المحيط البرهاني في الفقه النعماني

الفصل السادس عشر: في الاستحقاق وبيان حكمه
استحقاق العقد على المشتري يوجب توقف العقد السابق على إجازة المستحق ولا يوجب نقضه وفسخه في ظاهر الرواية، وعن أبي حنيفة رحمه الله: أن الخصومة من المستحق وطلب الحكم من القاضي دليل بعض العقد فينتقض به العقد كما ينتقض بصريح النقض، حتى لا تعمل إجازة المستحق بعد ذلك. وعن أبي يوسف رحمه الله: إن أخذ المستحق العين بحكم القاضي دليل النقض فينتقض به العقد، وعن أبي يوسف رواية أخرى: أن المستحق إذا قال عند الخصومة: أنا أقيم البينة لأجيز العقد فحكم له لا ينتقض العقد وتعمل إجازته، وإن لم يقل ذلك لا تعمل إجازته، وفي ظاهر الرواية: ليس شيء من ذلك دليل النقض، أما الخصومة وطلب الحكم فلأنهما لإثبات الاستحقاق وإظهاره، والاستحقاق لو كان ثابتاً ظاهراً يوم البيع لا يمنع انعقاد البيع فظهوره في الإنتهاء لا يوجب النقض والفسخ من طريق الأولى، والأخذ بحكم القاضي محتمل، يحتمل التأويل والتلوم، ويحتمل النقض والفسخ، والعقد جائز بيقين فلا يثبت النقض بالشك، وإذا أجاز المستحق البيع وعمل إجازته، كان الثمن للمستحق ولكن البائع يقبضه ويدفعه إلى المستحق، وإذا كان المشترى شيئاً واحداً كالثوب الواحد والعبد الواحد،

(7/16)


فاستحق بعضه قبل القبض أو بعده، فللمشتري الخيار في الآخر؛ لأن الصفقة تفرقت على المشتري قبل التمام، وإن استحق أحدهما بعد القبض فلا خيار في الآخر وإن تفرقت الصفقة عليه؛ لأنها تفرقت بعد التمام، وإن كان المشترى مكيلاً أو موزوناً واستحق بعضه، فللمشتري الخيار فيما بقي إن شاء أخذه بالحصة وإن شاء ترك، وإذا كان المشترى شيئين كالثوبين والعبدين فلم يقبضهما حتى استحق أحدهما أو قبض أحدهما بعد القبض، فلا خيار له في الآخر؛ لأن الصفقة وإن تفرقت عليه إلا أنها تفرقت بعد التمام، وإن استحق بعضه بعد القبض فعن أبي حنيفة روايتان.

وفي «المنتقى» : رجل اشترى من رجل عبداً بألف درهم ووهب البائع الثمن للمشتري قبل القبض أو بعده، ثم استحق العبد فلا سبيل للمشتري على البائع؛ لأن ما وهب البائع للمشتري ماله فلا يضمن له ماله في يده، ولو أجاز مستحق العبد العقد قبل أن يقضى له فإن البيع جائز، والهبة جائزة في قول أبي حنيفة رحمه الله إن كانت الهبة قبل قبض الثمن، ويضمن البائع مثله لرب العبد، ولا تجوز الهبة بعد القبض فيؤديه المشتري ويكون لرب العبد، وأما في قول أبي يوسف: فلا تجوز الهبة في الوجهين جميعاً؛ لأن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء، ولو أذن له في الابتداء ببيع عبده فباعه ووهب الثمن من المشتري كان الحكم ما ذكرنا فهنا كذلك.

قال محمد رحمه الله في كتاب الدعوى: رجل اشترى من آخر أمة شراء جائزاً أو فاسداً أو ملكها بهبة أو صدقة واستولدها، ثم استحقها رجل ببينة أقامها قضى القاضي بالجارية وأولادها للمستحق؛ لأن الأولاد فرع ملكه إلا إذا ثبت غرور المستولد، ولابد لذلك من البينة على المشترى والهبة أو ما أشبه ذلك، فإذا أقام المستولد بينة على ذلك يثبت غروره؛ لأنه وطئها على حسبان أنها ملكه وهذا هو حد الغرور، وولد المغرور حر بالقيمة فيقضي القاضي حينئذٍ للمستحق بالجارية وبقيمة الولد، ويقضي بعقر الجارية أيضاً ولا يرجع المستولد على مملكها بالعقر بائعاً كان أو واهباً، ويرجع بقيمة الأولاد عليه إن كان بائعاً، ولا يرجع عليه إن كان واهباً.
والفرق: أن البائع بالبيع ضمن سلامة الجارية للمشتري؛ لأن المشتري ضمن سلامة الثمن وهذا عقد مجازاة ومقابلة، ولأجل ذلك ثبت له حق الرد بالعيب، وضمان سلامة الجارية يكون ضمان سلامة الزوائد بطريق التبعية ولم تسلم الزيادة للمشتري لما ضمن قيمتها للمستحق، فيرجع على البائع بذلك بحكم الضمان، فأما الواهب لم يضمن سلامة الموهوب للموهوب له ليصير ضامناً سلامة الزوائد بطريق التبعية؛ لأن ضمان سلامة المبيع من البائع بمقابلة ضمان سلامة البدل ولا بدل في الهبة، ومجرد الغرور لا يثبت حق الرجوع ما لم يؤخر ضمان السلامة إما قضاءً أو في ضمن عقد المعاوضة، حتى لو كان الواهب ضمن سلامة الموهوب للموهوب له نصاً يقول بأنه يرجع على الواهب بقيمة الولد، فإن كان المشتري باع الأمة من رجل آخر (111ب3) واستولدها المشتري الثاني، ثم استحقها رجل وأخذ الجارية وقيمة الأولاد من المشتري الثاني على المشتري

(7/17)


الأول بقيمة الأولاد قيل: يرجع على بائعه بقيمة الأولاد، على قول أبي حنيفة: لا يرجع، وعلى قولهما: يرجع.
لهما: أن البائع الأول ضمن للمشتري الأول سلامة الأولاد ولم يسلم لها الأولاد حين أخذ منه قيمة الأولاد. والدليل عليه: أن المشتري الأول في هذه الصورة يرجع على بائعه بالثمن، وإنما يرجع لأن بائعه ضمن سلامة المبيع لما رجع المشتري الثاني عليه بالثمن.

ولأبي حنيفة: أن البائع الأول ضمن للمشتري الأول سلامة أولاده لا سلامة أولاد المشتري منه، وهذا ضمان السلامة في ضمان البيع، فإنما يثبت ضمان سلامة أولاد المشتري الثاني في ضمان البيع الثاني والبيع الثاني مقصور على البائع الثاني؛ لأنه حصل باختياره، فما وجد في ضمان السلامة في صحته يكون مقصوراً على البائع الثاني أيضاً، ألا ترى أن ضمان تسليم المبيع إلى المشتري الثاني لما وجب بالبيع الثاني، والبيع الثاني مقصور على البائع الثاني لا على البائع الأول بخلاف الرجوع بالثمن؛ لأن البائع الأول ضمن للمشتري الأول ما باع منه ولم يسلم له ذلك لما رجع الثاني على المشتري الأول بالثمن.

اشترى داراً وبنى فيها بناءً، ثم استحق رجل الدار بالبينة، ونقض بناء المشتري، فالمذكور في عامة الكتب أن المشتري يرجع على البائع بقيمة البناء، وذكر في شركة «الجامع» : أن للمشتري الخيار في البناء المنقوض إن شاء أمسكه ولا يرجع على البائع لما لحقه من زيادة غرم؛ لأنه لما اختار النقض فقد أبرأ البائع عن الضمان، وإن شاء ترك النقض على البائع ورجع عليه بقيمة البناء مبنياً، وبعض مشايخنا قالوا: إذا اختار المشتري إمساك النقض فله أن يرجع إلى البائع بما يلحقه من زيادة غرم، وقاسه على ما إذا خرق ثوب إنسان خرقاً فاحشاً، كان لصاحب الثوب أن يمسك الثوب ويضمن النقصان كذا هذا، ولو أن المشتري باع الدار من رجل آخر وبنى فيها المشتري الثاني بناءاً، ثم استحقها رجل من المشتري الثاني يرجع المشتري على المشتري الأول بالثمن وبقيمة البناء، ويرجع المشتري الأول على بائعه بالثمن، ولا يرجع عليه بقيمة البناء عند أبي حنيفة خلافاً لهما.

وفي «المنتقى» عن أبي يوسف رواية أخرى، أنه قال: في رجوع المشتري الأول على بائعه بقيمة البناء أنا أقف في هذا حتى أنظر، قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله، ذكر المعلى عن أبي يوسف أن أبا حنيفة قال: لا يرجع المشتري الأول على بائعه بالثمن حتى يؤدى، وقال أبو يوسف: حتى يقضي عليه فرق أبو يوسف رحمه الله بين هذا وبينما إذا غصب رجل عبداً وجنى العبد في يد الغاصب جناية، ثم قبضه المغصوب منه فليس له أن يرجع على الغاصب بأرش جنايته حتى يرجع عليه.
وفي «المنتقى» : رجل اشترى داراً وبنى فيها بناء، ثم استحق نصف الدار رد ما بقي من الدار ورجع بنصف قيمة البناء؛ لأنه مغرور في نصفها، ولو كان استحق نصف الدار

(7/18)


بعينه فإن كان البناء فيه خاصة رجع بقيمة البناء، وإن كان البناء في النصف الذي لم يستحق فله أن يرد ذلك النصف، ولا يرجع بشيء من قيمة البناء، وعن محمد رحمه الله فيمن اشترى داراً على أن البائع فيه بالخيار فبنى المشتري فيها بناءاً، ثم اختار البائع البيع، ثم استحقت الدار فقال: لا يرجع المشتري على البائع بشيء من قيمة البناء؛ لأنه بنى فيها قبل أن يملكه البائع منه.
وفي شركة «الجامع» : اشترى داراً من رجلين وبنى فيها بناءاً، ثم استحق رجل الدار ونقض بناء المشتري، ثم حضر أحد البائعين كان للمشتري الخيار إن شاء أمسك المقبوض، وإن شاء سلم نصف المقبوض إليه ورجع عليه بنصف قيمة البناء؛ لأنه صار مغروراً من جهته في النصف، فإن حضر البائع الآخر بعد ذلك كان للمشتري الخيار في النصف الآخر، واختياره أخذ الشيئين مع الأول في أحد النصفين لا يكون اختياراً لذلك مع الثاني، فله أن يختاره مرة أخرى.

وروى إبراهيم عن محمد: فيمن اشترى جارية ووهبها من رجل وسلمها إليه، ثم إن الواهب اشتراها من الموهوب له واستولدها واستحقها مستحق رجع على البائع وهو الموهوب له بقيمة الولد؛ لأنه مغرور.

روى أبو سليمان عن أبي يوسف في «الإملاء» ، قال أبو حنيفة: في رجل اشترى من آخر أمة وقبضها ونقد الثمن فاستحقهما رجل بالبينة وقضى القاضي بها للمستحق وأراد المشتري أن يرجع على البائع بالثمن فقال له البائع: قد علمت أنهم شهدوا بالزور وأن الأمة لي، وقال المشتري: أنا أشهد لك أن الأمة لك وأنهم شهدوا بالزور فللمشتري أن يرجع على البائع بالثمن بعد هذا الإقرار، قال: من قبل أن المبيع لم يسلم له والشهادة على البائع، فلا يحل له أن يأكل الثمن، والمبيع لم يسلم للمشتري.
رجل اشترى أمة من رجل وقبضها، ثم اشتراها منه أهل الحرب، ثم اشتراها هذا الرجل منهم، استحقها مستحق بالبينة وقضى القاضي له أن يأخذها بالثمن فله أن يرجع بالثمن على بائعها الأول.
وفي «المنتقى» : رجل وطىء جارية ابنه، فولدت له يضمن قيمتها لابنه، ثم ولدت له ولداً آخر، ثم استحقها رجل فقضى بها له وبعقرها يرجع على الابن بالقيمة ضمن له وبقيمة له، قال الحاكم أبو الفضل: هذا خلاف جواب «الأصل» ، وذكر بعد هذا المسائل.
رجل وطىء جارية ابنه وعلقت منه، فادعى الولد حتى ثبت نسبه منه وغرم قيمة الجارية بيقين، ثم ولدت بعد ذلك أولاداً، ثم استحقها رجل وأخذ عقرها وقيمة الولد، فعلى قول محمد لا يرجع الأب على ابنه بشيء من قيمة الأولاد، وقال أبو يوسف: يرجع عليه بقيمة كل ولد ولدته بعد الولد الأول.
وفيه أيضاً: جارية بين رجلين، اشتراها من رجل فاستولدها أحدهما وضمن لشريكه نصف قيمتها ونصف عقرها، ثم استولدها ثانياً، ثم استحقها مستحق وقضى القاضي له

(7/19)


بالجارية وبقيمة الولدين وبالعقر على المستولد، فإن المستولد يرجع على الشريك بما ضمن له، ثم يرجعان بالثمن على البائع، يرجع المستولد على البائع بنصف قيمة الولدين حصة من الشراء، ولا يرجع عليه بالنصف الباقي؛ لأنها حصة شريكه لم يشترها منه ولا من الشريك، إنما هو ضمان دخل عليه بالاستهلاك وبطل الاستهلاك.

قال: ولو أن رجلاً غصب أمة فأبقت منه ضمن قيمتها، ثم وجدها واستولدها (112أ3) ، ثم استحقها مستحق وأخذها وعقرها وقيمة ولدها فقضى القاضي، فالغاصب يرجع على المغصوب منه بالقيمة التي دفعها إليه وبقيمة الولد ولا يشبه الغاصب في هذا الشريك، هذا في الشريك بمنزلة النكاح، ألا ترى أنه ضمن حصته من العقر، وإنما ثبت نسب الولد من قبل الشريك الرق للواطىء فيه، فليس الشريك يضار في هذا.
وروى المعلي عن أبي يوسف: في رجل اشترى أمة وأعتقها، ثم تزوجها فجاءت بولد، ثم استحقها رجل، قال: هو مغرور ويرجع بقيمة الولد، وقال محمد: هو ليس بمغرور ولا يرجع بقيمة الولد.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل باع لرجل ساجة ملقاة في الطريق وقبض الثمن وخلى بين البائع وبين الساجة، ولم يحركها المشتري من موضعها فقد صار قابضاً لها، فإن أحرقها رجل فهي من مال المشتري، فإن جاء مستحق واستحقها بالبينة فالمستحق بالخيار إن شاء ضمن المحرق، وإن شاء ضمن البائع إن كان البائع هو الذي ألقاها في ذلك الموضع، ولا سبيل للمستحق على المشتري إن لم يكن حركها من ذلك الموضع.
رجل باع أمة من رجل فلم يقبضها المشتري حتى زاد البائع في المبيع أمة أخرى، ثم استحقت الأولى، فإن شاء المشتري أخذ الزيادة بحصتها من الثمن كأن الشراء وقع عليهما جميعاً.
وذكر الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف: في رجل اشترى عشر بيضات واستحق بعضها أو تلف قبل القبض أنه قال فيه قولان: أحدهما أن يبطل من الثمن بقدر العدد، والثاني أنه يبطل بقدر حصة ذلك من الثمن على القيمة، فعلى قول لم تجعل مختلفة وعلى قول الثاني جعلها مختلفة.

رجل باع من آخر جارية غيره وتقابضا، ثم اختلف البائع والمشتري، فقال البائع: بعتها بغير أمر صاحبها، وقال المشتري: لا بل بعتها بأمر صاحبها فالقول قول المشتري والمسألة معروفة، ولو أن المشتري استولدها بعد ذلك، ثم استحقها مولاها قال أبو يوسف: يأخذ المولى الولد عبداً له مع الجارية؛ لأن المشتري ليس بمعروف.
رجل اشترى نصف عبد، ثم اشترى آخر النصف الآخر ولم يقبض الأول فما استحق فهو منهما، وإن قبض الأول ولم يقبض الآخر فما استحق فهو من الآخر، وإن قبضا فما استحق فهو منهما.

(7/20)


رجل اشترى من رجل داراً بألف درهم ونقده الثمن وقبض الدار، وأقام أخ المشتري بينة أن الدار كانت لأبيه تركها ميراثاً له ولأخيه هذا المشتري، فإنه يقضي له بنصف الدار، فبعد ذلك ينظر: إن كذبه المشتري كان المشتري بالخيار، إن شاء رد النصف الباقي على بائعه ورجع عليه بجميع الثمن، وإن شاء أمسكه ورجع عليه بنصف الثمن، وإن صدقه المشتري بقي النصف في يده بنصف الثمن ورجع على بائعه بنصف الثمن الضامن للدرك يرجع عليه دون قيمة البناء إلا أن يسميه، وأما الضامن للخلاص وهو أن يسلم العبد من يد البائع إلى المشتري ويحصله من يد المستحق فليس على ضامن الخلاص رد الثمن، وإن مات العبد في يد المستحق بمنزلة موته في يد البائع، وإذا ضمن له الدرك فإنما هو من الاستحقاق وليس..... أن يسلمه من يد البائع.

في «نوادر هشام» عن محمد: رجل اشترى أرضاً بشربها واستحق الشرب قبل القبض أخذ الأرض بجميع الثمن إن شاء، وكذلك المسيل إن كان قد قبض وأخذت فيها غرساً أو بناءاً أو زرعاً رجع بنقصان الشرب والمسيل.
قال محمد: كل شيء إذا بعته وحده لم يجز البيع فيه وإن بعته مع غيره جاز البيع فيه، فإذا استحق ذلك الشيء فإن شاء المشتري أخذ الباقي بجميع الثمن وإن شاء ترك، وكل شيء إذا بعته وحده جاز وإذا بعته مع غيره جاز أيضاً كان له حصة من الثمن.

