المحيط
البرهاني في الفقه النعماني كتاب القسمة
هذا كتاب يشتمل على ثلاثة عشر فصلاً.
1 * في بيان ماهية القسمة.
2 * في بيان كيفية القسمة.
3 * في بيان ما يقسم وما لا يقسم وما يجوز من ذلك وما لا يجوز.
4 * فيما يدخل تحت القسمة من غير ذكره وما لا يدخل.
5 * في الرجوع عن القسمة واستعمال القرعة فيها.
6 * في الخيار في القسمة.
7 * في بيان من يلي القسمة على الغير ومن لا يلي.
8 * في قسمة التركة وعلى الميت أو له دين أو موصى له، وفي ظهور الدين بعد
القسمة، وفي دعوى الوارث ديناً في التركة أو عيناً من أعيان التركة.
9 * في الغرور في القسمة.
10 * في القسمة يستحق منها شيء.
11 * في دعوى الغلط في القسمة.
12 * في المهايأة.
13 * في المتفرقات.
(7/331)
الفصل الأول: في
بيان ماهية القسمة
فنقول: القسمة نوعان: قسمة في ذوات الأمثال كالمكيلات والموزونات والعدديات
المتقاومة.
وقسمة في غير ذوات الأمثال من العدديات المتقاومة كالنبات والأغنام.
فالقسمة في ذوات الأمثال إفراز وقبض لعين الحق حكماً، مبايعة من حيث
الحقيقة من وجه؛ لأن ما قبضه كل واحد منهما نصف ملكه من الأصل حقيقة، ونصفه
ملك صاحبه صار له من جهة صاحبه بالقسمة.
فهو معنى قولنا: إنها مبايعة من حيث الحقيقة من وجه، إلا أن ما أخذ كل واحد
منهما من نصيب صاحبه مثل ما ترك عليه بيقين وأخذ مثل الحق بمنزلة أخذ عين
الحق حكماً.
ألا ترى أن أخذ المثل في الرضى جعل كأخذ العين حكماً حتى لم تثبت المبادلة
بين المستقرض وبين المأخوذ.
فهو معنى قولنا: إنها إفراز لعين الحق حكماً، ففي كل موضع لا يمكن العمل
بشبه الإفراز والمبايعة يعمل بها، وفي كل موضع لا يمكن العمل بالشبهين يعمل
بنسبة الإفراز؛ لأن شبه الإفراز راجح؛ لأنه ثابت حكماً من كل وجه، وحقيقة
من وجه. ولهذا كان لكل واحد من الشريكين أن يأخذ نصيبه من غير رضى صاحبه.
وإذا اشترى رجلان مكيلاً أو موزوناً بدراهم وأقسماهما فيما بينهما، فلكل
واحد منهما أن يبيع من الحسر بنصف الدرهم.
فإن قيل: أليس محمد رحمه الله ذكر في آخر كتاب القسمة: إذا كان وصي الذمي
مسلماً، وفي التركة خمور وخنازير أنه يكره له قسمتها. ولو كان الرجحان في
هذه القسمة لشبه الإفراز ينبغي أن يجوز من غير كراهة، فإن الذمي إذا وكل
مسلماً أن يقبض خمراً له جاز للوكيل قبضها من غير كراهة.
قلنا: ذكر شمس الأئمة الحلواني: أنه إذا كان في التركة الخمور لا غير لا
يكره للوصي المسلم قسمتها، لأن هذه القسمة إفراز محض، ليس فيها شبهة
المبادلة، والمسلم يملك قبض خمر الذمّى، وإنما تكره القسمة إذا كان مع
الخمور الخنازير؛ لأن القسمة تكون مبادلة.
(7/333)
وغيره من المشايخ قالوا: لا، بل تكره قسمة
الخمور وحدها للمسلم؛ لأن العمل بالشبهين في قسمة الخمر ممكن بإثبات
الكراهة، ومعنى الكراهة ههنا بين الحرام المطلق والحرام المحض؛ لأنها لو
كانت إفرازاً من كل وجه كانت حلالاً، ولو كانت مبايعة من كل وجه كانت
حراماً، فإذاً كانت مبايعة حقيقية من وجه إفرازاً حكماً بين الحلال المحض
والحرام المحض.
وأما القسمة في غير ذوات الأمثال فشبه المبادلة فيها راجح؛ لأنها إفراز
حكماً من وجه، ومن حيث الحقيقية هي مبادلة من كل وجه، وأما الحقيقة فظاهر.
وأما الحكم؛ فلأن نصف ما يأخذ كل واحد منهما مثل لما ترك على صاحبه باعتبار
القيمة وأخذ المثل كأخذ العين حكماً، فكان إفرازاً إلا أن ما يأخذ كل واحد
منهما، ليس بمثل لما ترك على صاحبه بيقين، لأن المقسوم ليس من ذوات
الأمثال، فلا تثبت المعادلة بيقين، فالإفراز مع المبادلة استويا في الحكم،
ثم ترجحت المبايعة بالحقيقة؛ وهذا لأن الحقيقة وإن كانت لا تصلح حلاً
لمقابلة الحكم بنفسها، لكنها تصلح للترجيح، ولهذا كره بيع المرابحة لأن
الرجحان للمبايعة في غير ذوات الأمثال، فيكون مشترياً نصف ما أخذ بثلث ما
ترك على صاحبه من الثياب.
فإذا قال: اشتريت بالدراهم كان ذلك منه جناية، فإن قيل لو كان الرجحان في
هذه القسمة للمبايعة لكان لا يجبر الآتي عليها، وبالإجماع يجبر، وكذلك لا
يثبت حكم الغرور فيها، حتى إن الشريكين إذا اقتسما داراً أو أرضاً بينهما،
وبنى أحدهما في نصيبه بناء، ثم جاء مستحق واستحق الطائفة التي بنى فيها
ونقض بناءه لا يرجع على صاحبه بقيمة البناء.
ولو كان الرجحان لجانب المبايعة لثبت الغرور، كما لو اشترى.
قلنا: الجبر على هذه المبايعة لينقطع ارتفاق الآتي بملك صاحبه، ويجوز أن
يجرى الجبر على المبايعة باعتبار حق مستحق للغير.
ألا ترى: أن المشتري يجبر على تسليم الدار إلى الشفيع، وإن كان التسليم
إليه مبايعة إنما يجبر لحق الشفيع، وألا ترى أن المديون يحبس حتى يبيع ماله
ويقضي الدين، فيجريان الجبر عليها لا تبقى كونها مبايعة، وأما الثاني،
فقلنا: إنما لا يثبت الغرور؛ لأن كل واحد منهما مضطر في هذه المبايعة.
لأنه يحتاج إلى تخليص حقه، يمنع صاحبه عن الارتفاق بملكه، ولا يمكنه ذلك
إلا بهذه المبايعة لإحياء حقه، والجبر كما يثبت بالإكراه يثبت بالحاجة إلى
إحياء الحق، كصاحب العلو إذا بنى السفل، وإذا كان مجبراً على هذه المبايعة
لا يثبت فيها حكم الغرور، كالشفيع إذا أخذ الدار من المشتري بقضاء القاضي،
والله أعلم.
(7/334)
الفصل الثاني: في
بيان كيفية القسمة
في «المنتقى» : ابن سماعة عن أبي يوسف قال: كان أبو حنيفة رحمه الله لا يرى
القسمة على ما كان يصنع ابن أبي ليلى، ولكنه يقوّم الزراع من الأرض دراهم،
ويقوّم البناء دراهم، ويقوم الجذوع دراهم.
وكذلك في الأرض والشجر يقسمهما: يعطى كل إنسان ما أصابه، فإن كان في يده
فضل أخذه، وإن نقص زاده حتى يوفيه. في «الأصل» كان أبو حنيفة رحمه الله
يقول في العلو الذي لا سفل له، وفي السفل الذي لا علو له بأن كان علو مشترك
بين رجلين، وسفل لرجل آخر، وسفل مشترك بين هذين الرجلين، وعلوه لآخر، تجب
القسمة ذراع من السفل بذراعين من العلو.
وقال أبو يوسف: يحسب العلو بالنصف والسفل بالنصف. وقال محمد رحمه الله:
يقسم على قيمة السفل والعلو، فإن كان قيمتهما على السواء يحسب ذراع بذراع،
وإن كان قيمة إحداهما ضعف قيمة الآخر يحسب من الذي قيمته على الضعف ذراع
بذراعين من الآخر حتى يستويا في القيمة.
قيل: إن أبا حنيفة أجاب بناء على ما شاهد من عادة أهل الكوفة في اختيار
السفل على العلو في السكنى، وأبو يوسف أجاب بناء على ما شاهد من عادة أهل
بغداد في التسوية بين العلو والسفل في منفعة السكنى، ومحمد رحمه الله شاهد
اختلاف العادة في ذلك في البلدان، فقال: يقسم على القيمة.
وقيل: هذا بناء على أن عند أبي حنيفة لصاحب السفل منفعتان، منفعة بظاهره
ومنفعة بباطنه بأن يحفر في السفل سرداباً، فإن له ذلك إذا لم يضر بالعلو،
ولصاحب العلو منفعة واحدة، وهو أن يسكن فيه أما ليس له أن يبنى على علوه
يقال ضرّ بصاحب السفل أو لم يضر، فكان ذراعاً من السفل بذراعين من العلو من
هذا الوجه، أو نقول: العلو ينتفع في حالة واحدة وهي حالة قيام السفل،
والسفل ينتفع في حالتين، حالة قيام العلو وحالة قوامه، فكان قوامه مكان
منفعة العلو على نصف منفعة السفل فصار ذراع من السفل بذراعين من العلو
لهذا.
وعندهما لصاحب العلو أن يتصرف في علوه تصرفاً لا يضر بصاحب السفل، كما أن
لصاحب السفل أن يتصرف في سفله تصرفاً لا يضر بصاحب العلو فاستويا في
المنفعة، قال أبو يوسف رحمه الله بعد هذا: إذا استويا في المنفعة يجعل ذراع
من السفل بذراع من العلو، وقال محمد رحمه الله: مع أنهما استويا في المنفعة
تعتبر القيمة في القسمة، لأن في بعض البلدان يكون السفل أكثر قيمة، وفي بعض
البلدان يكون العلو أكثر قيمة. (2أ4)
وربما يختلف ذلك باختلاف الأوقات، فلا تتبين المعادلة إلا بالقيمة.
(7/335)
وقول محمد رحمه الله في «الكتاب» : أن على
قول أبي يوسف يحسب العلو بالنصف والسفل بالنصف، فذلك في مسألة أخرى، فقد
ذكرنا في هذه المسألة أن على قول أبي يوسف يجعل ذراع من السفل بذراع من
العلو.
وصورة تلك المسألة: سفل مفرد لا علو له، وعلو مفرد لا سفل له،. وبيت كامل
له سفل وعلو، وكل ذلك مشترك بين رجلين طلبا القسمة.
فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: القاضي يحسب ذراعاً من البيت الكامل بثلاثة
أذرع من العلو المفرد، ليكون ذراعان من العلو المفرد بإزاء ذراع من سفل
البيت الكامل، والذراع الثالث من العلو المفرد بإزاء ذراع من علو البيت
الكامل، ويحسب ذراع من البيت الكامل بذراع ونصف من السفل المفرد، ليكون
ذراعاً من سفل البيت الكامل بإزاء ذراع من السفل المفرد، وذراعاً من علو
البيت الكامل بإزاء نصف ذراع من السفل المفرد.
وعلى قول أبي يوسف: يذرع السفل المفرد والعلو المفرد والبيت الكامل، فإن
كان البيت الكامل عشرين ذراعاً، والعلو المفرد كذلك، والسفل المفرد كذلك
كان جملة ذرعان السفل المفرد والعلو المفرد أربعون، يجعل الأربعون من العلو
المفرد والسفل المفرد عشرون.
فهو معنى قوله: يحسب العلو بالنصف والسفل بالنصف، وإنما فعل هكذا لتقع
المعادلة بين البيت الكامل، وبين العلو المفرد والسفل المفرد، فإن العلو
والسفل عنده سواء فعشرون ذراعاً من البيت الكامل بمنزلة أربعين ذراعاً،
عشرون منها سفل وعشرون علو. وعلى قول محمد تعتبر القيمة في ذلك كله قال
الكرخي: وعليه الفتوى.
فإن قيل: كيف يقسم العلو مع السفل، والبيت الكامل قسمه واحدة عند أبي حنيفة
رحمه الله، ومن مذهبه أن البيوت المتفرقة لا تقسم قسمة واحدة على ما يأتي
بيانه بعد هذا إن شاء الله.
قلنا: تأويل المسألة وجهان: الأول: أن يكون الكل في دار واحدة والبنيان في
دار واحدة يقسمان قسمة واحدة، متلازقين كانا أو متفرقين، فكذا السفل والعل.
الثاني: أن يكون الكل في دور مختلفة، ولكن تراضوا على ذلك إلا أنهم طلبوا
المعادلة من القاضي فيما بينهم، وعند أبي حنيفة تجوز القسمة حالة التراضي
من الشركاء. وإذا كانت الدور من قوم ميراث، فإن أراد أحدهم أن يجمع نصيبه
منها في دار واحدة وأبى الآخر، قال أبو حنيفة رحمه الله: القاضي لا يجمع
نصيب كل واحد منهم في دار على حدة، بل يقسم كل دار بينهم على حدة إلا أن
يتراضوا على ذلك، سواء كانت الدار متلازقة أو متفرقة، وسواء كانت الدور في
محلة واحدة أو محلتين، في مصر واحد أو في مصرين.
وقال أبو يوسف ومحمد: إذا كانت الدور في مصر واحد، فالرأي في ذلك إلى
القاضي، إن رأى الصلاح في أن يجمع نصيب كل واحد منهم في دار على حدة، بأن
(7/336)
رأى ذلك أعدل للقسمة فعل ذلك، وإن رأى
الصلاح في قسمة كل دار على حدة فعل ذلك.
وأما إذا كانا في مصرين، روى هلال الرازي عن أبي يوسف رحمه الله: أن القاضي
يقسم كل دار على حدة، ولا رأي له في ذلك. قال القدوي رحمه الله: لو كانت
إحدى الدارين بالرقة والأخرى بالبصرة، قسمت أحدهما في الأخرى، وبعض مشايخنا
رحمهم الله ذكروا قول محمد مع أبي يوسف فيما إذا كانت الدور في مصرين
متفرقين.
لأبي حنيفة أن الدور أجناس مختلفة باعتبار المعنى وهو المنفعة وإن كانت في
مصر واحد؛ لأن بعضها يصلح للخزانة وبعضها لا يصلح، ولاختلاف المعاني أن في
اختلاف المجانسة، كما في الهروي مع المروي.
ولهذا لو وكله بشراء دين في مصر بعينه ولم يبين الثمن لا يجوز، وذكر الحاكم
في «المختصر» أنه وإن بين الثمن لا يجوز ما لم يبين المحلة، والأجناس
المختلفة لا تقسم قسمه واحدة إلا باصطلاح الشركاء على ما يأتي بيانه بعد
هذا إن شاء الله تعالى.
ولأبي يوسف ومحمد: أن الدور في مصر واحد جنس واحد باعتبار الاسم والمكان،
فإن الاسم واحد والمكان كذلك، فصارت كالثياب الهروية والمروية، فإنها
اعتبرت جنساً واحداً لاتحاد الاسم والمكان، أجناساً مختلفة باعتبار المعنى
على ما قال أبو حنيفة رواية، فيفوض الأمر إلى رأي القاضي، فإن شاء مال إلى
جنس واحد وقسمها قسمة واحدة، وإن شاء مال إلى الأجناس المختلفة وقسم كل
واحدة قسمة على حدة، بخلاف ما إذا كانا في مصرين مختلفين لأنهما جنسان
مختلفان لاختلاف المكان، ألا ترى أن المروي مع الهروي اعتبرا جنسين مختلفين
لاختلاف المكان.
ومن المشايخ قال: معنى قول أبي حنيفة رحمه الله: العقار لا يقسمه القاضي
قسمة جمع، أن الأولى أن لا يفعل القاضي ذلك، وإن لم يفعل الأولى جاز.
وأما المنازل فإن كانت في دور متفرقة أو في دار واحدة وهي متباينة، فالجواب
فيها عندهم جميعاً كالجواب في الدور، وإن كانت في دار واحدة فهي متباينة،
فعندهم جميعاً تقسم قسمة واحدة.
وأما البيوت فإن كانت في دار واحدة فإنها تقسم قسمة واحدة، سواء كانت
متلازقة أو متفرقة، وإن كانت في دور مختلفة فعلى الاختلاف الذي ذكرنا في
الدور، وفي كل ما ذكرنا من الدور والمنازل والبيوت لا تقسم قسمة جمع،
فتأويله إذا لم يكن معها شيء هو محل القسمة الجمع، أما إذا كان معها شيء هو
محل القسمة الجمع يقسم الكل قسمة جمع، ويجعل ذلك الشيء أصلاً في القسمة
والدور والمنازل والبيوت تبعاً، وسيأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وإذا كان في التركة دار أو حانوت والورثة كلهم كبار وتراضوا أن تدفع الدار
أو الحانوت إلى واحد منهم من جميع نصيبه من التركة جاز؛ لأن عند أبي حنيفة
إنما لا
(7/337)
يجمع نصيب واحد منهم من الورثة بطريق الحصر
من القاضي، فأما عند التراضي فذلك جائز.
في قسمة «شرح القدوري» : ولو دفع أحد الورثة الدار إلى واحد من الورثة من
غير رضا الباقين عن جميع نصيبه من التركة لم يجز، يعني: لا ينفذ على
الباقين إلا بإجازتهم، ويكون لهم استرداد الدار، وأن يجعلوها في القسمة إن
شاؤوا، وهذا ظاهر، وإنما الإشكال في أن الدافع هل يأخذ نصيبه من الدار بعد
استرداد الباقين، وقيل إنه لا يأخذ.
في «المنتقى» : أراد اثنان من قرابته جمع نصيبهما في موضع واحد من الضياع،
لم يكن لهما ذلك في قول أبي حنيفة وزفر رحمهما الله، وقال أبو يوسف: لهما
ذلك؛ إذ ليس فيه ضرر على من مرّ حوله.
ولو اختلفوا في قيمة البناء، فقال بعضهم: يجعل قيمة البناء بالذرعان من
الأرض، ومعنى المسألة: أن الدار والكرم إذا كان بين قوم، وأرادوا قسمتها في
أحد الجانبين بناء، فأراد أحدهما أن يكون عوض البناء دراهم، وأراد الآخر أن
يكون عوضه من الأرض، فإنما يجعل قيمة البناء بالذرعان من الأرض؛ لأن القسمة
إقرار ما هو مشترك بين شركاء الأرض دون الدراهم فمتى جعلنا قيمة البناء
بالذرعان من الأرض فقد أقررنا ما هو مشترك بينهما، ومتى جعلنا قيمته
بالدراهم فما أقررنا ما هو مشترك بينهما بل حملناها على البيع وللقاضي
ولاية القرار لا ولاية الحمل على البيع، ولأن تقويم البناء بالذرعان من
الأرض أولى في القسمة؛ لأنه يتعجل حق كل واحد من الشركاء في الحال، ومتى
قريناه بالدراهم يتعجل حق الذي يعطي الدراهم، ويتأخر حق الآخر إلى أن يحضر
الدراهم ويسلمها، فكان التقويم بالذرعان من الأرض أولى، وإن تعذر اعتبار
العادة بتقويم البناء بالذرعان من الأرض قومه بالدراهم.
وإن اتفقوا أن يجعلوا قيمة البناء في الدراهم فلهم ذلك؛ لأن الحق لهم، وإن
اختلفوا في الطريق، فقال بعضهم: نرفع طريقاً بيننا، وقال بعضهم: لا نرفع،
نظر فيه الحاكم، فإن كان يستقيم لكل واحد منهم طريق يفتحه في نصيبه قسمه
بينهم بغير طريق يرفع لجماعتهم، وإن كان لا يستقيم ذلك رفع طريقاً بين
جماعتهم؛ لأن (2ب4) .
حاصل اختلافهم في قسمة قدر الطريق، فالمانع من رفع الطريق يطلب قسمته
والآخر يأبى، وقسمته في الوجه الأول؛ إذ لا يفوّت بقسمة قدر الطريق ما كان
لهم من المنفعة قبل القسمة.
وفي الوجه الثاني قسمته غير ممكن؛ لأن قسمته تتضمن تفويت منفعة كانت لهم
قبل القسمة. ولو اختلفوا في سعة الطريق وضيقه، جعل الطريق بينهم على عرض
باب الدار، وطوله على أدنى ما يكفيهم، يعني يجعل طوله من الأعلى بقدر طول
الباب، لا إلى البناء، وفائدة قسمة ما وراء طول الباب أن أحد الشركاء إذا
أراد أن يخرج جناحاً في نصيبه إن كان فوق طول الباب فله ذلك؛ لأن الهواء
فيما زاد على طول الباب مقسوم بينهم، فيصير باباً على ما هو خالص حقه، وإن
كان فيما دون طول الباب فإنه يمنع من
(7/338)
ذلك؛ لأن قدر طول الباب من الهواء مشترك
فيما بينهم، والبناء على الهواء المشترك لا يجوز إلا برضا الشركاء، وأما
إذا كان أرضاً يرفع من الطريق مقدار ما يمر فيه ثور؛ لأنه يحتاج إليه
للزراعة فلا بد منه، ولا يرفع مقدار ما يمر فيه ثوران، لأن منه بد.
ويقسم القاضي الأعداد من جنس واحد من كل وجه بأن كانت المجانسة مجانسة بين
الأعداد اسماً ومعنى، كما في الغنم أو البقر أو المكيل أو الموزون أو
النبات قسمة جمع عند طلب بعض الشركاء.
وفي الأجناس المختلفة من كل وجه لا يقسم الأعداد قسمة جمع عند طلب بعض
الشركاء؛ وهذا لأن قسمة الجمع في الأجناس المختلفة يتضمن تفويت جنس المنفعة
على الآبي، فإنه قبل هذه القسمة له منفعة البقر والغنم والثياب، وبعد قسمة
الجمع يفوت عليه بعض هذه المنافع، أما منفعة الإبل والغنم والثياب.
والقسمة متى تضمنت تفويت جنس منفعة على الآبي، فالقاضي لا يقسم، أما قسمة
الجمع في الجنس الواحد لا يتضمن تفويت جنس المنفعة على الآبي، فيقسم
القاضي.
وإن كان جنساً واحداً من حيث الحقيقة، وأجناساً مختلفة من حيث المعنى
كالرقيق، فإن كان معه شيء آخر هو محل لقسمة الجمع، فالقاضي يقسم لكل قسمة
جمع بلا خلاف، ويجعل ذلك الشيء أصلاً في القسمة والرقيق تبعاً، ويجوز أن
يثبت الشيء تبعاً لغيره، وإن كان لا يثبت بشهود أعرف ذلك في مواضع كثيرة،
وإن لم يكن شيء آخر هو محل لقسمة الجمع.
قال أبو حنيفة: القاضي لا يقسمه قسمة جمع، وقالا: القاضي يقسم قسمة جمع
هكذا ذكر في «الأصل» : وذكر أبو الحسن على قوله: الرأي في ذلك إلى القاضي،
واختلف المشايخ فيه على قولهما بعضهم قالوا: يقسم الرقيق قسمة جمع على
قولهما على كل حال، ولا يكون ذلك موكولاً إلى رأي القاضي، وبعضهم قالوا: هو
موكول إلى رأي القاضي هما قولان أن الرقيق جنس واحد، إذا كان الكل ذكوراً
أو إناثاً من وجه حقيقة وحكماً، أما حقيقة فلا إشكال.
وأما حكماً بدليل: أنه إذا تزوج امرأة على عبد صحت التسمية، كما لو تزوجها
على ثوب هروي وأجناس مختلفة من وجه تتفاوت منهم في المعاني قرب يصلح
للأمانة، ورب عبد لا يصلح لذلك، ويتفاوتون أيضاً في الذهن والذكاء والعقل
والتمييز الذي هو المطلوب من الآدمي. وإذا كان جنساً واحداً من وجه
وأجناساً مختلفة من وجه جعلنا الرأي فيه للقاضي، كما في الدور.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول: العمل بالشبهين متعذر في حالة واحدة؛ لأن
أحدهما يقتضي جواز قسمة الجمع، والآخر ينفي، فيعمل بهما في الحالين،
فجعلناه جنساً واحداً إذا كان معه شئ آخر هو محل لقسمة الجمع، وجعلناه
أجناساً مختلفة إذا لم يكن معه شئ آخر هو محل لقسمة الجمع، وإنما فعلنا
هكذا لتمكننا العمل بالشبهين، لأنا متى جعلناه أجناساً مختلفة إذا كان معه
شيء آخر هو محل لقسمه الجمع يلزمنا أن نجعله أجناساً مختلفة على الانفراد
من الطريق الأولى؛ لأن من الأشياء ما لا يجوز قسمته على
(7/339)
الانفراد، ويجوز قسمته تبعاً لغيره كالشرب
والعيون والآبار، يتعطل العمل بالشبهين.
وكان الفقيه أبو بكر الرازي رحمه الله يقول: قول أبي حنيفة رحمه الله إذا
كان بيع الرقيق شيء آخر هو محل لقسمة الجمع، قسم الكل قسمة جمع، تأويله إذا
رضي الشركاء بقسمة الكل قسمة جمع.
أما إذا أبى البعض ذلك، فالقاضي لا يقسمه قسمة جمع عنده، قال: لأن الرقيق
مع غيره جنسان مختلفان، فإن كان لا يقسم الرقيق عنده عند الانفراد لأن
الجنس مختلف، فعند الاجتماع أولى.g
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأمة السرخسي: والأظهر عندي أن القاضي يقسم
الكل قسمة جمع عند أبي حنيفة رحمه لله وإن بعض الشركاء ذلك، ويجعل ذلك
الشيء الذي مع الرقيق أصلاً في القسمة، ويجعل الرقيق تبعاً، وأبو حنيفة
إنما لا يرى قسمة الرقيق قسمة جمع مقصوداً لا تبعاً لغيره.
