المحيط البرهاني في الفقه النعماني

كتاب الإجارات
هذا الكتاب يشتمل على أربعة وثلاثين فصلاً:
1 * في بيان الألفاظ التي تنعقد بها الإجارة، وفي بيان نوعها وشرائطها وحكمها وما يصلح أجرة وما لا يصلح.
2 * في بيان أنه متى تجب الأجرة.
3 * في الأوقات التي يقع عليها عقد الإجارة.
4 * في تصرف المؤجر في الأجرة.
5 * في الخيار في الإجارة والشرط فيها.
d
6 * في الإجارة على أحد الشرطين أو على الشرطين أو أكثر.
7 * في إجارة المستأجر.
8 * في انعقاد (13أ4) الإجارة بغير لفظ وفي الحكم ببقاء الإجارة أو انعقادها مع وجود ماينافيها.
9 * فيما يكون الأجير مسلماً مع الفراغ منه، وما لا يكون.
10 * في إجارة الظئر.
11 * في الاستئجار للخدمة ويتصل به إجارة الصبي والاستئجار له.
12 * في صفة تسليم الإجارة.
13 * في المسائل التي تتعلق برد المستأجر على المالك.
14 * في تجديد الإجارة بعد صحتها والزيادة فيها.
15 * في بيان ما يجوز من الإجارة وما لا يجوز وإنه يشتمل على أنواع نوع يفسد العقد فيه لمكان الجهالة، ونوع يفسد العقد فيه لمكان الشرط، ونوع في قفيز الطحان وما هو في معناه، ونوع في فساد الإجارة إذا كان المستأجر مشغولاً بغيره، ويتصل به مسائل الشيوع في الإجارة، ونوع في الاستئجار على الطاعات، ونوع في الاستئجار على المعاصي، ونوع في المتفرقات.

(7/391)


16 * فيما يجب على المستأجر، وفيما يجب على الأجير، ويتصل به فصل التوابع.
17 * في الرجل يستأجر فيما هو شريك فيه.
18 * في فسخ الإجارة بالعذر وبيان ما يصلح عذراً وما يصلح.
19 * فيما يكون فسخاً وفي الأحكام المتعلقة بالفسخ وما لا يكون فسخاً.
20 * في إجارة النبات والأمتعة، والحلي والفسطاط وأشباهها.
21 * في إجارة لا يوجد فيها تسليم المعقود عليه إلى المستأجر.
22 * في بيان التصرفات التي يمنع المستأجر عنها والتي لا يمنع وفي تصرفات الآجر.
23 * في استئجار الحمام والرحى.
24 * في الكفالة بالأجر وبالمعقود عليه.
25 * في الاختلافات الواقع بين الآجر والمستأجر وفي الدعاوى في الخصومات وإقامة البينات وإنه يشتمل على أنواع: نوع منه في الاختلاف الواقع بين الشاهدين في الأجر، وفي اختلاف الواقع بين الآجر والمستأجر في المبدل أو في البدل.
26 * في استئجار الدواب.
27 * في مسائل الضمان بالخلاف والاستعمال والصياع والتلف وغير ذلك.

28 * في بيان حكم الأجير الخاص والمشترك، وإنه أنواع: نوع في الحد الفاصل بين الأجير المشترك والخاص، نوع في الحمال ومكاري الدابة والسفينة، نوع في النساج والخياط، نوع في المسائل العائدة إلى الحمام، نوع في البقار والراعي والحارس، نوع في القصار وتلميذه، نوع في المتفرقات.
29 * في التوكيل في الإجارة.
30 * في الإجارة الطويلة المرسومة ببخارى.
31 * في النصيف.
32 * يقرب من المسائل التي هي بمعنى قفيز الطحان.
33 * في الاستصناع.
34 * في المتفرقات.

(7/392)


الفصل الأول: في بيان الألفاظ التي تنعقد بها الإجارةوفي بيان نوعها وشرائطها وحكمها
فأما بيان لفظها فنقول الإجارة إنما تنعقد بلفظين يعبر بهما عن الماضي نحو أن يقول أحدهما أجرت، ويقول الآخر: قبلت استأجرت، ولا تنعقد بلفظين أحدهما يعبر به عن المستقبل نحو: أجرتني، فيقول: أجرت، وهذا لأن الإجارة بيع المنفعة فتعتبر العين وفي بيع العين إنما ينعقد العقد بلفظين يعبر بهما عن الماضي، ولا تنعقد بلفظين يعبر بأحدهما عن المستقبل كذا هاهنا، وتنعقد بلفظ العارية أيضاً حتى أن من قال لغيره: أعرتك هذه الدار شهراً بكذا، أو قال: كل شهر بكذا، وقبل المخاطب كان ذلك إجارة صحيحة.
ذكر شيخ الإسلام في كتاب الهبة في باب العطية: فأما العارية لا تنعقد بلفظ الإجارة حتى أن من قال لغيره: أجرتك داري هذه بغير شيء كان إجارة فاسدة لا عارية.
وفي باب العوض في الهبة من شرح الصدر الشهيد رحمه الله: إذا وهب منفعة الدار من آجر شهراً بعشرة دراهم أو أعاره عيناً شهراً بعشرة دراهم حكى أبو طاهر الدباس رحمه الله عن أبي حنيفة رضى الله عنه أنه لا يلزم قبل استيفاء المنفعة، وبعد استيفاء المنفعة يعتبر إجارة.
وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب الصلح: أن الإجارة تنعقد بلفظ الهبة والصلح، وذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب الهبة أيضاً، والإجارة بلفظ الهبة
وفي العطية من هبة «الأصل» إذا قال: داري هذه لك هبة إجارة كل شهر بدرهم، أو قال: إجارة هبة فهي إجارة في الوجهين، ولم يذكر في الكتاب أن هذه الإجارة هل تكون لازمة، وذكر الجصاص رحمه الله أنها لا تكون لازمة حتى كان لكل واحد منهما أن يرجع قبل القبض، ويكون لكل واحد منهما أن يفسخ قبل القبض، وإذا سكنها يجب عليه أجر المثل وإذا قال لغيره بعت منك منافع هذه الدار كل شهر بكذا، أو قال: شهراً بكذا ذكر في «العيون» : أن الإجارة فاسدة.

وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب الصلح أن فيه اختلاف المشايخ، وهذا لأن القياس يأبى جواز الإجارة لأن محل حكم الإجارة المنفعة، وإنها معدومة والمعدومة لا تصلح محلاً لحكم العقد ولإضافة العقد إليه إلا أن الشرع ورد بجوازها إذا باشر العقد على العين بلفظي الإجارة، أو باشر على المنفعة بلفظ الإجارة، ولفظ الإجارة لا يختص بتمليك الأعيان ولا يلحق بلفظ الإجارة.
والبيع يختص بتمليك الأعيان فلا يلحق به

(7/393)


العارية والهبة، والتمليك يختص بملك الأعيان فيلحق بها، وعن هذا قلنا: إذا قال أجرتك منافع هذه الدار شهراً بكذا، وهبت لك منافع هذه الدار شهراً بكذا، ملكتك منافع هذه الدار شهراً يجوز فيبقى لفظ البيع على القياس، وذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب الصلح في آخر باب الصلح في العقار: إذا ادعى رجل شقصاً من دار في رجل وصالحه المدعى عليه على سكنى بيت معلوم من هذه الدار عشر سنين جاز، فلو آجره يعني هذا البيت المصالح عليه من الذي صالحه جاز عند أبي يوسف خلافا لمحمد.

وهذا بناء على أن محمداً رحمه الله يعتبر هذا العقد إجارة، وليس للمستأجر أن يؤاجر من الآجر وأبو يوسف يقول: إن المدعي مالك منفعة هذا البيت بعقد بل ترك بعض حقه وقنع بالبعض، فإنما بقيت المنفعة على أصل ملكه فيملك أن يؤاجر من كل أحد، ولو باع المدعي هذا السكنى بيعاً من رجل لم يجز.
بعض مشايخنا قالوا: إنما لم يجز بيع السكنى لترك التوقيت لا؛ لأن الإجارة لا تنعقد بلفظ البيع، وقال بعضهم: لا يجوز بيع السكنى وإن كان موقتاً، لأن الإجارة لا تنعقد بلفظ البيع. قال شيخ الإسلام: فصل بيع السكنى يشكل عندي، لأن لفظ البيع تمليك الرقبة وملك الرقبة سبب لملك المنفعة فكان ينبغي أن يجوز استعارة لفظ البيع لتمليك المنفعة به مجازاً.

قال رحمه الله: والوجه في ذلك أن المنفعة معدومة في الحال واتخاذها ليس في وسع البشر، والمعدوم لا يصلح محلاً لإضافة العقد إليه إلا أن الشرع أقام العين الموجود وهو الدار المنتفع بها مقام المنفعة في جواز إضافة الإجارة إليها.
إذا ثبت هذا فنقول: لفظ البيع إن أضيف إلى الدار فهو صالح لتمليك عينها فلا يجعل مجازاً عن غيره، وإن أضيف إلى المنفعة فالمنفعة معدومة والمعدوم لا يصلح لإضافة العقد إليه حتى لو قال لغيره: بعتك نفسي شهراً بكذا بعمل كذا فهو إجارة، لأنه لا يصلح لتمليك عين الحر فيجعل مجازاً عن تمليك المنفعة، هكذا ذكر رحمه الله وجه التخريج وإنه مشكل عندي، لأن علة عدم جواز البيع ها هنا لو كانت هي العدم ينبغي أن لا تنعقد الإجارة بلفظ الهبة والتمليك وبالإجماع تنعقد.
وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح الحل: أن الإجارة لا تنعقد بلفظ البيع، وذكر ثمة عن الكرخي أنه كان يقول: الإجارة لا تنعقد بلفظ البيع، ثم رجع وقال: تنعقد.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: إذا قال الرجل لغيره: أعطيتك هذا العبد لخدمتك منه بكذا جاز. وفيه أيضاً عن أبي يوسف رجل دفع إلى رجل ثوباً ليبيعه على أن ما زاد على كذا فهو له، قال: هذا على جهة الإجارة، وهذه إجارة فاسدة لو ضاع الثوب من يده ضمن.
وتنعقد الإجارة بالتعاطي فيما ذكر محمد في إجارات الأصل في باب إجارة النبات إذا استأجر (13ب4) قدوراً بغير أعيانها لا يجوز للتفاوت بين القدور من حيث الصغر والكبر، فإن جاء بقدور وقبلها منه على الكراء الأول جاز، ويكون هذه إجارة مبتدأة بالتعاطي.

(7/394)


وأما بيان وقوعها فنقول: إنهما نوعان نوع يرد على منافع الأعيان كاستئجار الدور والأراضي والدواب والنبات وما أشبه ذلك، ونوع يرد على العمل كاستئجار المحترفين للأعمال نحو القصارة والخياطة وما أشبه ذلك.

وأما بيان شرائطها فنقول يجب أن تكون الأجرة معلومة، والعمل إن وردت الإجارة على العمل، والمنفعة إن وردت الإجارة على المنفعة، وهذا لأن الأجرة معقود به والعمل أو المنفعة معقود عليه، وإعلام المعقود به وإعلام المعقود عليه شرط تحرزاً عن المنازعة كما في باب البيع، وإعلام المنفعة ببيان الوقت، وهو الأجل أو بيان المسافة.
وإعلام العمل ببيان محل العمل، وإعلام الأجرة إن كانت الأجرة دراهم أو دنانير ببيان القدر، وببيان الصفة أنه جيد أو رديء وتقع على نقد البلد إن كان في البلد نقد واحد، وتقع على نقد البلد الذي وقع فيه الإجارة.
حتى أن من استأجر دابة بالكوفة إلى الري بدراهم فعلى المستأجر نقد الكوفة، وإن كان في البلد نقود مختلفة، فإن كانت النقود في الرواج على السواء أولا فضل للبعض على البعض، أي: لا صرف للبعض على البعض فالعقد جائز، ويعطى المستأجر أي النقود شاء.
وإن كانت الأجرة مجهولة، لأن هذه الجهالة لا تفضي إلى المنازعة، وإن كانت النقود في الرواج على السواء وللبعض صرف على البعض فالعقد فاسد، لأن هذه الجهالة تفضي إلى المنازعة وإن كان أحدهما أروج فالعقد جائز وينصرف إلى الأروج، وإن كان الآخر فضلاً عليه بحكم العرف.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: إذا كانت الأجرة فلساً فغلى أو رخص قبل القبض فلأجر الفلس لا غير، وإن كسد فعليه قيمة المعقود عليه، وكذلك كل شيء مما يكال أو يوزن فما ينقطع إذا كان استأجر بشيء منه وجعل أجله قبل انقطاعه فهل مثل الفلس، وإن كانت الأجرة مكيلاً أو موزوناً أو عددياً متقارباً فإعلامها ببيان القدر والصفة، ويحتاج إلى بيان مكان الإيفاء إذا كان له حمل ومؤنة وإن لم يكن له حمل ومؤنة لا يحتاج إليه، وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: لا يحتاج إلى ذلك في الأحوال كلها.

والاختلاف في هذا نظير الاختلاف في السلم لأن الأجرة دين لا يجب تسليمها عقيب العقد فصار نظير المسلم إليه غير أن عندهما في باب السلم يتعين موضع العقد للتسليم، وهاهنا لا يتعين في إجارة الأرض والدار سلم عند الأرض والدار المستأجرة، وفي العمل بيده حيث تم فيه العمل.
وفي «نوادر هشام» عن أبي يوسف: رجل استأجر أرضاً بطعام إلى أجل ولم يسم أين يقبض الطعام، قال: هو جائز في قولي وقول أبي حنيفة، وقال محمد: هذا بخلاف السلم في قول أبي حنيفة.
وإذا كانت الأجرة عروضاً أو ثياباً يشترط فيه جميع شرائط السلم لأن الأجرة نظير

(7/395)


المسلم فيه على ما مر، فيشترط فيه جميع شرائط السلم.

يوضحه: أن وجوب الثياب ديناً في الذمة عرف بالشرع بخلاف القياس، وإنما جاء الشرع به بطريق السلم فيشترط فيه جميع شرائط السلم، وفي هذا كله إذا كانت الأجرة عيناً فإعلامه بالإشارة، لأن الإشارة أبلغ أسباب التعريف.
وإذا كانت الأجرة حيواناً لا يجوز إلا إذا كان عيناً، لأن الحيوان لا يجب ديناً في الذمة بدلاً عما هو مال، وإذا كانت الأجرة منفعة إن كانت من جنس المعقود عليه لا يجوز عندنا خلافاً للشافعي، وإن كان من خلاف جنس المعقود عليه جاز بلا خلاف.
بيان الأول: إذا استأجر سكنى دار بركوب دابة، والمسألة بيننا وبين الشافعي فرع مسألة أخرى عرفت في كتاب البيوع أن الجنس في المثمنين يحرم النساء عندنا خلافاً للشافعي، حتى لو أسلم فرهياً في مرمي لا يجوز عندنا خلافاً للشافعي، وبيع المنفعة بمنفعة من جنسها بمنزلة بيع العين بجنسه نساء، لأن النساء من البدل ما لا يكون عيناً والمنفعة ليست بمعين، لأنها معدومة فكان نساء، والجنسية في المثمنين تحرم النساء بخلاف ما إذا اختلف الجنس لأن النساء في الجنس المختلف ليس بحرام كما في بيع العين، حتى إنه لو أسلم فرهياً في مروي جاز، فهاهنا كذلك.

فإن قيل: إذا اختلف الجنس إن كان لا يفسد من العقد من هذا العقد يفسد من وجه آخر، لأن المنفعة دين من الجانبين والدينية من الجانبين توجب الفساد، وإن اختلف البدل.
قلنا: كلا البدلين من حيث الحقيقة إن لم يكن عيناً، لأنها معدومة إلا أن التي لم يصحبها حرف الباء تعتبر عيناً حكماً لأنها معقود عليه، ولا بد لانعقاد عقد المعاوضة من قيام المعقود عليه حالة العقد إذا لم يكن سلماً، وإذا كان كذلك أقيم محل المنفعة فيما لم يصحبه حرف الباء مقام المنفعة فيكون عيناً ولا ضرورة فيما صحبه حرف الباء، لأن ما صحبه حرف الباء يجوز أن يكون غير عين، ولا ضرورة بنا أن نعتبره عيناً ففي غير عين حقيقة وحكماً، والآخر اعتبر عيناً حكماً فكان بمنزلة بيع العين نساء بخلاف جنسه.
وفي «فتاوى أبي الليث» : لا حتى في معاوضة الشران بالشران للأكداس لأنها استبدال منفعة بمنفعة من جنسها، ثم إذا قوبلت المنفعة بمنفعة من جنسها حتى فسد العقد واستوفى الآخر المنفعة كان عليه أجر المثل في ظاهر الرواية، وعن أبو يوسف أنه لا شيء عليه لأن المنفعة إنما تتقوم إذا قوبلت بالمتقوم.
وجه ظاهر الرواية: أن لفظة الإجارة لفظة معاوضة، فصار كما لو استأجر داراً ولم يسم الأجر، ويسكنها هناك بحسب أجر المثل فهاهنا كذلك.

