بقضاء قاضي، فليس للمشتري الأول في القفيز المردود شيء إنما له أن يأخذ القفيز الثاني، أو يترك، فإن خلط البائع أحد القفيزين بالآخر انتقض بيع الأول من قبل أن البيع صار له في الباقي، وقد صار البائع له مستهلكاً حين خلطه بغيره، وإن لم يخلطه البائع، وقد كان قد رد عليه بعيب بقضاء قاضي، وليس بالقفيز الباقي عيب، فأراد المشتري الأول أن يأخذ القفيز الباقي دون المردود، فأبى البائع إلا أن يأخذ نصف كل واحد منهما، فذلك للبائع من قبل أن القاضي يقضي البيع فيه.
فصار بمنزلة ما لم يبع، فلو هلك القفيز الباقي عنده، وبقي المردود الذي به عيب، فأراد المشتري الأول تركه، فذلك له من قبل أن الهالك لم يكن به عيب، وإن أراد أخذه كله فله ذلك، وإن شاء أن يأخذ نصفه فعل، ولو كان القفيز الهالك هو المردود الذي به عيب، والقفيز الباقي هو الأول الذي لم يكن به عيب، فللمشتري أن يأخذ نصفه، وليس له أن يأخذ كله، وإن سلم البائع كله فللمشتري أن يمتنع.

(6/415)


رجل عنده كر حنطة، فباع نصفه من رجل، ثم باع النصف الباقي من رجل، ثم قبض الأول منه مختوماً، ثم هلك نصفه وبقي نصفه، فالمختوم الذي قبض الأول له إن شاء، ويأخذ مما بقي بحصة ذلك، والآخر بحصة ما بقي يضرب فيه الأول بنصف كر المختوم ويضرب الآخر بنصف كر، ولا بيع شركة للثاني في المختوم الذي قبضه الأول.

الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: رجل اشترى من آخر جارية على أنها عذراء، وقبضها وماتت في يده، ثم علم أنها لم تكن عذراء لا يرجع على البائع بشيء سواء كان ذلك ينقصها أو لا ينقصها، وذكر ابن أبي مالك عن أبي يوسف: أنه يرجع بقدر نقصانها.
الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أيضاً: رجل اشترى من آخر داراً على ألف ذراع بألف درهم، فوجدها تنقص قال: له أن يردها، فإن كانت قد انهدمت في يده، أو باعها، ثم علم أنها تنقص لم يرجع بشيء من النقصان، وذكر ابن أبي مالك عن أبي يوسف: أنه يرجع بالنقصان، فيقوم الدار على ما فيها من البناء، ويقوم الذراع الناقص على قيمة مراحاً.
اشترى أرضاً بحقوقها أو بشربها وللبائع أراضي مثلها، فإنه يقسم الشرب بينهم بالحصص، وإن لم تكف هذه الأرض ما يصيبها، فللمشتري الخيار إن شاء أخذ هكذا ذكر في «المنتقى» .
وفيه أيضاً: إذا اشترى من آخر حنطة واكتال بعضه، فرأى في البقية اختلاط وليس بعيب إلا أنه (65أ3) ينقص ذلك من الثمن قال أبو يوسف: هو بالخيار إن شاء أخذه، وإن شاء تركه، فإن استهلك منها شيء لم يكن له أن يرد.
وفي «فتاوي أبي الليث» رحمه الله: إذا اشترى خمسمئة قفيز حنطة، فوجد فيها تراباً، فإن كان التراب مثل ما يكون في الحنطة ولا يعده الناس عيباً ليس له أن يرد ولا يرجع بنقصان العيب، وإن كان التراب مثل ما لا يكون في الحنطة، ويعده الناس عيباً كان له أن يرد كل الحنطة مع التراب، فإن ميز التراب عن الحنطة فإن أمكنه أن يرد كلها على البائع بذلك الكيل لو خلط البعض بالبعض فله الرد، وإن كان لا يمكنه ذلك انتقص بالتنقية ليس له الرد، وكذا الجواب فيما كان نظير الحنطة.
وقال أبو يوسف رحمه الله: في رجل اشترى من آخر ثوباً، ثم جاء يرده وقال: اشتريت على أنه هروي وليس بهروي وقال البائع: لم أشترط شيئاً، فالقول قول البائع؛ لأن المشتري قد أقر بالبيع، فلا يصدق على ما يرد به البيع.

وكذلك لو اشترى دهناً في إناءٍ بعينه، ثم جاء يرده، وقال: اشتريته على أنه جري وهو ينفسخ، وقال البائع: لم أشترط شيئاً، فالقول قول البائع، ولو قال: اشتريت على

(6/416)


أنه عشرة أذرع كل ذراع بدرهم، وقال البائع: لم أشترط شيئاً، وإنما بعتك كما هو، فإنهما يتحالفان.

رجل اشترى طعاماً على أنه كر فمات المشتري قبل أن يكتاله فاكتاله الوارث فنقص قال: الورثة بالخيار إن شاءوا أخذوه، وإن شاءوا تركوه، قال أبو العباس: وروي عن محمد: أن الوارث بالخيار إن شاء أخذ بجميع الثمن، وإن شاء ترك.
رجل اشترى أرضاً بشربها، فإذ لا شرب لها، فأراد المشتري أن يأخذ الأرض بحصتها، ويرجع على البائع بحصة الشرب من الثمن، فإن له ذلك، وإذا باع شجرة بأصلها وفي قلعها ضرر على البائع، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ ما فوق الأرض منها بقيمته، وإن شاء ترك. وعن محمد أنه قال: للبائع أن لا يسلمها، فإن قلعها المشتري ضمنها له.
الحسن بن زياد في الاختلاف: مسلم اشترى من مسلم شاة فماتت في يد البائع، فسلخها البائع ودبغ جلدها، قال أبو يوسف رحمه الله: المشتري بالخيار إن شاء أخذ الجلد بحصته من الثمن، وإن شاء ترك، وقال: يقسم الثمن على قيمة اللحم لو كان ذكياً، وعلى قيمة الجلد ذكياً غير مدبوغ، ولا ينظر إلى ما زاد الدباغ في قيمته.

نوع آخر إذا حصل البيع بشرط الكيل أو الوزن أو الذرع

قال محمد رحمه الله: وإذا اشترى الرجل طعاماً مكايلة، وقبضه، فإنه لا يأكله، ولا يبيعه، ولا ينتفع به حتى يكيله، وكذلك إذا كان البائع ابتاعه واكتاله من بائعه بحضرة المشتري لم يجز له أن يقتصر على ذلك الكيل ولا يبيع ولا يأكل حتى يكتاله ثانياً، هذا هو لفظ القدوري، يريد بهذا أن من اشترى طعاماً مكايلة، وباعه من آخر مكايلة، واكتال البائع الثاني من بائعه بحضرة المشتري الثاني لا يجوز للمشتري الثاني أن يقتصر على ذلك الكيل، ولا يبيع ولا يأكل حتى يكتاله ثانياً.
والأصل في ذلك ما روي عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: «أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه صاعان صاع البائع وصاع المشتري» والمعنى فيه: أن الكيل جعل من تمام القبض شرعاً فيما بيع مكايلة؛ لأن القدر في المعين مقصود عليه فيما بيع مكايلة.
ألا ترى أنه لو وجده أزيد مما سمى من القدر لا يسلم له الزيادة إذا كانت الزيادة بحيث لا يدخل بين الكيلين؛ لأن الزيادة لم تدخل تحت العقد، ولو وجده انقص ينقص عنه حصته من الثمن، وإذا ثبت أن القدر معقود عليه فيما يرجع بيع بشرط القدر، فنقول: القدر غير متعين قبل الكيل يجوز أن يكون مثل الكيل المشروط وأزيد منه وأنقص منه،

(6/417)


وإنما يتعين بالكيل فكان للكيل حكم القبض؛ لأن الكيل تعين ما ملك غير متعين بالعقد إنما يكون بالقبض، وإذا كان الكيل يعمل هذا العمل كان للكيل حكم القبض، فكان الكيل من تمام القبض من هذا الوجه، ثم في هذه المسائل يحتاج إلى قبضين قبض البائع وقبض المشتري، فكذا يحتاج إلى كيلين.
فإن قيل: إنما أعطي الكيل حكم القبض؛ لأنه تعين ما ملك بالعقد غير متعين وهذا التعين حاصل بكيل البائع لنفسه بحضرة المشتري الثاني، فكان يجب أن لا يحتاج المشتري الثاني إلى كيل آخر كما لو استفاد من أرضه وباعها من آخر مكايلة وكان بحضرة المشتري لا يحتاج إلى كيل آخر.

والجواب عنه أن يقال: بأن الكيل أعطي له حكم القبض فيما بيع مكايلة، وإذا أعطي له حكم القبض يعتبر بالقبض الحقيقي، ففي كل موضع يحتاج إلى قبضين ولا ينوب أحد القبضين عن الآخر لا ينوب أحد الكيلين عن الآخر، وفي كل موضع يكتفى بقبض واحد يكتفى بواحد، وفيما يحتاج إذا استفاده من أرضه لا يحتاج فيه إلى أصل القبض بجواز التصرف، فلا يحتاج فيه إلى الكيل أيضاً.
وإذا اشترى من آخر حنطة مجازفة وباعه بعد ما قبضها من غيره مكايلة، فإنه يكتفى فيه بكيل واحد، وكذا إذا استقرض من رجل كر حنطة على أنه يكتفي بكيل المشتري، وأما كيل البائع المستقرض بحضرة المشتري، وهذا الجواب لا يشكل فيما إذا اشتراها مجازفة وباعها من غيره مكايلة؛ لأن الكيل غير محتاج إليه في حق البائع الثاني لصحة تصرفه؛ لأن الكيل ليس بشرط لتمام القبض، فأما إذا اشترياه مجازفة؛ لأن المعقود عليه غير مشار إليه لا المقر له وإنه متعين قبل الكيل، وإنما يشكل فيما إذا استقرض من آخر حنطة على أنها كر، ثم باعها من غيره بشرط الكيل ويجب أن يحتاج فيه إلى كيلين؛ لأن الاستقراض يملك بعوض، فكان بمنزلة الشراء فيصير القدر معقوداً عليه متى استقرض بشرط الكيل كما لو اشتراه مكايلة.

والجواب: أن الغرض إن كان مبادلة صورة فهو عارية من حيث الحكم والاعتبار؛ لأن ما يرد المستقرض غير المقبوض حكماً لا بدله، إذ لو لم يجعل كذلك كان هذا مبادلة الشيء بجنسه لشبه وإنه حرام، وإن كان رد البدل قائماً مقام رد العين المقبوض من حيث الحكم كان الفرض تمليكاً بغير بدل من حيث الحقيقية كالهبة والوصية لم يحتج فيه إلى الكيل فكذا ههنا، بخلاف الشراء؛ لأنه تمليك بعوض حقيقة وحكماً.
والشرع جعل الكيل من تمام القبض فيما ملك تبعاً بشرط المكايلة، فلهذا احتيج في الشراء إلى الكيل، ولم يحتج إلى الكيل في الاستقراض.
ولو اشترى حنطة مجازفة وباعها من غيره بعدما قبضها مجازفة أو..... حنطة من أرضه أو بالهبة وباعها مجازفة أو ملك حنطة ثمناً على أنه كر وقبضها وباعها مجازفة قبل

(6/418)


الكيل فهو جائز، كذا رواه ابن سماعة عن محمد، أما إذا اشتراها مجازفة فلا إشكال فيها؛ لأن الكيل في هذه الصورة لم يجعل من تمام القبض؛ لأن المعقود عليه عين مشار إليه لا المعيار بخلاف ما إذا اشتراه مكايلة؛ لأن الكيل هناك جعل من تمام القبض، وأما إذا استفاد من أرضه أو بالهبة ولأنه ملك بغير عوض والشرع إنما اعتبر الكيل لاباحة التصرف بخلاف القياس، فيرد التبرع إلى ما يقتضيه القياس فأما إذا ملكه ثمناً، فلأن الكيل شرع لتمام القبض لإباحة التصرف فيما يحتاج فيه إلى أصل القبض لإباحة التصرف، وفي الثمن أصل القبض ليس بشرط لإباحة التصرف، فلا يكون الكيل الذي جعل من تمام القبض شرطاً لإباحة التصرف، وأما إذا اشترى مكايلة وباعه من غيره مجازفة لا قبل أن يكيله هل (65ب3) يجوز ظاهر ما أطلق محمد رحمه الله في «الأصل» يدل على أنه لا يجوز.
وذكر ابن رستم في «نوادره» : أنه إذا باعه مجازفة قبل أن يكيله جاز، ولو باعه مكايلة قبل أن يكيله لا يجوز، فصار في المسألة روايتان.
وجه رواية ابن رستم: أن القدر كما هو معقود عليه فالعين المشار إليه أيضاً معقود عليه، فمتى باعه مجازفة فقد باع العين دون القدر، والعين مقبوض فصار بائعاً ما تم قبضه فيه فيجوز، ومتى باعه مكايلة فقد باع القدر مع العين والقدر غير مقبوض قبل الكيل.

وجه ما ذكر في «الأصل» : أن القدر معقود عليه والعين معقود عليه وأحدهما مما يختار عن الآخر؛ لأن القدر صفة للعين لا يوجد بدونه، فإذا باعه مجازفة فقد باع مقبوضاً وغير مقبوض؛ لأن العين الذي اشتراه مقبوض والقدر ليس بمقبوض فقد باع مقبوضاً وغير مقبوض صفقة واحدة فلا يجوز البيع في الكل. وذكر بعض المشايخ في شرح «الجامع الصغير» خلافاً في هذا الفصل بين أبي يوسف ومحمد فقال على قول أبي يوسف لا يبيعه حتى مكايلة لنفسه.

وعلى قول محمد: يبيعه من غير (أن) يكتاله لنفسه. وقد اختلف المشايخ في فصل، وهو ما إذا اشترى طعاماً مكايلة وكاله البائع بحضرة المشتري وسلمه إليه، فمنهم من قال: ليس للمشتري أن يكتفي بذلك الكيل ويكيل مرة أخرى، قال شمس الأئمة السرخسي: الأصح أنه يكتفي بذلك الكيل وكل جواب عرفته في المكيلات فهو الجواب في الموزنات؛ لأن الوزن في الوزنيات متى بيع بشرط الوزن يصير معقوداً عليه، كالكيل في المكيلات، فكل جواب عرفته في المكيلات في الترتيب الذي ذكرنا، فهو الجواب في الوزنيات.
وأما الكلام في الذرعيات: إذا اشترى من آخر ثوباً على أنه عشرة أذرع كان له أن يبيعه، وأن يتصرف فيه قبل الذرع في الذرعيات متى لم يجعل بإزائه لمن سلك به مسلك الأوصاف حتى لا يقسم الثمن على عدد الذرعان حتى لو وجد أحد عشر في مسألتنا فالزيادة تسلم له، ولو وجده أنقص من عشرة لا يسقط شيء من الثمن لكن يجز المشتري، كما لو اشترى ثوباً على أنه صفيق فوجده رقيقاً، وإذا سلك به مسلك الصفة لم يصر الذرع معقوداً عليه، وكان المعقود عليه الثوب المشار إليه، وأنه متغير من غير ذرع.

(6/419)


وكان بمنزلة ما لو اشترى حنطة مجازفة على أنها جيد وقبضها قبل أن يعلم بأنها جياد بأن كانت في الجوالق ويصرف فيها وهناك التصرف منه جائزاً ههنا.

وأما الكلام في العدديات: إذا اشترى من أخر عددياً بشرط العقد فهل يجب إعادة العد، لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في الكتب الظاهرة، قالوا: وقد ذكر الكرخي: أن على قول أبي حنيفة: يشترط إعادة العد لإباحة التصرفات إلحاقاً للعدديات بالكيليات والوزنيات، وعلى قولهما لا يشترط إلحاقاً بالذرعيات.
وفي «شرح القدوري» : وأما المعدودات فيجب إعادة العد فيها في رواية لا يجب، وصحح القدوري هذه الرواية؛ لأن العد في العدديات بمنزلة الذرع في المذروعات، ألا ترى أن الربا لا تجري بين العدديات كما لا يجب بين المذروعات، ثم في المذروعات لا يجب إعادة الذرع، فكذا في المعدودات لا يجب إعادة العد.
وفي «القدوري» : في باب بيع المبيع قبل القبض: إذا اشترى طعاماً مكايلة أو موازنة شراء فاسداً وقبض بغير كيل، ثم باعه وقبضه المشتري فالبيع الثاني جائز، وإنما يعتبر إعادة الكيل في البيعين الصحيحين؛ لأن المستحق القدر المذكور، ويتصور التفاوت بين المذكور والموجود فيعتبر إعادة الكيل لإزالة ذلك الوهم احتياطاً، وهذا المعنى لا يوجد في البيع الفاسد، فإن الملك في البيع الفاسد، إنما يثبت بالقبض فصار المملوك قدر المقبوض لا قدر المذكور في البيع، فلا يتصور التفاوت بين المستحق.

ولو اشترى طعاماً مكايلة بإناء بعينه، فالبيع فاسد في قول أبي حنيفة وأبي يوسف وقد مر هذا، فإن كاله بذلك الإناء ورضي به المشتري بعد الكيل جاز، وقد مر هذا أيضاً من قبل، فإن باعه المشتري بعد ذلك قبل أن يعيد الكيل جاز؛ لأن هذا في معنى البيع مجازفة لا يحتاج إلى إعادة الكيل؛ لأن المستحق هو المشار إليه فلا يتصور فيه التفاوت.
وفي «المنتقى» : قال أبو يوسف: إذا كان الثمن شيئاً مما يكال أو يوزن بغير عينه فأخذه البائع بغير كيل وصدق المشتري في كيله ووزنه، فله أن ينتفع به قبل أن يكيله.

إذا كان الثمن ثياباً موصوفة مؤجلة، فليس له أن يبيعها منه قبل أن يقبضها، وقال في الصرف: ليس له أن يشتري بأخذ اليد شيئاً حتى يتوازنا، وإن تفرقا قبل الوزن في الصرف، وكل واحد منهما مصدق لصاحبه في الوزن فالبيع فاسد، وذكر في موضع آخر من هذا الكتاب: إذا كان كل واحد منهما مصدقاً لصاحبه في الوزن إن البيع جائز.

الفصل الثامن: في بيان أحكام الشراء الفاسد والتصرف في المملوك بالعقد الفاسد
البيع الفاسد منعقد عندنا والملك موقوف على وجود القبض، ويشترط أن يكون القبض بإذن البائع نص عليه القدوري في «كتابه» ، ولفظ القدوري وما قبضه بغير إذن البائع في البيع الفاسد فهو كما لم يقبض، قال ثمة: وهذه الرواية هي المشهور.

(6/420)


وفي «الزيادات» : إذا قبض المشتري المبيع في البيع الفاسد من غير إذن البائع ويهبه، فإن قبض في المجلس يصح القبض استحساناً ويثبت الملك فيه للمشتري، وإن قبض بعد الافتراق عن المجلس لا يصح قبضه قياساً واستحساناً ولا يثبت الملك للمشتري، وإذا أذن له بالقبض فقبض في المجلس أو بعد الافتراق عن المجلس صح قبضه ويثبت الملك قياساً واستحساناً.
وفي «البقالي» : لو كان وديعة عنده وهي حاضرة ملكها، وعن الفقيه أبي جعفر الهندواني أنه قال: يجب أن يجوز القبض بعد الافتراق عن المجلس بغير إذنه إذا كان أدى الثمن، والتخلية في البيع الفاسد ليست بقبض يثبته في شرح «الزيادات» .
وذكر في «الجامع» مسألة تدل على أنها قبض.

وصورة ما ذكر في «الجامع» : إذا اشترى الرجل شراءً فاسداً والعبد وديعة عند المشتري إلا أنه ليس بحاضر عند الشراء فأعتقه المشتري كان عتقه باطلاً؛ لأن الملك في الشراء الفاسد لا يثبت بدون القبض وما وجد من القبض لا ينوب عن قبض الشراء؛ لأنه قبض الوديعة لا ينوب عن قبض الشراء، وبدون الملك لا يثبت العتق فأرجع المشتري إلى العبد وقبضه حقيقة، أو يخلي به بحيث يكون قابضاً له، ثم أعتقه صح الإعتاق؛ لأنه يصير قابضاً بإذن البائع حتى لا يكون للبائع ولاية الاسترداد فههنا كذلك، وإذا صار قابضاً بإذن البائع صار المبيع ملكاً له بالعقد السابق، والإعتاق صادف ملك نفسه.
ألا ترى أن محمداً رحمه الله: أثبت الملك للمشتري في هذه الصورة إذا تخلى بالعبد حتى جوّز إعتاقه، والملك في البيع الفاسد لا يثبت بدون القبض، ثم إن الملك وإن كان يثبت في البيع الفاسد عند اتصال القبض به عندنا إلا أن هذا الملك يستحق النقض إعداماً للفساد، ولأن إعدام الفساد واجب حقاً للشرع.
ولأجل ذلك قلنا: أنه يكره للمشتري أن يتصرف فيما اشترى شراءً فاسداً بتمليك أو انتفاع؛ لأن الفسخ مستحق إعداماً للفساد، وفي التصرف تقرر الفساد، مع هذا لو تصرف فيه تصرفاً نفذ تصرفه لمصادفته ملكه، ولا ينقض تصرفه ويبطل به حق البائع في الاسترداد سواء كان تصرفاً يحتمل البعض بعد ثبوته كالبيع والإجارة والرهن، أو لا يحتمل البعض بعد ثبوته كالإعتاق والتدبير وأشباه ذلك إلا الإجارة والنكاح فإن هذه (66أ3) التصرفات لا تبطل حق البائع في الاسترداد على ما يتبين بعد هذا إن شاء الله، فلم يحمل البائع بيعاً فاسداً حتى تنقض تصرفات المشتري فيما ينوي الإجارة والنكاح مع أن البائع حقاً في المشترى شراءً فاسداً، وهو حق الأخذ وجعل للشفيع حق نقض جميع التصرفات المشتري لما أن له في الدار المشفوعة حقاً.

واختلفت عبارة المشايخ في بيان الفرق بعضهم قالوا: الحق في المشتري شراء فاسداً للبائع وهذه التصرفات من المشتري حصل عند تسليط البائع؛ لأن البائع، أوجب له الملك المطلق لهذه التصرفات فتكون هذه التصرفات حاصلاً عن تسليط فيكون راضياً به فيظهر نفاذها في حقه فلا يكون له إبطالها بعد ذلك.

(6/421)


فأما الحق في الدار المشفوعة للشفيع وهذه التصرفات لم تصدر بتسليط الحق في الدار المدفوعة للشفيع من جهة الشفيع حتى يكون راضياً بذلك؛ لأن التسليط إنما يثبت بالأذن نصاً أو بإثبات الملك المطلق للتصرف، ولم يوجد واحد منهما من الشفيع فكان له حق النقض.
ولأجل هذا المعنى وقع الفرق في الشراء الفاسد بين البيع والهبة والرهن وبين الإجارة؛ لأن الإجارة تصرف في المنافع مقصوداً؛ لأنها موضوعة لتمليك المنافع والتسليط من البائع في حق المنفعة ما ثبت مقصوداً؛ لأن البيع لإيجاب ملك الرقبة مقصوداً، ولا يجاب ملك المنفعة تبعاً، والتصرف من المشتري في المنفعة حصل مقصوداً فلم يكن حاصلاً بتسليط البائع فكان له حق النقض، كما كان للشفيع أن ينقص جميع تصرفات المشتري لما لم يكن حاصلاً بتسليط.
فإما الرهن والبيع والهبة فهذه تصرفات.... حصلت في العين مقصوداً، والتسليط من البائع في حق تصرف يرد على العين ثابت مقصوداً؛ لأن التسليط بإيجاب الملك والملك ثبت له في الرقبة مقصوداً.
وهذا معنى ما يقول في «الكتاب» : وهذا عذر في الإجارة يريد بالعذر هذا، وهو أن الإجارة لم تحصل بتسليط البائع فكان للبائع نقضه.
وبعضهم قالوا: فسخ البيع بحق الله تعالى إعلاماً للفساد، وهذه التصرفات يتعلق حق العبد بالمحل وحق العبد مع حق الله تعالى إذا اجتمعا، ترجح حق العبد على (حق) الله تعالى لحاجة العبد وغنى الله تعالى، إلا أن الإجارة عقد ضعيف يفسخ بالأعذار، وفساد الشراء عذر في فسخها فينفسخ ويسترد المشتري إعداماً للفساد، ولم يذكر محمد رحمه الله في «الأصل» من يفسخ الإجارة.
d

وذكر في «النوازل» : أن القاضي هو الذي يفسخ، وكأنه مال إلى أن فسخ الإجارة بالعذر مختلف فيه، فيعتبر فسخ القاضي لتصير المسألة متفقاً عليها والتزويج يشبه الإجارة ولوروده على المنفعة والبيع يرد على ملك الرقبة، والفسخ يرد على ملك الرقبة أيضاً فيتعلق حق الزوج بالمنفعة لا يمنع الفسخ على الرقبة، والنكاح على حاله.
ولو أوصى بالعبد، ثم مات بطل حق الفسخ ولا يشبه هذا الوارث.
والفرق: وهو أن ملك موصى له ملك متحدد لثبوته بسبب متشابه ولهذا لا يرد بالعيب ولا يرد عليه فأشبه ملك المشتري وما أشبهه فانقطع به حق الفسخ، فأما ملك الوارث في حكم عين ما كان للمورث ولهذا يرد بالعيب ويرد عليه بطل حق الفسخ؛ لأن هذه المعاني لو وجدت من الغاصب انقطع به حق المالك مع أن حق العبد إبطاء سقوطاً؛ فلأن يسقطه بهذه المعاني حق الله تعالى، وإنه أسرع سقوطاً أولى، ولو صبغ الثوب فقد روي عن محمد رحمه الله: أن البائع بالخيار أخذه وأعطاه ما زاد لصبغ فيه إن شاء ضمنه قيمته كما في الغضب، وأطلق أبو الحسن الجواب في الصبغ، إنه ينقطع به حق البائع في

(6/422)


الفسخ، وهو محمول على التفصيل الذي ذكرنا، ولو كان الجواب كما أطلق.