في «فتاوى أبي الليث» : إذا كانت الأراضي بين شركاء لأحد هم عشرة أسهم،
ولآخر خمسة أسهم، ولآخر سهم، فأرادوا قسمتها، وأراد صاحب العشرة الأسهم أن
تقع سهامه متصلة، ولا يرضى بذلك الذي له سهم واحد قسمة الأراضي متصلة كانت
أو متفرقة بينهم على قدر سهامهم عشرة وخمسة وواحد.
وكيفية ذلك: أن تجعل الأراضي على عدد سهامهم بعد أن سويت وعدلت لم تجعل
بنادق سهامهم على سهامهم ويقرع بينهم فأول بندقة تخرج ترفع على طرف من
أطراف السهام فهو أول السهام، ثم ننظر إلى البندقة لمن هي، فإن كانت لصاحب
العشرة أعطاه ذلك السهم وتسعة أسهم متصلة بالسهم الذي وضع البندق عليه،
فيكون سهام صاحبها على الاتصال، ثم يقرع بين الستة كذلك، فأول بندقة تخرج
توضع على طرف من أطراف الستة الباقية، ثم ينظر إلى البندقة لمن هي فإن كانت
لصاحب الخمسة أعطاه ذلك السهم وأربعة أسهم متصلة بذلك السهم، يبقى السهم
الواحد لصاحبه، وإن كانت هذه البندقة لصاحب السهم الواحد كان ذلك السهم له
والباقي لصاحب الخمسة.
وفيه أيضاً: رجلان بينهما خمسة أرغفة، لأحدهما رغيفان، وللآخر ثلاثة أرغفة،
فدعيا ثالثاً وأكلوا جميعاً مستويين، ثم إن الثالث أعطاهما خمسة دراهم،
وقال لهما: إقسماها بينكما على قدر ما أكلت من رغيفكما، قال الفقيه أبو بكر
الرازي: لصاحب الرغيفين درهم منها لأن كل واحد منهما أكل رغيفاً وثلثا
رغيف، فصاحب الرغيفين أكل من رغيفيه رغيف وثلثي رغيف، فإنما أكل الثالث من
رغيفيه رغيف وثلث رغيف، فيجعل بمقابلة كل ثلث رغيف درهم، فيصير لصاحب
الرغيفين درهم منها، ويصير لصاحب الرغيف الثالث أربعة دراهم.
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: فعندي أن لصاحب الرغيفين درهمان، وللآخر
ثلاثة دراهم؛ لأن كل واحد منهم أكلوا الثلث رغيف ومن الرغيفين ثلثا رغيف،
فيجعل كل ثلث سهماً فيصير أكلا من الرغيفين سهمان ومن الثلاث ثلاثة أسهم،
فجملة ذلك
(7/340)
خمسة أسهم، فيقسم البدل كذلك.
في «فتاوى أهل سمرقند» : رجل مات وترك ثلاثة بنين وترك خمسة عشر خابية،
خمسة منها مملوءة خلاً، وخمسة منها إلى نصفها خل، وخمسة منها خالية، كلها
مستوية، فأراد البنون أن يقسموا الخوابي على السواء من غير أن يزيلونها عن
موضعها.
فالوجه في ذلك: أن يعطى أحد البنين خابيتين تعلو مملوءتين وخابيتين خاليتين
وخابيه إلى نصفها خل، ويعطى الثاني كذلك من كل خمس خوابي أحدها مملوءة
وأحدها خالية وثلاث خوابي إلى نصفها خل، يعطي الثالث ذلك؛ لأن المساواة
بذلك تقع.
سئل الفقيه أبو جعفر رحمه الله: عن سلطان غرم أهل قرية، فأرادوا قسمة ذلك
الغرامة، واختلفوا فيما بينهم، قال بعضهم: تقسم على قدر الأملاك، وقال
بعضهم: تقسم ذلك على قدر الرؤوس، قال: إن كانت الغرامة لتحصين أملاكهم يقسم
ذلك على قدر الأملاك؛ لأنها مؤنة الملك، فتقدر بقدر الملك وإن كانت الغرامة
لتحصين الأبدان يقسم ذلك على عدد الرؤوس؛ لأنها مؤنة الرؤوس، ولا شيء على
النسوان والصبيان في ذلك، لأنه لا يتعرض لهم.
سئل حمدان بن سهل عن قسمة العين، قال: يقسم بالكوارجات، قبل: فإن لم يكن،
قال: فبالحبال. قال الفقيه أبو الليث: يجوز بالحبال لقلة التفاوت فيها
استحساناً.
سئل شيخ الإسلام (3أ4) أبو الحسن عن رجلين بينهما أعناب كرم على الشركة
يقسمان ذلك بينهما كيلاً بالسولجة، أو وزناً بالقبان أو الميزان، قال: كل
ذلك واسع؛ لأن الناس تعارفوا العنب كيلاً أو وزناً، فثبت التساوي بالطريقين
جميعاً، فيجوز والله أعلم.
الفصل الثالث: في بيان ما يقسم وما لا يقسم،
وما يجوز من ذلك وما لا يجوز
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : بيت بين رجلين أراد أحد هما قسمته وأبى
الآخر، وارتفعا إلى القاضي، فإن كان البيت كبيراً بحيث لو قسم أمكن لكل
واحد منهما أن ينتفع بنصيبه انتفاع البيت كما قبل القسمة، فإن القاضي يقسم
بينهما، وإن كان البيت صغيراً بحيث لو قسم لا يمكن لكل واحد منهما أن ينتفع
به انتفاع البيت، فإنه لا يقسم إذا كان الآخر يأبى القسمة؛ لأن في هذا
الوجه طالب القسمة متعنت في طلب القسمة قاصد للإضرار بنفسه وبشريكه بإتلاف
منفعة كانت لهما قبل القسمة، والتعنت مردود، وفي الوجه الأول طالب القسمة
قاصد تكميل منافع الكل على نفسه وعلى شريكه، وشريكه في الإباء متعنت.
وإن طلبا القسمة في الوجه الثاني من القاضي، فعنه روايتان: في رواية يقسم
(7/341)
القاضي بينهما وإليه أشار محمد في «الأصل»
في باب ما لا يقسم من العقار وغيره، وإليه مال الشيخ الإمام الأجل شيخ
الإسلام، وفي رواية قال: لا يقسم القاضي بينهما، ولكن يتركهما وذاك، إن شاء
اقتسما بأنفسهما وإن شاء تركا كذلك، وإليه مال كثير من المشايخ؛ لأن في هذه
القسمة ضرر للشركاء بإتلاف المنفعة عليها، وليس للقاضي ولاية الإضرار
بالغير، وإن رضي به ذلك الغير. وإن كان نصيب أحد هما في البيت شقصاً قليلاً
لا ينتفع به إذا قسم البيت، ونصيب الآخر كثير، فطلب أحد هما القسمة، فهذا
على وجهين:
أحدهما: أن يطلب صاحب الكثير القسمة، والحكم فيه أن القاضي يقسمها بينهم،
هكذا ذكره محمد في «الأصل» .
وقال في باب ما لا يقسم من العقار: وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا كان
الطريق بين قوم إن اقتسموه لم يكن لبعضهم طريق ولا تنفذ، فأراد بعضهم
قسمته، وأبى الآخر، قال: لا أقسمه بينهم. بعض مشايخنا رحمهم الله قالوا:
المسألة محمولة على أن الطريق بينهم على السواء، وكان بحيث لو قسم بينهم لا
يبقى لواحد منهم طريق ومنفذ، فأما إذا كان الطريق بينهم على التفاضل بحيث
لو قسم لا يبقى لصاحب القليل طريق ولا ينفذ ويبقى لصاحب الكثير طريق ومنفذ،
فالقاضي يقسم إذا طلب صاحب الكثير القسمة، كما في مسألة البيت إذا طلب صاحب
الكثير القسمة.
ومنهم من قال: الطريق لا يقسم في الحالين بخلاف البيت، والفرق على قول هذا
القائل: أن في قسمة الطريق تعطيل ملك صاحب القليل في داره، لأنه متى قسم
الطريق ولا يمكنه التطرق فيما وقع في نصيبه لا يمكن التطرق به إلى داره،
فلا يمكنه الانتفاع بداره بعد ذلك، وتعطيل الملك على الغير لا يجوز.
وأما ليس في قسمة البيت تعطيل ملك صاحب القليل في نصيبه، لأنه يمكنه أن
يدخل في بنائه ذلك فيتوسع عليه منزله، ألا ترى أنه لا يجوز التهايؤ في
الطريق بين الشريكين لما فيه من تعطيل الملك على كل واحد منهما في نوبة
صاحبه، فكذا ألا تجوز قسمة رقبة الطريق إذا تضمنت تعطيل الملك على أحدهما
ويجوز التهايؤ في مسألة البيت لأن ملك كل واحد منهما لا يتعطل في نوبة
صاحبه، لأن صاحبه ينتفع به من جهته، فلو امتنعت القسمة في مسألة البيت إنما
تمتنع لما فيها من قطع الارتفاق بنصيب صاحبه، إلا أن ذلك لا يصلح بأنهما.
ألا ترى أنه جاز استرداد العارية وإن كان فيها قطع الارتفاف على المستعير
بملك المعير.
الوجه الثاني: إذا طلب صاحب القليل القسمة، وأبى صاحب الكثير ذلك، ذكر
الحاكم الشهيد في «المختصر» : أنها تقسم، وإليه ذهب شيخ الإسلام، وذكر
الكرخي في «مختصره» : أنها لا تقسم، وهكذا ذكر الفقيه أبو الليث وجعل هذا
قول أصحابنا رحمهم
(7/342)
الله، وإليه مال الحاكم عبد الرحمن والقاضي
الاسبيجاني والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي، قال الصدر الشهيد رحمه الله:
والفتوى على الأول؛ لأن الطالب رضي بالقسمة، وهذه القسمة لا تضمن فوات
منفعة على الآبي منفعة كانت له قبل القسمة صاحب الكثير ينتفع بنصيبه فيكون
هذا في حق الآبي قسمة لا إتلافاً، والقسمة مستحقه بطلب أحدهما، هكذا ذكر في
«شرح كتاب القسمة» وذكر هو رحمه الله في «شرح أدب القاضي» للخصاف: أن الأصح
أن القاضي لا يقسمها.
ووجه ذلك: أن الطالب وإن رضى بالضرر إلا أن رضاه بالضرر لا يلزم القاضي
شيئاً إنما الملزم طلب الإنصاف من القاضي وإيصال الطالب إلى منفعة ملكه،
وذلك لا يوجد عند طلب صاحب القليل.
قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا كان بين رجلين حائط طلب أحدهما القسمة من
القاضي، وأبى الآخر، فالقاضي لا يقسمها؛ لأنه لو قسم بعد الهدم كان في
الهدم إتلاف المنفعة، ولو قسم قبل الهدم بالمساحة كما تقسم الأرض كان ذلك
تسبباً إلى إتلاف المنفعة؛ لأن للطالب أن ينقض نصيبه بعد القسمة لأنه يكون
متصرفاً في نصيبه، وكما لا يجوز إتلاف المنفعة لا يجوز التسبب إليه، وكذلك
الحمام لا يقسم بطلب بعض الشركاء؛ لأن هذه القسمة إتلاف منفعة الحمام؛ لأنه
لا ينتفع به انتفاع الحمام إلا بجميعه، وإن قسموا ذلك فيما بينهم تركهم
القاضي وذلك لأن الحق لهم، فيكون التدبير في ذلك إليهم.
في «المنتقى» : في أول الباب الأول من كتاب القسمة: حائط بين دارين سقط حتى
بدى أسفله قال أحد الشريكين في الحائط: أقسم، وقال الآخر: لا بل ابني، قال
محمد رحمه الله: لا أقسم بينهما؛ فلعله أن يقع نصيب كل واحد منهما إن قسم
مما يلي الآخر رواه هشام.
وذكر في آخر هذا الباب ابن سماعه عن محمد رحمها الله: حائط بين رجلين،
وأرضه كذلك بينهما انهدم الحائط، وأرض الحائط مما يستطاع قسمته، طلب أحدهما
القسمة، فإن كان لهما عليه جذوع لا يقسم أرض الحائط، وإن لم يكن لأحدهما
عليه جذوع قسمت أرض الحائط.
وإذا كان بناء بين رجلين في أرض رجل قد بناه فيها بإذنه، فأراد أحدهما قسمة
البناء وهدمه، وأبى الآخر وصاحب الأرض غائب لا يكلفهما ذلك، فالقاضي لا
يقسمها بينهما؛ لأنه ما لم يكلفهما صاحب الأرض الهدم فلهما حق القرار، فكان
بمنزلة ما لو كان البناء في أرض هي ملكهما، ولو كان كذلك وطلب أحدهما من
القاضي قسمة البناء وهدمه، وأبى الآخر، فالقاضي لا يقسمها بينهم كذا ههنا،
ولو فعلا ذلك بأنفسهما تركهما القاضي، وذلك لما ذكرنا.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : في دكان في السوق بين رجلين يبيعان فيه
بيعاً أو يعملان فيها بأيديهما، فأراد أحدهما قسمته وأبى الآخر، فإن القاضي
ينظر في ذلك،
(7/343)
إن كان لو قسم أمكن لكل واحد منهما أن يعمل
في نصيبه العمل الذي كان يعمله قبل القسمة قسم، وإن كان لا يمكنه ذلك لا
يقسم، وإنه يخرج على ما ذكرنا.
وإذا كان زرع بين رجلين، فأرادوا قسمة الزرع فيما بينهم دون الأرض، فالقاضي
لا يقسمه، أما إذا بلغ الزرع وتسنبل، لأنه بعد ما بلغ وتسنبل صار مال
الربا، وفي القسمة معنى المبادلة فلا يجوز مجازفةً.
فإن قيل: ينبغي أن يصرف حبّ هذا إلى بين ذلك، وبين ذلك إلى حب هذا احتيالاً
للجواز، كما لو اشترى قفيز حنطة وقفيز شعير بقفيزي حنطة وقفيزي شعير، فإنه
يصرف حنطة هذا الجانب إلى شعير ذلك الجانب، وشعير هذا الجانب إلى حنطة ذلك
الجانب إحتيالاً للجواز، والجواب من وجهين:
أحدهما: أن موضوع هذه المسألة أنهما طلبا القسمة من القاضي، ومتى كانت
القسمة من القاضي لا يمكن صرف الجنس فيها إلى خلاف الجنس، لأنها تكون
مبايعة، وإلى القاضي القسمة عند طلب بعض الشركاء لا البيع. فعلى قول هذا
التعليل لو حصلت القسمة بالتراضي يجوز؛ لأن لهما القسمة والمبايعة، فمتى
تعذر وتجويزها مقاسمة تجوز مبايعة.
الوجه الثاني: أنه إنما يصرف الجنس إلى خلاف الجنس إذا كان الجنس الآخر
محلاً للبيع يجوز إفراد العقد عليه بانفراده، كما في الحنطة مع الشعير أما
(3ب4) إذا لم يكن الجنس الآخر محلاً للبيع فإنه لا يصرف الجنس إلى خلاف
الجنس.
ألا ترى أنه لو باع قفيز تمر بقفيزي تمر لا يجوز، ولا يصرف جنس هذا إلى نوى
ذلك؛ لأن النوى بانفراده ليس بمحل البيع لو باعه لا يجوز.
إذا ثبت هذا فنقول: الحنطة في سنبلها إن كانت محلاً للبيع فتبنها ليس بمحل
للبيع، ألا ترى أنه لا يجوز بيعه، فلا يصرف الجنس إلى خلاف الجنس، فعلى قول
هذا التعليل وإن اقتسما بتراضيهما لا يجوز.
وأما إذا كان الزرع بقلاً فإنما لا يقسم القاضي إذا كانت القسمة بشرط
الترك؛ لأنه إذا قسم بشرط الترك فقد شرط في القسمة إعارة الأرض، وإنه شرط
فاسد، والقسمة لا تصح مع الشرط الفاسد.
وأما إذا أراد القسمة بشرط القلع فله أن يقسم، إذ ليس في هذه القسمة شرط
العارية لو لم يصح لهما لا يصح لمكان الضرر وقد رضيا به، وهذا الجواب على
إحدى الروايتين، فأما على الرواية الأخرى ينبغي أن لا يقسم القاضي وإن رضيا
به كما ذكرنا هذا إذا طلبا القسمة من القاضي، وإن طلب أحدهما وأبى الأخر
فالقاضي لا يقسم على كل حال. ولو قسما الزرع بأنفسهما، فإن كان الزرع قد
بلغ وتسنبل فالجواب فيه قد مر، وإن كان الزرع بقلاً إن قسما بشرط الترك لا
يجوز، وإن قسما بشرط القلع جاز باتفاق الروايات.
وفي «المنتقى» زرع بين رجلين اقتسماه قبل أن يدرك، قال أبو حنيفة: لا يجوز،
(7/344)
وقال أبو يوسف: إنه جائز، وقسمة الطلع بدون
قسمة النخيل نظير قسمة الزرع قبل البلوغ بدون الأرض، إن اقتسما بشرط القلع
جاز، وإن اقتسما بشرط الترك لا يجوز، وإن رفعا الأمر إلى القاضي، فالقاضي
لا يقسمه بشرط الترك، وهل يقسمه بشرط القلع؟ فهو على الروايتين، وإن طلب
أحدهما القسمة فالقاضي لا يقسم لا بشرط القلع ولا بشرط الترك.
ولا يقسم الساحة الواحدة واللؤلؤة وكل شيء يحتاج إلى كسر أو شق أو قلع بطلب
البعض، إذا كان في قطعه أو شقه أو كسره ضرر، فأما إذا لم يكن في ذلك ضرر
يقسم، واللآليء واليواقيت تقسم لأن الجنس واحد، ومنفعة هذا الجنس مما لا
تتفاوت تفاوتاً لا يمكن استدراكه بخلاف العبيد على قول أبي حنيفة.
وإذا كان قناة أو نهراً أو عيناً، وليس معه أرض، فأراد بعض الشركاء القسمة،
فالقاضي لا يقسم؛ لأن منفعة النهر لا تحصل إلا بالبعض، وكذلك منفعة القناة
وأشباهها، وإن كان مع ذلك أرض للشرب لها الماء من ذلك قسمت الأرض وتركت
النهر والبئر والقناة على الشركة، ولو كان أنهاراً أو أباراً في الأرضين
متفرقة قسمت الآبار والعيون؛ والأراضي لأن الإفرازها هنا ممكن من غير ضرر.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا كانت الدار بين ورثة فاقتسموها،
وفصلوا بعضها على البعض بفصل قيمة البناء، أو ما أشبه ذلك فهذه القسمة وهذا
التفصيل جائز.
وصورته: إذا كانت الدار بين وارثين وهي ثلاثون ذراعاً قيمة عشرة أذرع منها
من جانب مثل قيمة العشرين من الجانب الآخر، إما لأجل البناء أو لمعنى من
المعاني، فاقتسما أن يكون لأحدهما هذه العشرة وللآخر العشرون، فهذه القسمة
جائزة واكتفي فيها بالمعادلة من حيث المعنى، وهو المالية عند تعذر اعتبار
المعادلة من حيث الصورة بالذرعان.
وإن اقتسما العرصة بالسوية نصفين وشرطا أن من وقع البناء في نصيبه أعطى نصف
قيمة البناء الآخر، فهذا على وجهين:
الأول: أن يقوموا البناء قيمة العدل، وشرطوا وقت القسمة أن من وقع البناء
في نصيبه أعطى نصف ذلك لصاحبه، بأن قوموا البناء مثلاً مئة درهم، وشرطوا
وقت القسمة أن من وقع البناء في نصيبه يعطي لصاحبه خمسين درهماً، وأنه جائز
لأنهم قسموا الأرض بالسوية، وباع الذي لم يقع البناء في نصيبه نصيبه من
البناء ببدل معلوم من صاحبه وكل ذلك جائز وتعين الكل قسمة.
أما على قول أبي حنيفة: لأن البيع مشروط في القسمة، فيكون تبعاً للقسمة
فيكون له حكم القسمة بطريق التبعية، وصار كالبيع المشروط في النكاح له حكم
النكاح عند أبي حنيفة رحمه الله بطريق التبعية.
وأما على قولهما: فلأن هذا البيع من ضرورات هذه القسمة، فيكون له حكم
القسمة بخلاف البيع المشروط في النكاح على قولهما، لأنه ليس من ضرورات
النكاح أما هنا بخلافه.
(7/345)
الوجه الثاني: إذا اقتسموا الأرض نصفين
وشرطوا وقت القسمة أن من وقع البناء في نصيبه أعطي نصف قيمة البناء الآخر
إلا أنه لم يعرف قيمة البناء وقت القسمة ولم يتبينوا ذلك، فهذه القسمة.
وهذا بخلاف ما لو باع داراً وأرضاً له وذكر الحقوق فإنه يدخل الطريق والشرب
في البيع، وإن أمكن للمشتري فتح الطريق وتسييل الماء من موضع آخر من ملكه؛
لأن العمل باللفظين ممكن في البيع، لأن موجب البيع ملك اليمين، وبعدما دخل
الحقوق ويبقى كذلك تمليكا للعين فلا ضرورة إلى إلغاء أحد اللفظين، أما عند
عدم ذكر الحقوق في القسمة لم يوجد في القسمة ما يوجب دخول الحقوق.
أما إذا أمكنه فتح الطريق وتسييل الماء في نصيبه؛ فلأن في هذه الصورة لا
يدخل الطريق وتسييل الماء مع ذكر الحقوق فبدون ذكر الحقوق أولى وأما إذا
أمكنه فتح الطريق وتسييل الماء في نصيبه؛ فلأن الطريق وتسييل الماء لو دخلا
في هذه القسمة دخلا بدلالة الحال؛ لأن الظاهر أنهما يباشران قسمة جائزة لا
فاسدة، لا أن دلالة الحال إنما يعتبر إذا لم يوجد الصريح بخلافها وقد وجد
الصريح هنا بخلافها، وهو التنصيص على لفظة القسمة، فإن القسمة للإفراز
وخلوص الأنصباء.
وإذا اقتسم الرجلان داراً، فلما وقعت الحدود بينهما، فإذا أحدهما الطريق
له، فإن كان يقدر على أن يفتح في حيزه طريقاً فالقسمة جائزة، وإن كان لا
يقدر أن يفتح في حيزه طريق فالقسمة جائزة، وإن كان لا يقدر أن يفتح لنصيبه
طريقاً، فإن لم يعلم وقت القسمة أن لا طريق له فالقسمة فاسدة؛ لأنها تضمنت
تفويت منفعة على بعض الشركاء بغير رضاه.
وإن علم وقت القسمة أن الطريق له فالقسمة جائزة، وإن تضمنت تفويت منفعة على
بعض الشركاء لرضاه بذلك، وكذلك لو اقتسما على أن الطريق لأحدهما جازت
القسمة لما ذكرنا، وإن كان يقدر على أن يفتح في نصيبه طريقاً يمر فيه الرجل
ولا يمر فيه الحمولة فالقسمة جائزة.
فالأصل في الطريق مرور الناس فيه، فأما مرور الحمولة فيه لا يكون إلا
نادراً، وإن كان بحيث لا يمر فيه رجل فهذا ليس بطريق، ولا تجوز القسمة فيها
من قطع منفعة الملك على أحدهما.
إذا كانت الدار بين رجلين، فاقتسما على أن يأخذ أحدهما الأرض كلها ويأخذ
الآخر البناء، ولا شيء له من الأرض، فهذا على ثلاثة أوجه:
الأول: إذا شرطا في القسمة على المشروط له البناء قلع البناء وفي هذا الوجه
القسمة جائزة؛ لأن القسمة في معنى البيع، ومن اشترى بناء بشرط القلع بأرض
له كان جائزاً فكذا هاهنا، وصار المشروط البناء مشترياً نصيب صاحبه من
النقص بما ترك على صاحبه من نصيبه من الأرض، وإن سكتا عن القلع ولم يشترطا
ذلك جازت القسمة
(7/346)
أيضاً؛ لأنه لما شرط لأحدهما البناء من غير
الأرض، والإفراز للبناء إلا بالأرض، فكأنه شرط عليه القلع من حيث المعنى.
وإن شرطا ترك البناء فالقسمة فاسدة؛ لأن المشروط له البناء يصير مشترياً
نصيب صاحبه من البناء، ومنفعة الأرض بقدر ما يكون عليه مراد البناء بنصيبه
من الأرض، فما يقابل منفعة الأرض يكون إجارة.
وهذه إجارة فاسدة لجهالة المدة. فهذه قسمة شرط فيها إجارة فاسدة فتفسد
كالبيع إذا شرط فيها إجارة، وإذا وقع الحائط أن يرفع الجذوع عن الحائط ليس
له ذلك، إلا أن يكونا شرطا في القسمة رفع الجذوع سواء كان الجذوع لأحدهما
على (4أ4) الخصوص قبل القسمة والحائط بينهما، أو كان السقف والجذوع مع
الحائط مشتركاً بينهما ثم صار الحائط لأحدهما بالقسمة والسقف والجذوع
للآخر.
ووجه ذلك: أن اشتراط الحائط لأحدهما بحكم القسمة إن كان يقتضي خلوص الحائط
له عن شغل صاحبه، فاشتراط السقف للآخر يوجب أن يكون الحائط مشغولاً بحق
صاحب السقف، ليسلم له ما شرط له من السقف، فأحد الاعتبارين إن كان يوجب رفع
البناء فالاعتبار الآخر يمنع رفع البناء فلا يكون له الرفع بالشك، ثم جوز
شرط رفع الجذوع في القسمة، وفيه نوع إشكال؛ لأن القسمة فيها معنى البيع.