ولو كان عبد واحد بين اثنين فتهايئا فخدم أحدهما يوماً ولم يخدم الآخر فلا أجر له، وقال أبو الحسن في «جامعه» : إذا كان عبد واحد بين اثنين آجر أحدهما نصيبه من صاحبه ليخيط معه شهراً على أن يصوغ نصيبه مع هذا شهراً، فإن هذا لا يجوز في العبد الواحد، ولا يجوز في العملين المختلفين إذا كان في عبدين.

(7/396)


وأما بيان حكم الإجارة فنقول: حكم الإجارة وقوع الملك في البدلين كما في بيع العين يقع معاً كما فرعا من العقد إلا لمانع، وفي الإجارة يقع الملك في البدلين ساعة فساعة عندنا، لأن المعاوضة تقتضي التساوي لأن الظاهر من حال العاقدين أن لا يرضيان بالتفاوت، والملك في المنفعة يقع ساعة فساعة على حسب حدوثها فكذا في بدلها وهو الأجرة، وهذا لأن حكم العقد مبني على انعقادها والعقد ينعقد على المنفعة شيئاً فشيئاً على حسب حدوثها، لأن المنافع فيما يستقبل معدومة حالة العقد.
وشرط انعقاد العقد في حق الحكم إضافته إلى محل موجود، والأصل أن الشروط إذا تعذر اعتبارها إما أن يسقط اعتبارها، أو يقام غيرها مقامها كما في حق النائي عن الكعبة أقيمت جهة الكعبة مقام عين الكعبة وكما في حق عادم الماء أقيم التيمم مقام الماء، فكذا هاهنا محل المنفعة وهو الدار مقام المنافع في حق إضافة العقد إليها، ثم العقد في المنافع ينعقد ساعة فساعة على حسب حدوثها وهذا كله مذهبنا، وينبني جواز الإجارة على مذهبنا انعقاد العقد فيما بين المتعاقدين، وهو الدرجة الأولى وانعقاده في حق الحكم وهو الدرجة الثانية.
ألا ترى أن البيع بشرط الخيار ينعقد فيما بين المتعاقدين ولا يعد الحكم في الحال، وتفسير انعقاد العقد في حق المتعاقدين أن يصير كلاهما.... وبعد الحكم في الثاني وكونه سبباً صفة للكلام والكلام مفتقر إلى وجود المتعاقدين لا إلى المحل.
وتفسير انعقاد العقد في حق الحكم في المحل لا بد له من المحل ومحل الحكم وهو المنافع معدومة في الحال فلأجل ذلك قلنا: لأن الإجارة في الحال غير منعقدة في حق الحكم بل هي تنعقد في حق المتعاقدين (14أ4) كالمضاف إلى وقت وجود المنفعة والمنعقد غير والمضاف غير.

ألا ترى أن من نذر وقال: لله علي أن أتصدق بدرهم يكون ناذراً في الحال ويلزمه ذلك، ولو قال: لله علي أن أتصدق يوم الخميس بدرهم لا يكون ناذراً في الحال بل يكون مضيفاً النذر إلى يوم الخميس كذا هاهنا العقد في حق الحكم مضاف إلى وقت وجود المنفعة، وليس بمنعقد في الحال أكثر ما فيه أن الصيغة مرسلة، إلا أنها مرسلة صورة أما مضافة معنى، وهذا لأن الأجر بعقد الإجارة تملك المنفعة لأن الإجارة لتمليك المنفعة وصار تقدير هذا العقد: ملكتك منافع هذه الدار والمنافع معدومة للحال فكان العقد مضافاً إلى وقت وجود المنفعة.

إذا ثبت هذا فنقول: إضافة العقد إلى زمان يستدعي وجود المحل في ذلك الزمان، أما لا يستدعي وجوده في الحال إذا ثبت أن الملك في المنافع يقع ساعة فساعة على حسب حدوثها فكذا في بدلها وهو الأجرة تحقيقاً للتساوي بين المتعاقدين على ما مر.
ومما يتصل بهذا الفصل بيان ما يصلح أجرة وما لا يصلح.

(7/397)


والأصل فيه: أن ما يصلح أن يكون ثمناً في البياعات يصلح أن يكون أجرة في الإجارات، وما لا يصلح أن يكون ثمناً في البياعات لا يصلح أجرة في الإجارات إلا المنفعة فإنها تصلح أجرة إذا اختلف الجنس ولا تصلح ثمناً، وإنما اعتبرنا الإجارة بالبيع لأن الإجارة بيع كسائر البياعات إلا أن سائر البياعات ترد على العين والإجارة ترد على المنفعة.
وإنما وقع الفرق بينهما في المنفعة، لأن الثمن يجب أن يكون مملوكاً بنفس البيع إذا لم يكن فيه خيار، والمنفعة لا تصير مملوكة بنفس العقد، لأنها معدومة أما الأجرة فليس من شرطها أن تملك بنفس العقد وكانت الإجارة كالنكاح فإن المنفعة تصلح مهراً في النكاح؛ إذ ليس من شرط المهر أن يملك بنفس العقد، فإن تسمية عبد الغير مهراً صحيح.

ومما يتصل بهذا الفصل

بيان ما يصلح أجرة وما لا يصلح، إذا أضاف العقد إلى وقت في المستقبل بأن قال: أجرتك داري هذه غداً وما أشبهه، وأنه جائز بناء على الأصل الذي ذكرنا أن الإجارة تنعقد ساعة فساعة على حسب حدوث المنفعة، فالعقد في حق الحكم كالمضاف إلى وجود المنفعة فمبنى الإجارة في حق الحكم على الإضافة كيف تكون الإضافة مانعة صحة الإجارة، فلو أراد نقضها قبل مجيء ذلك الوقت، وعن محمد روايتان في رواية قال: لا يصح النقض، وفي رواية قال: يصح.
وجه هذه الرواية: أنه لم يثبت للمستأجر حق في هذا العقد إليه غير منعقد أصلاً، ولهذا لا يملك الأجرة بالتعجيل في هذه الإجارة.
وجه الرواية الأولى: أن العقد قد انعقد فيما بين المتعاقدين، وإن لم ينعقد في حق الحكم فالآجر بالنقص يريد إبطال العقد المنعقد حقاً للمستأجر فلا يقدر على ذلك، وعلى هذه الرواية يملك الأجرة بالتعجيل في هذه الإجارة، وكذلك إذا أراد الآجر بيع الدار قبل مجيء ذلك الوقت فيه روايتان، في رواية تنفذ إجارته ويبطل المضاف، وفي رواية قال: لا تنفذ كما في البيع كذا ذكره الطحاوي.
وفي «فتاوى أبي الليث» : رحمه الله إذا قال لغيره: إذا جاء رأس الشهر فقد أجرتك هذه الدار، إذا جاء غد فقد أجرتك هذه الدار يجوز وإن كان فيه تعليقاً، وإذا قال: إذا جاء رأس الشهر فقد فاسختك هذه الإجارة لا يجوز.

الفصل الثاني: في بيان أنه متى يجب الأجر
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في رجل استأجر بيتاً شهراً بدرهم، قال: كلما سكن يوماً أخذ من الأجر بحساب ذلك، وكذلك الكراة إلى مكة، وكذلك في

(7/398)


إجارة الأرض. يجب أن يعلم بأن الأجرة لا تملك بنفس العقد ولا يجب إيفاؤه إلا بعد استيفاء المنفعة إذا لم يشترط التعجيل، والأجرة سواء كانت الأجرة عيناً أو ديناً.

هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الجامع» وفي كتاب «التحري» ، وذكر في الإجارات أن الأجرة إذا كانت عيناً لا تملك بنفس العقد، وإن كانت ديناً تملك بنفس العقد وتكون بمنزلة الدين المؤجل، عامة المشايخ على أن الصحيح ما ذكر في «الجامع» ، وفي كتاب «التحري» ، وبعضهم قالوا: ما ذكر في الإجارات قول محمد أولاً، وما ذكر في «الجامع» «والتحري» قوله آخراً، وهذا لما ذكرنا أن الإجارة عقد معاوضة فتوجب المساواة بين المتعاقدين ما أمكن ما لم يغير بالشرط، كما في بيع العين.
ومتى قلنا إنه يجب إيفاء الأجر قبل استيفاء المنفعة تزول المساواة، ويفضل المؤاجر على المستأجر؛ لأن المؤجر يملك الأجرة بالقبض رقبة وتصرفاً، والمستأجر إن ملك المنفعة بقبض المستأجر تصرفاً لم يملك رقبة لما ذكرنا أن وقوع الملك في المنفعة يتأخر حال وجودها.
p
فلهذا قلنا: إن إيفاء الأجر يتأخر إلى ما بعد استيفاء المنفعة، وإذا ثبت أن إيفاء الأجر إنما يجب بعد استيفاء المنافع عندنا فنقول: كان أبو حنيفة أولاً يقول: لا يجب إيفاء شيء من الأجر إلا بعد استيفاء جميع المنفعة سواء كانت الإجارة معقودة على المدة كما في إجارة الدار والعبد، أو على قطع المسافة كما في كراء الدابة إلى مكان، أو على العمل كما في القصار والخياط والصباغ، فهو قول زفر ثم رجع.
وقال: إن وقعت الإجارة على المدة كما في إجارة الأرض والدواب والعبد، أو على قطع المسافة كاستئجار الحمال والدابة، فإنه يجب إيفاء الأجر بحصة ما استوفى إذا كان لما استوفى حصة معلومة من الأجر ففي الدار يوفي أجر يوم فيوم، وفي قطع المسافة إذا سار من حلة من حلة يجب عليه حصة ما استوفى.

قال القدوري: وهو قول أبي يوسف ومحمد وفي الإجارة التي تنعقد على العمل ويبقى له أثر في العين، فإنه لا يجب عليه إلغاء الأجر إلا بعد إيفاء العمل كله وإن كان حصة ما استوفى معلومة إلا أن يكون يعمل الخياط والصباغ في بيت صاحب المال يكون الجواب فيه كالجواب في الحمال على قوله الأجر، يجب على المؤجر إيفاء الأجر بقدر ما استوفى من المنفعة إذا كان له حصة معلومة من الأجر كما في الحمال.

فوجه قوله الأول: أنه ثبت من أصلنا أن إيفاء الأجر لا يجب إلا بعد استيفاء المنفعة، والأصل أن إيفاء أحد البدلين في العقد إذا كان لا يجب إلا بعد استيفاء البدل الآخر، فإنه لا يجب إيفاء شيء منه إلا بعد وجود استيفاء جميع البدل، كما في باب البيع فإنه لما وجب تسليم البيع بناء على إيفاء الثمن لا يجب تسليم شيء من المبيع قبل إيفاء جميع الثمن كذا هاهنا.
وجه قوله الآخر: أن القياس في باب البيع أن يجب على البائع تسليم المبيع بقدر ما استوفى من الثمن، حتى يستويا في ملك التصرف لأن المعاوضة تقتضي التساوي في

(7/399)


المسألتين جميعاً وقد استويا في ملك الرقبة فيجب أن يستويا في ملك التصرف، لا أنا تركنا هذا القياس في بيع العين لما فيه من معنى الرهن وهو حبس المبيع بالثمن، وحكم الرهن حبس الرهن بالدين، ومن حكم الرهن أن لا يجب على المرتهن تسليم شيء من الرهن ما لم يوجد إيفاء جميع الدين فتركنا هذا القياس في البيع لما فيه من معنى الرهن.
وهذا المعنى لا يتأتى في كل إجارة ليس للمؤاجر حق الحبس بعد الفراغ من العمل وبعد إيفاء المنفعة لأن معنى الرهن إنما يثبت بثبوت حق الحبس للمؤاجر فكل إجارة ليس للمؤاجر فيها حق الحبس، كانت العبرة الحقيقة القياس.

وحقيقة القياس أن يستويا في ملك الرقبة وإنما يستويا في ملك الرقبة إذا وجب إيفاء الأجر بقدر ما يستوفي من المنفعة كان القياس أن يجب إيفاء الأجر بقدر ما استوفى من المنفعة، وأن قل ذلك حتى يستويا لكن تركنا القياس في القليل لأنه لا يعرف حصته من الأجر، وفيما لا يعرف حصته من الأجر أخذنا بالقياس وفي كل إجارة للمؤاجر حق الحبس حتى يثبت فيه منفعة الرهن كان بمعنى البيع.
وفي باب البيع إذا وجب (14ب4) تسليم المبيع بناء على إيفاء الثمن يعين وجوب التسليم بإيفاء جميع الثمن، ولا يجب تسليم شيء منه بإيفاء بعض الثمن فكذا في إجارة البيت للأجير حق الحبس وإيفاء الأجر في الإجارة بناء على إيفاء العمل، فيعلق إيفاء الأجر بإيفاء جميع العمل ولم يجب بإيفاء البعض.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: فيمن استأجر داراً يسكنها شهراً قال: لا يلزمه شيء من الأجر حتى يستكمل سكنى الشهر، وهو قياس ما لو استأجر حمالاً ليحمل له شيئاً من السوق إلى منزله فإنه لا يلزمه شيء من الأجر حتى تبلغ الحمولة إلى منزله، وكان القياس فيما إذا تكارى دابة إلى مكة بكذا، ولكن استحسن وقال: إذا سار نصف الطريق أو ثلثه لزمه التسليم بحساب ذلك.

قال القدوري: وهو قوله الآخر، وإذا شرط في عقد الإجارة تعجيل البدل وجب تعجيله، لأنه بدون الشرط إنما لا يجب تحقيقاً للتساوي، فإذا شرط التعجيل فقد أبطل التساوي، وإنه مما يقبل البطلان فيبطل.
ألا ترى أن في باب البيع وجب نقد الثمن قبل تسليم المبيع تحقيقاً للتساوي، ثم لو باع بثمن مؤجل يجب تسليم المبيع، لأنه أبطل التساوي، قال: وللمؤاجر حق حبس المنافع إلى أن يستوفي الأجر، لأن المنافع بمنزلة المبيع فكان له حبسها بما يقابلها من البدل كما في البيع، وله حق فسخ العقد إن لم يعجل، وكذا إذا عجل الأجرة من غير شرط ملكها؛ لأنه إذا عجل فقد أبطل ما يقتضيه مطلق العقد وذلك يحتمل البطلان، لأنه أثبت حقاً له وكما يجب الأجر باستيفاء المنافع يجب بالتمكن من استيفاء المنافع إذا كانت الإجارة صحيحة، حتى إن من استأجر داراً أو حانوتاً مدة معلومة ولم يسكن فيها في ذلك المدة مع تمكنه من ذلك يجب الأجر ولو لم يتمكن من السكنى بأن منعه المالك أو أجنبي لا تجب الإجارة.

(7/400)


وكذلك إذا أجر داراً وسلمها إليه فارغاً إلا بيتاً كان مشغولاً بمتاع الآجر أو سلم إليه جميع الدار ثم انتزع بيتاً منها من يده رفع عن الأجر حصة البيت ولكن يشترط التمكن من الاستيفاء في المدة التي ورد عليها العقد في المكان الذي أضيف إليه العقد، فأما إذا لم يتمكن من الاستيفاء أصلاً أو تمكن من الاستيفاء في المدة في غير المكان الذي أضيف إليه العقد، أو تمكن من الاستيفاء في المكان الذي أضيف العقد خارج المدة لا يجب الأجر.
حتى أن من استأجر دابة يوماً لأجل الركوب فحبسها المستأجر في منزله ولم يركبها حتى مضى اليوم، فإن استأجرها للركوب في المصر يجب عليه الأجر لتمكنه من الاستيفاء في المكان الذي أضيف إليه العقد لأن المكان الذي أضيف إليه العقد من المصر.

وإن استأجرها للركوب خارج المصر إلى مكان معلوم لا يجب الأجر إذا حبسها في المصر لعدم تمكنه من استيفاء المنافع في المكان الذي أضيف إليه العقد، لأن المكان الذي أضيف إليه العقد خارج المصر، ولا يتحقق التمكن خارج المصر من الركوب والدابة في بيته، فإن ذهب بالدابة إلى ذلك المكان في اليوم ولم يركب لا يجب الأجر لتمكنه من الاستيفاء في المكان الذي أضيف إليه العقد في المدة، وإن ذهب إلى ذلك المكان خارج المصر بعد مضي اليوم بالدابة ولم يركب لا يجب الأجر، وإن تمكن من الاستيفاء في المكان الذي أضيف إليه العقد لهذا إنه تمكن بعد مضي المدة.