قال هشام: قلت لمحمد رجل اشترى أمة هي ليست بحاضرة فقبضها ولم تقر بالرق وباعها من رجل آخر ولم تقر بالرق أيضاً وقبضها المشتري الآخر، ثم ادعت أنها حرة قال: يعتقها القاضي ويرد بعضهم الثمن على البعض، فإن قال المشتري الأول: قد كانت أقرت بالرق وليس له على ذلك بينة ولم يقر المشتري الثاني بذلك قال: يرد المشتري الثاني بالثمن (على) الأول ولا يرد المشتري الأول على بائعه؛ لأن المشتري الأول مقر أنها أقرت له بالرق.
وفي «الفتاوى» : رجل اشترى جارية وباعها حتى تداولتها الأيدي، ثم ادعت الجارية في يد المشتري الآخر أنها حرة الأصل وردها صاحبها على بائعها بقولها وقبل بائعها منه وردها هو أيضاً على بائعه وقبل منه، فأراد أن يرد على بائعه فليس لبائعه أن لا يقبلها منه إن لم تكن انقادت للبيع فتثبت الحرية بقولها في حق الكل، وإن كانت انقادت للبيع بأن بيعت وسلمت إلى المشتري وهي ساكتة فللبائع الأول أن لا يقبلها؛ لأنها لما انقادت للبيع فقد أقرت بالرق فدعوى حرية الأصل منها بعد ذلك دعوى العتق العارض، والعتق العارض لا يثبت بمجرد قولها، فكان للأول أن لا يقبلها كما لو ادعت العتق العارض.
قال هشام: وسألت محمد رحمه الله عن غلام لم يبلغ الحلم باعه إنسان، فأقر بأنه مملوك له وهو يعبر عن نفسه، ثم استحق بالحرية وغاب البائع ولا يدرى أين هو هل

(7/21)


يرجع المشتري على الغلام بالغرور قال: لا، قلت: فالرجل الذي اشترى عبداً أقر على نفسه بالرق وغاب البائع وقبض المشتري العبد ولم ينقد الثمن فأعتق القاضي العبد؛ لأنه كان حر الأصل هل يشهد القاضي ببراءة المشتري عن الثمن والبائع غائب قال: نعم.
قال: وسمعت محمداً يقول رجل اشترى من صبي لم يأذن له أبوه أو وصيه في التجارة جارية فاستولدها، ثم استحقها إنسان، فإنه يأخذها وولدها رقيقاً والنسب ثابت، وكذلك إن اشتراها من عبد محجور عليه.

ولو اشترى رجل جارية بعبد وتقابضا وولدت الأمة من المشتري، فإذا العبد حر الأصل فإن لبائع الجارية أن يأخذ الجارية وعقرها، وولدها رقيقاً والولد ثابت النسب، قال هشام: قلت لمحمد فإن كان الذي باع العبد كان اشتراه من غيره قال: الولد يكون له بالقيمة.

رجل اشترى أمة وقبضها فادعاها آخر فاشتراها منه أيضاً، ثم استحقت الأمة وقد ولدت للمشتري، قال محمد رحمه الله: يرجع بالثمنين على البائع، فإن كانت الأمة جاءت بالولد (112ب3) لأكثر من ستة أشهر من وقت اشتراها من الآخر رجع بقيمة الولد التي يعرفها للمستحق على المشتري الآخر، فإن جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت شرائها من المشتري الآخر لا يرجع بقيمة الولد على واحد منهما؛ لأن إقراره الثاني براءة الأول، قال محمد رحمه الله: ويضمن البائع في الأرض المشتراة إذا استحقت، البناء والغرس والزرع، وضمان الزرع: أن ينظر ما قيمة الزرع فيضمنه البائع، قال هشام: وذلك إذا لم يستحصد.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل اشترى جارية فولدت منه فاستحق رجل نصفها قضى له عليه بنصف قيمتها وبنصف عقرها، فإن قضى بذلك فاستحق رجل آخر النصف الآخر بعد ذلك فإنه يقضي له أيضاً بنصف قيمة الجارية وبنصف عقرها ويقضي عليه بقيمة الولد بينهما نصفين.
رجل اشترى جارية وقبضهما فولدت له، ثم أعتقها وتزوجها فولدت له ولداً آخر، ثم استحقت فليس عليه إلا عقر واحد، وكذلك لو لم يتزوجها بعد العتق ولكنه زنى بها فولدت له أولاداً، ثم استحقت لم يغرم للمستحق إلا عقر واحد، وصار ذلك العتق ليس بعتق فكأنه وطء على الملك الأول، ويثبت نسب الأولاد ويغرم قيمتهم ويرجع على البائع بقيمة الأولاد الذين كانوا قبل العتق، ولا يرجع بقيمة الأولاد الذين كانوا بعد العتق.
في «نوادر ابن سماعة» عن محمد في يده كران حنطة، باع كراً منها من رجل بثمن مسمى ودفعه إليه فاستحق من يده قال: يأخذ المشتري الكر الباقي ودفعه، ثم استحق الأول قال: يبطل البيع فيه ولا سبيل له على المشتري الثاني، ولو كان في يده كران فباع أحدهما ولم يدفعه حتى باع الآخر ودفعه، ثم باع الكر الباقي ودفعه، ثم حضر المشتري الأول ووجد المشتريين جميعاً فإنما سبيله على المشتري الثالث؛ لأن البائع قد كان له أن يبيع الكر الباقي بعد بيعه من المشتري الأول فلما باعه وقع البيع على ما يملكه وجاز

(7/22)


الدفع إليه، ثم لما باع الكر الآخر لم يجز بيعه؛ لأنه للمشتري الأول، فإن لم يجد المشتري الأول المشتري الثالث، إنما وجد المشتري الثاني يقضى له بنصف ما في يده، فإذا حضر الثالث أخذا جميعاً ما في يده فيكون بينهما نصفين وكذلك لو كان مكان الكرين عبداً فباع نصف من رجل ولم يدفع إليه، ثم باع نصفه من آخر ودفعه إليه، ثم باع نصفه من ثالث ودفعه إليه.

وروى ابراهيم عن محمد في رجل باع قفيزاً من طعام * ومعه ثلاثة أقفزة * من رجل، ثم باع قفيزاً من رجل آخر، ثم باع قفيزاً من ثالث، ثم قال لهم الأقفزة الثلاثة، ثم استحق القفيز الأول قال يأخذ المستحق القفيز الثالث فيكون له؛ لأن صاحب الطعام باع القفيز الأول وهو يملكه وباع الثاني وهو يملكه، (وباع) الثالث وهو لا يملكه.
رجل اشترى من دار نصفها مشاعاً، ثم استحق نصفها قبل القسمة فالبيع على النصف الباقي فإن كان قسم للمشتري، ودفع إليه ما اشترى، ثم استحق النصف الذي اشترى فللمشتري نصف نصف الباقي وهو ربع جميع الدار، ولو اشترى من صبرة نصفها وهو كر، ثم استحق نصفها قبل القسمة أو بعد القسمة والقبض فإنه يأخذ جميع النصف الباقي من الكر، ولو اشترى من عبد نصفه كان ما استحق من نصيب البائع، وسلم للمشتري نصفه وفرق بين العبد والدار.

رجل وهب لرجل عبداً أو تصدق به عليه فاستحق من يد الموهوب له أو من يد المتصدق عليه، كان للواهب أو المتصدق أن يرجع على بائعه بالثمن رواه ابن سماعة عن أبي يوسف.
وروى ابن سماعة عنه أيضاً: في رجل اشترى من رجل عبداً وقبضه، ثم إن الموهوب له وهبه من رجل آخر، ثم استحق العبد من يد الموهوب له الآخر، كان للمشتري أن يرجع على بائعه بالثمن، ولو كان المشتري للعبد باعه من رجل، ثم وهبه لرجل من الابتداء، ثم إن الموهوب له باعه من رجل، ثم استحق من يد الآخر، فالمشتري الأول لا يرجع على بائعه قبل أن يرجع الآخر على بائعه وهو الموهوب له، فإذا رجع عليه رجع المشتري الأول على بائعه.
وروى بشر عن أبي يوسف في «الإملاء» : رجل اشترى زق سمن أو عسل أو جرة زيت أو دهن أو سلة زعفران أو جوالقاً من دقيق أو حنطة، ثم استحق منها فللمشتري الخيار إن شاء أخذ الباقي بحسابه من الثمن وإن شاء ترك؛ لأن هذا شيء واحد فيكون الحال فيه قبل القبض وبعده سواء، ولو كان اشترى زقي سمن أو قوصرتي تمر أو جرتي زيت أو جوالقي حنطة واستحق أحدهما، إن كان قبل القبض فله أن يرد البيع كله، وإن كان بعد القبض فليس له أن يرد الأخرى ويرجع بحساب ما استحق وكذلك سائر ما وصفت لك.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل اشترى من رجل داراً وقبضها فاستحق رجل نصفها فأقام المشتري بينة أنه اشترى الجارية من هذا المستحق ولم يؤقت وقتاً قال:

(7/23)


لا يرجع المشتري على البائع بثمن ذلك النصف، إنما هذا رجل اشترى من رجل داراً فادعاها آخر فاشتراها منه أيضاً ولو أقام البينة أنه اشتراها منه بعد الاستحقاق رجع على البائع الأول بنصف الثمن.
ابن سماعة عن أبي يوسف في «الإملاء» : رجل اشترى من رجل أرضاً بيضاء وبنى فيها بناءاً، ثم استحقت الأرض وقضى القاضي على المشتري بهدم البناء فهدمه، ثم استهلكه فلا شيء على البائع من قيمة البناء وهذا اختيار منه له، وإن لم يستهلكه ولكن المطر أفسده كان البناء صحيحاً فصار طيناً، أو كسره رجل، فعلى البائع فصل ما بين النقض والبناء، وإن شاء البائع أخذ النقض على تلك الحالة وأعطاه قيمة البناء مبنياً ويرفع عنه ما حدث في النقض من النقصان من كل وجه، فإن اختار هذا فالمشتري بالخيار، إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، وكذلك يدخله بضمان أي جناية أحد فالمشتري بالخيار والبائع بالخيار، فإن اتفقا على وجه من ذلك أقضي بينهما، وإن اختلفا ترك في يد المشتري وضمن البائع فضل ما بين النقض إلى البناء، وإن كان النقصان من غير جناية أحد فهو مثل ذلك في قول أبي يوسف كان للمشتري أن يمسك ويرجع بفضل ما بين الهدم إلى البناء كما يمسك المفقوءة عيناه ويرجع بالنقصان.
رجل اشترى داراً وبني فيها وغاب، ثم أن البائع باعها من رجل ونقض المشتري الآخر بناء الأول وبنى فيها ثانياً، ثم جاء الأول، فهذه المسألة على وجهين: الأول أن يكون الثاني بناها بآلات هي ملكه وفي هذا الوجه يضمن المشتري الثاني للمشتري الأول (113أ3) حصة البناء من الدار العامرة ونقض البناء الأول للمشتري الأول، وإن بنى ينقض الأول فالمشتري الثاني يضمن للمشتري الأول حصة البناء من الدار العامرة وللمشتري الأول أن يمسك البناء وليس للمشتري الثاني رفعه؛ لأنه عين ملك الأول فإن زاد المشتري الثاني في ذلك زيادة، أعطاه قيمة الزيادة من غير أن يعطيه أجرة العامل؛ لأن الزيادة عينها مال متقوم، فأما العمل فلا يتقوم إلا بالعقد.

وفي «المأذون الكبير» : اشترى أمة واستولدها واستحقها رجل بالبينة وقضى على المشتري بقيمة الولد رجع المشتري بذلك كله على بائعه، وفرق بين هذه المسألة وبينما إذا اكتست أكساباً أو وهب لها، ثم استحقت وقضي للمستحق بالكسب والهبة حيث لا يرجع المشتري على البائع بالكسب والهبة.
ولو اشترى أرضاً وأحياها أي عمرها فاستحقت من يد المشتري هل يرجع على البائع بما أنفق في عمارتها وحرثها؟ فلا رواية لهذه المسألة، وقيل: لا يرجع؛ لأن الإحياء حصل بصرف المنافع والمنافع عندنا لا تتقوم إلا بالعقد.
وسئل الشيخ الإمام شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله: عن رجل اشترى من آخر جارية، ثم ظهر أنها حرة وقد مات البائع ولم يترك شيئاً لا وارث له ولا وصي، غير أن بائع الميت حاضر قال: القاضي يجعل للميت وصياً حتى يرجع المشتري على وصي الميت، ثم وصي الميت يرجع على بائعه للميت.

(7/24)


وسئل هو عمن اشترى سكناً في دكان وقف فقال المتولي: ما أذنت بالسكنى وأمر بالرفع، هل للمشتري أن يرجع على البائع؟ قال: إن كان المبيع بشرط القرار، رجع لفوات الشرط وظهور العيب وإلا فلا رجوع له على البائع بوجه ما لا بالثمن ولا بالنقصان.

أيضاً ذكر في «مجموع النوازل» : في رجل اشترى من آخر أرضاً بعينها فجاء مستحق واستحقها بالبينة وقضى القاضي بالأرض له وطلب المشتري من البائع الثمن فرد الثمن عليه، ثم ظهر فساد الدعوى وفساد القضاء بفتوى الأئمة، هل للمستحق أن يسترد تلك الأرض ويقول قد ظهر بطلان القضاء؟ قال: لا؛ لأن المشتري لما رجع على البائع بالثمن ورد البائع الثمن عليه فقد فسخا البيع فيما بينهما بالتعاطي فانفسخ العقد من كل وجه وارتفع حكمه فكيف يستردها قال: ولو لم يرجع المشتري على البائع بعد ما قضى القاضي بالأرض للمستحق وفسخ العقد بينهما، ثم بعد ذلك ظهر بطلان قضاء القاضي وبطلان الاستحقاق، كان لهذا المستحق عليه استرداد الأرض في هذه الصورة؛ لأنه ظهر بطلان الفسخ بناء على ظهور بطلان القضاء بخلاف الفصل الأول.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : رجل اشترى جارية فولدت عنده ولداً لا باستيلاده، ثم استحقها رجل بالبينة أخذها وولدها، ولو أقر المشتري بالجارية لإنسان أخذ المقر له الجارية ولا يأخذ ولدها.
والوجه في ذلك: أن دعوى الملك المطلق دعوى الملك من الأصل فتكون الشهادة بالملك من الأصل؛ لأن الشهود إنما يشهدون على وقت الدعوى فيكون القضاء بالملك المطلق قضاء بالملك من الأصل؛ لأن القاضي إنما يقضي مما يشهد به الشهود، والشهادة حجة مطلقة متعدية فظهر الملك في الجارية عند القضاء بها في حق الولد جميعاً، ولهذا قلنا: إن في القضاء بالملك المطلق يرجع الباعة بعضهم على بعض وطريقه ما قلنا: أن القضاء بالملك المطلق بالبينة، فظهر الملك من الأصل كافة، فأما القضاء بالملك بالإقرار ليس بقضاء بالملك من الأصل؛ لأن الإقرار حجة قاصرة، ألا ترى أن الباعة لا يرجع بعضهم على بعض؟

يوضحه: أن الإقرار ليس ثابتاً بل هو إخبار، وثبوت المخبر به فيه لصحة والمخبر به ملك الآمر، فيقضي بملك الآمر في أدنى زمان يتصور فيه الملك فيقضي بملك الآمر بعد الانفصال عنها؛ لأنه متيقن ولا يقضي به حال الاتصال؛ لأنه مشكوك فيه، ثم في فصل البينة هل يشترط قضاء على حدة بالولد أو القضاء بالأم يكفي؟ اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: القضاء بالأم يكفي، وقال بعضهم: يشترط قضاء على حدة بالولد، وإليه أشار محمد رحمه الله في موضع آخر، فإنه قال: إذا قضى بالأصل للمستحق، ولم يعلم بالزوائد، لم تدخل الزوائد تحت القضاءوهذا؛ لأن القضاء بالزوائد منفصلة حقيقية فلا بد من القضاء بها.

قال محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» : رجل اشترى ثوباً فقطعه وخاطه قميصاً، ثم ادعى رجل أن الثوب له وأقام البينة قضى القاضي له بالقميص، ولا يرجع المشتري على البائع بشيء.