ولهذا كل شرط يفسد البيع يفسد القسمة، ثم بيع الجذوع في السقف بشرط الرفع
لا يجوز، فكذا القسمة بهذا الشرط ينبغي أن لا تجوز، وإذا كان أصل الشركة
الميراث فجرى فيها الشراء بأن باع واحد منهم نصيبه يقسم القاضي إذا حضر
البعض، وإذا كان أصلها الشراء فجرى فيها الميراث بأن مات واحد من المشترين،
فالقاضي لا يقسم حتى يحضر سائر المشتريين لأن في الوجه الأول المشترى قام
مقام البائع في الشركة الأولى وكان أصلها وراثة، وفي الوجه الثاني الوارث
قام مقام المورث في الشركة الأولى، وكان أصلها شراء، فينظر في هذا إلى
الأول.5
في «فتاوى أبي الليث» : وفي هذا الموضع أيضاً: ضيعة بين خمسة من الورثة،
واحد منهم صغير واثنان غائبان، واثنان حاضران، فاشترى رجل نصيب أحد
الحاضرين، وطالب شريكه الحاضر بالقسمة عند القاضي وأخبراه بالقصة، فالقاضي
يأمر شريكه بالقسمة ويجعل وكيلاً عن الغائب والصغير؛ لأن المشتري قام مقام
البائع أن يطالب شريكه؛ لأن أصل الشركة كان ميراثاً، والعبرة في هذا الأصل
على ما مر.
وفي «الرقيات» كتب ابن سماعه إلى محمد رحمهم الله في قوم ورثوا داراً وباع
بعضهم نصيبه من أجنبي، وغاب الأجنبي المشترى، وطلبت الورثة القسمة وأقاموا
البينة على الميراث، قال محمد رحمه الله: إذا حضر الوارثان قسمها القاضي
حضر المشتري
(7/347)
أو لم يحضر؛ لأن المشتري بمنزلة الوارث
الذي باعه.
وفي «الأصل» : إذا كانت القرية وأرضها بين رجلين بالشراء فمات أحدهما وترك
نصيبه ميراثاً، فأقام ورثته البينة على الميراث وعلى الأصل، وشريك أبيهم
غائب لم يقسم القاضي حتى يحضر شريك أبيهم؛ لأن الوارث قائم مقام الميت، ولو
كان الميت حياً وحضر يطلب القسمة، وشريكه غائب فالقاضي لا يقسم، ولو حضر
شريك الأب وغاب بعض ورثة الميت قسمها القاضي بينهم؛ لأن حضور بعض الورثة
كحضور الميت لو كان حياً، أو كحضور باقي الورثة.
وإن كان أصل الشركة بالميراث بأن كانا أخوين وورثا قرية من أبيهما، فقبل أن
يقسما مات أحدهما وترك نصيبه ميراثاً لورثته، فحضر ورثة الميت الثاني وعمهم
غائب، وأقاموا البينة على ميراثهم عن أبيهم وعلى ميراث أبيهم عن جدهم قسمها
القاضي بينهم ويعزل نصيب عمهم، وكذلك لو حضر عمهم وغاب بعضهم قسمها القاضي
بينهم؛ لأن الأصل ميراث، وفي الميراث غيبة بعض الشركاء لا يمنع القسمة.
في «المنتقى» عن أبي يوسف: إذا اشترى رجل من أحد الورثة بعض نصيبه، ثم حضر
يعني الوارث البائع والمشتري وطلبا القسمة، فالقاضي لا يقسم بينهما حتى
يحضر وارث آخر غير البائع؛ لأن المشتري بمنزلة الوارث الذي باعه.
ولو اشترى منه نصيبه ثم ورث البائع شيئاً بعد ذلك، أو اشترى لم يكن خصماً
للمشتري في نصيبه الأول في الدار حتى يحضر وارث آخر غيره، ولو حضر المشتري
من الوارث ووارث آخر وغاب الوارث البائع، وأقام المشتري بينة على شرائه
وعلى الدار وعدد الورثة.
فإن هذا على وجهين: إن كانت الدار في يد الورثة ولم يقبض المشتري له، أقبل
بينة المشتري على المشتري من الغائب، لأن الوارث الحاضر لا يجحد نصيب
الغائب، ولو كان يجحده ويدعيه جعله خصماً، وقبلت بينة المشتري وقسمته.
وإن كان المشتري قبض وسكن الدار معهم ثم طلب القسمة هو ووارث آخر غير
البائع، وأقام البينة على ما ذكرنا فالقاضي يقسم الدار، وكذلك إذا طلبت
الورثة القسمة دون المشتري، فالقاضي يقسم الدار بينهم بطلبهم، وجعل نصيب
الغائب في يد المشتري، ولا يقضي بالشراء، وإن لم يكن المشتري قبض الدار عزل
نصيب الوارث الغائب، ولا يدفع إلى المشتري، وإن المشتري هو الذي طلب القسمة
وأبى الورثة لم أقسم؛ لأني لا أعلم أنه مالك، ولا أقبل بينته على المشترى
والبائع غائب.
وفيه أيضاً عن أبي يوسف: دار بين رجلين باع أحدهما نصيبه وهو مشاع من رجل،
ثم إن المشتري أمر البائع أن يقسم صاحبه الدار ويقبض نصيبه، فقاسمه لم تجز
القسمة؛ لأن البائع لا يكون قابض للمشتري من نفسه، ولو أخرت القسمة جعلت
قابضاً للمشتري، وإذا كان بين رجلين دار ونصف دار اقتسما على أن يأخذ
أحدهما الدار ويأخذ الآخر نصف الدار جاز، وإن كانت الدار أفضل قيمة من نصف
الدار؛ لأن البيع على هذا الوجه
(7/348)
جائز، وكذلك لو كانت سهاماً مسماة من هذه
الدار، وسهاماً مسماة من تلك الدار، فاقتسما على أن لهذا ما في هذه الدار
من السهام، ولهذا الآخر ما في هذه الدار الأخرى من السهام جاز؛ لأن البيع
على هذا الوجه جائز.
ولو كانت مئة ذراع، وهذه الدار ومئة ذراع أو أكثر من الدار الأخرى فاقتسما
على أن لهذا ما في هذه الدار من الذرعان، ولهذا ما في هذه الدار الأخرى لا
يجوز عند أبي حنيفة؛ لأن البيع على هذا الوجه لا يجوز عند أبي حنيفة، عرف
في كتاب البيوع أن بيع مئة ذراع من الدار لا يجوز، فكذا لا تجوز القسمة على
هذا؛ لأنها في معنى البيع.
وإذا كانت الدار بين رجلين ميراثاً أو شراء فاقتسما على أن أحد كل واحد
منهما طائفة على أن زاد أحدهما للآخر دارهم مسماة فهو جائز.
واعلم بأن ما يصلح ثمناً في باب البيع يصلح زيادة في القسمة، فالدارهم
والدنانير تصلح عوض في باب البيع، حالّة كانت أو مؤجلة فتصلح زيادة في
القسمة، والمكيل والموزون يصلح ثمناً في باب البيع، إن كان ثمناً وكان
موصوفاً سواء كان حالاً أو مؤجلاً فتصلح زيادة في القسمة تكون على هذا
الوجه.
وإن كان عيناً ولم يشترط فيه الأجل يصلح ثمناً في باب البيع، وإن شرط فيه
الأجل لا يصلح ثمناً في باب البيع، فالزيادة في القسمة تكون على هذا الوجه
أيضاً، وبيان مكان الإيفاء شرط عند أبي حنيفة إذا كانت الزيادة شيئاً لها
حمل ومؤنة عند أبي حنيفة، وعندهما بيان مكان الإيفاء ليس بشرط ويسلم عند
الدار.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : عقيب هذه المسائل: وهذا والسلم في القياس
سواء لكني استحسن في هذا، قال بعض مشايخنا رحمهم الله: القياس والاستحسان
ينصرف إلى فصل الأجل.
يعني القياس: أن لا يجوز شرط المكيل والموزون زيادة في القسمة بغير أجل كما
في السلم إلا أنه في الاستحسان يجوز، وهذا هو القياس والاستحسان الذي ذكرنا
في كتاب البيوع، إذا اشترى شيئاً بمكيل أو موزون في الذمة حالاً فالقياس أن
لا يجوز كما لو اشتراه بالثياب، وفي الاستحسان يجوز كما لو اشترى بالدراهم.
قال جماعة منهم: القياس والاستحسان على قول أبي حنيفة خاصة، يعني: القياس
أن لا تجوز القسمة متى ترك بيان مكان الإيفاء فيما له حمل ومؤنة على قول
أبي حنيفة رحمه الله القياس أن لا يجوز، وفي الاستحسان يجوز.
ووجه ذلك: أن مكان الإيفاء في القسمة مشروط دلالة، وهو عند الدار مقتضى
وجوب القسمة؛ لأن موجب القسمة المعادلة بين الأنصباء ما أمكن، وقد وجب
تسليم النصيبين في الدار فيجب تسليم البدل في الدار أيضاً، بخلاف فعل السلم
والإجارة؛ لأن موضع العقد لم يتعين مكاناً للإيفاء ثمة لإيفاء، ولا مقتضى
يوجب عقد السلم؛ إذ ليس بشيء (4ب4) عقد السلم على المعلق له ألا ترى أن أحد
البدلين في السلم يسلم حالاً والآخر يسلم في الثاني.
(7/349)
وقال بعضهم: القياس والاستحسان على قولهما
خاصة، القياس أن يجب تسليم ما شرط في موضع عقد القسمة كما في البيع والسلم،
وفي الاستحسان يجب التسليم عند الدار.
ووجه ذلك: أن في السلم إنما وجب تسليم المسلم إليه في مكان العقد؛ لأن
البدل الآخر وهو رأس المال وجب تسليمه في مكان العقد، فيجب تسليم هذا البدل
في مكان العقد أيضاً، وها هنا تسليم أحد البدلين وجب في الدار، فكذا تسليم
البدل الآخر فصارت الدار في مسألتنا كمكان العقد في مسألة السلم.
إذا كانت الدار بين رجلين اقتسماها فأخذ أحدهما قدر النصف، وأخذ الآخر قدر
الثلث، ورفع طريقاً بينهما قدر السدس فذلك جائز؛ لأنهما قسما بعض الدار
وبقيت شركتهما في البعض، ولو اقتسما الكل يجوز، ولو بقيا الكل على الشركة
يجوز، فإذا قسما البعض وبقيا الشركة في البعض يجوز أيضاً، وكذلك إذا شرطا
أن يكون الطريق لصاحب الأقل، وللآخر فيه حق المرور فهو جائز.
قال شيخ الإسلام: هذه المسألة دليل على جواز بيع حق المرور، والحاصل أن في
جواز بيع حق المرور روايتان، واتفقت الروايات أن بيع الترب وبيع حق السبيل
وبيع قرار العلو على السفل على الانفراد لا يجوز.
وذكر شمس الأئمة السرخسي في شرح هذا الكتاب من العلة ما يدل على جواز هذه
القسمة على الروايات كلها، وإن كان في جواز بيع حق المرور روايتان كان بأن
عين الطريق كان مملوكاً لهما، وكان لهما حق المرور، وقد جعل أحدهما نصيبه
من رقبة الطريق ملكاً لصاحبه عوضاً عن بعض ما أخذ من نصيب صاحبه، وبقي
لنفسه حق المرور هذا جائز بالشرط، كمن باع طريقاً مملوكاً من غيره على أن
يكون له فيه حق المرور، وكمن باع السفل على أن له حق قرار العلو فإنه يجوز
كذا ها هنا.
وإذا كانت الدار بين رجلين وبينهما شقص من دار أخرى اقتسماها على أن أخذ
أحدهما الدار والآخر الشقص، فإن علما أن سهام الشقص كم هو فالقسمة جائزة،
وإن لم يعلما فالقسمة مردودة، ولو علم أحدهما ولم يعلم الآخر فالقسمة
مردودة.
وهكذا ذكر المسألة في «الأصل» : في هذا الكتاب ولم يفصل الجواب منها على
التفصيل إن علم المشروط له الشقص جازت القسمة بلا خلاف، وإن جهل الشارط
ذلك، وإن جهل المشروط له وعلم الشارط كانت المسألة على الخلاف.
على قول أبي حنيفة ومحمد تكون القسمة مردودة، وعلى قول أبي يوسف تكون جائزة
وهذا القائل يقيس مسألة القسمة على مسألة البيع المذكور في كتاب الشفعة.
صورته: إذا باع الرجل نصيبه من دار من رجل، وقد علم أحدهما بمقدار النصيب
ولم يعلم الآخر، إن علم المشتري ولم يعلم البائع جاز البيع بلا خلاف، وإن
علم البائع
(7/350)
ولم يعلم المشتري فالمسألة على الخلاف،
فكان تأويل المذكور في كتاب القسمة: إذا جهل أحدهما؛ إذا جهل المشروط له،
وقوله: القسمة مردودة، يعني: في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. ومنهم من
قال: لا بل الجواب في مسألة القسمة على ما أطلق، والقسمة مردودة في قولهم
جميعاً، واختلفوا فيما بينهم.
قال بعضهم: إنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع، موضوع مسألة الشفعة أنه
أضاف البيع إلى نصيبه، فيدخل تحت البيع جميع نصيبه بحكم الإضافة فلا يبقى
للبائع حق المنازعة بعد ذلك بأن يقول: عينت نصيبي نصيب كذا دون كذا، وموضوع
مسألة كتاب القسمة أنهما ذكرا الشقص مطلقاً غير مضاف إليهما، وعند ذكر
الشقص مطلقاً إنهما ما جهل يقع بينهما منازعة في مقدار الشقص، الشارط يقول:
عينت بالشقص بعض نصيبي، والمشروط له يقول: عنيت جميع نصيبك؛ لأن اسم الشقص
كما ينطلق على الكثير ينطلق على القليل، فيقع بينهما منازعة مانعة من
التسليم والتسلم.
ووزان مسألة البيع في مسألة القسمة ما إذا قال البائع بعت نصيباً من الدار
ولم يقل بعت نصيبي وهناك لا يجوز البيع إذا جهل أحدهما النصيب، ووزان مسألة
القسمة من مسألة البيع ما إذا قالا: الشقص الذي لنا في الدار الأقوى، وهناك
كان الجواب في القسمة كالجواب في البيع.
وإلى هذا مال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده، وشمس الأئمة السرخسي رحمه
الله، ومن المشايخ من فرق بين القسمة والبيع.
والفرق: أن مبنى القسمة على المعادلة في المنفعة والمالية، ولا يصير ذلك
معلوماً لكل واحد منهما إلا إذا كان الشقص معلوماً لكل واحد منهما، فأما
البيع عند المعاينة يقصد به الاسترباح والمشتري هو الذي يقبض المبيع،
فيشترط أن يكون مقداره معلوماً له، فأما حق البائع في الثمن وهو معلوم
فيتحقق هذا المعنى.
نظير الفرق: إذا اقتسم الشركاء فيما بينهم، وفيهم شريك غائب أو صغير ليس له
وصي لا تصح القسمة، وإن فعلوا ذلك بأمر القاضي صحت القسمة لأن فعلهم بأمر
القاضي كفعل القاضي بنفسه ولو قسم القاضي بنفسه وفيهم غائب أو صغير تصح
القسمة؛ وينتصب الحاضر خصماً عن القاضي، كذا إذا فعلوا بأمر القاضي، وإن
قدم الغائب وأجاز قسمتهم جاز، وكذلك إذا بلغ الصغير وأجاز قسمتهم، لأن هذا
تصرف عقد وله مجبر حال وقوعه، فإن الغائب يجبر، وكذلك ابن الصغير أو وصيه
بجبر وكل تصرف وله مجبر حال وقوعه يتوقف.
فإن قيل: في هذا توقيف الشراء، ومن مذهبنا أن الشراء لا يتوقف.
قلنا: الشراء إنما لا يتوقف إذا كان شراء محضاً بأن اشترى شيئاً لغيره
بدارهم بغير أمره، فأما إذا كان شراء فيه بيع فإنه يقف، كما لو اشترى جارية
لنفسه بعبد للصغير، فإن شراء الجارية يقف لأنه بيع في حق العبد، إذا ثبت
هذا فنقول: هذه القسمة شراء فيها معنى البيع فجاز أن يقف، فإن مات الغائب
أو الصبي فأجاز وارثه عمل بإجازة الوارث
(7/351)
عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد تبطل
القسمة.
فوجه قول محمد: أن موت من له الإجازة قبل الأداء تبطل العقد كالبيع المحض.
وجه قولنا: أنا لو أبطلنا القسمة بموت من له الإجازة احتجنا إلى إعادة
مثلها ثانياً عند طلب بعض الشركاء، فلا يفيد الإبطال بخلاف البيع المحض؛
لأنا لو أبطلنا البيع بموت من له الإجازة لا نحتاج إلى إعادة مثله ثانياً،
فكان في الإبطال فائدة، ثم إنما تعمل الإجازة من الغائب أو من وارث أو من
الوصي أو من الصبي بعد البلوغ إذا كان ما وقع عليه القسمة قائماً وقت
الإجازة، فأما إذا هلك فلا كالبيع المحض الموقوف على الإجازة إنما تعمل فيه
الإجازة إذا كان المبيع قائماً وقت الإجازة، وكما تثبت الإجارة صريحاً
بالقول تثبت الإجازة دلالة بالفعل كما في بيع المحض.
الفصل الرابع: فيما يدخل تحت القسمة من غير ذكر
وما لا يدخل
وتدخل الشجرة في قسمة الأراضي، وإن لم يذكروا الحقوق والمرافق كما تدخل في
بيع الأراضي، لا يدخل الزرع والثمار في قسمة الأراضي، وإن ذكروا الحقوق لأن
الثمار والزرع ليست من حقوق الأرض فحقوق الأرض ما لا ينتفع بها بدون الأرض،
فيكون من توابع الأرض، والزرع والثمار مما ينتفع بها دون الأرض فلا تكون من
حقوق الأرض.
ولهذا لا يدخل في المبيع المحض بذكر الحقوق، وكذلك إن ذكر المرافق مكان
الحقوق لا تدخل الثمار والزرع في ظاهر الرواية؛ لأن في العرف يروا المرافق
الحقوق، فصار ذكر الحقوق سواء، ولو ذكروا في القسمة بكل قليل أو كثير فيها
ومنها، إن قال بعد ذلك: من حقوقها لا تدخل الثمار والزرع، وإن لم يقل من
حقوقها يدخل.
والأمتعة الموضوعة فيها لا تدخل على كل حال لأن الأمتعة إن كانت فيها فليست
منها بوجه، ما وهو إنما شرط لصاحبه كل قليل وكثير هو فيها ومنها، فما يكون
فيها ولا يكون منها لا يكون له بخلاف الزرع؛ لأن الزرع فيها من كل وجه
ومنها من وجه، لأن الزرع متصل بالأرض إتصال تركيب بهذا الطريق دخل الزرع في
بيع الأرض بذكر كل قليل وكثير فيها ومنها، وأما الشرب (5أ4) والطريق هل
يدخلان من غير ذكر الحقوق في القسمة؟.
ذكر الحاكم الشهيد في «المختصر» : أنهما يدخلان، وهكذا ذكر محمد رحمه الله
في «الأصل» : في موضع آخر من هذا الكتاب، فإنه قال: إذا كانت الأرض بين قوم
ميراثاً اقتسموها بغير قضاء، فأصاب كل إنسان منهم فراح على حده، فله شربه
وطريقه ومسيل مائه وكل حق لها.
والصحيح: أنهما لا يدخلان، ألا ترى أنهما لا يدخلان في البيع من غير ذكر
(7/352)
الحقوق فكذا في القسمة؛ لأنها بمعنى البيع
إلا أن فرق ما بين البيع والقسمة أن البيع جائز على كل حال، والقسمة جائزة
إن أمكنه أن يجعل لأرضه شرباً وطريقاً من موضع آخر، وإن لم يمكنه إن علم
وقت القسمة أن لا طريق ولا شرب له، فكذا القسمة جائزة، وإن لم يعلم فالقسمة
باطلة؛ لأن البيع وضع لتمليك ما عقد عليه البيع، وقد حصل هذا المعنى على كل
حال.
فأما القسمة فكما أن فيها معنى التملك، ففيها معنى الإقرار لما كان لهم من
المنفعة والمالية قبل القسمة، وإنما يتحقق الإقرار إذا لم يتضمن لفوات
منفعة على بعض الشركاء منفعة كانت لهم قبل القسمة، فبدون ذلك لا تكون قسمة
على الحقيقة، فيتوقف على رضاهم إذا ذكر الحقوق والمرافق في القسمة، فلما
استحق المشروط له الحقوق الطريق فيما أصاب صاحبه بالقسمة إذا لم يمكنه
إيجاد طريق آخر، أما إذا أمكنه فلا، وقد ذكرنا جنس هذا فيما تقدم.
ولو كان الطريق في أرض غيرهما استحق كل واحد منهما الطريق بذكر الحقوق
أمكنه إيجاد طريق آخر، أو لم يمكن وإن لم يذكر الحقوق والمرافق في القسمة،
وإنما ذكر كل قليل أو كثير هو فيها ومنها، قيل: يدخل الطريق والشرب.
ذكر شيخ الإسلام: أن في المسألة روايتين، في رواية لا يدخل لأن هذه الحقوق
في البيع ولا منها، وفي رواية هذا الكتاب يدخل بحكم العرف، فإنه كما يراد
بهذه الكلمة إدخال أما فيها ومنها يراد بها إدخال هذه الحقوق.
وإذا اقتسم نفر أرضاً على أن لفلان هذه القطعة وهذه النخلة، والنخلة في غير
هذه القطعة، وعلى أن لفلان الآخر هذه القطعة الأخرى، ولم يقولوا لكل حق هو
لها، وعلى أن للثالث التي فيها تلك النخلة، فالذي شرط له النخلة يستحق
النخلة بأصلها من الأرض حتى لم يكن للذي شرط له القطعة التي فيها النخلة أن
يقطع النخلة، فالنخلة تستحق بأصلها في القسمة.
وكذلك في الإقرار، إذا أقر لرجل بنخلة فإنه يستحق بأصلها، وإذا باع النخلة
أو باع الشجرة مطلقاً، ذكر شيخ الإسلام أن في المسألة روايتين، وذكر شمس
الأئمة السرخسي ذكر في «النوادر» : أن في البيع اختلافاً بين أبي يوسف
ومحمد، على قول أبي يوسف يستحق النخلة بأصلها، وعلى قول محمد لا يستحق،
فمحمد يحتاج إلى الفرق بين البيع وبين القسمة والإقرار.
والفرق: أن في القسمة بعض ما يصيب كل واحد منهما باعتبار أصل ملكه، وأصل
ملكه فيها نخلة، وإنما يكون نخله قبل القطع فمن ضرورة استحقاق بعض النخلة
بأصلها استحقاق جميع النخلة بأصلها وكذلك في الإقرار؛ لأن الإقرار اختيار
تملك النخلة له، فأما البيع إيجاب مبتدأ فلا يستحق به إلا المسمى فيه،
والنخلة اسم لما ارتفع من الأرض لا الأرض، فلا يجوز أن يثبت الملك ابتداء
في شيء من الأرض بتسمية النخلة في البيع ما لم يسم النخلة بأصلها.
(7/353)
والحائط يستحق بأصله في الإقرار والقسمة
والبيع باتفاق الروايات، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في «شرحه» ، وذكر
الخصاف في كتاب الشروط أن الحائط والنخلة والشجرة سواء.
ثم ذكر محمد في «الكتاب» : أن الشجرة تستحق بأصلها في القسمة، ولم يذكر
مقدار ذلك.
بعض مشايخنا قالوا: يدخل في القسمة من الأرض ما كان بإزاء العروق يوم
القسمة عروقاً لو قطعت تثبت الشجرة، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي رحمه
الله، وبعضهم قالوا: يدخل في الأرض بمقدار غلظ الشجرة يوم القسمة، وإليه
مال في «الكتاب» فإنه قال: إذا زادت النخلة غلظة كان لصاحب الأرض أن يبحث
ما ازداد، فدل أنه قدر ما تحته من الأرض بمقدار غلظ الشجرة وقت القسمة.
فإن قطع النخلة أو الشجرة فله أن يغرس مكانها ما بدا له لأن صاحبها ملك من
الأرض بقدر الغلظ الذي كان وقت القسمة، فكان له أن يتصرف فيها ما شاء، فإن
أراد أن يمر إليها فمنعه صاحب الأرض عنه، إن ذكروا في القسمة بكل حق هو لها
فليس لصاحب الأرض أن يمنعه وله الطريق إلى كله، وإن لم يذكروا ذلك، إن علم
وقت القسمة أن لا طريق له فالقسمة جائزة، وإلا فالقسمة مردودة.
وإذا كانت قرية وأرض ورحى ما بين قوم بالميراث، فاقتسموها فأصاب رجلاً
الرحى ونهرها وأصاب آخر التنور وأرضاً مسماة، وأصاب آخر أيضاً أرضاً مسماة
فاقتسموها بكل حق لها، فأراد صاحب النهر أن يمر إلى نهره في أرض أصاب صاحبه
بالقسمة فمنعه صاحبه، فليس له منعه إذا كان النهر في وسط أرض هذا ولا يصل
إليه إلا بأرضه، لأن ذكر الحقوق والحالة هذه لاشتراط هذا الطريق، والطريق
يستحق بالشرط.
وإن كان يصل إلى النهر بدون أرضه بأن كان النهر متفرجاً مع حد الأرض، لم
يكن له أن يمر في أرض هذا، وإن كان الطريق إلى النهر في أرض الغير لا في
نصيب صاحبه يدخل في القسمة بذكر الحقوق أمكنه الوصول إلى النهر بدون ذلك
الأرض، أو لم يمكنه، وقد مر جنس هذا.
وإن لم يشترطوا في القسمة الحقوق والمرافق وما أشبهها، وكان الطريق في أرض
الغير، فإن لم يمكن فتح الطريق في نصيبه فالقسمة فاسدة، إلا إذا علم بذلك
وقت القسمة وإن أمكنه فتح الطريق في نصيبه فالقسمة جائزة، وكذلك إذا أمكنه
المرور في بطن النهر بأن نضب الماء من موضع منه، وكان يمكن المرور في ذلك،
فهو قادر على أن يمر في نصيبه فتكون القسمة جائزة، وإن لم يكن من النهر شيء
مكشوف فالقسمة فاسدة؛ لأن المرور متعذر إن كان الماء كثيراً ومتعسر إن كان
قليلاً فلا يلتفت إليه، والتحق هذا بما إذا لم يمكنه فتح الطريق في نصيبه.
لا يدخل العلو والكنيف والشارع في قسمة الدار، وإن لم يذكر الحقوق
والمرافق، والظلة لا تدخل بدون ذكر الحقوق والمرافق عند أبي حنيفة، وعندهما
تدخل إذا كان
(7/354)
مفتحها من الدار، والجواب في القسمة نظير
الجواب في البيع.