في «النوازل» : إذا استأجر دابة إلى مكة فلم يركبها بل مشى راجلاً، فإن كان بغير عذر في الدابة فعليه الأجر، لأن المعقود عليه ممكن الاستيفاء، وإن لم يركبها لعلة في الدابة أو لمرض بها بحيث لم يقدر على الركوب لا أجر عليه.
وهكذا ذكر في «العيون» عن أبي يوسف، وفي «نوادر» هشام قال: سألت محمداً عمن اكترى محملاً ليركبه إلى مكة فخلفه في أهله من غير عذر ولم يركبه فلا أجر لعدم التمكن من استيفاء المنفعة في مكان الاستيفاء وهو ضامن للمحمل أن أصابة شيء، لأن صاحب المحمل لم يرض بإمساكه على وجه لا يجب به الأجر فيصير بإمساك المحمل في منزله مخالفاً عاصياً، وكذلك لو استأجر المحمل شهراً ليركبة إلى مكة فقد جمع في المسألة التالية بين الوقت وبين العمل وهو الركوب، ومع هذا بنى الحكم على العمل إذ لو بنى الحكم على الوقت لوجب الأجر هاهنا.
كما لو استأجر حلياً يزين به عروسه فأمسك الحلي ولم يزينها يجب الأجر، إنما فعل كذلك لأن الغالب في هذه الصورة أن يراد بهذا العمل وهو الركوب إلى مكة، هذا كله في الإجارة الصحيحة.

أما في الإجارة الفاسدة يشترط حقيقة استيفاء المنفعة لوجوب الأجر وبعدما وجد الاستيفاء حقيقة إنما يجب الأجر إذا وجد التسليم إلى المستأجر من جهة المؤاجر، أما إذا لم يوجد التسليم لا يجب الأجر.
بيانه فيما ذكر في «الجامع» : رجل اشترى من آخر عبداً فلم يقبضه حتى أجره من

(7/401)


البائع شهراً كانت الإجارة باطلة، لأن الإجارة لتمليك المنفعة والمنفعة تابعة للعين، وتمليك العين قبل القبض من البائع باطل فكذا قليل المنافع التي هي مبيع، فإن استعمله البائع بحكم الإجارة لا يلزمه الأجر لأن في الإجارة الفاسدة إنما يجب الأجر باستيفاء المنافع إذا وجد التسليم إلى المستأجر، ولم يوجد ها هنا إذ ليس للمشتري آلة التسليم وهو اليد، إنما اليد للبائع والبائع لا يصلح نائباً عن المشتري في القبض لأن التسليم يستحق على البائع والشخص الواحد لا يصلح أن يكون مسلماً ومتسلماً، ولأن التسليم والقبض بمنزلة البيع إذا ملك التصرف يثبت به والواحد لا يصلح بائعاً ومشترياً، فكذلك لا يصلح قابضاً ومسلماً.
وفي «الفتاوى» : استأجر ثوباً ليلبسه كل يوم بدانق، فوضعه في بيته ولم يلبسه حتى مضى عليه سنون فعليه لكل يوم دانق ما دام في الوقت الذي يعلم أنه لو لبسه لكان لا خرق، لأنه أمكن أن يجعل منتفعاً بالثوب في ذلك الوقت، فإذا مضى وقت يعلم أنه لو كان لبسه لتخرق سقط عنه الأجر؛ لأن بعد مضي ذلك الوقت تعذر جعله منتفعاً به.

وروي عن محمد نحو هذا، وهو نظير المرأة إذا لم تستعمل الكسوة إنه إذا مضى من الوقت مقدار ما لو استعملتها استعمالاً معتاداً تخرقت الكسوة كان لها ولاية المطالبة بكسوة أخرى، وما لا فلا.

ومما يتصل بهذا الفصلحبس العين بالأجر

قال محمد رحمه الله: رجل دفع ثوباً ليصبغه بدرهم أو إلى قصار ليقصره فقصره أو صبغه، وقال: لا أعطيك حتى تعطيني الأجر فله ذلك، وقال: زفر ليس له ذلك. يجب أن يعلم أن كل صانع ليس بصنعه الوقاء ثم في العين كالحمال والملاح والغسال لا يكون له أن يحبس العبن بالأجر بالإجماع، وكل صانع لعلمه الرقائم في العين كالصباغ وما أشبهه إذا فرع من العمل فله أن يحبس العين بالأجر عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله خلافاً لزفر.
من حجته في ذلك أن البيع وقع في يد المشتري برضا البائع فيبطل حقه في الحبس قياساً على ما لو عمل في بيت صاحب الثوب وقياساً على الملاح والمكاري، وإنما قلنا: أن المبيع وقع في يد المشتري لأن المبيع هنا إما أثر عمله في العين كما في الخياط، أو مال قائم الغسل بالثوب، لأن يد العامل على الثوب يد صاحب الثوب لأن العامل أمين في حق الثوب ويد الأمين يد صاحب المال كما في يد المودع.
وإنما قلنا: برضاه لأنه لما عمل مع علمه يقع في يد المشتري صار راضياً بوقوعه في يد المشتري، حجتنا أن المبيع وقع في يد المشتري بغير رضا البائع فلا يبطل حق البائع في الحبس كما في بيع إذا قبض المشتري المبيع بغير رضا البائع، فإنه لا يبطل حق البائع في الحبس وإن جعل في يد المشتري، لأنه حصل بغير رضاه.

(7/402)


بيانه إنه لا يمكنه الاحتراز عن وقوع عمله في يد الحافظ لأنه لا بد له من الحفظ حالة العمل، ويد الحافظ يد صاحب المال، وإذا لم يمكنه الاحتراز عن وقوع العمل في يد الحفظ كان مضطراً في ذلك، والرضا لا يثبت مع الاضطرار كصاحب العلو إذا بنى السفل، وليس كما لو عمل في بيت صاحب الثوب (15أ4) وذلك لأن المبيع هناك وقع في يد المشتري برضا البائع، وذلك لأن الثوب في يد صاحب الثوب حكماً لقيام يده على الدار، ويمكن للعامل أن يعمل على وجه لا يقع عمله في هذه اليد بأن يعمل في بيت نفسه، وإذا أمكنه الاحتراز عن إيقاع المبيع في هذه اليد فإن لم يحترز صار راضياً بذلك فيبطل حقه في الحبس، فأما ها هنا لا يمكنه الاحتراز على ما بينا فيكون مضطراً في إيقاع العمل في يد الحافظ، والاضطرار ينافي الرضا.
والاختلاف في هذه المسألة نظير الاختلاف في الوكيل إذا نقد الثمن من ماله وقبض المشترى كان له أن يحبس عن الموكل حتى يستوفي الثمن، وبنفس القبض وقع المبيع في يد الموكل، لأن يده يد الموكل قبل أحد أن الحبس ولم يبطل حقه في الحبس عندنا، لأنه مضطر في وقوع المشتري في هذا اليد لأنه لا يمكنه القبض على وجه لا يقع في يده فلم يبطله حقه في الحبس عندهم.

وبطل عند زفر كذلك هاهنا وليس كالحمال والمكاري، لأن المبيع هاهنا ليس بقائم لا من حيث الحقيقة ولا من حيث الاعتبار، من حيث الحقيقة فلا إشكال لأن المبيع حركات انقضت ومضت، ولا من حيث الاعتبار لأنه لم يبق لعمله أثر في العين حتى يقيم الأثر مقام العمل، وحق الحبس إنما يثبت في المبيع فلا بد من قيامه أما ها هنا بخلافه، وأما القصار إن كان يقصر بالنساسج أو كان ببياض البيض كان له حق الحبس لأنه اتصل بالثوب مال قائم كما في الصبغ.

فأما إذا كان يبيض الثوب لا غير اختلف المشايخ فيه منهم من قال: له حق الحبس لأن البياض الذي حدث في الثوب أثر عمله فيقوم مقام المبيع فيكون له حق الحبس كما في الخياطة، ومنهم من يقول: لا يكون له حق الحبس لأن البياض الذي حدث في الثوب غير مضاف إلى عمله، لأنه غير حادث بعمله بل البياض كان حاصلاً لكن كان استترا بالوزن فزال ذلك بعمله وظهر البياض الذي كان في الأصل، وإذ ثبت له حق الحبس بالأجرة عندنا لم يصر بالحبس متعدياً.
ففي العين عند أبي حنيفة أمانة في يده كما كان، فإذا هلك بغير صنعة لا يضمن شيئاً إلا أنه يسقط الأجر لأنه ملك العمل قبل التسليم، وهلاك المبيع قبل التسليم يوجب سقوط البدل كالمبيع العين إذا هلك في يد البائع.
وأما عند أبي يوسف ومحمد فالعين كان مضموناً على القصار والصباغ بسبب القصر إذا حصل الهلاك بأمر يمكن التحرز عنه فيبقى بعد الحبس مضموناً كما كان، فإذا هلك فلصاحبه الخيار إن شاء ضمنه غير معمول لأنه لم يصر مسلماً العمل فلا يستحق الأجر، وإن شاء ضمنه معمولاً لأن العين مضمون عندهما بالقيمة والعمل بيع للعين والبيع

(7/403)


يوافق الأصل ولا يخالفه، فإذا كان الأصل مضموناً بالقيمة صار المبيع مضموناَ بالقيمة أيضاً.
فإن قيل: العمل بيع هلك في يد البائع بغير منعة والمبيع لا يتصور أن يكون مضموناً على البائع بالقيمة بحال ما لا عند الهلاك ولا عند الاستهلاك كما في العين، المبيع إذا هلك عند البائع أو استهلك البائع لا يضمن القيمة فلم جعلتم العمل المبيع هنا مضموناً بالقيمة؟.

قلنا: نحن ما جعلنا العمل مضموناً بالقيمة أصلاً ومقصوداً بل ضرورة وتبعاً للعين، ويجوز أن يثبت الحكم تبعاً لغيره ولا يثبت قصداً، وفي باب البيع لا ضرورة إلى جعله مضموناً بالقيمة، أما هاهنا بخلافه وإذا ضمنه قيمته معمولاً أعطاه الأجر لأن المبيع صار مسلماً تقديراً واعتباراً لوصول اليد إليه، ولو صار مسلماً حقيقة يعطيه الأجر كذلك هاهنا وهكذا الجواب أو أتلفه الأجر يخير صاحب الثوب، إن شاء ضمنه قيمته غير معمول ولا يعطيه الأجر، وإن شاء ضمنه قيمته معمولاً وأعطاه الأجر.

وفي «شرح القدوري» : وقال أبو يوسف في الحمال: إذا طلب الأجرة بعدما بلغ المنزل قبل أن يضعه ليس له ذلك، لأن حق المطالبة إنما يثبت بعد تمام العمل والوضع من تمام العمل فلا يثبت له حق المطالبة قبل الوضع.

ومما يتصل بمسائل الحبس
إذا استأجر الرجل من آجر داراً بدين كان للمستأجر على الأجر يجوز، وكذا لو استأجر عبداً بدين كان للمستأجر على الآجر يجوز، فإن فسخا الإجارة فأراد المستأجر أن يحبس المستأجر بالدين السابق كان له ذلك، ولو كانت الإجارة فاسدة وفسخا الإجارة بحكم فساد السبب فأراد المستأجر أن يحبس المستأجر بالدين السابق ليس له ذلك.
والفرق بينهما: أن العقد لا يتعلق بالدين وإنما يتعلق بمثله، ولا تصير الأجرة مثل الدين إلا بشرط التعجيل فيضمن ذلك شرط التعجيل لتصير الأجرة مثل الدين، ووقعت المقاصة بينهما وصار الآجر قابضاً الأجر بطريق المقاصة فيعتبر بما لو استوفاه حقيقة، فأما في الإجارة الفاسدة مثل الدين لا يجب بنفس العقد لأن أكثر ما في الباب أن يجعل الأجرة مشروطة التعجيل، ولكن الأجرة لا تملك ولا تصير ديناً باشتراط التعجيل في الإجارة الفاسدة ما لم يوجد استيفاء المنفعة حقيقة، ومتى لم تصر ديناً لا تقع المقاصة فلا يصر الأجير مستوفياً الأجرة أصلاً بمقابلة تسليم العبد فلا يملك العبد به.

فإن مات الآجر والأجر دين عليه كان قبل العقد فهي الإجارة الجائزة لما ملك المستأجر حبس العبد كان أحق به من الأجر حال حياته فيكون أحق به من غرمائه بعد موته.
وفي الإجارة الفاسدة كما لم يملك الحبس لم يكن المستأجر أحق به من الأجر حال حياته فلا يكون أحق به من غرمائه بعد الموت، ولكن يكون أسوة لغرمائه.

(7/404)


ولو هلكت العين في يد الأجير من غير صنعة ومن غير أن يحبسه بالأجر، فإن كان لعمله أثر في العين كالحمال والمكاري لا يسقط الأجر، والفرق أن العمل الذي له أثر في العين بمنزلة العين المعقود عليه والبدل في مقابلته فصار كالمبيع يهلك قبل التسليم، أماما لا أثر له في العين ليس هناك عين معقود عليه، وإنما يصير الحمال يوماً المعقود عليه حالاً فحالاً فإذا انتهى إلى المكان المشروط فقد أوفى العمل بتمامه فلا يسقط أجره بهلاك العين بعد ذلك.
في «فتاوى أبي الليث» : نساج نسج ثوب رجل فذهب به إليه وطلب منه أن يقبض منه الثوب ويعطيه الأجر، فقال له صاحب الثوب: اذهب إلى منزلك حتى إذا رجعنا من الجمعة ضرب إلى منزلي ووفرت عليك الأجر فاختلس الثوب من يد النساج في الرجعة، قال: إن كان الحائك دفع الثوب إلى صاحب الثوب ولو ذهب به لم يكن الحائك يمنعه من ذلك، فإن دفع إلى الحائك على وجه الرهن هلك الثوب بالأجر كما هو حكم الرهن.

وإن دفع إليه على وجه الوديعة هلك على الأمانة والأجر على حاله، لأنه سلم العمل إلى صاحب الثوب فتقرر عليه الأجر، وإن كان في الابتداء أو أراد صاحب الثوب أن يذهب بالثوب لم يكن يدعه النساج ولذلك تركه صاحب الثوب عنده فقد اختلف العلماء فيه، قال بعضهم: يضمن، وقال بعضهم: لا وهي مسألة الأجير المشترك إذا هلكت العين في يده من غير صنعة.

وفي «المنتقى» : حائك عمل ثوباً لرجل فتعلق الآخر ليأخذه فأبى الحائك أن يدفعه حتى أخذ الأجر فتخرق من يد صاحبه لا ضمان على الحائك، وإن تخرق من يدهما فعلى الحائك نصف ضمان الخرق.
وفي (15ب4) القدوري: استأجر حمالاً ليحمل له حملاً إلى بلد فحمله، فقال له صاحبه: أمسكه عندك فامسكه فهلك لا ضمان عليه بلا خلاف لأنه ليس له حق الحبس، فإذا قال: امسكه كان أمانة في يده وهلاك الأمانة في يد الأمين لا يوجب الضمان عليه، ولو كان هذا قصاراً فأمره بإمساكه يعني ليوفر الأجر فهلك فهو على الاختلاف، وعلى قياس مسألة النساج يجب أن تكون هذه المسألة على التفصيل أيضاً.

الفصل الثالث: في الأوقات التي يقع عليها عقد الإجارة
إذا استأجر داراً شهراً بأجر معلوم أو استأجرها منه أو كل شهر، فابتداء المدة من حين العقد وهذا الجواب لا يشكل فيما إذا استأجرها كل شهر، لأن الإجارة تناول الأبد

(7/405)


فلا بد وأن يدخل الشهر من حين وقع عقد الإجارة، وإنما يشكل ما إذا استأجرها شهراً واحداً فإنه عين الإجارة الشهر الذي يلي العقد، وهما سميا شهراً منكراً لا شهراً معيناً، فالجواب الشهر الذي يلي العقد يعين بدلالة الحال أو بمقتضى مطلق العقد.
أما بدلالة الحال فإن الظاهر من حال العاقل الذي أن يقصد بتصرفه الصحة، ولن تصح الإجارة أو لم يعين الشهر الذي يليها لأنه تكون الإجارة عل شهر لا بعينه.
وأما بمقتضى مطلق العقد يوجب حكمه للحال كبيع العين المطلق، وحكم الإجارة وقوع الملك للمستأجر في المنفعة، وإنما يقع الملك في منفعة الدار للحال إذا تعين الشهر الذي يلي الإجارة، وإذا تعين الذي يلي الإجارة ينظر إن وجدت الإجارة في الوقت الذي يهل فيه الهلال يعتبر الشهر بالهلال، لأن الهلال أصل في الشهر والأيام كالبدل، وقد أمكن اعتبار الأصل فلا يصار إلى البدل.