فوجهه: أن حق الفسخ هاهنا أسرع سقوطاً من حق الاسترداد في الغصب، ولهذا يسقط بالبيع والهبة ونحو ذلك فجاز أن يسقط بهذا بخلاف الغصب.

ولو كان للمشتري داراً فبنى المشتري فيها بناء بطل حق الفسخ في قول أبي حنيفة وأبي يوسف الأخير، وفي قوله الأول وهو قول محمد لا يبطل اعتباراً بالغاصب إذا بنى في المغصوب بناءً حيث لا ينقطع به حق المغصوب منه، ولهما أن النقض في البيع الفاسد ما كان لحق البائع، وإنما كان حقاً للشرع لينعدم به الفساد، وقد ذكرنا أنه إذا تعلق به حق آخر يمنع، إلا إذا بنى المشتري في الدار بناء، والعقد لم يتناول البناء صار ثبوت حقه في البناء بمنزلة حق ثابت في البيع الثاني بل أولى؛ لأن الضرر الذي يلحق المشتري بنقض البناء فوق الضرر الذي يلحق الثالث بنقص شرائه، فإذا لم ينقص لحق ثالث في البيع الثاني؛ فلأن لا ينقض لحق المشتري في البناء كان أولى.
بخلاف ما لو صبغ المشتري الثوب المشترى شراء فاسداً؛ لأن حق المشتري لا يبطل بالنقض بل ينتقل إلى القيمة، وههنا يبطل حق المشتري في البناء إذا نقض البناء، وبخلاف الغصب؛ لأن حق النقص كان لحق المغصوب منه وحق المغصوب منه في العرصة قائم من كل وجه فرجحنا جانب المغصوب منه، إما؛ لأن العرصة أصل والبناء تبع؛ أو لأن الغاصب متعدي والمغصوب منه مظلوم.
بخلاف ما إذا غصب ساحة وأدخلها في البناء حيث ينقطع حق المغصوب منه ثمة صار هالكاً من وجه وحق الغاصب قائم من كل وجه وحق المغصوب منه يفوت إلى بدل وحق الغاصب يفوت إلى بدل فرجحنا حق الغاصب لهذا، بخلاف ما تقدم.
وفي كل موضع تعذر ردّ المشترى شراء فاسداً على البائع فعلى المشترى المثل فيما هو من ذوات الأمثال.

والقيمة فيما ليس من ذوات الأمثال، والأصل: أن المقبوض بحكم العقد الفاسد مضمون بالقيمة فيما لا مثل له وبالمثل له وبالمثل فيما له مثل؛ لأن المقبوض في العقد الفاسد مضمون بجهة القبض فصار كالمغصوب؛ وهذا لأن الأصل في الضمانات القيمة؛ لأنها هي العدل، وإنما يصار إلى المسمى في موضع صحت التسمية تحرزاً عن المنازعة والتسمية، هنا لم تصح فبقي الضمان الأصلي وهو القيمة.
ثم في كل موضع تعذر على البائع فسخ البيع واسترداد المبيع لمانع، ثم زال ذلك المانع بأن فك المشتري الرهن ورجع في الهبة أو عجز المكاتب عن أداء بدل الكتابة أو رد المشترى على المشتري بالعيب في المبيع بعد القبض نقصاً كان للبائع حق الاسترداد إذا لم يكن القاضي قضى على المشتري بالقيمة؛ لأن المانع زال بسبب هو فسخ من كل وجه في حقهما وفي حق الثالث فصار، كأن هذه العقود لم توجد حتى لو زال المانع بسبب هو عقد جديد في حق الثالث بأن كان الرد بالعيب بعد القبض بالتراضي لا يكون للبائع حق الاسترداد، ويجعل في حقه كأن المشتري اشترى ثانياً.

(6/423)


وهذا كله إذا لم يقض القاضي على المشتري بالقيمة، فإن كان قد قضى عليه بالقيمة لا يكون للبائع حق الاسترداد في الوجوه كلها؛ لأن القاضي أبطل حق البائع عن العين ونقله إلى القيمة بسبب أطلق له ذلك فلا يعود حقه إلى العين بعد ذلك، وإن ارتفع السبب كما لو قضى القاضي على الغاصب بقيمة المغصوب بسبب الإباق، ثم عاد العبد من الإباق لا يعود حق المالك إلى العبد كذا ههنا.

ولو زاد المشترى في يد المشتري لا يمتنع الفسخ في الأحوال كلها إلا إذا (66ب3) كانت بزيادة من جهة المشتري بأن كان المشترى ثوباً فصبغه المشتري بصبغ يريد به قيمة فيه، أو كان سويقاً فلته بسمن أو عسل فحينئذٍ يمتنع الفسخ بحق المشتري حتى لو رضي المشتري بالفسخ واسترداد المشترى مع الزيادة كان للبائع حق الاسترداد وإذا لم ينقص المشترى في يد المشتري بفعل نفسه أو بآفة سماوية أو يفعل المشتري والبائع مع أرش النقصان وليس له أن يترك المبيع على المشتري ويضمنه تمام القيمة إزالة للفساد، وإن كان النقصان بفعل أجنبي، فللبائع أن يأخذ الأرش من المشتري إن شاء أخذه من الجاني؛ لأنه وجده في حق كل واحد منهما بسبب ضمان النقصان في حق المشتري القبض؛ لأن المقبوض بحكم العقد الفاسد مضمون بالقبض، والأوصاف تضمن بالقبض، وفي حق الجاني الخيانة فكان للبائع الخيار وصار كما لو انتقص المغصوب في يد الغاصب بفعل أجنبي كان للمالك في أخذ الأرش الخيار لما ذكرنا كذلك ههنا.
ولو قتل أجنبي المبيع في يد المشتري، فللبائع أن يضمن المشتري وليس له أن يضمن القاتل، فرق بين ضمان القتل وبين ضمان النقصان.
والفرق: إن ما وجب على القاتل بالقتل بدل ملك المشتري؛ لأن الجارية قتلت على ملك المشتري فلا يكون للبائع عليه سبيل إلا بعد فسخ البيع في المبيع، وتعذر فسخ العقد في المبيع بسبب الهلاك بخلاف ضمان النقصان؛ لأن هناك العقد انفسخ فيما بقي من المبيع بالاسترداد فيصير الفسخ في حق الجزء الفائت حكماً لانفساخ البيع في الأصل، وإذا اعتبر البيع منفسخاً في حق الجزء الفائت بدلاً عن ملك البائع، فكان للبائع حق الأخذ من الجاني فلهذا افترقا.

وبما ذكر من المعنى ظهرت التفرقة بين المشتري شراءً فاسداً وبين المغصوب، فإن المغصوب إذا قتل في يد الغاصب كان للمالك أن يضمن القاتل إن شاء؛ لأن ما وجب على القاتل بقتل المغصوب بدل ملك المالك؛ لأن المغصوب باقي على حكم ملك المالك فكان للمالك أن يأخذ ذلك من القاتل، ولا كذلك المشتري شراءً فاسداً على ما بينا قد ذكرنا أن البيع الفاسد يستحق النقض والفسخ إعداماً للفساد وإزالة للحرام.

قال القدوري في «كتابه» وأيهما فسخ البيع قبل القبض ففسخه جائز على صاحبه، إذا كان بمحضر من صاحبه أي بعلم صاحبه؛ لأن الفسخ يستحق بحق الشرع، فانتقى اللزوم عن العقد فكان بمنزلة البيع الذي فيه الخيار للمتعاقدين فيكون كل واحد منهما تسييل من فسخه بغير رضى الآخر لكنه توقف على علم الآخر؛ لأنه إلزام موجب للفسخ فلا يلزمه إلا بعمله.

(6/424)


وإذا قبض المبيع فكل بيع لا يصح حذف المفسد عنه مثل البيع بالخمر والخنزير فهو على ما ذكرنا قبل القبض؛ لأن وجوب الفسخ بحق الشرع، وإنه متحتم فكان كل واحد منهما تسييل منه، وإن كان الفساد بسبب شرط يقبل الحذف فعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لكل واحد من المتعاقدين الفسخ، وقال محمد: إن وجد الفسخ ممن له منفعة في الشرط صح، وإن فسخ الآخر لم ينفسخ وذلك مثل الشراء بأجل مجهول إلى العطاء وما أشبه ذلك.
وكذلك الخيار الفاسد وجه قول محمد: أن منفعة الشرط إذا كانت عائدة إليه كان قادراً على تصحيح العقد بإسقاط الأجل، فإذا فسخ الأجر فقد أبطل حقاً ثابتاً لغيره فلا يجوز وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله يقولان: بأن الفسخ مستحق حقاً للشرع فانتقى اللزوم عن العقد إذا كان غير لازم، فكل واحد من المتعاقدين يتمكن من فسخه. أكثر ما في الباب أن من له الخيار قادر على التصحيح بالحذف، ولكن الكلام قبل الحذف وهو بمنزلة الإيجاب إذا وجد من البائع كان المشتري تسييل من القبول، ثم البائع لو رجع قبل قبول المشتري صح ولا يقال: بأن رجوعه يتضمن إبطال حق القبول على المشتري كذلك ههنا.
وإذا كان المشترى جارية فاستولدها المشتري حتى وجبت القيمة هل يغرم العقر؟ ذكر في كتاب البيوع: أنه لا يغرم، وذكر في كتاب الشرب: أنه يغرم.
قال شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» : ما ذكر في كتاب الشرب تأويله أن المشتري وطئها ولم يعلقها، وما ذكر في كتاب البيوع تأويله إذا أعلقها قال شيخ الإسلام المعروف بخواهرزاده في «شرحه» : إذا لم يعلقها يجب العقر باتفاق الروايات، وإذا أعلقها ففيه روايتان.
وهكذا ذكر الطحاوي في «كتابه» وهو الصحيح: يجب أن يعلم بأن من اشترى جارية شراءً فاسداً لا يكون له أن يطأها، إما لأن الثابت له بالشراء الفاسد ملك حرام والملك الحرام لا يبيح الوطء كما لا يبيح الأكل والشرب واللبس، أو لأن الملك غير ثابت في حق الوطء لكون السبب فاسداً فأوطأها ولم يعلقها كان للبائع أن يستردها؛ لأن الجارية قائمة بعينها كما قبل الوطء، وإذا استردها ضمن المشتري عقرها للبائع، فرق بين هذا وبين الموهوب له إذا وطء الجارية، ثم رجع الواهب، فإنه لا يضمن للواهب عقراً، وههنا قال: يضمن.

ووجه الفرق بينهما: وهو أن الموهوب له حين وطء ملك نفسه ملكاً حلالاً، فإن الملك ثابت للموهوب له بوصف الحل لكون السبب صحيحاً، ولهذا حل له الوطء وبالرجوع لم يظهر أن الملك لم يكن له وقت الوطء؛ لأن الرجوع لا يسند إلى وقت العقد بل يقتصر على حال وجوده؛ لأنه فسخ العقد، وإذا اقتصر على حال وجوده صار واطئها ملك نفسه فلم يكن عليه عقرها، فأما ههنا فالملك في حق الوطء غير ثابت لكون السبب فاسداً.
ولهذا لم يحل له الوطء وإذا لم يثبت الملك في حق الوطء كانت الجارية في حق الوطء كالمغصوبة، فإذا لم يجد الشبهة وجب العقر هنا كما في الغصب، هذا الذي ذكرنا

(6/425)


إذا لم يعلقها فأما إذا أعلقها يضمن قيمتها؛ لأنه بالإعلاق صارت أم ولد له فعجز عن ردها فكان عليه رد قيمتها، كما لو أعتق، إذا وجب القيمة هل يجب عليه العقر، فعلى قول شمس الأئمة السرخسي: لا عقر رواية واحدة وعليه يحمل رواية كتاب البيوع، وعلى ما ذكره في المسألة روايتان على رواية كتاب البيوع لا عقر عليه، وعلى رواية كتاب الشرب عليه العقر.
وجه ما ذكر في كتاب الشرب: أن الجارية وإن كانت ملكاً للمشتري وقت الوطء إلا أن للبائع حق الاسترداد جميع الجارية، وبالوطء أبطل على البائع حق الاسترداد فيما استوفى بالوطء فيضمن قيمة ما استوفى كما لو أن المستوفي ملك البائع؛ لأن الحق معتبر بالحقيقة.
وجه ما ذكر في كتاب البيوع إن حق البائع في المستوفي لا يكون أكثر حالاً من حقيقة الملك للغير، وإذا تقرر عليه الضمان لم يضمن العقر كما في الغصب فههنا أولى.

وفي «نوادر ابن سماعة» : عن محمد: اشترى من آخر جارية شراءً فاسداً وقبضها وولدت في يده أولاداً وماتت، ثم إن البائع ضمن قيمة الجارية يوم قبضها، فإن البائع يأخذ من المشتري أولادها ولا يجعل المشتري مالكاً للجارية يوم قبضها يعني مالكاً صحيحاً مما يحكم به في أولادها، قال الحاكم أبو الفضل: خالف بين المشتري شراء فاسداً وبين المشتري من الغاصب، فإن الجارية إذا ولدت في يد المشتري من الغاصب، ثم تم البيع فيما يتضمن البائع، فإن هناك يتم البيع من جميع الجهات.
وفي «المنتقى» : في باب حكم الشراء الفاسد في أوله: رجل اشترى من آخر جارية شراء فاسداً، ثم إن (67أ3) المشتري وطئها وولدت منه أولاداً، ثم استحقها رجل يأخذها وولدها وعقرها وولدها، ولا يرجع المشتري على البائع إلا بالثمن؛ لأنه ليس بمغرور، ألا ترى أنها لو ولدت من غير المشتري كان له أن ينقض البيع ويأخذها من المشتري.

وذكر في هذا الباب عن أبي يوسف: أن المشتري يرجع بقيمة ... البائع، وهكذا روى ابن سماعة عن محمد في باب الاستحقاق من «المنتقى» .
وفي باب حكم الشراء الفاسد عن محمد في «المنتقى» : اشترى من آخر شراء فاسداً وزوجها من رجل بمهر مسمى فوطئها الزوج وقد كانت بكراً، ثم إن البائع خاصم فيها وأخذها فالنكاح جائز والمهر للبائع، فإن كان فيه وقائماً نقصها من ذهاب العذرة فلا شيء على المشتري، وإن كان النقصان أكثر من المهر رجع به على المشتري.
وفي «نوادر بشر» : عن أبي يوسف: رجل اشترى من آخر أمة شراء فاسداً وزوجها من رجل بمهر مسمى فوطئها الزوج، ثم إن البائع خاصم فيها وأخذها فعلى المشتري الأكثر من مهر مثلها ومما نقصها التزويج وللمشتري على الزوج مهرها الذي سمى الزوج، وإن كان فيه فضل تصدق به فالنكاح على حاله.

(6/426)


وكذلك إن طلقها طلاق الرجعة، وإن طلقها واحدة بائنة فعليه مهر مثلها ولا نقصان عليه، وذكر هذه المسألة في «المنتقى» مرة أخرى وذكر أن على المشتري مهر مثلها وما نقصها التزويج.
وفي «نوادر هشام» : قال: سألت محمداً عن رجل اشترى من آخر غلاماً شراء فاسداً وقبضه، ثم باعه واستهلكه، قال: أخبرني أن أبا حنيفة وأبا يوسف رحمهما الله قال: عليه قيمته يوم قبض، وقال محمد فيما أظن: قيمته يوم استهلكه، هذا إذا كانت الزيادة من حيث السعر، وإن كانت من حيث العين فعليه في قول محمد أيضاً قيمتها يوم قبض.
وفي بيوع «الجامع» : رجل اشترى من آخر عبداً شراءً فاسداً وقبض المشتري بإذن البائع ونقده الثمن، ثم أراد البائع أن يأخذ عبده كان للمشتري أن يحبس العبد منه إلى أن يستوفي الثمن؛ لأن الفاسد من العقود يلحق بالجائز في حق الأحكام.
وفي البيع الجائز إذا تفاسخا العقد بعد القبض كان للمشتري حق حبس المشتري إلى أن يستوفي الثمن من البائع، وهذا لأن المشتري إنما قبل العقد مقابلاً بما نقده فصار كالرهن به عند ارتفاع السبب بالفسخ فكان له حق الحبس به كما في الرهن، فإن مات البائع ولا مال له غير العبد كان المشتري أحق بالعبد من غرماء البائع؛ لأنه كان أحق به من البائع في حال حياة البائع فيكون الحق به من غرمائه بعد وفاته فيباع العبد بحقه، فإن كان الثمن الثاني في مثل الثمن الأول أخذه المشتري فضل الثمن الثاني على الثمن الأول فالفضل لغرماء البائع، فإن كان الثمن أقل كان هو لسائر غرماء البائع يضرب هو منهم ببقية حقه فيما يظهر من التركة، فإن مات العبد في يد المشتري كان عليه قيمته لما ذكرنا فيتقاصان ويترادان الفصل إن كان ثمة فضل.

ولو كان المشتري اشترى العبد بألف درهم دين كان للمشتري على البائع قبل الشراء اشتراه بذلك شراء فاسداً وقبضه بإذن البائع، ثم إن البائع أراد استرداد العبد بحكم فساد البيع وأراد المشتري حبسه بما كان عليه من الدين لم يكن له ذلك.
فرق بين هذا بينما لو كان البيع جائزاً في هذه الصورة فإن هناك للمشتري أن يحبس العبد إلى أن يستوفي ما على البائع من الدين ولم يذكر محمد رحمه الله هذا الحكم في البيع الجائز، وإنما ذكر مسألة الإجارة بدين سابق للمستأجر على الآخر.
وفرق فيها بين الإجارة الجائزة والإجارة الفاسدة في حق حكم الحبس بالدين السابق، فقال: في الإجارة الجائزة للمستأجر حق حبس المستأجر بما كان له على الآخر، وقال: في الإجارة الفاسدة ليس له حق الحبس بذلك.
قال مشايخنا: ولا فرق بين الإجارة من الدين وبين البيع الجائز فالرواية في الإجارة يكون رواية في البيع.
والفرق بين البيع الفاسد: أن العقد في البيع الجائز لا يتعين بغير ذلك الدين بل بمثله ديناً في ذمة المشتري، ثم يلتقيان قصاصاً لا يستوفيهما قدراً ووصفاً، فيصير البائع

(6/427)


مستوفياً الثمن بحكم المقاصة فيعتبر بما لو استوفاه حقيقة، وهناك للمشتري حق حبس المبيع بعد الإقالة إلى أن يستوفي الثمن، فكذا إذا صار مستوفياً الثمن بحكم المقاصة، فإما في البيع الفاسد إن كان لا يتعلق العقد بغير ذلك الدين أيضاً، ولكن لا يجب مثل ذلك ديناً في ذمة المشتري، وإنما يجب قيمة المبيع عند القبض والقيمة غير متقررة قبل الهلاك فإنها تحتمل السقوط في كل ساعة وزمان بالفسخ، فأما دين المشتري على البائع متقرر فلم يتفقا وصفاً، وإذا لم تقع المقاصة لم يصر البائع مستوفياً الثمن بالمقاصة لتعيين ذلك بالاستيفاء حقيقة.

فإن مات البائع وعليه ديون كثيرة والعبد عند المشتري ففيما إذا وقع الشراء فاسداً لا يكون المشتري أحق بالعبد حال حياة البائع حتى لم يكن له حق حبس العبد فلا يكون أحق به بعد وفاة البائع، فيباع العبد ويقسم الثمن بين غرماء البائع المشتري من جملتهم.
وفيما إذا وقع الشراء جائزاً يجب أن يكون المشتري أحق بالعبد؛ لأنه كان أحق بالعبد حال حياة البائع حتى كان له حق حبسه من البائع فيكون أحق به بعد وفاته أيضاً.
وفي «الجامع الصغير» : أيضاً: رجل اشترى من آخر عبداً شراء فاسداً على أن البائع فيه بالخيار وقبض المشتري العبد في مدة الخيار بإذن البائع فأعتقه في مدة الخيار لا ينفذ إعتاقه؛ لأن الفاسد من العقود ملحق بالخيارين في حق الأحكام، وخيار البائع في العقد الجائز يمنع ثبوت الملك للمشتري فكذا في العقد الفاسد، وإنما صح الخيار في البيع الفاسد غير لازم؛ لأن فيه فائدة حتى يمنع انعقاده في حق الحكم وهو الملك، فإن البيع فاسد العاري عن شرط الخيار ينعقد في حق الحكم، ولهذا يفيد الملك عند إيصال القبض به، ومع شرط الخيار لا يفيد الملك عند إيصال القبض به فكان شرط الخيار في البيع الفاسد مفيداً.

ولو أعتقه المشتري بعدما سقط الخيار بإسقاطهما أو بمضي المدة صح إعتاقهما؛ لأن عند زوال الخيار يثبت الملك للمشتري بالسبب السابق ولا يحتاج فيه إلى تجديد القبض؛ لأن قبضه الأول موجب ضمان القيمة فكان مضموناً بضمان نفسه، ومثل هذا القبض ينوب عن قبض الشراء الصحيح فينوب عن قبض الشراء الفاسد.
قال في «المنتقى» : رجل اشترى من آخر شراء فاسداً بألف درهم وتقابضا، ثم إن البائع استرد العبد بحكم فساد العقد كان للمشتري أن يأخذ ألفه إن وجدها بعينها، ولا يكون للبائع أن يمنعه منها.

قال ثمة: ألا ترى أن البائع لو مات كان المشتري أحق بألفه فهذا إشارة إلى أن الدراهم والدنانير تتعينان في البيوع الفاسدة، وهكذا ذكر في كتاب الصرف.
ووجه ذلك: المقبوض بحكم العقد الفاسد يشبه المغصوب؛ لأن أول القبض يلاقي ملك، ثم يصير مملوكاً للبائع عند تمام القبض كما في جانب المبيع، فإن أول القبض في المبيع يلاقي ملك البائع، ثم يصير ملكاً للبائع عند تمام القبض كما في جانب المبيع (67ب3) فإن أول القبض في المبيع يلاقي ملك البائع، ثم يصير مملوكاً للبائع عند تمام القبض، كما

(6/428)


في جانب المبيع، فإن أول القبض في المبيع يلاقي ملك البائع، ثم يصير مملوكاً للمشتري عند تمام القبض والدراهم والدنانير تتعينان في الغصب، فكذا في العقد الفاسد.
قال هشام: سألت محمداً: عن رجل اشترى من رجل غلاماً شراءً فاسداً بألف درهم وقبضه المشتري، ثم اشتراه منه البائع بمائة درهم شراء صحيحاً، قال: إن قبضه البائع فهو فسخ للبيع الأول، وإن لم يقبضه فليس بفسخ له.
بشر عن أبي يوسف: رجل اشترى من آخر عبداً شراء فاسداً وقبضه، ثم باعه من غيره، ثم تقايلا البيع ورد المشتري الثاني في العبد على المشتري الأول، ثم جاء البائع الأول وخاصم المشتري الأول في البيع الفاسد فلا سبيل له عليه؛ لأن الإقالة بيع مستقبل في حق الثالث فصار نظير بالعيب بعد القبض بغير قضاء وقد صح فيه.
ولو باعه من آخر بيعاً فاسداً وسلمه إليه، فإن خاصم البائع الأول المشتري الأول ضمنه القاضي قيمتها، وإن لم يخاصمه حتى خاصم المشتري الأول المشتري الآخر في البيع وفسخه القاضي، ثم خاصمه الأول، فإنه يرد عليه.

الحسن بن زياد عن أبي يوسف: في رجل اشترى من رجل جارية شراء فاسداً وقبضها وولدت في يد المشتري ولداً من غير المشتري، فإن كان في ولدها وفاء بنقصان الولادة لم يغرم نقصانها، وإن لم يكن بالولد وفاء بالنقصان أخذ البائع تمام النقصان، فإن زاد الولد بعد ذلك زيادة وفاء بالنقصان، فإن المشتري يرجع على البائع بما ضمن من نقصان الولد، فإن نقص الولد بعد ذلك لا يلزمه شيء، والحكم فيما بين الغاصب والمغصوب منه إذا ولدت الجارية عند الغاصب وليس بالولد وفاء بنقصان الولادة نظير الحكم فيما بين البائع والمشتري في الشراء الفاسد، وهذا شيء يجب أن يحفظ.
f

بشر عن أبي يوسف رحمه الله: رجل اشترى من آخر عبداً شراء فاسداً فلم يقبضه حتى قال للبائع: أعتقه فأعتقه عنه كان العتق عن البائع، ولا يكون للمشتري.
ولو اشترى حنطة شراءً فاسداً فأمر البائع أن يطحنها فالدقيق للبائع، وكذلك لو كانت شاة فأمر بذبحها.
ولو اشترى قفيز حنطة شراء فاسداً وأمر المشتري البائع حتى خلطه بطعام المشتري، مثله رجل اشترى مسلاً أو قضبان كرم أو قضبان شجر شراء فاسداً وقبضه وغرسه فأطعم، أو كان غاصباً قال أبو حنيفة رحمه الله: هما سواء، وعلى المشتري والغاصب قيمة ذلك؛ لأنه قد تغير الشجر الصغير.
ولو كان غصب نخلاً قد أطعم فغرسه ست وأطعم عنده، أو كان ذلك شراء فاسداً قلع في الغصب ورد على صاحبه؛ لأنه عين ماله، وأما في الشراء الفاسد فعلى المشتري قيمته ولا يقلع في قول أبي حنيفة مثل قوله: في الأرض إذا بناها، وقال أبو يوسف: إن كان قلعه ينقص الأرض لم أقلعه في الشراء الفاسد مثل قوله في الثوب إذا قطعه وخاطه وحشاه، وإن كان قلعه لا ينقص الأرض قلعه مثل قوله في البناء أنه يهدم؛ لأن هدمه لا ينقص الأرض، وفي الغصب أقلعه وإن نقص الأرض.