(7/25)


الأصل في جنس هذه المسائل: أن الاستحقاق متى وقع على ملك البائع، رجع المشتري على البائع بالثمن ومتى وقع على حدوث الملك للمشتري لا يرجع المشتري على البائع بالثمن، وهذا؛ لأنه متى وقع الاستحقاق على ملك البائع، لم يسلم المبيع للمشتري من جهة البائع بالبيع، فلا يسلم الثمن للبائع إذ البيع عقد معاوضة يقتضي السلامة بإزاء السلامة ومتى وقع الاستحقاق على حدوث ملك المشتري، فالمبيع مسلم للمشتري من جهة البائع، وإنما زال بسبب حدوث من جهته، فلا يمنع سلامة الثمن للبائع وإنما يعرف وقوع الاستحقاق على حدوث الملك للمشتري إذا حدث في العين بما يمنع الاستحقاق من الأصل، وإذا عرفت هذا الأصل فنقول: في هذه المسألة الاستحقاق وقع على حدوث الملك للمشتري لا على الملك من الأصل، إذا كان الثوب للمستحق من الأصل، لصار للذي خاطه، فإن من غصب ثوب إنسان وخاطه قميصاً، ينقطع حق المالك ويصير حق الغاصب أن ضرورة استحقاق القميص أن يكون بملك حدث على ملك المشتري، وبهذا لا يتبين أن المبيع لم يسلم للمشتري من جهة البائع، وكذلك لو اشترى حنطة فطحنها، ثم جاء رجل وأقام البينة أن الدقيق له يقضي القاضي بالدقيق للمستحق، ولا يرجع المشتري بالثمن على البائع؛ لأن الاستحقاق وقع على حدوث الملك للمشتري لما قلنا، فقد سوى بين الخياطة والطحن ههنا وافترقا في حق صحة الزيادة، وإنما كان كذلك باعتبار أن المانع من صحة الزيادة هلاك المبيع، وبالطحن يهلك المبيع وهي الحنطة، أما بالخياطة لا يهلك المبيع؛ لأن المبيع هو الثوب وبعد الخياطة الثوب باق، أما المانع من الرجوع على البائع بالثمن حدوث معنى يمنع (113ب3) الاستحقاق من الأصل والخياطة مع الطحن يستويان في حق هذا المعنى. وكذلك لو أن رجلاً غصب من رجل ثوباً فقطعه وخاطه قميصاً، ثم جاء رجل وأقام البينة أن القميص له وأخذ القميص من الغاصب لا يبطل الضمان الأول؛ لأن الملك لم يستحق من الأصل بل مقصوراً على صاحب اليد
لما قلنا في المسألة الأولى فبقي ملك المغصوب منه، بسبب الخياطة فيجب عليه قيمة الثوب، وكذلك الجواب في الحنطة بطحنها، ولو أن رجلاً اشترى شاة فذبحها وسلخها فأقام رجل البينة أن اللحم والجلد والأطراف والرأس له وأخذ ذلك كله كان للمشتري أن يرجع على بائعه بالثمن؛ لأن الاستحقاق اسم هذه الأشياء بمنزلة الاستحقاق باسم الشاة وهناك يرجع المشتري على البائع؛ لأن الاستحقاق ورد الملك على الملك المطلق ولم يوجد ههنا ما يمنع القضاء من الأصل؛ لأن حق المالك لا ينقطع عن العين بهذه الأشياء، فوجب القضاء بالملك عن الأصل، فتبين أن الاستحقاق على ملك البائع، ولو كان في الغصب يبطل حق المغصوب منه عن الضمان لما ذكرنا أن بهذه الأشياء لا ينقطع حق المالك عن العين، فورد الاستحقاق على ملك المغصوب منه فوجب بطلان حقه عن الضمان، ولكن يرجع الثاني على الغاصب بالنقصان.

وكذلك لو اشترى ثوباً فقطعه ولم يخطه، ثم استحق رجل الثوب المقطوع بالبينة، فإن المشتري يرجع بالثمن على البائع؛ لأن الاستحقاق ورد على الملك المطلق ولم

(7/26)


يوجد ههنا ما يمنع القضاء بالملك من الأصل؛ لأن مجرد القطع لا يقطع ملك المستحق وإن كان هذا في الغصب بأن غصب رجل ثوباً فقطعه ولم يخطه، ثم استحقه رجل بالبينة يبطل حق الأول عن الضمان إذ الملك صار مستحقاً من الأصل.

ولو أن رجلاً غصب من رجل لحماً فشواه فأقام رجل البينة أن هذا اللحم المشوي له فقضي به له رجع المغصوب منه على الغاصب بقيمة لحمه؛ لأن الاستحقاق لم يثبت من الأصل إذ لو جعل هذا الاستحقاق له من الأصل، لصار الغاصب مالكاً له، فمن ضرروة هذه البينة أن يجعل الاستحقاق مقصوراً على الحال، ويجعل كأن المغصوب منه كان مالكاً، ثم الغاصب يملك عليه بالشيء، ثم المستحق يملك عليه بوجه من الوجوه، ثم وجب ههنا القيمة، فهذا دليل على أن اللحم مضمون بالقيمة لا بالمثل، وهذا فصل اختلف المشايخ فيه قال بعضهم: هو مضمون بالمثل، وتأويل هذه المسألة على قوله إذا لم يوجد مثله.
ولو كان هذا في الشراء بأن اشترى لحماً فشواه، ثم أقام رجل البينة أنه له وقضى به له لم يرجع على البائع بالثمن؛ لأن الاستحقاق مقصور على المشتري لما قلنا، ولو أقام المستحق البينة في هذا كله أن ذلك اللحم قبل أن يشويه المشتري، وذلك الثوب قبل أن يخيطه المشتري وتلك الحنطة قبل أن يطحنها المشتري كان له، كان للمشتري أن يرجع على البائع بالثمن. ولو كان هذا في الغصب يبطل حق الأول عن الضمان؛ لأن الاستحقاق ههنا ثبت من الأصل وتبين أن المشتري أو الغاصب كان غاصباً لهذه الأشياء من المستحق فكان ضامناً للمستحق.

ولو أن رجلاً اشترى من رجل شاة وذبحها وسلخها فأقام الرجل البينة أن اللحم له وأقام آخر بينة أن الجلد له وأقام آخر بينته أن الرأس والأطراف له وقضى القاضي بذلك، ودفع إلى كل واحد ما، استحقه ببينة لم يرجع المشتري على البائع بشيء؛ لأن هذا الاستحقاق مقصور على المشتري؛ لأن تملك هذه الأشياء على الافتراق لا يتصور إلا بعد الذبح، إذ لا يجوز أن يستحق كل واحد منهم جزءاً من الشاة وهي حية، وإنما يجوز ذلك بعد الذبح، فكان الاستحقاق مقصوراً على المشتري، ألا ترى أن المدعي لو أقام البينة على شيء من هذه الجملة أنه لو أقام الذي في يده بينة على مثله أن صاحب اليد أولى؛ لأن ذا اليد أسبقهما تاريخاً؛ لأنه يثبت الملك لنفسه ملكاً بغير الذبح، وهذا بخلاف ما إذا كان المدعي لهذه الجملة رجل واحد؛ لأن ذلك يصلح استحقاقاً من الأصل؛ لأن الواحد يجوز أن يستحق هذه الجملة من الشاة حية، ألا ترى أن المدعي لو أقام البينة على ذلك وذو اليد أقام البينة على مثله أن المدعي أولى؟

وكذلك على هذا لو أن رجلاً اشترى ثوباً فقطعه قميصاً ولم يخطه، فأقام رجل البينة أن الكمين له وأقام آخر البينة أن الدخريص له وقضى القاضي، لا يرجع المشتري على البائع بالثمن وإنما لا يرجع لما قلنا.

(7/27)


وفي «مجموع النوازل» : باع من آخر حماراً على أنه غارتي يريد به أن لا يرجع عليه عند الاستحقاق قال: للمشتري أن يرجع عليه عند الاستحقاق؛ لأن الرجوع حق ثابت شرعاً في البيع الجائز والفاسد، وقيل: يجب أن يكون البيع بهذا الشرط فاسداً؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد ولأحد المتعاقدين فيه منفعة، فيكون للمشتري أن يسترد الثمن ويكون للبائع أن يسترد المبيع بحكم فساد العقد، «اكرد لالي دلالي كرد» ، ثم استحق المبيع من يد المشتري فالمشتري على من يرجع بالثمن، والجواب «أكرد لا لي خود بيع كرده باشد مشتري برد لالي رجوع كغد» .

وفي صلح «فتاوى أبي الليث» : رجلان اشتريا عبداً صفقة واحدة فاستحق نصف العبد فهما بالخيار إن شاءا أخذا نصف العبد وإن شاءا تركا، فإن أخذا كان لكل واحد ربع العبد، وإن سبق أحدهما بالأخذ أخذ ربع العبد، ثم لا يكون للآخر حق الرد على البائع.
وفي «المنتقى» : رجل اشترى داراً وقبضها، ثم خاصمه رجل في حائط بين دار المشتري وبين دار الذي خاصمه، ولم يكن في الشراء للحائط ذكر ولا شرط، فقامت البينة أن الحائط للجار وقضى به القاضي، فأراد المشتري أن يرد الدار، قال: إن كان للمشتري على الحائط خشبة واحدة أو أكثر وليس للمستحق عليه خشبة أصلاً، فله أن يرد الدار، وإن أراد أن يمسك الدار ولا يرجع بحصة كل الحائط فعل، وإن كان الذي استحق الحائط عليه جذوع أيضاً، فإن شاء رد الدار وإن شاء رجع بحصته من الحائط، وإن لم يكن لواحد منهما عليه جذوع وكان متصلاً ببناء المشتري رد الدار إن شاء، وإن أمسك الدار ورجع بحصة الحائط كله، وإن كان متصلاً بالبناءين جميعاً بناء المشتري وبناء المدعي رجع بحصة نصف الحائط وإن شاء رد الدار، وإن لم يكن متصلاً ببناء واحد منهما ولم يكن لواحد منهما عليه جذوع، فإنه لا يرد الدار ولا يرجع بشيء على البائع (114أ3) .

إلا أن بكون سمى له الحائط في الشراء فحينئذ يرجع بحصته أو يرد الدار، وإن كان الحائط متصلاً ببناء الجار وليس بمتصل ببناء المشتري ولا جذوع للمشتري عليه، فإنه لا يرد الدار ولا يرجع بشيء، ولو كان للمشتري عليه ستره، فلما استحق الحائط أمر بهدمها والسترة قائمة قبل شرائه كان له أن يرجع بنقصان هذه السترة، وإن شاء رد الدار، ولو كان للمشتري عليه فرادي لا غير، فاستحق الحائط لم يرجع بشيء ولم يرد الدار، ولو كان الحائط متصلاً ببناء المشتري اتصال تربيع وللجار عليه جذوع فالحائط للمشتري وللجار موضع جذوعه وليس للمشتري أن يرجع على البائع بحصة مواضع الجذوع في حائطه، ولكن يقال للمشتري: هذا عيب فإن شئت فرد الدار وإن شئت فخذها بجميع الثمن، ولو كان له مثل ما في دار وطريق فاستحق ذلك رد الدار إن شاء، وإن شاء أمسكها ورجع بنقصان ذلك، ولو كان كنيف شارع إلى الطريق أو ظلة شارعة فخاصم فيها

(7/28)


أهل الطريق فأمره القاضي برفعها لم يرجع على البائع بشيء ولم يرد الدار، ليس هذا من حقوقه الواجبة هذا في طريق المسلمين.

وإن كان له باب في الطريق الأعظم وباب في طريق غير نافذ، فأقام أهل ذلك الطريق بينة أنهم أعادوا لبائع هذا الطريق فأمره القاضي بسده وقضى عليه فهو بالخيار إن شاء رد الدار وإن شاء رجع بنقصان ذلك الطريق.
رجل مات وترك ابنين وداراً فأدعى أحد الابنين أن أباه كان باع هذه من هذا الرجل بألف درهم وأنكر ذلك الرجل والأبن الآخر، فأقام ابن المدعي البينة على ما ادعى، فإني أقضي على الرجل بنصف الثمن وأقضي له بنصف الدار حصة الذي ادعى البيع، ولا خيار له في رده وليس هذا كالاستحقاق لنصف الدار؛ لأني إنما نقضت البيع ههنا في النصف لجحود المشتري، ولو ادعى لأجزت البيع فيه.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في رجل ادعى حقاً في الدار وأنكر المدعى عليه ذلك، ثم إن المدعى عليه صالح المدعي على مائة يأخذها المدعي صح الصلح عندنا. هذه المسألة تبتني على أصلين: أحدهما: أن الصلح عن الحقوق المجهولة إذا كان لا يحتاج فيها إلى التسليم جائز عندنا. والثاني: أن الصلح على الإنكار جائز عندنا والمسألة معروفة.
ثم إذا صح الصلح لو استحقت الدار من يد المدعى عليه إلا ذراعاً منها لم يرجع عليه بشيء. ولو كان المدعي يدعي كل الدار وباقي المسألة بحالها يرجع على المدعي بحصته ما استحق عن المائة. والفرق: أن في المسألة الأولى الاستحقاق غير مناقض أصلاً؛ لأن الصلح وقع عن حقوق مجهولة، واسم الحق يتناول ما بقي في يد المدعى عليه بعد الاستحقاق، فيمكن للمدعي أن يقول للمدعى عليه: عنيت بالدعوى السابق هذا القدر الذي بقي في يدك، وإذا لم يكن الاستحقاق مناقضاً للصلح أصلاً لا يكون له حق الرجوع على المدعي بشيء. وأما في المسألة الثانية الاستحقاق مناقض للصلح بقدره وقع عن كل الدار على مائة، فلابد وأن ينتقض الصلح بقدر ما استحق، فيرجع على المدعي بحصة ذلك.

قال في «الجامع الصغير» أيضاً: في عبد لرجل مقر له بالعبودية باعه من رجل، وقد قال العبد للمشتري: اشترني فإني عبد له فاشتراه، فإذا هو حر لا سبيل للمشتري على العبد إذا كان البائع غايباً غيبة منقطعة معروفة، وإذا كان البائع لا يدرى أين هو رجع المشتري على العبد بالثمن، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا رجوع للمشتري على العبد بالثمن بحال، ووجه ذلك: أن ضمان الثمن وجوبه بالمعاقدة أو بالكفالة عن المعاقدة ولم يؤخذ شيء من ذلك بالعبد، إنما الموجود منه الإخبار بكونه عبداً، وإنه لا يوجب ضمان الثمن، ألا ترى أن أجنبياً لو قال للمشتري: اشترى هذا العبد، فإذا هو حر لا يرجع المشتري عليه بالثمن وطريقه ما قلنا، ألا ترى أن العبد إذا قال لرجل: ارتهني فإني عبد فارتهنه، فإذا هو حر لا يرجع المرتهن على العبد بدينه؟ كذا ههنا.

وجه «ظاهر الرواية» : أن العبد ضمن للمشتري سلامة نفسه أو سلامة الثمن من

(7/29)


نفسه متى تعذر استيفاؤه من البائع، وقد تعذر الاستيفاء من البائع إذا غاب غيبة لا يدرى أين هو، فيرجع المشتري بالثمن على العبد بحكم الضمان، كالمولى إذا قال لأهل السوق: بايعوا عبدي هذا، فإني قد أذنت له في التجارة، فبايعوه ولحقه ديون، ثم استحق العبد فإن أصحاب الديون يرجعون على المولى بقيمته، وجعل المولى ضامناً لهم سلامة حقوقهم من نفسه عند تعذر الاستيفاء من مالية العبد.d

بيانه: أن المشتري إنما رغب في الشراء اعتماداً على أمر العبد إياه وعلى إخباره أنه عبد، فيجعل العبد ضامناً سلامة البدل عند عدم سلامة نفسه نفياً للغرور، وإذا صار العبد ضامناً سلامة البدل عند عدم سلامة نفسه كان للمشتري حق الرجوع على العبد بحكم الضمان، ويمكن جعل العبد ضامناً للسلامة؛ لأن البيع معاوضة يستحق به السلامة، فيمكن أن يجعل الآمر به ضامناً للسلامة على ما هو موجبه نفياً للغرور، ولا كذلك الرهن؛ لأنه شرع لملك الحبس من غير عوض ويصير يعارضه استيفاء ليس حقه من غير عوض، فلا يمكن أن يجعل الآمر به ضامناً للسلامة.
أو نقول: الثمن يجب بالبيع، فجاز أن يكون الآمر به ضامناً، أما الدين لا يجب بعقد الرهن بل هو واجب قبل عقد الرهن فلا يكون الآمر به ضامناً للسلامة، تم قول محمد رحمه الله في هذه المسألة، فإذا العبد حر يحتمل أنه أراد به حرية الأصل، ويحتمل أنه أراد به العتق المعارض، فإن كان المراد منه حرية الأصل يثبت أن التناقض لا يمنع صحة الشهادة على حرية الأصل؛ لأن العبد في دعوى الحرية ههنا متناقض، واختلف المشايخ فيه قال بعضهم: التناقض في حرية الأصل إنما لا تمنع صحة الشهادة؛ لأنه لو منع، منع من حيث إنه يعدم الدعوى إلا أن دعوى العبد في حرية الأصل ليس بشرط في الاتفاق، والخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله في العتق العارض.

وبعضهم قالوا: دعوى العبد شرط عند أبي حنيفة في حرية الأصل وفي العتق العارض إلا أن التناقض لا يمنع صحة الدعوى في حرية الأصل، فلا يمنع صحة الشهادة، وفي العتق العارض يمنع صحة الدعوى، فيمنع صحة الشهادة، وإن كان المراد مما ذكر في «الكتاب» العتق العارض ثبت أن التناقض في العتق (114ب3) العارض، لا يمنع صحة الدعوى عند أبي حنيفة؛ لأنه لا بد من دعوى العبد للقضاء بالحرية عند أبي حنيفة، والعبد في دعواه الحرية ههنا متناقض، والصحيح أن دعوى العبد عند أبي حنيفة شرط في حرية الأصل. وفي العتق العارض والتناقض لا يمنع صحة الدعوى وصحة الشهادة لا في حرية الأصل ولا في العتق العارض؛ لأن التناقض في حرية الأصل إنما لا يمنع لخفاء حالة العلوق، فإن الولد قد يجلب من دار الحرب صغيراً ولا يعلم بحرية أبيه وأمه، فبقي بالرق لم يعلم بحرية أبيه وأمه، فيدعي الحرية والتناقض فيما (طريقه) طريق الخفاء لا يمنع صحة الدعوى ولا يجزئ الخفاء في حرية الأصل، يجزئ في العتق العارض؛ لأن المولى بنفسه (أقر) بالإعتاق من غير علم العبد، فيجعل التناقض فيه عفواً أو

(7/30)


نقول التناقض إنما يؤثر فيما يحتمل النقض بعد ثبوته، فلا يكون التناقض فيه مانعاً صحة الدعوى وقبول البينة، ألا ترى أن التناقض في دعوى النسب لا يمنع صحته حتى إذا كذب المُلاعِنُ نَفْسَهُ ثبت منه كذلك ههنا والله أعلم.