وإن وجدت الإجارة في وسط الشهر يعتبر الشهر بالأيام لأنه تعذر اعتبار الأصل فيعتبر البدل هذا إذا وقعت الإجارة على شهر واحد، وإن وقعت الإجارة على كل شهر وكان ذلك في وسط الشهر يعتبر الشهر الذي يلي العقد بالأيام، وكذلك كل شهر بعد ذلك بلا خلاف.
أما عند أبي حنيفة فلأن عنده العبرة بالأيام إذا أوقعت الإجارة في وسط الشهر، وإن كان أجر المدة وأولها معلومة بأن استأجرها أشهراً مسماة عشرة أو ما أشبه ذلك أو استأجرها سنة، فإذا لم يكن أجر المدة معلوماً أولى.
h
وأما عند أبي يوسف ومحمد إنما يعتبر الشهر الأول بالأيام ويكمل من آخر المدة وما بعد ذلك بالهلال إذا كان آخر المدة معلوماً حتى أمكن إكمال الأول بأجره وهاهنا آخر المدة مجهولة فلا يمكن إكمال الأول بالآخر فيجب إكماله من الشهر الثاني.
وإن وقعت الإجارة على اثني عشر شهراً أو ما أشبه ذلك من الأشهر المسماة وكانت الإجارة في وسط الشهر، فعلى قول أبي حنيفة تعتبر جميع الأشهر بالأيام، وعلى قول أبي يوسف ومحمد يعتبر الشهر الأول بالأيام ويكمل من الشهر الأخير وباقي الشهور بالأهلّة.
فوجه قولهما أن في الشهر الأول والآخر اعتبار ما هو الأصل، وهو الهلال غير ممكن فلا يعتبر، وفيما عدا ذلك أمكن اعتبار الأصل فيعتبر.

وأبو حنيفة قال: كالعذر اعتبار الهلال في الشهر الأول تعذر اعتباره في الشهر الثاني والثالث، لأن الشهر الأول يجب إكماله من الشهر الثاني لأنه متصل به، وإذا وجب إكمال الشهر الأول من الشهر الثاني انتقص الشهر الثاني فيجب إكماله من الشهر الثالث، لأنه متصل به وثم وثم إلى آخر المدة، فقد تعذر اعتبار الهلال في جميع المدة فيعتبر بالأيام.
روى الحسن بن زياد عن أبي يوسف: في رجل استأجر منزلاً كل شهر بثلاثة دراهم مثلاً، قال: في قياس قولي الإجارة فاسدة لكني استحسن إن أجرها في أول شهر، فأما

(7/406)


فيما عداه فلكل واحد منهما أن يفسخه.

قال الحاكم أبو الفضل: أراد بقوله: في قياس قولي القياس على ما إذا اشترى كل قفيز من هذا الطعام بدرهم، فإنه على جميع الطعام عندهما وعمل كلمة كل في الشمول والإحاطة.
فالقياس: أن يعمل كلمة كل منهما في الشمول والإحاطة ويتناول جميع الشهور، إلا أنها لو تناولت جميع الشهور فسد العقد، لأن جميع الشهور محمولة ولكن استحسن، وقال: يجوز العقد في الشهر الأول نصف اللزوم، لأنه لا جهالة فيه ولا مزاحم له، وفيما عدا ذلك يثبت العقد بطريق الإضافة، وفي العقد المضاف لكل واحد من المتعاقدين فسخ العقد، فإذا لم يفسخ حتى دخل الشهر الثاني لزم العقد فيه.
وفي «الأصل» : إذا استأجر الرجل من آخر داراً كل شهرة بعشرة دراهم، فإن أبا حنيفة قال: هذا جائز ولكل واحد منهما أن ينقض الإجارة في رأس الشهر فإن سكن يوماً أو يومين لزمه الإجارة في الشهر الثاني: واختلفت عبارة المشايخ في تخريج المسألة بعضهم قالوا: أراد بقوله جائز أن الإجارة في الشهر الأول جائزة فأما فيما عدا ذلك من الشهور فالإجارة فاسدة لجهالة المدة، إلا أنه إذا جاء الشهر الثاني ولم يفسخ كل واحد منهما الإجارة في رأس الشهر جازت الإجارة في الشهر الثاني، لأن الشهر الثاني صار كالشهر الأول.
وبعضهم قالوا: لا بل الإجارة جائزة في الشهر الثاني والثالث كما جازت في الشهر الأول، وإطلاق محمد رحمه الله في «الكتاب» : يدل عليه، وإنما جازت الإجارة فيما وراء الشهر الأول، وإن كانت المدة مجهولة لتعامل الناس من غير نكير منكر، وإنما يثبت الخيار لكل واحد منهما رأس الشهر كل شهر، وإن كانت الإجارة جائزة فيما زاد على الشهر الأول لنوع ضرورة.
وبيانها: أن موضوع الإجارة أن لا يزيل الرقبة عن ملك المؤجر ولا يجعلها ملكاً للمستأجر، ومتى لم يثبت الخيار لكل واحد منهما رأس الشهر لزوال رقبة المستأجر عن ملك المؤجر، يعني لأنه لا يملك سكناها ولا بيعها ولا هبتها أبد الدهر لأنه لا نهاية لحد الشهور.

وهذا لا يجوز فلهذه الضرورة يثبت لكل واحد منهما الخيار بين الفسخ والمضي في رأس كل شهر، وإن كانت الإجارة جائزة في الشهر فيما زاد على الشهر وكان ينبغي أن يثبت هذا الخيار في كل ساعة ليزول المعنى الذي ذكرنا إلا أنا لو أثبتنا ذلك لا تفيد الإجارة فائدتها لأن كل واحد من المتعاقدين يمتنع عن الإجارة مخافة الفسخ فلهذه الضرورة تأخر الفسخ إلى رأس الشهر، لأنه بهذا القدر تصير الإجارة منعقدة وليس ما وراء الشهر من الأوقات بعد ذلك بعضها بأولى من البعض فيثبت الخيار رأس كل شهر لهذه الضرورة.
والثابت ضرورة والثابت شرطاً سواء، ولو شرطا الخيار رأس كل شهر تأخر الفسخ

(7/407)


إلى رأس كل شهر كذا هنا إلا أن المشايخ بعد هذا اختلفوا في كيفية إمكان الفسخ لكل واحد منهما رأس كل شهر.
وإنما اختلفوا لأن رأس الشهر في الحقيقة عبارة عن الساعة التي يهل فيها الهلال فكما أهل الهلال مضى رأس الشهر فلا يمكن الفسخ بعد ذلك لمضي وقت الخيار، وقبل ذلك لا يمكنه الفسخ لأنه لم يجيء وقته.
والصحيح في هذا أحد الطرق الثلاثة إما أن يقول: الذي يريد الفسخ قبل مضي المدة فسخت الإجارة فيتوقف هذا الفسخ إلى انقضاء الشهر فإذا انقضى الشهر وأهل الهلال عمل الفسخ عمله ونفذ، لأنه لم يجد نفاذاً في وقته يتوقف إلى وقت نفاذه، وبه كان يقول أبو نصر محمد بن محمد بن سلام البلخي.
ونظير هذا ما قال (16أ4) محمد رحمه الله في البيوع: اشترى عبداً على أنه بالخيار فحم العبد وفسخ المشتري العقد بحكم الخيار لم ينفذ هذا الفسخ بل يتوقف إلى أن تزول الحمى في مدة الخيار.

وقال في المضاربة: رب المال إذا فسخ المضاربة وقد صار مال المضاربة عروضاً لم ينفد الفسخ للحال بل يتوقف إلى أن يصير مال المضاربة دراهم أو دنانير فينفذ الفسخ كذا هنا، أو يقول الذي يريد الفسخ في خلال الشهر فسخت العقد رأس الشهر فينفسخ العقد إذا أهل الهلال، ويكون هذا فسخاً مضافاً إلى رأس الشهر وعقد الإجارة يصح مضافاً، فكذا فسخه يصح مضافاً، أو يفسخ الذي يريد الفسخ في الليلة التي يهل فيها الهلال ويومها.
وهذا القائل يقول: لم يرد محمد رحمه الله بقوله لكل واحد منهما أن ينقض الإجارة رأس الشهر من حيث الحقيقة، وهو الساعة التي يهل فيها الهلال فإنما أراد به رأس الشهر من حيث العرف والعادة وهي الليلة التي يهل فيها الهلال ويومها.
وهذا كما قال محمد رحمه الله في كتاب الإيمان: إذا حلف الرجل ليقضين حق فلان رأس الشهر فقضاه في الليلة التي يهل فيها الهلال أو في يومها لم يحنث استحساناً.

وفي القدوري يقول: غرة الشهر ورأس الشهر أول ليلة ويومها، ثم إذا كان لكل واحد منهما أن يفسخ الإجارة رأس الشهر إذا فسخ أحدهما الإجارة من غير محضر من صاحبه هل يصح.
من مشايخنا من قال: إنه على الخلاف على قول أبي حنيفة ومحمد لا يصح، وعلى قول أبي يوسف يصح، وهذا لأن الخيار ثبت لكل واحد منهما رأس الشهر لنوع ضرورة والثابت ضرورة والثابت شرطاً سواء ولو كان الخيار مشروطاً لكل واحد منهما كانت المسألة على الخلاف كذا هاهنا.
ومنهم من قال: لا يصح الفسخ ها هنا إلا بمحضر من صاحبه بلا خلاف، والفرق لأبي يوسف أن المشروط له الخيار إنما ملك الفسخ بغير محضر من صاحبه، لأنه مسلط على الفسخ من جهة لأن الخيار مشروط للفسخ والمسلط على التصرف يملك التصرف من

(7/408)


غير محضر من المسلط كالوكيل بالبيع، فأما في مسألتنا كل واحد منهما غير مسلط على الفسخ من جهة صاحبه، وإنما هو مسلط على الانتفاع وإنما يثبت الخيار لنوع عذر فكان بمنزلة ما لو ثبث الخيار بسائر الأعذار، وفي ذلك لا يصح الفسخ إلا بمحضر من صاحبه كذا فهنا.
وفي «شروط الحاكم أحمد السمرقندي» رحمه الله: أن أحد المتعاقدين في باب الإجارة إذا فسخ العقد في مدة الخيار يصح فسخه سواء كان بحضرة صاحبه أو بغيبة صاحبه، ولم يذكر فيه خلافاً.
وإذا استأجر داراً سنة كل شهر بكذا فليس لواحد منهما فسخ الإجارة قبل إكمال السنة بغير عذر، لأن الإجارة ها هنا وقعت على جميع السنة وذكر كل شهر لتقسيم الأجر على الشهور لا لتجدد انعقاد العقد رأس كل شهر.
وفي «شروط الحاكم أحمد السمر قندي» : إذا استأجر داراً كل شهر بكذا، فعجل أجرة شهرين أو ثلاثة وقبض الآجر ذلك لا يكون لأحدهما ولاية الفسخ بقدر ما عجل، وكان التعجيل منهما دلالة العقد في الشهر الثاني والثالث.
قال في «الأصل» : وإذا استأجر عبداً ليخدمه كل شهر بكذا كان له أن يستخدمه من السحر إلى ما بعد عشاء الآخرة، والقياس أن يستخدمه آناء الليل والنهار لأن الشهر اسم للكل إلا أن ما بعد العشاء الآخرة إلى السحر صار مبيتاً بحكم العرف، فإن العرف فيما بين الناس أنهم لا يستخدمون المماليك بعد العشاء الآخرة إلى السحر والمعروف كالمشروط.
وقال أيضاً: رجل تكارى رجلاً يوماً إلى الليل بعمل معلوم فإن على الأجير أن يعمل بعد صلاة الغداة إلى غروب الشمس، والقياس أن يعمل من وقت طلوع الفجر الثاني إلى ما بعد صلاة الغداة صار منهياً عن الإجارة عرفاً والمعروف كالمشروط.

قال محمد رحمه الله: والعمال بالكوفة إنما يعملون إلى العصر وليس لهم ذلك لأن اسم اليوم ينطلق على هذا الزمان من حين طلوع الفجر إلى غروب الشمس، إلا أن ما بعد طلوع الفجر إلى ما بعد صلاة الغداة صار مثبتاً عن الإجارة يعرف غالباً، لأن الأجراء لا يعملون قبل صلاة الغداة، وليس فيما بعد العصر عرف غالب، فإن بعض الأجراء يعملون إلى العصر وبعضهم إلى غروب الشمس وليس أحد الوجهين بأغلب من الآخر، وتخصيص الاسم إنما يجوز بعرف غالب.
قال أيضاً: وإذا تكارى دابة من الغدوة إلى العشي يردها بعد زوال الشمس ينتهي الإجارة بهما، لأنه كما زالت الشمس فقد دخل أول وقت العشاء عرفاً وشرعاً، أما شرعاً فلما روى أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بنا إحدى صلاتي العشاء أما الظهر وأما العصر.

(7/409)


وأما عرفاً فإن مخاطبات الناس تعتبر بعد زوال الشمس يقولون قبل الزوال: كيف أصبحت، ويقولون بعد الزوال: كيف أمسيت فثبت أن بعد زوال الشمس يدخل أول وقت العشاء والإجارة تنتهي بدخول أول جزء من الغاية.
قالوا: وهذا في عرفهم أما في عرفنا الإجارة لا تنتهي بزوال الشمس وإنما تنتهي بغروب الشمس؛ لأن اسم العشاء في عرفنا إنما ينطلق على ما بعد غروب الشمس، وكذلك إذا قال بالفارسية: ابن خر نمر ذكر فتم بإشباعها فهذا إلى غروب الشمس في عرفنا.
قال: إذا تكارى دابة يوماً ليركبها، فإنه يركبها من حين طلوع الفجر إلى وقت غروب الشمس عملاً بحقيقة اسم اليوم، وإنما تركنا العمل بحقيقة هذا الاسم فيما إذا استأجر رجلاً يوماً ليعمل له عمل كذا.
وقلنا: إن على الأجير أن يعمل بعد صلاة الفجر بحكم العرف الغالب على ما مر، والعرف في الدابة بخلاف ذلك فإن الناس يركبون الدواب في عاداتهم بغلس ليصلوا إلى مقصدهم قبل الليل فيعمل فيها بحقيقة الاسم. وإن استأجر دابة ليلاً فإنه يركبها عند غروب الشمس إلى أن يطلع الفجر، لأن الليل في عرف لسان الشرع واللغة اسم لما بعد غروب الشمس إلى أن يطلع الفجر، فكأنه نص على ذلك ولو نص على ذلك كان الجواب كما قلنا فهاهنا كذلك.
وفي «فتاوى أبي الليث» : أعطى رجلاً درهمين ليعمل له يومين فعمل له يوماً واحداً وامتنع عن العمل في اليوم الثاني، فإن كان سمى له عملاً فالإجارة جائزة ويجبر على العمل، وإن لم يعمل حتى مضى اليوم الثاني لا يطالب بالعمل، وإن كان سمى له العمل إلا أنه قال: يومين من الأيام فالإجارة فاسدة لجهالة الوقت وله أجر مثله إن عمل.

وفي «فتاوى الفضل» : إذا استأجر رجلاً يوماً لعمل كذا فعليه أن يعمل ذلك العمل إلى تمام المدة، ولا يشتغل بشيء آخر سوى المكتوبة.
وفي «فتاوي أهل سمرقند» : وقد قال بعض مشايخنا: إن له أن يؤدي السنة أيضاً، واتفقوا أنه لا يبتد نفلاً وعليه الفتوى، وفي غريب الرواية قال أبو علي الدقاق رحمه الله: المستأجر لا يمنع الأجير في المصر من إتيان الجمعة ويسقط من الأجر بقدر اشتغاله بذلك إن كان بعيداً، وإن كان قريباً لم يحط عنه شيء من الأجر، فإن كان بعيداً فاشتغل قدر ربع النهار حط عنه ربع الأجر، وإن قال الأجير حط من الربع مقدار اشتعاله بالصلاة لم يكن له ذلك، ثم قال: تحتمل أن يتحمل من الربع مقدار اشتغاله بالصلاة.