(6/429)


ابن سماعة عن أبي يوسف: رجل اشترى عبداً شراء فاسداً وقبضه وزوجه امرأة حرة على مهر مسمى فدخل بها ولم ينقد المهر، ثم خاصم البائع المشتري في فساد البيع، فإن القاضي ينظر فيما لزمه من النفقة لما مضى والمهر، فإن بلغ ذلك قيمة العبد فالبائع بالخيار إن شاء أخذ القيمة وسلم العبد للمشتري، وإن شاء أخذ عبده ولم يرجع بشيء، وإن لم يبلغ ذلك قيمته أخذ العبد وأخذ ما نقصه يقوّم على هذه الحالة ويقوم وليس عليه دين والنكاح جائز على كل حال والمهر الذي في رقبته العبد فالمشتري ضامن للمرأة على كل حال؛ لأنه عاد لها، فإن لزم العبد دين عبد البائع بعد ما نقص البيع من نفقة امرأته لم يرجع بذلك على المشتري.
ولو عمي العبد عند المشتري، فإنه ينقض البيع ويرد المبيع على البائع، وللبائع أن يضمنه ما نقصه العمي، وإن شاء ترك العبد على البيع وضمنه القيمة، وهذا كله قول أبي يوسف ومحمد، وعلى قياس قول أبي حنيفة إذا أخذ البائع العبد فلا شيء له.
وفي «نوادر ابن سماعة» : عن أبي يوسف: رجل اشترى من آخر عبداً شراء فاسداً، ثم إن المشتري أذن له في التجارة فلحقه دين، ثم إن البائع خاصم المشتري في استرداد القيمة، فإنه يرد العبد عليه ولا سبيل للغرماء عليه ويضمن المشتري الأقل من قيمة العبد ومن الدين يعني للغرماء.
وعنه أيضاً: فيمن اشترى جارية شراء فاسداً وقبضها المشتري وزوجها من رجل، ثم فسخ البيع بينهما يحكم بالفساد وأخذها البائع مع ما نقصها التزويج، ثم إن الزوج طلقها قبل الدخول بها كان على البائع أن يرد على المشتري ما أخذ من النقصان، قال: ألا ترى أنه لو لم يكن تزويج ولكن ابيضت إحدى عينيها في يدي المشتري، ثم إن المشتري ردها ورد معها نصف القيمة، ثم ذهب البياض وعادت إلى الحالة الأولى، فإن البائع يرد على المشتري ما أخذ من نصف القيمة وطريقه ما قلنا.

وفي «نوادر ابن سماعة» : رجل قال لغيره: اشتريت منك عبدك هذا بهذا السمن في هذا الزق فباعه إياه بذلك الزق بحضرتهما ففتحه، فإذا لا شيء فيه وقد قبض المشتري العبد وأعتقه فالعقد جائز كأنه اشتراه بالسمن ولم يسم ما هو، وكذلك لو قال: اشتريته منك بهذا الثوب وأشار إلي يريد أن ثوبه وهما يعلمان أنه ليس في ذلك الموضع ثوب.
قال محمد في «الجامع» : رجل اشترى من أخر جارية شراء فاسداً وقبضها بإذن البائع فأراد البائع أن يستردها بحكم فساد البيع فأقام المشتري بينة أنه باعها من فلان بكذا، فإن صدقه البائع فيما قال ضمنه قيمتها؛ لأنهما تصادقا على أنه تعذر ردها لخروجها عن ملك المشتري، وإن كذبه البائع فيما قال: كان للبائع حق استرداد الجارية؛ لأن حق البائع قد ثبت في الاسترداد بحكم فساد البيع.
فلو امتنع الاسترداد إنما يمتنع بحكم هذه البينة وتعذر القضاء بهذه البينة لما فيها من القضاء على الغاصب من غير أن يكون عنه خصم حاضر، فإن استرد البائع الجارية، ثم حضر الغائب وصدق المشتري فيما قال كان للذي حضر أن يسترد الجارية من البائع الأول؛ لأن التصديق يستند إلى وقت الإقرار؛ لأن ذلك الإقرار وقع صحيحاً؛ لأنه حصل المعلوم.

(6/430)


وإذا استند التصديق إلى وقت ذلك الإقرار ظهر أن استرداد البائع الأول وقع باطلاً، فكان للذي حضر أن يأخذ الجارية البائع الأول، فإن كان البائع الأول صدق المشتري فيما قال وأخذ القيمة، ثم حضر الغائب لم يكن للبائع الأول استرداد الجارية سواء صدق الذي حضر المشتري أو كذبه، أما إذا صدقه فظاهر، وأما إذا كذبه؛ فلأن البائع الأول أقر ببطلان حقه في الاسترداد وإقرار كل إنسان حجة في حقه فلا يعود حقه في الاسترداد وبتكذيب البائع.

ولو قال المشتري بعتها من رجل ولم يسمه وكذبه البائع كان للبائع أن يستردها؛ لأنه لو أقر لمعلوم وكذبه البائع كان للبائع أن يستردها، فإذا أقر لمجهول أولى، فإن استرد البائع، ثم جاء رجل فقال للمشتري: إنما عنيت هذا فإن كذب ذلك الرجل المشتري فلا استرداد ما من وإن صدقه فكذلك؛ لأن الإقرار حال وجوده وقع باطلاً لحصوله لمجهول إلا أن بعد الاسترداد هو مصر على إقراره فيلتحق التصديق بهذا الإقرار، وصار كأنهما تصادقاً بعد استرداد البائع وبه لا يبطل بخلاف المسألة الأولى؛ لأن هناك الإقرار وقع صحيحاً لوقوعه لمعلوم واستند (68أ3) التصديق إليه ومن ضرورته بطلان الاسترداد.

قال في «الكتاب» : وهو نظير ما لو قال المشتري إنها ليست لي لا يبطل به حق البائع في الاسترداد، ولو قال: إنها لفلان، فإن صدقه البائع في ذلك بطل حق البائع في الاسترداد، وإن كذبه البائع في ذلك استردا العبد، فإن حضر المقر له وصدق المشتري أخذ الجارية وبطل استرداد البائع، وإن كذبه فالاسترداد ماضٍ والله أعلم.

الفصل التاسع: في حكم شراء الفضولي وبيعه
وبيع أحد الشريكين في شيء كله أو بعضه، وما يكون إجازة في ذلك وما لا يكون، وفي اجتماع الفضوليين على التصرف في محل واحد ويدخل فيه بعض مسائل الغاصب، وإذا اشترى الرجل شيئاً لرجل بغير أمره كان ما اشترى لنفسه، وإن أجاز الذي اشتراه له.
وصورته: إذا قال البائع للمشتري: بعت منك هذه العين بكذا، فقال المشتري: اشتريت ونوى بقلبه الشراء لفلان، وهذا بناء على أن أصل أن شراء الفضولي إنما يتوقف على الإجازة إذا لم (يوجد) على المشتري كما لو كان المشتري عبداً محجوراً عليه أو صبياً محجوراً عليه، أما إذا وجد نفاذاً على المشتري ينفذ ولا يتوقف وقد وجد نفاذاً على المشتري ههنا فينفذ عليه ولم يتوقف، فلا تعمل إجازة المشتري له فيه، وهذا إذا أضاف العقد إلى نفسه فأما إذا أضيف العقد إلى المشترى له فهو على وجوه.
أحدها: أن يقول البائع بعت هذا العبد من فلان، وقال الفضولي: اشتريت لفلان قبلت لفلان، أو قال: اشتريت قبلت ولم يقل لفلان، وفي هذا الوجه يتوقف ويعمل إجازة المشترى له فيه.

(6/431)


الثاني: أن يقول الفضولي لصاحب العبد: بع هذا من فلان بكذا، فقال البائع: بعت وقال المشتري: قبلت لفلان، أو قال: اشتريت لفلان، وفي هذا الوجه يتوقف ولا ينفذ على المشتري.
والثالث: أن يقول صاحب العبد للفضولي: قبلت أو اشتريت أو يقول الفضولي لصاحب العبد: اشتريت هذا العبد لأجل فلان فيقول صاحب العبد: بعت، وفي هذا الوجه ينفذ العقد على المشتري ولا يتوقف، هذه الجملة من بيوع «شرح الطحاوي» ، ورأيت في موضع آخر لو قال صاحب العبد للفضولي: بعت منك هذا العبد بكذا، وقال الفضولي: قبلت اشتريت لفلان بدأ الفضولي فقال: اشتريت منك هذا العبد لفلان وقال صاحب العبد: بعت منك، وذكر أن الصحيح أن العقد يتوقف ولا ينفذ على الفضولي.

وفي «شرح الطحاوي» أيضاً: الفضولي إذا باع مال الغير فهو على وجهين: إن باعه بثمن لا يتعين بالتعيين فإنما تلحقه الإجازة بقيام الأربعة البائع والمشتري والمالك والمبيع، ولا يشترط لصحة الإجازة قيام الثمن في يد البائع، فإن أجاز المالك البيع في حال قيام الأربعة جاز البيع ويكون البائع كالوكيل للمجيز، والثمن للمشتري إن كان قائماً، وإن هلك في يد البائع هلك أمانة، وإن باعه بثمن يتعين بالتعين يشترط ذلك قيام الثمن لصحة الإجازة، ثم إذا صحت الإجازة في هذا الوجه، وهو ما إذا كان الثمن شيئاً يتعين بالتعين وكان الثمن قائماً فالثمن يكون للبائع دون المجيز؛ لأن البائع صار مشترياً للثمن إذا كان الثمن شيئاً يتعين بالتعيين والشراء ينفذ على المشتري ولا يتوقف، ويرجع المجيز على البائع بقيمة ماله إن كان من ذوات القيم وبمثله إن كان من ذوات الأمثال.

وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا باعه متاع غيره بغير إذنه، ثم مات فأجاز صاحب المتاع البيع لا يجوز، وإنه موافق لما ذكره الطحاوي فرق بين هذا وبين النكاح.
والفرق: أن البيع إذا جاز يصير البائع وكيلاً لما عرف أن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء فترجع إليه الحقوق، والميت لا يصلح وكيلاً ولا كذلك النكاح، فإن هناك لا ترجع الحقوق إلى الوكيل.
وفي «نوادر ابن سماعة» قلت لمحمد: رأيت رجلاً غصب من آخر حيواناً وباعه من آخر فأجاز المغصوب منه البيع ولا يعلم ما حال المغصوب، قال محمد رحمه الله: البيع جائز حتى يعلم أنه تلف، قال: وهو قول أبي يوسف الأول، ثم رجع ببغداد وقال: البيع فاسد حتى يعلم حياته، فإن قال المشتري: المبيع كان هالكاً وقت الإجازة وقال البائع: إنما مات بعد الإجازة فالقول قول البائع.

وفي «فتاوى أبي الليث» : رجل باع ثوب غيره بغير أمره فقبضه المشتري وصبغه، ثم أجاز رب الثوب البيع لم يجز؛ لأن المبيع قد هلك من وجه وصار شيئاً آخر، ألا ترى أن الغاصب إذا فعل ذلك مَلَكه.
وفي «نوادر ابن سماعة» : إذا باع أحد الشريكين نصف الدار مشاعاً ينصرف إلى نصيبه، ولو باع فضولي نصف الدار المشترك بين رجلين ينصرف البيع إلى نصيبهما، فإن أجاز

(6/432)


أحدهما صح البيع في النصف الذي هو نصيب المجيز، وهذا قول أبي يوسف، وقال محمد وزفر: البيع جائز في ربعها، ولو وهب نصيبه من الدين المشترك للمديون جازت الهبة في نصيبه، ولو وهب نصف الدين مطلقاً تنفذ الهبة كما لو قال: وهب نصف العبد المشترك.
هشام عن محمد في غلام بين رجلين ليسا بشريكين في الأشياء قال: أحدهما لصاحبه وقد وكلتك ببيع نصيبي من هذا الغلام، فباع المأمور نصف هذا الغلام بعد هذا القول ولم يبين أي النصفين هو، ثم مات العبد بعد تسليم المبيع منه، فقال البائع بعد موته: قد بعت نصيبي فالقول قوله.
قال في «الجامع الكبير» : رجل باع عبد غيره بغير أمر صاحب العبد بألف درهم ومثله المشتري، وباعه أخر من رجل بألف درهم بغير أمر صاحب العبد فقبله المشتري الثاني توقف العقدان؛ لأنه لا مزاحمة في التوقف، وإذا بلغ المولى ذلك فأجازهما بنصف العقدان؛ لأن البيعين تعارضا في الحكم، وليس أحدهما بأولى من الآخر والمحل قابل للتنصيف فينصف، فكان لكل واحد من المشترين الخيار؛ لأن كل واحد منهما إنما أقدم على السواء عنه في الكل، ولم يسلم لكل واحد منهما إلا النصف.
وكذلك لو وكل المولى رجلين كل واحد منهما ببيع العبد فباعه كل واحد منهما من رجل على حدة ووقع البيعان جميعاً معاً يحكم بالتنصيف؛ لأنا نعتبر الإذن في الابتداء بالإجازة في الانتهاء بالبيعين بنصف البيعان، فكذا إذا وجد الإذن في البيعين في الابتداء ويخير المشتريان لما قلنا.

وكذلك لو كان الذي ولي البيع فضولياً واحداً والمشتري أهان بأن باع العبد من رجل بألف بغير أمر المولى وباع من آخر كذلك، فبلغ المولى فأجازهما ينصف العقدان، وكان أبو الحسن الكرخي يقول: تأويل المسألة فيما إذا أخرج البيعان معاً بأن قال الذي ولي البيع: بعت من كل واحد منكما جميع هذا العبد من هذا بألف ومن هذا بألف فقبلا جميعاً، ثم أجاز المولى البيعين، فأما إذا حصل ذلك على وجه التعاقب، فالثاني ببعض الأول؛ لأن الفضولي ملتزم العهدة والناس يتعاونون في الوفاء بموجب المعاملة فصار إقدامه على البيع الثاني فسخاً للعقد الأول، والفضولي يملك فسخ العقد الموقوف قبل إجازة المالك، ولهذا لو فسخه صريحاً ينفسخ فيتضمن إقدامه على البيع الثاني فسخاً للبيع الأول، وصار كما لو كان المباشر للبيع الثاني هو المالك، وصار كما لو كان المشتري (68ب3) واحداً، وأكثر مشايخنا على أن ما ذكر في «الكتاب» : أصح.
ووجهه: أنه لم يوجد من الفضولي فسخ العقد الأول لا نصاً ولا دلالة، أما نصاً فلا شك وكذلك دلالة لما قلنا: أنه لا مزاحمة في التوقف بخلاف ما إذا كان المباشر للعقد الثاني هو المالك أوجب حكم العقد وبين الحكمين تنافي فانتقض الأول ضرورة، وبخلاف ما إذا كان المشتري واحداً؛ لأن الشراء الثاني لازم في حق المشتري وإنما امتنع النفاذ من الجانب الآخر لحق المولى، فصار إقدام المشتري على الشراء الثاني فسخاً للأول، وهو يملك فسخ البيع الأول، فأما ههنا إن وجد من المشتري الثاني دلالة الفسخ إلا أنه لا يملك فسخ العقد الأول، والفضولي وإن ملك الفسخ لم يوجد منه دلالة الفسخ فلهذا لا ينفسخ العقد الأول.

(6/433)


ولو باع فضولي أمة رجل بألف درهم وزوجها آخر من رجل بمائة دينار فبلغ المولى فأجازهما جاز البيع وبطل النكاح؛ لأن البيع أقوى إذ يستفاد بملك النكاح وهو ملك المتعة وملك النكاح ولا يستفاد به شيئاً يترتب عليه ما يستفاد بالبيع وهو ملك الرقبة.
ولهذا لو طرأ البيع على النكاح الموقوف لا يبطله ولو استويا كان ترجيح البيع أولى؛ لأنه يقبل التنصيف، والنكاح ولا يقبل التنصيف ولو أعتقها رجل بغير أمره أو كاتبها وباعها الأخر فأجازهما المولى معاً جاز العتق؛ لأن البيع يقبل البطلان والعتق والكتابة لا يقبلان الثبوت في أحد النصفين مع قيام البيع في النصف الآخر فوجب ترجيح العتق والكتابة لهذين الوجهين، ولهذا قلنا لو وكل رجل غيره بإعتاق عبده أو بكتابة عبده، ووكل آخر ببيع هذا العبد أيضاً ففعلا معاً فالعتق والكتابة أولى فههنا كذلك.

ولو أن رجلاً وهب عبد رجل لرجل بغير أمره وسلمه المولى الموهوب له وباعه آخر من رجل فبلغ المولى، فأجازهما جميعاً جاز كل واحد منهما في النصف؛ لأن الهبة مع القبض تساوي البيع في حق إفادة الملك، وكل واحد منهما قابل للتنصيف، فإن هبة المشاع فيما لا يحتمل القسمة صحيحة تامة، ويخير المشتري ولا يخير الموهوب له، فإن اختار المشتري الإنصاف فالأمر ماضي، وإن اختار الرد لا يرد ذلك النصف على الموهوب له؛ لأن القاضي لما قضى بينهما نصفان فقد صار الموهوب له مقضياً عليه في ذلك النصف، والإنسان متى صار مقضياً عليه في شيء لا يصير مقضياً عليه في ذلك النصف إلا بسبب جديد.
وقد قال في كتاب الدعوى: في رجلين تنازعا في عين ادعى أحدهما الملك بالشراء والأخر بالهبة والقبض بإذن المالك وأقاما البينة على ذلك أن الشراء أولى، فقد رجح الشراء في مسألة الدعوى دون مسألتنا.
والوجه في ذلك: أن في مسألة الدعوى ثبت العقدان بالبينة وجهل التاريخ، والأصل في العقد إذا تساويا، وجهل التاريخ أن يجعلا كالمقترنين.

ولو اقترنا كان البيع يوجب الملك بنفسه والهبة لا توجب الملك ما لم يوجد القبض فيثبت ملك المشتري أولاً، وظهر أن الموهوب له قبض ملك المشتري إذ القبض وجد بعد العقدين فلم يثبت الملك للموهوب له، فأما ههنا القضاء يقع بالعقدين جميعاً عند الإجازة وحالة الإجازة الهبة مقبوضة للموهوب، والهبة مع القبض تساوي البيع إفادة الملك وقبول التنصيف، فلهذا يقضي بالعقد بينهما نصفين.
ولو كان مكان العبد في مسألة «الكتاب» : داراً والباقي بحاله جاز البيع دون الهبة؛ لأن البيع قابل للتنصيف والهبة ههنا غير قابلة للتنصيف؛ لأن هبة المشاع فيما يحتمل القسمة غير صحيحة، فرجحنا البيع على الهبة.

ومن هذا الجنس
رجل وهب دار رجل لرجل وسلم، ووهبها رجل آخر لرجل آخر وسلم أيضاً فأجاز صاحب الدار العقدين معاً بطلا عند أبي حنيفة، وجاز عندهما؛ لأنه لما أجاز العقدين صار كأنه وهبها من رجلين نصفين إذ قضية الاستواء التنصيف، وهبة الدار من رجلين

(6/434)


نصفين باطلة عند أبي حنيفة جائزة عندهما فههنا كذلك، وكذلك الهبة والصدقة لاستوائهما في المعنى.
ولو باعها رجل من رجل ورهنها أخر من رجل بدين له فأجاز صاحبها ذلك كله جاز البيع وبطل الرهن؛ لأن البيع أقوى؛ لأنه يوجب ملك الرقبة والرهن لا يوجب ملك الرقبة؛ ولأن البيع قابل للتنصيف والرهن لا يقبل التنصيف؛ لأن رهن المشاع لا يصح سواء كان مشاعاً يحتمل القسمة أو لا يحتمل القسمة، فلهذا رجحنا البيع، ولو كان أحدهما صدقة أو هبة والأخر رهناً، فإن كان في العبد والهبة والصدقة أولى لما قلنا في البيع مع الرهن، وإن كان في الدار بطل إذ لا يمكن تصحيح كل واحد منهما في نصف الدار شائعاً.
فإن قيل: ينبغي أن تترجح الهبة والصدقة؛ لأنه أقوى منهما، فإن كل واحد منهما يفيد ملك الرقبة والرهن لا يفيد ملك الرقبة.

قلنا: الهبة إن كانت أقوى من هذا الوجه فالرهن أقوى من وجه آخر، فإن الرهن عقد ضمانٍ، والهبة عقد تبرع فوقعت المعارضة بين قوة الرهن من هذا الوجه وبين قوة الهبة من الوجه الذي قلتم، فثبتت المساواة بينهما فكان الحكم هو التنصيف وواحد من ذلك لا يقبل التنصيف.
ولو كانا رهنين في دار أو عبد فذلك كله باطل لتعذر الترجيح وتعذر التنصيف؛ لأن رهن المشاع لا يصح على كل حال ولم يجعل هذا بمنزلة الرهن من رجلين؛ لأن هناك لا يتحقق الشيوع، فإن العقد واحد والكل يصير رهناً عندهما، ولا يصير عند كل واحد منهما نصفه رهناً فلم يتمكن من الشيوع، أما هنا العقدان توقفا ليعيد كل واحد منهما في الكل عند زوال المزاحمة وفي النصف عند بقائها وقد بقيت المزاحمة فيعيد كل عقد في النصف دون النصف فيتمكن الشيوع.
وإذا اجتمع البيع والإجارة في العبد أو الدار فالبيع أولى؛ لأن البيع أقوى، فإنه يفيد ملك الرقبة وملك المنفعة بناء عليه، أما الإجارة لا تفيد ملك الرقبة؛ ولأن البيع يحتمل التنصيف والإجارة لا تحتمل التنصيف فترجح البيع عند أبي حنيفة بعلتين، وعندهما بالعلة الأخرى.
وإذا اجتمعت الهبة والإجارة فالهبة أولى؛ لأنها أقوى؛ لأنها تفيد ملك الرقبة وملك المنفعة بناء وتبعاً والإجارة لا تفيد ملك الرقبة والهبة قابلة للتنصيف والإجارة لا تحتمل التنصيف عند أبي حنيفة، وهذا إذا كان الدعوى في العبد، فإن كان في الدار فالهبة أولى أيضاً عند أبي حنيفة لكن للعلة الأولى دون الثانية، وعندهما الترجيح في الدار والعبد للعلة الأولى دون الثانية لما مر.

وإذا اجتمع الرهن مع الإجارة فالإجارة أولى في الدار والعبد جميعاً.
قيل: هذا على قولهما؛ لأن الإجارة تقبل التنصيف عندهما والرهن لا يقبل، فأما عند أبي حنيفة فهما سواء فينبغي أن يبطل.

وقيل: لا بل هذا قول الكل؛ لأن الشيوع في الرهن أشد تأثيراً منه في الإجارة؛ لأن رهن المشاع باطل لا حكم له، وإجارة

(6/435)


المشاع فاسدة لها حكم وهو أجر المثل عند استيفاء المنافع، ورهن المشاع من الشريك لا يجوز إجارة المشاع من الشريك جائزة في المشهور من الرواية فكان الشيوع أشد تأثيراً في إبطال الرهن فلهذا صارت الإجارة أولى، ولأن الإجارة أقوى من الرهن؛ (69أ3) لأن الإجارة توجب ما يوجبه الرهن وهو الجنس ويوجب ملك المنفعة أيضاً وهو عقد معاملة، والرهن لا يوجب ملك المنفعة وليس بمعاوضة فلهذا كان الترجيح للإجارة.
وفي «نوادر ابن سماعة» : عن محمد: رجل باع ثوباً لرجل من ابن نفسه بغير أمر صاحبه والابن صغير مأذون أو باعه من عند نفسه والعبد مأذون له في التجارة وعليه دين أو لا دين عليه، ثم إن البائع أعلم رب الثوب أنه قد باع ثوبه ولم يعلمه ممن باعه لا يجوز ذلك إلا في عبده الذي عليه الدين من قبل أنه لو أمره ببيعه مبتدئاً من أحد من هؤلاء إلا من عبده الذي عليه الدين.6
قال: امرأة جاءت بألف درهم إلى رجل وقالت: اشتر والد ذلك فالدار للمشتري والإجارة باطلة.
رجل قال لأخر: قد اشتريت عبدك هذا من نفسي بألف درهم والمولى حاضر وقت هذه المقالة فقال: قد أجزت وسلمت قال: أجعله بيعاً الساعة منه بألف درهم، ولو قال: هذا في شيء ماض كان باطلاً.
ولو قال: اشتريت عبدك هذا من نفسي، ومن فلان بألف درهم يعني أمس فقال المولى: قد رضيت لم يجز في شيء؛ لأنه لا بيع واحد بثمن واحد، ولو قال: اشتريت عبدك هذا أمس اشتريت نصفه من نفسي بخمسمائة ونصفه من فلان بخمسمائة درهم فهو جائز في النصف الذي اشتراه من فلان يعني إذا قال المولى: قد أجزت.
إذا اشترى عبداً وقبضه فادعاه رجل أنه عبده وأقام البينة وقد علم بالبيع فقضى له القاضي وقبضه، ثم أمضى العقد فإمضاؤه جائز، وكذلك إذا قضاه قبل أن يقضي له القاضي بالعبد جاز إمضاؤه.