الفصل السابع عشر: في مسائل الاستبراء
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا اشترى جارية وجب على المشتري أن يستبرئها بحيضة، والأصل في ذلك قوله عليه السلام في سبايا أوطاس «ألا لا توطأ الحبالى حتى تضعن، ولا الحيالى حتى تستبرأن بحيضة» والحكمة في ذلك تعرف براءة الرحم وصيانة ماء نفسه عن الخلط، والتحرز من أن يصير ساقياً ماؤه زرع غيره، لكن لا يمكن بناء الحكم على حقيقة هذا المعنى لبطونه، فبني الحكم على السبب الظاهر، وهو استحداث ملك الرقبة واليد؛ لأن الصيانة إنما تجب عليه في تلك الحالة؛ لأن بملك الرقبة يقدر على الفعل شرعاً وبملك اليد يقدر عليه حقيقة فيعلق الحكم به لهذا، وتعدي الحكم من المنصوص عليه وهي المسبية إلى المشتراة بهذه العلة، ويستوي على ظاهر الرواية أن يكون البائع ممن يطؤها أو لا يطؤها؛ لأن هذا الحكم بناء على استحداث حل الوطء بملك الرقبة واليد. وكذلك قال أبو حنيفة في الجارية: إذا كانت بكراً إنه يجب الاستبراء، وروي عن أبي يوسف رحمه الله: أنها إذا كانت بكراً وقد أحاط علم المشتري أنها لم توطأ لم يجب الاستبراء.
وفي «المنتقى» : رجل وهب جارية لابنه الصغير وسكنت في ملكه أربعة أشهر، ثم قومها على نفسه واشتراها، فلا استبراء عليه عند أبي يوسف، وقال أبو حنيفة: عليه الاستبراء وإن كانت ممن لا تحيض لصغر أو كبر استبرأها بشهر لقيام الشهر في غير ذات الحيض مقام الحيض، وفي ذوات الحيض كما في العدة، كما لا يجوز له أن يطأ ولا يقبلها ولا يلمسها بشهوة ولا ينظر إلى عورتها؛ لأن هذه الأشياء دواع في الوطء والداعي إلى الشيء يعطى له حكم ذلك الشيء، ويشترط في الاستبراء حيضة بعد استحداث ملك الرقبة واليد حتى إن الحيضة قبل القبض لا تجزئ بها عن الحيضة إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله ما ذكرنا أن هذا الحكم مبني على استحداث حل الوطء بملك الرقبة واليد جميعاً لا على حقيقة تعرف براءة الرحم.

ولو انقطع الحيض لعلة قال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يطؤها حتى تمضي مدة لو كان حاملاً طهر الحمل ثلاثة أشهر، وقال محمد رحمه الله: يعتبر أربعة أشهر وعشرة أيام، ثم رجع وقال: شهران وخمسة أيام، وقال زفر: سنتان. وروي «المعلى» عن أبي

(7/31)


يوسف في رجل اشترى جارية تحيض في السنة مرة واحدة، قال: عليه (السلام) «أن يستبرئها بحيضة» ، قيل له: قد كنت تقول قبل هذا بثلثة أشهر، قال: الآن أقول بخلاف هذا، فسئل عن من اشترى جارية مستحاضة لا يعلم حيضها كيف يستبرئها، قال: يدعها من أول الشهر عشرة أيام.

ولو ملك جارية حاملاً لا يطؤها (حتى) تضع حملها، أو بعد ما وضعت حملها لا استبراء عليه بالحديث الذي روينا، ولأن وضع الحمل في حق حصول المقصود وهو تعرف براءة الرحم فوق الحيضة، وإن وضعت حملها قبل القبض فعليه الاستبراء كما لو حاضت قبل القبض.
وإذا اشترى جارية لها زوج ولم يدخل بها فطلقها قبل أن يقبضها المشتري، فعلى المشتري أن يستبرئها بحيضة، هكذا ذكر في «الأصل» ، وفي كتاب «الحيل» : أنه لا استبراء على المشتري، فعلى رواية كتاب «الحيل» اعتبر وقت الشراء هي مشغولة بحق الغير، وعلى رواية الأصل اعتبر وقت القبض، وهو الصحيح؛ لأن وقت وجوب الاستبراء على المشتري وقت القبض، وهي وقت القبض فارغة عن حق الغير. وإن كان الزوج طلقها بعد قبض المشتري فلا استبراء على المشتري، وهذا هو الحيلة لاسقاط الاستبراء أن يزوجها البائع قبل البيع من رجل أو يزوجها المشتري بعد الشراء قبل القبض، ثم يقبضها المشتري، ثم يطلقها الزوج، فلا يجب الاستبراء على المشتري؛ لأن وقت وجوب الإستبراء وقت القبض هي مشغولة بحق الزوج فلا يجب عليه الاستبراء، وبعد ما طلقها زوجها صارت فارغة عن حقه لم يوجد السبب وهو استحداث حل الوطء باستحداث ملك الرقبة والوطء باليد.

قال الشيخ الإسلام شمس الأئمة الحلواني: إنما لا يجب الاستبراء على المشتري في هذه الصورة إذا كان البائع لا يطؤها أما إذا كان البائع يطؤها يجب الاستبراء تحرزاً عن سقي زرع غيره، وهكذا روى ابن سماعة في «نوادره» عن محمد.
والمذكور ثمة: رجل اشترى جارية لها زوج وقبضها، ثم طلقها الزوج قبل الدخول، فلا استبراء على المشتري إلا أن يكون البائع زوجها بعد وطئه إياها قبل أن تحيض، فإني لا أحب لهذا المشتري في هذه الصورة أن يطأها حتى تحيض حتى لا يجتمعان عليها في طهر واحد، وإن لم يكن يجد المشتري حرة فلإسقاط الاستبراء حيلة أخرى، وهو أن يتزوجها المشتري قبل الشراء، ثم يشتريها ويقبضها، فلا يلزمها الاستبراء؛ لأن النكاح يثبت له عليها الفراش، وقيام الفراش له عليها دليل شرعي على فراغ رحمها من ماء الغير.
وفي «المنتقى» : رجل تزوج أمةً، ثم اشتراها قال استحسن أن يستبرئها، رواه ابن سماعة عن محمد رحمه الله، وروي عن أبي يوسف وأبي حنيفة في هذه الصورة: أنه لا

(7/32)


استبراء عليه وكان الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني يقول: رأيت في كتاب الاستبراء لبعض المشايخ أنه إنما لا يجب الاستبراء على المشتري في هذه الصورة أن لو تزوجها ووطئها ثم اشتراها؛ لأنه حينئذ يملكها وهي مشغولة بعذر، فأما إذا استبرأها قبل أن يطأها وكما استبرأها يبطل النكاح فحال ثبوت ملك اليمين لا نكاح فيجب الاستبراء لتحقق (115أ3) سببه وهو استحداث حل الوطء بملك اليمين، وكان يحسنه ودقته رحمه.

وإذا باع جارية ولم يسلمها إلى المشتري حتى تارك المشتري البيع، فلا استبراء على البائع استحساناً، وإذا ردها بالعيب بعد القبض أو تقايلا بعد القبض فعلى المشتري أن يستبرئها بحيضة، وإذا رجعت الآبقة أوردت المغصوبة أو فكت المرهونة أو عجزت المكاتبة أو انقضت الإجارة لم يكن على المولى أن يستبرئها بلا خلاف. وإذا كان الخيار للمشتري فردها بعد القبض فليس على البائع أن يستبرئها عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما، فإذا رد القاضي المبيع على البائع لفساد البيع، عليه أن يستبرئها.
وإذا باع الغاصب الجارية المغصوبة من رجل وقبضها المشتري، ثم استحقها المالك إن لم يكن المشتري وطئها قبل الاستحقاق فلا استبراء على المالك قياساً واستحساناً، وإن كان قد وطئها إن علم بحالها أنها مغصوبة فلا استبراء على المالك قياساً واستحساناً أيضاً، وإن لم يعلم بحالها مغصوبة فالقياس أن لا يجب الاستبراء على المالك، وفي الاستحسان يجب.
وإذا زوج الرجل أمته من إنسان، ثم مات الزوج عنها، فله أن يجامعها بعد مضي العدة ولا استبراء عليه، وإن طلقها الزوج بعد الدخول بها، فله أن يجامعها بعد مضي العدة والاستبراء عليه، وإن طلقها الزوج قبل الدخول بها، فإن كان المولى لم يستبرئها بعد ما قبضها بحكم الشراء ولم تحض عند الزوج فعليه الاستبراء، وإن كانت قد حاضت عند الزوج فلا استبراء على المولى (إن كان) قد استبرأها بعد ما قبضها، ثم زوجها وطلقها قبل الدخول بها ولم تحض في يد الزوج فلا استبراء على المولى هو الصحيح.
وإذا تزوج جارية وكان الزوج يطأها لم يكن على الزوج استبراء في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: يستبرئها بحيضة استحساناً كيلا يؤدي إلى اجتماع الرجلين على امرأة واحدة في طهر واحد، ولأبي حنيفة: أن عقد النكاح متى صح تضمن العلم ببراءة الرحم شرعاً، وهو المقصود من الاستبراء.

وإذا أراد الرجل أن يبيع أمته وقد كان يطؤها يستحب أن يستبرئها ثم يبيعها. وإذا أراد الرجل أن يزوج أمته من إنسان يطؤها، بعض مشايخنا قالوا: يستحب أن يستبرئها بحيضة ثم يزوجها كما لو أراد بيعها، والصحيح أن ههنا يجب الاستبراء، وإليه مال الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، بخلاف ما إذا أراد أن يبيعها. والفرق: أن في فصل البيع يجب الاستبراء على المشتري، فيحصل المقصود به، فلا معنى للإيجاب على البائع، أما في فصل النكاح لا يجب الاستبراء على الزوج ليحصل به معنى الصيانة، فمست الحاجة إلى إيجابه على المولى.

(7/33)


وفي «المنتقى» الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: كره للرجل أن يبيع جارية كان يطؤها حتى يستبرئها بحيضة، وإن كانت لا تحيض أبداً أو كانت آيسة فبشهر، وإن ارتفع حيضها بعد الوطء فبأربعة أشهر، وإن جامعها في الحيض فلا يبيعها حتى تطهر من حيضة.
وإذا زنت أمة الرجل فليس عليه استبراء في قول أبي حنيفة، وقال محمد: أحب إلي أن لا يطأها حتى يستبرئها بحيضة، وروي عن محمد رحمه الله رواية أخرى أنه قال: يجب عليه الاستبراء، وإن حبلت من الزنا لم يقربها حتى تضع حملها.
وإذا كانت الجارية بين رجلين اشترى أحدهما من صاحبه نصيبه، فعليه الاستبراء. وإذا وطىء الرجل أمته ثم اشترى أختها فله أن يطأ الأولى، وليس له أن يطأ الثانية إذا اشتراها كيلا يصير جامعاً ماءه في رحم أختين، وإن لم يكن وطء الأولى فله أن يطأ أيتهما شاء، وإن وطئهما أو قبلهما أو لمسهما بشهوة أو نظر إلى فرجهما فقد أساء؛ لأنه ارتكب المحرم وهو الجمع بينهما في حق الوطء والدواعي ولا يطأ واحدة منهما بعد ذلك حتى يزول ملك الوطء عن الأخرى حتى ذكر في «الأصل» ، وفي «نوادر هشام» قال: سمعت محمداً رحمه الله يقول في رجل عنده أختان وطئهما ثم باع إحديهما، فإن لم يستبرئ التي باعها بحيضة قبل أن يبيعها، فإنه لا يقرب هذه حتى تحيض، وروى بشر عن أبي يوسف: رجل عنده أمتان أختان وطء إحداهما، فلا ينبغي له أن يطأ الأخرى حتى تحيض الموطوءة حيضة ويخرجها عن ملكه، وفي قول أبي حنيفة: إذا أخرجها عن ملكه وطء الأخرى. وفي «القدوري» : ذكر المسألة في غير ذكر خلاف، فقال: إذا أخرج التي وطىء عن ملكه جاز له أن يطأ الأخرى؛ لأن المحرم هو الجمع في الوطء وقد زال ذلك بإبطال ملك المتعة والله أعلم.

الفصل الثامن عشر: في بيع الأب والوصي والقاضي مال الصبي وشرائهم له
الواحد لا يصلح عاقداً من الجانبين في عقود المعاوضات لما فيه من رجوع الحقوق المضادة والأحكام المتنافية إلى الواحد، فإن البيع يوجب ضد ما يوجبه الشراء من الأحكام، قالوا الواحد إذا صار بائعاً ومشترياً يرجع إليه أحكام متضادة، ألا ترى أنه يصير مطالِباً ومطالَباً مسلماً ومتسلماً مستزيداً ومستنقصاً، وإنه ممتنع بحال، ولأن المعاوضة توجب حقاً لكل واحد من المتعاقدين على صاحبه، فالواحد إذا صار بائعاً ومشترياً وجب الحق له على نفسه، وأنه ممتنع، والقياس في الأب كذلك، حتى لا يجوز بيع الأب ماله من أبيه الصغير وشراء مال ابنه الصغير لنفسه لما قلنا من الاستحالة، إلا أنهم استحسنوا وجوزوا ذلك، وطريقه أن يجعل الأب رسولاً عنه في التصرف وأمكن جعل الأب رسولاً عنه في التصرف لانتفاء التهمة عن تصرفه مع نفسه بسبب كمال الشفقة، وعبارة الرسول عبارة المرسل، فصار العقد قائماً بعبارتين معنى، كأن الأب باع

(7/34)


من ابنه وهو بالغ، ثم تحمل العهدة عليه بحكم الأبوة لعجزه عنها، فلا يؤدي إلى التضاد في الأحكام؛ لأنه إنما يؤدي إلى التضاد في الأحكام أن لو كان لخوف العهدة للأب بحكم العقد، ولهذا لو بلغ الصبي كان العهدة عليه بخلاف الوكيل؛ لأنه لم يوجد في حق الوكيل سبب لحمل العهدة عليه سوى العقد، فكان الخوف العهدة بحكم العقد فجاء التضاد، أما هنا فبخلافه على أنا نقول بأن هذا العقد لا يوجب التسلم والتسليم والمطالبة فلا يتحقق من التضاد في الأحكام.

واختلف المشايخ في أنه هل يشترط لتمام هذا العقد الإيجاب والقبول، والصحيح أنه لا يشترط حتى أن الأب لو قال: بعت هذا من ولدي فلان بكذا، وقال: اشتريت من مال ولدي هذا بكذا، فإنه يتم العقد، ولا يشترط أن يقول: بعت هذا من ولدي واشتريت، وإليه أشار محمد رحمه الله في «الزيادات» ، وهذا لأنه لا معتبر بالقبول عند وجود الرضا كما في فصل التعاطي، والرضا يتم بقوله: بعت هذه العين من ولدي، فلا يعتبر القبول (115ب3) ويجوز هذا البيع من الأب بمثل القيمة وبما يتغابن الناس فيه، وروى الحسن عن أبي حنيفة: أنه لا يجوز إلا بمثل القيمة، فعلى هذه الرواية لم يتحمل الغبن اليسير من الأب في تصرفه في الوجهين جميعاً، ووجهه: أن الغبن اليسير إنما يتحمل في تصرفه مع الإيجاب؛ لأن التحرز عنه غير ممكن، هذا المعنى موجود في تصرفه مع نفسه، والجواب الأب عند انعدام الأب بمنزلة الأب.
ولو كان له ابنان صغيران فباع مال أحدهما من الآخر بأن قال: بعت عبد ابني فلان من ابني فلان جاز؛ لأنه لو باع مال أحدهما من نفسه يجوز، فكذا إذا باع من الآخر، وإذا أتلفا فالعهدة عليهما هو الصحيح؛ لأن لحوق العهدة الأب بطريق التحمل عنهما لعجزهما عن التحمل بأنفسهما، وبالبلوغ ارتفع العجز، فكانت العهدة عليهما. وفي «الهارني» وفي الثمن لزم الأب شراء مال ولده الصغير ولا يبرأ الأب منه حتى ينصب القاضي وكيلاً من الصغير، فيقبضه عن الأب للصغير، ثم بعد قبضه بأمر القاضي يرده على الأب حتى يكون في يده عن ابنه وديعة.

وفي «الفتاوى» : الأب إذا باع مال الصبي من أجنبي بمثل القيمة، فالمسألة على ثلاثة أوجه: إن كان الأب محموداً عند الناس أو كان مستور الحال يجوز حتى لو كبر الأبن لم يكن له أن ينقضه؛ لأن الأب له شفقة كاملة ولم يعارض هذا المعنى معنى آخر، فكان هذا البيع نظراً فيجوز، وإن كان فاسداً عند الناس إن باع العقار لا يجوز حتى لو كبر الأبن له أن ينقضه. قال الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» : هو المختار إلا إذا كان جبراً للصغير بأن باع بضعف قيمته؛ لأنه عارض ذلك المعنى معنى آخر فلم يكن هذا البيع نظراً. وإن باع ما سوى العقار من المنقولات ففيه روايتان: في رواية: يجوز ويؤخذ الثمن منه ويوضع على يدي عدل، وفي رواية: لا يجوز إلا إذا كان جبراناً للصغير، قال الصدر الشهيد رحمه الله: هو المختار.
وفي وصايا «المنتقى» إبراهيم عن محمد رحمه الله: بيع الأب المفسد جائز،

(7/35)


فيؤخذ الثمن منه ويوضع على يدي عدل من غير فصل بين العقار والمنقول.
الوصي إذا باع مال اليتيم من نفسه أو باع مال نفسه من اليتيم، فعلى قول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أبي يوسف إذا كان فيه منفعة ظاهرة لليتيم يجوز، وإن لم يكن فيه منفعة ظاهرة لليتيم لا يجوز. وعلى قول محمد وأظهر الروايات عن أبي يوسف: لا يجوز بحال.