الفصل الرابع: في تصرف المؤجر في الأجرة
إذا أبرأ المؤاجر المستأجر من الأجرة أو وهبها منه أو تصدق بها عليه، وكان ذلك

(7/410)


قبل استيفاء المنفعة ولم يشترط تعجيل الأجرة في العقد لم يجز في قول أبي يوسف، عيناً كانت الأجرة أو ديناً والإجارة على حالها لا تنفسخ.
وقال محمد رحمه الله: إن كانت الأجرة ديناً جاز ذلك قبل المستأجر أو لم (16ب4) يقبل ولا تنتقض الإجارة، وإن كانت عيناً فوهبها منه، فإن قبل الهبة تبطل الإجارة، وإن رد لم تبطل الإجارة، وعادت الأجرة على حالها.
فأبو يوسف رحمه الله يقول: الابراء إسقاط الواجب، فيعتمد سابقة الوجوب، والهبة تمليك، فيعتمد سابقة الملك، ولا وجوب ولا ملك بدون استيفاء المنفعة واشتراط التعجيل، وإذا لم يصح تصرفه بقيت الأجرة على حالها فلا تنتقض الإجارة، بخلاف المشتري إذا وهب المبيع من البائع قبل القبض وقبله البائع حيث يبطل البيع؛ لأن هناك الهبة قد صحت لصدورها من المالك ويده من جنس القبض المستحق بالهبة فثبت الملك، وإذا ثبت الملك فإن القبض المستحق بالعقد فيبطل العقد.
ومحمد رحمه الله يقول: سبب الوجوب ثابت فأقيم مقام الوجوب في حق صحة التصرف، ثم إن محمداً رحمه الله لم يشترط القبول في الإبراء والهبة إذا كانت الأجرة ديناً، ويشترط القبول في الهبة إذا كانت الأجرة عيناً.
والفرق: أن الإبراء والهبة في الدين إسقاط فيه معنى التمليك، فمن حيث إنه إسقاط لم يتوقف على القبول، ومن حيث إنه تمليك يريد به الرد والهبة في العين تمليك محض والتمليك المحض لا يعمل بدون القبول، ثم إذا قبل الهبة وكانت الأجرة عيناً بطلت الإجارة عند محمد؛ لأن عقد الإجارة ينعقد موقوفاً في حق المحل على حسب حدوث المنفعة، فمتى كانت الأجرة عيناً، ووهبها من المستأجر، وقبل المستأجر لا يمكن القول ببقاء التوقف في حق المحل فصار ذلك مناقضة، فبطلت الإجارة ضرورة.
وإذا كانت الأجرة ديناً ووهبها له أو أبرأه منها وقبل المستأجر ذلك أو لم يقبل لا تبطل الإجارة، لأن الحكم ببقاء الإجارة ممكن هناك؛ لأن محل الأجرة إذا كانت ديناً في الذمة، وذمته باقية فيقام قيام محل الأجرة مقام قيام الأجرة إبقاء للعقد بقدر الممكن، ولو وهبت بعض الأجرة أو أبرأ عن بعض الأجرة جاز بلا خلاف، أما على قول محمد فظاهر، وأما على قول أبي يوسف فلأنه يعتبر هذا خطأ، ويجعل كأن العقد من الابتداء ورد على ما بقي خاصة، ولا كذلك هبة الكل.

وإن كانت هذه التصرفات من المؤاجر بعد استيفاء المنفعة أو بعد اشتراط التعجيل جازت بلا خلاف، لأن بعد استيفاء المنفعة، أو بعد اشتراط التعجيل ثبت الوجوب وثبت الملك، فيصح الإسقاط والتمليك على قول أبي يوسف رحمه الله.
ذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» : رجل أجر أرضه من رجل بدراهم معلومة وقبض الأجرة، فلم يزرع المستأجر حتى وهب الآجر الأجر للمستأجر ودفعه إليه، ثم انتقضت الإجارة بوجه من الوجوه، فإن للمستأجر أن يرجع على الآجر بما أعطاه الأجر إلا حصة ما مضى من السنة والأرض في يد المستأجر، ولو كان وهب له قبل القبض لم يرجع

(7/411)


بشيء، وإذا تصارف الآجر والمستأجر بالأجرة فأخد بالدراهم دنانير، فإن كان ذلك بعد استيفاء المنفعة أو كانا شرطا التعجيل في الأجرة حتى وجبت الأجرة جازت المصارفة إجماعاً، وإن كان قبل استيفاء المنفعة ولم يشترطا التعجيل فالمسألة على الخلاف، على قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد يجوز، وعلى قول أبي يوسف الآخر لا يجوز، وهذا إذا كانت الأجرة ديناً.
فأما إذا كانت الأجرة عيناً فإن كانت بقرة بعينها فأعطاه المستأجر مكانها دنانير لا يجوز سواء كان قبل استيفاء المنفعة أو بعدها، وسواء كان قبل اشتراط التعجيل أو بعده.
وجه قوله الأول وهو قول محمد: أن هذه مصارفة بدين واجب حالة المصارفة، وإنه ما يجوز الاستبدال به فيجوز كما بعد استيفاء المنفعة.

بيانه: أن المقصود من إضافه الشراء إلى الأجرة وقوع المقاصة من الأجرة وبدل الصرف لا الاستحقاق بعينه، ولن تثبت هذه المقاصة من الأجرة وبدل الصرف إلا بعد اشتراط التعجيل في الأجرة قبل الصرف؛ لأن المقاصة بدل الصرف بدين وجب حكماً بعد عقد الصرف لا يجوز.
ألا ترى أن من اشترى ديناراً بعشرة دراهم، ثم إن مشتري الدينار باع من بائع الدينار ثوباً بعشرة دراهم لا تقع المقاصة بين ثمن الثوب وبين بدل الدينار تقاصا أو لم يتقاصا، لأنه دين وجب بعد عقد الصرف، وإذا كان هكذا اقتضت هذه الإضافة اشتراط التعجيل قبل عقد الصرف، فكأنهما اشتراطا التعجيل قبل الصرف ثم تصارفا بخلاف ما إذا كانت الأجرة عيناً؛ لأن أكثر ما في أن يثبت اشتراط التعجيل هناك مقتضى عقد الصرف مع هذا لا تجوز المصارفة؛ لأن الأجرة إذا كانت عيناً كانت مبيعاً، فيصير المستأجر بهذه المقاصة مستبدلاً بالبيع قبل القبض، وإنه لا يجوز، أما إذا كانت الأجرة دنياً في الذمة فالاستبدال به قبل القبض جائز.
وجه قول أبي يوسف الآخر: أن هذه مصارفة بدين غير واجب حالة المصارفة؛ لأن الأجرة غير واجبة قبل استيفاء المنفعة وقبل اشتراط التعجيل، وأما ما قال محمد: بأن هذه الإضافة تضمنت اشتراط التعجيل، قلنا: غير المنصوص إنما يجعل منصوصاً لتصحيح أصل لا لإبقاء التصرف على الصحة وهذا لأن لا لإيفاء التصرف على الصحة؛ وهذا لأن جعل غير المنصوص منصوصاً خلاف الحقيقة، وخلاف الحقيقة لا يصار إليه إلا في وضع ورود الاستعمال، والاستعمال ورد في تصحيح أصل التصرف لا في إيفاء التصرف على الصحة.
والفقه في ذلك: أن البقاء بيع الأصل والمقتضي يثبت بيعاً فلو أثبت المقتضى لإبقاء العقد على الصحة فقد جعلنا البيع وهو البقاء أصلاً وإنه لا يجوز، إذا قلت هذا فقول المصارفة بالإجارة صحيحة من غير اشتراط التعجيل، وإن لم تكن الأجرة واجبة إذا نفذ ما شرط من الأجرة، وإذا لم ينفذ يبطل العقد بعد الصحة، فلو أثبتنا اشتراط التعجيل، فإنما نثبته بمقتضى بقاء التصرف على الصحة لا يقتضي تصحيح أصل الصرف، وإنه لا يجوز.

(7/412)


فرّع محمد في «الأصل» على مسألة المصارفة فقال إذا وقعت المصارفة بالأجر على نحو ما ذكرنا وقد عقد عقد الإجارة على حمل شيء بعينه بعشرة دراهم، فمات قبل أن يكمل شيئاً أو بعد ما سار نصف الطريق وأجاب بأنه ترد الأجرة كلها على المستأجر إن لم يكن حمل شيئاً وإن سار نصف الطريق رد عليه بنصف الأجر، وذلك جملة دراهم، وهذا التفريع إنما يتأتى على قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد؛ لأنه على هذا القول صح الصرف ووقعت المصارفة بين الأجرة وبدل الصرف، وصار المستأجر موقناً الأجر بالمقاصة فيعتبر بما لو أوفاه باليد ثم انتقضت الإجارة، وهناك يرد الأجر كله على المستأجر إن كان الحمال لم يحمل شيئاً ونصف الأجر إن حمل نصف الطريق كذا هاهنا.
أما على قوله الآخر الصرف لم يصح ولم تقع المقاصة، ولم يصر الأجر موقعاً الأجر، فإن مات الحمال قبل أن يحمل شيئاً كان على ورثة الحمال رد الدينار على المستأجر، لأن الحمال قبضه بحكم صرف فاسد، ولا شيء لورثة الحمال من الأجر، وإن مات في نصف الطريق فإن ورثة الحمال قد أوفاه نصف العمل.
وفي «نوادر أبي سليمان» عن محمد: رجل أجر أرضه من رجل بألف درهم (17أ4) وقبضها وزرعها أو لم يزرعها فلم تمض السنة حتى أخذ رب الأرض من المستأجر خمسين ديناراً من الأجرة فهو جائز.

علل فقال: لأن الإجارة كان أصلها صحيحاً فإن انتقضت الإجارة في شيء من السنة ردت الأرض على المستأجر من الدراهم التي أجرتها الأرض بقدر ما بقي من السنة، ولم يرد من الدينار شيئاً.
علل فقال: لأن أصل الصرف كان صحيحاً ووجه ذلك: أن بسبب هذه المصارفة وقعت المقاصة بين الأجر وبين ثمن الدنانير، وصار المستأجر موقتاً الدراهم التي هي أجرة بالدراهم التي هي بدل الدنانير فيعتبر بما لو أوفاها حقيقة، وهناك إذا انقضت الإجارة في شيء من السنة يلزم الآجر رد بعض الدراهم فهاهنا كذلك، وهذا التفريع إنما يتأتى على قول محمد وأبي يوسف الأول، أما لا يتأتى على قوله الأخر هذه المصارفة لم تصح ولا حكم لها أصلاً.

وإذا باع بالأجر ثوباً أو طعاماً كان ذلك قبل استيفاء المنفعة وقبل اشتراط التعجيل جاز البيع، لأن البيع بدين ليس بواجب في الحال ولا يجب في الثاني جائز، بأن باع بدين مظنون شيئاً ثم تصادقا على أنه لا دين فإنه يصح البيع، فلأن يصح البيع بالأجرة وإنها تجب في الثاني إن لم تجب في الحال أولى؛ وهذا لأنه ليس المقصود من إضافة البيع إلى الدين وإلى الأجرة استحقاق عينها وإنما المقصود المقاصة من الأجر ومن الثمن متعلق القدر بمثل الأجرة ديناً في الذمة.
d
وتقع المقاصة بين الأجر والثمن بعد هذا اختلف المشايخ في كيفية وقوع المقاصة، قال بعضهم: يقع الشراء بثمن مؤجل بسبب تأجيل الأجر، فإذا وجب الأجر وحل الإتيان تقاصا.

(7/413)


وقال بعضهم: يقع الشراء بثمن حال ويثبت اشتراط تعجيل الأجر من جانب المستأجر للحال فتقع المقاصة بينهما للحال لا في الثاني.
وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا انتقضت الإجارة وبقي الشراء فمن يقول: الشراء يقع بثمن مؤجل لا يكون للمستأجر مطالبة الأجير بالثمن للحال، ومن يقول الشراء يقع بثمن حال يقول: للمستأجر حق مطالبة الأجير بالثمن للحال.

وجه القول الأول: أن إضافة الشراء إلى الدين إذا كان دراهم إن لم تكن معتبرة لاستحقاق المضاف إليه بعينه فهو معتبر لتقدير الثمن به قدراً وصفاً، ألا ترى أنه لو أضاف الشراء إلى دراهم عين تعتبر الإضافة لتقدير الثمن به قدراً وصفة، فكذا هاهنا.
قلنا: والمضاف إليه الشراء فهو الأجرة في معنى المؤجل فثبت صفة التأجيل في الثمن ثم تقع المقاصة إذا حل الدينار.
وجه القول الأخر: أنا لو اعتبرنا هذه في إثبات صفة الأجل يفسد الشراء؛ لأنه يصير مشترياً بثمن يجب في الثاني لا في الحال؛ لأن الأجرة لا تحب في الحال، إنما تجب في الثاني، والشراء بمثل هذا الثمن لا يجوز فتركنا العمل بحقيقة هذه الإضافة، واعتبرنا الإضافة لوقوع المقاصة بينهما للحال بأن يقع الشراء بثمن حال، وثبت اشتراط تعجيل الأجر حتى يجب الأجر للحال، فإن الأجر يجب باشتراط التعجيل بعد الحكم.
وإذا أمكننا تصحيح الإضافة على هذا الوجه وفيه جواز العقد اعتبرنا هكذا.
قال: فإن أوفاه الحمل والشرط يسلم له ذلك، وإن لم يوفه ذلك لموت حدث أو غير ذلك من عذر فإن المستأجر يرجع على المؤاجر بالدراهم، ولا يرجع بالقرض لأن القرض صار ملكاً للمؤاجر بالشراء والشراء لم ينفسخ بانفساخ الإجارة؛ لأن الشراء ما كان متعلقاً بعين الأجر حتى ينفسخ بسقوط الأجر.

وإذا بقى الشراء صحيحاً بعد انفساخ الإجارة لا يكون للمستأجر على المقرض سبيل كما قبل انفساخ الإجارة، ويرجع المستأجر على ورثته بالدراهم لأن المستأجر أوفاه الأجر حكماً للمقاصة فيعتبر بما أوفاه حقيقة هناك لو انتقضت الإجارة قبل إيفاء العمل كان للمستأجر حق الرجوع بالأجر كذا هاهنا.
ولو أخذ بالأجرة رهناً أو كفيلاً جاز في قولهم جميعاً، أما على قول محمد: فظاهر، وأما على قول أبي يوسف: فلأن الرهن والكفالة وثيقتان وملائم هذا الدين كما لو رهن بالثمن في البيع المشروط فيها الخيار.

قال محمد رحمه الله: وإذا استأجر الرجل داراً بثوب بعينه وسكنها فليس لرب الدار أن يبيع الثوب قبل أن يقبضه، لا من المستأجر ولا من غيره لأنه بمنزلة المبيع، ألا ترى أنه لو هلك قبل أن يدفعا إلى رب الدار انتقضت الإجارة وكان على المستأجر أجر مثلها، وبيع المبيع المنقول قبل القبض لا يجوز.
وكذلك كل شيء يتعين بالتعيين، كالعروض والحيوان وغيره، وإن كانت الأجرة شيئاً من المكيل أو الموزون بغير عينه موصوفاً فلا بأس بأن يبيعه قبل أن يقبضه، لأنه ثمن

(7/414)


وهذا إذا وجب بالاستيفاء أو باشتراط التعجيل، وإن اشترى به منه شيئاً بعينه جاز، قبض ذلك في ذلك المجلس أو لم يقبض، وإن اشترى به منه شيئاً بغير عينه لا بد وإن قبض ذلك الشيء في المجلس حتى لا يقع الافتراق عن دين بدين.
وإذا استأجر الرجل داراً بعبد بعينه منه وأعتق رب الدار العبد قبل أن يقبض العبد من المستأجر، وقبل أن يسلم الدار إلى المستأجر فعتقه باطلاً؛ لأنه لا ملك له في العبد لا ملكاً تاماً ولا ملكاً موقوفاً بناءً على ما قلنا: أن الأجرة لا تملك إلا باستيفاء المنافع أو بالتعجيل أو باشتراط التعجيل، ولم يوجد شيء من ذلك هاهنا وإن كان رب الدار قد قبض العبد إلا أنه لم يسلم الدار إلى المستأجر بعد حتى اعتق العبد جاز إعتاقه، لأنه ملك العبد بالتعجيل، فالأجرة تملك بالتعجيل فقد أعتق ملك نفسه فينفذ، فإن انهدمت قبل أن يقبضها المستأجر أو عرفت أو استحقت فعلى المعتق قيمة العبد كله؛ لأن المنزل لم يسلم للمستأجر، فيجب على رب الدار رد البدل وهو العبد، وتعذر رده صورة لسبب العتق فيجب رده معنى برد القيمة، وهذا وبيع العين في هذا الحكم على السواء.
ومن باع عبداً بثوب وأعتق مشتري العبد العبد وملك الثوب قبل التسليم يجب على معتق العبد رد قيمة العبد وطريقه ما قلنا، ولو سكن المستأجر الدار شهراً وهلك العبد بعد ذلك في يد المستأجر قبل التسليم إلى رب الدار.
قال: على المستأجر أجر مثل الدار يعني بحصة الشهر؛ لأن أحد البدلين هلك قبل القبض وهو عين، والبدل الأجر، وهو القيمة قائمة؛ لأنه يجب قيمته على المستأجر رد ما قبض من المنافع بحكم فساد العقد، وتعذر رد عينها فيجب رد قيمتها وقيمة المنافع أجر المثل إلا أنه يجب أجر المثل هاهنا بالغاً ما بلغ حتى إذا كان أجر المثل أكثر مما يخص الشهر من قيمة العبد يجب ذلك كله بخلاف ما إذا كانت الإجارة فاسدة من الابتداء، فإنه لا يراد أجر المثل على ما يخص الشهر من قيمة العبد.
والفرق: أن المنافع إنما تتقوم بالعقد، وفي مسألتنا الاستيفاء في الشهر حصل بحكم عقد جائز من كل نوع؛ لأن العقد كان جائزاً حالة الاستيفاء في الشهر، وإنما فسد من بعد، فصار المستوفى متقوماً من كل وجه، فصار ملحقاً بالعين، ومتى وجب رد العين بسبب الفساد وتعذر رد عينه يجب رد قيمته بالغة ما بلغت، فأما إذا كان العقد فاسداً (17ب4) من الابتداء فالعقد وجد من وجه دون وجه، فإنه وجد بأصله لا بوصفه فيثبت التقوم للمنافع من وجه دون وجه فيثبت التقوم بقدر المسمى، ولا يثبت فيما زاد على المسمى، ففيما زاد على المسمى الاستيفاء يكون نص عقد فلا يجب بمقابلة شيء، ثم أوجب قيمة المنافع ولم يوجب قيمة العبد.
فرق بين الإجارة وبين النكاح، فإن من تزوج امرأة على عبد وهلك العبد قبل التسليم أو استحق ترجع المرأة على الزوج بقيمة البدل وهو العبد لا بقيمة المبدل وهو منافع بضعها.
وفي باب الإجارة قال: متى هلك العبد قبل التسليم فرب الدار يرجع بقيمة المبدل

(7/415)


وهو المنافع لا بقيمة البدل وهو العبد.