وفي «نوادر هشام» قال: سألت أبا يوسف: عن رجل غصب من رجل عبداً وباعه، ثم جاء المغصوب منه وأجاز البيع، قال: إن كان يقدر المغصوب منه على أخذ العبد فإمضاؤه جائز وإلا فإمضاؤه باطل، وهذا قول أبي يوسف الأخر، وقد مرت هذه المسألة قبل هذا.
وإبراهيم عن محمد: رجلان بينهما صبرة من طعام باع أحدهما قفيزاً منه، ثم كاله لصاحبه فأجازه الآخر أو لم يجزه فالبيع جائز والثمن كله للبائع، وإن ضاع ما بقي من الطعام فللشريك على البائع نصف قفيز ولا سبيل له على المشتري، ولو عزل قفيراً من الصبرة أولاً، ثم باعه فأجازه الشريك فالثمن بينهما نصفان ولم يجزه وأخذ نصفه فأراد المشتري أن يرجع عليه من تمام القفيز فليس له ذلك، وهو بالخيار وإن شاء أخذه بنصف الثمن وإن شاء شارك.

(6/436)


إذا قال لغيره: بعتك من هذه الحنطة وهو مكيلها بمائة درهم فإن ههنا يقع البيع، وكذلك السمن والزيت وما يكون له نموذج، فأما الثياب فليس لها نموذج.
وإذا باع من آخر جراباً على أنه أربعون، فإذا هو واحد وأربعون، ثم باعه المشتري على أنه واحد وأربعون فأجاز البائع الأول ذلك فله من هذا الثمن جزؤه من واحد وأربعين، ويقسم الثمن على عدد الثياب.
وفي «نوادر ابن سماعة» : عن محمد: رجل غصب من آخر عبداً وباعه الغاصب من رجل وسلمه المشتري، ثم إن الغاصب صالح مولاه منه على شيء، قال: إن صالحه على القيمة دراهم أو دنانير جاز بيع الغاصب وهذا بمنزلة ضمان القيمة، وإن صالحه على عرض من العروض فهذا بمنزلة بيع المستقبل، والبيع الأول باطل.
وفي «المنتقى» : رجل باع عبد رجل بغير أمره، ثم إن البائع اشتراه أقام بينة أنه اشتراه من مولاه بعد البيع قبل ذلك هكذا قاله محمد رحمه الله.

وفيه أيضاً: رجل باع عبد رجل بغير أمره، فقال له صاحب العبد: أحسنت وأصبت ووفقت فهذا لا يكون إجازة للبيع، وله أن يرده؛ لأنه قد يكون هذا على التعجب والاستهزاء، ولكن إن قبض الثمن فهو إجازة للبيع.
وكذلك إذا قال: قد كفيتني مؤنة البيع وأحسنت فجزاك الله خيراً لم يكن ذلك إجازة؛ لأنه قد يجيء هذا على وجه الاستهزاء.
وفي «نوادر هشام» : عن محمد رحمه الله: في رجل باع جارية رجل بغير أمره فلقيه رب الجارية فقال: أحسنت أو وفقت فالبيع جائز استحساناً، فصار في المسألة روايتان.
وفي «المنتقى» : أن قوله بئس ما صنعت إجازة، وكذلك قبض الثمن إجازة.
بشر عن أبي يوسف: رجل باع عبد رجل بغير أمره فبلغه الخبر فقال للبائع: قد وهبت لك الثمن أو قال: تصدقت به عليك فهذا إجازة للبيع إن كان قائماً.
وعنه أيضاً: اشترى رجل أمة رجل من غيره ووقع عليها وعلقت منه وولدت فأجاز المولى جاز، وليس في الولد قيمة ولا عقر على المشتري.
ابن سماعة عن محمد: رجل باع بغير إذنه فجاء المشتري إلى مولاه وأخبره أن فلاناً باع عبده منه، قال: إن باعك بمائة درهم فقد أجزت، فقال: إن كان باعه بمائة أو أكثر من الدراهم جاز، وإن كان بأقل من مائة لا يجوز وإن باعه بألف دينار لا يجوز، وإنما ينظر في هذا إلى النوع الذي وصفه.

وكذلك إن كان قال: إن باعك بمائة دينار فهو جائز فهو على (ما) وصفت لك، وإن قال: إن كان باعك بمائة أجرت ذلك فهذا عبده وإذا غصب عبداً وباعه من غيره، ثم أبق العبد من يد المشتري، ثم أجاز المالك البيع جاز عند أبي حنيفة خلافاً لزفر.

(6/437)


الفصل العاشر: في الاختلاف الواقع بين البائع والمشتري
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
نوع منها في الاختلاف في صحة العقد وفساده، هذا النوع ينبني على عبارتين.

أحديهما: أن المتعاقدين إذا ادعى صحة العقد وادعى الآخر فساده، فإن كان مدعي الفساد يدعي الفساد ولا يدفع إستحقاق مال عن نفسه لا يصدق في دعوى الفساد، وهذا لأن مدعي الفساد إذا كان لا يدفع عن نفسه استحقاق مال بقي من جانبه مجرد دعوى الفساد لا يقبل؛ لأن الظاهر شاهد لمدعي الجواز وهو ظاهر عقله ودينه؛ لأن عقل الإنسان ودينه يمنعانه عن مباشرة العقد الفاسد وعن دعوى الجواز كاذباً، وظاهر عقل مدعي الفساد ودينه إن كان يمنعانه عن دعوى الفساد كاذباً يمنعانه عن مباشرة العقد الفساد فظاهر عقل مدعي الفاسد ظاهر له من وجه وعليه من وجه وظاهر عقل مدعي الجواز شاهد له من كل وجه.
والقول قول من يشهد له الظاهر، فمن كانت شهادة الظاهر له أكثر كان قوله أولى بالقبول، أما إذا كان مدعي الفساد بدعوى الفساد يدفع استحقاق مال عن نفسه لو جعلنا القول قول مدعي الجواز بشهادة الظاهر له فقد جعلناه مستحقاً مالاً على صاحبه بشهادة الظاهر والظاهر لا يصلح حجة الاستحقاق، ومتى جعلنا القول قول من يدعي الجواز بشهادة الظاهر لدفع صفة المعصية عن فعلهما والمعاصي أبداً تدفع عن المسلمين بشهادة الظاهر.
إذا ثبت هذا جئنا إلى تخريج المسائل: فنقول في بيع العين: إذا ادعى أحد المتعاقدين الفساد بأن ادعى شرطاً فاسداً فالقول قول من يدعي الصحة؛ لأن بيع العين عقد معادلة من الجانبين؛ لأنه بيع بالمثل من الجانبين، فإن مبنى البيع على المساواة والمعادلة من الجانبين فمدعي الفساد لا يدفع عن نفسه استحقاق شيء من حيث المعنى؛ لأنه يحصل له مثل ما استحق عليه متى جاز العقد الاستحقاق فكأنه لم يستحق عليه فبقي مجرد دعوى الفساد من غير دفع الاستحقاق فيكون القول (69ب3) قول الجواز على ما مر.

وفي باب النكاح إذا ادعى أحد الزوجين الصحة والآخر الفساد، بأن ادعى أحدهما أن النكاح كان بغير شهود وادعى الآخر أنه كان بشهود، أو ادعى أحدهما أن النكاح كان في عقد الغير وادعى الآخر أنه كان بعد انقضاء العدة فالقول قول من يدعي الصحة؛ لأن عقد النكاح معادلة من الجانبين؛ لأن من الجانب الزوج المهر وأنه عين ومن جانب المرأة منافع البضع ومنافع البضع في حكم الأعيان، فصار كبيع العين.
وللمضارب إذا ادعى فساد العقد بأن قال لرب المال: شرط لي نصف الربح إلا عشرة ورب المال يدعي جواز المضاربة بأن قال: شرطت لك نصف الربح فالقول قول

(6/438)


رب المال؛ لأن المضارب بدعوى الفساد لا يدفع الاستحقاق عن نفسه وإن كان مستحق على المضارب بعد عقد المضاربة شيء؛ لأن المستحق له جوّز من الربح إنه عين مال والمال خير من المنفعة والاستحقاق بعوض هو خير كلا الاستحقاق فلم يكن المضارب بدعوى الفساد دافعاً عن نفسه الاستحقاق فلا يقبل قول رب المال إذا ادعى فساد المضاربة بأن قال رب المال للمضارب: شرطت لك نصف الربح إلا عشرة والمضارب ادعى جواز المضاربة فالقول قول رب المال؛ لأن رب المال بدعوى الفساد يدفع عن نفسه استحقاق مال؛ لأن ما يستحق لرب المال منفعة المضارب وما يستحق على رب المال عين مال وهو جزء من الربح والعين خير من المنفعة، وإذا كان ما يستحق على رب المال خير أكان المال بدعوى الفساد دافعاً عن نفسه استحقاق زيادة قال: فكان القول قوله.

وإذا ادعى رب المال السلم لأجل والمسلم إليه لواحد منهما فالقول قول رب السلم استحساناً؛ لأن المسلم فيه على تقدير ثبوت الأجل وجواز العقد لا يصير مستحقاً للحال فلا يكون المسلم إليه بدعوى الفساد عن نفسه استحقاقاً فلا يقبل قول، ويكون القول قول من يدعي الجواز وهو رب المسلم بشهادة الظاهر له.

العبارة الثانية: أن العاقدين إذا اتفقا على وجود عقد واحد واختلفا في صحته وفساده فالقول قول من يدعي الصحة.
كما في بيع العين إذا ادعى أحدهما فساد العقد بأن ادعى اشتراط فاسد والآخر يدعي الجواز فالقول قول من يدعي الجواز؛ لأنهما اتفقا على عقد واحد؛ لأن البيع باشتراط شرط فاسد لا يصير عقداً آخر بل يكون بيعاً فاسداً، فقد اتفقا على عقد واحد واختلفا في صحته وفساده.
وكذلك في باب النكاح: إذا ادعى أحدهما فساد العقد بأن ادعى أن النكاح كان بغير شهود أو ما أشبه ذلك، وادعى الآخر أن النكاح كان بشهود فالقول قول من يدعي الجواز؛ لأنهما اتفقا على وجود عقد واحد؛ ولأن النكاح بسبب الفساد لا يصير عقداً آخر أنما اختلفا في صحته وفساده.
وكذلك في باب السلم إذا ادعى رب السلم الأجل وأنكر المسلم إليه الأجل فالقول قول رب السلم استحساناً؛ لأن السلم بسبب الفساد لا يصير عقداً آخر فقد اتفقا على وجوده عقد واحد واختلفا في صحته وفساده، فكان القول قول من يدعي الجواز.
وفي باب المضاربة: إذا قال رب المال: شرطت لك نصف الربح إلا عشرة، وقال المضارب: شرطت لي نصف الربح فالقول قول رب المال؛ لأن هناك ما اتفقا في وجود عقد واحد بل اختلفا فيه؛ لأن رب المال يدعي الإجازة؛ لأن المضاربة إذا فسدت تصير إجازة فاسدة، فإذا جازت كانت شركة فقد اختلفا في العقد الذي باشر المضاربة.
ادعى الشركة وأنكرها رب المال وأقرّ له بالإجازة فيكون القول قول رب المال، كما لو أنكر المضاربة ولم يقر بالإجازة.
فإن قيل: هذا القدر الذي قلتم في فصل المضاربة يشكل ما إذا قال رب المال

(6/439)


للمضارب: شرطت لك ثلث الربح وزيادة عشرة، وقال المضارب: شرطت لي الثلث فالقول قول المضارب، وقد اختلفا في نوع العقد.

قلنا: هناك اتفقا على عقد واحد ابتداء وهو الشركة، فإن المضارب ادعى ذلك ورب المال أقر له بذلك ابتداء المال شرطت لك نصف الربح؛ لأن قوله: وزيادة عشرة مقطوعة عن أول الكلام فلا يتوقف أول الكلام عليه، فكان هذا من رب المال دعوى عقد آخر بعد الإقرار بوجود عقد واحد فلا يصدق في دعواه، بخلاف قوله إلا عشرة؛ لأن هذا استثناء أول الكلام يتوقف على الاستثناء.

فأما إذا اختلف الزوجان في النكاح باشراه بأنفسهما أنه كان في حالة الصغر أو بعد البلوغ فيه، كان القول قول من يدعي النكاح في حالة الصغر؛ لأن هناك ما اتفقا على وجود العقد بل اختلفا في وجوده؛ لأن عبارة الصغير فيما يضره أو يتردد بين الضرر والنفع ملحق بالعدم.
كعبارة المجنون، فكان المدعي للنكاح في حالة الصغر منكراً وجود النكاح فكان القول قوله. وإن كان بمنزلة ما لو قالت: تزوجتني قبل أن أحلق، أو قال الرجل: تزوجتك قبل أن أحلق، وقال الآخر: لا بل بعد الحلق، أما ههنا اتفقا على وجود النكاح، فإنهما اتفقا أنهما كانا من أهل العقد حال ما باشرا العقد، وإنما اختلفا في صحته وفساده.
ذكر في «المنتقى» بشر عن أبي يوسف في «الإملاء» : رجل ادعى عبداً في يدي رجل لي اشتريته من صاحب اليد بألف درهم، وقال صاحب اليد: بعته منه بألف درهم وشرطت عليه أن لا يبيعه أو ما أشبه ذلك من الشروط التي تفسد البيع فالقول قول المشتري، وإن كان مدعي الشرط هو المشتري فالقول قول البائع؛ لأنهما اتفقا على وجود العقد واختلفا في صحته وفساده ومدعي الفساد لا يدفع عن نفسه استحقاق مال على العبارة الأولى، وعلى العبارة الثانية اتفقا على وجود عقد واحد واختلفا في صحته وفساده فيكون القول قول من يدعي الصحة.

فإن قال مدعي الشراء: اشتريت عبدك هذا بعبدي هذا وقال البائع: بعته منك بألف درهم ورطل من خمر، أو قال: بألف درهم وخنزير فأقاما البينة فالبينة بينة البائع، وإذا ادعى للبائع أن الثمن كله خمر أو خنزير فأقاما البينة فالبينة بينة المشتري.
والحاصل: أنه إذا اتفقت بينة البائع والمشتري على ذكر ما يصلح ثمناً وأثبت أحديهما شرطاً زائداً يفسد به البيع، كما إذا اتفقا أن البيع كان بألف درهم وزادت أحديهما خنزيراً أو رطلاً من خمر فالبينة بينة الفساد، وإذا اختلفا في ذكر ما يصلح ثمناً فأثبت أحديهما ما يصلح ثمناً بأن قال: كان البيع بألف درهم أو بهذا العبد، وأثبتت الأخرى ما لا يصلح ثمناً بأن قالت: الثمن كله خمر أو خنزير فالبينة بينة الصحة.
وذكر المعلى عن أبي يوسف: رجل باع من آخر داراً، ثم قال: بعتها بيعاً صحيحاً فاسداً، وقال المشتري: اشتريتها شراء صحيحاً فإني أقول للبائع: كيف بعته فإني أقول

(6/440)


للمشتري: كيف اشتريته، فإن قال: اشتريته بألف درهم ونقدت الثمن حلفت البائع على ذلك فإن حلف قلت للبائع: كيف بعته؟ فإن قال: بعته على أن مسمى طعاماً اربح فيه، حلفت المشتري ما اشتراه بهذا الشرط، فإن حلف كان البيع صحيحاً، وإن قال البائع: بعتها بخنزير فالقول قوله.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل قال لآخر: بعتك هذا العبد بألف درهم ورطل خمر وقال المشتري: اشتريته بألف درهم لا غير، قال: كان أبو حنيفة رحمه الله يقول في مثل هذا: أن القول (70أ3) قول من يدعي الصحة، وأما أنا فأرى أن يجعل القول قول البائع.
ولو قال: بعتك بألف درهم حالة وقال المشتري: بألف درهم إلى العطاء فالقول قول البائع: وإن أقاما البينة (فالبينة) بينة المشتري.

وعن أبي يوسف: في رجل باع آخر متاعاً وسلمه إلى المشتري، ثم اختلفا فقال المشتري: اشتريته بألف درهم، وقال البائع: بعته بألف درهم، أو قال: بمائة دينار وزاد في دعواه أمراً يفسد به البيع إما شرطاً أو لمن حرم يفسد به البيع، فإن البائع يحلف على دعوى المشتري وينتقض البيع إن حلف، وليس على المشتري يمين بدعوى البائع؛ لأن دعوى البائع لو أقر أنه جميعاً لم يلزم بها البيع.
قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: وقد قال في مجلس آخر بعد هذا في رجل باع عبداً من آخر وقد أقرا جميعاً أنه كان آبقاً، فقال البائع: بعتك في أيامه وقال المشتري: لعينيه بعدما أخذته فالقول قول الذي يدعي صحة البيع أنهما كانا، وكذلك في نظائره، وإن أقاما البينة فالبينة بينة الذي يدعي الصحة.
رجل باع من آخر بيعاً فاسداً وسلمه إلى المشتري، ثم إن البائع باعه من غيره بيعاً صحيحاً وقبضه المشتري الثاني، فقال البائع للمشتري الثاني: بعتكه قبل أن أقبضه من المشتري الأول وقبل أن ينفسخ البيع بيني وبينه، وقال المشتري الثاني: لا بل بعته بعد ما قبضه وفسخت البيع الأول فالقول قول المشتري الثاني، ولا يصدق البائع على إبطال البيع الثاني وقد انفسخ البيع الأول بقبض المشتري الثاني.
إبراهيم عن محمد: في رجل اشترى ألف مَنّ من القطن، ثم اختصم البائع والمشتري بعد ذلك وفي يد البائع والمشتري بعد ذلك، وفي يد البائع ألف مَنّ من القطن يوم الخصومة، فقال البائع: لم يكن في ملكي يوم البيع قطن أصلاً أو قال: قد كان وقد بعت ذلك القطن ولم يكن هذا القطن في ملكي يوم البيع، وإنما أحدث بعد ذلك فالقول قول البائع أنه لم يبع هذا القطن.

رجل قال لأخر: بعتك هذا العبد بألف درهم وقال ذلك الرجل: لم اشتره منك فسكت البائع حتى قال: المشتري في ذلك المجلس أو بعده هي تلي قد اشتريته منك بألف درهم فهو جائز. قال: وكذلك في النكاح وفي كل شيء يكون لهما جميعاً فيه حق إذا رجع المنكر إلى التصديق قبل أن يصدقه الأخر على إنكاره فهو جائز، وكل شيء يكون الحق فيه لواحد مثل الهبة والصدقة والإقرار فلا ينفعه إقراره له بعد إنكاره، هذه المسألة من «المنتقى» .

(6/441)


وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل باع عبد غيره بغير أمره وسلمه إلى المشتري ومات في يد المشتري فجاء المولى بعد ذلك بطلت يمينه وقال: قد كنت أجزت البيع لا يقبل قوله إلا ببينة، ولو قال: كان باعه بأمري قبل قوله.

نوع آخر في الاختلاف الواقع بينهما في الثمن
يجب أن يعلم أن البائع مع المشتري إذا اختلفا في جنس الثمن أنه دراهم أو دنانير، أو في قدره أنه ألف أو ألفان، أو في صفته أنه صحاح أو جياد أو زيوف كسرة والسلعة قائمة بعينها أنهما يتحالفان.
اختلفا قبل قبض المشتري المبيع أو بعده؛ لأن ظاهر قوله عليه السلام: «إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة بعينها تحالفا وترادا» لا يجب الفضل، غير أن هذا الاختلاف إذا كان قبل (قبض) المبيع فالتحالف موافقه القياس؛ لأن المشتري يدعي على البائع وجوب تسليم المبيع بالثمن الذي ادعاه، والبائع ينكر ويدعي على المشتري زيادة ألف في الثمن والمشتري ينكر، فكان كل واحد منهما مدعياً ومنكراً واليمين حجة المنكر في الشرع فكان التحالف قبل القبض على موافقة القياس.
وإن كان هذا الاختلاف بعد قبض (المبيع) فالتحالف على مخالفة القياس.
والقياس: أن لا يحلف البائع وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن المشتري لا يدعي على البائع شيئاً ينكره البائع؛ لأن حق المشتري في المبيع رقبة وتصرفاً وذلك سالم للمشتري، الرقبة بحكم إقرار البائع والتصرف بالقبض فكان ينبغي أن لا يحلف البائع لكن حلفناه بالنص، ولهذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف: أن هذا الاختلاف لو وقع بين ورثتهما بعد القبض لا يتحالف بعد القبض على مخالفة القياس بالنص، والنص تناول المتبايعين وهذا الاسم لا يتناول الورثة.
وأما على قول محمد: فالتحالف بعد القبض على موافقة القياس وبه أخذ بشر بن غياث والكرخي؛ لأن كل واحد منهما يدعي على صاحبه عقداً ينكره صاحبه، البائع يدعي على المشتري العقد بألفين والمشتري ينكر، والمشتري يدعي على البائع العقد بألف والبائع ينكر، والعقد بألف غير العقد بألفين.
فكان كل واحد منهما منكراً من هذا الوجه فكان التحالف بعد القبض على موافقة القياس، ولهذا قال محمد رحمه الله: بأن هذا الاختلاف لو وقع بين ورثتهما قبل القبض أو بعد القبض يتحالف فيما بين المتعاقدين على موافقة القياس لكونهما منكرين فيمكن قياس ورثتهما عليهما.
وإذا وقع الاختلاف في المبيع فالتحالف قبل نقد الثمن على موافقة القياس وبعد نقد الثمن على مخالفة القياس عند أبي حنيفة وأبي يوسف بدلالة النص الذي رويناه، والأقضية القياس أن لا يحلف المشتري؛ لأنه مدعي لكن أوجبنا عليه اليمين بدلالة النص

(6/442)


الذي روينا؛ لأنه أوجب اليمين على المدعي، متى اختلفا في أحد بدلي العقد وهو الثمن، فكذا إذا اختلفا في البدل الآخر، ثم أوجب التحالف كيف يتحالفان.

ذكر في «الأصل» : أن كل واحد منهما يحلف على دعوى صاحبه، يحلف البائع بالله ما بعته بألف كما يدعيه المشتري، ويحلف المشتري بالله ما اشتريته بألفين كما يدعيه البائع، وهكذا ذكر الكرخي في كتابه.

وذكر محمد في «الزيادات» : في باب السلسلة أن كل واحد منهما يحلف على دعوى نفسه وعلى دعوى صاحبه يحلف البائع بالله: ما بعته بألف كما ادعاه المشتري ولقد بعته بألفين كما ادعيت أنت، ويحلف المشتري بالله: ما اشتريته بألفين كما ادعى البائع ولقد اشتريته بألف كما ادعيت أنت.
وكان أبو يوسف أولاً يقول يبدأ بيمين المشتري وهو قول زفر ومحمد وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمهما الله؛ لأن المشتري أشدهما إنكاراً؛ لأنه منكر صورة ومعني والبائع عندهما غير منكر أصلاً.
وعند محمد منكر صورة؛ لأن المشتري وإن كان يدعي على البائع البيع بألف فإنما يدعيه صورة لا معنى؛ لأن المقصود من العقد الذي يدعيه المشتري ملك الرقبة والتصرف وكل ذلك سالم له فكان مدعياً صورة فكان البائع منكراً صورة فهو معنى قولنا: المشتري أشدهما إنكاراً فلهذا كانت البداية بيمينه أولى، ثم إذا تخالفا ذكر في كتاب الدعوى أن القياس أن يقضي بالبيع بأقل الثمنين كما يدعيه المشتري؛ لأن البيع بأقل الثمنين ثابت باتفاقهما، وفي الاستحسان يترادان العقد لظاهر قوله عليه السلام: «تحالفا وترادا» فهذا أمر عرف بالنص بخلاف القياس، ويحتاج إلى فسخ القاضي أو إلى فسخهما لينفسخ العقد إما بدون ذلك لا ينفسخ العقد بينهما.
g
وفي مسائل السلم يقول: فيما إذا اختلفا في المسلم فيه أو في مقدار رأس مال السلم وحلفا فالقاضي يقول لهما ماذا تريدان، فإن قالا: نفسخ العقد أو قال أحدهما ذلك فالقاضي يفسخ العقد بينهما، وإن قالا: لا نفسخ العقد تركهما القاضي رجاء أن يعود أحدهما إلى تصديق صاحبه سيمضيان في البيع.

وفي كتاب البيوع للحسن بن زياد إذا حلف كل واحد منهما على دعوى الآخر فقبل أن يفسخ القاضي العقد (70ب3) بينهما فللبائع أن يقول أنا ألزمه المشتري بألف درهم وللمشتري أن يقول أنا آخذه بألفي درهم وبعد ما فسخ القاضي بينهما فليس لأحدهما كلام وأنهما ما نكل عن اليمين لزمه ما ادعاه صاحبه لصيرورته مقراً بما يدعيه صاحبه عند نكوله، وأيهما أقام بينة قبلت بينته.
وإن أقاما بينة فالبينة بينة البائع؛ لأن فيها زيادة إثبات هذا وقع الاختلاف بين المتبايعين، فإن وقع الاختلاف بين ورثتهما أو بين ورثة أحدهما وبين الحي، فإن كانا قبل

(6/443)


قبض السلعة يتحالفان بالإجماع، وإن كانا بعد القبض فكذلك عند محمد، وعلى قول أبي يوسف وأبي حنيفة لا يتحالفان، وقد ذكرنا هذا إذا اختلفا في الثمن مقصوداً، وأما إذا اختلفا في الثمن مقتضى اختلافهما في شيء آخر.