وتكلموا في تفسير المنفعة الظاهرة على قول أبي حنيفة، بعضهم قالوا: أن يبيع من الصبي من مال نفسه ما يساوي ألف درهم بثلثمائة ويبيع مال الصبي من نفسه ما يساوي ثمان مائة بألف درهم، وقال بعضهم: أن يبيع من الصبي من مال نفسه ألف درهم بخمسمائة، ويبيع من مال الصغير ما يساوي خمسمائة بألف، وبعضهم قالوا: أن يبيع من مال الصبي من نفسه ما يساوي ألفاً بألف وخمسمائة. والصحيح قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الوصي مختار الأب بعد وفاته، وهو حال عجزه عن المراقبة بنفسه له الاستقصاء في النظر واختيار من هو أشفق الناس على الصغير، فنزل الوصي منزلة الأب إلا أن شفقة الوصي لا تكون نظير شفقة الأب، فشرط في تصرفه مع نفسه المنفعة الظاهرة، ولم يشترط في تصرف الأب مع نفسه المنفعة الظاهرة.

ثم إذا جاز بيع الوصي من نفسه على قول أبي حنيفة هل يكتفي بقوله: بعت أو اشتريت كما في الأب أو يحتاج إلى الشطرين؟ لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في شيء من الكتب، وذكر الناطفي رحمه الله في «واقعاته» : أنه يحتاج فيه إلى الشطرين بخلاف، وذكر للفرق ثمة وجهاً فقال: ولاية الأب تثبت شرعاً بلا قبول، فكذا يجوز بيعه بلا قبول، وولاية الوصي ما يثبت شرعاً بلا قبول، فكذا لا يجوز بيعه بلا قبول. قال الناطفي ثمة: رأيت هذه المسألة فيما علق على ابن الحسن، فكأنه أبو الحسن الكرخي رحمه الله.
وفي «واقعات الناطفي» أيضاً: الوصي إذا أمره إنسان أن يشتري أشياء من مال الصغير، فاشتراه له لا يجوز، بخلاف ما إذا اشتراه لنفسه على قول أبي حنيفة رحمه الله، والفرق: أنه إذا اشتراه فحقوق العقد من جانب اليتيم راجع إلى اليتيم، ومن جانب الوصي راجع إليه، فلا يؤدي إلى التضاد، وإذا اشترى لغيره فحقوق العقد من جانب اليتيم راجعة إلى الوصي ومن جانب الآمر كذلك فيؤدي إلى التضاد.
الصبي المأذون إذا باع من مال نفسه فهو كبيع الوصي بنفسه، فقد اعتبر في تصرفه مع الوصي جهة النيابة عن الوصي تولاه بنفسه، ولو باع الصبي المأذون من الأجنبي بغبن فاحش يجوز عند أبي حنيفة في تصرفه مع الأجنبي جهة المالكية والأصالة لا جهة النيابة، فإن الوصي لو باع مال الصغير من أجنبي بغبن فاحش لا يجوز، هما اعتبرا جهة النيابة في تصرفه مع الأجانب أيضاً حتى قالوا: لو باع الصبي ماله من أجنبي بغبن فاحش لا يجوز ولو باع الوصي.
القاضي إذا باع مال اليتيم من نفسه ذكر في «السير» أنه لا يجوز، وأشار في المعنى

(7/36)


فقال: لأن بيعه منه نوع قضاء وهو إنما استفاد القضاء من جهة غيره وما تم ذلك إلا به وبغيره، فكذا العقد الذي يعقده القاضي لا يتم إلا به وبغيره. وذكر الناطفي في كتاب «الأجناس» أن ما ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» من عذر جواز بيع القاضي مال اليتيم من نفسه، فكذلك قوله خاصة أما على قول أبي حنيفة رحمه الله ينبغي أن يجوز.
وروى بشر عن أبي يوسف: أن القاضي إذا اشترى من متاع اليتيم لنفسه شيئاً، فهو بمنزلة الوصي، فإذا رفع إلى قاض آخر نظر فيه، فإن كان خيراً لليتيم أجازه وإلا لم يجزه، وأكرهُ القاضي شراءه.
l
الأب إذا اشترى لابنه الصغير شيئاً ونقد الثمن من مال نفسه وأشهد على نفسه أنه إنما نقد عنه ليرجع في ماله، ذكر في بيوع «الإملاء» ، وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: أن له الرجوع عليه، واختلفت الروايات في اعتبار وقت الإشهاد. قال في بيوع «الإملاء» : يعتبر الاشهاد وقت الشراء، وقال في «نوادر ابن سماعة» : يعتبر الإشهاد وقت نقد الثمن. وإن نقد عنه الثمن ولم يشهد على الرجوع، فإنه لا يرجع به على الأبن، نص عليه في بيوع «الإملاء» .

وفي «نوادر رستم» عن محمد رحمه الله (116أ3) إذا لم يشهد الأب على الرجوع لكن نوى الرجوع ونقد الثمن على هذه النية وسعه الرجوع فيما بينه وبين الله تعالى، ولو كان مكان الأب وصياً فله حق الرجوع ليشهد له الرجوع على ذلك أو لم يشهد، وكذلك الجواب في مهر امرأة الأبن الصغير.
وروى بشر عن أبي يوسف في رجل اشترى داراً لابنه الصغير، فعلى الأب أن ينقد الثمن، وإن مات قبل أن ينقده فهو في ماله خاصة ولا يرجع به في مال الأبن، قال: وما يشتري الأب يرجع به عليه يرجع بثمن الكسوة والطعام عليه، كذلك كل دين لزم الصبي في حاجته فضمنه الأب وأداه لم يرجع على الأبن استحساناً وهو متطوع فيه.
ولو اشترى لابنه داراً وأشهد عند عقده البيع أنه يرجع عليه بالثمن كان له أن يرجع به عليه، وكذلك كل شيء يشتريه مما لا يجبر الأب عليه، وكذلك كل دين كان على الأبن، فضمنه الأب يريد أنه إذا أشهد أنه يرجع عليه إذا أداه.
وفي «المنتقى» عن أبي يوسف أن ما اشتراه الأب لابنه إن كان شيئاً يجبر الأب عليه مما كان طعاماً أو كسوة ولا مال للصغير لا يرجع الأب عليه، وإن أشهد أنه يرجع عليه كان له أن يرجع.
وإن لم يشهد لا يكون له أن يرجع وعن أبي حنيفة رحمه الله فيما إذا اشترى داراً أو ضيعة أو مملوكاً لابنه الصغير إن كان للابن مال، فالرجوع على التفصيل الذي ذكرنا، وإن لم يكن له مال لا يرجع عليه أشهد عليه أو لم يشهد، وكان هذا صلة منه لابنه. وروى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أن الأحب إذا اشترى لابنه الصغير في صحته ونقد الثمن في مرض موته لا يرجع على الابن بشيء؛ لأن الذي تبرع به الأب على الابن الثوب وقد أمضاه في حالة الصحة.
وفي «نوادر هشام» عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله: الأب إذا باع لابنه

(7/37)


الصغير ما ثمنه عشرة بدرهم جاز، وإن اشترى له ما ثمنه درهم بعشرة لا يجوز، وفي «الأصل» سوى بين البيع والشراء فلم يجوزهما في هذه الصورة وأشباهها؛ لأن تصرف الأب مقيد بشرط عدم الضرر فقد تحقق الضرر ههنا. وعلى هذه الرواية فرق بين البيع والشراء، فلم يجوز الشراء لمكان التهمة؛ لأن الأب يضيف الشراء إلى نفسه من حيث إنه اشترى لنفسه، فلما وجد فيه عيباً أظهر الشراء للابن، ومثل هذه التهمة لا يجوز ... في جانب البيع، والداعي إلى النفاذ موجود لينفذ.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: في رجل باع عبد ابنه الصغير من رجل بألف درهم، ثم قال في مرضه: قد قبضت من فلان الثمن، ثم مات في مرضه لم (أقبل) إقراره، علل فقال: لأنه كان ضمن لابنه ألف درهم في مرضه أو أقر بها له في ماله، ومعنى هذا الكلام أن الأب بإقراره بالاستيفاء من المشتري أقر للابن بمقدار الثمن في ماله، وإقرار المريض لابنه لا يرجع، فصار وجوده كعدمه، وكان للوصي أن يأخذ الثمن من المشتري كما لو لم يوجد هذا الإقرار من المريض. ولو كان قال في مرضه: قد قبضتها من فلان فضاعت كان مصدقاً، ولو قال: قبضتها واستهلكتها لم يكن مصدقاً ولا يبرأ المشتري منها؛ لأنه لما ادعى الضياع مما أقر للابن شيئاً من ماله بخلاف ما إذا ادعى الاستهلاك، ولا يكون للمشتري إذا أخذ منه الثمن أن يرجع به على الأب أو في ماله؛ لأن ذلك الإقرار قد بطل، وإقرار قد بطل لا شيء عليه الحكم.

وفي «المنتقى:» اشترى من ابنه الصغير عبداً والعبد في يد الأب، فمات العبد فهو من مال الأبن حتى يأمره الوالد بعمل أو بقبضه بمنزلة عبد اشتراه وهو وديعة عنده، وهذا؛ لأن العبد في يد الأب أمانة وقبض الأمانة لا ينوب عن قبض الشراء.

وفي الباب الثاني من بيوع «الجامع» : إذا أرسل غلامه في حاجته، ثم باعه من ابنه الصغير جاز ولا يصير الأب قابضاً عن ابنه بمجرد البيع، حتى لو هلك قبل أن يرجع إلى الوالد، فذلك من الوالد، بخلاف ما إذا وهبه منه حيث يصير قابضاً له عن الأبن بقض الهبة حتى لو هلك الغلام قبل أن يعود، فذلك من مال الولد، وإن لم يمت الغلام في مسألة البيع حتى رجع إلى الوالد وتمكن من قبضه صار قابضاً له عن ولده، وإن كان الولد لم يبلغ بعد، وإن لم يرجع الغلام حتى بلغ الولد، ثم رجع إلى الولد وتمكن الوالد من قبضه لا يصير قابضاً له عن ولده حتى لو هلك هلك على الوالد.
والأصل أن الأب إذا اشترى لابنه الصغير شيئاً، فما دام الأبن صغيراً فحق القبض للأب، وإذا بلغ الأبن كان الأب قد اشترى من الأجنبي فحق القبض للأب، وإن كان قد اشترى من نفسه فحق القبض للابن.
وفي «الهاروني» : إذا باع الأب داره من ابنه في عياله والأب ساكن فيها لا يصير الأب قابضاً حتى يفرغها الأب، حتى لو انهدمت الدار والأب فيها يكون من مال الأب،

(7/38)


وكذلك لو كان فيها متاع الأب أو عياله وهو غير ساكن فيها، فإن فرغها الأب صار الابن قابضاً، فإن عاد الأب بعد ما تحول عنها فسكنها أو جعل فيها متاعاً له أو سكنها عياله وكان عيناً صار بمنزلة الغاصب.
وفيه أيضاً: لو باع الأب من ابنه الصغير جبة له وهي على الأب أو طيلساناً هو لابسه أو خاتماً في أصبعه لا يصير الابن قابضاً حتى ينزع الأب ذلك، وكذلك الدابة والأب راكبها حتى ينزل عنها. ولو قال الأب: اشهدوا أني قد اشتريت جارية ابني هذه بألف درهم وابنه صغير في عياله جاز الشراء وصار الأب قابضاً للجارية إن كانت في يده والثمن دين عليه لا يبرأ إلا بالطريق الذي قلنا.
قال في «الزيادات» : وصي اليتيمين إذا باع مال أحدهما من الآخر لا يجوز، أما على قول محمد وأظهر الروايات عن أبي يوسف فلا والوصي إنما يقوم بالعقد في الطرفين باعتبار منفعة ظاهرة لا يظهر النفع في حق أحدهما، إلا بظهور الضرر في حق أحدهما. وكذلك لو أذن الوصي لهما في التصرف فباع أحدهما مالاً من الآخر لم يجز، وكذلك لو أذن لعبدين (أو) يتيمين بالتصرف فباع أحدهما ماله من الآخر لم يجز؛ لأنهما استفادا الولاية من جهة الوصي، والوصي لو فعل ذلك بنفسه لا يجوز فكذا إذا فعل من استفاد الولاية من جهته.

وفيه أيضاً: إذا وكل الأب رجلاً ببيع عبد له من ابنه أو بشراء عبد الابن للأب والابن صغير لا يعبر عن نفسه، ففعل الوكيل ذلك لا يجوز لما ذكرنا أن الواحد لا يصلح عاقداً من الجانبين في عقود المعاوضات، وإنما ورد الشرع به في حق الأب بجعل الأب رسولاً بحكم كمال الشفقة، وليس للوكيل مثل تلك الشفقة فلا يصير رسولاً فيكون العقد قائماً بعبارة واحدة، فإن كان الأب حاضراً فقبل من الوكيل (116ب3) جاز وتكون العهدة من جانب الابن على الأب ومن جانب الأب على الوكيل، وقيل على العكس؛ لأن جعل الأب متصرفاً عن نفسه أولى؛ لأن الأصل في الإنسان (أن تكون) متصرفاً لنفسه والأول أصح؛ لأن تصرف الأب عن نفسه مباح وعن الصغير فرض وإيقاع تصرفه عنه أولى من إيقاعه عما هو مباح.
ولو كان له ابنان وكل رجلاً حتى باع مال أحدهما من الآخر لا يجوز، قال في «الكتاب» : ألا ترى أنهما لو كانا كبيرين، فوكلا رجلاً حتى باع أحدهما من الآخر لا يجوز، وهذا جواب عن سؤال لم يذكر أن الوكيل قائم مقام الموكل. والأب لو باع مال أحدهما من الآخر يجوز، فإذا وكل رجلاً بذلك يجب أن يجوز، أشار بما ذكر من الاستشهاد إلى أنه يجوز أن يملك إنسان مباشرة تصرف نفسه ولا يملك تفويضه إلى غيره.

ولو وكل الأب رجلاً بالبيع ووكل رجلاً آخر بالشراء فتبايع الوكيلان يجوز؛ لأن العقد قائم بالاثنين وزالت الاستحالة، وذكر هشام أن الأب إذا اشترى عبد ابنه الصغير لنفسه شراء فاسداً فمات العبد قبل أن يستعمله الأب أو يقبضه أو يأمره بعمل مات من مال الصغير لما عرف أن البيع الفاسد لا يفيد الملك بنفسه بل يتوقف ذلك على القبض،

(7/39)


وبالتخلية لا يجعل قابضاً بل يشترط القبض الحسي الذي يصير به غاصباً مال الغير حتى يصير مضموناً بالقيمة فيملكه بها، وذكرنا قبل هذا أن بالتخلية في البيع الفاسد يقع القبض.
ولو باع عبده من ابنه الصغير بيعاً فاسداً، ثم أعتقه الأب جاز عتقه؛ لأنه لا يخرج عن ملك الأب بمجرد البيع، فقد أعتق ملك نفسه فينفذ عتقه.
وفي نوادر ابن سماعة عن محمد: لا يجوز (تفريع هلى قوله: ثم أعتقه الأب جاز عتقه) أو ولد المعتق عليه حتى تمضي سنة منذ يوم صار معتوقاً، قال: ولا أحفظ فيه عن أبي حنيفة وأبي يوسف شيئاً، قال ابن سماعة: كان محمد رحمه الله وقت ذلك شهراً، ثم بعده رجع عن ذلك ووقته لسنة، وكل جواب عرفته في المعتق فهو الجواب في المجنون؛ لأنهما يستويان في حق الأحكام.
وفي «نوادر هشام» عن محمد: وصي يتيم باع غلاماً لليتيم قيمته بألف درهم على أن الوصي بالخيار، فإن زادت قيمة العبد في مدة الخيار فصارت ألفي درهم فليس للوصي أن ينفذ البيع، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف.

وفي «الأمالي» عن محمد: رجل مات وعليه دين وترك عبداً، لا مال له غيره وترك ابناً صغيراً أو كبيراً، لا وارث له غيره، وقيمة العبد أكثر من الدين، فباع القاضي العبد بغير مائة واشترط الخيار ثلاثاً، فأجاز الابن البيع وهو كبير، فإجازته باطلة إلا أن يقضي الدين، وإن مات الابن في وقت الخيار انتقض البيع.

ولو أن وصي يتيم باع عبداً لليتيم واشترط الخيار ثلاثة أيام، ثم مات اليتيم في وقت الخيار جاز البيع، وكذلك الوالد، وعلل فقال: لأن العبد ههنا بيع للصغير، وفي الوجه الأول بيع لغير مولاه، أراد بالوجه الأول فصل بيع القاضي.
قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : اشترى الأب لابنه الصغير من مال الصغير ذات رحم محرم من الصغير لا ينفذ على الصغير؛ لأن تصرف الأب من مال الصغير مقيد بقيد النظر والأحسن، وليس من النظر للصغير أن يشتري له من يعتق عليه، فلا ينفذ على الصغير ولكن ينفذ على الأب. وكذلك لو اشترى لابنه الكبير المعتوه من مال المعتوه ذات رحم محرم من المعتوه لا ينفذ على المعتوه ولا ينفذ على الأب فبعد ذلك إن كان المشترى قريباً من الأب عتق على الأب بحكم قرابته، وإن كان أجنبياً عنه كأم الصغير والمعتوه أو اختهما لا يعتق عليه، والوصي فيما ذكرنا نظير الأب لكونه قائماً مقام الأب.
ولو اشترى الأب والوصي للمعتوه جارية قد كان استولدها بحكم النكاح، القياس أن لا يجوز على المعتوه، وبالقياس أخذ محمد.
ووجهه أنه لو صح هذا الشراء على المعتوه تضرر به المعتوه، وفي الاستحسان: يجوز على المعتوه بشراء واحدة من ذلك؛ لأن فيه نظراً للمعتوه؛ لأنه يدخل في ملكه من يطؤها ويقوم بخدمته، وشراء هذه أنفع له؛ لأنها أشفق عليه وأهدى إلى خدمته. والمحققون من مشايخنا قالوا: وجه القياس: لأن هذه الحاجة تندفع بالمنكوحة وبالجارية

(7/40)


التي ينكر بيعها، فلا حاجة إلى شراء هذه، وفيه ضرر بالمعتوه على نحو ما بينا.