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: دار بين قوم اقتسموا، فوقع في نصيب أحدهم
بيت فيه حمامات، فإن لم يذكروا الحمامات في القسمة فهي بينهم كما كانت، وإن
ذكروها فإن كانت لا توجد إلا لصيد فالقسمة فاسدة لما ذكرنا أن القسمة في
معنى البيع، وبيع الحمامات إذا كانت لا توجد إلا لصيد فاسد فكذا القسمة،
وإن كانت الحمامات توجد بغير صيد فالقسمة جائزة، لأن بيع الحمامات إذا كانت
توجد بغير صيد جائزة، وهذا كله إذا اقتسموها بالليل حتى إذا اجتمعت كلها في
البيت، فأما إذا اقتسموها بالنهار بعد ما خرجن من البيت فالقسمة فاسدة
كالبيع.
في «مجموع النوازل» : شريكان اقتسما كرماً نصفين، وفيه أعناب وثمار، فإن
قالا: على أن هذا النصف لفلان بكل قليله وكثيره، أو قالا: بما فيه الأعناب
والثمار تصير الأعناب والثمار مقسومة، وإن لم يقولا ذلك تبقى مشتركة؛ لأن
قسمة العقار بيع، وبيع الكرم لا يكون بيعاً للأعناب والثمار إلا بالتنصيص
أو بذكر القليل والكثير.
في «فتاوى أبي الليث» : كرم بين اثنين اقتسماه فوقع النصف الأعلى في نصيب
أحدهما مع الطريق القديم، ووقع النصف الأسفل في نصيب الآخر مع طريق رفعوه
للنصف الأسفل، وفي الطريق الذي رفعوه للنصف الأسفل أشجار، قال الفقيه أبو
القاسم: لمن جعل له الطريق، وقال الفقيه أبو الليث رحمه الله: إن جعل ملك
الطريق له فالأشجار له: لأنها بمنزلة بيع الأرض، والشجرة تدخل في بيع الأرض
تبعاً، وإن جعلا حق المرور له لا ملك الطريق، فالأشجار مشتركة بينهما كما
كانت. فيه أيضاً، لو كان بين شريكين دار فرفعا باباً منها ووضعاه فيها، ثم
قسما الدار، فالباب الموضوع لا يدخل في القسمة إلا بالذكر كما في البيع
والله أعلم.
الفصل الخامس: في الرجوع عن القسمة (6ب/4)
واستعمال القرعة فيها
إذا كان الغنم أو ما أشبهه بين رجلين فأرادا قسمتها، وقسماها نصفين ولم
يقصرا عن طلب المعادلة، ثم بدا لأحدهما الرجوع، فإن بدا له قبل تمام القسمة
بأن كان ذلك قبل خروج القرعة فله الرجوع؛ لأن المقصود من القسمة وهو تعيين
الأنصباء لم يحصل قبل الإقراع، فحال ما قبل الإقراع في القسمة والمقصود لم
يحصل، كحال المساومة في باب البيع، وإن بدا له بعد تمام القسمة، بأن بدا له
بعد ما خرج قرعتهما، أو بعد ما خرج قرعة أحدهما وتعين نصيب كل واحد منهما
ليس له الرجوع؛ لأن القسمة في معنى البيع، والرجوع عن البيع بعد تمامه لا
يعمل، فكذا الرجوع عن القسمة.
وإن كان الشركاء ثلاثة، فخرج قرعة أحدهم فلكل واحد منهم الرجوع؛ لأن القسمة
لم تتم في كل واحد منهما، وأما في حق من خرج قرعته وإن تعين نصيبه؛ لأن ما
يترك
(7/355)
على صاحبيه من نصيبه لم يتعين بعد فكأنه
وجد إحدى شطري القسمة، وإن خرج قرعة اثنين منهم، ثم أراد أحدهم أن يرجع ليس
له ذلك؛ لأنه تعين نصيب كل واحد منهم وتمت القسمة في حقهم؛ لأن بخروج
السهمين يتعين السهم الثالث.
ولو كان الشركاء أربعة ما لم تخرج قرعة ثلاث منهم كان لكل واحد منهم
الرجوع، وهو بناء على ما قلنا.
وفي «نوادر ابن رستم» : لو كانت القسمة من القاضي أو من قسامه، فليس لأحد
الشركاء الرجوع وإن لم تخرج السهام أصلاً؛ لأن القاضي يجبرهم على ذلك فلا
يلتفت إلى رجوع واحد منهم لا بعد خروج القرعة ولا قبل خروجها.
وإذا كان غنم بين قوم تشاحوا عليها قبل أن يقسموها، فأيهم خرج سهمه أولاً
عدوا له، كذا الأول فالأول فهذا لا يجوز؛ لأن ذلك مجهول؛ لأنه لا يدري ما
نصيب كل واحد منهم بعد الإقراع، فإنه لا يدري أي عشرة تعد له الجيد أو
الوسط أو الرديء، فهذه حياله مفضية إلى المنازعة، فيفيد القسمة كما يفيد
البيع.
وإن كان في الميراث إبل وبقر وغنم، فجعلوا الإبل قسماً والبقر قسماً والغنم
قسماً ثم تشاحوا عليها وأقرعوا، فهذا جائز لأن ما يصيب كل واحد منهم بعد
القرعة معلوم بخلاف الفصل الأول، فإن ما يصيب كل واحد بعد القرعة ثمة ليس
بمعلوم.
وإذا كانت الدار بين رجلين فاقتسما على أن أخذ أحدهما الثلث من مؤخرها
بجميع حقه، وأخذ الآخر الثلثين من مقدمها بجميع حقه فلكل واحد منهما أن
يرجع عن ذلك ما لم تقع الحدود بينهما، ولا يعتبر رضاهما بما قالا قبل وقع
الحدود؛ وهذا لأن الرضا بالقسمة إنما يعتبر وقت وجود القسمة وتمامها،
كالرضا بالبيع يعتبر وقت وجود البيع وتمامه، وتمام القسمة بوقع الحدود
والتعيين، إما بالنص أو بالإقراع؛ لأن الإقرار به يتحقق.
ذكر في «الأجناس» : القرعة ثلاث: الأولى لإثبات حق وإبطال حق آخر وإنها
باطلة، كمن أعتق أحد عبديه بغير عينه، ثم تعين بالقرعة، والأخرى لطيبة
النفس، وإنها جائزة كما يقرع بين النساء ليسافر بها، والثالث لإثبات حق
واحد وفي مقابلة مسألة ليقر بها كل حق كالقسمة وهو جائز والله أعلم.
الفصل السادس: في الخيار في القسمة
الخيار نوعان: نوع يثبت بالشرط، ونوع يثبت بدون الشرط، والذي يثبت بدون
الشرط نوعان: خيار الرؤية وخيار العيب، والقسمة نوعان: قسمة يوجبها الحكم،
نعني بها: قسمة يجبر الآبي عليها، وقسمة لا يوجبها الحكم نعني: قسمة لا
يجبر الآبي عليها.
وقد أورد محمد رحمه الله في «الأصل» لكل خيار باباً وبدأ بخيار الرؤية،
فنحن
(7/356)
نبدأ به أيضاً، فنقول: خيار الرؤية يثبت في
القسمة التي لا يوجبها الحكم؛ لأن إثباته مفيد، وهل يثبت في القسمة التي
يوجبها الحكم؟ ينظر إن وقعت هذه القسمة في ذوات الأمثال من المكيل أو
الموزون أو العدديات المتقاربة من جنس واحد لا يثبت؛ لأن إثباته غير مفيد؛
لأنا متى أثبتناه ونقضنا القسمة به يجب إعادتها كما وقعت أول مرة، فلا يفيد
الاشتغال به بخلاف القسمة التي لا يوجبها الحكم، لأنا لو نقضناها بخيار
الرؤية لا يجب إعادة مثلها ثانياً، فكان الإثبات مفيداً.
وإن وقعت هذه القسمة في غير ذوات الأمثال كالغنم والبقر والإبل والثياب
الهروية أو المروية ففيه روايتان، ذكر في رواية أبي سليمان أنه يثبت، وذكر
في رواية أبي حفص أنه لا يثبت، والصحيح ما ذكر في رواية أبي سليمان.
ووجه ذلك: أن إثبات الخيار في هذه القسمة مفيد؛ لأن المعادلة في غير المكيل
والموزون تعتبر من حيث القيمة، والقيمة تعرف بالحزر والظن فيتوهم جريان
الغلط فيها فمتى نقضنا هذه القسمة بخيار الرؤية ربما تعاد على وجه يكون
أعدل من الأول، فكان النقض مفيداً بخلاف المكيل والموزون؛ لأن المعادلة
فيها تعتبر من حيث الإجراء لا من حيث القيمة، فمتى نقضناها احتجنا إلى
إعادة مثلها، ثم ذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» : الحنطة والشعير وكل ما
يكال وكل ما يوزن، وأثبت في قسمتها خيار الرؤية.
قال مشايخنا رحمهم الله: أراد بما قال الحنطة والشعير جميعاً والمكيل
والموزون جميعاً، لا أحدهما على الانفراد حتى يكون المقسوم أجناساً، فتكون
قسماً لا يوجبها الحكم بتراضيهما، فيثبت فيها خيار الرؤية.
وإن أراد بذلك الحنطة على الانفراد أو الشعير على الانفراد، فهو محمول على
ما إذا كان صفتهما مختلفة، بأن كان البعض علكة والبعض رخواً، والبعض حمراء
والبعض بيضاء، واقتسما كذلك حتى تكون القسمة واقعة على وجه لا يوجبها
الحكم.
أو كانت صفتها واحدة، إلا أنه أصاب أحدهما من أعلى الصبرة، وأصاب الآخر من
أسفله، وهكذا الجواب في الذهب التبر والفضة التبر، وكذلك أواني الذهب
والفضة والجواهر واللآليء، وكذلك العروض كلها، وكذلك السلاح والسيوف
والسروج.
وإذا كانت ألفا درهم بين رجلين، كل ألف في كيس فاقتسما على أن لأحدهما
كيساً وللآخر كيساً، وقد رأى أحدهما المال كله، ولم يره الآخر فإنه لا يثبت
خيار الرؤية؛ لأنها قسمة وقعت على يوجبها الحكم؛ وهذا لأن الدراهم
والدنانير، أثمان من كل وجه، ولا مقصود في عينها إنما المقصود الثمنية
وبمعرفة المقدار يصير المقصود معلوماً على وجه لا تفاوت قسم الرضا به قبل
الرؤية، بخلاف سائر وجه الأعيان، قال: إلا أن يكون قسم الذي لم ير المال
سهماً، فيكون له الخيار إن شاء رد القسمة وإن شاء أمضاها.
واختلف المشايخ في تعليله، قال بعضهم: لأنه إذا كان قسمه سهماً بأن كان
زيوفاً كان ذلك عيباً، فيرد بخيار العيب لا بخيار الرؤية، وخيار العيب يثبت
في القسمات كلها.
وبعضهم قالوا: لأنه إنما رضي بقسمته على أن يكون في الصفة بمثل ما أخذ
(7/357)
صاحبه، فإذا كان دون ذلك لا يتم به الرضا
فيتخير في ذلك، كما لو رأى عند الشراء جزءاًمن المكيل أو الموزون، ثم كان
ما بقى وإنما رأى، فإنه يثبت له الخيار، وهذا إشارة إلى أن الرد بخيار
الرؤية.
وإذا اقتسم الرجلان بستاناً وكرماً فأصاب أحدهما البستان وأصاب الآخر الكرم
ولم ير واحد منهما الذي أصابه ولا رأى جوفه ولا نخله، وإنما رأى الحائط من
ظاهره سقط خيار الرؤية، ورؤية الظاهر كرؤية الباطن.
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» : وبهذه
المسألة يتبين ضعف قول من يقول في مسألة الدار: إذا رأى المشترى ظاهر الدار
ولم ير داخلها أن جواب محمد: أنه لا خيار للمشتري محمول على دور الكوفه؛
لأنهما لا تتفاوت في السعة والضيق.
ألا ترى أن محمداً رحمه الله في مسألة البستان والكرم اكتفى برؤية الظاهر،
مع أن البستان المقصود والكرم المقصود يتفاوت بتفاوت الأشجار والنخيل، ولم
يشترط رؤية شيء من ذلك، فعلم أن المعنى في تلك المسألة أن ما يتعذر
الاستقصاء برؤية كل جزء منه تقام رؤية جزء منه مقام رؤية الجميع في إسقاط
الخيار، وبعض مشايخنا قالوا: تأويل قوله: ولا رأى شجره ولا نخلة، كل الشجر
وكل النخيل.
إنما رأى رؤوس الأشجار ورؤوس النخيل، أما لو لم ير رؤوس الأشجار أيضاً لا
يسقط (7أ4) خيار الرؤية، وهذا القائل هذا يقول في بيع المحض، ثم إذا ثبت
خيار الرؤية في القسمة في أي موضع ثبت يبطل بما يبطل به هذا الخيار في
البيع المحض؛ لأن القسمة في معنى البيع، وقد عرف تفاصيل ذلك في كتاب
البيوع.
جئنا إلى خيار العيب، فنقول: خيار العيب يثبت في نوعي القسمة جميعاً، لأن
إثبات خيار العيب مقيد في النوعين جميعاً، فإن القسمة متى نقضت بسبب العيب
لا يحتاج إلى إعادة مثلها على حسب ما وقعت أول مرة، بل تعاد على وجه يزول
الضرر عمن وقع العيب في قسمه.
ومن وجد من الشراء عيباً في شيء من قسمه، فإن كان قبل القبض رد جميع نصيبه
سواء كان المقسوم شيئاً واحداً، أو أشياء مختلفة كما في البيع، وإن كان بعد
القبض، فإن كان المقسوم شيئاً واحداً حقيقة وحكماً كالدار الواحدة، أو
حكماً لا حقيقة كالمكيل والموزون، يرد جميع نصيبه، وليس له أن يرد البعض
دون البعض، كما في البيع المحض، وإن كان المقسوم أشياء مختلفة حقيقة وحكماً
كالأغنام يرد المعيب خاصة كما في البيع المحض، وما يبطل خيار العيب في
البيع المحض كذا يبطل به في القسمة؛ لأن في القسمة معنى البيع على ما مر.
وإذا استخدم الجارية بعد ما وجد بها عيباً ردها استحساناً، وإذا دام على
سكنى الدار بعد ما علم بالعيب بالدار ردها بالعيب استحساناً أيضاً، وإذا
دام على ركوب الدابة، أو دام على لبس الثوب بعد ما علم بالعيب لا يردهما
بالعيب استحساناً وقياساً،
(7/358)
وللاستحسان في مسألة السكنى طريقان.
أحدهما: أن الدوام على السكنى بعد ما علم بالعلم محتمل بين أن يكون لاختيار
الملك فيسقط خياره، وبين أن يكون لعجزه عن الانتقال لأن الانتقال من دار
إلى دار لا يمكن إلا بكلفة ومؤنة وربما لا يتهيأ له ذلك فلا يكون اختياراً
للملك مع الشك فلا يسقط خياره بخلاف الدوام على الركوب واللبس؛ لأنه اختيار
الملك؛ لأنه لا عجز عن النزع والنزول، فكان لاختيار الملك فعلى قول هذه
الطريقة، يقول: إذا أنشأ السكنى بعدما علم بالعيب يسقط خياره؛ لأن إنشاء
السكنى لا يكون إلا لاختيار الملك؛ لأنه لا يحتمل العجز عن الانتقال، ومحمد
رحمه الله لم يذكر فصل إنشاء السكنى في بعض روايات كتاب القسمة، إنما ذكر
فصل الدوام.
الطريق الثاني: أن الدوام على السكنى محتمل بين أن يكون بالملك الحادث
المستفاد بالقسمة من جهة صاحبه، فيدل على اختيار الملك، وبين أن يكون بملكه
القديم؛ لأن كل واحد منهما يملك ذلك بملكه القديم من غير رضا شريكه؛ لأن
الناس لا يتفاوتون فيه وعلى هذا الاعتبار لا يكون اختياراً للملك فلا يثبت
أنه الاختيار بالشك، بخلاف الدوام على اللبس والركوب؛ لأنه لا يحتمل أن
يكون بالملك القديم؛ لأن أحد الشريكين لا يملك ذلك من غير رضا شريكه لما أن
الناس يتفاوتون في الركوب واللبس فتعين أن يكون بالملك الحادث، فعلى قول
هذه الطريقة نقول: إذا أنشأ السكنى بعد ما علم بالعيب لا يسقط خياره، وإلى
هذا أشار في بعض روايات هذا الكتاب.
وأما في البيع المحض هل يسقط خيار العيب بالسكنى دواماً كان أو أنشاءً فلا
ذكر لهذه المسألة في كتاب البيوع، وقد اختلف المشايخ فيه.
فمن سلك الطريق الأول في مسألة القسمة يقول: خيار العيب في القسمة والبيع
المحض يبطل بإنشاء السكنى ولا يبطل بدوامه، ومن سلك الطريق الثاني يقول:
خيار العيب في القسمة والبيع المحض لا يبطل بإنشاء السكنى ولا بدوامه.
ومن المشايخ من فرق بين البيع المحض، وبين القسمة فقال: في البيع يبطل خيار
العيب بالسكنى إنشاء ودواماً، وفي القسمة لا يبطل خيار العيب بالسكنى لا
إنشاء ولا دواماً.
والفرق: أن السكنى في فصل القسمة دواماً كان أو إنشاء يحتمل أن يكون بالملك
القديم، فأما البيع لا يحتمل أن يكون بالملك القديم دواماً كان أو إنشاءً
فيتعين أن يكون بالملك الحادث المستفاد بالبيع، فيكون اختياراً للملك،
فلهذا افترقا.
وأما في خيار الشرط إذا سكن الدار في مدة الخيار، أو دام على السكنى.
ذكر محمد رحمه الله في كتاب البيوع: إذا سكن المشتري الدار في مدة الخيار
سقط خياره، ولم يفصل بينما إذا أنشأ السكنى وبينما إذا دام على السكنى، فمن
فرق من المشايخ بين إنشاء السكنى وبين الدوام عليه في مسألة القسمة يفرق
بينهما أيضاً في خيار الشرط.
(7/359)
ويقول: خيار الشرط يبطل بإنشاء السكنى ولا
يبطل بالدوام عليه إذ لا فرق بينهما، ومن قال: خيار العيب في القسمة لا
يبطل لا بإنشاء السكنى ولا بدوامه، قال: بأن خيار الشرط يبطل بإنشاء السكنى
وبدوامه.
والفرق بينهما: وهو أن السكنى في خيار العيب يحتمل أن يكون لإمكان الرد
بالعيب؛ لأن مدة الرد بالعيب قد تطول؛ لأن الرد بالعيب لا يكون إلا بقضاء
أو برضا، وعسى لا يرضى به خصمه، فيحتاج إلى القضاء، والقضاء يعتمد سابقه
الخصومة، ومدة الخصومة عسى تطول فمتى لم يسكنها تخرب، لأن الدار تخرب إذا
لم يسكن فيها أحد، فيعجز عن الرد فيحتاج إلى السكنى لإمكان الرد بالعيب،
فلا يكون اختياراً للملك وعلى هذا الاحتمال؛ فلهذا لا يسقط به خيار العيب.
فأما في خيار الشرط لا يحتاج إلى السكنى لإمكان الرد؛ لأنه يتمكن من الرد
بنفسه من غير أن يتوقف ذلك على قضاء أو رضا فلا تطول مدة الرد، فلا يحتاج
إلى السكنى لإمكان الرد فكان الاختيار الملك فيوجب سقوط خياره، وإذا باع
قسمه الذي أصابه من الدار، ولا يعلم بالعيب، فرده المشتري عليه، إن قبله
بغير قضاء فليس له أن ينقض القسمة، وإن قبله بقضاء فله أن ينقض القسمة، كما
في البيع المحض.
فإن كان المشتري قد قدم شيئاً من الدار قبل أن يعلم بالعيب لم يكن له أن
يردها، ويرجع بنقصان العيب كما في البيع المحض، قال: وليس للبائع أن يرجع
بنقصان ذلك على من قاسمه، ذكر المسألة مطلقة من غير ذكر خلاف.
فمن مشايخنا من قال: ما ذكر هنا قول أبي حنيفة رحمه الله وحده، أما على قول
أبي يوسف ومحمد يرجع بنقصان العيب على قسمته، وقاس هذه المسألة بمسألة
ذكرها في كتاب الصلح.
وصورتها: رجل اشترى من آخر جارية وقبضها وباعها من غيره، فهلكت عند
المشتري، ثم اطلع المشتري الثاني على عيب بها، فإن له أن يرجع بنقصان العيب
على بائعه وهو المشتري الأول، وهل للمشتري الأول أن يرجع على بائعه؟ ذكر أن
على قول أبي حنيفة: لا يرجع.
وعلى قولهما: يرجع فها هنا يجب أن يكون على الخلاف أيضاً، ومن المشايخ من
يقول: ما ذكر في كتاب القسمة قول الكل، وفرق هذا القائل بين مسألة كتاب
القسمة وبين مسألة كتاب الصلح.
ووجه الفرق: أن في مسألة كتاب القسمة إلتزم ضمان النقصان باختياره، فإنه
كان يمكنه أن يقبل المبيع ولا يؤدي النقصان، فهو بمعنى قولنا: التزم ضمان
النقصان باختياره فلا يرجع بذلك على غيره.
أما في مسألة كتاب الصلح التزم ضمان النقصان عن اضطرار وجبر، فإن القبول
بعد الهلاك غير ممكن، فجاز أن يرجع بذلك على بائعه، ولكن هذا الفرق لا يكاد
يصح؛ لأن في مسألة كتاب القسمة لا يمكنه القبول إلا بزيادة عيب يلزمه، فكان
مضطراً في التزام
(7/360)
ضمان النقصان، فالصحيح أن المسألة على
الاختلاف.
جئنا إلى خيار الشرط، فنقول: خيار الشرط يثبت في القسمة حيث يثبت خيار
الرؤية، وما يبطل به خيار الشرط في البيع المحض يبطل في القسمة، وإنما يصحّ
اشتراط الخيار في القسمة على نحو ما يصح اشتراط في البيع المحض حتى يجوز
اشتراط ثلاثة أيام بلا خلاف، وما زاد على الثلاثة يكون على الخلاف بين أبي
حنيفة وصاحبيه، وإن ادعى المشروط له الخيار بعد مضي مدة الخيار الفسخ في
مدة الخيار لا يصدق على ذلك، كما في البيع المحض.
الفصل السابع: في بيان من يلي القسمة على الغير
ومن لا يلي
الأصل أن من ملك بيع شيء ملك قسمته؛ لأن في القسمة بيعاً وإفرازاً، ومن ملك
بيع شيء ملك إفرازه (7ب4) ضرورة، إذا عرفت هذا فنقول: الأب يقاسم مال ولده
الصغير عقاراً كان أو منقولاً بغبن يسير، ولا يملك بغبن فاحش لأنه يملك بيع
مال ولده الصغير عقاراً كان أو منقولاً بغبن يسير، ولا يملك بغبن فاحش فكذا
القسمة، ووصي الأب في ذلك بمنزلة الأب، والجد أب الأب حال عدم الأب، ووصي
الأب بمنزلة الأب، وأما وصي الأم يقاسم مال ولدها الصغير ما سوى الصغار من
تركة الأم إذا لم يكن للصغير أحد ممن سمينا، ولا يقاسم ما له من غير تركة
الأم، العقار والمنقول في ذلك على السواء؛ وهذا لأن وصي الأم قائم مقام
الأم، والأم حال حياتها كانت تملك بيع منقولاتها التي يرثها هذا الصغير،
تحصيناً على نفسها وعلى الصغير، فإنها ما لم تحصن ذلك وتحفظها لا يبقى لها
ولا يصير موروثاً للصغير من جهتها، وكانت تملك بأن تحفظ ما ورثها الصغير من
غيرها بعينها وما كانت تملك بيعها، العقار والمنقول في ذلك على السواء.
وما كانت تملك بيع عقار أب نفسها التي يرثها هذا الصغير تحصيناً لأنها
محصنة بنفسها، وإنما كانت تملك بيعها لحاجتها إلى الثمن، إذا ثبت هذا في حق
الأم ثبت في حق وصيها الذي هو قائم مقامها فيملك وصيها بيع المنقولات التي
ورثها من الأم تحصيناً، ولا يملك بيع عقاراته التي ورثها من الأم تحصيناً،
وإنما يملك بيعها لحاجته إلى ثمنها، بأن كان عليه دين لا وفاء له إلا من
ثمنها.
ولا يملك بيع ما ورث الصغير من غير الأم، العقار والمنقول في ذلك سواء.
وإذا عرفت الجواب في البيع ظهر الجواب في القسمة، في كل موضع ملك هذا الوصي
البيع يملك القسمة؛ لأن في القسمة تحصين، فإن الإنسان أقدر على تحصين
المقسوم، وفي كل موضع لا يملك البيع لا يملك القسمة، وكل جواب عرفته في وصي
الأم فهو الجواب في وصي الأخ والعم وابن العم يقاسم ما ورث الصغير من هؤلاء
ما سوى العقار، ولا يقاسم العقار ولا يقام ما ورث الصغير من غيرهم، العقار
والمنقول في
(7/361)
ذلك سواء؛ لأنه لا ولاية لهؤلاء على الصغير
كما لا ولاية للأم فكانوا بمنزلة الأم، فكان وصيهم بمنزلة وصي الأم.
ولا تجوز قسمة الأب الكافر على ابنه المسلم، وكذا لا تجوز قسمة الأب
المملوك على ابنه الحر، ولا تجوز قسمة الملتقط على اللقيط كما لا يجوز
بيعه، ولا تجوز قسمة الوصي بين الصغيرين كما لا يجوز بيعه مال أحدهما من
الآخر.p
والوصي إذا قاسم مالاً مشتركاً بينه وبين الصغير لا يجوز، إلا إذا كان
للصغير فيها منفعة ظاهرة عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند محمد لا يجوز، وإن
كان للصغير فيه منفعة ظاهرة، ويجوز للأب أن يقاسم مالاً مشتركاً بينه وبين
الصغير، وإن لم يكن للصغير فيه منفعة ظاهرة.