وصورته: رجل اشترى من آخر سمناً في زق ووزنه مائة رطل، ثم جاء بالزق ليرده ووزنه عشرون، فقال البائع: ليس هذا زقي، وقال المشتري: هو زقك فالقول قول المشتري، سمي لكل رطل ثمناً بأن قال: كل رطل بدرهم أو لم يسم وجعل هذا اختلافاً في مقدار المقبوض والقول قول المشتري في أصل القبض فكذا في مقدار المقبوض.
ثم هذا اختلاف في الثمن؛ لأن بزيادة وزن الزق ينتقص الثمن، وبنقصان وزن الزق يزداد الثمن، فالبائع يدعي زيادة في الثمن والمشتري ينكر، ولم يعتبر هذا الاختلاف في إيجاب التحالف؛ لأن الاختلاف في الثمن إنما وقع مقتصى اختلافهما في الوزن، فصار الأصل أن الاختلاف في الثمن إنما يوجب التحالف إذا كان الاختلاف واقعاً فيه مقصوداً، وههنا شيئاً آخر وكلمات كثيرة تأتي في آخر هذا النوع إن شاء الله تعالى، هذا إذا كانت السلعة قائمة بعينها لم يتغير عن حالها، فأما إذا كانت قد تغيرت عن حالها فهذا على وجهين:

الأول: أن يكون التغير من حيث الزيادة وإنه على وجهين أيضاً: فإن كانت الزيادة من حيث السعر وقد اختلفا في مقدار الثمن قبل القبض أو بعض القبض فإنهما يتحالفان، وإن كانت الزيادة من حيث العين، فإن حدث قبل القبض فإنهما يتحالفان وإن كانت الزيادة من حيث العين، فإن حدث قبل القبض فإنهما يتحالفان أي: زيادة ما كانت متصلة أو منفصلة متولدة من العين كالولد أو بدل العين كالأرش أو بدل المنفعة كالكسب والغلة، وهذا لا يوجب التحالف الفسخ والزيادة من حيث السعر لا يمنع الفسخ بسائر أسباب الفسخ على كل حال فكذا بالتخالف، وكذا الزيادة من حيث العين الحادثة قبل القبض لا يمنع الفسخ بسائر أسباب الفسخ فكذا بالتحالف إلا أن الزيادة المنفصلة إذا كانت متولدة من عينها كالولد أو بدل العين

(6/444)


كالأرش، والعقر وقد تحالفا وفسخ القاضي العقد بينهما، فإن الزيادة تصير للبائع عندهم جميعاً، كما لو حصل الفسخ بالإقالة أو بالرد بالعيب.
وإن كانت الزيادة المنفصلة كالكسب والغلة إذا تحالفا وفسخ القاضي العقد بينهما أو تفاسخا، فإن الكسب والغلة تكون للمشتري عند أبي حنيفة، وعلى قولهما يكون للبائع، كما لو حصل الفسخ بالإقالة قبل القبض أو بالرد بالعيب أو بالهلاك، فإن هناك الزيادة تكون للمشتري عند أبي حنيفة.
وعندهما: تكون للبائع فالأصل عند أبي حنيفة أن الكسب الحادث قبل القبض إنما يكون لمن كان الأصل له يوم الكسب، وعلى قولهما لمن صار له ملك الأصل هذا إذا حدثت الزيادة قبل القبض.

فأما إذا حدثت بعد القبض، إن كانت الزيادة كالثمن والحال فعلى قولهما: لا

(6/445)


يتحالفان إلا أن يرضى المشتري أن يرد العين مع الزيادة المتصلة الحادثة بعد القبض عندهما يمنع الفسخ إلا برضى من له الحق في الزيادة، ولهذا قالا: بأن الصداق إذا أراد زيادة متصلة بعد القبض، ثم ورد الطلاق قبل الدخول، فإن الصداق لا يتنصف إلا برضاء المرأة، والصداق قبل الدخول إنما يتنصف بحكم الفسخ على ما يعرف في كتاب الطلاق، ثم امتنع التنصيف لما كانت الزيادة المتصلة عندهما إلا برضاء المرأة فكذا يمنع الفسخ ههنا إلا برضاء المشتري، وعلى قول محمد يتحالفان؛ لأن الزيادة المنفصلة بعد القبض كالولد لا يمنع التحالف على مذهبه، فالمتصلة أولى وإذا وجب التحالف على مذهبه وتخالفا، فإذا ترادان لم يذكر هذا في «الكتاب» .
وقد اختلف فيه المشايخ قال بعضهم: بأنهما يترادا العين رضي المشتري بذلك أم سخط، وقاسوا هذه المسألة على الصداق، فإن الصداق يتنصف عند محمد رحمه الله رضيت المرأة بذلك أم سخطت فكذلك ههنا المشتري يرد العين على البائع مع الزيادة..... ومنهم من يقول بأيهما يترادان القيمة إلا أن يشأ المشتري أن يرد العين مع الزيادة.
فهذا القائل يحتاج إلى الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة الصداق على مذهب محمد رحمه الله.

وجه الفرق له في ذلك: وهو أن تنصف الصداق بالطلاق قبل الدخول ثابت على موافقة القياس أن الطلاق قبل الدخول فسخ للنكاح معنى من حيث إن جميع المعقود عليه عاد إلى المرأة كما خرج عن ملكها من غير سبب جديد وهذا معنى الفسخ، وهو قطع للملك الثابت بالنكاح من حيث الحقيقة، فإن الطلاق موضوع للقطع لا للفسخ، ولهذا صح بعد الدخول وإن كانت لا تثبت معنى الفسخ بعد، تبدأ الدخول فكان فسخاً معنى قطعاً حقيقية..... الشرع على الشبهين خطهما بقدر الإمكان فجعل للزوج النصف عملاً بالمعنى وبقي النصف للمرأة بالحقيقة، وإذا كان كذلك كان ثبوت حق الزوج في النصف بالطلاق قبل الدخول على موافقة القياس لولا الزيادة فلم يجز أن يبطل حقه بالزيادة المتصلة؛ لأن الزيادة المتصلة تبع للأصل ولا يجوز إبطال الأصل بالتبع.
وأما الفسخ بعد التحالف ثابت على مخالفة القياس مراعاة لحق البائع لما ذكرنا أن القياس أن يقضي بالبيع بأقل الثمنين؛ لأنه متفق عليه إلا إن اثبتنا حق الفسخ بخلاف القياس مراعاة لحق البائع حتى يعود إلى رأس ماله إذا لم يصل إليه ما ادعى من البدل، وإذا كان الفسخ ثابتاً له على مخالفة القياس مراعاة لحق البائع لا يكون له الفسخ على وجه يكون فيه إبطال حق على المشتري وفي الفسخ على العين إبطال حق على المشتري وهو الزيادة المتصلة.

فلهذا قلنا بأنهما يترادان القيمة ههنا إلا أن يرضى المشتري برد العين مع الزيادة هذا إذا كانت الزيادة متصلة، فأما إذا كانت منفصلة متولدة عن عيبها كالولد أو بدل العين كالأرش والعقر بعد القبض فإنهما يتحالفان عند أبي حنيفة وأبي يوسف ويكون القول قول المشتري مع يمينه رضي المشتري برد الزيادة أو لم يرض؛ لأن هذه الزوائد تمنع الفسخ بسائر أسباب الفسخ فكذا يمنع الفسخ بالتحالف ومتى امتنع الفسخ على مذهبهما لا يجب التحالف كما بعد هلاك السلعة على مذهبه على القيمة.

وإن كان الفسخ على العين متعذر فكذلك لا يمنع الفسخ بالتحالف على القيمة ألا ترى أنه بعد هلاك العين يتحالفان هذا وإن كانت الزيادة بدل المنفعة فإنهما يتحالفان بالإجماع؛ لأن هذه الزيادة لا تمنع فسخ البيع بسائر أسباب الفسخ فكذا بالتحالف كان الكسب للمشتري عندهم جميعاً كما لو حصل الفسخ بالرد بالعيب بعد القبض وبالإقالة بعد القبض، فإنه يبقى الكسب للمشتري عندهم جميعاً وبعيبه ورد النص فكذلك هذا، هذا (71أ3) إذا تغيرت من حيث الزيادة.
أما إذا تغيرت من حيث النقصان كان النقصان من حيث السعر، فإنه لا يمنع التحالف عندهم جميعاً حصل قبل القبض أو بعده؛ لأن النقصان من حيث السعر لا يمنع فسخ العقد بسائر الأسباب حصل قبل القبض أو بعده فكذا لا يمنع الفسخ بالتحالف أيضاً.
فأما إذا كان النقصان من حيث العين إن كان لفوات وصف إن كان قبل القبض، فإنه لا يمنع التحالف عندهم جميعاً؛ لأن النقصان من حيث الصفة قبل القبض لا يمنع الفسخ بالعيب ويختار الرؤية والشرط، وإن كذَّبه البائع فكذا لا يمنع الفسخ بالتحالف عندهم جميعاً؛ لأن النقصان من حيث الوصف بعد القبض لا يمنع الفسخ بحكم العيب ويختار الرؤية والشرط وإن كره البائع ذلك فكذا لا يمنع الفسخ بالتحالف عندهم جميعاً.
وإن حصل بعد القبض فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف: لا يتحالفان إلا أن يرضى البائع أن يأخذه ناقصاً؛ لأن النقصان من حيث الوصف بعد القبض يمنع الفسخ بحكم العين ويختار بالشروط والرؤية لا برضاء البائع بالإجماع، وإذا امتنع الفسخ امتنع التحالف عندهما.

وفي قول محمد: يتحالفان؛ لأن امتناع الفسخ لفوات الصفة لا يكون أكثرها لا من امتناع الفسخ بسبب الهلاك وذلك لا يمنع التحالف على مذهبه على القيمة فكذا ههنا يتحالفان، ويتردان القيمة على مذهبه إلا إن رضي البائع أن يأخذ العين ناقصاً كما في الصداق، فأما إذا كان النقصان بفوات بعض المبيع إن كان قبل القبض، فإنهما يتحالفان على القائم عندهم جميعاً، وإن كان بعد القبض فالقول قول المشتري مع اليمين عند أبي حنيفة إلا أن يشاء البائع أن يأخذ القائم ولا يأخذ معه شيئاً على رواية «الجامع الصغير» وعلى رواية «الأصل» إلا أن يشاء البائع أن يأخذ القائم ولا يأخذ من ثمن الميت شيئاً.

وقال أبو يوسف رحمه الله: يتحالفان في القائم ويترادان القائم والقول قول المشتري في حصة الهلاك من الثمن، وقال محمد رحمه الله: يتحالفان عينهما، ثم يترادان البيع في الحي على العين، وفي الهالك على القيمة.
وصورتها: رجل اشترى عبدين صفقة واحدة وقبضهما، ثم مات أحدهما واختلفا

(6/446)


في الثمن فقال المشتري: اشتريتهما بألف درهم، وقال البائع: اشتريتهما بألفي درهم فهو على الاختلاف الذي ذكرنا يجب أن يعرف أولاً حكم المسألة فيما إذا كان المشتري عبداً واحداً وقبضه المشتري ومات واختلفا في الثمن.

وفي تلك المسألة قال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يتحالفان ويكون القول قول المشتري مع يمينه، وقال محمد: يتحالفان ولقب المسألة أن هلاك السلعة هل يمنع التحالف عندهما خلافاً لمحمد رحمه الله قوله عليه السلام: «إذا اختلفا المتبايعان تحالفا وترادا» من غير فصل بينهما إذا كانت السلعة قائمة أو كانت هالكة؛ ولأن كل واحد منهما يدعي على صاحبه عقداً ينكره صاحبه فيتحالفان كما في حال قيام السلعة، ولهما قوله عليه السلام: «إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا وترادا» شرط قيام السلعة لإيجاب التحالف، وقد ذكرنا أن إيجاب التحالف بعد القبض على مخالفة القياس بالنص، والنص شرط لذلك قيام السلعة يبقي على أصل القياس؛ ولأن حكم التحالف الفسخ بعد صحة البيع والهلاك لا يقبل الفسخ بسائر أسباب الفسخ فكذا بالتحالف، وهذا إذا هلكت السلعة بعد القبض.
فأما إذا هلكت بعد القبض فقد انفسخ العقد حين هلكت السلعة فلا معنى لاختلافهما إذا لم يكن الثمن مقبوضاً، وإذا عرفت حكم التحالف في العبد..... إلى العبدين وفيه اختلاف على ما ذكرنا فأبو حنيفة مرَّ على أصله فيقول التحالف بعد القبض عرف بخلاف القياس بالنص، والنص أوجب التحالف شرط قيام السلعة من كل وجه، فإن النبي عليه السلام قال: و «السلعة قائمة» ذكر السلعة مطلقاً ومطلق الاسم ينصرف إلى الكامل، فما بعد هلاك بعض السلعة يبقى على أصل القيام فلا يشرع التحالف بعد هلاك بعض السلعة ويكون القول فيه قول المشتري مع يمينه؛ لأنه منكر زيادة الثمن.

وقول أبي حنيفة إلا أن يشاء البائع يأخذ القائم ولا يأخذ معه شيئاً على رواية «الجامع الصغير» ، أو لا يأخذ من ثمن الميت شيئاً على رواية «الأصل» تكلم المشايخ فيه أن هذا الاستثناء ينصرف إلى مادي وأن البائع بأي طريق يأخذ القائم قال مشايخ بلخ: هذا الاستثناء ينصرف إلى يمين المشتري والبائع يأخذ القائم بطريق الصلح عما ادعى قبل المشتري، وهذا لأن حق البائع قبل المشتري في الثمن لا في العبد القائم بعينه، فإذا أخذ منه هذا العبد ولم يأخذ من ثمن الميت شيئاً، أو لم يأخذ معه شيئاً أصلاً، فكأنه صالحه من الثمن على العبد القائم.
وصار نقداً تقدير ما قال: في «الكتاب» على قول هؤلاء لا يتحالفان عند أبي حنيفة ويكون القول قول المشتري مع يمينه إلا أن يأخذ البائع العبد القائم ولا يأخذ شيئاً آخر فلا يحلف المشتري؛ وهذا لأن المشتري إنما يحلف إذا أنكر شيئاً يدعيه البائع، وإذا أخذ البائع العبد القائم صلحاً عن جميع ما ادعاه على المشتري سقط دعوى المشتري البائع فلا حاجة إلى تحليف المشتري.

(6/447)


وغيرهم من المشايخ قالوا: هذا الاستثناء منصرف إلى التحالف والبائع يأخذ القائم على جهة التحالف ويصير تقدير ما قال في «الكتاب» : على قول هؤلاء لا يتحالفان عند أبي حنيفة إلا أن يشاء البائع أن يأخذ العبد القائم، ولا يأخذ من ثمن الميت فيتحالفان، وهكذا ذكر الكرخي في كتابه واختلفوا فيما بينهم في المعنى بعضهم قالوا: إنما لا يجب التحالف عند أبي حنيفة رحمه الله نظراً للبائع؛ لأنه خرج عن ملكه عند إذٍ والأن يعود إليه عند واحد والعرف جرى بين الناس أنهم يضمون الرديء إلى الجيد لترويج الرديء إلى الجيد وعسى كان الهالك هو الجيد، فلو قلنا: إنهما يتحالفان تضرر به البائع غير أنه إذا رضي أن يأخذ الحي فقد رضي بلحوق الضرر بنفسه فيترك وذاك هذا الرجل اشترى عبداً وقبضه فاطلع على عيب كان عند البائع فقبل أن يرده حدث عنده عيب آخر، فأراد أن يرده ليس له ذلك، فإن البائع إن قبل له ذلك، كذلك ههنا.
وبعضهم قالوا: شرط التحالف عند أبي حنيفة قيام جميع المعقود عليه، وما بقي العقد على الهلاك فيكون القائم بعض المعقود عليه، فلا يجب التحالف لفوات شرطه ومالم يرض البائع بأن لا يأخذ من ثمن الميت شيئاً لا يمكننا فسخ العقد في الهلاك فيكون القائم بعض المعقود عليه، فلا يجب التحالف، فأما إذا رضي أن يأخذ ولا يأخذ من ثمن الميت شيئاً أمكننا فسخ العقد في الهالك فيعتبر العقد في الهالك ففسخنا حكماً قبل التحالف من حيث الإعتبار؛ لأنه شرط صحته فيكون القائم جميع المعقود عليه فيتحالفان، ويجوز أن يعتبر العقد منفسخاً في الهالك متى رضي البائع أن لا يأخذ من ثمن الميت شيئاً.

وإن كان الهالك ما لا يقبل الفسخ؛ لأنه ينفسخ حكماً لا مكان التحالف في القائم، وقد يجوز أن يثبت الفسخ في الهالك تبعاً لغيره وإن كان لا يثبت مقصوداً، ثم شرط لصحة الفسخ في الهالك ومن البائع بأن لا يأخذ من ثمن الميت شيئاً أو لم يعتبر رضى المشتري وذلك؛ لأنَّا لو أوجبنا التحالف من غير رضى البائع وفسخنا العقد في الميت قبل التحالف من حيث الإعتبار بطل حق البائع في الهالك أصلاً من غير رضاه؛ لأنه يسقط حقه في الثمن الهالك من غير أن يعود إليه ما يصلح عوضاً عنه لإمكان التحالف في القائم (71ب3) ومن حكم التحالف فسخ العقد على وجه لا يبطل حق كل واحد منهما بغير عوض، فشرط رضى البائع أن لا يأخذ من ثمن الهالك شيئاً، حتى إذا اعتبر العقد منفسخاً في الهالك يكون فوات حقه في ثمن الهالك من غير عوض يحصل له برضاه، ولم يشترط رضى المشتري، وإن كان متى تحالفا ينفسخ العقد في القائم والهالك جميعاً بغير رضاه؛ لأن حقه إنما يزول عنها بعوض فإن الحي إن زال عنه سلم له ثمنه والميت كذلك، والفسخ بالتحالف على هذا الوجه صحيح من غير رضاء المشتري، كما لو كانا قائمين فتحالفا، وطلب البائع الفسخ، فإنه يفسخ العقد فيهما وإن أبى المشتري ذلك فكذلك هذا.
وقال بعضهم: المانع من التحالف عند أبي حنيفة رحمه الله هلاك أحد العبدين بعد

(6/448)


القبض، فإنه لو كان هلك أحدهما قبل القبض وقبض المشتري الآخر، ثم اختلفا كانا يتحالفان؛ لأن المانع من التحالف عند أبي حنيفة إذا هلك أحدهما بعد القبض تعذر الفسخ في الحي بالتحالف؛ لأن الفسخ بالتحالف نظير الفسخ بخيار الرؤية وبخيار الشرط، ولا يملك المشتري الفسخ في القائم بعد هلاك أحد العبدين في يده بخيار الشرط وبخيار الرؤية، لما فيه من تفريق الصفقة على البائع قبل التمام، فكذا بالتحالف، فأما متى كان أحدهما مالكاً في يدي البائع قبل القبض أمكن المشتري رد ما قبض بخيار الرؤية وبخيار الشرط، فأمكنه الفسخ بالتحالف.
وإذا ثبت هذا فنقول: متى رضي البائع أن يأخذ الحي ولا يأخذ من ثمن الميت شيئاً فقد جعل ما هلك في يد المشتري كالهالك قبل القبض؛ لأن من حكم هلاك المبيع قبل القبض أن لا يكون على المشتري ثمنه ويأخذ الحي لا غير، فصار للهالك في يد المشتري بهذه الصفة كالهالك قبل القبض من حيث الحكم.
ولو هلك أحدهما قبل القبض حقيقة يتحالفان في الحي، فكذلك إذا جعل هالكاً قبل القبض حكماً لما رضي البائع أن يأخذ الحي، ولا يأخذ من ثمن الميت شيئاً.
وأبو يوسف رحمه الله مر على أصله أيضاً، فإن من أصله أن هلاك المعقود عليه يمنع التحالف وقد هلك بعض المعقود عليه وبقي البعض فيمتنع التحالف في الهالك ويكون القول قول المشتري في حصة الهالك لا في القائم هذا كما قلنا في الإجارة، وإذا اختلفا في مقدار الأجر بعد استيفاء بعض المنفعة دون البعض يتحالفان فيما لم يستوف من المنفعة وفيما استوفى وهلك جعل القول قول المستأجر مع يمينه فكذلك هذا؛ وهذا لأن المقصود من التحالف الفسخ ليعود كل واحد منهما إلى رأس ماله وانفسخ، إن تعذر في الهالك لم يتعذر في القائم.
ألا ترى أنه لو وجد بالقائم عيباً رده، ولو وجد بالهالك عيباً لا يرده فكذا هذا.

ثم ذكر في «الكتاب» : أن على قول أبي يوسف رحمه الله القول قول المشتري في حصة الميت، ويتحالفان ويترادان في العبد القائم، ولم يذكر لغيبة التحالف على مذهبه فمن مشايخنا من قال: يقسم الثمن أولاً على قيمة العبدين فيخص الحي ألف درهم على زعم البائع، وعلى زعم المشتري خمسمائة، وإذا كان قيمتهما سواء فيحلف المشتري بالله ما اشتريته بألف درهم كما يدعيه البائع، فإن نكل ثبت ما ادعاه البائع وإن حلف لم يثبت، ثم يحلف البائع بالله ما بعته بخمسمائة كما يدعيه المشتري، فيتحالفان في القائم على حصته ولا يتحالفان في جملة الثمن، فإذا تحالفا فسخ العقد على الحي إن طلبا أو طلب أحدهما ذلك، ورد المشتري الحي على البائع، وسقط عن المشتري حصته.

ثم يحلف المشتري على حصة الهالك بالله ما اشتريته بألف درهم، فإن نكل لزمه ما ادعاه البائع من حصة الهالك وذلك ألف درهم، وإن حلف لزمه ما أقرّ به وذلك خمسمائة درهم، ومن المشايخ من قال: لا بل يتحالفان في جملة الثمن فيحلف البائع بالله ما بعتهما بألف درهم كما يدعيه المشتري ويحلف المشتري، بالله ما اشتريتها بألفي

(6/449)


درهم كما يدعيه البائع، قالوا: وهكذا ذكر في «الجامع الكبير» : وهذا لأن المقصود من التحالف النكول، وإنما يحصل هذا المقصود إذا حنث الحالف في يمينه، ومتى حلف كل واحد منهما في حق الحي على حصته لا غير لا يحنث واحد منهما؛ لأن المشتري يحلف بالله ما اشتريته بألف فيحلف ولا يحنث في يمينه وإن اشتراهما بألفين؛ لأنه لم يشتر الحي على الإنفراد بألف وإنما اشترى عبدين بألف.
وكذلك البائع إذا حلف بالله ما بعت الحي بخمسمائة يحلف في يمينه، وإن كان باعهما بألف كما يدعيه المشتري؛ لأنه لم يبع الحي على الانفراد وبخمسمائة إنما باع العبدين بألف درهم يبقى هذا القدر أن التحالف في الميت غير مشروع، والجواب أن التحالف عنده في الميت غير مشروع لأجل الفسخ؛ لأن الفسخ في الهالك مقصوداً متعذر والتحالف في الهالك ههنا عند أبي يوسف ما كان للفسخ فيه، وإنما كان لإمكان التحالف في القائم.
وإذا تحالفا في جملة الثمن يترادان العقد في القائم على العين، وفي الميت لا يفسخ العقد ويكون القول قول المشتري في مقدار ثمنه ويجب أن يكون كيفية التحالف على قول أبي حنيفة على هذا الوجه متى رضي البائع أن يأخذ القائم ولا يأخذ من ثمن الميت.
فعند بعض المشايخ يتحالفان في حصة الحي من الوجه الذي ذكرنا، وعند بعضهم يتحالفان في جملة الثمن، ثم إذا تحالفا يفسخ العقد في الحي فيرد الحي على البائع ولا يأخذ البائع من ثمن الميت شيئاً هذا إذا تصادقا أن قيمتها يوم العقد ويوم القبض على السواء.
فأما إذا اختلفا في قيمتهما يوم العقد ففي حق الحي ينظر إلى قيمته للحال، ويجعل الحال حكماً ويكون القول من يوافق قيمته للحال، وأما في الهالك إذا اختلفا في قيمته فقال المشتري: كانت قيمته يوم القبض خمسمائة وقيمة القائم ألف درهم، وقال البائع على عكس ذلك لم يذكر محمد هذه المسألة في شيء من الكتب نصاً.
وروى أصحاب «الأمالي» : عن أبي يوسف: أن القول قول البائع وإليه أشار محمد رحمه الله في بيوع «الأصل» : في مسألة يأتي ذكرها بعد هذا إن شاء الله؛ وهذا لأن المشتري لزمة ضمان الثمن كله بالقبض فهو بما يدعي يريد براءة نفسه عن بعض الثمن فلا يصدق إلا ببينة، ومحمد رحمه الله مر على أصله أيضاً: فإن هلاك جميع السلعة عنده لا يمنع التحالف فهلاك البعض أولى فيتحالفان ويرد القائم ويفسخ العقد في الهالك على قيمته.