واستقبح محمد رحمه الله قول من أخذ بالاستحسان، وقال: من أخذ بالاستحسان يجوز هذه التصرف في الواحدة لا فيما زاد عليها، وهذا أمر قبيح؛ لأن هذا التصرف إن كان داخلاً في ولاية الأب لم يتقيد بالواحدة، وإن لم يكن داخلاً لم يتقيد في الواحدة. ومشايخنا أجابوا عن هذا وقالوا: جواز هذا الشرط ودخوله في ولاية الأب والوصي باعتبار حاجة المعتوه بالواحدة تندفع حاجته، فلا يجوز شراء غيرها، وروي عن محمد في «الأمالي» أنه رجع إلى الاستحسان.

ومما يتصل بهذا الفصل
المريض إذا باع ما يساوي ألف درهم بخمسائة من الأجنبي ولا مال سواه يصير محابياً بقدر خمسمائة فتنفذ المحاباة بقدر الثلث، ثم يقال للمشتري: إما أن يبلغ الثمن إلى تمام ثلثي الألف ولا ترد شيئاً من المبيع، وإما أن تفسخ العقد، وهذا إذا لم يكن على الميت دين، فإن كان على الميت دين محيط بماله، فإنه لا تنفذ محاباته في حق الغرماء أصلاً، لا فيما زاد على الثلث ولا بقدر الثلث، ولا يتحمل منه لا الغبن الفاحش ولا الغبن اليسير، غير أن في حق الغرماء لا يصح أصلاً، وفي حق الوارث يعتبر من الثلث، وهذا لأن المريض مرض الموت يتصرف في محل يتعلق به حق الغير وهو الغريم والوارث، ولم يؤخذ منهم الأمر بالتصرف، إما لأنه لا يتفرغ لذلك بشغله بنفسه، أو لأنه لا يقدر على ذلك إلا أن الشرع رخص له في التصرف على وجه يؤدي في إبطال حق الغير، وبالرخص قد يتعلق حقان وبما يتعذر الاحتراز عنه بخلاف المطلوب فلا يتحمل منه لا اليسير ولا الفاحش.

وإذا باع عيناً من أعيان ماله من وراث عند أبي حنيفة لا يصح أصلاً من غير إجازة باقي الورثة سواء حابى أو لم يحاب، باع بمثل القيمة أو بأضعاف القيمة؛ لأنه وصية ولباقي الورثة حق القبض، وعندهما يصح البيع بمثل قيمته وبأضعافها. والوارث إذا باع عيناً من أعيان ماله من الورثة للمريض بمثل القيمة، فكذلك الجواب عند أبي حنيفة في «المأذون الكبير» لشيخ الإسلام في باب إقرار العبد لمولاه، فإن باع المريض من وارثه شيئاً حابى. ذكر شيخ الإسلام في شرح المأذون: أن عندهما لا تصح المحاباة أيضاً أجازت الورثة أم لم يجيزوا، ويقال للمشتري: إما أن يبلغ الثمن إلى تمام القيمة، وإلا يفسخ.
وفي «الزيادات» : أن نفس البيع من الوارث لا يصح من غير إجازة (117أ3) الورثة عند أبي حنيفة، وعندهما يصح من غير إجازة الوارث والمحاباة مع الوارث لا تصح إلا بإجازة باقي الورثة وهو الصحيح؛ لأن المحاباة وصية بلا خلاف، والوصية للوارث لا يجوز إلا بإجازة بقية الورثة بلا خلاف.

(7/41)


الفصل التاسع عشر: في كراهة التفريق بين الرقيق
الأصل أن من ملك شخصين بينهما قرابة مؤكدة بالحرمة، فلا ينبغي أن يفرق بينهما في البيع إلا إذا كان أحدهما صغيراً به ورد الأثر والمعنى دفع الضرر عن الصغير؛ لأن الصغير يستأنس بالكبير، والكبير يقوم تبعاً هذه، ففي التفريق بينهما إيحاش الصغير وإضرار به، وكذلك إذا كانا صغيرين؛ لأن كل واحد منهما يستأنس بصاحبه ويستوحش بمفارقته، وإن كانا كبيرين فلا بأس بالتفريق بينهما؛ لأن كل واحد من الكبيرين يقوم تبعاً هذه، ولا يلتفت إلى تعاهد الآخر ولا يستأنس به، فليس في التفريق بينهما إلحاق الضرر بأحدهما، وهذا الحكم في القرابة المؤكدة بالمحرمية حتى إذا اجتمع في ملك رجل زوجان لا بأس بأن يفرق بينهما، سواء كانا صغيرين أو كبيرين، أو كانا أحدهما صغيراً والآخر كبيراً، وكذا إذا اجتمع في ملك رجل شخصان هما ذوا رحم وليسا بذوي محرم كابني الخال وابني العم فلا بأس بالتفريق بينهما، وكذا إذا كانا ذوي محرم بالرضاع أو بالصهرية وليسا بذي رحم فلا بأس بالتفريق؛ لأن كراهة التفريق عرفت بالآثار وإنها وردت في القرابة المؤكدة بالمحرمية، فهذه الكراهية تمتد إلى وقت البلوغ في ظاهر مذهب أصحابنا وجد الرضا بالتفريق أو لم يوجد.
فبيانه فيما روى ابن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: رجل له أمة وابنتها وهي لم تبلغ فأراد بيعها بموضع ورضيت الأم بذلك والأبنة قال: أكره التفريق بينهما، وكذا إذا كان ثمة أبوان ورضيا بذلك.
وقال بعض مشايخنا: إذا راهق الصغير ورضيا أن يفرق بينهما، فلا بأس بالتفريق بينهما وعن أبي يوسف روايتان: في رواية إذا رضوا بذلك فلا بأس بالتفريق ولم يشترط على هذه أن يكون الصغير مراهقاً. وفي «نوادر بشر» عنه إذا رضوا بذلك جميعاً والأبنة مراهقة فلا بأس به.
وإذا اجتمع مع الصغير أبواه فلا ينبغي أن يفرق بينه وبينهما ولا بينه وبين أحدهما؛ لأن نفعهما مختلف وشفقتهما متفاوتة.

وإذا اجتمع مع الصغير أمه وخالته، فلا بأس بأن يمسك الأم ويبيع الخالة؛ لأن الأم أقرب وشفقتها مغنية له عن غيرها إلا أن تكون الخالة صغيرة فحينئذ يكره بيع الخالة لما فيه من التفريق بينها وبين أختها. وكذلك إذا كان مع الصغير أمه أو عمته أو جدته من قبل أبيه أو من قبل أمه، فلا بأس بأن يمسك الأم ويبيع من سواها، وكذلك إذا كان مع الصغير أمه أو عمته أو جدته من قبل ابيه أو قبل أمه فلا بأس بأن يمسك الأم ويبيع من سواها، وكذلك إذا كان مع الصغير أمه أو أخته أو أخوه فلا بأس بأن يبيع الأخ والأخت والجدة من قبل الأم أو الأب نظير الأم حتى إذا اجتمع مع الصغير جدته وعمته أو خالته أو أخوه أو أخته، فلا بأس بأن يمسك الجدة ويبيع من سواها، ذكر هذه المسائل على هذا الترتيب في «الزيادات» . والحاصل أن على رواية

(7/42)


«الزيادات» إذا كان مع الصغير أمه لا بأس بأن يمسك الأم مع الصغير ويبيع من سواها إلا الأب فإنه لا يبيع الأب وإن كان مع الصغير أمه.

وفي «نوادر هشام» قال: سألت محمداً عن الصغير إذا كان معه أمه أو عمته هل يبيع العمة قال: لا، وإذا كان مع الصغيرة أمها وأخوات لأب لا يبيع واحدة منهن حتى تحبل أو تحيض أو تستكمل سبعة عشر سنة.
وفي «المنتقى» قال أبو يوسف: أفرق بين الصبي وجميع قرابته إذا كان معه أبوان، وإذا كان معه أحدهما فرق بينه وبين من كانت قرابته من قبل الحمى دون من كانت قرابته من الميت حتى أنه إذا كان مع الصغير أبوه وخاله لم أبع الخال، وإن كان مع الأم عمة لم أبع العمة.
قال في «الزيادات» : وإذا كان مع الصغير أخ لأب لأم لا يبيع واحداً منهما، وكذلك إذا كان مع الصغير أخت لأب وأخت لأم لا يبيع واحدة منهما؛ لأن جنس القرابة يختلف منفعتها متفاوتة فلا ينقضي حق الصغير مع أحدهما فيتوهم الضرر، وإن كان معهم أخ لأب وأم في المسألة الثانية لا بأس بأن يمسك الأخ لأب وأم في المسألة الأولى، والأخت لأب وأم في المسألة الثانية، ويبيع من سواه؛ لأن الأخ لأب وأم والأخت لأب وأم أقرب إلى الصغير، وشفقة الأقرب مغنية عن الأبعد.
والحاصل أنه: إذا اجتمع مع الصغير في ملك رجل قرابتان، فإن كانت أحديهما أقرب من الأخرى لا بأس بأن يمسك الأقرب ويبيع الأبعد، وإن كانتا في القرب إلى الصغير على السواء إن كانتا من الجانبين نحو أن يكون أحدهما من قبل الأب والآخر من قبل الأم لا يجوز له أن يفرق بين الصغير والكبيرين واحد منهما، فإن الذي من قبل الأب قائم مقام الأب والذي من قبل الأم قائم مقام الأم، وكما يكره التفريق بين الصغير وبين والديه يكره التفريق بينه وبين من قام مقامهما. وإن كانت من جانب واحد فلا بأس بأن يبيع أحدهما ويمسك الآخر استحساناً حتى إذا كان مع الصغير أخوان كبيران لا يبيع واحداً منهما ويمسك الآخر قياساً، وفي الاستحسان لا بأس بأن يبيع أحدهما ويمسك آخر مع الصغير؛ لأن جنس القرابة ونفعها متحد.
وذكر في البيوع من «الأمالي» وكره التفريق بين الصغير والأخوة المتفرقة والأخوات المتفرقة كما هو القياس لجواز أن يكون منفعة البعض أوفر فيبقى توهم الضرر، وذكر أيضاً أنه إذا كان له أبوان وأخ يكره بيع الأخ لجواز أن يكون الأخ أشفق. والصحيح ما ذكر في «الزيادات» ؛ لأنه تعذر اعتبار التفاوت والتساوي في الشفقة أمر باطن فيعتبر التفاوت والتساوي في القرابة لكونها شيئاً داعياً إلى الشفقة حتى لا تعتبر القرابة البعيدة مع القرابة القريبة، وعند اختلاف الجهة اختلف السبب وتعذر الترجيح فاعتبر كل سبب على حدة.

وإذا اجتمع مع أبوين له بأن كان جارية بين رجلين جاءت بولد فادعياه حتى يثبت النسب منهما، ثم أسرا وأسر الولد معهما ففي القياس على الاستحسان الذي ذكرنا في

(7/43)


الأخوين لا بأس بأن يبيع واحداً منهما، وفي الاستحسان لا يبيع واحداً منهما بخلاف الأخوين، والفرق: أن الأب في الحقيقة أحدهما وهو مشتبه فلو جوزنا بيع أحدهما ربما يبيع الأب ويمسك الأجنبي مع الصغير وفيه ضرر بالصغير بخلاف الأخوين؛ لأن كل واحد منهما أخ على الحقيقة، فإذا باع أحدهما كان الباقي مع الصغير أخاً على الحقيقة وبه يصير حق الصغير (117ب3) مقتضياً سعراً هو الكلام في حكم كراهة التفريق في البيع.
وأما الكلام في حكم جواز البيع وفساده فنقول: إذا فرق بين الصغير وبين والده أو والديه ومن سواهما من الأقارب في البيع فالبيع جائز في ظاهر الرواية.
k
عن أبي يوسف: أن البيع باطل في الكل، وعنه رواية أخرى: أنه فرق بين الوالدين والمولودين وجوزه فيما عداه يأمن القرابات لقوة قرابة الولاد وضعف قرابة المتجردة عن الولادة، وجه رواية التسوية أن كراهة التفريق لدفع الضرر عن الصغير وفي حق هذا المعنى قرابة الولادة والقرابة المتجردة عن الولادة على السواء، والصحيح ما ذكر في ظاهر الرواية؛ لأن ركن التمليك صدر من أهله مضافاً إلى محله، والنهي عن البيع إنما كان مجاوراً ينفك (عن) البيع، وهو إلحاق الوحشة بالصغير ومثل هذا لا يؤثر في فساد البيع كالبيع وقت النداء أو ما أشبهه. وإذا كان التفريق بحق يستحق في أحدهما لم يكن، وكذلك يجوز أن يلحق أحدهما دين فيباع فيه أو يجني أحدهما جناية؛ لأن المنع عن التفريق لدفع الضرر عن الصغير، ولا يجوز دفع الضرر عن شخص على وجه يلحق الضرر بشخص آخر.

وعن أبي حنيفة في فصل الجناية يستحب الفداء نظراً للجانبين، وكذلك لو اشتراهما فقبضهما، ثم وجد بأحدهما عيباً رد المعيب خاصة، وقال أبو يوسف: يردهما؛ لأنهما في معنى كراهة التفريق كشيء واحد.
وجه «ظاهر الرواية» : أن الميت لحق الرد بالعيب وهو مقصور على المعيب حقيقة وحكماً، فلم يجز رد الآخر بعد تمام الصفقة، أكثر ما فيه أن فيه تفريقاً بينهما، ولكن بحق مستحق في أحدهما فيجوز كما لو جنى أحدهما أو لحق أحدهما دين، ولا يكره عتق أحدهما ولا كتابته؛ لأن كراهته للبيع لأجل التفريق ولا تفريق في الإعتاق.
ولو باع أحدهما بسمة للعتق كره عند أبي حنيفة خلافاً لمحمد، والصحيح قول أبي حنيفة أن البيع بسمة ليس ببيع بشرط العتق، فإن البيع بشرط العتق فاسد لكنه ميعاد بينهما والوفاء بالوعد ليس بلازم حتى لو باعه ممن قال: إن اشتريته فهو حر لا يكره البيع بالاتفاق.

وفي «المنتقى» : لو باع أحدهما ممن يعتقه لم يجز في قول أبي يوسف، فإن قبضه المشتري وأعتق ضمن القيمة. ولو باع أحدهما من رجل، ثم باع الآخر من ذلك الرجل، قال أبو يوسف: البيع وقع فاسداً، فإذا اجتمعا في ملكه استحسنت أن أجيزهما.
وفي «نوادر ابن سماعة» قال: سمعت أبا يوسف يقول في رجل اشترى عبداً صغيراً وأمه عند البائع فأعتقه المشتري، فالبيع جائز وعليه الثمن، وكذلك لو مات عنده قال:

(7/44)


إني إنما كنت انقض البيع لتفريقه بينهما، فإذا ذهب التفريق جاز البيع، وكذلك لو ماتت الأم عند البائع أو أعتقهما مولاها يجوز البيع، وكذلك لو باع المشتري الصغير من رجل فأعتقه. قال: والقياس في العتق والموت أن تلزمه القيمة الصغير ولكن يستحسن أن يجعله بالثمن إذا ذهب الفرقة.

الفصل العشرون: في الإقالة
الأصل عند أبي حنيفة رحمه الله: أن الإقالة تجعل فسخاً في حق المتعاقدين في الصور كلها، فإن أمكن تصحيحها فسخاً لا تصح أصلاً، بيان هذا الأصل من المسائل: إذا باع جارية بألف درهم وتقايلا العقد فيها بألف درهم فعلى قوله صحت الإقالة وإن تقايلا بألف وخمسمائة صحت الإقالة بألف ويلغو ذكر الخمسمائة؛ لأن في الألف وخمسمائة ذكر الألف فيمكن تصحيحها إقالة بالألف بالغاً مبلغ الزيادة، وإن تقايلا بخمسمائة فإن كان العبد قائماً في يد المشتري على حاله لم يدخله عيب صحت الإقالة بألف ويلغو ذكر الخمسمائة، فيجب على البائع رد الألف على المشتري، وإن دخله عيب تصير إقالة بخمسمائة ويصير المحطوط بإزاء نقصان العيب؛ لأنه لما احتبس عند المشتري جزء من المبيع جاز أن يحتبس عند البائع بعض الثمن.
بعض مشايخنا قالوا: تأويل المسألة أن تكون حصة العيب خمسمائة أو أقل أو أكثر مقدار ما يتغابن الناس فيه، ولكن جواب «الكتاب» مطلق.
ولو كانت الإقالة بجنس آخر ذكر عامة الكتب أنها تصح إقالة عند أبي حنيفة بالثمن الأول ويلغو ذكر جنس آخر، وذكر بعض المشايخ في شرح «الجامع الصغير» أن على قول أبي حنيفة تبطل الإقالة في هذه الصورة، وإن ازدادت الجارية ثم تقايلا، فإن كان قبل القبض صحت الإقالة سواء كانت الزيادة متصلة أو منفصلة؛ لأن الزيادة قبل القبض لا تمنع الفسخ منفصلة كانت أو متصلة، وإن كانت الزيادة بعد القبض إن كانت منفصلة فالإقالة باطلة عند أبي حنيفة؛ لأنه تعذر تصحيحها فسخاً بسبب الزيادة المنفصلة مانعة فسخ العقد حقاً للشرع، وأبو حنيفة لا يصحح الإقالة إلا بطريق الفسخ، وإن كانت الزيادة متصلة فالإقالة صحيحة عنده ولأن الزيادة المتصلة عند أبي حنيفة لا تمنع الفسخ حينما وجد الرضا ضمن له الحق في الزيادة ببطلان حقه في الزيادة وقد وجد الرضا لما تقايلا، فأمكن تصحيحها فسخاً فيصح فسخاً عنده.
والأصل عند أبي يوسف رحمه الله: أن الإقالة فسخ في حق المتعاقدين إذا لم يوجد منهما قليل البيع بأن تقايلا بمثل الثمن الأول وكان العقد قابلاً للفسخ، ففي هذه الصورة تجعل الإقالة فسخاً في حقهما أمكن اعتبارها بيعاً جديداً أو لم يمكن بأن كانت الإقالة في المنقول قبل القبض وإذا وجد منهما دليل البيع وأمكن جعلها تبعاً سواء أمكن

(7/45)


جعلها فسخاً أو لم يمكن أن يجعل بيعاً وأمكن أن يجعل فسخاً، كما لو تقايلا في المنقول قبل القبض أو تقايلا في بيع العرض بعد هلاك أحدهما، فالإقالة في هذه الصورة تجعل فسخاً؛ لأنه تعذر جعلها بيعاً، وإن لم يمكن أن تجعل بيعاً ولا فسخاً تبطل كما في بيع العرض بالدراهم إذا تقايلا بعد هلاك العرض، وكما لو تقايلا في المنقول قبل القبض على خلاف جنس الثمن الأول.