وإن كان في الورثة صغار وكبار فقاسم الوصي الكبار وميز نصيب الصغار جاز،
ولا تجوز قسمة الوصي على الكبار الغيب في العقار، وتجوز قسمته في العروض،
زاد «البقالي» في كتابه العروض من تركة الأب، وإن كان فيهم صغير وكبير حاضر
وكبير غائب فعزل الوصي نصيب الكبير الغائب مع نصيب الصغير، وقاسم الكبير
الحاضر.
فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: جاز قسمته في العقار والعروض، وعلى قولهما:
تجوز في العقار ولا تجوز في العروض كما في البيع، ولا يقسم على الموصى له
من غير أمر القاضي.
وروى الحسن عن أبي يوسف: أنه يجوز، وهو قول الحسن، وإذا جعل القاضي وصياً
ليتيم في كل شيء فقاسم عليه في العقار والعروض جاز، ولو جعله وصياً في
النفقة أو في حفظ شيء بعينه فقاسم لا يجوز.
وهذا بخلاف وصي الأب إذا جعل الأب وصياً في شيء خاص، فإنه يكون وصياً في
الأشياء كلها فالوصاية من القاضي قابلة للتخصيص، ومن الأب لا تقبل التخصيص،
ولا تجوز القسمة على المبرسم والمغمى عليه، والذي يجن ويفيق إلا برضاه،
ووكالته في حالة صحته وإفاقته؛ وهذا لأن هذا العارض على شرف الزوال فكان
لاحقاً بالعدم إلا أنه موجود حقيقة، فما ثبت للغير عليه من الولاية الثانية
بالوكالة حالة الصحة لا يزول، وما لم يكن ثابتاً للغير عليه من الولاية لا
يثبت.
الفصل الثامن: في قسمة التركة وعلى الميت أو له دين أو موصي له، وفي ظهور
الدين بعد القسمة، وفي دعوى الوارثديناً في التركة أو عيناً من أعيان
التركة
قال محمد رحمه الله: إذا اقتسم الورثة داراً للميت أو أرضاً الميت، وعلى
الميت دين، فجاء الغريم يطلب الدين فالقسمة فاسدة قياساً جائزة استحساناً
لوجهين:
(7/362)
أحدهما: أنهما شرطا في القسمة ما تقتضيه
القسمة من غير شرط، فإنهما لو اقتسما الأرض وترك البناء على الشركة وجب على
من وقع البناء في نصيبه نصف قيمة البناء لصاحبه، واشتراطها يقتضيه العقد من
غير شرط لا يوجب فساد العقد.
فإن قيل: إذا لم يشترط القيمة وقت القسمة فالجهالة طارئة على القسمة، لأن
القيمة تجب بعد ذلك حكماً فكانت طارئة، ومتى شرطا القيمة وقت القسمة كانت
الجهالة متقارنة للقسمة، والجهالة الطارئة على العقد لا توجب فساد العقد،
أما المقارنة تفسد العقد، عرف ذلك في كتاب البيوع، والجواب عن هذا أن يقال:
لا بل الجهالة مقارنة للقسمة، وإن لم يشترطا القيمة؛ لأن القيمة واجبه لا
محالة لا تنفك القسمة عنها فكانت الجهالة متقارنة، ثم لم يمنع ذلك جواز
القسمة، فكذا إذا كانت مشروطة؛ لأنه لا يثبت بالشرط زيادة جهالة لم تكن
ثابتة قبل ذلك.
الوجه الثاني: لبيان جواز هذه القسمة: أن العبرة لحال تمام العقد، والعقد
تم في المعلوم فلا تضرهم الجهالة في الابتداء، كما لو اشترى أحد الأبواب
الثلاثة على أنه بالخيار ويأخذ أيها شاء، وسمى لكل واحد ثمناً.
بيان هذا الكلام: أن حكم القسمة في الأرض لا يتم بالمساحة بل يتوقف تمام
القسمة فيها على معرفة قيمة البناء وقسمتها بالقيمة، فلا تتم القسمة إلا
بعد ظهور المعادلة في الكل ومعرفة كل واحد من الشركاء نصيبه.
فهو معنى قولنا: إن العقد يتم في المعلوم، ثم إذا اقتسما الأرض نصفين وترك
البناء على الشركة ووقع البناء في نصيب أحدهما إنما وجب على من وقع البناء
في نصيبه نصف قيمة البناء؛ لأنه لا وجه إلى إبقاء البناء مشتركاً كذلك؛ لأن
ما تحت البناء من الأرض صار ملكاً لأحدهما، فمتى تركنا البناء كذلك يتضرر
من وقعت ساحة الأرض في نصيبه، ولا وجه إلى أن يؤمر الذي لم يقع البناء في
نصيبه نقض نصيبه، لأنه لا يمكن نقض نصيبه إلا بعد نقض نصيب صاحبه، وفي ذلك
ضرر بصاحبه فلم يبق ههنا وجه سوى أن يتملك الذي لم يقع البناء في نصيبه من
الأرض ونصيب صاحبه من البناء، أو يتملك صاحب الأرض من نصيب صاحبه من
البناء، وتملك صاحب الأرض نصيب صاحبه من البناء أولى؛ لأن التملك فيه أقل؛
ولأن صاحب الأرض صاحب أصل وصاحب البناء صاحب تبع، وتملك التبع لحق صاحب
الأصل أولى على ما عرف.
وإذا كانت الدار في يدي ورثة حضور كبار أقروا عند القاضي أنها ميراث في
أيديهم وسألوه قسمتها.
قال أبو حنيفة رحمه الله: القاضي لا يقسم الدور وسائر العقار بإقرارهم حتى
يقيموا بينة أن فلاناً مات وتركها ميراثاً بينهم.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: قسمها بإقرارهم بينهم، ويشهد على أنه
إنما قسمها بينهم بإقرار منهم لا بالبينة، وعلى هذا الخلاف إذا أقروا أن
معهم وارث آخر غائب أو صغير، والدار كلها في يد الذين حضروا عند القاضي،
وسألوه القسمة،
(7/363)
واجمعوا على أن الدار كلها أو شيء منها إذا
كان في يدي غائب أو صغير سوى هؤلاء الذين حضروا عند القاضي وطلبوا من
القاضي القسمة، فالقاضي لا يقسمها بينهم حتى يقيموا البينة على الميراث،
واجمعوا في العروض إذا أقروا أنها ميراث بينهم، والعروض في أيديهم، وطلبوا
من القاضي القسمة أن القاضي قسمها (8أ4) وإن لم يقيموا البينة على الميراث.
وأما إذا قالوا: اشترينا هذه الدار من فلان وطلبوا من القاضي القسمة،
فالقاضي يقسمها بينهم بإقرارهم، وعن أبي حنيفة رحمه الله روايتان، في
المشهور من الرواية: القاضي يقسمها بينهم بإقرارهم كما هو مذهبهما، وفي
رواية قال: لا يقسمها حتى يقيموا البينة على الشراء من فلان.
وجه قولهما: في فصل الميراث أن إقرارهم أن الدار في أيديهم ميراث إقرار
صحيح؛ لأن الدار في أيديهم لا ينازعهم أحد فيها، وقول صاحب اليد فيما في
يده عند عدم المنازع مقبول صحيح شرعاً، فلا حاجة إلى إثبات ذلك بالبينة.
والدليل عليه في فصل الشراء وفصل العروض، وهذا بخلاف ما إذا كانت الدار
كلها أو شيء منها في يد الغائب؛ لأن هناك إقرارهم غير صحيح؛ لأنه لا يد لهم
فيما أقروا فلا بد من الإثبات بالبينة أما ها هنا بخلافه.
ولأبي حنيفة رحمه الله أن التركة قبل القسمة مبقاة على حكم ملك الميت، ألا
ترى أن التركة إذا ازدادت قبل القسمة كانت الزيادة للميت؟ حتى تقضى منها
ديونه وتنفذ وصاياه، وبالقسمة ينقطع قدر ما بقي من الملك له حتى يصير
الزيادة لمن وقع في سهمه، وقولهم ليس بحجة على الميت بخلاف فصل الشراء على
ظاهر الرواية؛ لأن القسمة هناك لا تتضمن بطلان شيء من ملك البائع؛ لأن
المشترى بعد القبض ملك المشتري من كل وجه، ولم يبق للبائع فيه حق، ألا ترى
أن ما يحدث من الزيادة يحدث على حكم ملك المشتري.
وأما العروض قلنا: القاضي لا يقسم العروض لقطع ما بقي من ملك الميت إنما
يقسمها تحصيناً على الميت؛ لأن العروض تخشى التوى والتلف.
ألا ترى أن القاضي يبيع عروض الغائب، وإنما يبيعها تحصيناً عليه، أما
العقار محصنة بنفسها فلم يقسمها بطريق التحصين بل كان لإزالة ملك الميت،
فلا بد لذلك من حجة تقوم عند القاضي.
ثم على قولهما إذا قسم القاضي الدار بين الورثة بإقرارهم، يشهد أنه إنما
قسم بإقرارهم؛ لأن حكم القسمة بالبينة يخالف حكم القسمة بالإقرار؛ لأن حكم
القسمة بالبينة يتعدى إلى الغير.
حتى لو ادعى أم ولده هذا الميت أو مدبرة العتق فالقاضي يقضي لهما بالعتق،
ولا يكلفهما إقامة البينة على الموت، وحكم القسمة بالإقرار لا يتعدى.
ألا ترى أنه لا يقضي بالعتق في هاتين الصورتين إلا ببينة تقوم على الموت،
وإذا
(7/364)
كان بعض الورثة حضوراً والبعض غيباً،
والدار كلها أو بعضها في يد الغائب وطلب الحاضر القسمة من القاضي، وأقام
البينة على الميراث، فإن كان الحاضر واحداً فالقاضي لا يقبل بينته ولا يقسم
الدار، وعن أبي يوسف أن القاضي ينصب عن الغائب خصماً ويسمع البينة عليه
ويقسم الدار.
وجه ظاهر الرواية: أن التركة قبل القسمة إن بقيت على حكم ملك الميت من وجه
على ما مر صارت ملكاً للورثة من وجه، حتى لو أعتق واحد منهم عبداً من
التركة قبل القسمة يعد العتق في نصيبه، وكل واحد من الورثة قبل القسمة
يرتفق بنصيبه ونصيب شركائه، فالحاضر بدعوى القسمة كما يدعي إزالة ما بقي من
ملك الميت يدعى على شركائه قطع الارتفاق بنصيبه ونصيب شركائه، فالحاضر ...
جاز للقاضي نصب الوصي من حيث إنه دعوى على الميت لا يجوز له نصب الوصي من
حيث إنه دعوى على شركائه الغائب، فلا يجوز نصب الوصي بالشك.
وليس كما لو ادعى أجنبي ديناً على الميت، وليس للميت وارث ولا وصي، فإن
القاضي ينصب عنه وصيّاً عن الميت، أما هاهنا بخلافه، وإذا لم يكن للقاضي أن
ينصب وصياً عن الميت، وهذا الواحد لا يصلح خصماً عن الميت وعن سائر
الشركاء؛ لأنه مدعي فلا يصلح مدعياً عليه تعذر قبول البينة؛ لأن البينة من
غير الخصم لا تقبل.
وإن حضر اثنان والباقي بحاله، فالقاضي يسمع البينة، ويقسم الدار ويجعل أحد
الحاضرين مدعياً والآخر مدعى عليه، وأحد الورثة ينتصب خصماً عن الميت وعن
باقي الورثة.
فإن قيل: كيف يجعل أحدهما مدعى عليه وكل واحد منهما مقر بما يدعيه صاحبه،
والمقر بما يدعي المدعي لا يصلح خصماً للمدعي.
قلنا: كل واحد منهما إنما يقر على الغير والإقرار على الغير باطل، وجوده
والعدم بمنزلة، ألا ترى أن من ادعى على ميت ديناً وأقر به وصيه، فإن المدعي
يكلف إقامة البينة وينتصب الوصي خصماً له، وإن كان الوصي مقراً، وإذا حضر
أحد الورثة ومعه صغير وطلب القسمة من القاضي، وأراد ن يقسم بينه على
الميراث، فالقاضي ينصب وصياً عن الصغير ويسمع البينة عليه ويقسم الدار؛ لأن
للقاضي ولاية نصب الوصي، ووصيه يقوم مقام الصبي، وكأن الحاضر اثنان بالغان.
وإن كانت الدار بين ثلاثة نفر بالشراء، وأحدهم غائب، فأقام اثنان منهم
البينة على الشراء وطلبا من القاضي القسمة فالقاضي لا يسمع بينته ولا يقسم
الدار بينهم؛ وهذا لأن الحاضر من المشترين لا ينتصب خصماً عن الغائب منهم؛
لأن الثابت بالشراء كل واحد منهم ملك جديد بسبب يأمره في نصيبه، فأما في
الميراث لا يثبت للورثة ملك متجدد لسبب حادث، وإنما ينتقل إليهم ما كان من
الملك للمورث بطريق الخلافة عنه، فيستقيم
(7/365)
أن يجعل البعض خصماً عن البعض في ذلك؛
لاتحاد السبب في حقهم وهو الخلافة عن الميت، وسيأتي جنس هذه المسائل بعد
هذا في هذا الفصل إن شاء الله تعالى.
وإذا كانت الدار بين رجلين فيها صفّة، وفي الصفّة بيت وطريق البيت في
الصفة، ومسيل ماء ظهر البيت على ظهر الصفة، فاقتسما فأصاب أحدهما الصفة
وقطعة من ساحة الدار، وأصاب الآخر البيت وقطعه من ساحة الدار، ولم يذكروا
في القسمة الطريق ومسيل الماء، فأراد صاحب البيت أن يمر في الصفة على حاله
ومسيل الماء على ظهر الصفة، فالمسألة على وجهين:
أحدهما: أن يكون لصاحب البيت إمكان فتح الطريق ومسيل الماء في نصيبه في
موضع آخر، وفي هذا الوجه القسمة جائزة، وليس لصاحب البيت حق المرور في
الصفة، ولا حق تسييل الماء على ظهرها سواء ذكر في القسمة أن لكل واحد منهما
نصيبه بحقوقه أو لم يذكرا ذلك.
الوجه الثاني: إذا لم يكن لصاحب البيت إمكان فتح الطريق وتسييل الماء في
نصيبه من موضع آخر، وفي هذا الوجه إن ذكروا أن لكل واحد منهما نصيبه بحقوقه
دخل الطريق ومسيل الماء في القسمة وتجوز القسمة، وإن لم يذكرا ذلك لا يدخل
الطريق ومسيل الماء في القسمة، وفسدت القسمة.
والوجه في ذلك: أن عند ذكر الحقوق اجتمع في القسمة ما يوجب دخول الطريق
ومسيل الماء في القسمة، وهو اشتراط الحقوق كما في البيع، وما يمنع دخولهما
وهو لفظة القسمة، لأن القسمة للإقرار ولقطع كل واحد منهما عن نصيب صاحبه،
وإنما ينقطع حق صاحب البيت عن الصفة من كل وجه إذا لم يكن لصاحب البيت حق
المرور في الصفة وحق تسييل الماء على ظهر الصفة.
والعمل بهما جميعاً في كل حال متعذر، فعملنا بلفظة القسمة إذا أمكنه فتح
الطريق وتسييل الماء في نصيبه، وألغينا شرط الحقوق؛ لأن العمل بمقتضى
القسمة في هذه الصورة لا يفسد القسمة والقسمة أصل والشروط أتباع، وعملنا
شروط الحقوق؛ إذ لا يمكنه فتح الطريق وتسييل الماء في نصيبه، وإن كان
الشروط أتباعاً لأنا لو نعمل بشرط الحقوق هاهنا تفسد القسمة؛ لأنها قسمة
ضرر، ومتى فسدت القسمة فسد ما شرط فيها، ففي العمل بحقيقة القسمة في هذه
الصورة إلغاء القسمة والشرط جميعاً، وفي العمل بالشرط اعتبار الشرط من كل
وجه واعتبار القسمة من وجه، فكان هذا أولى، فإن لهم أن ينقضوا القسمة سواء
كان الدين قليلاً أو كثيراً.
يجب أن يعلم أن الورثة إذا طلبوا قسمة التركة من القاضي، وعلى الميت دين،
والقاضي يعلم به، (8ب4) وصاحب الدين غائب، فإن كان الدين مستغرقاً للتركة،
فإن
(7/366)
القاضي لا يقسمها بينهم؛ لأنه لا ملك لهم
في التركة فلا يكون في القسمة فائدة فلا يقسمها، وإن كان الدين غير مستغرق
للتركة فالقياس أن لا يقسمها أيضاً بل يوقف الكل.
وفي الاستحسان يوقف مقدار الدين ويقسم الباقي، ولا يأخذ كفيلاً منهم بشيء
من ذلك عند أبي حنيفة خلافاً لهما.
وإن لم يعلم القاضي بالدين سألهم هل عليه دين؟ فإذا قالوا: نعم سألهم عن
مقدار الدين؛ لأن الحكم يختلف، فإن فسروه بمقدار لا يستغرق التركة وقف
بمقدار الدين وقسم الباقي، وإن قالوا: لا دين فالقول قولهم؛ لأن الورثة
قائمون مقام الميت، والميت حال حياته لو قال: ليس علي دين كان القول قوله،
فكذا إذا قال ورثته ذلك.
ثم يسألهم هل فيها وصية؟ فإن قالوا: نعم سألهم إنها حصلت بالعين أو من
ماله؛ لأن الحكم يختلف، فإن قالوا: لا وصية فيها قسمها القاضي بينهم، فإن
ظهر بعد ذلك دين نقض القاضي القسمة؛ لأنه ظهر أنها حصلت في غير أوانها؛ لأن
أوان قسمة الميراث ما بعد الدين.
يوضحه: أن حق الغريم متعلق بالتركة، فكانت القسمة مصادفة حقهم فكان لهم
النقض إذا كان النقض مفيداً، وفي النقض فائدة فإنه يباع شيء من التركة في
دينه ولا يحتاج إلى أن يبيع كل واحد من الورثة بما يخصه، وكذلك لو أن
القاضي لم يسأل الورثة عن الدين وقسم التركة بينهم حتى جازت القسمة ظاهراً
ثم ظهر الدين فالقاضي ينقض القسمة إلا أن يقضوا الدين من مالهم يعني الورثة
فالقاضي لا ينقض القسمة في الفصلين جميعاً، وكذلك لو أبرأ وظهر وارث الغريم
الميت عن الدين لا تنقض القسمة لأن الموجب للنقض الغريم وقد زال حقه قبل
النقض فيمتنع النقض، وهذا كله إذا لم يعزل الورثة نصيب الغريم ولم يكن
للميت مال آخر سوى ما اقتسموا فالقاضي لا ينقض القسمة.
وكذلك الجواب فيما إذا اقتسم الورثة التركة بأنفسهم ثم ظهر الغريم وكذلك
آخر ولم يعرفه الشهود، أو ظهر موصى له بالثلث أو الربع وقد قسم الورثة
التركة بأنفسهم، فإن القاضي ينقض القسمة ثم يستأنفها بعد ذلك؛ لأنه تبين
أنها وقعت بغير محضر من بعض الشركاء.
فإن قيل: أي فائدة في نقض القسمة واستئنافها من ساعته.
قلنا: إذا لم ينقض القسمة يحتاج هذا الوارث أو الموصي له إلى أن يستوفي فما
وصل إلى كل واحد منهم مقدار نصيبه فيتفرق نصيبه في مواضع، وإذا استؤنفت
القسمة لا يتفرق نصيبه، وهذه فائدة ظاهرة.
فإن قالت الورثة: نحن نقضي حق هذا الوارث والموصى له من مالنا ولا ننقض
القسمة لا يلتفت إلى قولهم إلا أن يرضى هذا الوارث أو الموصى له.
فرق بين هذا وبينما إذا ظهر غريم أو موصى له بألف من ماله فقالت الورثة:
نحن نقضي حقه من مالنا، ولا ننقص القسمة إن لهم ذلك.
(7/367)
والفرق: أن حق الوارث والموصى له بالثلث أو
الربع في عين التركة، فإذا أرادوا أن يعطوا حقه من مالهم فقد قصدوا شراء
نصيبه من التركة فلا يصح إلا برضاه، ألا ترى أن في الابتداء لو أرادت
الورثة أن يقتسموا جميع التركة فيما بينهم، ويقضوا حق وارث آخر وحق الموصى
له بالثلث والربع من مالهم ليس لهم ذلك وطريقه ما قلنا، أما حق الغريم
والموصى له بألف من ماله ليس في عين التركة بل في معنى التركة من حيث
الاستيفاء من مال التركة، وأيضاً حقهم من التركة ومن مال الوارث سواء.
ألا ترى أن في الابتداء لو أردوا أن يقسموا جميع التركة بينهم ويقضوا حقهما
من مالهم كان لهم ذلك كذا ها هنا.
قال: وكذلك لو قضى واحد من الورثة حق الغريم من ماله على أن لا يرجع في
التركة، فالقاضي لا ينقض القسمة بل يمضيها؛ لأن حق الغريم قد سقط ولم يثبت
للوارث دين آخر لما شرط أن لا يرجع، فأما إذا شرط الرجوع أو سكت فالقسمة
مردودة إلا أن يقضوا حق القاضي من مالهم؛ لأن دين القاضي في التركة بمنزلة
دين الغريم وهذا الجواب ظاهر فيما إذا شرط الرجوع مشكل فيما إذا سكت،
وينبغي أن يجعل متطوعاً إذا سكت.
والجواب إنما يجعل متطوعاً لأنه مضطر في القضاء، ألا ترى أن الغريم لو قدمه
إلى القاضي قضى القاضي عليه بجميع الدين؛ لأنه لا ميراث إلا بعد الدين.
ثم ما ذكر أن الورثة إذا قسموا التركة وظهر وارث آخر، أو موصى له بالثلث أو
الربع فالقاضي ينقض القسمة فذلك إذا كانت القسمة بغير قضاء قاضي، فأما إذا
كانت القسمة بقضاء القاضي، ثم ظهر وارث آخر أو موصى له بالثلث فالوارث لا
ينقض القسمة إذا عزل القاضي نصيبه، وأما الموصى له فقد اختلف فيه المشايخ.
قال بعضهم: لا ينقض وإليه أشار محمد في «الكتاب» فإنه قال في فصل الموصى
له: له أن ينقض القسمة إذا كانت القسمة بغير أمر القاضي فهذا إشارة إلى
أنها إذا كانت بقضاء فالقاضي لا ينقض القسمة، وهذا لأن الموصى له بالثلث
شريك الورثة بمنزلة أحدهم، والوارث لا ينقض القسمة إذا كانت القسمة بقضاء،
فكذا الموصى له. وبعضهم قالوا: ينقض، وفرقوا بين الموصى له وبين الوارث
والأول أصحّ.
ولو كان للميت وصي يقسم التركة، وعزل نصيب الوارث أو عزل نصيب الموصى له
بالثلث صح قسمته على الوارث، ولم يصح على الموصى له، وإذا كان بعض التركة
ديناً فاقتسموها، وشرطوا الدين في قسم بعضهم فالقسمة فاسدة؛ لأنهم باعوا
الدين من غير من عليه الدين، وكذلك إذا اقتسموا الدين فيما بينهم فالقسمة
فاسدة؛ لأن القسمة للإقرار وذلك لا يتحقق في الدين قبل القبض؛ لأن قبل
القبض الدين مجتمع في مكان واحد، وإن كان الدين على الميت فاقتسموا على أن
ضمن كل واحد منهم أو أحدهم الدين الذي على الميت، فهذا على وجهين:
الأول: أن يكون الضمان مشروطاً في القسمة، والحكم فيه أن القسمة فاسدة؛ لأن
(7/368)
هذه قسمة شرط فيها كفالة بدين لم تجب
القسمة.
الثاني: إذا لم يكن الضمان مشروطاً في القسمة، إنما شرطوا بعد ذلك، والحكم
فيه أنه إن ضمن بشرط أن يرجع في التركة لم تكن القسمة نافذة على معنى أن له
أن ينقضها؛ لأنه قام مقام الغريم، وإن ضمن على أن لا يرجع في التركة بشيء،
وعلى أن يبرأ الغرماء الميت، فهذا جائز إن رضي الغرماء بضمانه وإن أبوا أن
يقبلوا ضمانه فلهم نقض القسمة؛ وهذا لأنه لما شرط في الضمان أن يبرئ الغريم
الميت صارت الكفالة حوالة تخلف التركة عن الدين، والمانع من لزوم القسمة
قيام التركة في الدين وإن لم يشرط، وعلى أن يبرئ الغريم الميت لا تنفذ
القسمة وإن رضي الغرماء؛ لأنه يبقى كفالة فلا تخلوا التركة عن الدين.
وإذا ادعى بعض الورثة دينا في التركة بعد تمام القسمة صح دعواه وله أن ينقض
القسمة، أما صحة دعواه لأنه لو لم تصح أنها لا تصح لكونه متناقضاً بإقراره
بصحة القسمة، ويكون المقسوم ملكاً للميت يقتضي الإقرار على القسمة ولا
تناقض؛ لأن الدين لا يمنع صحة القسمة، ولكن يثبت للغريم حق النقض، وكذلك لا
ينافي ملك الميت لأن ملك الميت باق بعد الدين، وأما له أن ينقص القسمة؛ لأن
المانع من نفاذ القسمة ولزومها الدين، والدين بالقسمة لا يتحول إلى محل
آخر، فكان المانع قائماً فيبقى المنع.
ألا ترى أنه لو أجاز القسمة ثم أراد أن ينقصها فله ذلك، وهذا بخلاف لو بيع
بالدين فأجاز فإنه تعمل إجازته؛ لأن المانع من اللزوم يزول؛ لأن حقه يتحول
من العين إلى الثمن، ولو كان ادعى عيناً من أعيان التركة أنه له اشتراها من
الميت أو وهبه الميت له وسلمه إليه، وكان ذلك بعد تمام القسمة لا تسمع
دعواه لمكان التناقض؛ لأنه بالإقدام على القسمة أقر بصحة القسمة في هذا
العين، ويكون هذا العين متروك الميت ميراثاً لهم، وبدعواه بعد ذلك لنفسه
يدعى فساد القسمة في هذا العين، ويدعى أنه ليس بميراث لهم وهذا تناقض ظاهر.