وكيفية التحالف على محمد ظاهر يحلف المشتري أولاً بالله ما اشتريتهما بألفين كما يدعيه البائع، فإن نكل لزمه ألفان وإن حلف يحلف البائع بالله ما بعتهما بألف كما يدعيه المشتري، فإن نكل ثبت ما ادعاه المشتري. وإن حلف البائع أيضاً لم يثبت ما ادعاه كل واحد منهما من الثمنين، فإن اتفقا وطلب أحدهما أو كلاهما الفسخ فسخ القاضي العقد بينهما ويأمر المشتري برد القائم وقيمة الهالك، وإن اختلفا في قيمة الهالك

(6/450)


فالقول قول المشتري مع يمينه لإنكاره الزيادة.
وقد ذكر محمد رحمه الله في إقرار «الأصل» : في باب الإقرار بالبيع إذا خرج بعض المبيع عن ملك المشتري بأن باع مثلاً نصف العبد أو ما أشبهه، ثم اختلفا في الثمن فإنهما لا يتحالفان لا فيما باع ولا فيما بقي على قول أبي يوسف القول قول المشتري مع يمينه ولا يتحالفان إلا أن يرضى البائع أن يأخذ ما بقي منه، فإذا رضي بذلك فحينئذٍ يتحالفان على ما بقي في ملك المشتري بحصة ما خرج (72أ3) عن ملكه على قول المشتري، وقال محمد: يتحالفان على قيمة العبد إلا أن يشاء البائع أن يأخذ ما بقي من العبد وقيمة ما استهلكه المشتري منه فحينئذٍ يتحالفان في القائم على العين وفيما باع على القيمة.
فكلهم فرقوا بين مسألة كتاب الإقرار وبين مسألة كتاب البيوع، فإن في مسألة البيوع أبي حنيفة التحالف إلا بشرط أن يأخذ البائع الحي ولا يأخذ من ثمن الميت شيئاً، وفي مسألة كتاب الإقرار أن التحالف مطلقاً غير معلق بشرط، فإنه لم يقل لا يتحالفان إلا أن يرضى البائع أن لا يأخذ من ثمن ما خرج عن ملكه شيئاً، وفي المسألتين جميعاً اختلفا في الثمن بعد ما خرج بعض المعقود عليه.
وأبو يوسف رحمه الله في مسألة البيوع قال: يتحالفان في القائم رضي البائع أو كره، وفي مسألة الإقرار قال: لا يتحالفان فيما بقي إلا أن يشاء البائع أن يأخذ النصف الباقي، ومحمد رحمه الله في مسألة البيوع قال: يتحالفان على القائم على العين وعلى الهالك على القيمة رضي البائع أو كره، وههنا شرط الإيجاب التحالف في النصف الباقي رضي البائع بأخذ النصف الباقي. والفرق مكتوب في....
وفي «المنتقى» : إذا اشترى جراب مروي واستهلك منه ثوباً أو هلك، ثم اختلفا في الثمن قال أبو حنيفة: ليس للبائع أن يأخذه ناقصاً ولكن يأخذ الثمن الذي أقر به المشتري، وقال أبو يوسف: في المستهلك قول المشتري بالحصة وفي البقية يرده إلا أن يرضى المشتري أن يأخذها بما ادعاه البائع وعلى كل واحد منهما اليمين على دعوى صاحبه.

قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: فرق أبو حنيفة رحمه الله بين هلاك الثوب من الجراب من غير فعل أحد وبين موت أحد العبدين، فقال: في موت أحد العبد للبائع أن يأخذ الحي معه شيئاً، وقال ههنا: ليس للبائع أن يأخذه ناقصاً قال: وكذلك الثياب كلها والبقر والغنم والرقيق والدواب والكيل والوزن أيضاً.
واختلف قول أبي يوسف فيما إذا اختلفا في قيمة الثوب الهالك فقال في موضع القول فيها قول البائع، وكذلك قال: في موت أحد العبدين القول قول البائع في الهالك.
وفي «الأصل» : إذا اشترى عبدين وقبض أحدهما ومات في يده ومات الآخر في يد

(6/451)


البائع، ثم اختلفا في ذلك، فقال المشتري للبائع: قبضت عبداً يساوي ألف درهم ومات عبدك عبد يساوي ألفي درهم، وقال البائع: لا بل قبضت عبداً يساوي ألفي درهم والذي مات عندي يساوي خمسمائة ذكر أن القول قول المشتري مع يمينه.

وإنما وضع المسألة فيما إذا مات العبدان جميعاً المقبوض وغير المقبوض وذلك؛ لأن أحدهما متى كان قائماً لا يلتفت إلى اختلافهما في مقدار قيمة ما هلك عند البائع؛ لأنهما تصادقا على أن قيمة أحدهما أكثر وقيمة الآخر أقل، فمتى كان أحدهما حياً وقوم وظهر قيمته نظير قيمة الميت أنه كان أقل أو أكثر فلا يلتفت إلى اختلافهما.
فوضع المسألة فيما إذا ماتا جميعاً حتى لا يعرف قيمة واحد منهما من حيث العيان والمشاهدة، ثم إنما جعل القول قول المشتري؛ لأن حاصل اختلافهما في مقدار ما ورد عليه قبض المشتري أو في مقدار ما تأكد على المشتري من الثمن؛ لأن البائع بما يدعي يقول: قبضت أنها المشتري أربعة أخماس المبيع وتأكد عليك أربعة أخماس الثمن، والمشتري يقول: لا بل قبضت ثلث المبيع وتأكد على الثلث الثمن وأربعة أخماس خمسة أكبر من الثلاثة فالبائع يدعي زيادة فيما قبضه المشتري ويدعي زيادة تأكد في الثمن ينكر تلك الزيادة، ولو أنكر القبض أصلاً.... وقال: ما قبضت شيئاً منك كان القول قوله فكذا إذا أقر بقبض البعض وأنكر قبض البعض ولا يتحالفان.
وإن اختلفا في صفة الثمن وهو التأكد والثمن دين وذلك؛ لأن الاختلاف في صفة الدين إنما يوجب التحالف إذا تصور صيرورة الدين سنين إذا عين الدين على الوصفين اللذين اختلفا فيه كما لو اختلفا في الجودة والرداءة، فإذا عين ألف جيد وألف رديء كانا غيرين، كان الاختلاف في صفة الثمن اختلفا في أصل الثمن وصفة التأكد ليست بصفة ليختلف الدين باعتباره متى عين؛ لأنه ليس بموصوف صنف قائم في الدراهم حتى يختلف الدين بسببه فكان بمنزلة اختلافهما في صفة العين، وذلك لا يوجب التحالف ما لم يختلف العين بسبب اختلاف الصفة فكذا هذا.

ولو كان المشتري قبض العبدين، ثم مات أحدهما وجاء المشتري بالآخر يرده بعيب فاختلفا في قيمة الميت، فقال: البائع كان قيمته ألفاً، وقال المشتري كان قيمته خمسمائة كان القول قول البائع مع يمينه.
فرق بين هذا وبين المسألة الأولى وهو ما إذا لم يقبض أحد العبدين حتى هلك غير المقبوض في يد البائع وهلك الذي قبضه المشتري، ثم اختلفا في قيمة غير المقبوض، ذكر أن القول قول المشتري مع يمينه، وإنما كان كذلك؛ لأن المنكر في المسألة الأولى هو المشتري والمدعي هو البائع اعتبرنا حال المعقود عليه أوحال الثمن؛ لأن البائع يدعي على المشتري قبض زيادة من المعقود عليه وهو ينكر ويدعي على المشتري تأكد زيادة في الثمن وهو ينكر فأي الأمرين ما اعتبرنا كان البائع مدعياً من كل وجه والمشتري منكراً من

(6/452)


كل وجه، فجعلنا القول قول المشتري.
فأما في المسألة الثانية فالمشتري مدعي من كل وجه اعتبرنا حال المعقود عليه أم حال الثمن؛ لأنه يدعي على البائع ردّ زيادة من المعقود عليه والبائع ينكر ويدعي سقوط زيادة من الثمن والبائع ينكر فجعلنا القول قول البائع مع يمينه في قيمة الميت، ولا يتحالفان (في) الاختلاف في قيمة الميت اختلافاً في مقدار ثمن الحي وذلك؛ لأنهما لم يختلفا في أصل الثمن وإنما اختلفا في كيفية انقسام الثمن، فالبائع يدعي الانقسام مثلاً نصفان والمشتري يدعي أثلاثاً.
وقد ذكرنا أن التحالف حال اختلافهما في مقدار الثمن بعد القبض ثابت نصاً بخلاف القياس فلا يقاس عليه الاختلاف في الانقسام، والنص الوارد بإيجاب التحالف إذا اختلفا في مقدار الثمن لا يكون وارداً دلالة إذا اختلفا في الانقسام؛ لأن الاختلاف في الانقسام دون الاختلاف في أصل الثمن.

فإذا جعلنا القول قول البائع مع يمينه في قيمة الميت إذا حلف البائع، فإنه يقوّم الحي قيمة عدل غير معيب، فإن كان قيمة الحي غير معيب ألف درهم وقيمة الميت ألف كما يقول البائع ظهر أن الثمن انقسم نصفان فيرد الحي بنصف الثمن ويبقى عليه النصف، وإنما اعتبرنا قيمة الحي غير معيب وذلك؛ لأن الثمن إنما ينقسم على المستحق بالعقد، والمستحق بالعقد للمشتري عبد سليم عن العيب حتى لو وجد به عيباً كان له الرد بالعيب، وإذا كان المستحق للمشتري بالعيب عبد سليم وجب قسمة الثمن عليهما باعتبار السلامة.
وإذا اختلفا في الثمن وقد خرجت السلعة عن ملك المشتري لا يتحالفان في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، والقول قول المشتري مع يمينه، وعلى قول محمد: يتحالفان ويتردان القيمة كما في فصل الهالك، فإن عادت السلعة إلى ملك المشتري، ثم اختلفا في الثمن، فإن عادت بسبب هو فسخ من كل وجه نحو الرد بخيار الرؤية أو خيار (72ب3) الشرط أو العيب قبل القبض أو بعده بقضاء تحالفا، وإن عادت بسبب جديد من كل وجه نحو الإرث أو الصداقة أو الشرب لا يتحالفان عند أبي حنيفة وأبي يوسف.

وكذلك إذا عادت بسبب جديد في حق الثالث وبالفسخ في حق المتعاقدين كالرد بالعيب بعد القبض بغير قضاء والإقالة لا يتحالفان عندهما.

وقال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل اشترى من آخر غلاماً وجارية بمائة دينار قيمة الغلام ألف درهم وقبضهما ولم ينقد الثمن حتى اختلفا فقال المشتري: اشتريتهما صفقة واحدة بمائة دينار فالعبد بثلثي المائة الدينار والجارية بثلثها، وقال البائع: بعتكهما بمائة دينار على أن كل واحد منهما بخمسين ديناراً فالقاضي لا يلتفت إلى هذا الاختلاف؛ لأنه لا فائدة في هذا الاختلاف في الحال، فإن طعن المشتري بعيب في العبد وأقام بينة على أن العيب كان عند البائع حتى يثبت له حق الرد فكذلك الاختلاف إلا بعبد فيعتبر ويرد المشتري العبد بالعيب ويأخذ من البائع خمسين ديناراً في الحال أقر له بهذا القدر وكان ينبغي أن يرد العبد بثلثي المائة؛ لأن القول قول المشتري اشتراهما

(6/453)


صفقة واحدة؛ لأن البائع يدعي زيادة شرط وتسمية في هذه الصفقة والمشتري ينكر ذلك فيكون القول قول المشتري.
والجواب إنما لم يجعل القول قول المشتري في الحال؛ لأن الاختلاف في ثمن المردود وهو العبد اختلاف في ثمن القائم وهي الجارية، والاختلاف متى

(6/454)


وقع في ثمن القائم يوجب التحالف؛ لأنا لو جعلنا القول قول المشتري في الحال وأخذ بمقابلة العبد بثلثي المائة، فإذا حلفناهما على الجارية فعلى تقدير أن يحلف البائع وينكل المشتري يثبت كون ثمن العبد خمسين ديناراً ويجب على المشتري رد الزيادة على الخمسين على البائع فلاحتمال ردّ الزيادة على الخمسين على تقدير نكول المشتري.

قلنا: أن يأخذ في الحال قدر ما اتفقا عليه بمقابلة العبد وذلك خمسون ديناراً حتى لا يلزمنا نقض قضاء القاضي في الزيادة على الخمسين؛ لأن صيانة قضاء القاضي عن النواقض واجبة ما أمكن، ثم اختلافهما على الجارية، فإن حلفا ترادا ويرجع المشتري على البائع ونكل المشتري ثبت كون ثمن العبد خمسين ديناراً فبعد ذلك ينظر إن كان المشتري حين ردّ العبد أخذ العبد من البائع خمسين ديناراً لا سبيل له على البائع ولا للبائع عليه، وإن كان أخذ زيادة على الخمسين رد الزيادة على البائع وإن حلف المشتري ونكل البائع ثبت أن ثمن العبد ثلثا المائة فيرجع المشتري على البائع إلى تمام ثلثي المائة، ثم إن محمداً رحمه الله أوجب التحالف في الجارية من غير ذكر خلاف، وإنه مشكل على قول أبي حنيفة؛ لأن العقد ههنا انعقد على الجارية وعلى العبد وقد زال العبد عن ملك المشتري.

ومن مذهب أبي حنيفة: أن العقد إذا انعقد على شيئين وزال أحدهما عن ملك المشتري بالبيع أو الهلاك واختلفا في مقدار الثمن لا يتحالفان في الباقي، والجواب عن هذا أن يقال: خروج بعض المبيع عن ملك المشتري إنما يمنع التحالف في الباقي عنده إذا كان الخروج لا إلى ملك البائع؛ لأن الفسخ بالتحالف مانع تمام الصفقة والرؤية ثبتت لجهالة أوصاف المبيع فكان في فسخ العقد في أحدهما بالتحالف تفريق الصفقة على البائع قبل التمام، وإنه لا يجوز، وهذا المعنى لا يتأتى في مسألتنا؛ لأنهما عادا جميعاً إلى ملك البائع.

قال في «الكتاب» : ألا ترى أن على قول أبي حنيفة: لو هلك أحد العبدين في يد البائع قبل القبض، ثم اختلفا في مقدار الثمن يتحالفان في الباقي؛ لأن الأول هلك على ملك البائع فلو ورد الأمر عليه بسبب الفسخ بالتحالف لا يؤدي إلى تفريق الصفقة فههنا كذلك، ولو ماتت الجارية في يد المشتري قبل أن يتحالفا يحلف المشتري ما ادعى البائع من ثمن الجارية فقد جعل القول قول المشتري ولم يوجب التحالف، وهذا على قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن عندهما هلاك السلعة يمنع التحالف.
فأما عند محمد فالتخالف يجري عند هلاكهما فعند هلاك أحدهما أولى، ثم إذا حلف المشتري عندهما إن حلف ثبت أن ثمنها ثلث المائة وثمن العبد ثلثا المائة، ولو نكل المشتري عن اليمين ثبت أن

(6/455)


ثمن الجارية خمسون ديناراً وثمن العبد كذلك وقد سلمت الجارية للمشتري فلزمه ثمنها ويرد العبد على البائع بحصته من الثمن وذلك خمسون ديناراً.
وعند محمد يتحالفان في الكل، فإن نكل المشتري رجع بخمسين ديناراً، وإن نكل البائع رجع المشتري بثلثي المائة وإن حلفا فسخ القاضي العقد بينهما في الجارية على القيمة فيرد المشتري قيمة الجارية ورجع على البائع بجميع المائة؛ لأن العقد انفسخ في الكل في الجارية بالتحالف وفي العبد بالرد، وكذلك لو لم يجد بالعبد عيباً لكن استحق العبد كان الجواب في استحقاق العبد ما هو الجواب في الرد بالعيب.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» أيضاً: رجل اشترى عبدين أحدهما بألف حالة والآخر بألف إلى سنة في صفقة أو صفقتين فوجد بأحدهما (عيباً) فرده، ثم اختلفا فقال البائع: رددت علي الذي كان ثمنه مؤجلاً وبقي عبدك الذي كان ثمنه حالاً فعليك أداء ثمنه، وقال المشتري: رددت عليك الذي كان ثمنه حالاً فالقول قول البائع سواء كان الباقي قائماً في يد المشتري أو مستهلكاً؛ لأن الأجل يستفاد من جهة البائع وما يستفاد من جهة إنسان كان القول قوله في بيانه؛ ولأن اختلافهما في المردود غير معتبر في ثمن المردود؛ لأن ثمن المردود سقط بالرد أي شيء كان، وإنما اعتبر في ثمن ما بقي في يد المشتري فالمشتري يدعي أنه اشتراه بألف مؤجلاً والبائع يدعي أنه اشتراه بألف حالة.

والأصل: أن المتبايعين متى اختلفا في الأجل في الثمن وحلوله كان القول قول من يدعي الحلول؛ لأن من يدعي الحلول يتمسك بالأصل؛ لأن الحلول في الديون أصل؛ لأنه ثبت من غير شرط والأجل عارض والقول قول من يدعي الأصل، ولا يتحالفان؛ لأن الاختلاف وقع فيما ليس من نفس العقد وهو الأجل وجريان التحالف عرف بالنص فيما إذا كان الاختلاف واقعاً في نفس العقد ولم يوجد.
وكذلك لو كان أحدهما حبشياً والآخر سندياً وقد اشترى الحبشي بألف درهم مؤجلة واشترى الهندي بألف درهم حالة، ثم رد أحدهما، ماتا جميعاً وقد اختلفا على ما قلنا في المسألة الأولى كان القول قول البائع لما مر، وشرط في هذه المسألة موت العبد ولم يشترط في المسالة الأولى؛ لأن في هذه المسألة لو كان أحدهما أمكن للقاضي معرفة صدق أحدهما وكذب الآخر بأن ينظر في لون الباقي فيعرف أنه حبشي أو سندي، وإذا عرف الباقي يعرف الآخر ضرورة، وهذا المعنى لا يتأتي في المسألة الأولى فلهذا لم يشترط موتهما في المسألة الأولى.

ولو كان الثمنان مختلفين بأن كان ثمن أحدهما بعينه ألف درهم وثمن الآخر بعينه مائة دينار فرد أحدهما بالعيب، ثم اختلفا فقال المشتري: رددت عليك الذي ثمنه ألف درهم، فإن هلك أو هلك غير المردود وقد قبض البائع الثمنين جميعاً فالقول قول المشتري مع يمينه، إن ادعى المشتري على البائع استرداد الدينار لما كان الثمن مقبوضاً ينكر مع هذا جعل القول قول المشتري؛ لأن ثمن المردود أي شيء كان سقط بالرد بقي الاختلاف بينهما في جنس ثمن غير المردود وهو هالك في يد المشتري، والاختلاف متى وقع في جنس الثمن والسلعة هالكة في يد المشتري لا يتحالفان عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ولكن يكون القول قول المشتري مع يمينه، ولم يذكر محمد رحمه الله هنا حتى ظن بعض مشايخنا: أن الاختلاف في المسالة المعروفة (73أ3) فيما إذا اختلف المتبايعان في قدر الثمن دون ما اختلفا في جنس الثمن والصحيح أن الكل على الخلاف.
ولو كان العبدين قائمين بأعيانهما تحالفا وترادّا بالإجماع واسترد المشتري الثمنين من البائع جميعاً؛ لأن العقد قد انفسخ في أحدهما بسبب الرد وفي الآخر بسبب التحالف، ولو كان اشتراهما جميعاً بمائة دينار صفقة واحدة فمات أحدهما عند المشتري الباقي بالعيب، واختلفا في قيمة الهالك فقال البائع كانت ألفي درهم وقيمة المردود ألف درهم فالقول قول البائع مع يمينه؛ لأن البائع استحق جميع الثمن بالبيع، وتم ذلك الاستحقاق بتسليم العبدين إلى المشتري بعد ذلك تنازعا فيما بطل استحقاقه برد المعيب فالمدعي زيادة فيه والبائع ينكر فيكون القول قول البائع، وإن أقام البينة (فالبينة) بينة البائع أيضاً؛ لأنها تثبت زيادة في قيمة ما هلك في يد المشتري.

فإن قيل: ببينة المشتري تثبت الزيادة أيضاً: في ثمن المردود بالعيب فوقع التعارض.
قلنا: المنازعة بينهما إنما هو وقع بسبب البيع فإنما يعتبر اختلافهما في قيمة ما بقي فيه العقد والذي بقي فيه العقد غير المردود، فيعتبر اختلافهما في قيمة غير المردود وبينة البائع تثبت زيادة في ذلك؛ ولأن بينة البائع تثبت الزيادة فيما بقي فيه العقد وتثبت الزيادة فيما بقي مستحقاً له من الثمن فكانت أولى بالقبول، ولو قال البائع كان ثمنها واحداً وكان ألفي درهم وقال المشتري كان الثمن الهالك خمسمائة وثمن المردود ألف وخمسمائة فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنه لا منازعة بينهما في ثمن المردود بالعيب؛ لأن ذلك قد سقط بالرد وإنما المنازعة في ثمن الهالك في يد المشتري والمنازعة فيه وإنما وقع من وجهين:
أحدهما: في كون ثمنه مسمى والآخر في مقدار ثمنه والاختلاف متى وقع في مقدار الثمن بعد هلاك السلعة لا يتحالفان عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ويكون القول قول المشتري مع يمينه وعند محمد يتحالفان بخلاف الفصل الأول؛ لأن هناك تصادقا أن ثمن الهالك لم يكن مسمى على حدة فكان الاختلاف في قيمة الهالك والاختلاف في مقدار القيمة لا يوجب التحالف بالاتفاق، ويكون القول قول من ينكر الزيادة في السقوط وهو البائع.

وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل اشترى من رجل جارية بمحضر من الحاكم بثمن من الورق، ثم مات ونسي الحاكم كم كان الثمن فخاصم البائع الورثة إلى الحاكم وأنكروا ذلك وأراد البائع أخذ الجارية، قال محمد رحمه الله: القاضي يقول للبائع كم كان الثمن، فإذا ادعى شيئاً عنه الورثة إن كانوا كباراً، فإن كذبوه في ذلك حلفهم على دعواه بالله ما تعلمون أباكم اشترى الجارية بذلك، ويقول للورثة ادعوا أنتم الثمن، فإذا ادعوا شيئاً حلف القاضي البائع إليه، فإن حلف ردّوا البيع، وإن كانت الورثة

(6/456)


صغاراً نظر القاضي لهم فإن ادعى البائع ثمناً ورأى القاضي أخذ الجارية بذلك الثمن خيراً لهم أخذ الجارية بذلك وأعطاه الثمن من جميع المال، وإن لم يرد ذلك خيراً لهم، استحلف البائع ما كان الثمن أقل من هذا على مقدار الجارية بذلك المقدار خيراً لهم فإن حلف رد الجارية عليه، وإن كان فيهم كبير وأقر بما قال البائع وأبى أن يحلف على علمه لزمه لحصته زيادة الثمن فيما بين ما ادعى إلى ما كان خيراً للصغير، وإن كان فيهم كبار غيب انتظرت بهم اليمين أو كتبت إلى القاضي الذي هم بحضرته يستحلفهم على دعواه إن طلب ذلك البائع وكذلك إن لم يكن البيع بحضرة القاضي وادعى الفريقان البيع واختلفا في الثمن، وإن ادعى الورثة وأقاموا البينة على البائع بالبيع بلا تسمية الثمن، فإن شهادتهم باطلة ويستحلف البائع ويرد عليه الجارية وإن كان البائع هو المدعي والورثة يجحدون الشراء استحلفوا على علمهم، فإن حلفوا بطل البيع وردت الجارية على البائع.k

رجل في يديه عبد ادعى رجل عليه أنه باع هذا العبد من الذي في يديه، ومن رجل آخر بعينة بمائة دينار وأقام الذي في يديه العبد بينة أنه اشترى كله منه بألف درهم فالعبد للذي في يديه بخمسمائة درهم وخمسين ديناراً، إذا أقام البائع على إقرار المشتري أنه اشترى العبد منه بألفين وأقام المشتري بينة على إقرار البائع أنه باعه بألف أخذ المشتري بألفين، وإن أقام المشتري بينة على إقرار البائع أنه باعه منه بألف درهم، وأقام البائع بينة أنه باعه بألفين فليس على المشتري إلا ألف وهذه براءة من الألف الآخر.
قال هشام عن محمد: إذا أقر المشتري بثمن يسير والسلعة مستهلكة وهي ثمن دراهم كسرة فإن أبا يوسف كان يقول: القول قول المشتري، ثم فحشنا عليه فرجع وقال: إذا كان من ذلك شيء بيعاً من الناس في مثله قبلت قوله.
قال محمد رحمه الله: وأما أنا فأرى أن ألزمه قيمة ذلك، وروى ابن سماعة عن أبي يوسف في غير هذه الصورة أنه إذا أقر المشتري بما لا يتعاين الناس في مثله إلا أقبل ذلك منه وأقضي عليه بقيمة المبيع، قال: فإن كنت إنما أردت أن أقضي عليه بالقيمة يرجع وأقر بشيء يتغابن الناس فيه قبلت ذلك، وإن كنت قد قضيت عليه بالقيمة لم أقبل رجوعه بعد القضاء.
قال هشام: وسألت عنه محمداً عن رجل اشترى ثوباً فقال المشتري: اشتريته بعشرين وقال البائع: بعته بثلاثين صحاح بالثوب وهو في أيديهما فتخرق وانقطع وصار بعضه في يد البائع وبعضه في يد المشتري، ولم يكن المشتري نقد الثمن قال: يتحالفان، فإذا حلفا فالبائع بالخيار إن شاء سلم الثوب للمشتري بالعشرين ويحط من المشتري نصف ما نقص الثوب من العشرين؛ لأن كل واحد منهما قد مد فصار حانثاً قلت لو كان أمسكه أحدهما ولم يجد به وجد به الأخر أكان الضمان كله على الحادث قال: نعم، قال: وهذا الجواب على قياس قول أبي حنيفة وهو الجواب على قول أبي يوسف.