بيان هذا الأصل من المسائل: إذا تقايلا قبل قبض الجارية (والجارية) قائمة على حالها لم تتغير إلى زيادة أو نقصان أو تغيرت إلى زيادة أو نقصان، فالإقالة صحيحة عنده فسخاً إذا تقايلا بالثمن الأول، أو بجنس الثمن الأول ولكن زيادة أو نقصان؛ لأنه تعذر اعتبارها فسخاً؛ لأن النقصان لا يمنع الفسخ فيجعل فسخاً، وإن تقايلا على خلاف جنس الثمن الأول بطلت الإقالة؛ لأنه تعذر اعتبارها بيعاً؛ لأن بيع المنقول قبل القبض لا يجوز وتعذر اعتبارها فسخاً؛ لأن الفسخ ما يكون بالثمن الأول وقد سميا ثمناً آخر، وإن تقايلا بعد القبض فإن كانت الجارية قائمة على حالها لم تتغير إلى زيادة ولا نقصان أو تغيرت (118أ3) إلى زيادة أو نقصان، فالإقالة صحيحة عنده فسخاً إذا تقايلا بالثمن الأول أو بجنس الثمن الأول، ولكن لزيادة أو نقصان اعتبارها بيعاً وأمكن اعتبارها فسخاً؛ لأن النقصان لا يمنع الفسخ على كل حال. وكذلك الزيادة قبل القبض لا تمنع الفسخ فيجعل فسخاً.

وإن تقايلا على خلاف جنس الثمن الأول بطلت الإقالة؛ لأنه تعذر اعتبارها بيعاً؛ لأن بيع المنقول قبل القبض لا يجوز، وتعذر اعتبارها فسخاً؛ لأن الفسخ ما يكون بالثمن الأول وقد سميا ثمناً آخر، وإن تقايلا قبل القبض.
وإن كانت الجارية قائمة على حالها لم تتغير وقد تقايلا بالثمن الأول، فالإقالة عنده صحيحة فسخاً؛ لأنه لم يوجد دليل البيع والعقد قابل للفسخ فتجعل الإقالة فسخاً، إذا سكتا عن الثمن الأول يصير مذكوراً مقتضى الإقالة ما يكون بالثمن الأول.
وإن تقايلا بجنس الثمن الأول ولكن بزيادة أو نقصان فعلى قول أبي يوسف تجعل الإقالة بيعاً؛ لأنه وجد دليل البيع وهوالزيادة في الثمن أو النقصان عنه، وأمكن جعلها بيعاً فجعلناها بيعاً حتى لا تلغو الزيادة أو النقصان. وإن تقايلا بخلاف جنس الثمن الأول تجعل بيعاً عنده؛ لأنه وجد دليل البيع وأمكن اعتباره بيعاً؛ لأن بيع المنقول بعد القبض جائز فجعلناها بيعاً.
وإن تغيرت الجارية إلى نقصان بأن تعيبت في يد المشتري بفعل المشتري أو بآفة سماوية، فإن تقايلا بمثل الثمن الأول أو سكتا عن ذلك تجعل الإقالة فسخاً عنده غير أن البائع إذا لم يعلم بالعيب وقت الإقالة كان له الخيار إن شاء أمضى الإقالة وإن شاء رد، وإن علم بالعيب فلا خيار له، وهذا؛ لأن البائع في إقالة بيع العرض بالدارهم بمنزلة المشتري عند الشراء وإن تغيرت الجارية إلى زيادة، فإن كانت الزيادة منفصلة كالولد والأرش والعقر تجعل الإقالة بيعاً؛ لأن تعذر اعتبارها فسخاً لمكان الزيادة وأمكن

(7/46)


اعتبارها بيعاً فجعلناها بيعاً، وإن كانت الزيادة متصلة، فالجواب في هذا والجواب فيما إذا كانت الجارية قائمة على حالها لم تتغير سواء؛ لأن الزيادة المتصلة عنده لا تمنع الفسخ عند وجود الرضا ممن له الحق وفي الزيادة وقد وجد الرضا ههنا لما تقايلا.
والأصل عند محمد: أن الإقالة فسخ في حق المتعاقدين إذا لم يوجد منهما دليل البيع بأن تقايلا بجنس الثمن الأول وكان البيع قابلاً للفسخ. وإن وجد منهما دليل البيع لم يمكن أن تجعل فسخاً وأمكن جعلها بيعاً رواية واحدة، كما لو تقايلا بعد القبض بالثمن الأول ولكن بعد الزيادة المنفصلة، أو تقايلا بعد القبض بخلاف جنس الثمن الأول. وإن وجد منهما دليل البيع جعلهما بيعاً وفسخاً كما لو تقايلا بعد القبض والجارية قائمة على حالها بجنس الثمن الأول ولكن بزيادة أو نقصان. وعن محمد روايتان وفي رواية كتاب المأذون يجعلها بيعاً وفي رواية كتاب الشفعة يجعلها فسخاً وإن لم يمكن جعلها بيعاً ولا فسخاً تبطل الإقالة.

بيان هذا الأصل من المسائل
إذا تقايلا قبل قبض الجارية تصح الإقالة ويكون فسخاً عند محمد إذا حلصت الإقالة بالثمن الأول أو على جنس الثمن الأول ولكن بزيادة أو نقصان، وإن حصلت الإقالة على خلاف جنس الثمن الأول تبطل الإقالة عنده على نحو ما قلنا.
وعند أبي يوسف رحمه الله: وإن تقايلا بعد قبض الجارية فإن كانت الجارية قائمة على حالها لم تتغير وقد تقايلا بالثمن الأول وقد سكتا عن الثمن الأول يجوز الإقالة عنده فسخاً على نحو ما قلنا لأبي يوسف، وإن تقايلا بجنس الثمن الأول ولكن بزيادة أو نقصان عن محمد في الصورة روايتان، ففي رواية كتاب المأذون تصح الإقالة بيعاً وفي رواية كتاب الشفعة تصح فسخاً؛ لأنه وجد دليل البيع وأمكن جعله بيعاً وفسخاً وفي مثل هذه الصورة عن محمد روايتان. وإن تقايلا على خلاف الثمن الأول صحت الإقالة عنده بيعاً رواية واحدة؛ لأنه وجد دليل البيع وتعذر جعلها فسخاً؛ لأن الفسخ ما يكون بمثل الثمن الأول وأمكن جعلها بيعاً وفي مثل هذه الصورة تصح الإقالة بيعاً عنده رواية واحدة.

وإن كانت الجارية قد تغيرت عن حالها إلى زيادة أو نقصان إن كان التغير إلى نقصان بأن تعيبت في يد المشتري بفعل أجنبي أو بآفة سماوية، فالجواب فيه عند محمد رحمه الله نظير الجواب عند أبي يوسف رحمه الله، إن تغيرت الجارية إلى زيادة فإن كانت الزيادة منفصلة تصح الإقالة عنده بيعاً؛ لأنه تعذر اعتبارها فسخاً لمكان الزيادة وأمكن اعتبارها بيعاً فجعلناها بيعاً، وإن كانت الزيادة متصلة فالجواب فيه كالجواب فيما إذا كانت الجارية

(7/47)


قائمة على حالها لم تتغير؛ لأن الزيادة المتصلة لا تمنع صحة الفسخ عنده سواء وجد الرضا ممن له الحق في الزيادة أو لم يوجد، وإذا كان الفسخ لا يتعذر بسبب الزيادة المتصلة صار وجودها والعدم بمنزلة.
وذكر محمد رحمه الله في كتاب المأذون إقالة العبد المأذون له في التجارة: إذا باع

(7/48)


بألف درهم، ثم إن العبد أقال البيع في الجارية وجعلها على وجهين: أما إن كانت الإقالة قبل قبض المشتري الجارية أو بعد قبضه إياها، وجعل كل وجه على وجهين: أما إن كان الثمن موهوباً أو غير موهوب. فإن كانت الإقالة قبل قبض الجارية والثمن غير موهوب تصح الإقالة فسخاً عندهم إلا في فصل، وهو ما إذا حصلت الإقالة بخلاف جنس الثمن الأول، فإن هناك تبطل الإقالة عندهم أما في سائر الفصول؛ لأنه تعذر اعتبارها بيعاً جديداً؛ لأن بيع المنقول قبل القبض لا يجوز وأمكن جعلها فسخاً إذا كان الثمن غير موهوب للمأذون؛ لأنه لا يكون فسخاً بغير ثمن فيجعل فسخاً، وأما إذا حصلت الإقالة بخلاف الثمن الأول فلأنه كما تعذر اعتبارها بيعاً تعذر اعتبارها فسخاً؛ لأن في الفسخ ما يكون بمثل الثمن الأول فيبطل ضرورة وإن كان الثمن موهوباً للمأذون، فالإقالة باطلة عندهم جميعاً في الفصول كلها؛ لأنه كما تعذر اعتبارها بيعاً لحصولها قبل القبض في المنقول تعذر اعتبارها فسخاً لما كان الثمن موهوباً؛ لأنه يكون فسخاً بغير ثمن والمأذون لا يملك ذلك؛ لأنه يكون تبرعاً.
وإن تقايلا قبل قبض الجارية بعد ما تغيرت الجارية إلى زيادة أو نقصان، فالجواب فيه كالجواب فيما إذا كانت الجارية قائمة على حالها؛ لأن الزيادة قبل القبض والنقصان قبل القبض لا يمنع الفسخ على كل حال، فصار وجود ذلك والعدم بمنزلة، فتصح الإقالة فسخاً إذا كان الثمن غير موهوب إلا إذا حصلت الإقالة على خلاف جنس الثمن الأول، فإن هناك لا تصح الإقالة أصلاً، وإن كان الثمن موهوباً للمأذون لا تصح الإقالة في الفصول كلها عندهم جميعاً.
وأما إذا تقايلا بعد قبض الجارية، فإن تقايلا بعد قبض الجارية، فإن تقايلا والثمن غير موهوب، فإن كانت الجارية قائمة على حالها، إن تقايلا بالثمن الأول أو سكتا عن ذكر الثمن الأول تصح الإقالة فسخاً عنده؛ لأنه لم يوجد دليل البيع وأمكن اعتبارها فسخاً، وإن تقايلا بجنس الثمن الأول ولكن (118ب3) إلى زيادة أو نقصان تصح الإقالة فسخاً عند أبي حنيفة، ويلغو ذكر الزيادة والنقصان على قول أبي يوسف بيعاً؛ لأنه وجد دليل البيع وهو ذكر الزيادة أو النقصان وأمكن اعتبارها بيعاً وفسخاً، فجعلناها بيعاً حتى لا تبطل الزيادة أو النقصان، وعند محمد في هذه الصور روايتان.
وإن تقايلا بخلاف جنس الثمن الأول فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: تبطل الإقالة لتعذر اعتبارها فسخاً، وعلى قول أبي يوسف ومحمد: تصح الإقالة بيعاً جديداً؛ لأنه أمكن اعتبارها بيعاً جديداً، هذا إذا تقايلا والجارية قائمة على حالها.

فإن كانت الجارية قد تغيرت أو تغيرت إلى زيادة وكانت الزيادة منفصلة، فالإقالة باطلة عند أبي حنيفة على كل حال يعتبر الإقالة فسخاً، وتعذر اعتبارها فسخاً لمكان الزيادة المنفصلة، وعندهما تصح الإقالة بيعاً جديداً في الفصول كلها؛ لأنه أمكن اعتبارها بيعاً. وإن كانت الزيادة متصلة، فالجواب كما إذا كانت الجارية قائمة على حالها لم تتغير وإن تغيرت إلى نقصان بأن تعيبت في يد المشتري أو بآفة سماوية، فالجواب فيه كالجواب فيما إذا كانت الجارية قائمة على حالها لم تتغير هذا إذا تقايلا بعد القبض والثمن غير موهوب.
فأما إذا تقايلا بعد القبض والثمن موهوب للمأذون، فإن كانت الجارية قائمة على حالها وقد تقايلا بالثمن الأول بطلت الإقالة عند أبي حنيفة؛ لأنه قد تعذر اعتبارها فسخاً إذا كان الثمن موهوباً، عندهما يجعل بيعاً؛ لأنه إن تعذر اعتبارها فسخاً أمكن اعتبارها؛ لأن البيع بعد هبة الثمن صحيح. وإن سكتا عن ذكر الثمن الأول فكذلك عند أبي حنيفة الإقالة باطلة، وعند أبي يوسف تصح بيعاً واضطربت روايات المأذون في هذا الفصل عند محمد، في بعض الروايات اعتبرها بيعاً كما فيما تقدم، وفي بعض الروايات الإقالة باطلة كما هو قول أبي حنيفة. ووجه هذه الرواية: أن الإقالة عند محمد إنما تجعل بيعاً عند تعذر اعتبارها فسخاً إذا أمكن جعلها بيعاً ههنا؛ لأنهما سميا ثمناً ولم يصر الثمن الأول مذكوراً يمقتضى الإقالة؛ لأن الثمن الأول إنما يصير مذكوراً بمقتضى الإقالة إذا بقي للعقد ثمن، ولم يبق ههنا ثمن فلم يصر الثمن الأول مذكوراً، والبيع لا يصح من غير تسمية الثمن بخلاف ما إذا كان الثمن غير موهوب؛ لأن هناك صار الثمن الأول مذكوراً بمقتضى الإقالة فأمكن أن يجعل بيعاً.
وإن تقايلا بجنس الثمن الأول ولكن بزيادة أو نقصان فعلى قول أبي حنيفة الإقالة باطلة، فعلى قولهما تصح بيعاً، وإن تقايلا بخلاف جنس الثمن الأول فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله الإقالة باطلة، وعلى قولهما تجعل بيعاً، فإذا تقايلا وقد تغيرت عن حالها والثمن موهوب، وإن تغيرت إلى زيادة وكانت الزيادة منفصلة نحو الأرش والولد والعقر، فعند أبي حنيفة الإقالة باطلة، وعندهما الإقالة صحيحة بيعاً رواية واحدة إلا في فصل واحد، وهو إذا سكتا عن ذكر الثمن فإن هذا الفصل عن محمد روايتان في رواية تصح الإقالة بيعاً، وفي رواية تبطل الإقالة. وإن كانت الزيادة متصلة فهذا وما لو كانت الجارية قائمة على حالها لم تتغير سواء، وإن تغيرت إلى نقصان تعيبت بفعل المشتري أو بآفة سماوية أو ما لو كانت الجارية قائمة على حالها لم تتغير سواء عندهم جميعاً. هذه الجملة من «مأذون شيخ الإسلام خواهرزاده» رحمه الله.
وفي «القدوري» : الإقالة فسخ في حق المتعاقدين عقد جديد في حق الثالث، قال أبو يوسف رحمه الله: الإقالة بيع وإلا إذا تعذر فتجعل فسخاً، وقال محمد: هو فسخ إلا إذا تعذر فيجعل بيعاً، وقال زفر: هو فسخ في حق المتعاقدين وغيرهما.

وفي «المنتقى» قال محمد: إن الإقالة بعد القبض وقبل القبض مناقضة وليست ببيع، وكذلك قال أبو حنيفة، ثم هذا الخلاف الذي ذكرنا فيما إذا حصل الفسخ بلفظ الإقالة، أما إذا حصل بلفظ المفاسخة أو المتاركة أو الرد، فإنها لا تجعل بيعاً فإن أمكن جعلها بيعاً، وإذا حصل الفسخ بلفظ الإقالة فهو بيع جديد في حق الثالث بلا خلاف حتى أن الشفيع إذا سلم الشفعة في بيع مع المشتري تقايلا البيع يتجدد للشفيع حق الشفعة واعتبرت الإقالة بيعاً جديداً في حقه، ونظائر هذا كثيرة. ثم إنما تعتبر الإقالة فسخاً في حق المتعاقدين فيما كان من موجبات البيع، فأما ما لم يكن من موجبات البيع وإنما ثبت

(7/49)


بأمر زائد أو شرط زائد فالإقالة تعتبر بيعاً جديداً في حقه على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : وإذا اشترى الرجل من رجل عبداً بكر من طعام وسط إلى أجل أو حالاً وتقابضا وقد كان أعطاه المشتري حنطة أجود من المشروط أو أردأ أو مثل المشروط، ثم تقايلا لا يلزمه رد المقبوض بعينه وإن كان قائماً؛ لأن الطعام في هذه المسألة ثمن ولهذا جاز الاستبدال به، والأثمان لا تتعين عند الفسخ كما لا تتعين عند البيع. وكذلك الجواب فيما إذا كان الرد بالعيب بعد القبض بغير قضاء، وإذا لم يجب رد الطعام بعينه في هاتين الصورتين يرد مثل الذي كان مشروطاً أو يرد مثل المقبوض لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في الكتاب نصاً، عامة المشايخ على أنه يرد مثل المشروط، وهذه الصورة ألزمه تفاوت ما بين المقبوض والمشروط وهو تفاوت ما بين الوسط والرديء بسبب تبرعه؛ لأن حقه كان في المشروط، فهو إذا تجوز بالرديء فقد تبرع بمقدار ذلك، فلو لزمه رد مثل المشروط لزمه ذلك التفاوت بسبب تبرعه وإنه لا يجوز.