ولو ادعى أحد (9أ4) الورثة بعد تمام القسمة أن الميت أوصى لابنه الصغير
بثلث ما له لا تسمع دعواه؛ لأنه صار متناقضاً بدعوى فساد القسمة بعد ما أقر
بصحتها، ولو كبر الابن، وادعى الوصي بالثلث لنفسه، وأقام البينة سمعت
بينته؛ لأنه لا تناقض منه.
وإذا ادعى أحد الورثة بعد تمام القسمة على قدر ميراثهم عن أبيهم أن أخاً له
من أبيه وأمه ورث أباهم معهم، وأنه مات بعد أبيهم فورثه هو، وأراد ميراثه
لا تسمع دعواه لمكان التناقض؛ لأنه بالإقدام على القسمة على مقدار ميراثهم
عن أبيهم صار مقراً بأن حقه في مقدار معين، وبدعواه الثاني بعد ذلك ادعى أن
حقه أكثر من ذلك القدر فهذا تناقض ظاهر.
إذا كانت الأراضي ميراثاً بين ثلاثة نفر عن أبيهم، مات أحدهم وترك ابناً
كبيراً، فاقتسم هو وعماه الأراضي على ميراث الجد، ثم إن ابن الابن أقام
بينة أن جده أوصى له بالثلث وأراد إبطال القسمة لم تسمع دعواه لمكان
التناقض.
(7/369)
ولو لم يدع وصية من الجد ولكن ادعى ديناً
على أبيه صحت دعواه؛ لأنه لا تناقض في دعوى الدين، فصحت دعواه الدين وثبت
الدين بإقامته البينة، وصار الثابت بالبينة كالثابت عياناً، ولو كان الدين
ثابتاً معاينة كان له أن ينقض القسمة، وليس لعمه أن يقول: إن دينك على أبيك
ليس على الجد، وقد أعطينا نصيب أبيك، فإن شئت بعه بالدين، وإن شئت فأمسكه،
وليس لك أن تنقض القسمة؛ لأنه لا فائدة لك في النقض؛ لأن بعد النقض نقض
دينك من نصيب أبيك لا من ميراث الجد؛ لأن له أن يقول: لا بل لي في النقض
فائدة؛ لأن الثلث مشاعاً ربما يشترى بأكثر مما يشترى به مفرزاً فكان في
النقض فائدة؛ لأنه يزداد به مال الميت.
وهذا كرجل مات وأوصى إلى رجل، وفي التركة دين غير مستغرق، وطلب الورثة من
الوصي أن يفرز من التركة قدر الدين ويقسم الباقي بينهم كان له أن لا يقسم
ذلك بينهم، ويبيع ذلك القدر مشاعاً، لأنه ربما يشترى بأكثر مما يشترى به
المفرز؛ فيكون ذلك نظراً للميت كذا هاهنا.
ولو ادعى الوارث أنه كان اشترى نصيب أبيه منه في حياته بثمن مسمّى، ونقد
الثمن وأقام البينة على ذلك فهو جائز؛ لأنه غير متناقض في هذه الدعوى؛ لأن
شراه نصيب أبيه لا يوجب فساد القسمة، ولا ينافي ملك الجديد يقرره، وتكون
القسمة جائزة؛ لأن ما ادعى من الشراء لو ثبت معاينة بقيت القسمة على الصحة
كذا إذا ثبت بالبينة.
وإذا أقر الرجل أن فلاناً مات وترك هذه الدار وهذه الدار ميراثاً، ولم يقل
لهم، ثم ادعى بعد ذلك أن الميت أوصى له بثلثه أو ادعى ديناً قبلت بينته؛
لأنه لم يصر متناقضاً في الدعوى؛ لأنه لم يسبق قبل هذا الدعوى سوى الإقرار
الأول، أن هذه الدار متروك الميت؛ لأن ميراث الميت ما تركه الميت، والدين
الوصية لا ينافي كونه متروك الميت؛ لأنهما إنما يقضيان من متروك الميت.
الفصل التاسع: في الغرور في القسمة
يجب أن يعلم أن كل قسمة يوجبها الحكم بأن كانت قسمة يجبر الآبي عليها
كالقسمة في جنس واحد لا يثبت فيها حكم الغرور، وإن حصلت بتراضيهما، وكل
قسمة لا يوجبها الحكم بأن كانت قسمة لا يجبر الآبي عليها يثبت فيها حكم
الغرور كالقسمة في جنسين، أما في كل قسمة يوجبها الحكم، فإنما لا يثبت فيها
حكم الغرور؛ إما لأن الحكم إذا كان يوجبها صار من حيث الحكم كالقاضي
ألزمها؛ أو لأن كل واحد منهما مضطر في هذه القسمة وإن حصلت بتراضيهما على
ما مرّ في مسألة «الكتاب» ، وبالاضطرار ينتفي معنى الغرور إنما يتحقق من
المختار.
ألا ترى أن الشفيع عند استحقاق الدار المشفوعة لا يرجع بقيمة ما بنى على
(7/370)
المشتري؛ لأن المشتري لم يكن مختاراً في
الدفع إليه.
وكذلك الأب إذا وطئ جارية ابنه، وعلقت منه واستحقها لم يرجع بقيمة الولد
على الابن وطريقه ما قلنا؛ ولأن القسمة فيما عدا المكيل والموزون إذا كانت
قسمة يوجبها الحكم إفراز لعين الحق من وجه، ومبايعة من وجه على ما مر في
صدر الكتاب.
فباعتبار أنها مبايعة إن كانت ثبت فيها حكم الغرور فباعتبار أنها إقرار لا
يثبت فيها حكم الغرور فلا يثبت فيها حكم الغرور بالشك بخلاف البيع المحض،
أما على المعنى الأول؛ لأن البائع مختار في البيع وليس بمضطر فيه، وإما على
المعنى الثاني؛ فلأنه ليس فيه إقرار الحق بوجه من الوجوه إذا لم يكن
للمشتري فيه عن قبل البيع بوجه من الوجوه، أما القسمة بخلافه.
وأما كل قسمة لا يوجبها الحكم فإنما يثبت فيها حكم الغرور؛ لأن كل واحد
منهما غير مضطر في هذه القسمة؛ لأن واحد متمكن من تمييز ملكه بقسمة كل جنس
على حده؛ ولأن كل واحد منهما غير متوف لعين الحق حقيقة، فلا إشكال، ولا
حكماً؛ لأن ما وصل إليه ليس بمثل لما كان له؛ لأن الدار ليست بمثل الأرض،
والأرض ليست بمثل الدار حتى يجعل وصول المثل إليه كوصول عين الحق.
وإذا اقتسم الرجلان داراً بينهما بشراء أو ميراث، وبنى أحدهما في قسمه الذي
أخذها، ثم استحق من نصيب الثاني الموضع الذي فيه البناء، ورد القسمة
وأبطلها لا يرجع على شريكه بشيء من قيمة البناء؛ لأن هذه قسمة يوجبها
الحكم.
وإن كان دارين بينهما فاقتسماها هذا واحد هذا داراً أو هذا داراً وبنى
أحدهما في داره التي أخذها واستحقت تلك الدار رجع على شريكه بنصف قيمة
البناء، ذكر المسالة في «الكتاب» مطلقاً من غير ذكر خلاف.
من مشايخنا من قال: المذكور في «الكتاب» قول أبي حنيفة؛ لأن هذه قسمة لا
يوجبها الحكم على قوله: أما على قولهما هذه قسمة يوجبها الحكم؛ ولهذا يجبر
الآبي عليها فيثبت فيها حكم الغرور.
ومنهم من قال: هذا قولهم جميعاً؛ لأن هذه القسمة لا يوجبها الحكم لا محالة
عندهما إنما يوجبها الحكم إذا رأى القاضي الصلاح في أن يلقحها بالجنس
الواحد، أما قبل رؤية القاضي ذلك فلا، والجواب في الأرضين كالجواب في
الدارين.
ولو كانا خادمين فاصطلحا على أن يأخذ هذا خادماً، وذلك خادماً فعلقت إحدى
الخادمين من الذي أصابها، ثم استحقها رجل رجع على شريكه بنصف قيمة الولد،
وهذا الجواب ظاهر على قول أبي حنيفة؛ لأن هذه قسمة لا يوجبها الحكم على قول
من يقول من المشايخ: إن قسمة الرقيق قسمة جمع على قولهما موكول إلى رأي
القاضي.
وأما على قول من يقول من المشايخ: إن الرقيق عندهما يقسم قسمة جمع على كل
حال لا يثبت حكم الغرور؛ لأن هذه قسمة يوجبها الحكم لا محالة.
وإذا كانت دار واحدة وأرض بيضاء بين ورثة، فاقتسموا بغير قضاء وبنى أحدهما
(7/371)
في قسمه بناءً ثم استحق قسمه ونقض بناؤه
ورد القسمة، لا يرجع على شريكه بقيمة البناء، ذكر في بعض نسخ كتاب القسمة
وهو محمول على ما إذا اقتسما الدار على حده والأرض على حدة، فتكون هذه قسمة
يوجبها الحكم، وذكر في بعض النسخ أنه يرجع على شريكه بنصف قيمة البناء، وهو
محمول على ما إذا اقتسما فأخذ أحدهما الدار، وأخذ الآخر الأرض فتكون هذه
قسمة لا يوجبها الحكم.
وإذا كانت الدار بين قوم فقسمها القاضي بينهم وجمع نصيب كل واحد منهم في
دار على حده، وأجبرهم على ذلك، وبنى أحدهم في الدار الذي أصابه بناءً ثم
استحقت هذه الدار وهدم بناؤه، لا يرجع على شركائه بالقيمة.
أما عندهما؛ فلأن هذه قسمة يوجبها الحكم عندهما متى رأى القاضي الصلاح
فيها، وأما عند أبي حنيفة فلأن القاضي لما قسمها قسمة جمع فقد حصل قضاؤه في
فصل محتمل فيه فالتحقت الدور بالدار الواحدة عندهم جميعاً.
وفي «المنتقى» : هشام عن محمد: دار بين رجلين جاء رجل إلى أحدهما، وقال:
وكلني شريكك أن أقاسمك فلم يصدقه ولم يكذبه فقاسمه ثم بنى فيها (9ب4) صار
له بناء يعني الشريك الحاضر، ثم جاء الشريك الغائب، وأنكر أن يكون وكله
بذلك، قال: يرجع صاحب البناء على الوكيل بقيمة البناء إن شاء؛ لأنه غره
والله أعلم.
الفصل العاشر: في القسمة يستحق منها شيء
في «الأصل» : وإذا وقعت القسمة بين الشركاء في دار وأرض، ثم استحق شيء
منها، فالمسألة على ثلاثة أوجه:
الأول: أن يستحق جزء شائع من الكل بأن استحق نصف كل الدار أو ثلث كل الدار
أو ما أشبه ذلك، وفي هذا الوجه القسمة فاسدة، واختلفت عبارة المشايخ في
تعليل المسألة، بعضهم قالوا: إنما فسدت لحق المستحق؛ لأنها لو لم تفسد
يحتاج المستحق إلى قسمة ما في يد كل واحد منهما، فيفرق عليه نصيبه في
الموضعين.
وبعضهم قالوا: إنما فسدت القسمة؛ لأنها لا يفيد فائدتها؛ لأن فائدة القسمة
إقرار الأنصباء، ولما ظهر لهما شريك ثالث في النصيبين ظهر أن الإقرار لم
يجعل؛ لأن نصيب الثالث شائع في النصيبين جميعاً.
الوجه الثاني: إذا استحق جزء بعينه فيما أصاب واحد منهم، وفي هذا الوجه
القسمة صحيحة فيما بقي بعد الاستحقاق، وكان للمستحق عليه الخيار إن شاء نقض
القسمة وعاد الأمر إلى ما كان قبل القسمة، وإن شاء أمضى القسمة ورجع على
صاحبه بعوض المستحق، وإن بقيت القسمة على الصحة؛ لأن ما هو المقصود من
القسمة وهو الإقرار حاصل هنا، فيما وراء المستحق، لأن ما وراء المستحق لهما
ليس لثالث فيه بعيب.
(7/372)
ألا ترى أن هذا المستحق لو كان حاضراً وقت
القسمة، واقتسما الثاني صح إلا أن المستحق عليه بالخيار؛ لأنه تعيب نصيبه؛
لأن الباقي لا يشترى بمثل ما كان يشترى مع المستحق، فإن نقض القسمة عاد
الأمر إلى ما كان قبل القسمة ويستأنفان القسمة فيما وراء المستحق.
وإن أجاز القسمة رجع على صاحبه بعوض المستحق وذلك ربع ما في يد صاحبه
مثلاً، إن كان المستحق نصف نصيب المستحق عليه؛ لأنا نعتبر استحقاق البعض
باستحقاق الكل، ولو استحق كل نصيب أحدهما رجع على صاحبه بنصف ما في يده؛
لأن الذي أصاب المستحق عليه بالقسمة، نصفه كان له، ونصفه اشتراه من صاحبه
بما ترك على صاحبه بما أصابه، فما كان ملكاً له لا يرجع به على أحد، وما
اشتراه رجع على صاحبه بحصته، وذلك نصف ما في يد صاحبه، فإذا كان عند
استحقاق الكل يرجع بنصف ما في يد صاحبه فعند استحقاق النصف يرجع بربع ما في
يد صاحبه وعلى هذا القياس فافهم.
الوجه الثالث: إذا استحق جزء شائع، فيما أصاب واحداً منهم وفي هذا الوجه
القسمة لا تفسد عند أبي حنيفة رحمه الله، والمستحق عليه بالخيار على نحو ما
بينا، فإن أجاز القسمة وكان المستحق نصف نصيبه مثلاً رجع على صاحبه بربع ما
في يده، وقال أبو يوسف: تفسد القسمة ويستأنفان القسمة، وقول محمد رحمه الله
مضطرب في نسخ أبي حفص مع أبي حنيفة، وفي نسخ أبي سليمان مع قول أبي يوسف،
وهكذا أثبته الحاكم في «المختصر» والأول أصح، فقد روى ابن سماعة وابن رستم
قول محمد مع قول أبي حنيفة.
فوجه قول أبي يوسف رحمه الله: أن المقصود من القسمة الإقرار، وبهذه القسمة
إن حصل إقرار نصيب غير المستحق عليه لم يحصل إقرار نصيب المستحق عليه فتفسد
القسمة كما لو استحق جزء شائع من جملة الدار.
وجه قولهما: أن هذه قسمة أفادت مقصودها، لأن المقصود من هذه القسمة امتياز
نصيب كل واحد من المتقاسمين، وانقطاع الشركة بينهما وبهذه القسمة أمتاز
نصيب كل واحد منهما عن نصيب صاحبه إلا أنه ظهر لأحدهما شريك في نصيبه.
ومثل هذه الشركة لو ضرب بعد القسمة لا يوجب زوال الإقرار الحاصل بالقسمة
الأولى، فإن كرّي حنطة بين اثنين اقتسماها وأخذ كل واحد كراً فجاء آخر وخلط
بكر أحدهما كر حنطة، فإن القسمة الأولى تبقى على حالها، فإذا قارب الإقرار
لم يمنع ثبوته، ولو كان باع أحدهما نصف ما أصابه بالقسمة ثم استحق ما بقي
له، فإنه يرجع على صاحبه بربع ما في يده، عند أبي حنيفة ومحمد ولا يجيّر
بخلاف ما قبل البيع حيث يجيّر؛ لأن قبل البيع قادر على رد ما بقي بعد
الاستحقاق، وبعد البيع عجز عن رد ما وراء المستحق؛ فلهذا سقط خياره.
وأما على قول أبي يوسف: فالقسمة فاسدة لو كان ما وراء المستحق في يد
(7/373)
المستحق عليه، كان عليه رد نصفه بحكم
الفساد، وقد عجز بالبيع عن رده؛ لأن البيع قد صح؛ لأن المقبوض بحكم العقد
الفاسد مملوك للقابض، فيرد قيمة نصف ما باع، وذلك قيمة ربع نصيبه على
صاحبه، وكان نصيب صاحبه بينهما، وسلم لصاحبه ربع نصيب المستحق عليه لما أخذ
منه قيمة ربع نصيبه، وسلم للمستحق عليه أيضاً ربع نصيبه.
وفي كتاب «الشروط» : جعل المسألة على ثلاثة أوجه أيضاً، لكن لم يذكر ثمة ما
إذا استحق جزء شائع من كل الدار، وذكر مكانه ما إذا استحق جميع نصيب
أحدهما، وذكر أن القسمة باطلة، ويقسم الباقي وهو الذي لم يستحق بينهما إن
كان قائماً في يد الآخر لم يبعه، وإن كان باعه فالبيع باقي؛ لأن نصف ما باع
قد تم ملكه، ونصفه عوض عما ترك لصاحبه، وتبين أن ذلك كان مستحقاً وبدل
المستحق مملوك فبالبيع صارت ملكه، وعليه أن يرد على المستحق عليه نصف قيمة
ما باع، وذكر ما إذا باع استحق جزء بعينه من نصيب أحدهما.
وأجاب أن القسمة باطلة في الكل بخلاف ما كتبها في المتن، وذكر ما إذا استحق
جزء شائع من نصيب أحدهما، وذكر المسألة خلافاً على ما كتبها في المتن على
قول أبي حنيفة لا تنتقض القسمة، ولكن يخير المستحق عليه إن شاء نقض القسمة
وضم ما بقي في يده إلى ما في يده إلى ما في يد الآخر، إن كان الآخر لم يبع
ما أصابه، ويقسمان ذلك بينهما، وإن كان الآخر باع نصيبه يضم المستحق عليه
ما بقى في يده إلى قيمة ما كان في يد الآخر فيقسمانه نصفين.
وفي «المنتقى» إبراهيم عن محمد رحمه الله: ثلاثة إخوة ورثوا دوراً ثلاثة
أخذ كل واحد منهم داراً، ثم استحق نصف دار أحدهم، قال أبو حنيفة وأبو يوسف
رحمهما الله، وهو قولنا: المستحق عليه بالخيار إن شاء نقض القسمة كلها
واستقبلوها، وإن شاء أمسك النصف ورجع عليهما بقدر ما استحق من يده.
وإن كانت داراً واحدة اقتسموها أثلاثاً، ثم استحق نصف نصيب أحدهم، قال أبو
حنيفة ومحمد رحمهما الله: هذا والأول سواء، وقال أبو يوسف: تنتقض القسمة
ولا خيار للمستحق عليه وتستوي فيه القسمة بحكم وبغير حكم.
وإذا كانت مئة شاة بين رجلين نصفين فاقتسما، فأخذ أحدهما أربعين منها تساوي
خمسمائة درهم، وأخذ الآخر ستين تساوي خمسمائة درهم، فاستحق شاة من الأربعين
تساوي عشرة، فإنه يرجع على صاحبه بخمسة دارهم في الستين شاة في قولهم،
وتكون القسمة جائزة عندهم، ولا يخير المستحق عليه، أما القسمة جائزة فلأن
المستحق شيء بعينه وأما لا يخير المستحق عليه لأن الباقي لم يصر معيناً
باستحقاق ما استحق، وأما الرجوع بخمسة دراهم لأن المستحق شاة تساوي عشرة
دارهم نصفها كان ملكاً له فلا رجوع به على أحد، ونصفها قد اشتراه من صاحبه
بما ترك لصاحبه من نصيبه، فإذا استحق ذلك من يده كان له أن يرجع بقدر ذلك
مما في يد صاحبه، وذلك خمسة دراهم.
(7/374)
الفصل الحادي عشر:
في دعوى الغلط في القسمة
يجب أن يعلم بأن دعوى الغلط في القسمة نوعان: دعوى الغلط في التقويم، ودعوى
الغلط في مقدار الواجب بالقسمة، فأما دعوى الغلط في القسمة فهو نوعان
أيضاً: نوع يصح، ونوع لا يصح، والذي لا يصح أن يدعي أحد المتقاسمين الغلط
في التقويم بغبن يسير بأن (10أ4) كان ما يدعي من الغلط يدخل تحت تقويم
المتقومين، فهذه الدعوى لا تصح، ولو أقام البينة عليه لا تسمع بينته، حصلت
القسمة بقضاء القاضي أو بتراضيهم لوجهين:
أحدهما: أن الاحتراز عن مثل هذا الغلط غير ممكن.
والثاني: أنه يؤدي إلى مالا يتناهى؛ لأنه يمكنه أن يدعي مثل ذلك في القسمة
الثانية والثالثة، والذي يصح أن يدعي أحد المتقاسمين الغلط في التقويم بغبن
فاحش، بأن كان ما يدعى من مقدار الغلط لا يدخل تحت تقويم المقومين، وإنه
صحيح إن حصلت القسمة بقضاء القاضي؛ لأنا لو سمعنا هذه الدعوى ونقصنا هذه
القسمة لا يؤدي إلى ما لا يتناهى؛ لأنه لا يقع مثل هذا الغبن في القسمة
الثانية؛ لأنه يتصور التقويم في المرة الثانية على وجه لا يتحقق فيها الغبن
الفاحش، وإن حصلت القسمة بالتراضي لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في
«الكتاب» .
وحكي عن الفقيه أبي جعفر الهندواني رحمه الله: أنه كان يقول: لقائل أن
يقول: لا تسمع هذه الدعوى؛ لأن القسمة في معنى البيع ودعوى الغبن في البيع
من المالك لا يصح؛ لأنه لا فائدة فيه، فإن البيع من المالك لا ينقض بالغبن
الفاحش.
أما البيع من غير المالك ينقض بالغبن الفاحش كبيع الأب والوصي، ولقائل أن
يقول: تسمع هذه الدعوى؛ لأن المعادلة شرط في القسمة، والتعديل في الأشياء
المتقاربة يكون من حيث القيمة، فإذا ظهر في القيمة غبن فاحش فما هو شرط
جواز القسمة، فاسد فيجب نقضها فكان الدعوى مفيداً من هذا الوجه فيصح.
والصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله، كان يأخذ بالقول الأول، وبعض مشايخ
عصره كانوا يأخذون بالقول الثاني، وذكر القاضي الإمام الإسبيجابي في «شرح
أدب القاضي» : أن دعوى الغبن بعد القسمة غير صحيح إذا كانت القسمة
بالتراضي، قال: وبعض المشايخ قالوا: تسمع كما لو كانت القسمة بقضاء القاضي،
وذكر في شرح الإسبيجابي دقيقة في هذا الفصل، فقال: وهذا كله إذا لم يقر كل
واحد منهما بالاستيفاء، فأما إذا أقر بذلك لا تسمع دعوى الغلط والغبن من
واحد منهما بعد ذلك، إنما تسمع دعوى الغصب.
وأما دعوى الغلط في مقدار الواجب بالقسمة فنوعان أيضاً: نوع يوجب التحالف،
ونوع لا يوجب التحالف.
(7/375)
فالذي يوجب التحالف: أن يدعي أحد
المتقاسمين غلطاً في مقدار الواجب بالقسمة على وجه لا يكون مدعياً الغصب
بدعوى الغلط.
كمئة شاة بين رجلين اقتسما، ثم قال أحدهما لصاحبه: قبضت خمسة وخمسين غلطاً،
وأنا ما قبضت إلا خمسة وأربعين، وقال الآخر: ما قبضت شيئاً غلطاً، وإنما
اقتسمنا على أن يكون لي خمسة وخمسين ولك خمسة وأربعين، ولم يقم لواحد منهما
بينة، فهذا هو صورة دعوى الغلط في القسمة من غير دعوى الغصب؛ وهذا لأن غصب
أحد العاقدين المعقود عليه من العاقد الآخر لا يتصور قبل قبض العاقد الآخر
إياه منه، فإن البائع إذا منع المبيع من المشتري بعد نقد الثمن لا يصير
غاصباً حتى لو هلك قائماً يهلك بالثمن كما قبل البيع، وإنما وجب التحالف؛
لأن القسمة بمعنى البيع، وفي البيع إذا وقع الاختلاف في مقدار المعقود عليه
يتحالفان إذا كان المعقود عليه قائماً، فكذا في القسمة يتحالفان إذا كان
المقسوم قائماً بعينه. وهذا كله إذا لم يسبق منهما إقرار باستيفاء الحق،
فأما إذا سبق لا تسمع دعوى الغلط إلا من حيث الغصب.
والذي لا يوجب التحالف: أن يدعي الغلط في مقدار الواجب بالقسمة على وجه
يكون مدعياً الغصب بدعوى الغلط، بأن قال في المسألة: الشياة قسمتا بالسوية
وأخذنا، ثم أخذت خمسة من نصيبي غلطاً، وقال الآخر: ما أخذت شيئاً من نصيبك
غلطاً ولكن اقتسمنا على أن يكون لي خمسة وخمسين، ولك خمسة وأربعين، ولا
بينة لواحد منهما، فإنهما لا يتحالفان، ويجعل القول قول المدعى عليه الغلط.
وإن اختلفا في الحاصل في مقدار الواجب بالقسمة كما في المسألة الأولى وإنه
يوجب التحالف؛ وذلك لأن بهذا الاعتبار إن كان يجب التحالف فباعتبار دعوى
الغصب لا يجب التحالف كما في سائر المواضع، والتحالف أمر عرف بخلاف القياس،
فإذا وجب من وجه دون وجه لا يجب؛ ولأنهما تصادقا على تمام القسمة وصحتها،
وأحد الاعتبارين يوجب الفسخ بالتحالف، والآخر يمنع فلا يفسخ بالشك.
قال محمد رحمه الله: إذا اقتسم القوم أرضاً أو داراً بينهم، وقبض كل واحد
منهم حقه من ذلك، ثم ادعى أحدهما غلطاً، فإن أبا حنيفة رحمه الله قال في
ذلك: لا تعاد القسمة حتى يقيم البينة عل ما ادعى، فإذا أقام البينة اعيدت
القسمة فيما بينهم حتى يستوفي كل ذي حق حقه، وكان لا يجب أن لا تعاد
القسمة؛ لأن وضع المسألة أن كل واحد قبض حقه، ودعوى الغلط بعد القبض دعوى
الغصب.