ولو اشترى ثوبين وقبضهما واستهلك أحدهما والأخر قائمه في يده فقال البائع: بعتك الثوبين بثلاثين درهماً وقال المشتري: بعشرين درهماً، قال محمد: قال أبو حنيفة:

(6/457)


يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه، فإن حلفا فالبائع بالخيار إن شاء أمضى البيع وأخذ العشرين وإن شاء أخذ الثوب القائم ولا شيء له من ثمن الثوب المستهلك.
سأل هشام محمداً رحمه الله: عن قياس قول أبي حنيفة فيمن اشترى ثوباً وشقه بنصفين وصبغ نصفه والنصف الأخر في يده أبيض، ثم اختلفا في الثمن قال: إن شاء البائع أخذ هذا النصف الأبيض ولا شيء له غيره ولا سبيل له على المصبوغ، وإن شاء تركه وأخذ ما أقر به المشتري من الثمن.

قال محمد رحمه الله في «الجامع» : إذا اشترى من آخر جارية وقبضها وماتت في يده واختلفا في ثمنها فقال المشتري اشتريتها منك بألف درهم وبهذا الوصف وقال البائع: بعتها بألفي درهم ففي قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يقسم الجارية على ألف درهم وعلى قيمة الوصف خمسمائة كان القول قول المشتري في ثلثي الجارية بألف ولا يتحالفان، وفي ثلث الجارية وهي حصة الوصف يتحالفان.
الأصل في هذا: إن المتبايعين متى اختلفا في مقدار الثمن أوجبه بعد ما هلكت السلعة في يد المشتري وكان الثمن دراهم أو دنانير فالقول قول المشتري مع يمينه، ولا يتحالفان عند أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد يتحالفان ويفسخ العقد على قيمة قد مر هذا فيما تقدم.

وإن كان الثمن عرضاً والمسألة بحالها فإنهما يتحالفان عندهم جميعاً ويفسخ العقد على القائم مقصوداً وعلى الهالك حكماً (73ب3) وتبعاً للقائم باعتبار القيمة؛ لأن فسخ البيع بسائر أسباب الفسخ جائز باعتبار القائم فكذا بالتحالف. فأما إذا ادعى أحدهما أن يبدل السلعة كان ثمناً، وادعى الأخر أنه كان عرضاً إن كان مدعي العرض المشتري، فإنهما يتحالفان عندهم جميعاً ويغرم المشتري قيمة السلعة يوم قبضها لصاحبه، وإن كان مدعي العرض البائع، فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف: القول قول المشتري مع يمينه ولا يتحالفان، ويغرم المشتري الثمن الذي أقر به للبائع؛ لأن البيع قابل للفسخ في زعم أحدهما غير قابل في زعم الأخر فيجب التحالف من وجه دون وجه فعلمنا بهما من الوجه الذي بينا، إلا أنا عملنا بما يوجب التحالف متى كان المشتري مدعياً للعرض؛ لأنَّا لو عملنا بما يوجب التحالف متى كان البائع مدعياً للعرض لا يمكننا تحليف البائع؛ لأن البائع إنما يحلف بدعوى المشتري والمشتري لا يدعي عليه يميناً ومتى كان للعرض المشتري أمكننا تحليف البائع بدعوى المشتري؛ لأن المشتري يدعي يمينه في هذه الحال، فإنه يزعم أن البيع قابل للفسخ، وإن الثمن واجب على البائع فأمكن تحليف البائع بدعوى المشتري بدعوى البائع فيجعل العمل بما يوجب التحالف وبما يمنع.
فأما إذا إدعى أحدهما أن بدل السلعة كان ثمناً وعرضاً، وادعى الأخر أنه كان ثمناً كله، إن كان المدعي للعرض المشتري، فإنه يقسم السلعة على الثمن الذي أقر به المشتري وعليه قيمة العرض فيما يخص السلعة من الثمن، فالقول قول المشتري فيه مع يمينه عندهما ولا يتحالفان عندهما، ثم يغرم قيمة حصة العرض من السلعة للبائع.

(6/458)


وإن كان المدعي للعرض البائع فالقول قول المشتري في الكل ولا يتحالفان عندهما اعتباراً للبعض بالكل، وعند محمد في جميع ذلك يتحالفان؛ لأن تعذر الفسخ عند هلاك السلعة لا يمنع التحالف إذا ثبت هذا.
جئنا إلى تخريج المسألة التي ذكرها محمد فبقوله: المشتري ادعى أن بدل الجارية بعضه ثمن وبعضه عرض، فيكون لكل بعض حكم نفسه فإن تخالفا على ثلث الجارية وفسخ القاضي العقد على ثلث الجارية كان على المشتري أن يرد ثلث الجارية، على البائع وقد عجز عن ردها بسبب الهلاك فكان عليه رد ثلث قيمة الجارية وعلى قول محمد: يتحالفان في الكل ويغرم جميع قيمة الجارية للبائع وعلى هذا يقاس جنس هذه المسائل.
قال هشام: سألت محمداً عمن اشترى من آخر حنطة بعينها فقال المشتري اشتريتها منك على أنها مائة قفيز بعشرة دراهم، وقال البائع: بعتكها حراماً، أو أقام البينة والحنطة قائمة قال البينة بينة البائع؛ لأنهما ثمنان وإن أقام المشتري بينة أنه اشتراه منه بأربعة دنانير وعشرة دراهم وأمام البائع بينة أنه باعه منه بخمسة دنانير فالبينة بينة البائع، وإن أقام المشتري بينة أنه اشتراه بخمسة دنانير وعشرة دراهم على أنه مائة قفيز فوجده خمسين قفيزاً وأقام البائع بينة أنه باعه منه بخمسمائة جزافاً فالبينة بينة المشتري وله الخيار، إن شاء أخذه بحصته من الثمن وهو ديناران ونصف وخمسة دراهم؛ لأنه ثمن واحد؛ لأن المشتري وافق البائع على خمسة دنانير.
وقال أبو سليمان: سمعت أبا يوسف يقول في رجل باع طعاماً بعينه بعشرة دراهم فقال البائع: بعتكها جزافاً بعشرة وقال المشتري: اشتريت مكايلة بعشرة قال: يتحالفان ويتردان.
وكذلك كل ما يوزن ولو كان هذا في ثوب فقال البائع: بعتكه ولم أسم ذراعه وقال المشتري: اشتريت مذارعة فالقول قول البائع؛ لأن الثوب إن نقص لم انقص من الثمن.

وروى عمرو بن أبي العلاء عن محمد: رجل قال لآخر: اشتريت منك هذا العبد بألف درهم زيوفاً أو نبهرجة أو ستوقة أو رصاصاً قال ذلك موصولاً وقال المقر له بالجياد فالقول قول المقر له في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد في الزيوف والنبهرجة يتحالفا ويتردان البيع وأما في الستوقة والرصاص فالقول قول البائع عند أبي يوسف؛ لأن المشتري لا يصدق على فساد البيع وقال محمد: القول قول المشتري؛ لأنه لم يقر أو لا بيع فاسد.
رجل ادعى على رجل أنه باعه منه هذه الجارية بألف درهم إلى سنة وأقام بينة وأقام مولى الجارية بينة أنه باعه الجارية بألفي درهم، فعلى المشتري ألف حالة وألف إلى سنة؛ لأنه أخذت بينة البائع في الثمن وأخذت بينة المشتري في الأجل، وهذه ألف المؤخرة ليست من الألف التي أقر بها المشتري أنها هي الثمن ولكنها من الألفين جميعاً من ألف خمسمائة ولو قال بعينها بألف درهم إلى ثلاث سنين كل سنة ثلث ألف وقال البائع: بل

(6/459)


بعتكها بألفي درهم إلى سنتين كل سنة ثلث ألف وهذا الثلث المؤخر إلى السنة الثالثة من الألفين فيؤدي في السنة الأولى أسداس ألف درهم، فإن مائة وثلاثة وثلاثون وثلث وفي السنة الثانية كذلك وفي السنة الثالثة يؤدي ثلث الألف، هذه المسألة من «المنتقى» .
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمهما الله: رجل ادعى على رجل أنه باعه هذا الثوب بمائة درهم إلى خمسة أشهر كل شهر عشرين درهماً، وأقام على ذلك بينة وأقام المدعي عليه بينة أنه اشتراه بخمسين درهماً إلى عشرة أشهر وكل شهر خمسة، قال: إن ربَّ الثوب قد أقام البينة على فصل خمسين درهماً فأقبل بينته فيه وقد زعم أن له من المائة كل شهر عشرين وقد أقر المدعى عليه له بخمسة في كل شهر، فأدفع إلى المدعي في الشهر الأول خمسة أقر له بها المدعى عليه وخمسة عشر من دعوى المدعي من فصل الخمسين الذي بينه بالبينة وكذلك في الشهر الثاني والثالث فيأخذ في ثلاثه أشهر ستين درهماً خمسة عشر بحكم الإقرار عليه وخمسة وأربعين بحكم دعواه المؤكد بالبينة، فإذا أخذ ذلك بقي له من الخمسين التي أقام عليها البينة خمسة يأخذ ذلك في الرابع بحكم البينة ويأخذ خمسة أخرى أيضاً في الشهر الرابع بإقرار المدعى عليه وما بقي بعد ذلك ويأخذ في كل شهر خمسة حتى يتم المائة على الأجل الذي أقام البينة المدعى عليه البينة.
وروري عن أبي يوسف بخلاف هذا، فإنه يقول الخمسين التي أقام عليها المشتري البينة من المائة التي زعم المدعي أنها له على المشتري فأجعل الخمسين على الأجل الذي أقام المشتري عليه البينة، بقيت خمسون بزعم المدعي فأقضي للمدعي بعشرة من هذه الخمسين في كل شهر؛ لأن المدعي ادعى العشرين من المائة كلها فيكون مدعياً من هذه الخمسين عشرة وقد عزلت خمسين من المائة على دعوى المشتري على أجلها فيأخذ المدعي في الشهر الأول خمسة المدعى عليه مقر له بها، ويأخذ عشرة من الخمسين الفاضلة عشرة فيأخذ خمسة عشر في خمسة أشهر وذلك خمسة وسبعون بقي هناك خمسة وعشرين يأخذ منها في كل شهر خمسة فيحصل الاستيفاء في عشرة أشهر.

قال محمد رحمه الله: ما ذكر من الجواب فذلك في الثوب والعبد والدار يختلفان في ثمنه وأشباهها، فأما إذا قام رجل بينة على رجل بدين مائة درهم أن له عليه مائة درهم في خمسة أشهر في كل شهر عشرين وأقام الأخر عليه البينة أن له عليه خمسين في عشرة أشهر في كل شهر خمسة فهما مالان فأقضي عليه بدعوى المدعي بمائة درهم في خمسة أشهر.
وفيه أيضاً عن محمد: رجل أقام (74أ3) بينة على رجل أني بعت منك هذا الثوب بمائة درهم تؤديها إلي في عشرة أشهر كل شهر عشرة وأقام المدعى عليه بينة أنه اشتراه منه بستين درهماً في عشرين شهراً في كل شهر ثلاثة، فإني أقبل بينة البائع على فصل الثمن وأقبل بينة المشتري على الأجل فيأخذ منه البائع كل خمسة أشهر عشرة؛ لأن المشتري مقر له بثلاثة كل شهر، فيأخذ منه البائع في خمسة أشهر ثلاثة كل شهر بإقراره، ويأخذ سبعة من الأربعين الذي ادعاها البائع فضلاً على الستين، فإذا أخذ منه خمسة

(6/460)


أشهر عشرة، فقد بقي للبائع من الأربعين الفاضلة خمسة فيأخذها منه في الشهر السادس، وثلاثة أخرى فقد أقر بها المشتري، ثم يأخذ منه بعد ذلك كل شهر ثلاثة حتى يستوفي المائة فيأخذ المائة في عشرين شهراً على الأجل الذي أقام المشتري عليه البينة.

وعلى قياس ما روي عن أبي يوسف في المسألة الأولى يقول هذه الستون الذي أقام عليه المشتري البينة من جميع المائة التي زعم المدعي أنها له على المشتري فأجعل الستين على الأجل الذي أقام عليه المشتري البينة، بقي هناك أربعون بزعم المدعي بأربعة من هذه الأربعين في كل شهر؛ لأنه ادعى العشرة في كل شهر من المائة كلها فيكون مدعياً من هذه الأربعين أربعة في كل شهر فأقضي له بذلك ببينته وأقضي له من الستين الذي للمشتري يقر بها في كل شهر بثلاثة فيأخذ من جميع المائة في كل شهر سبعة فيأخذ هكذا سبعة، سبعة في عشرة أشهر يبقى هناك إلى تمام ثلاثون فيستوفيها في عشرة أشهر ثلاثة، ثلاثة فيحصل استيفاء المائة في عشرين شهراً على الأجل الذي ادعاه المشتري.
قال محمد رحمه: لا أجعل الخمسين في المسألة الأولى من المائة كلها ولا الستين في المسألة الثانية من المائة كلها، ألا ترى أن البائع لو قال: بعته بألفين بألف حالة وبألف إلى شهر، وقال المشتري: اشتريته بألف إلى شهرين وأقام جميعاً البينة إلى أحد منه ألفاً الساعة وألفاً إلى شهرين. قال هشام: (قال) مشايخنا: وعلى قياس قول أبي يوسف تجعل الألف المؤخرة إلى شهرين من الألفين من النقد والتأخير فيحصل خمسمائة حالة وخمسمائة إلى شهر وألفاً إلى شهرين.
رجل أقام بينة على رجل أنه اشترى منه هذا الثوب بخمسة عشرة درهماً إلى شهر وأقام الذي في يديه الثوب بينة أنه باعه نصف هذا الثوب بعشرة دراهم حالة مال يدفع إليه الثوب وله خمسة عشر درهماً إلى شهر، ألا ترى أنه لو قال: بعتك هذا الثوب بألف حالة وأقام بينة وأقام الآخر بينة أنه اشترى هذا العبد مع هذا العبد الآخر بألف إلى سنة أنهما له بألف إلى سنة.

نوع آخر في الاختلاف في الثمن، وفيه بعض مسائل الاختلاف في الثمن

وإذا وقع الاختلاف في المبيع فقال المشتري: اشتريت منك هذا العبد بألف درهم وقال البائع لا بل بعت منك هذه الجارية بألف درهم فلا يخلو إما إن كانا في يد البائع أو في يد المشتري أو كان العبد في يد ثالث، فإن كانا في يد المشتري فلا يخلو إما إن قال البائع للمشتري: العبد ملكك لم أبعه منك وإنما بعتك الجارية بألف درهم ولي عليك ألف درهم ثمن الجارية، وفي هذا الوجه إلا ألف لازم على المشتري والعبد سالم له؛ لأنهما اتفقا على سلامة العبد له، وكذلك اتفقا على وجوب الألف عليه ولكن اختلفا في جهته والاختلاف في الجهة في مثل هذا لا يضر.
كمن قال لآخر: لك علي ألف درهم من ثمن متاع وقال الآخر: لا بل من قرض، وإن قال البائع للمشتري: العبد ملكي ما بعته منك وإنما بعتك الجارية بألف درهم ذكر

(6/461)


هذه المسألة في كتاب الإقرار في موضعين فأجاب في أحدهما: أن القول في العبد قول البائع؛ لأن المشتري أقر له بملك العبد حيث ادعى الشراء منه إلا أنه ادعى التملك عليه وهو أنكر التملك عليه والقول قول المنكر في الشرع.
وإذا حلف البائع على العبد أخذ العبد ولا شيء على المشتري؛ لأن المشتري إنما أقر له بألف على نفسه عوضاً عن العبد ولم يسلم له العبد فكان له أن لايعطيه الألف، وأجاب في الموضع الآخر إنهما يتحالفان؛ لأن كل واحد منهما يدعي على صاحبه عقداً غير العقد الذي ادعى صاحبه عليه؛ لأن العبد غير الجارية فكان العبد الذي يدعيه صاحبه فيتحالفان كما لو اختلفا في جنس الثمن.
وإن كانا في يد البائع فالجواب فيه على التفصيل الذي ذكرنا فيما إذا كانا في يد المشتري، وإن كان العبد في يد ثالث إن صدق صاحب العبد المشتري فيما قال، أمر بالتسليم إليه، ثم الحكم فيه ماذكرنا فيما إذا كان العبد في يد المشتري، وإن قال صاحب اليد: العبد ملكي فالقول قوله مع اليمين ولا شيء على المشتري؛ لأنه ما أقر بالألف على نفسه لا عوضاً عن العبد ولم يسلم له العبد.

وإن قال صاحب اليد: العبد للبائع كالأمر بالتسليم إليه والحكم فيه بعد ذلك ماذكرنا فيما إذا كانا في يد البائع، وإن قال المشتري: اشتريت منك هذا العبد مع هذه الجارية بألف درهم، وقال البائع: بعت منك هذه الجارية لاغير بألف درهم، فالجواب في هذه المسألة على التفاصيل التي مرت في المسألة المتقدمة.
وإذا اشترى من آخر جراب هروي وقبضه فوجد فيه أحد عشر ثوباً فقال البائع: بعتك هذا الجراب على أن فيه عشرة أثواب بمائة درهم، وقال المشتري: اشتريته على أن فيه أحد عشر ثوباً وأراد كل واحد منهما استحلاف صاحبه.
فالقاضي يحلف البائع على دعوى المشتري؛ لأن المشتري يدعي البيع في الثوب الحادي عشر والبائع ينكر والقول قول المنكر، فإن نكل ثبت ما ادعاه المشتري، وإن حلف رد المشتري الجراب ولم يحلف المشتري، إما رد المشتري؛ فلأن البائع لما حلف فسد العقد؛ لأنه لم يثبت البيع في الثوب الحادي عشر وإنه مجهول فصار المبيع مجهولاً وجهالة المبيع توجب فساد العقد، والعقد الفاسد واجب الرد، إما لايحلف المشتري؛ لأن فائدة التحليف النكول الذي هو إقرار، والمشتري لو أقر بما ادعاه البائع كان العقد فاسداً لما مر، فلا يفيد تحليف.
فإن قيل: ينبغي أن يجعل القول قول المشتري في هذه المسألة؛ لأنه يدعي جواز العقد.

قلنا: بدعوى الجواز يدعي استحقاق الثوب الحادي عشر والبائع ينكر، وإن اختلفا في وصف من أوصاف المبيع فقال المشتري: اشتريت منك هذا العبد على أنه كاتب أو على أنه خباز وقال البائع: لم أشترط لك شيئاً فالقول قول البائع ولا يتحالفان، وفيما إذا اختلفا في صفة الثمن وهو دين يتحالفان؛ لأن الدين يختلف باختلاف الأوصاف فكان

(6/462)


الاختلاف في الوصف اختلافاً في أصل الثمن فكان كل واحد مدعياً على صاحبه عقداً غير العقد الذي يدعيه صاحبه، أما المبيع عين والعين لايختلف باختلاف الصفة فلم يكن كل واحد منهما مدعياً عقداً غير العقد الذي يدعيه صاحبه عليه، وإذا قال: بعتك هذا العبد بألف درهم وقال المشتري: اشتريت منك هذه الجارية بخمسين ديناراً ولا بينة لهما يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه، فإن أقاما البينة يقضي بالعقدين عندهم جميعاً يقضي على البائع ببيع العبد والجارية ويقضي على المشتري بألف درهم وخمسين ديناراً.
أما على قول محمد؛ فلأن الأصل عنده القضاء بعقدين مع إمكان القضاء بعقد واحد فعندما تعذر القضاء بعقد واحد أولاً، وأما عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ فلأن الأصل عندهما القضاء بعقد واحد الا إذا تعذر فحينئذٍ يقضي بالعقدين وقد تعذر القضاء بعقد واحد منهما؛ لأن إمكان القضاء بعقد واحد إنما يثبت بأحد طريقين إما بإمكان رد إحدى البينتين أو بإمكان القضاء بكل واحد من البينتين بإثبات (74ب3) الزيادة في عقد واحد على ما يأتي بيانه في مسائل السلم، وههنا رد إحدى البينتين غير ممكن؛ لأن كل واحدة منهما قامت على إثبات ما هو محتاج إليه وتعذر القضاء بهما من حيث القضاء بإثبات الزيادة في كل واحد من البدلين؛ لأن العبد لايتصور زيادة في الجارية في العبد ولا الدراهم في الدنانير، وإذا فات إمكان القضاء بعقد واحد وجب القضاء بعقدين ضرورة.

ولو قال: بعتك هذه الجارية بمائة دينار، وقال المشتري: اشتريتها بخمسين ديناراً وأقام البينة (فالبينة) بينة البائع؛ لأنها أكثر أماناً ويقضي بعقد واحد؛ لأن القضاء بالعقدين متعذر؛ لأن المبيع عين والعين الواحدة متى صار مستحقاً للمشتري بالشراء لايتصور أن يصير مستحقاً له بالشراء مرة أخرى ما لم يعد إلى البائع بسبب من الأسباب، ثم يشتري منه ثانياً والشهود لم يشهدوا بالعود إلى البائع فكان القضاء بالعقدين متعذر، ولو قال المشتري: بعتني مع هذه الجارية وصيفا بخمسين ديناراً، وقال البائع: بعتك الجارية وحدها بمائة دينار، وأقاما البينة فإنه يقبل بينة كل واحد منهما فيما ادعى من إثبات الزيادة لنفسه؛ لأن القضاء بالعقدين متعذر؛ لأن الجارية باتفاقهما صارت مستحقة للمشتري من جهة البائع بالشراء، فلا يتصور استحقاقها بالشراء من جهة مع شيء آخر إلا بعد عود الجارية إلى البائع، والشهود لم يشهدوا بذلك، وإذا تعذر القضاء بالعقدين وليست إحدى البينتين بالقبول بأولى من الأخرى؛ لأن كل واحدة قامت على إثبات زيادة ادعاها صاحبها قبولهما في إثبات ماقامت عليه لكل واحد منهما، فيقبل بينة البائع في إثبات الزيادة في الثمن فيقضي على المشتري بمائة دينار، ويقبل بينة المشتري في إثبات الزيادة في المبيع فيقضي على البائع بالجارية والوصيف.
قال محمد رحمه في «الجامع» : رجل اشترى من رجل عبداً بألف درهم وقبضه ووهب البائع عبداً آخر للمشتري وسلمه إليه فمات أحد العبدين فجاء المشتري يرد الباقي بالعبد فقال البائع: لم أبعك هذا العبد الذي فات وهذا العبد وهبته منك وقال المشتري:

(6/463)


لا بل هذا الحي هو الذي اشتريته منك بألف درهم ولا بينة لواحد منهما كان القول قول البائع مع يمينه؛ لأن المشتري يدعي فسخ البيع في العبد الحي والبائع ينكر، ولأن المملك هو البائع فيكون القول قوله في بيان سبب الملك أني ملكت هذا العبد بالهبة ولو لم يجد المشتري بالعبد عيناً ولكن أراد البائع الرجوع في الهبة وقال: إن الحي هو الذي وهبته وأنكر المشتري فالقول قول البائع لما قلنا من المعنى الثاني، وإذا رجع فيه كان للمشتري أن يرجع على البائع بالثمن الذي نقده لأنا إنما جعلنا القول قول البائع في كيفية تمليك العبد باعتبار أن تمليك العبد استفيد من جهته وتمليك الثمن وجد من جهة المشتري فوجب أن يقبل قوله كيفية تمليك الثمن أيضاً.h
وفي زعم المشتري أنه إنما ملكه الثمن بإزاء العبد الحي ولم يسلم له العبد الحي فلا يسلم للبائع أيضاً الثمن بخلاف المسألة الأولى، حيث لايرجع المشتري بالثمن على البائع؛ لأن هناك في زعم المشتري، أن العبد الذي بمقابلته الثمن سلم للمشتري لما امتنع الرد فجاز أن يسلم للبائع الثمن في زعم المشتري أما ههنا فبخلافه على مامر.

وإذا رجع البائع على المشتري بقيمة العبد الذي مات في يده؛ لأن البائع يقول إنما ملكت ذلك الذي مات عوضاً عن هذا الثمن الذي استحقه وقول البائع في ذلك أيضاً مقبول فإذا لم يسلم الثمن للبائع وجب على المشتري رد المبيع وتعذر رده صورة بسبب الموت، فيجب رده معنى، وذلك برد القيمة ولكن هذا كله بعد أن يتحالفان، فيحلف البائع بالله ما بعت هذا القائم، فإذا حلف اعتبر القائم موهوم في حقه فيرجع فيه، فيحلف المشتري بالله مااشتريت من الذي مات.
وإذا حلف رجع على البائع بالثمن، ثم إنما وجب التحالف ههنا؛ لأن البائع يدعي الرجوع في الهبة والمشتري ينكر، والمشتري يدعي الرجوع بالثمن والبائع ينكر فلهذا جرى التحالف، ثم أوجب التحالف في هذه المسألة ولم يوجب الحلف على المشتري في المسألة الأولى، البائع لايدعي على المشتري شيئاً؛ لأنه لايرجع في الهبة.
أما في المسألة الثانية: البائع مع المشتري كل واحد منهما يدعي صاحبه شيئاً على مامر فيجري التحالف، ثم أوجب التحالف في المسألة الثانية، وإن كان العبد هالكاً بخلاف ما إذا اختلف المتبايعان في مقدار الثمن والسلعة هالكة على قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن هناك اتفق العاقدان أن التمليك حصل بجهة واحدة وهو البيع، بقي الاختلاف في مقدار الثمن، فيكون القول قول من ينكر الزيادة وهو المشتري، أما ههنا اختلفا في جهة التمليك فالبائع ادعى التمليك الهالك بالبيع والمشتري ينكر، والمشتري يدعي تمليك الهالك بالهبة والبائع ينكر فوجب التحالف لهذا.