ثم على قول عامة المشايخ فرق بين الإقالة بعد القبض والرد بالعيب بغير قضاء وبين الرد بالعيب قبل القبض أو بعد القبض بقضاءٍ فقال: إذا كان الرد بالعيب قبل القبض كيف ما كان أو كان الرد بعد القبض بقضاء يلزمه رد مثل المقبوض لا رد مثل المشروط، والفرق: أن الرد بالعيب قبل القبض بقضاءٍ أو بغير قضاءٍ وبعد القبض بقضاءٍ فسخ من كل وجه في حق الكل وليس ببيع جديد، ولهذا لا يتجدد للشفيع حق الشفعة. وإذا انفسخ البيع من كل وجه فيما يستقبل من الأحكام صار وجود البيع وعدمه بمنزلة، ولو عدم البيع ووجب على القابض رد المقبوض بعد ما ملكه بسبب صحيح لزمه رد مثل المقبوض كما في العوض كذا ههنا.
أما الإقالة والرد بالعيب بعد القبض إذا كان بتراضيهما بمنزلة بيع جديد ولهذا يتجدد للشفيع حق الشفعة، فإذا كان بمنزلة بيع جديد صار كأن المشتري باع العبد من البائع ثانياً بمثل الثمن المشروط في البيع؛ لأن الإقالة بناء على العقد، فإنما تصح بما كان مشروطاً في أصل البيع فكأن المشتري باع العبد من البائع بمثل الثمن الأول الذي كان مشروطاً في البيع، ولو كان كذلك كان على البائع أن يعطي المشتري مثل الثمن (119أ3) المشروط في البيع ولا يلزمه رد مثل المقبوض كذا ههنا، فإن قيل: الإقالة والرد بالعيب بعد القبض بغير قضاءٍ إنما اعتبر بيعاً جديداً في الثالث أما في حق المتعاقدين اعتبر فسخاً حتى أن البائع بعد الإقالة لو باع العبد من المشتري ثانياً قبل القبض يجوز، كما لو كان الرد بقضاءٍ أو قبل القبض بغير قضاءٍ ولو باعه من غيره لم يجز؛ لأنه في حق الثالث بيع جديد فصار بائعاً المبيع قبل القبض. إذا ثبت هذا فنقول: وجوب رد مثل المقبوض أو رد مثل المشروط في البيع في حق المتعاقدين فتعتبر الإقالة في هذا فسخاً وإذا اعتبر فسخاً يجب أن يعتبر الفسخ المقبوض لا بمثل ما كان مشروطاً في البيع.

(7/50)


والجواب: أن الإقالة فسخ فيما بين المتعاقدين من موجبات البيع وهو ما يثبت بين البيع من غير شرط فصيرورة العين مبيعاً من موجبات البيع، فإنه يثبت من غير شرط فتعتبر الإقالة فسخاً في حق العبد فيما بينهما فيكون العبد عائداً إلى البائع بحكم الفسخ لا ببيع جديد فكان له أن يبيع العبد من المشتري قبل القبض كما لو كان الرد بقضاءٍ، فأما ما لم يكن من موجبات البيع فإنما يثبت بأمر زائد أو بشرط زائد فالإقالة تعتبر بيعاً جديداً في حقه، وإن كان ذلك في حق المتعاقدين.
الدليل على صحة هذا مسألتان ذكرهما محمد رحمه الله في «الزيادات» : إذا كان لرجل على غيره ألف درهم مؤجل باعه المطلوب بذلك عبداً قبل حلول الأجل أو صالحه من ذلك على عوض، قال: يبرأ المطلوب من الدين كما لو عجل الدين، فلو أن مشتري العبد وجد بالعبد عيباً بعد القبض فرده بغير قضاءٍ، قال: يعود الدين على الطالب حالاً لا مؤجلاً كأن الطالب باع العبد في المطلوب ثانياً بألف درهم، واعتبرت الإقالة والرد بالعيب بغير قضاء في حق الأجل بيعاً جديداً، وإن كان من حقهما لهذا المعنى أن الأجل ليس من موجبات البيع، فإنه لا يثبت بنفس البيع، وإنما يجب بشرط زائد، وبمثله لو كان الرد بالعيب في هذه المسألة قبل القبض بغير قضاءٍ، فالدين يعود مؤجلاً؛ لأن الرد بالعيب قبل القبض بغير قضاءٍ، وبعد القبض بقضاءٍ فسخ من كل وجه، فإذا انفسخ البيع الأول من كل وجه، صار وجوده وعدمه بمنزلة، ولو عدم البيع كان الدين على المطلوب مؤجلاً.

المسألة الثانية: إذا اشترى عبداً فوجد به عيباً بعد القبض فرده بغير قضاءٍ، ثم جاء رجل وادعى أن العبد له، وأقام على ذلك شاهدين أحد الشاهدين مشتري العبد، قال: لا تقبل شهادته، واعتبر هذا بيعاً جديداً في حق الشهادة؛ لأنه ليس من موجبات البيع فصار كأن المشتري باع العبد ثانياً من بائعه وشهد للمدعي بالملك، ولو كان كذلك لا تقبل شهادته؛ لأنه ساعي في نقض ما تم به وبمثله لوروده بقضاء قاضي، أو بغير قضاءٍ قبل القبض تقبل شهادته واعتبر البيع منفسخاً من كل وجه، وإذا انفسخ البيع من كل وجه صار وجود البيع وعدمه سواء، ولو عدم البيع كان يقبل شهادته للمدعي فهنا كذلك، فعلم أن الإقالة والرد بالعيب بعد القبض بغير قضاءٍ، وإنما تعتبر فسخاً في حق المتعاقدين فيما كان من موجبات البيع، فأما ما لم يكن من موجبات البيع فاعتبر شراءً جديداً في حقه كما يعتبر شراءً جديداً في حق الثالث.
إذا ثبت هذا فنقول: زيادة الجودة على المشروط في أصل البيع ونقصان الجودة ليس من موجبات البيع، فإنه لا يجب ذلك بالبيع، وإنما وجب بعارض آخر، وهو أن المشروط الجودة، أو إبراء البائع المشتري عن الجودة، وإذا لم يكن ما حصل من الجودة فللبائع من موجبات البيع اعتبرت الإقالة في ذلك بيعاً جديداً، وإن كان ذلك من حقهما، وإذا اعتبر بيعاً جديداً صار كأن المشتري باع العبد ثانياً من البائع بمثل الثمن الأول، ولو كان كذلك لا يجب على البائع رد مثل المقبوض، وإنما يجب عليه رد مثل المشروط في أصل البيع فكذا ههنا، وإذا كان فسخاً من كل وجه ظهر الفسخ في حقه كما ظهر في حق الأجل ولزمه رد مثل المقبوض لا رد مثل المشروط.

(7/51)


وفي «القدوري» : وقبول الإقالة على المجلس؛ لأن الإقالة نظير البيع في حق ارتباط اللفظين بالآخر فيعتبر له المجلس كما في البيع، قال: الإقالة بلفظين، أحدهما: يعبر به عن المستقبل نحو أن يقول: أقلني فيقول: أقلت، وقال محمد: لا يقوم إلا بلفظين يعبر بهما عن الماضي اعتباراً بالبيع، ولهما أن الإقالة لا تكون إلا بعد نظر فتأمل، فلا يكون قوله أقلني مساومة بل كان تحقيقاً للتصرف كما في النكاح، وبه فارق البيع.
وفي «نوادر ابن سماعة» قال: سمعت أبا يوسف رحمه الله يقول في رجل باع رجلاً لبعد، ثم لقيه المشتري ولم يقبض البيع قال: إنك قد أغليت علي فلا حاجة لي فيما بعتني، فأقلني فقال البائع: قد أقلتك، قال: ينتقض البيع، وإن يقل (لم) المشتري: قبلت أو رضيت، وهذه الرواية عن أبي يوسف توافق القدوري عن أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمه الله قال: كذلك لو كان قال له المشتري: فافسخ البيع فيما بيني وبينك ففسخ كان جائز.

وفي «المنتقى» عن محمد رحمه الله: مسألة تدل على أن قوله مثل قولهما، فإنه قال في رجل اشترى من رجل عنباً بألف درهم، ثم تقابضا، ثم قال المشتري للبائع: أقلني على أن أؤخرك ألف سنة فقال: قد فعلت جازت الإقالة ولم يجز التأخير، قال القدروي رحمه الله أيضاً: وتصح الإقالة إذا كان المبيع قائماً أو بعضه ولا يعتبر قيام الثمن، يجب أن يعلم أن من شرط صحة الإقالة قيام العقد لكون الإقالة رفعاً للعقد، وقيام العقد بقيام المعقود عليه لا قيام المعقود به؛ لأن المعقود عليه محل إضافة العقد، ولا محل ثبوت حكمه، وما يكال ويوزن إذا كان موصوفاً في الذمة كان ثمناً، وإذا كان بعينه يكون مبيعاً.

قال محمد في «الجامع الكبير» : رجل اشترى من آخر عبداً بكر حنطة بعينها وتقابضا فهلك العبد، ثم إنهما تقايلا العقد فيما بينهما جازت الإقالة؛ لأن الكر لما كان متعيناً كان هذا بيع العين بالعين، وفي بيع العين بالعين كل واحد منهما مبيع في حق نفسه ثمن في حق ما يقابله؛ لأن العقد لا بد له من معقود عليه، وليس أحدهما بأن يجعل معقوداً عليه أولى من الآخر فجعلنا كل واحدمن العوضين مبيعاً في حق نفسه ثمناً في حق ما يقابله، ولهذا لا يجوز الاستبدال بالكر قبل القبض لما فيه من استبدال المبيع قبل القبض، وإذا هلك قبل القبض، فسد العقد ولما كان كل واحد منهما معقوداً عليه في حق نفسه يبقى العقد ببقاء أحدهما فتصح الإقالة، وإذا صحت الإقالة لزم الآخر رد العبد وقد عجز عن رده بسبب الهلاك فيلزمه قيمته، وإذا باع العبد بكر بغير عينه وتقابضا فهلك، ثم تقايلا والكر فلم يعينه فالإقالة باطلة؛ لأن الكر إذا (119ب3) كان بغير عينه كان ثمناً، ولهذا لا يشترط فيه التأجيل، ولو كان مبيعاً فالمبيع لا يثبت في الذمة إلا مؤجلاً، وكذا لا يجوز الاستبدال به قبل القبض مع أن الاستبدال بالمبيع قبل القبض ممتنع، وكذلك لو تقايلا حال قيام العبد لا يلزم بائع العبد رد عين ما قبض من الكر، كما في الدراهم فكان ثمناً، ولما كان ثمناً لا يبقى العقد بيعاً به فلم يستقم رفعه.

(7/52)


فرق بين هذا وبين ما لو أسلم عبداً في كر حنطة إلى أجل، ثم هلك العبد، ثم تقايلا على المسلم فيه ثمَّ يجوز، والفرق وهو: أن المسلم فيه مبيع بدليل عكس ماذكرنا من الأحكام ولما كان كذلك كان هذا بيع العرض بالعرض فهلاك أحدهما لا يمنع صحة الإقالة، أما ههنا بخلافه على ما مر.

وإذا اشترى عبداً بدراهم وتقابضا، ثم تقايلا بعد ما هلك العبد، فالإقالة باطلة؛ لأن الدراهم ثمن من كل وجه فلا يبقى العقد ببقائها، ولو صح ما ذكرنا أن الثمن إنما يثبت له حكم الوجود في الذمة بالعقد، وما يكون وجوده بالعقد كان حكماً للعقد، وحكم العقد لا يكون محلاً للعقد؛ لأن محل العقد وشرط الشيء يسبقه وحكم الشيء يعقبه وبينهما تنافي.

ولو اشترى عبداً بنقرة فضة إن كانت النقرة بغير عينها فكذلك الجواب، وإن كان بعينها لم تنتقض الإقالة بهلاك العبد لما مر، وإذا لم تنتقض الإقالة كان على الذي هلك العبد في يده قيمته دراهم أو دنانير.
فرق بين هذا وبينما إذا كانت الإقالة على النقرة بعينها بعد هلاك العبد، فإن هناك قال: يقضي بالدنانير خاصة، والفرق وهو: أن ههنا الإقالة صحت على النقرة وعلى العبد، والربا لا يجري بين العبد والنقرة وهذه الحالة، وهو حال وجوب قيمة العبد حال بقاء الإقالة لا يجري الربا إذ الموجود في حالة البقاء ليس إلا القبض الذي له شبه بالعقد وأثره في إيجاب التصدق لا في جريان الربا، ووجوب التصدق حكم شيء بينه وبين ربه لا يدخل تحت القضاء فلم يجب القضاء بخلاف الجنس تحرزاً عن هذه الشبهة التي لا تدخل لها في القضاء لكن قيل: إن قضى بخلاف جنسه لا يجب عليه التصدق بشيء، وإن قضى بجنسه تصدق بالفضل تحرزاً عن الشبهة.
كما لو اشترى عبداً قيمته ألفا درهم فقتل العبد قبل القبض وأختار المشتري أخذ القيمة قضى القاضي بالقيمة دنانير أو دراهم، لكن إن قضى بالقيمة دراهم بالفضل وإن قضى بالقيمة دنانير لم يتصدق بشيء كذا ههنا، أما فيما سبق الحال ابتداء الإقالة، فالإقالة عقد جديد في حق الثالث وحرمة الربا حق الشرع فصار في حق الشرع بمنزلة عقد مبتدأ على النقرة وعلى قيمة العبد، وفي حالة الابتداء يجري الربا وإنه يدخل تحت الحكم فيقضى بالدنانير تحرزاً عن الربا.

وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: رجل اشترى عبداً بألف درهم فلم يقبضه حتى قال المشتري للبائع: بعه فقيل هل يكون هذا نقضاً للبيع، فقد ذكرنا هذه المسألة مع أجناس في صدر هذا الكتاب إلا أن موضوع المسألة فيما وضع محمد رحمه الله ثمة أن المشتري، قال للبائع: بعه فقيل، ثم باعه فهو مناقضة للبيع الأول، وموضوع المسألة ههنا أن المشتري قال للبائع: بعني فقيل هو مناقضة للبيع.
وعنه في رجل اشترى من رجل عبداً فلم يقبضه حتى سأله البائع أن يبيعه إياه بألف درهم ففعل، لم تكن هذا مناقضة للبيع الأول.

(7/53)


وفي «المنتقى» : رجل اشترى من رجل عبداً ودفع إليه الثمن ولم يقبض، ثم إن المشتري لقي البائع وقال: قد وهبت لك العبد والثمن لم تجز الهبة في الثمن، قال: لأني إنما جعلت قوله: وهبت لك العبد نقضاً للعبد فلا يمكنني أن أجعله هبة للثمن.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل اشترى من رجل عبداً بجارية وتقابضا، ثم تقايلا فدفع مشتري العبد العبد إلى بائعه، ولم يقبض الجارية حتى ماتت في يد مشتريها، فإن البيع يعود إلى حاله ويرد العبد إلى الذي كان في يده.

وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل باع عبداً بعبد وتقابضا فعمي أحدهما، ثم أقاله البيع، قال: إن كان يعلم بالعمى أخذه وليس له غيره، وإن لم يكن علم، فإنه يرد العبد ويأخذ قيمة عبده صحيحاً.
إذا اشترى عبداً بألف درهم وتقابضا، ثم تقايلا، ثم قتله المشتري قبل أن يرده فقد ذهب بالثمن، وإن فقأ إحدى عينيه فالبائع بالخيار إن شاء أخذه بنصف الثمن وإن شاء ترك، وإن لم يفقأ عينه ولكن ذهبت من وجع، فإن شاء البائع أخذه بجميع الثمن، وإن شاء ترك.
وفي «نوادر المعلى» عن أبي يوسف رحمه الله قال أبو حنيفة رحمه الله: رجل اشترى من رجل عبداً، ثم قال للبائع قبل أن يقبضه: بعه، فإن أعتقه البائع فعتقه جائز عن نفسه، وقال أبو يوسف رحمه الله: باطل، قال أبو الفضل رحمه الله: يحتمل أن يكون وجه هذه المسألة أنه جعل قوله بعه بمنزلة الإقالة، وجعل عتق البائع بمنزلة قبول الإقالة على قول أبي حنيفة رحمه الله.
وفي «المنتقى» : رجل اشترى من رجل عبداً بألف درهم وتقابضا، فقطعت يده عند المشتري فأخذ أرشها، ثم تقايلا البيع، فإن كان البائع علم بالقطع لزمته الإقالة بجميع الثمن ولا شيء له من الأرش، وإن لم يكن علم بالقطع، فهو بالخيار إن شاء أخذه دون الأرش بجميع الثمن، وإن شاء رده، وكذلك لو كانت جارية فولدت عند المشتري لم يبعها الولد في الإقالة.
وفيه أيضاً: رجل باع عبداً بأمة وتقابضا، ثم باع نصف العبد، ثم إقالة البيع في الأمة جاز وكان له قيمة العبد والله أعلم.