والفرق: أن النكاح مما لا يحتمل الفسخ بسبب من الأسباب فلا ينفسخ بهلاك العبد قبل التسليم أو استحقاقه، ففي السبب الموجب لتسليم العبد وهو عاجز عن تسليمه فيجب تسليم قيمته، أما الإجارة تحتمل الفسخ بسائر أسباب الفسخ فتنفسخ بهلاك العبد قبل التسليم واستحقاقه أو يفسد، وإذا انفسخ أو فسد وجب رد المنافع وتعذر ردها صورة فيجب ردها معنى برد قيمتها.

الفصل الخامس: في الخيار في الإجارة والشرط فيها
ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «الفتاوى الصغرى» : إذا استأجر الرجل رجلاً ما نسيت ديك روبين تشايد ببدل معلوم ففعل ذلك بالعشرة وامتنع عن الباقي، قال: إن كان قد أراه القدور وقت الاستئجار تجبر على الباقي، وإن لم يره لا يجبر؛ لأن في الوجه الأول الإجارة قد صحت، وفي الوجه الثاني لم تصح لجهالة المعقود عليه.
وعلى هذا إذا استأجر رجلاً ما مست ريد سحي قالوا ففعل ذلك بالعشرة وامتنع عن الباقي، فهو على الوجهين اللذين ذكرنا.
وأصل هذه المسائل ما ذكر محمد في الإجارات: أن من شارط قصاراً على أن يقصر له عشرة أثواب ببدل معلوم ولم يره الثياب، ولم يكن عنده كان فاسداً، وإذا أراه الثياب كان جائزاً، وإذا سمى له جنساً من الثياب.
ذكر الشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله في «شرحه» : أن هذا نظير ما لم يرها يعني يكون فاسداً، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» : أنه إن بالغ في بيان الصفة على وجه يصير مقدار عمله معلوماً فهو وإن أراه الثياب سواء فيجوز أن يكون ذلك شمس الأئمة في مسألة القدر والرند تنحى، كقوله في القصار فيتأمل عند الفتوى.
وفي «نوادر ابن سماعه» : عن أبي يوسف رحمه الله: قصار شارطه رجل على أن يقصر له ثوباً مروياً بينهم ورضي به القصار، فلما رأى القصار الثوب قال: لا أرضى به فله ذلك قال: وكذلك الخياط.

والأصل فيه أن كل عمل يختلف في نفسه باختلاف المحل يثبت فيه خيار الرؤية عند رؤية المحل وكل عمل لا يختلف باختلاف المحل لا يثبت فيه خيار الرؤية عند رؤية المحل والقصارة تختلف باختلاف المحل، وكذلك الخياطة فلأجل ذلك أثبتنا خيار الرؤية فيهما.
قال: ثمةولو استأجر رجلاً ليكتل له حنطة، فلما رأى الحنطة قال لا أرضى به فليس له ذلك، وكذلك إذا استأجر رجلاً ليحتجم له بدانق، ورضي به فلما كشف عن ظهره قال لا أرضى به فليس له ذلك لأن العمل هاهنا لا يختلف.

(7/416)


ذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» : رجل استأجر رجلاً بدرهم على أن يحلج له قطناً معلوماً وسماه فهو جائز إذا كان القطن عنده، وكذلك إذا قال قصر لي مائة ثوب مروي جاز إذا كانت الثياب عنده، فالأصل أن الاستئجار على عمل في محل هو عنده جائز والإستئجار على عمل في محل ليس عنده لا يجوز، كما لا يجوز بيع ما ليس عنده قال: وهو بالخيار إذا رأى الثياب ولا خيار له في مسألة القطن، وهو بناء على الأصل الذي قلنا.

وفي «نوادر هشام» عن محمد: رجل استأجر غلاماً سنة بدار له فاستعمل الغلام ومضت السنة ونظر آجر الغلام إلى الدار ولم يكن رآها فقال لا حاجة لي فيها، قال: له ذلك وله أجر مثل غلامه وفي المسألة نوع إشكال.
ووجهه: أن بالرد بخيار الروية ينفسخ العقد من الأصل وتصير المنافع مستوفاة بلا عقد، فكيف يتقوم والجواب أن الانفساخ لا يظهر في حق المستوفى أو نقول المنافع كما تقوم بالعقد تقوم بالشرط وبالرد بخيار الرؤية لا يتبين أن الشرط لم يكن ويثبت خيار العيب في الإجارة، كما في البيع إلا أن في الإجارة ينفرد المستأجر بالرد قبل القبض وبعد القبض وفي البيع ينفرد المشترى بالرد قبل القبض وبعد القبض يحتاج إلى القضاء أو الرضا.

وروى إبراهيم عن محمد رجل آجر من آخر داراً أشهراً مسماة ببدل معلوم على أنه بالخيار فيها شهر ودفعها إلى المستأجر فسكنها المستأجر قبل إجازة رب الدار الإجارة فلا أجر عليه فيما سكن، وإنما يجب عليه الأجر فيما يسكن بعد إجازة المالك، وجعل الخيار للإجارة كالمعدوم في حق الحكم، كما في باب البيع.
وعن إبراهيم عن محمد أيضاً رجل قال لغيره: استأجرتك اليوم على أن تنقل هذا الليل إلى موضع كذا، وذلك لا ينقل إلا في أيام كثيرة، قال: هذا على اليوم ولا يكون على العمل.
والأصل: أن المستأجر متى جمع بين العمل وبين الإضافة إلى الزمان في العقد، ومثل ذلك العمل بما لا يقدر الأجير على تحصيله في ذلك الزمان، كان العقد على الزمان، وكان استحقاق الأجر معلقاً بتسليم النفس في ذلك الزمان؛ لأن الإجارة نوع بيع فيراعى له كون المبيع مقدوراً عليه.
وفي «النوازل» : إذا قال لآخر: أجرتك هذه الدار كل شهر بدرهم على أن أهب لك أجر شهر رمضان، أو قال على أن لا أجر عليك في شهر رمضان، فهذه إجارة فاسدة.
وفيه أيضاً: أجّر حمّاماً سنة ببدل معلوم على أن يحط عنه أجر شهرين للتعطيل، فالإجارة فاسدة؛ لأن هذا شرط بغير مقتضى العقد؛ لأن مقتضاه لا يلزمه أجرة أيام التعطيل شهراً كان أو أكثر أو أقل فتحكمه بحط أجرة شهرين يخالف مقتضى العقد، حتى لو قال: على أن مقدار ما كان معطلاً فلا أجر عليه فيه يجوز لك هذا، يوافق مقتضى العقد ويقرره. وهو نظير ما قال في «الجامع الصغير» إذا اشترى زيتاً على أن يحط عنه

(7/417)


لأجل الرق خمسون رطلاً لا يجوز، ولو قال على أن يحط مقدار وزن الرق جاز.
وفيه أيضاً استأجر حماماً على أنه إن نابته نائبة فلا أجر له، فالإجارة فاسدة قال: لأن النائبة إن عرض أو يعرض له شغل فهذا شرط فاسد هكذا ذكر.

ولم يذكر أن الهاء في قوله أن نائبة ضمير الأجير أو ضمير المستأجر فإن كان ضمير المستأجر، فإنما فسدت هذه الإجارة؛ لأنه شرط يخالف موجب العقد؛ لأن موجب العقد وجوب الأجر إذا سلم الأجير نفسه للعمل مرض المستأجر أو لم يمرض؛ لأن ذلك ليس بعذر هاهنا وإن كان ضمير الأجير فإنما فسدت هذه الإجارة؛ لأنه شرط انتفاء الأجر بمطلق المرض أو اعتراض الشغل، وذلك قد لا يعجزه عن العمل، وإن أعجزه فموجبه حق الفسخ لا انتفاء الأجر ابتداء أو إن كان موجبه انتفاء الأجر، ولكن مقصود أمده المرض أو الشغل وهو قد يفي الأجرة مطلقاً بالكلية، فلأجل ذلك فسد العقد.
وفيه أيضاً: حانوت احترق، فاستأجره رجل كل شهر بخمسة دراهم، على أن يعمره على أن يحسب صفقة فعمره فهذه الإجارة فاسدة، وإنما فسدت هذه الإجارة؛ لأن هذا في معنى استئجار والمستأجر بالقيام على (18أ4) العمارة فكان إدخال صفقة في صفقة أخرى؛ ولأن شرط العمارة على المستأجر شرط يخالف قضية الشرع؛ لأن إصلاح الملك على المالك فيوجب فساد العقد، فإن سكن المستأجر الحانوت فعليه أجر المثل بالغاً ما بلغ؛ لأن الآجر لم يرض بالمسمى وحده، وللمستأجر النفقة التي أنفقها في العمارة وأجر مثله في قيامه على العمارة لما ذكرنا أن اشتراط العمارة على المستأجر في معنى استئجار المستأجر للقيام عليها أكثر ما فيه أن هذا عقد فاسد، إلا أن المنافع تتقوم بالعقد الفاسد.
وفيه أيضاً: خانٌ بعضه خراب وفيه حوانيت عامرة استأجر رجلاً العامرة كل شهر بخمسة عشر، والخراب كل سنة بخمسة على أن يعمر الخراب بما له، ويحسب نفقته من جملة الأجر، فاعلم بأن استئجار الخراب ليعمره وينتفع به بعد ذلك فاسداً، إذا شرط أن تكون العمارة للآجر لما مر وللمستأجر على المؤاجر نفقته، وأجر مثله فيما عمل وللمؤاجر أن يسترد الحوانيت الذي عمرها المستأجر منه لمّا فسدت الإجارة.
وأما الحوانيت العامرة فالإجارة فيها جائزة لعدم المفسد.

وفيه أيضاً: أجر من آخر مرجلاً شهراً ليطبخ فيه العصير، واشترط على المستأجر أن يحمله إلى منزل المؤاجر عند الفراغ، فالإجارة فاسدة؛ لأن هذا شرط يخالف مقتضى العقد والشرع؛ لأن موجب العقد أن يكون رد المستأجر على الآجر، وهذا الحكم لا يختص بالرجل؛ لأن رد المستأجر على المؤاجر في المواضع كلها على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
فاشتراطه على المستأجر في أي موضع شرط موجب فساد الإجارة، قال: وإن لم يشترط ذلك على المستأجر لا تفسد الإجارة، وإذا فرغ من عمله قبل مضي الشهر فعليه الأجر إلى تمام الشهر، وإن كان استأجر كل يوم بكذا فإذا فرغ من عمله سقط الأجر عنه ردها إلى صاحبها أو لم يردّها؛ لأن العمل على صاحبها عند الفراغ.

(7/418)


وفيه أيضاً: رجل استأجر حياتاً وكيزاناً وقال له المؤاجر: ما لم تردها علي صحيحة، فلي عليك كل يوم درهم فقبضها قال: الإجارة في الحيات فاسدة وفي الكيزان جائزة، يريد به إذا سمى للحيات أجراً معلوماً، وسمي للكيزان أجراً معلوماً فيجب للكيزان المسمى وفي الحيات أجر المثل، وإنما فسدت الإجارة في الحيات؛ لأن لها حمل ومؤنة وما له حمل ومؤنة فاشتراط رده على المستأجر يوجب فساد الإجارة.
وأما الكيزان فليس لها حمل ومؤنة فاشتراط ردها على المستأجر لا يوجب فساد الإجارة؛ لأن اشتراط ردها يقع لغواً؛ لأنه لا يجري فيه المماكسة إذا لم يكن له حمل ومؤنة.
وقيل: بفساد الإجارة في الكيزان أيضاً لأن رد المستأجر على الأجير على كل حال فاشتراطه على المستأجر اشتراط ما لا يقتضيه العقد ولأحد المتعاقدين فيه منفعة لأنه تجري المماكسة في حمل الكيزان وردها خصوصاً إذا كثرت، وقيل: لا تفسد الإجارة في الكيزان إلا إذا علم أن لها حمل ومؤنة تجري المماكسة في حملها ونقلها.

وفي «الأصل» رجل يكاري من رجل داراً منه على أنه بالخيار فيها ثلاثة أيام، فإن رضيها أخذها بمئة درهم وإن لم يرضها أخذها بخمسين درهماً، فذلك فاسد لوجهين: أحدهما أنهما صفقتان في صفقة أو شرطان في عقد واحد، وكل ذلك لا يجوز والثاني أن الأجر مجهول، فإنه مئة إن رضيها وخمسون إن لم يرضها ولا يدري أيرضاها أو لا يرضاها.
فرق أبو حنيفة رحمه الله بين هذه المسألة وبينما إذا استأجر منزلاً على أنه إن قعد فيه خياطاً فأجره كل شهر عشرة، وإن قعد فيه حداداً أو قصاراً أو طحاناً فأجر كل شهر عشرون فإن الإجارة جائزة على قول الآجر، وهنا قال: لا يجوز.
والفرق: أن هناك الإجارة وقعت على منفعتين مختلفتين، وسمي لكل واحدة بدلاً معلوماً وشرط لنفسه الخيار وهذا جائز في بيع العين، فإنه لو اشترى عبدين على أنه بالخيار، إن اختار هذا أخذه بألفين وإن اختار هذا أخذه بألف فهو جائز، وكذلك في الإجارة فإنه إذا دفع إلى خياط ثوباً على أنه إن خاطه رومياً فله درهم، وإن خاطه فارسياً فله نصف درهم، فذلك جائز فكذا هاهنا.
أما في هذه المسألة أوقع العقدين على صفقة واحدة ببدلين مختلفين على أنه بالخيار.

ومثل هذا لا يجوز في بيع العين فإنه لو اشترى عبداً على أنه بالخيار إن رضيه أخذه بألف درهم وإن لم يرضه أخذه بخمسمئة كان العقد فاسداً، فكذا في بيع المنفعة فإن سكنها وجب عليه أجر المثل في ثلاثة أيام، وبعد ثلاثة أيام أما بعد ثلاثة أيام فلأنه سكنها بحكم العقد، وأما في ثلاثة أيام؛ فلأن الفاسد من المعقود معتبر لتصبح الإجارة صحيحة، وللمستأجر فيه خيار إذا سكنها في الأيام الثلاثة وجب عليه الأجر وكانت السكنى منه دليل الاختيار كذا إذا كان فاسداً ولا يضمن ما انهدم من سكناه لا في مدة

(7/419)


الخيار، ولا بعد مضي مدة الخيار وليس لأحدهما فيه خيار الشرط فكان معتبراً بالصحيح من الإجارة التي ليس لأحد فيها خيار ولا يضمن ما انهدم من سكناه في مدة الخيار لأن الفاسد من المعقود معتبر بالصحيح.

ولو كانت الإجارة جائزة والخيار فيها للمستأجر إذا سكن في مدة الخيار وانهدم الدار من سكناه لم يضمن؛ لأن بالسكنى سقط خياره وملكا عندهم جميعاً فصار مستوفياً بحكم الإجارة فلم يضمن ما انهدم من سكناه فكذلك هذا.
كما في بيع العين إذا كان المشتري بالخيار وقبض ما اشترى وهلك شيء مما في يده لزمه البيع، وكان عليه الثمن كذا هاهنا وهذا بخلاف ما لو كان الخيار مشروطاً لصاحب الدار، فإنه يضمن المستأجر قيمة ما انهدم من سكناه في مدة الخيار، كما في بيع العين إذا هلك شيء في يد المشتري وكان الخيار للبائع، فإنه يضمن قيمة ذلك كما لو كان غاصباً فكذلك هذا.
وإن قال: لنا بالخيار ثلاثة أيام فإن رضيتها أخذتها بمئة درهم كانت الإجارة جائزة، لأن البدل معلوم إلا أنه شرط فيها خيار وصار الشرط مما لا يفسد عقد الإجارة عندنا.