ولو اشترى أحدهما بألف درهم والآخر بمائة دينار كل واحد منهما صفقة على حدة وتقابضا فمات أحدها عنده، ثم جاء بالباقي يرده بالعيب، واختلفا في ثمنه قال البائع ثمنه ألف درهم وقال المشتري: لا بل مائة دينار كان له أن يرد بالعيب؛ لأن حق الرد لايختلف باختلاف الثمن ولا يبطل بجهالته، وإذا رده بقي الاختلاف بينهما في ثمن

(6/464)


المردود وتمليك الثمن استفيد من جهة المشتري فيكون القول قوله أنه ملكه بإزاء هذا العبد ولا يتحالفان؛ لأن المقصود من التحالف الفسخ وقد حصل ذلك بالرد بالعيب، وكذلك يكون القول قول المشتري في ثمن الهالك عند أبي حنيفة وأبي يوسف مع يمينه.
وعند محمد يتحالفان ويرد المشتري قيمة الميت وكان على البائع رد الثمنين جميعاً؛ لأن العقد انفسخ في العبدين في أحدهما بالرد بالعيب، وفي الآخر بالتحالف، ولو كانا عين والمسألة بحالها رد المشتري العبد المعيب بالثمن الذي ادعاه من غير تحالف لحصول ماهو المقصود من التحالف وهو الفسخ في المردود بسبب الرد تحالفا وترادا في الباقي؛ لأنهما اختلفا في الثمن الباقي ضرورة اختلافهما في ثمن المردود والسلعة قائمة فيتحالفان ويترادان ويرجع المشتري على البائع بالثمنين جميعاً لانفساخ العقد في العبدين على ما مر.

وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل باع من آخر ثوباً مروياً فقبضه أو لم يقبضه حتى اختلفا فقال البائع بعته على أنه ست في سبع، وقال المشتري: اشتريته على أنه سبع في ثمان، فالقول قول البائع مع يمينه.
وفي «نوادر هشام» : إذا اشترى من آخر ثوباً وقال: اشتريته منك بثمانية أذرع وهو سبع في سبع وقال البائع: بعتك بثمانية ولم اسم لك ذراعاً فالقول (قول) البائع، وفي قول أبي يوسف ومحمد: ولو كان المشتري قال: اشتريته على أنه ثمانٍ في ثمان كل ذراع بدرهم، وقال البائع: بعتك بثمانية ولم اسم ذراعاً فالقول قول المشتري ويتحالفان ويتردان على قولهما.

قال هشام: سألت محمداً عن رجل له أجمة تساوي ألفاً وفيها قصب يساوي ألفاً فاشترى رجل منه الأجمة بعشرة آلاف درهم واختلفا فقال البائع: بعتك القصب، وقال المشتري: إنما وقع الشراء على الأصل قال أفسد البيع.
روى إبراهيم عن محمد: رجل اشترى بيتاً في موضعين بكذا درهم وقبض أحدهما وذهب الريح بالموضع الآخر في مقدار ما قبض وما ذهب، فإن كان ماقبض فإنما تخالفا وترادان كان مستهلكها، فالقول قول المشتري في قياس قول أبي حنيفة، وقال محمد: (75أ3) يتحالفان ويرد المشتري مثل ما أخذ بالشرط والقول فيه قوله.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: رجل اشترى من آخر سرجاً، ثم اختلفا فقال البائع: بعتكه بغير زكاته، وقال المشتري: لا بل مع زكاته واشترى خاتماً، ثم اختلفا في فصه، فقال البائع: بعته بغير فصه، وقال المشتري: لا بل مع فصه فإنهما يتحالفان ويترادان.
وفي «نوادر هشام» قال: سألت محمداً عن رجل اشترى كباسة بمائة درهم، ثم اختلفا فقال المشتري: اشتريت منك ومن الأرض وقال البائع: إنما بعتك الكباسة التي

(6/465)


عليها قال ينظر إلى الغالب من الثمن فإنهما كان الغالب جعلتها به، وكذلك هذا في شراء الأجمة والمبطخة والمنقلبة، وكذا في شراء النخلة مع الرطب ينظر إلى الغالب.
وفي «البقالي» : إذا اختلفا في الثياب والجراب والراوية والماء ونحوها على أنهما وقع البيع اعتبر مقدار الثمن وإن استوى الأمران في العادة لم يجز.
قال أبو يوسف وقال أبو حنيفة: في رجل اشترى عبداً بألف درهم وقبضه ونقده الثمن، ثم ادعى المشتري أنه كان مع العبد أمة يبيعها في البيع وجحد البائع ذلك فالقول قول البائع ولا يرد شيئاً من الثمن بعد أن يحلف بالله ما باعه هذه الأمة مع (العبد) .

وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: إذا قال الرجل لغيره: بعتك هذا العبد بألف درهم وأقام البينة وقال المدعى عليه: اشتريته منك وهذا العبد الآخر بألف درهم وأقام البينة فإني أجعلهما جميعاً بألف، ولو قال المشتري: اشتريتها منك هذا بخمسمائة وهذا بخمسمائة وقال البائع: بعت هذا وحده منك بألف درهم وأقام البينة، فإني أجعل عليه الألف للعبد الذي أقام عليه البائع بينة أنه باعه بالألف، وأجعل عليه خمسمائة للعبد الآخر، قال: وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول: إذا قال المشتري اشتريتهما منك بألف درهم، وأقام بينة فعليه ألف وخمسمائة، ثم رجع وقال: هما بألفٍ، وقال زفر: قوله الأول أحب إلي.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: إذا قال الرجل لغيره: اشتريت منك هذه الجارية وابنتها بألف درهم وأقام على ذلك بينة وقيمتها سواء، وقال البائع: بعت الأم وحدها بألف درهم، فإن أبا حنيفة رحمه الله يقول: يأخذهما بألفٍ وخمسمائة، ثم رجع وقال: يأخذهما جميعاً بألف درهم وهذه المسألة المتقدمة ولكن في صورة أخرى.
وفي «المنتقى» : رجل اشترى من آخر ثوباً فقطعه، ثم قال المشتري بعد ذلك: اشتريته بدرهم وقال البائع: بعته بكر حنطة بعتها فالقول قول المشتري.
وفيه أيضاً: رجل اشترى من آخر جارية وقبضها ووطئها، ثم اختلفا في الثمن فالقول قول المشتري مع يمينه إلا أن يرضى البائع أن يأخذ الجارية بغير مهر، ولو كان لها زوج يوم اشتراها لم يمنع وطئه من الرد بسبب الاختلاف في الثمن من قبل إن هذا بمنزلة عيب كان فسرى منه البائع.

وفيه أيضاً: رجل اشترى عبداً وقبضه، ثم اختلفا في مقدار الثمن من الدراهم، قال أبو حنيفة: القول قول المشتري ولا سبيل للبائع على العبد وأرضى بأخذه كذلك، ولو قال البائع: بعتك بدارك هذه، وقال المشتري: اشتريته بأمتي هذه رد العبد على البائع وضمن المشتري نصف قيمته يوم قبض كيف كان ذهاب العين من جناية المشتري أو من جناية أجنبي أو من غير فعل أحد.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف في المبيع: إذا كان مستهلكاً كل شيء أقر المشتري أنه اشتراه به مما هو ثمن لا ينتقص البيع بهلاكه واستحقاقه أو رده بالعيب فالقول فيه قول المشتري، وكل شيء لبس بثمن وينتقض البيع بهلاكه أو استحقاقه أو رده

(6/466)


بالعيب لم يصدق فيه المشتري؛ لأنه يريد أن يلزم البائع هذا العرض والمشتري فيه مانع وعلى المشتري قيمة ما قبض، وقال أبو يوسف لو قال البائع: بعتك بهذين العبدين وقال المشتري: اشتريته بهذا العبد وحده لأحدهما والمبيع مستهلك، قال: قد اتفقا على واحد فهو بيع به ولا يصدق البائع على الآخر.

نوع آخر في دعوى البيع مع دعوى الاعتاق

رجل ادعى على الآخر إني بعت منك هذا العبد الذي في يدي بألف درهم واعتقته أنت أيها المشتري وقال المشتري: ما اشتريته وما اعتقته، فإن أقام البائع بينته سمعت بينته على الشراء والعتق؛ لأنه خصم في إثبات الشراء والعتق؛ لأن بالشراء يثبت أصل الثمن وبالعتق يثبت تأكد الثمن وخروج المبيع عن ضمان البائع ودخوله في ضمان المشتري؛ لأن الإعتاق قبض معنوي على ما عرف، فإن لم يكن له بينة وطلب من القاضي أن يحلف المشتري حلفه أولاً على دعوى الشراء، فإن حلف على دعوى الشراء لا يحلفه على دعوى العتق بعد ذلك؛ لأنه فائدة فيه؛ لأنه لم يثبت ملك المشتري بما حلف ولكن يعتق العبد على البائع بحكم إقراره أنه مالكه قد أعتقه وكان ولا العبد موقوفاً؛ لأن كل واحد منهما بيعه عن نفسه، هذا إذا حلف على دعوى الشراء وإن نكل عن دعوى الشراء حتى صار مقراً بالشراء إلا أن يحلف على دعوى العتق؛ لأن البائع يدعي عليه قبض المعقود عليه، وتأكد الثمن وهو ينكر فإن نكل ثبت العتق من جهة وكان ولاء العبد له، وإن حلف لم يثبت العتق وكان العبد مملوك للمشتري؛ لأنه لو ثبت العتق ههنا يثبت بشهادة البائع؛ لأنه فرد هذا إذا كان العبد في يدي البائع، وإن كان في يدي المشتري والمسألة بحالها، فإن أقام البائع بينة على ذلك سمعت بينته على الشراء لما مر، ولا يسمع بينته على العتق عند أبي حنيفة بخلاف الفصل الأول؛ ولأن في الفصل الأول إنما قبلت بينة البائع على العتق لما فيه من إثبات القبض الذي هو حقه والقبض ههنا ثابت بالمعاينة فلا حاجة إلى إثباته بالبينة فلم ينتصب البائع خصماً في دعوى العتق، فالتحق دعواه بالعدم والبينة على عتق العبد لا تقبل من غير الدعوى.
وعندهما يقبل البينة على العتق؛ لأن عندهما الدعوى ليست بشرط لقبول البينة على العتق، وإن لم يكن للبائع بينة يحلف المشتري على دعوى الشراء، فإن حلف لا يحلف على دعوى العتق بالإجماع، وعتق العبد على البائع بحكم إقراره على ما مر، وكان ولاؤه موقوفاً وإن نكل عن دعوى الشراء يثبت الشراء بإقراره، ثم لا يحلف على العتق بعد ذلك عند أبي حنيفة؛ لأن دعوى العتق من البائع التحق بالعدم فلو حلف المشتري حلف عنه بدون الدعوى.
ومن مذهب أبي حنيفة أنه لا يحلف عنه على عتق العبد بدون الدعوى كما لا يقبل البينة على حبسه بدون الدعوى، وأما عندهما فقد ذكر شمس الأئمة السرخسي في شرح «الزيادات» : أن عندهما لا يحلف حبسه بدون الدعوى بخلاف قبول البينة.

(6/467)


وأشار محمد رحمه الله في «كتاب التحري» : أنه يحلف على طلاق المرأة بدون الدعوى، وذكر شيخ الإسلام خواهرزاده وشمس الأئمة هذا في شرح «كتاب التحري» أنه يحلف على طلاق المرأة، وعتق الأمة عندهما حبسه بدون الدعوى وهما يلحقان عتق العبد بعتق الأمة وطلاق المرأة حتى قالا: تقبل البينة على عتق العبد بدون الدعوى كما تقبل على طلاق المرأة وعتق الأمة، فالصحيح عندهما أنه يحلف في عتق العبد حبسه بدون الدعوى، ثم إن عند أبي حنيفة إذا لم يحلف على دعوى العتق كالعبد مملوك للمشتري لا يحكم بعتقه؛ لأنه لو عتق، عتق بمجرد قول البائع، والعتق لا يثبت بقول الفرد وعندهما إذا حلف أنه نكل صار (75ب3) مقراً بالعتق وكان ولاء العبد له، وإن حلف بقي العبد مملوكاً وإذا ادعى على غيره أني بعت منك هذا العبد بمائة دينار وأعتقته أيها المشتري، وقال المشتري: اشتريت منك بألف وما أعتقته فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يحلف المشتري على العتق أولاً، ولا يشتغل بتحليفها بسبب اختلافهما في جنس الثمن؛ لأنهما اتفقا على الشراء؛ لأن البائع ادعى البيع بمائة دينار والمشتري أقر بالشراء بألف درهم فدعوى البائع الاعتاق على المشتري.
في هذه الصورة دعوى هلاك المعقود عليه ودعوى هلاك المعقود عليه دعوى سقوط التحالف عندهما، فيحلف المشتري أولاً على دعوى العتق عندهما لهذا، فإن نكل ثبت العتق وسقط التحالف، وكان القول في الثمن: قول المشتري مع يمينه فيحلف المشتري بالله لقد اشتريته بألف درهم كما يدعي، فالأصل إن كل من جعل القول قوله، فإنما يحلف على مايقوله على مايدعي الخصم.

كالمودع إذا ادعى رد الوديعة أما متى وجب التحالف يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه ولا يحلف على ما يدعيه، وإن حلف على دعوى الإعتاق لم يثبت هلاك المعقود عليه، فيتحالفان لاختلافهما في جنس الثمن حال المعقود عليه ويبدأ بيمين المشتري، فإن نكل لزمه مائة دينار وكان العبد مملوكاً له، وإن حلف يحلف البائع بعد ذلك بالله: ما بعته بألف درهم كما ادعاه المشتري، فإن نكل فله الألف.
وإن حلف فسخ القاضي العقد بينهما بسبب التحالف إذا طلبا أو طلب أحدهما، ثم يصير العبد حراً؛ لأن البائع أقر بحريته حال ما كان مملوكاً للمشتري، ومن أقر بحرية ملك غيره، ثم ملكه يوماً من الدهر يعتق على المقر ويكون ولاء العبد موقوفاً؛ لأن كل واحد منهما ينفيه عن نفسه.
فإن عاد المشتري إلى التصديق كان الولاء له؛ لأن الولاء يحتمل النقض بعد ثبوته فلا يبطل بتكذيب المشتري، هذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وأما على قول محمد: يبدأ بالتحالف؛ لأن هلاك المعقود عليه عنده لايمنع التحالف واختلافهما في العقد سابق على اختلافهما في العتق، فهذا يبدأ بالتحالف ويحلف المشتري بالله بمائة دينار ويحلف البائع بالله مابعته بألف درهم، وأيهما نكل عن اليمين لزمه دعوى صاحبه، فإن حلفا يحلف المشتري على دعوى العتق بعد ذلك؛ لأن البائع يدعي عليه حقاً لنفسه بهذا الدعوى، فإنه لو ثبت العتق كان الفسخ بالتحالف على قيمة الهلاك المعقود عليه، وإذا لم

(6/468)


يثبت العتق كان الفسخ بالتحالف على عين العبد، فيحلف المشتري بالله ماأعتقته فإن نكل ثبت العتق ويفسخ القاضي العقد على القيمة، وإن حلف فسخ القاضي العقد على العبد وصار العبد حراً لإقرار البائع وولاؤه موقوف، ويستوي في هذه المسألة إن كان اختلافهما قبل قبض المشتري العبد أو بعده.

وفي «الزيادات» : رجل ادعى على رجل أني بعت منك هذا العبد الذي في يدي بمائة دينار واعتقته أنت وقال المشتري: ما اشتريت إلا نصفه بخمسمائة درهم وما أعتقته، فإن على قول أبي يوسف يحلف المشتري أولاً على العتق ولا يشتغل بتحليفهما بسبب اختلافهما في جنس الثمن؛ لأن البائع بدعوى العتق على المشتري يدعي هلاك المعقود عليه وسقوط التحالف ويحول ضمان المشتري، فيحلف المشتري على دعوى العتق أولاً، فإن نكل ثبت العتق من جهة المشتري، فيحلف بالله مااشتريت الكل بمائة دينار ولقد اشتريت النصف بخمسين درهما، فإن نكل صار مقراً بشراء الكل بمائة دينار وقد ثبت العتق منه وكان الولاء له، وإن أنكر الولاء لنفسه لما أنكر الإعتاق إلا أن القاضي لما قضى عليه بالعتق بنكوله فقد كذبه في إنكاره فالتحق إنكاره بالعدم، وإن حلف فقد انتفى شراء الكل بمائة دينار وثبت شراء النصف بخمسين درهماً وعاد النصف الذي انتفى الشراء عنه إلى ملك البائع وعتق نصف العبد على المشتري وعتق النصف الآخر على البائع عند أبي حنيفة لإقرار البائع بحريته حين نسب الإعتاق إلى من زعمه مالكاً وهو المشتري.
ومن أقر بحرية عبد وملكه يوماً من الدهر يعتق عليه بحكم إقراره، والإعتاق عند أبي حنيفة متجزئ فيعتق النصف على البائع والنصف على المشتري لهذا ويكون نصف الولاء للمشتري والنصف يكون موقوفاً للحال؛ لأن كل واحد منهما ينفيه عن نفسه.

وعلى قول أبي يوسف: عتق كل العبد على المشتري والولاء؛ لأن الإعتاق عنده لايتجزئ هذا إذا نكل المشتري عن اليمين على العتق وإن حلف على العتق انتفى العتق من جهة فيشتغل الآن بتحليفهما بسبب اختلافهما في جنس الثمن ويبدأ بيمين المشتري، فيحلفه بالله ما اشتريته بمائة دينار ولقد اشتريت نصفه بخمسمائة، فإن نكل لزمه الشراء بمائة دينار وكان العبد رقيقا؛ لأن العتق هنا لو ثبت يثبت بمجرد قول البائع، وإنه شهادة فردها بحكم لما يقطع بشهادة الفرد، وإن يحلف يحلف البائع بالله مابعت نصفه بخمسمائة درهم، ولقد بعته كله بمائة دينار، فإن نكل انتفى العقد عن أحد النصفين وعتق ذلك النصف على البائع؛ لأنه أقر بحريته حين نسب الإعتاق إلى من زعمه مالكاً.
ثم الإعتاق عند أبي يوسف رحمه لايتجزئ، فإذا أعتق أحد النصفين على البائع عتق النصف الآخر عليه وعند أبي حنيفة الإعتاق يتجزئ فبقي النصف الذي ثبت فيه البيع مملوكاً للمشتري في النصف الذي ثبت فيه البيع بين إمضاء العقد وبين الفسخ؛ لأن المعقود عليه قد تغير من جهة البائع قبل القبض من العين إلى القيمة عند أبي يوسف؛ لأن عنده الإعتاق لايتجزئ.
وعند أبي حنيفة الإعتاق، وإن كان يتجزئ إلا أن يعتق النصف يثبت نوع فساد وتغير في النصف الباقي، وإنه يكفي لثبوت الخيار للمشتري، فإن اختار المشتري الفسخ عاد

(6/469)


النصف الآخر إلى ملك البائع وعتق عليه بلا خلاف بحكم إقراره السابق ولا سعاية له على العبد أصلاً لا في النصف الذي انتفى البيع عنه، ولا في النصف الذي عاد إليه بحكم الفسخ؛ لأن البائع يبرأه من السعاية، فإنه يقول بعت كل العبد من المشتري وحقي في الثمن، والمشتري كاذب في يمينه فيكون مقراً ببراءة العبد عن السعاية من هذا الوجه، وإن اختار المشتري ببراءة من السعاية، فإنه يقول: بعت كل العبد من المشتري، إمضاء العقد كان له أن يسعى العبد في نصف قيمته؛ لأنه مشهود عليه بالعتق والمشهود عليه يستوجب السعاية على العبد سواء كان الشاهد موسراً أو معسراً بلا خلاف، نصف السعاية بما أدعى المشترى من الثمن، فإن كان الجنس متحداً وكان في السعاية فضل تصديق بالفضل؛ لأنه ربح حصل لا على ضمانه، وإن كان الجنس مختلفاً لا يتصدق بشيء؛ لأن الربح لايظهر في جنسين مختلفين؛ ولأن القبض له شبه بالعقد وابتداء العقد متفاضلاً في الجنسين المختلفين يجوز، فما له شبه بالعقد متفاضلاً في جنس واحد الاستحسان سار ما أشبه بالعقد يتمكن نوع.
حيث إنه يوجب التصديق هذا إذا حلف البائع ونكل عن اليمين، فأما إذا حلف فالقاضي يفسخ العقد بينهما في النصف الذي اتفقا في البيع إذا طلبا أو طلب أحدهما وعاد ذلك النصف إلى ملك البائع وعتق عليه مجاناً من غير سعاية لما قلنا، هذا كله قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وأما على قياس قول محمد بدأ بالتحالف في العقد؛ لأن دعوى الإعتاق من البائع.

وإن كان دعوى (76أ3) هلالك المعقود عليه لا يمنع التحالف عنده، والاختلاف في العقد سابق على الاختلاف في العتق فيبدأ بالتحالف في العقد، ويحلف المشتري أولاً، ثم يحلف البائع على نحو ما بينا، وأيهما نكل عن اليمين لزمه دعوى صاحبه، وإن حلفا يحلف المشتري في دعوى العتق لما مر، هذا في كله إذا اختلفا قبل القبض.
وأما إذا اختلفا بعد قبض العبد والباقي بحال قال في «الكتاب» : الجواب على ما وضعت لك قبل القبض إلا في خصلة واحدة أنه لا خيار للمشتري هنا بين الفسخ والإمضاء في النصف الذي ادعاه في الشراء فيه لتغير المعقود عليه بعد القبض ولكن يستسعى في نصف قيمته.
قال مشايخنا: وهنا خصلة أخرى إنه إذا قبض المشتري نصف من العبد لا يتصدق بشيء، وإن كانت القيمة من جنس الثمن وكان فيها فصل على الثمن بحصول الربح على ضمانه ولعدم ورود ماله شبه بالعتق، فالعقد وهو القبض عليه ولهذه المسألة مع أجناسها باب على حدة في «الزيادات» لقبه باب السلسلة.

نوع آخر في الاختلاف في الثمن بعد ارتفاع العقد
قال محمد رحمه الله: وإذا اشترى الرجل من آخر جارية بألف درهم وتقابضا، ثم تقايلا البيع حال قيام الجارية حتى صحت الإقالة، ثم اختلفا في مقدار الثمن فقال المشتري: كان الثمن ألف درهم، وقال البائع: كان الثمن خمسمائة وعلى أن أزد عليك خمسمائة أيها المشتري ولا بينة لواحد منهما ذكر أنهما يتحالفان.

(6/470)


فرق بين هذا وبين ما إذا اختلفا في مقدار رأس المال بعد الإقالة في المسلم إليه كان رأس المال خمسة، وقال رب السلم كان رأس المال عشرة فالقول قول المسلم إليه مع يمينه، ولا يتحالفان في الإقالة في بيع اليمين، قال: تخالفان فسخ ويفسخ الإقالة بينهما بعد التحالف ويعود الأمر إلى ما كان قبل الإقالة.
والفرق: أن الإقالة في باب السلم قبل قبض المسلم فيه فسخ من كل وجه وفي حق كل حكم إذ لا يمكن أن يعتبر بيعاً جديداً لما فيه من الاستبدال بالمسلم فيه قبل القبض، فإنه بيع فيعتبر فسخاً في حق التحالف أيضاً كما في بيع العين إذا تقايلا قبل قبض المبيع المنقول والثمن مدفوع إلى البائع، واختلفا في مقدار الثمن بعد الإقالة، فإنهما لا يتحالفان ويكون القول في مقدار الثمن قول البائع مع يمينه؛ لأن الإقالة في هذه الصورة لا يمكن أن يعتبر بيعاً جديداً فاعتبر فسخاً في حق جميع الأحكام من جملتها التحالف.
وكذا في السلم وإذا اعتبرت الإقالة فسخاً في حق التحالف لا يمكن شرع التحالف فيها؛ لأن التحالف شرع في المعقود بخلاف القياس فلا يشرع في حق المفسوخ، وأما الإقالة في بيع العين بعد القبض إن اعتبر فسخاً فيما بين المتعاقدين اعتبر بيعاً جديداً في حق الثالث؛ لأن لاعتبار معنى البيع بعد القبض ممكن فيعتبر بيعاً جديداً في حق التحالف وصار في حق التحالف كان البائع اشترى ثانياً، ثم اختلفا في الثمن ولو كان كذلك كانا يتحالفان كذا ههنا.
وفي باب السلم: لو جعلت الإقالة بعد قبض المسلم فيه وهو قائم حتى أمكن أن يعتبر بيعاً جديداً في حق الثالث، يقول بأنهما يتحالفان أيضاً، هكذا قال الفقيه أبو بكر البلخي، ثم إن محمد رحمه الله يحتاج إلى الفرق بين الإقالة في فصل السلم، وبين ما إذا اختلفا في مقدار الثمن بعد هلاك السلعة، فإن في فصل الإقالة في السلم قال: لا يتحالفان؛ لأن الإقالة في باب السلم مما لا يحتمل الفسخ وفي البيع بعد هلاك السلعة قال بالتحالف، وإن كان بعد هلاك السلعة لا يحتمل الفسخ بسائر أسباب الفسخ.

والفرق: أن التحالف مشروع في العقد لا في الفسخ والإقالة في باب السلم قبل القبض فسخ من كل وجه، ولا يمكن شرع التحالف فيها فأما في البيع بعد هلاك السلعة التحالف إنما يجري في البيع لا في الفسخ إلا أنا نقيم القيمة في حق الفسخ مقام العين.