وفي دعوى الغصب يقضى للمدعي بما قامت البينة عليه، ولا تعاد القسمة،
والجواب عن هذا أن يقال: إن محمداً رحمه الله ذكر إعادة القسمة عند إقامة
المدعي البينة على دعوى الغلط، ولم يبين كيفية الدعوى، فيحمل دعواه على وجه
يجب إعادة القسمة عند إقامة البينة.l
وبيان ذلك الوجه: أن يقول مدعي الغلط لصاحبه: قسمت الدار بيننا بالسوية على
أن يكون لي ألف ذراع ولك ألف ذراع من نصيبين من مكان بعينه غلطاً، ويقول
الآخر:
(7/376)
لا بل كانت القسمة على أن يكون لي ألف ومئة
ذراع ولك تسعمئة ذراع، فشهد الشهود أن القسمة كانت بالسوية، ولم يشهدوا أن
هذا أخذ مئة ذراع من مكان بعينه في نصيب المدعي، فيثبت بهذه البينة أن
القسمة كانت بالسوية، وفي يد أحدهما زيادة، ولا يدري أن حق المدعي في أي
جانب، فتجب الإعادة ليستويا، وتكون هذه الشهادة مسموعة وإن لم يشهدوا
بالغصب؛ لأن مدعي الغلط في هذا الوجه يدعي بشيئين القسمة بالسوية وغصب مئة
ذراع، والشهود شهدوا بأحدهما، وهو القسمة بالسوية.
وإن لم يكن للمدعي بينة على ما ادعى يحلف المدعى عليه الغلط ولا يتحالفان؛
لأن المدعي بدعوى الغلط هاهنا ادعى الغصب، والتحالف لا يجري في مثل هذا،
فإن حلف المدعي قبل الغلط لم يثبت الغلط، والقسمة ماضية على حالها، وإن نكل
ثبت الغلط فيها والقسمة كما في فصل البينة.
قال: وكذلك كل قسمة في غنم أو إبل أو بقر أو ثياب أو شيء من المكيل
والموزون ادعى فيه أحدهم غلطاً بعد القسمة والقبض فهو على مثل ذلك، ولم يرد
بهذه التسوية بين جميع هذه المسائل وبين المسألة الأولى في حق جميع
الأحكام، وإنما أراد بها التسوية في حق بعض الأحكام، وهو أن لا تعاد القسمة
بمجرد الدعوى.
ألا ترى أن في المكيل والموزون إذا أقام مدعي الغلط البينة على ما ادعى لا
تعال القسمة بل يقسم الباقي على قدر حقهما، وفي الغنم والبقر والثياب
والأشياء التي تتفاوت يجب إعادة القسمة كما في مسألة الدار، وهذا لأن قسمة
الباقي على قدر حقهما في الغنم وأشباهه توجب زيادة ضرر بالمدعي عسى لجواز
أن يكون ما أخذ من نصيبه غلطاً كله خياراً، وفي قسمة الثاني لا يصل إليه
الجياد فيها، والقسمة نفياً للضرر عن المدعي كما في مسألة الدار.
فإن في مسألة الدار إنما لم يجب قسمة الباقي على قدر حقهما نفياً للضرر عن
المدعي؛ لأنا لو قسمنا الباقي على قدر حصتهما ربما يقع له بالقسمة الثانية
مئة ذراع في جانب لا يتصل بنصيبه، وكان في أصل القسمة متصلاً بنصيبه فيجب
إعادة القسمة نفياً للضرر عن المدعي.
أما في المكيل والموزون متى قسمنا الباقي على مقدار حقهما لا يتضرر به
المدعي، فوجب قسمة الباقي عل قدر حقوقهما، ولم يجب إعادة القسمة ثانياً
لهذا.
وإذا اقتسم رجلان دارين، فأخذ أحدهما داراً والآخر داراً، ثم أدعى أحدهما
لنفسه كذا وكذا ذراعاً من الدار التي في يد صاحبه فضلاً في قسمته، فإن أبا
يوسف ومحمد رحمهما الله قالا: يقضى له بذلك (10ب4) ولا تعاد القسمة، وليست
كالدار الواحدة في قول أبي يوسف ومحمد، يريد به أن في الدار الواحدة متى
ادعى أحدهما أذرعاً مسماة في نصيب صاحبه، فإنه تعاد القسمة.
وأما على قياس قول أبي حنيفة فالدعوى فاسدة سواء كان الدعوى في دار واحدة،
أو في دارين، ومعنى هذه المسألة: أن أحد المتقاسمين ادعى على صاحبه أنه شرط
له
(7/377)
كذا كذا ذراعاً من نصيبه في القسمة، وإنما
كانت القسمة فاسدة عند أبي حنيفة؛ لأن الذي شرط زيادة أذرع من نصيبه لصاحبه
صار بائعاً لذلك القدر من صاحبه.
وبيع كذا أذرع من الدار لا يجوز عند أبي حنيفة، عرف ذلك في كتاب البيوع فلا
تجوز القسمة، وإذا ثبت فساد الدعوى عند أبي حنيفة رحمه الله يجب إعادة
القسمة دفعاً للفساد.
وعندها بيع كذا أذرع من الدار جائز فتجوز القسمة، ثم إنهما فرقا بين
الدارين، وبين الدار الواحدة، فقالا: في الدارين لا تعاد القسمة، وقالا: في
الدار الواحدة تعاد القسمة، وكان يجب أن لا تعاد القسمة في الدار الواحدة
أيضاً، ويقضى للمدعي بذلك القدر من نصيب المدعى عليه كما في الدارين؛ لأن
الإعادة لنفي الضرر عن المدعي كيلا يتفرق نصيبه ولا وجه إليه؛ لأنه إن ادعى
عشرة أذرع بعينه فلا ضرر عليه، فمتى قضى له بذلك؛ لأنه هكذا استحق بأصل
القسمة، وإن ادعى عشرة أذرع شائعاً فكذلك؛ لأنه لما شرط لنفسه عشرة أذرع في
نصيب صاحبه شائعاً علمه أنه ربما يتفرق نصيبه متى قسم نصيب صاحبه مرة أخرى
صار راضياً بالتفرق، وإنما وجب الإعادة في الدار الواحدة؛ لأن المسألة
محمولة على أنه ادعى أن صاحبه شرط له عشرة أذرع من نصيبه، قال: ولا أدري
كيف شرط لي عشرة بعينها متصل نصفين أو شائع في جميع نصيب صاحبه؟ وشهد
الشهود له بعشرة مطلقة ومتى كانت الحالة نفذه لا يثبت الرضا من المدعي
بالتفرق؛ لأنه على تقدير أن يكون المشروط عشرة بعينها متصلة بنصيبه لا يكون
راضياً بالتفرق.
فإذا لم يعلم القاضي كيف كان الشرط سمي القضاء على ما هو المستحق لكل واحد
منهما في الدار الواحدة بالقسمة، وهو أن يكون نصيب كل واحد منهما مجتمعاً
في مكان واحد بخلاف الدارين، فإن في الدارين وإن حملنا المسألة على أن
المدعي قال: لا أدري كيف شرط لي العشرة لا تعاد القسمة؛ لأن بإعادة القسمة
في الدارين لا يزول ما كان يلحقه من زيادة ضرر بأن كان شرط لنفسه عشرة أذرع
من مكان بعينه متصل بداره؛ لأنه ربما لا يقع له في القسمة الثانية عشرة
أذرع متصلاً بداره، فلا يفيد إعادة القسمة، فيقضى له بعشرة أذرع شائع كما
شهد به الشهود.
وإذا اقتسم رجلان عشرة أثواب فأخذ أحدهما أربعة، وأخذ الآخر ستة، فادعى آخذ
الأربعة ثوباً بعينه من الستة أنه أصابه في قسمه، وأقام على ذلك بينة فإنه
يقضى له بذلك، سواء أقر بقبض ما ادعى من الزيادة أو لم يقر له، وإن لم يقم
له بينة ذكر في «الكتاب» أن صاحبه يستحلف، ولم يوجب التحالف.
وهذا محمول على ما إذا أقر بقبض ما ادعى، ثم ادعى أن صاحبه أخذ ذلك منه
غلطاً، فيكون مدعياً الغصب على صاحبه، وفي مثل هذا لا يوجب التحالف، فإن
ادعى آخذ الأربعة ثوباً بعينه من الستة إن أصابه في قسمته وأقام الآخر بينة
أنه أصابه في قسمته قضي ببينة صاحب الأربعة؛ لأنه خارج فيه.
قال: والإشهاد على القسمة لا يمنع دعوى الزيادة على صاحبه بخلاف الأشهاد
(7/378)
على الاستيفاء، والفرق: أن الإشهاد على
القسمة لا يتضمن إقرار القبض جميع الحق، فيصير متناقضاً بعد ذلك أنه لم
يقبض بعض حقه.
في «المنتقى» : ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله: دار بين رجلين قسمها
القاضي بينهما، فقال أحدهما لصاحبه: الذي في يدي هو الذي أصابك، والذي في
يدك لي، وقال الآخر: لا بل الذي في يدي هو الذي أصابني، قال: لكل واحد
منهما ما في يده، ولا يصدق على صاحبه.
وفيه أيضاً إبراهيم عن محمد: رجلان بينهما دارين ميراثاً من أبيهما، قال كل
واحد منهما لصاحبه: لك هذه الدار، ولي الأخرى على أن كل واحد منهما مئة
أذرع، فإذا أحدهما مئة ذراع فلهما أن يبطلا القسمة، ولو قال كل واحد منهما
لصاحبه: بعتك نصيبي من هذه الدار بنصيبك من الدار الأخرى على أن كل واحد
منهما مئة ذراع أو أكثر جاز؛ لأن هذا بيع والأول قسمه، والله أعلم.
الفصل الثاني عشر: في المهايأة
يجب أن يعلم بأن المهايأة قسمة المنافع، وإنها جائزة في الأعيان المشتركة
التي يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها، واجبة إذا طلبها بعض الشركاء، ولم
يطلب الشريك الآخر قسمة الأصل، وإنها قد تكون بالزمان وقد تكون بالمكان.
وتكلم العلماء في كيفية جوازها بعضهم قالوا: إن جرت المهايأة في الجنس
الواحد، والمنفعة متفاوتة تفاوتاً يسيراً كما في الثياب والأراضي، يعتبر
إقراراً من وجه، مبادلة من وجه، حتى لا ينفرد أحدهما بهذه المهايأة، وإذا
طلبها أحدهما ولم يطلب الآخر قسمة الأصل أجبر الآخر عليها.
وإن جرت في الجنس المختلف كالدور والعبيد يعتبر مبادلة من كل وجه، حتى لا
يجوز من غير رضاهما، وهذا لما ذكرنا أن المهايأة قسمة المنافع، فيعتبر
بقسمة الأعيان وقسمة العين اعتبر مبادلة من كل وجه في الجنس المختلف،
واعتبرت مبادلة من وجه، إقراراً من وجه في الجنس الواحد من الأعيان
المتفاوتة تفاوتاً يسيراً كالثياب حتى لا ينفرد أحدهما بهذه القسمة؛ لأنها
ليست من ذوات الأمثال، ولكن إذا طلب أحدهما أجبر الآخر عليه؛ لأن التفاوت
يسير، فكذا في قسمة المنافع.
وبعضهم قالوا: بأن المهايأة في الجنس الواحد من الأعيان المتفاوتة تفاوتاً
يسيراً يعتبر إقراراً من وجه، عارية من وجه، كأن ما يستوفيه كل واحد منهما
من المنافع بعضه نصيبه، وبعضه نصيب صاحبه عارية له من صاحبه، ولا تعتبر
مبادلة بوجه ما حجّة هذا القائل: أن المهايأة جائزة في الجنس الواحد، ولو
كانت مبادلة من وجه لما جازت في الجنس الواحد؛ لأنه يكون مبادلة المنفعة
بجنسها، وإنه يحرم ربا النساء؛ لأن لكل واحد
(7/379)
منهما نقض المهايأة بعذر وبغير عذر، ولو
كانت مبادلة من وجه لما جازت من غير ذكر بيان المدة، والأول أصحّ؛ لأن
العارية ما يكون بغير عوض، وهذا بعوض؛ لأن كل واحد منهما ما يترك من
المنفعة من نصيبه على صاحبه في ثوبه صاحبه إنما يترك بشرط أن يترك صاحبه
نصيبه عليه في ثوبه، وإنما لم يحرم النساء؛ لأن القياس لا يحرم بأحد وصفي
علة ربا النقد؛ لأن الدين مع العين يستويان في العدد إلا أن للعين فضلاً من
حيث الجودة؛ لأن العين أفضل من الدين وأجود منه إلا أن الفضل من حيث الجودة
لا يحرم عند وجود وصفي علة الربا، وهو القدر مع الجنس، فلأن لا يحرم عند
وجود أحد وصفي علة ربا أولى، إلا أننا أثبتنا هذه الحرمة عند أحد وصفي علة
ربا النقد، وهو القدر أو الجنس بالنص بخلاف القياس، والنص ورد فيما هو
مبادلة من كل وجه، وهو البيع والمهايأة إقرار من وجه مبادلة من وجه فيعمل
فيها بقضية القياس.
وقوله: بأن لكل واحد منهما بعض المهايأة بعذر وبغير عذر سنبين الوجه فيه
بعد ذلك إن شاء الله تعالى.
وقوله: بأن المهايأة تجوز من غير بيان المدة، قلنا: إنما جازت لأنها قسمة
المنافع، فتكون معتبرة بقسمة العين، ثم قسمة العين جائزة من غير بيان المدة
فكذا قسمة المنفعة.
قال أبو حنيفة رحمه الله: دار بين رجلين تهايأ على أن يسكن هذا منزلاً
معلوماً، وهذا منزلاً معلوماً، وعلى أن يؤاجر (11أ4) كل واحد منهما منزله،
ونأكل عليه فهو جائز كذا ذكر في بعض الروايات، وذكر في بعضها أو على أن
يواجه كل واحد منهما منزله فعلى الرواية الأولى هذه مهايأة في السكنى
والاستغلال جميعاً من حيث المكان.
وبيان أنهما إذا تهايأ في السكنى، ولم يشترطا الإجارة أن كل واحد منهما لا
يملك إجارة منزله؛ إذ لو ملك كل واحد منهما ذلك لم يكن لاشتراط الإجارة بيع
السكنى معنى، وإلى هذا ذهب أبو علي الشاسي، وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة
السرخسي يقول: ظاهر المذهب أن كل واحد منهما يملك إجارة منزله، وإن لم
يشرطا الإجارة وقت المهايأة.
وعلى الرواية الثانية تكون هذه مهايأة، إما في السكنى أو في الاستغلال من
حيث المكان، وبيان أن المهايأة في الاستغلال تجوز حالة الانفراد مقصوداً
كما تجوز تبعاً لمهايأة في السكنى، وإنما ملك كل واحد منهما إجارة منزله من
غير الشرط في ظاهر المذهب على ما ذكره شمس الأئمة رحمه الله؛ لأن المهايأة
قسمة المنفعة فما يصيب كل واحد منهما من المنفعة يجعل مستحقاً له باعتبار
قديم ملكه؛ لأن المنفعة جنس واحد لا يتفاوت بمنزلة قسمة المكيل والموزون،
وهو يملك الاعتياض عن المنفعة المملوكة لا من جهة غير، شرط ذلك أو لم
يشترط.
وله أن يقسم العين ويبطل المهايأة إذا بدا لهما أو لأحدهما؛ لأن الأصل فيما
هو المقصود وهو تمييز الملك قسمة العين والمهايأة خلف عنه، ألا ترى أن في
الابتداء لو
(7/380)
طلب أحدهما قسمة العين، وطلب الآخر من
القاضي المهايأة، فالقاضي لا يهايئ بينهما فكذا في الانتهاء إذا طلب أحدهما
قسمة العين لاستدام المهايأة.
وذكر محمد رحمه الله في باب المهايأة في الحيوان: ولكل واحد منهما نقض
المهايأة بعذر وبغير عذر، قال شيخ الإسلام: هذا هو ظاهر الرواية.
وقال شمس الأئمة الحلواني: إنما يكون لأحدهما نقض المهايأة إذا قال: أريد
بيع نصيبي من الدار، أو قال: أريد أن نقسم العين حتى يتميز نصيب كل واحد
منا، فأما إذا قال: أفسخ المهايأة لتعود المنافع مشتركة بيننا كما كانت
فالقاضي لا يجيبه إلى ذلك،.
وروى ابن سماعة عن محمد: أنه ليس لكل واحد منهما نقض المهايأة من غير رضا
صاحبه إلا عند إرادة القسمة، وكان شمس الأئمة الحلواني مال إلى هذه
الرواية.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وإنما يكون لأحدهما النقض بعذر وبغير عذر على
ظاهر الرواية إن حصلت المهايأة بتراضيهما، أما إذا حصلت بحكم الحاكم ليس
لأحدهما أن ينقض ما لم يصطلحا على النقص؛ لأنها إذا حصلت بحكم الحاكم لو
نقضناها بنقض أحدهما احتجنا إلى إعادة مثلها ثانياً، فأما إذا حصلت
بتراضيهما لو نقضناها لا نحتاج إلى إعادة مثلها ثانياً، وإنما يحتاج إلى ما
هو أعدل من هذه القسمة، وهي القسمة بقضاء القاضي، وليس لواحد منهما أن يحدث
في منزله بناء أو منقضة أو يفتح باباً؛ لأن العين بعد المهايأة باقي على
التركة.
وكذلك لو تهايئا على أن يكون السفل في يد أحدهما، والعلو في يد الآخر فهو
جائز على ما بينا، هذا إذا تهايئا في دار واحدة من حيث المكان، وأما إذا
تهايئا فيها من حيث الزمان، ذكر محمد رحمه الله في كتاب الصلح أنه يجوز
سواء تهايئا في السكنى، أو في الاستغلال أو فيهما.
وذكر محمد رحمه الله في «الرقيات» : أنه لا يجوز زماناً، ويجوز مكاناً، بعض
مشايخنا رحمهم الله قالوا: إنما اختلف الجواب اختلاف الموضوع، وضع المسألة
في كتاب الصلح أنهما فعلا ذلك بتراضيهما، وموضوع ما ذكر في «كتاب الرقيات»
إن أحدهما طلب المهايأة من القاضي زماناً، وأبى الآخر، فالقاضي لا يجبره
عليها، ومن المشايخ من قال: على رواية الرقيات: وإن فعلا ذلك بأنفسهما
وتراضيهما لا يجوز فصار في المسألة روايتان.
وأما في الدارين إذا تهايئا على أن يسكن أحدهما هذه الدار، والآخر الدار
الأخرى، ويؤاجر كل واحد منهما ما في يده، فهذه القسمة جائزة سواء كانا في
مصر واحد أو في مصرين، لأن قسمة العين على هذا الوجه بالتراضي جائزة فكذا
قسمة المنفعة، ولو طلب أحدهما المهايأة من القاضي بهذه الصفة وأبى الآخر
فالقاضي لا يجبر الآبى عليها عند أبي حنيفة.
هكذا ذكره الكرخي في «كتابه» وإليه مال شيخ الإسلام؛ لأن قسمة الجبر لا
تجري في غير الدور بهذه الصفة عند أبي حنيفة، فكذا المهايأة.
(7/381)
وذكر شمس الأئمة الحلواني، وشمس الأئمة
السرخسي رحمهما الله: أن القاضي يجبر الآبي على هذه القسمة عند أبي حنيفة
أيضاً، بخلاف قسمة العين على قوله.
والفرق: أن القسمة في المهايأة تلافي المنفعة دون العين، ومنفعة السكنى
تتفاوت، ولا تتفاوت إلا يسيراً فكانت المهايأة إقراراً لا مبادلة فجاز أن
يجري الجبر عليها، بخلاف قسمة العين، فالقسمة هناك ملاقي العين والمالية
والدور في المالية تختلف، فكانت القسمة مبادلة فلا يجري الجبر عليها.
فإن غلت إحدى الدارين ولم تفل الدار الأخرى، فليس للذي لم تفل داره أن
يشارك الآخر في نحلة داره؛ لأن الذي غلت داره إنما آجر داره لنفسه بإذن
شريكه، ولو أجرها لنفسه بغير أذن شريكه كانت الغلة له، فكذا إذا أجرها بإذن
شريكه، وتكون الغلة طيباً له؛ لأن الإجارة حصلت بإذن الشريك، وفي الدار
الواحدة إذا تهايئا على الاستغلال زماناً، فأغلت في نوبة أحدهما أكثر،
فالزيادة والفضل بينهما؛ لأن معنى الإقرار والقسمة في الدارين أرجح على
معنى أن كل واحد منهما وصل إلى المنفعة والغلة في الوقت الذي يصل إليها
صاحبه، فما يستوفيه كل واحد منهما عوض عن قديم ملكه استوجبه بعقده فيسلم
له، وفي الدار الواحدة إذا تهايئا في الاستغلال زماناً، فأحدهما يصل إلى
الغلة قبل وصول الآخر إليها، وذلك لا يكون قصة للقسمة فيجعل كل واحد منهما
وكيلاً عن صاحبه في إجارة نصيب صاحبه، وما يقبضه كل واحد منهما يجعل عوضاً
عما يقبض صاحبه من عوض نصيبه، والمعاوضة تقتضي التساوي، فعند التفاضل يثبت
التراجح فيما بينهما فيستويا.
وإذا آجر كل واحد منهما الدار التي في يديه، وأراد أحدهما أن ينقص المهايأة
ويقسم رقبة الدار فله ذلك، وهذا إذا مضى مدة الإجارة، فأما إذا لم تمض فليس
للآخر نقض المهايأة؛ صيانة لحق المستأجر.
والمهايأة في النخل والشجر على أكل الغلة باطلة؛ لأن غلة النخل والشجرة عين
تبقى بعد الحدوث، وإنما جوزنا المهايأة فيما لا تتأتى فيها القسمة بعد
الوجود، أو ما يكون عوضاً عنه كغلة الدار ونحوه؛ ولهذا لا تجوز المهايأة في
الغنم على الأولاد والألبان والأصواف؛ لأنه يتأتى فيها القسمة بعد الوجود
حقيقة.
وإذا تهايئا في استخدام عبد واحد على أن يستخدم العبد هذا شهراً ويستخدمه
هذا شهراً فالتهايئ جائز، وكذلك إذا تهابئا في استخدام العبدين تهايئا على
أن يستخدم هذا هذا العبد شهراً، ويستخدم هذا هذا العبد الآخر شهراً فهو
جائز، أما في العبد الواحد؛ فلأن هذه قسمة يوجبها الحكم، ألا ترى لو طلب
أحدهما المهايأة على هذا الوجه، وأبى الآخر يجبر الآبي عليها، ويجوز
بتراضيهما ما لا يوجبها الحكم، فلأن يجوز ما يوجبه الحكم أولى؛ ولأن
التفاوت من النصيبين إنما يتمكن من وجه واحد من حيث إن نصيب أحدهما بعد
ونصيب الآخر بسنة أنها لم يتمكن التفاوت في مقدار الخدمة؛ لأن البادئ منهما
إنما يستخدم العبد في نوبته بحكم الملك فلا مانع (11ب4) .
في الاستخدام على
(7/382)
نصفه لأنه لا يضر بالعبد المشترك، فالخدمة
في الشهر الأول لا يضعفه عن الخدمة في الشهر الثاني، وإذا كان التفاوت من
وجه واحد كان يسيراً فلا يمنع اعتبار معنى الإقرار، فكان إقراراً من وجه
مبادلة من وجه، فلا يحرم النساء بسبب الجنس.
وهذا بخلاف ما لو وقع التهايؤ في العبد الواحد على الاستغلال تهايئاً على
أن يؤاجره هذا شهراً ويأكل غلته حيث لا يجوز بلا خلاف؛ لأن التفاوت بين
النصيبين مثال يكن من وجهين من حيث النقد والنسيئة، ومن حيث مقدار الغلة؛
لأن البادئ من المستأجرين يستخدم العبد بحكم الإجارة، فبالغ في الاستخدام
فيضعف فلا يستأجر المستأجر الثاني، وقد ضعف بمثل ما استأجره الأول وإذا وقع
التفاوت من وجهين كان فاحشاً، ومتى فحش التفاوت لا تعتبر القسمة إقراراً بل
تعتبر مبادلة من كل وجه كما في قسمة العين في الجنس المختلف إذا فحش، وإذا
اعتبر مبادلة من كل وجه كان هذا مبادلة منفعة بمنفعة من جنسها واحدهما
نسيئة فيكون رباً فلا يجوز، وإن تراضيا عليه.
وأما في العينين فإنما جاز التهايؤ على الاستخدام؛ لأن قسمة العين على هذا
الوجه بتراضيهما جائزة عند الكل، وإن كانت لا تجوز من غير تراض عند أبي
حنيفة، فكذا قسمة المنفعة على هذا الوجه؛ ولأن العينيين إذا استويا في
النظر والمنظر لا يتفاوتان في الخدمة إلا يسيراً فلا يمنع ذلك اعتبار معنى
الإقرار، فتكون المهايأة في خدمتهما إقراراً من وجه، فلا يحرم النساء بسبب
الجنس لما بينا أن حرمة النساء بسبب الجنس تختص بالمبادلات من كل وجه، ولو
تهايئا في العينين على الاستغلال تهايئا على أن يؤاجر هذا هذا العبد شهراً
فيأكل غلته، ويؤاجر هذا هذا العبد الآخر شهر فيأكل غلته لم يجز في قول أبي
حنيفة رحمه الله، وجاز في قول أبي يوسف ومحمد، هما يقولان: العبدان إذا
استويا في النظر والمنظر والحرفة لا يتفاوتان في الغلة إلا يسيراً، فلا
يمنع ذلك وقوع الإقرار، والتقريب ما ذكرنا في فصل الاستخدام.
ولأبي حنيفة: أن التفاوت في العينين في الاستغلال تفاوت فاحش فإنا نرى
عبدين يستويان في النظر والمنظر، ويستأجر أحدهما بأكثر مما يستأجر به الآخر
لزيادة حذاقة في أحدهما، فتعتبر المهايأة فيها مبادلة من كل وجه، فيحرم
النساء بسبب الجنس وإن تراضيا عليه.