وقال الشافعي: بأنه يفسدها وذهب في ذلك إلى أن خيار الشرط في الإجارة يجعل الإجارة بمعنى المضاف؛ لأن الخيار متى سقط لا يقع الملك من وقت العقد؛ لأن ما وجد من المنافع في مدة الخيار بثلاث، وإنما يقع من حين سقوط الخيار فيصير بمعنى المضاف ومن مذهبه أن إضافة الإجارة إلى وقت أبي لا يجوز بخلاف البيع؛ لأن البيع قائم وقت سقوط الخيار، فلا يصير بمعنى المضاف.
وعلماؤنا رحمهم الله ذهبوا في ذلك إلى أنه من كأنه يصير بمنزلة المضاف إلى وقت سقوط الخيار إلا أن إضافة الإجارة إلى وقت أبي جائز عندنا؛ لأن الإجارة مما يتحدد انعقادها على حسب حدوث المنافع في نفسها فيصير مضافاً من حيث الاعتبار فتصير المسألة على هذا فرعاً لتلك المسألة، فإن سكنها في ثلاثة أيام فقد لزمته الإجارة وكان عليه أجر ما سكن ولا ضمان عليه فيما انهدم قالوا: أورد هذه المسألة عقيب الأولى ليثبت حكم إجارة صحيحة شرط فيها الخيار للمستأجر حتى يعتبر الفاسد به رجل استأجر ثوراً من رجل ليطحن عليه كل يوم عشرين قفيراً فوجده المستأجر لا يطحن إلا عشرة أقفرة كان المستأجر بالخيار، وإن شاء رضي به كذلك وإن شاء رد؛ لأنه لم يسلم له شرط منتفع به فيتخير.
كما لو اشترى عبداً على أنه كاتب أو خباز فوجده غير كاتب وغير خباز فإن (18ب4) رضي به لزمه أجر كل يوم بتمامه كما في بيع العين إذا رضى بالعبد كذلك غير كاتب وغير خباز لزمه جميع الثمن، وإن كان عليه أجر اليوم الذي استعمله بتمامه ولا يحط عنه شيء بسبب النقصان عن العمل؛ لأن الإجارة وقعت على الوقت، ولهذا يستحق الأجر وإن لم يطحن عليها شيئاً وكان ذكر المقدار لبيان قوة الدابة ومبلغ عمله لا لتعليق

(7/420)


به، وإذا كان العقد واقعاً على الوقت لا على العمل يوزع الأجر على الأيام لا على العمل فلزمه أجر اليوم الذي استعمله بتمامه.h

الفصل السادس: في الإجارة على أحد الشرطين أو على الشرطين أو أكثر
الأصل إن الإجارة إذا وقعت على أحد شيئين وسمى لكل واحد أجراً معلوماً بأن قال: أجرتك هذه الدار بخمسة أو هذه الأخرى بعشرة أو كان هذا القول في حانوتين أو عبدين أو بستانين مختلفتين نحو أن يقول: إلى واسط بكذا أو إلى الكوفة بكذا، فذلك كله جائز عند علمائنا.
وكذلك إذا خيره بين ثلاثة أشياء وإن ذكر أربعة أشياء لم يجز، وكذلك هذا في أنواع الصبغ والخياطة إذا ذكر ثلاثة جاز، فإن زاد عليها لم يجز استدلالاً بالبيع؛ وهذا لأن عقد الإجارة تسامح فيها من يحمل الجهالة والخطر ما لا يتحمل في البيع، فإذا جاز في البيع إلى ثلاثة فلأن يجوز في الإجارة أولى.
إلا أن فرق ما بين الإجارة والبيع أن الإجارة تصح من غير شرط الخيار والبيع لا يصح من غير شرط الخيار، حتى إن من باع أحد العينين لا يجوز إلا بشرط الخيار وإجارة أحد الشيئين يجوز من غير شرط الخيار.
والفرق: أن الأجرة لا تجب بنفس العقد وإنما تجب بالعمل فإذا أخذ في أحد العملين صار البدل معلوماً عند وجوبه بخلاف البيع؛ لأن الثمن يجب بنفس العقد وإنه مجهول أو نقول عقد الإجارة في حق المعقود عليه كالمضاف، وإنما ينعقد عند إقامة العمل وعند ذلك لا جهالة بخلاف البيع؛ لأن عقد البيع لازم في الحال وفي الحال الجهالة مستحقة ولو قال للخياط إن خطته فارسياً فلك درهم وإن خطته رومياً فلك درهمان، أو قال للصباغ: إن صبغته بعصفر فلك درهمان وإن صبغته بزعفران فلك درهم فهذا جائز، لما ذكرنا أن الأجرة حال وجوبها تصير معلومة.
ولو قال: أجرتك هذه الدار على أنك إن قعدت فيها حداداً فالأجر عشرة، وإن قعدت فيها خياطاً فالأجر خمسة جاز في قول أبي حنيفة الآجر، وقال أبو يوسف ومحمد الإجارة فاسدة لأن الأجر هاهنا لا يجب بالسكنى بل بالتخلية.

ألا ترى أنه لو لم يسكن الدار بعدما خل الآجر بينه وبين الدار يجب الأجر بالتخلية كان الأجر مجهولاً وقت الوجوب؛ لأنه لا يدري أن التخلية وقعت للحدادة فيجب عشرة أو للخياطة فيجب خمسة بخلاف الرومي والفارسي؛ لأن هناك الأجر لا يجب إلا بالعمل والعمل بعد وجوده معلوم في نفسه فكان الأجر معلوماً حالة الوجوب.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول: على قوله الآخر الأجرة لا تملك بنفس العقد عندنا، وإنما تملك بالعمل وحالة العمل الأجرة معلومة.
وعلى هذا إذا أجر دابة من إنسان إلى

(7/421)


مكان معلوم على أنه إن حمل عليها حنطة فالأجر عشرة وإن حمل عليها شعيراً فالأجر خمسة جاز في قول أبي حنيفة الآخر خلافاً لهما.

وعلى هذا إذا استأجر دابة إلى مكان معلوم على أنه إن حمل عليها هذه الحمولة فالأجر عشرة وإن ركبها فالأجر خمسة فالعقد جائز في قول أبي حنيفة خلافاً لهما مما قالا، بأن الأجر قد يجب بدون الركوب.
ألا ترى أنه لو ساقها ولم يركبها وقد شرط في العقد الركوب يجب الأجر، وكذلك إذا ساقها ولم يحمل عليها وقد شرط في العقد الحمل يجب الأجر، فإذا ساقها وقد شرط في العقد ما وضعت لك من الركوب أو الحمل لا يدري ما يعطيه من الأجر، ولأبي حنيفة رحمه الله ما ذكرنا أن الأجر لا يجب بنفس العقد وإنما يجب بالعمل وحال وجوده الأجر معلوم.
واختلفت عبارة المشايخ على قول أبي حنيفة في تخريج مسألة الدابة والدار إذا سلم الدار ولم يسكن وإذا سلم الدابة ولم يحمل عليها شيئاً ولم يركبها.
بعضهم قالوا: يجب أقل المسميين؛ لأن التسليم لا يكون لهما وإنما يكون لأحدهما فمتى جعلناه للخياطة أو للشعير أو للركوب فالخمسة واجبة، ومتى جعلناه للحدادة أو للحنطة أو للحمل، فالعشرة واجبة والخمسة منتفية، وما زاد عليها مشكوك والمال لا يجب بالشك.

وإذا كان كذلك كان موجب هذا العقد خمسة متى وجب الأجر بالتسليم بدون العمل، والمسمى بمقابلة كل منفعة إن وجد استيفاء المنفعة وكل ذلك معلوم حالة الوجوب.
وبعضهم قالوا: إذا وجد التسليم ولم يوجد استيفاء المنفعة يجعل التسليم لهما إذ ليس أحدهما بأن يجعل التسليم له بأولى من الآخر فيجعل النصف لهذا والنصف للآخر فيجب نصف أجر الحدادة ونصف أجر القصارة ونصف أجر الحمل ونصف أجر الركوب، إذا وجب هكذا صار موجب هذه الإجارة سبعة ونصف متى وجب الأجر بالتسليم بدون استيفاء المنفعة، وإن وجد استيفاء المنفعة يجب المسمى بمقابلة تلك المنفعة وكل ذلك معلوم حالة الوجوب.
قال في «الجامع الصغير» : إذا استأجر من آخر دابة إلى الحيرة بنصف درهم، فإن جاوزتها إلى القادسية فدرهم فهو جائز، ذكر المسألة مطلقة من غير ذكر خلاف، فيحتمل أن يكون هذا قول الكل ويحتمل أن يكون قول أبي حنيفة خاصة كما في المسائل المتقدمة.
وذكر الكرخي مثل هذه المسألة وفصّل الجواب فيها تفصيلاً.
وصورة ما ذكر الكرخي: إذا استأجر دابة من بغداد إلى القصر بخمسة وإلى الكوفة بعشرة، فإن كانت المسافة إلى القصر نصف المسافة إلى الكوفة فالعقد جائز وإن كان قأل أو أكثر فالعقد فاسد، وهذا لأن المسافة إلى القصر إذا كانت نصف المسافة إلى الكوفة فحال ما يسير فالأجر معلوم، وهو خمسة إلى القصر جاوز القصر أو لم يجاوز، فأما إذا

(7/422)


كانت المسافة إلى القصر أقل من النصف أو أكثر فحال ما يسير الأجر مجهولاً؛ لأنه إذا لم يجاوز القصر فالأجر خمسة وإن جاوز فالأجر إلى القصر بقدر حصته وذلك دون الخمسة أو فوقها فكان الأجر مجهولاً حال سبب الوجوب، وهذا على «أصل» محمد؛ لأن عنده جهالة الأجر عند وجود سبب الوجوب يفسد العقد، فأما على أصل أبي حنيفة رحمه الله فالعقد جائز والوجه ما ذكرنا.

وذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» : أن من أجر دابة على أنه إن أتى عليها الكوفة فبعشرة وإن أتى القصر وهو المنتصف فبخمسة فهو جائز قال: وإن قال: وإن القصر وهو المنتصف فبستة لا يجوز قال: لأنه إذا أتى القصر لا يدري ما عليه ست أو خمسة.
كتب ابن سماعة إلى محمد رحمه الله: في رجل استأجر رجلاً على عدل قطن وعدل هروي وقال احمل أي هذين العدلين شئت إلى منزلي على أنك إن حملت القطن فلك أجر درهم، وإن حملت الهروي فلك أجر درهمين، فحمل الهروي والقطن جميعاً إلى منزله فالإجارة جائزة، وأيهما حمل أول مرة فهو الذي ألقاه الإجارة وهو متطوع في حمل الآخر ضامن له إن ضاع في قولهم جميعاً؛ وهذا لأن الإجارة وقعت في أحدهما لا بعينه فإذا حمل أحدهما بعين هو معقوداً عليه وانتهت الإجارة بحمله فيكون متطوعاً في حمل الآخر ضرورة، وهو ضامن للآخر إن ضاع في يده؛ لأن حمل الآخر حصل بغير إذن وإن حملهما جملة فعليه نصف أجر كل واحد منهما وعليه ضمان نصف كل واحد منهما عند أبي حنيفة إن ضاعا واشترك كل واحد منهما عند أبي حنيفة إن ضاعا واعتبر كل واحد منهما معقوداً عليه من وجه دون وجه ونصف الحملان عنده.
ألا ترى كيف ينصف الأجر بلا خلاف. وعلى قولهما خمنهما إن ضاعا؛ لأنه انعقد سبب الضمان على حق كل واحد منهما وهو القبض في أوانه. (19أ4)
وفي «نوادر هشام» عن محمد رحمه الله: إذا قال لغيره: إن حملت هذه الخشبة إلى موضع كذا فلك درهم، وإن حملت هذه الخشبة الأخرى إلى ذلك الموضع فلك درهمان، فحملهما حملة إلى ذلك الموضع، فله درهمان أوجب أكثر الأجرين بكماله وإنه يخالف رواية ابن سماعة في العدلين.
ولو قال للخياط: إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غداً فلك نصف درهم، فالشرط الأول صحيح في قول أبي حنيفة رحمه الله، حتى إنه لو خاطه في اليوم الأول وجب له درهم والشرط الثاني فاسد حتى لو خاطه في اليوم الثاني يجب أجر المثل.

وقال أبو يوسف ومحمد: الشرطان جائزان حتى لو خاطه في اليوم الأول فله درهم ولو خاطه في اليوم الثاني فله نصف درهم.
وقال زفر رحمه الله: الشرطان باطلان هكذا ذكر المسألة في «الجامع الصغير» .
وذكر في إجازات «الأصل» : إذا دفع الرجل إلى رجل ثوباً ليخيطه له قميصاً وقال له: إن خطته اليوم فلك درهم وإن لم تفرغ منه اليوم فلك نصف درهم، وذكر الخلاف على نحو ما ذكر في «الجامع الصغير» حكي عن الفقيه أبي القاسم الصفار أنه قال:

(7/423)


الصحيح موضوع ما ذكر في «الجامع الصغير» أما على ما هو موضوع كتاب الإجارات ينبغي أن تفسد الإجارة في اليوم والغد جميعاً بلا خلاف.

ووجه ذلك، لأن هذا عقد واحد شرط فيه شرط فاسد ومثل هذا الشرط لا يوجب فساد الإجارة.
بيانه: أن قوله وإن لم تفرغ منه اليوم ليس بإجارة على حدة لأنه مما لا تبتدأ به الإجارة فتكون شرطاً مشروطاً في الإجارة المضافة إلى اليوم، وإنه شرط فاسد؛ لأنه يوجب تغير الأجر الواجب في اليوم إلى النقصان؛ لأنه متى خاط نصف الثوب في اليوم مثلاً يجب نصف الأجر قضية للعقد المضاف إلى اليوم، وإذا لم يخط الباقي اليوم يصير أجر ذلك النصف ربعاً بعد أن كان نصفاً.
فهو معنى قولنا هذا عقد واحد فيه شرط فاسد بخلاف قوله: إن خطته اليوم فلك درهم، وإن خطته غداً فلك نصف درهم؛ لأنهما إجارتان؛ لأن قوله وإن خطته غدا مما تبتدأ به الإجارة لم يشترط في أحدهما شرط فاسد فعلم أن الصحيح موضوع ما ذكر في «الجامع الصغير» فرق أبو حنيفة بين هذه المسألة.
وبينما إذا قال له: إن خطته تركية أو رومية فلك درهم وإن خطته فارسية فلك نصف درهم، فإن هناك يجوز الشرطان بلا خلاف.

والفرق: أن في مسألة اليوم والغد علقا استحقاق نصف درهم بفوات العمل في اليوم وموجود العمل في الغد؛ لأن كلمة إن للشرط وتعليق الأجرة بالعمل في الغد إن كان يصح؛ لأنه تعليق البدل بإيفاء المعقود عليه فتعليقها بفوات العمل لا يصح كتعليقها بشرط آخر، فأما في اليوم استحقاق الأجرة معلق بإيفاء المعقود عليه، وهذا لا يوجب فساد العقد وفي التركية والفارسية ما علق الأجر بفوات شيءولا بوجوده فإنه يقدر أن يشتغل للحال بأي عمل شاء فيصير الأجر معلوماً.
أما في المسألة اليوم والغد لا يقدر أن يشتغل بالعمل في الغد، إلا بفوت اليوم وفوات العمل في اليوم فيتعلق استحقاق نصف درهم بالشرط فيفسد العقد، فيجب أجر المثل في اليوم الثاني فإن خاطه في الغد فله أجر مثله لا يزاد على درهم ولا ينقص من نصف درهم فهذا يشير إلى أنه يجوز أن يراد على نصف درهم، وهو رواية الأصل «والجامع الصغير» .
وروى ابن سماعه عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: أن له أجر مثله لا يزاد على نصف درهم، فصار عن أبي حنيفة في المسألة روايتان وصحح القدوري رواية ابن سماعه، ولو خاطه في اليوم الثالث فله أجر مثله في قولهم، واختلفت الروايات عن أبي حنيفة رحمه الله في ذلك روي عنه أنه لا يزاد على درهم ولا ينقص من نصف درهم وروي عنه رواية أخرى أنه لا يجاوز به نصف درهم وينقص عن نصف درهم إن كان أجر مثله أقل من نصف درهم.
واختلفت الروايات في ذلك عنهما أيضاً قال القدوري: في «شرحه» والصحيح عندهما أنه ينقص عن نصف درهم ولا يزاد عليه، ولو قال إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فلا أجر لك.