بخلاف ما لو تراضيا على قسمة العين على هذا الوجه حيث يجوز التهايؤ على
استغلالهما مع فحش التفاوت عند أبي حنيفة؛ لأن التفاوت ثمة باعتبار معنى
الدارية، فأما باعتبار الأرض فالتفاوت يسير بين الأرض والأرض، ولهذا كان
قسمة الأراضين إقراراً من وجه مبادلة من وجه، فيمكن اعتبار معنى الإقرار في
هذه المهايأة باعتبار معنى الأرض، ومهما أمكن اعتبار معنى الإقرار لا تثبت
حرمة النساء بسبب الجنس، فأما ليس في العبد سنان يكون التفاوت باعتبار
أحدهما فاحشاً وباعتبار الآخر يسيراً إنما هو شيء واحد خلق في الأصل على
التفاوت تفاوتاً فاحشاً، فتعتبر المهايأة فيه مبادلة من كل وجه.g
في «المنتقى» : جاريتان بين رجلين لهما ابن تهايئا على أن ترضع هذه ابن هذا
(7/383)
سنتين وترضع هذه ابن هذا سنتين كان جائزاً،
قال: ولا يشبه هذا لبن البقر والإبل والغنم علل فقال: لأن ألبان بني آدم لا
قيمة لها، وألبان هذه الأشياء لها قيمة.
وإذا تهايئا في الدابتين ركوباً واستغلالاً على أن يركب هذا هذه الدابة
شهراً، وهذا هذه الدابة الأخرى، وتهايئا على أن يؤاجر هذا هذه الدابة
شهراً، وهذا هذه الدابة الأخرى شهراً، فهذا جائز في قول أبي يوسف ومحمد،
وقال أبو حنيفة: لا يجوز، والكلام في التهايؤ في استغلال الدابتين نظير
الكلام في التهاني في استغلال العبدين، وقد مرّ هذا في الكلام في التهايىء
في الركوب، فوجه قول أبو حنيفة أن التفاوت في الركوب تفاوت فاحش.
ولهذا لو استأجر دابة للركوب، ولم يبين الراكب لا يجوز، فتعتبر المهايأة
مبادلة من كل وجه فيتمكن الربا؛ لأنه مقابلة منفعة بمنفعة من جنسها، ولهما
أن التفاوت من وجه واحد وهو الراكب لا من حيث النقد والنسيئة، فكان يسيراً
فتعتبر المهايأة إقراراً من وجه، فلا يتمكن الربا، وأما في الدابة الواحدة
لا يجوز التهايؤ استغلالاً بلا خلاف، وهل يجوز التهايؤ ركوباً للشك أن على
قول أبي حنيفة لا يجوز، وأما على قولهما ذكر شيخ الإسلام: أنه لا يجوز لأن
التفاوت يمكن من وجهين، فتعتبر المهايأة مبادلة من كل وجه.
وذكر شمس الأئمة السرخسي أنه يجوز، وإذا تهايئا في مملوكين استخداماً فمات
أحدهما، أو أبق انتقضت المهايأة؛ لأن كل واحد منهما إنما رضي بسلامة الخدمة
للآخر بشرط أن يسلم له خدمة الذي في يديه، ولم يسلم، ولو استخدمه الشهر كله
إلا ثلاثة أيام نقص الآخر من شهره ثلاثة أيام؛ لأنا لو زدناها زدناها بحكم
الإتلاف لا بحكم العقد؛ لأن المهايأة لم تتناول ما زاد على الشهر، والمنافع
لا تضمن بالإتلاف من غير عقد، فأما إذا نقضت ثلاثة أيام فلو نقضناها،
نقضناها بحكم العقد؛ لأنه فات بعض المعقود عليه قبل القبض في مدة العقد فلا
سلم الآخر ما بإزائه من البدل بحكم العقد، ولو أبق أحدهما الشهر كله،
واستخدم الآخر الآخر الشهر كله فلا ضمان ولا أجر، وكان يجب أن يضمن أجر
المثل؛ لأن المهايأة مبادلة من وجه والمبادلة من كل وجه لا تنفسخ بهلاك أحد
العوضين قبل القبض بل تفسد.
ولهذا قالوا: من استأجر داراً بعبد وقبض الدار ولم يسلم العبد حتى هلك
العبد ثم سكن الدار كان عليه أجر المثل؛ لأن بهلاك العبد فسد العقد، ولم
ينفسخ، فصار مستوفياً سكنى الدار بحكم عقد فاسد.
والجواب: المهايأة مبادلة من وجه إقرار من وجه، فباعتبار المبادلة أن يتقوم
المنافع، وباعتبار الإقرار لا يتقوم، فلا يتقوم بالشك، ولو عطب أحد
الخادمين في خدمة من شرط له هذا الخادم فلا ضمان عليه؛ لأنه عطب من عمل
مأذون فيه.
وكذلك المنزل لو انهدم من سكنى من شرط له فلا ضمان لما قلنا، وكذلك لو
احترق المنزل من نار أوقدها فيه فلا ضمان؛ لأن هذا من جملة السكنى، ألا ترى
أن
(7/384)
المستأجر والمستعير يملكان ذلك والسكنى
مأذون فيه.
وكذلك لو توضأ فيها فزلق رجل بوضوئه، أو وضع فيه شيء فعثر به إنسان فلا
ضمان، ولو بنى فيها بناء أو احتفر بئراً فيها ضمن بقدر ما كان يملك صاحبه،
حتى أنه إن كان ملك صاحبه الثلث ضمن الثلث.
وعندهما يضمن النصف على كل حال فقد جعله جانياً بالحفر، والثاني نصيب صاحبه
وإن كان مأذوناً بالسكنى فيه، ومن أصحابنا من قال: هذا الجواب غلط في
البناء، لأن البناء ليس إلا وضع الآجر والطين واللبن على بعض، ولو وضع جميع
ذلك في الدار لا على وجه البناء لم يضمن كذا ها هنا.
قال شمس الأئمة الحلواني: فإن كان ما قال هؤلاء حقاً يجب أن يكون الجواب في
المستأجر هكذا إذا بنى فيها بناء فعطب بها إنسان لا يضمن كما لو وضع فيه
شيء.
قال رحمه الله: والرواية هاهنا بخلاف قولهم، والرواية هاهنا تكون رواية في
فصل الإجارة إنه يكون مضموناً عليه.
أمة بين رجلين فخاف كل واحد منهما صاحبه عليها، فقال أحدهما: تكون عندك
يوماً وعندي يوماً، وقال الآخر: بل نضعها على يدي عدل، فإني أجعلها عند كل
واحد منهما يوماً ولا أضعها على يدي عدل.
قال مشايخنا رحمهم الله: ويحتاط في باب الروح في جميع المواضع نحو العتق في
الجواري والطلاق في النساء في فصول الشهادة وغير ذلك، إلا في هذا الموضع
فإنه لا يحتاط لحسن ملكه وهو نظير ما لو أخبر القاضي أن فلاناً يأتي جواريه
في غير المأتي، أو يستعملهن في البغاء ويطأ زوجته في حالة الحيض وأمته من
غير استبراء لا يكون (12أ4) للقاضي عليه سبيل لحسن ملكه هكذا، فإن تشاحا في
البداية فالقاضي يبدأ بأيهما شاء وإن شاء أقرع، قال شمس الأئمة السرخسي:
والأولى أن يقرع بينهما تطييباً لقلوبهما، وإليه مال شمس الأئمة الحلواني
رحمه الله.
عبد وأمة بين رجلين فتهايئا فيهما على أن تخدم الأمة أحد هما ويخدم العبد
الآخر على أن كل واحد منهما طعام الخادم الذي شرط له في المهايأة، فاعلم
بأن ها هنا ثلاث مسائل في كل مسألة قياس واستحسان.
أحدهما: إنهما إذا سكتا عن ذكر الطعام، في القياس يجب طعام العبد والأمة
عليهما نصفان، وفي الاستحسان يجب على كل واحد طعام الخادم الذي شرط له في
المهايأة، وفي الكسوة إن سكتا عن ذكرها يجب كسوة العبد والأمة عليهما
نصفان، قياسا واستحساناً.
والثانية: إذا شرطا في المهايأة أن يكون على كل واحد منهما طعام الخادم
الذي شرط له في المهايأة ولم يقدر الطعام، القياس أن لا يجوز، وفي
الاستحسان يجوز، وفي الكسوة إذا لم يبينا المقدار لم يجز قياساً
واستحساناً.
والثالثة: إذا بينا مقدار الطعام فالقياس أن لا يجوز، وفي الاستحسان يجوز،
(7/385)
وكذلك في الكسوة إذا شرطا شيئاً معلوماً لا
يجوز قياساً ويجوز استحساناً.
والمهايأة في رعي الدواب جائزة عندنا، وكذلك لو تهايئا على أن يستأجرا لهما
أجيراً جاز، والمهايأة في دار وأرض على أن يسكن هذا الدار ويزرع هذا الأرض
جائزة.
وكذلك المهايأة في دار وحمام والمهايأة في دار ومملوك على أن يسكن هذه
الدار سنة ويخدم هذا المملوك سنة جائزة، وعلى الغلة باطلة عند أبي حنيفة
خلافاً لهما.
الفصل الثالث عشر: في المتفرقات
يجوز للقاضي أن يأخذ على القسمة أجراً ولكن المستحب له أن لا يأخذ، وهذا
لأن القسمة ليست بقضاء على الحقيقة حتى لا يفترض على القاضي مباشرتها،
وإنما الذي يفترض عليه جبر الآبي على القسمة إلا أن لها شبهاً بالقضاء من
حيث إنها تستفاد بولاية القضاء حتى ملك جبر الآبي ولم يملك الأجنبي ذلك،
فمن حيث إنها ليست بقضاء جاز أخذ الأجر عليها، ومن حيث إنها تشبه القضاء
يتسحب أن لا يأخذ الأجر عليها.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: أجر قاسم الدور والأرضين على عدد الرقمين،
وقالا: على قدر الأنصباء.
وصورته: دار بين ثلاثة نفر، لأحدهم نصفها وللأخر ثلثها وللآخر سدسها.
وجه قول أبي حنيفة: أن عمل القيام واقع لهم بالسوية، لأن عمل القيام تعيين
نصيب كل واحد منهم ولا يمكنه ذلك إلا بمساحة الكل، فهو معنى قولنا: عمل
القيام واقع لهم بالسوية، فيكون الأجر عليهم بالسوية، وهما يقولان: عمل
القيام في نصيب صاحب الكثير أكثر لأن عمله المساحة والذرع، وأنه يكثر بكثرة
المحل.
قالوا: وهذا إذا طلبوا من القاضي القسمة بينهم فقسم بينهم قاسم القاضي،
فأما إذا استأجروا رجلاً بأنفسهم فإن الأجرة عليهم بالسوية وهل يرجع صاحب
القليل على صاحب الكثير بالزيادة، قال أبو حنيفة: لا يرجع، وقالا: يرجع،
وكذلك إذا وكلوا رجلاً ليستأجر رجلاً يقسم بينهم فاستأجر الوكيل فإن الأجرة
على الوكيل، واختلفوا في الرجوع قال أبو حنيفة يرجع عليهم بالأجرة على
السواء، وقالا: يرجع على كل واحد منهما بقدر الملك، وإذا استأجروا ليبني
حائطاً مشتركاً أو يطبق سطحاً مشتركاً أو يكري نهراً أو يصلح قناة فالأجر
بينهما على قدر الأنصباء بالإجماع.
وإذا استأجروا رجلاً لكيل طعام مشترك، أو لذرع ثوب مشترك إن كان الاستئجار
للقسمة فهو على الخلاف الذي بينا، وإن كان الاستئجار على نفس الكيل والذرع
ليصير الكل معلوم القدر فالأجر على قدر الانصباء.
وفي «المنتقى» : إبراهيم عن محمد في أكرار حنط بين رجلين، فأجر الكيال على
الانصباء وأجر الحساب على الرؤوس، قال: ما كان من عمل فهو على الأنصباء،
وما
(7/386)
كان من حساب فهو على الرؤوس في قياس قول
أبي حنيفة رحمه الله وفي قولهما على الأنصباء، وإذا طلب أحد الشريكين
القسمة وأبى الآخر فأمر القاضي قاسمه ليقسم بينهما، روى الحسن عن أبي حنيفة
أن الأجرة على الطالب لأن القسمة واقعة للطالب، وعلى الآبي لأن الطالب إنما
يطلب القسمة عادة لمنفعة له فيها، والممتنع إنما يمتنع عنها عادة لضرر
يخافه، وقال أبو يوسف: الأجر عليهما.
في «المنتقى» : إبراهيم عن محمد رحمه الله: قاسم قسم داراً بين اثنين،
وأعطى أحدهما أكثر من الآخر غلطاً، وبنى بعضهم في نصيبه قال: يستقبلون
القسمة فمن وقع بناءه في قسم غيره رفع بناءه ولا يرجعون على القاسم بقيمة
البناء، ولكن يرجعون عليه بالأجر الذي أخذ.
وفيه أيضاً هشام عن محمد: أرض بين رجلين بناها أحدهما فقال الآخر للباني:
ارفع بناءك عنها، قال: يقسم الأرض بينهما فما وقع من البناء في نصيب غيره
يرفع.
وذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب القسمة في أجرة أحد الشريكين إذا بنى في أرض
مشتركة بغير إذن شريكه فلشريكه أن ينقص بناءه لأن له ولاية النقض في نصيبه
والتمييز غير ممكن.
وفيه أيضاً: عبدان بين رجلين غاب أحد الرجلين فجاء أجنبي إلى الشريك
الحاضر، وقال: قاسمني هذين العبدين على فلان الغائب فإنه سيجيز قسمتي
فقاسمه الحاضر وأخذ الحاضر عبداً وأخذ الأجنبي عبداً، ثم قدم الغائب وأجاز
القسمة ثم مات العبد في يد الأجنبي فالقسمة جائزة، وقبض الأجنبي له جائز
ولا ضمان عليه فيه، وإن مات قبل الإجازة بطلت القسمة وللغائب نصف العبد
الباقي، فهو بالخيار في تضمين حقه من العبد الميت، إن شاء ضمن الذي مات في
يده وإن شاء ضمن شريكه، وإنما ضمن لا يرجع على الآخر بما ضمن.
قال في «نوادر ابن رستم» في المتقاسمين: إذا ميز نصيب أحدهما بالقسمة وفيه
شجر أغصانها مطلة على قسم الآخر فله أن يطالبه بقطع الأغصان، رواه عن محمد،
وروى ابن سماعة عنه أنه ليس له ذلك لأن الذي أصابه الشجر استحق الشجرة
بجميع أغصانها.
قال في «الأصل» : وإذا أصاب الرجل في القسمة ساحة لا بناء فيها وأصاب الآخر
البناء فأراد صاحب الساحة أن يبني ساحته ويرفع بناءه فقال صاحب البناء: إنك
تسد علي الريح والشمس فلا أدعك ترفع بناءك فلصاحب الساحة أن يرفع بناءه ما
بدا له، وليس لصاحب البناء أن يمنعه من ذلك، وقال نصر بن يحيى وأبو القاسم
الصفار: لصاحب البناء أن يمنعه من ذلك، والوجه بظاهر الرواية أن صاحب
البناء كان ينتفع بهواء ملك صاحب الساحة قبل البناء فصاحب الحائط إذا سد
الهواء بالبناء فإنما حقه من الانتفاع يملكه ولم يتلف عليه ملكاً ولا منفعة
ملك، ولا يمنع من ذلك.
فصار كما لو كان لرجل شجرة يستظل بها جاره أراد قلعها لا يمنع منه، وإن كان
(7/387)
فيه ضرر للجار؛ لأن صاحب الشجرة بالقلع
يمنعه عن الانتفاع بملك نفسه، وتصير هذه المسألة رواية في فصل لا رواية لها
في الكتب.
وصورتها: دوخانة است حريكي يك سنية يكي راروزن نيست طاخمها است به روى بام
خانه ويكن خدا وندد يكرسهدا مدتا خان حوشي رادو سنية كندا بن خدا وند
طافحها بازمي داروش سيكريد طافحها من ستة ميشود هل له أن يمنعه؟ ينبغي أن
لا يكون له المنع على قياس هذه المسألة، لأن صاحب البيت الآخر يجعل بيته ذي
سقفين يمنع صاحب الطافحات عن الانتفاع بهواء ملك نفسه كما في هذه المسألة.
وقد ذكر الصدر الشهيد في «فتاويه الصغرى» : إن كان البنيان في القديم لسقف
واحد، فلصاحب الطافحات أن يمنعه من ذلك، وإن كانا في القديم بسقفين فليس له
أن يمنعه.
قال رحمه الله: وحد القديم أن لا يحفظ أقرانه وراء هذا الوقت كيف كان، فجعل
أقصى الوقت الذي يحفظه الناس حد القديم، ويبنى عليه الأمر فعلى ما ذكره
الصدر الشهيد يحتاج إلى الفرق بين المسألتين.
والفرق: أن في مسألة البيتين الذي يريد البناء يمنع صاحبه عن الضوء والضوء
من الحوائج الأصلية، وفي مسألتنا يمنعه عن الشمس والريح وذلك من الحوائج
الزائدة، وكذلك لصاحب الساحة أن (12ب4) يتخذ فيها حماماً أو تنوراً أو
بالوعة أو بئر ماء، لأنه يتصرف في خالص ملكه وينتفع به انتفاع مثله، وإن
نزّمن بئره حائط جاره لا يجبر على تحويله ولا يضمن ما سقط من حائط جاره،
وكذلك لو أراد أن يجعل فيها رحاً أو حداداً أو قصاراً فليس لصاحبه منعه.
وحكي عن بعض مشايخنا: أن الدار إذا كانت مجاورة لدور، فأراد صاحب الدار أن
يبني فيها تنوراً للخبز الدائم، أو رحاً للطحن، أو مدقاة للقصارين لم يجز
لأنه يضر بجيرانه ضرراً فاحشاً، وإن أراد أن يعمل في داره تنوراً صغيراً
على ما جرت به العادة جاز.
وكان أبو عبيد الضميري إذا استفتي عمن أراد أن يبني في ملكة تنوراً للخبز
في وسط البزازين تارة كان يفتي بأن له ذلك وتارة كان يفتي بأنه ليس له ذلك،
والحاصل في هذه المسائل في أجناسها أن القياس أن من تصرف في خالص ملكه لا
يمنع منه في، وإن كان يؤدي إلى إلحاق الضرر بالغير، لكن ترك القياس في موضع
يتعدى ضرر يعود إلى غيره ضرراً بيناً.
وقيل: بالمنع، وبه أخذ كثير من مشايخنا رحمهم الله وعليه الفتوى.
إذا كانت الدار في سكة غير نافذة مات صاحب الدار وتركها ميراثاً بين ورثه
فاقتسم ورثته فيما بينهم على أن يفتح كل واحد منهم في نصيبه باباً إلى
السكة كان لهم ذلك، وإن أبى أهل السكة ذلك لأن الورثة قائمون مقام الميت،
والميت لو كان حياً كان له أن يفتح باباً آخر إلى السكة وأن يكبر جميع
الحائط الذي يلي السكة، لأنه يكبر جدار هو خالص
(7/388)
ملكه ويمر في طريق هو طريق هذه الدار فكذا
ورثته، وإذا كانت مقصورة بين ورثته بابها في دار مشتركة ليس لأهل المقصورة
فيها إلا طريقهم فاقتسموا المقصورة على أن يفتح كل واحد منهم باباً في
نصيبه في هذه الدار، فإنه ينظر إن كان الطريق المرفوع للمقصورة ملازقاً
لحائط المقصورة طولاً حتى يجعل فتح كل واحد منهم باباً في نصيبه إلى طريق
المقصورة في الدار كان لهم ذلك.
وإن لم يكن طريق المقصورة ملازقاً لحائط المقصورة طولاً بل كان بحذاء باب
المقصورة طولاً إلى الباب العظمى من الدار لا يكون لهم ذلك؛ لأنهم بفتح
الباب إلى الطريق لا يأخذون أكبر من حقهم من الدار التي فيها طريق
المقصورة، أما بفتح الباب إلى ناحية أخرى من الدار سوى طريق المقصورة
يأخذون أكثر من حقهم.
يوضحه: أن لهم طريقاً واحداً في موضع معلوم من عرصة الدار، وهم يريدون أن
يجعلوا جميع العرصة ممراً فيمنعون من ذلك.
بعض مشايخنا رحمهم الله قالوا: معنى قوله في «الكتاب» في هذه الصورة أنهم
يمنعون من ذلك أنهم يمنعون من التطرق في غير الموضع المعروف طريقاً لهم في
صحن الدار ما لا يمنعون عن نفس فتح الباب، لأنهم يتصرفون في خلاص ملكهم.
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة؟: بل يمنعون عن فتح الباب؛ لأنهم لو
فتحوا فإذا تقادم العهد لا بما يدعون أن لهم طرقاً في صحن الدار ويبدلونها
على ذلك بالباب المركب، فلهذا يمنعون عن فتح الباب، فإن كان لصاحب المقصورة
دار أخرى إلى جنب هذه المقصورة بابها إلى سكة أخرى فصارت المقصورة والدار
ميراثاً بين ورثة فوقعت المقصورة في قسم أحدهم والدار في قسم آخر، وحائط
الدار لزيق طريق المقصورة فأراد صاحب الدار أن يفتح طريقاً إلى طريق
المقصورة حتى يمر ويتطرق فيه إلى الدار منع منه.
فإما إذا كان المالك للمقصورة والدار واحداً بأن كان الذي أصابه المقصورة
اشترى الدار، أو كان الوارث للمقصورة والدار واحد، فأراد أن يفتح باباً
لهذه الدار إلى طريق المقصورة ليس له ذلك نص عليه في كتاب الشرب، وهذا لأن
متى فتح باباً إلى طريق المقصورة صار طريق المقصورة صار طريق المقصورة
طريقاً للدار، وفي ذلك ضرر في الثاني على الشركاء في طريق المقصورة فإنه
إذا بيع هذه الدار بحقوقها يدخل هذا الطريق في بيع الدار فيزداد شريك آخر
في هذا الطريق بعد ما لم يكن، وفيه ضرر على أصحاب الطريق.
فأما إذا كان المالك للمقصورة والدار واحداً، وأراد أن يفتح باباً من الدار
إلى هذه المقصورة حتى يتطرق في الدار من طريق المقصورة، فإنه لا يمنع من
ذلك إذا كان هو الساكن في الدار غير الساكن في المقصورة بأن أجر الدار من
غيره وترك المقصورة لنفسه، فأراد أن يفتح للدار باباً في المقصورة حتى يمرّ
المستأجر في طريق المقصورة إلى المقصورة ثم يمر إلى الدار يمنع عنه، لأنه
يريد أن يزيد في طريق المقصورة شريكاً في
(7/389)
الحال.
وإن كان أجر الدار والمقصورة جميعاً من رجل، ثم أراد أن يفتح للدار باباً
في المقصورة لا يمنع؛ لأن الساكن في هذه الصورة واحد وهو المستأجر لأنه لا
يبقى للآخر حق المرور فلا يزداد الشريك في طريق المقصورة.
دار بين رجلين اقتسماها بينهما وفيها طريق لغيرهما، فأراد صاحب الطريق أن
يمنعهما عن القسمة ليس له ذلك لأن الطريق إن كان محدوداً فهما إنما يقسمان
ما وراء ذلك، وذلك حقهما على الخصوص، وإن لم يكن مقداره معلوماً يترك
للطريق قدر عرض باب العظمى إلى باب منزل صاحب الطريق، ويقسمان ما وراء ذلك
ولاحقّ لصاحب الطريق فيما وراء ذلك.
ولو أراد بعضهم قسمة هذا الطريق وأبى البعض لا يقسم، لأن هذه القسمة تتضمن
تفويت منفعة الطريق، وهو التطرق وإن باعوا هذه الدار وهذا الطريق برضاهم
فالثمن يقسم بينهم أثلاثاً، ثلثاه لصاحبي الطريق وثلثه لصاحب الممر يريد به
حصة الطريق من الثمن؛ لأن الثمن بدل الطريق، والطريق بينهم أثلاثاً إذا لم
يعلم مقدار الأنصباء فيه فيكون ثمنه بينهم أثلاثاً أيضاً هكذا ذكر في
«الأصل» .
وهذا الجواب ظاهر فيما إذا كان رقبة الطريق مشتركة بينهم، فأما إذا كان
رقبة الطريق مشتركاً بين الشريكين، ولصاحب الطريق حق المرور لا غير، كان
أبو الحسن الكرخي رحمه الله يقول: الثمن لهما وقد سقط حق صاحب الاختيار،
لأنه حق لا يجوز الاعتياض عنه ولهذا لا يجوز بيعه، فلما أذن في البيع أسقط
حقه، وهذا إشارة إلى الرواية التي لا يجوز فيها بيع حق المرور على
الانفراد.
وذكر شيخ الإسلام رحمه الله في شرح هذا الكتاب: أن الثمن بينهما أثلاثاً
وإن كان لصاحب الطريق حق المرور، قال: لأن حق المرور وإن كان منفعة حقيقة
فقد أعطي له حكم العين ولذلك جاز بيعه، ولو كان عيناً على الحقيقة كان
الثمن بينهما أثلاثاً كذا هاهنا، وهذا إشارة إلى الرواية التي يجوز بيع حق
المرور فيها بانفراده.
وروي عن محمد في هذه الصورة: أن كل واحد من شريكي الطريق بحصته والبقعة
وصاحب الطريق مضرب بحق الاستطراق.
وطريق معرفة ذلك: أن ينظر إلى قيمة البقعة والطريق فيها وينظر إلى قيمتها
وفيها طريق فيضرب صاحب الطريق بفضل القيمة فيما بين ذلك، ويضرب واحد من
شريكي الطريق بنصف قيمة البقعة إذا كان فيها طريق. وإذا كانت الدار فيها
طريق لرجل وطريق لآخر من ناحية أخرى، أراد أهل الدار قسمتها ومنعهم أهل
الطريق، فإنه يترك لهما طريق واحد كما لو كان الحق لواحد، لأن الطريق إنما
يرفع للمرور، والطريق الواحد يكفي لهما للمرور وصار هذا وما لو كان حق
المرور للواحد سواء. والله تعالى أعلم بالصواب.
(7/390)
|