(7/424)


قال محمد في «الأصل» : إن خاطه في اليوم الأول فله درهم وإن خاطه في اليوم الثاني فله أجر مثله لا يزاد على درهم في قولهم جميعاً؛ لأن إسقاط الأجر في اليوم الثاني لا ينفي وجوبه في اليوم الأول ونقي التسمية في اليوم الثاني لا ينفي أصل العقد، فكان في اليوم الثاني عقد لا تسمية فيه فيجب أجر المثل هذا الذي ذكرنا إذا جمع بين الأمرين، فأما إذا أفرد العقد على اليوم بأن قال: أن خطته اليوم فلك درهم ولم يزد على هذا فخاطه في الغد، هل يستحق الأجر لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في شيء من الكتب.
وكان الفقيه أبو بكر البلخي رحمه الله يقول: إن على قولهما يستحق أجر المثل متى خاطه في الغد بلا شبهة وبمثل؛ لأن ذكر اليوم عندهما حالة الانفراد للاستعجال لا للتوقيت، ولهذا صحت هذه الإجارة عندهما حالة الانفراد عل ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وإذا كان ذكر الوقت حالة الانفراد عندهما للاستعجال لا للتوقيت، كان العقد ثابتاً في الغد على قولهما بلا بمثل فيكون عاملاً بحكم الإجارة فيستحق الأجر إلا أنه يستحق أجر المثل دون المسمى؛ لأن المستأجر إنما شرط له الدرهم بأداء خياطة معجلة في اليوم، وقد أتى بخياطة مؤجلة والخياطة المؤجلة أنقص عن الخياطة المعجلة من حيث المعنى، فكأنه أتى بما لقرنه في الغد ولكن خالفه في صفة من أوصاف ما لقرن ولو كان كذلك كان لصاحب الثوب أن يعطيه أجر المثل دون المسمى حتى يدفع ضرر النقصان عن نفسه كذا هاهنا.
وأما على قول أبي حنيفة: فلقائل أن يقول: بأنه لا أجر له متى عمل في الغد؛ لأن أبا حنيفة رضى الله عنه يجعل ذكر العمل اليوم للتوقيت حالة الانفراد حتى قال بفساد هذه الإجارة لأنه باعتبار التوقيت تكون الإجارة منعقدة على تسليم النفس في المدة وباعتبار ذكر العمل تكون الإجارة منعقدة على العمل، فيصير المعقود عليه مجهولاً.

وإذا ثبت هذا من مذهبه حالة الانفراد فيقول بأحد الاعتبارين وهو اعتبار العقد على العمل يجب الأجر إذا عمل في الغد، وباعتبار الأجر وهو التأقيت لا يجب الأجر؛ لأنه لم يبق العقد وأنه لم يكن واجباً فلا يجب بالشك والاحتمال ولقائل أن يقول: بأن عليه الأجر؛ لأن العقد منعقد في اليوم أي الأمرين ما اعتبرنا إلا أن بأحد الاعتبارين يبقى في الغد، وباعتبار الآخر لا يبقى والعقد كان ثابتاً فلا يرتفع بالشك وإذا نفي العقد كان قابلاً في الغد بحكم العقد، إلا أنه يجب أجر المثل؛ لأن العقد في الغد يبقى بوصف الفساد؛ لأنه يبقى من وجه دون وجه، ومثل هذا يوجب فساد العقد كما في بيع المقايضة إذا هلك أحد البدلين فإنه يبقى العقد ولكن وصف الفساد كذا هاهنا فكأن المنافع في الغد مستوفاة بحكم عقد فاسد، فيجب أجر المثل.

ومما يتصل بهذا الفصل
إذا جمع في عقد الإجارة بين الوقت والعمل.

(7/425)


قال محمد رحمه الله: في «الجامع الصغير» : رجل استأجر خبازاً ليخبز له هذه المحاسم دقيق هذا اليوم بدرهم فهو فاسد.
وفي إجارات «الأصل» عن أبي يوسف ومحمد أنه جائز هما يقولان تصحيح العقود واجب ما أمكن وقد أمكن بأن يجعل العقد واقعاً على العمل وهو الخبز فيكون أجير مشترك، وهذا لأنه أوقع العقد على العمل ابتداء وقوله اليوم وإن كان ذكر الوقت إلا أنه يحتمل أنه أراد به إيقاع العقد على المنفعة فيكون أخر وحل فيفسد العقد لجهالة المعقود عليه، وتحمل أنه قصد بذكر الوقت الاستعجال لا إيقاع العقد على المنفعة فيبقى أجير مشترك فيصح العقد (19ب4) فيحمل ذكر اليوم على سبيل الاستعجال تصحيحاً للعقد بقدر الممكن.
وأبو حنيفه رحمة الله عليه يقول: المعقود عليه مجهول وجهالة المعقود عليه تمنع جواز العقد.
بيانه: إن ذكر الوقت يدل على أن المعقود عليه المنافع إذ الوقت يختص بتقدير المنافع، وذكر العمل في الابتداء يدل على أن المعقود عليه العمل والجمع بينهما غير ممكن؛ لأن العمل متى جاز معقوداً عليه لا يجب إلا بالعمل ومتى صار المعقود عليه المنفعة يجب الأجر بتسليم النفس وأغراض الناس مختلفة فيجهل المعقود عليه وإنه يوجب فساد العقد.
وقولهما: بأن ذكر الوقت للتعجيل فيه نظر؛ لأن أغراض الناس ورغباتهم مختلفة قد يكون الغرض إيقاع العقد على المنفعة فلا يترجح أحدهما مع المماثلة في النوعية من غير دليل.
وفي إجارات «الأصل» : إذا استأجر الرجل من آخر ثوراً يطحن عليه كل يوم عشرين قفيزاً فهذه الإجارة جائزة، ولم يذكر فيها خلافاً فمن مشايخنا، من قال: هذا الجواب يجب أن يكون قولهما، أما على قول أبي حنيفة ينبغي أن تفسد الإجارة على قياس مسألة الخبز؛ لأنه جمع بين الوقت والفعل في المسألتين جميعاً فكان المعقود عليه محهولاً.
ومنهم من قال: لا بل هذه الإجارة جائزة على قول الكل فهذا القائل يحتاج إلى الفرق لأبي حنيفة رحمه الله بين هذه المسألة وبين مسألة الخبز.

والفرق هو: أن ذكر مقدار العمل في باب الطحن في العرف والعادة لا يكون لتعليق العقد بالعمل حتى يصير العمل معقوداً عليه مع الوقت، فيوجب فساد الإجارة للجهالة، وإنما يكون لبيان قوة الدابة ومبلغ عمله، وإذا كان لهذا يذكر في العرف والعادة بقيت الإجارة على الوقت، فجاز عندهم جميعاً، فأما في الخباز مقدار العمل لا يذكر عرفاً وعادة لبيان قوة الخباز ومبلغ عمله، وإنما يذكر لتعليق العقد بالعمل وصيرورته معقوداً عليه، فيصير جامعاً بين الوقت والعمل، فيصير المعقود عليه مجهولاً فأوجب فساده حتى أن في مسألة الخباز لو كان يذكر مقدار العمل لبيان قوة الخباز ومبلغ عمله، تقول بجواز الإجارة على قول أبي حنيفة وفي مسألة الطحن لو كان يذكر مقدار العمل لتعليق العقد به

(7/426)


نقول بأنه لا تجوز الإجارة على قول أبي حنيفة.

وفي «الأصل» أيضاً: لو شرط على الخباز أن يخبز له هذه العشرة المحاسم دقيق، وشرط عليه أن يفرغ منه اليوم تجوز هذه الإجارة عندهم جميعاً.
وإن ذكر الوقت والعمل فأبو حنيفة رحمه الله يحتاج إلى الفرق بين هذه المسألة وبين المسألة الأولى.
والفرق: أن في مسألة الفراغ اليوم ما ذكر مقصوداً وإنما ذكر الإثبات صفة في العمل وهو الفراغ منه في اليوم وصفة العمل تبع للعمل لا يصلح معقوداً عليه مقصوداً فكذا ما ذكر لأجله من اليوم لا يصلح معقوداً عليه مقصوداً فيعين العمل معقوداً عليه فجاز.
بمنزلة ما لو اشترى عبداً على أنه كاتب أو خباز فإن الكتابة والخبازة لا تجعل معقوداً عليه مقصوداً حتى لا يكون بإزائها ثمن؛ لأنها ذكرت صفة للعبد فكانت تبعاً فكذا هاهنا فأما في تلك المسألة اليوم لم يذكر لإثبات صفة في العمل فكان مذكوراً مقصوداً كالعمل، وقد أضيف العقد إليهما إضافة على السواء ليس أحدهما بأن يجعل معقوداً عليه بأولى من الآخر فيصير المعقود عليه مجهولاً.

قال في «الأصل» أيضاً: وإذا دفع الرجل عبده إلى حائك يعلمه النسيج وشرط عليه أن يحدقه في ثلاثة أشهر بكذا وكذا، فهذا لا يجوز؛ لأن التحديق ليس في وسعه وكان ينبغي أن يجوز هذا العقد على قولهما، وإن لم يكن التحديق في وسعه؛ لأن العقد وقع على المدة كما لو استأجره يوماً ليبيع ويشتري، فإنه يجوز وإن لم يكن ذلك في وسعه؛ لأن العقد وقع على المدة.
والجواب وهو الأصل من جنس هذه المسائل عندهما أن العقد على المدة، إنما يصح عندهما إذا ذكر مع المدة نوعاً من العمل معلوماً في نفسه كما في البيع والشراء، فإنه معلوم في نفسه إلا أنه من غير ذكر المدة لا يجوز العقد؛ لأن من غير ذكر المدة العقد يقع على العمل، والعمل ليس في وسعه، وإذا ذكر المدة فالعقد يقع على تسليم النفس في المدة لهذا العمل، وذلك في وسعه.
قلنا: والتحديق ليس بمعلوم في نفسه؛ إذ ليس له حد يعرف به لا للأقصى ولا للأدنى وإذا لم يكن معلوماً في نفسه صار ذكره والعدم بمنزلة، ولو انعدم ذكر العمل أليس أنه لا تجوز الإجارة.
والأصل عند أبي حنيفة: أنه إذا جمع بين الوقت والعمل في عقد الإجارة إنما يفسد العقد إذا ذكر كل واحد منهما على وجه يصلح معقوداً عليه حالة الانفراد الوقت والعمل، أما إذا ذكر العمل على وجه لا يجوز إفراد العقد عليه لا يفسد العقد.

(7/427)


بيانه فيما ذكر في آخر باب إجارة البناء: إذا تكارى رجل رجلاً يوماً إلى الليل ليبني له بالجص والآجر جاز بلا خلاف، وإن جمع بين الوقت والعمل؛ لأنه ما ذكر العمل على وجه يجوز إفراد العقد عليه، فالعقد انعقد على المدة وكان ذكر البناء لبيان نوع العمل حتى لو ذكر العمل على وجه يجوز إفراد العقد عليه، بأن بين مقدار البناء لا تجوز الإجارة عند أبي حنيفة.

وفي آخر إجارات «الأصل» إذا استأجر الرجل رجلاً كل شهر بدرهم على أن يطحن له كل يوم قفيزاً إلى الليل فهو فاسد، ذكر المسألة من غير ذكر خلاف وهذا الجواب مستقيم على قول أبي حنيفة؛ لأنه جمع بين الوقت وبين العمل وكل واحد منهما يصلح معقوداً عليه حالة الانفراد مشكل على قولهما، فقد ذكرنا قبل هذا في جنس هذه المسألة أن على قولهما العقد جائز.
m
فمن مشايخنا من قال بهذه المسألة ثبت رجوعهما إلى قول أبي حنيفة إذ لا يتضح الفرق بين هذه المسألة وبين تلك المسائل، ومنهم من قال: ما ذكر في هذه المسألة قياس قولهما، وما ذكر فيما تقدم استحسان على قولهما، إذ لا فرق بين هذه المسألة وبين تلك المسائل والله أعلم.
قال محمد رحمه الله في «إملائه» : قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا اكترى إبلاً إلى مكة على أن يدخله إلى عشرين ليلة كل بعير بعشرة دنانير، ولم يزد على هذا فالإجارة جائزة فإن وفى بالشرط أخذ الأجر الذي شرط وإن لم يفي بالشرط فله أجر مثله لا يزاد على ما شرط له، وهو قول أبي يوسف ومحمد.
وروى بشر عن أبي يوسف: في الرجل يستأجر الدابة إلى الكوفة أياماً مسماة أو قال استأجرتك اليوم لتخيط هذا القميص، فالعقد فاسد في رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة تخالف رواية محمد عنه.
قال الكرخي: وليس في المسألتين اختلاف الرواية، وإنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع موضوع رواية محمد أنه ابتدأ بذكر العمل والمسير فيكون المقصود هو العمل وذكر المدة بعد ذلك للاستعجال، فكان المعقود عليه معلوماً وهو العمل فيجوز على قول أبي حنيفة رحمه الله فبعد ذلك إذا عجل فقد وفى بالشرط فاستحق المسمى، وإذا لم يعجل فلم يف بالشرط فيجب أجر المثل وموضوع رواية محمد أنه ذكر المدة أولاً فعلم أن المدة مقصودة بالعقد، وذكر العمل وأنه يصلح مقصوداً أيضاً فكان المعقود عليه مجهولاً عند أبي حنيفة فلم يجز.

وقد ذكرنا في أول هذا الفصل مسألة «الجامع الصغير» : وهي ما إذا استأجر خبازاً ليخبز له هذه العشرة المحاسيم دقيق هذا اليوم أنه فاسد على قوله، وإن ابتدأ بذكر العمل، فعلم أن ما ذكره الكرخي ليس بصحيح، وأن في المسألة روايتين على قول أبي حنيفة.
وقد قيل: الفتوى على قول أبي حنيفة على الفساد سواء ابتدأ بذكر المدة أو بذكر

(7/428)


العمل إذا لم يتم العقد على المذكور أولاً، بأن لم يذكر الأجر معه، فأما إذا تم العقد على المذكور أولاً بأن ذكر الأجر معه، ثم ذكر الثاني لا يفسد العقد عند أبي حنيفة سواء ابتدأ بذكر العمل أو بذكر المدة، (20أ4) .
وصورة ذلك إذا قال للخباز: استأجرتك اليوم بدرهم على أن تخبز لي كذا، أو قال: استأجرتك على أن تخبز لي كذا بدرهم اليوم، فهذه الإجارة جائزة عند أبي حنيفة في الوجهين جميعاً، ولو قال: استأجرتك اليوم على أن تخبز لي كذا بدرهم، أو قال: استأجرتك على أن تخبز اليوم كذا بدرهم فهذه الإجارة عند أبي حنيفة لا تجوز في الوجهين جميعاً؛ وهذا لأنه إذا لم يذكر الأجر مع الأول وإنما ذكر الأجر بعد ذكرهما فقد قابل الأجرتين كل واحد منهما يصلح معقوداً عليه وليس أحدهما بأولى من الآخر، فكان المعقود عليه مجهولاً يفسد العقد عنده، وأما إذا ذكر الأجر مع الأول، فقد تم العقد وتعين الأول مراداً من العقد بتمام العقد فالثاني لا يصلح من إجماله، ويكون ذكر الثاني إما لتعيين العمل أو للتعجيل فلا يفسد العقد عنده.
وروى محمد عن أبي حنيفة: أنه إذا قال: في اليوم تجوز كيف ما كان بخلاف ما إذا قال: اليوم، وهذا لأن بقوله في اليوم يظهر أن مراده من ذكر المدة للاستعجال؛ لأن في الظرف والمظروف قد يستعمل جزءاً من الظرف لا جميعه، فلم يصلح ذكر اليوم مع حرف في تقدير العمل به.

وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا تقبل الرجل من رجل طعاماً على أن يحمله من موضع إلى موضع إلى اثنى عشر يوماً بكذا، فلم يحمله في اثنى عشر يوماً بل حمله في أكثر من ذلك قال: لا يلزمه الأجر، كمن استأجر رجلاً على أن يخيط ثوبه في يومه بدرهم فخاطه في الغد، وهذا الجواب مستقيم على قول أبي حنيفة غير مستقيم على قولهما؛ لأن من أصلهما: أن العقد في مثل هذا يقع على العمل دون الوقت.

الفصل السابع: في إجارة المستأجر
قال محمد رحمه الله: وللمستأجر أن يؤاجر البيت المستأجر من غيره، فالأصل عندنا: أن المستأجر يملك الإجارة فيما لا يتفاوت الناس في الانتفاع به؛ وهذا لأن الإجارة لتمليك المنفعة والمستأجر في حق المنفعة قام مقام الآجر، وكما صحت الإجارة من الآجر تصح من المستأجر أيضاً فإن أجره بأكثر مما استأجره به من جنس ذلك ولم يزد في الدار شيء ولا أجر معه شيئاً آخر من ماله مما يجوز عند الإجارة عليه، لا تطيب له الزيادة عند علمائنا رحمهم الله وعند الشافعي تطيب له الزيادة.
حجته في ذلك: أن هذا ربح بما قد ضمن فيطيب له كما في بيع العين.
فإنه إذا اشترى شيئاً فباعه بأكثر مما اشترى بعد القبض فإنه يطيب له الربح لأنه ربح؛ بما قد ضمن فكذلك هاهنا.

(7/429)


بيانه: أن الضمان من حكم القبض، وقبض المستأجر الثاني بمنزلة قبض المستأجر الأول، ولهذا وجب الأجر على الأول كما لو حدثت المنافع في قبضه، وإذا ناب قبض الثاني عن قبض الأول كانت المنافع حادثة في ضمان الأول فيكون ربح ما قد ضمن من وجه وربح ما لم يضمن من وجه فتحل من وجه ولا تحل من وجه فيرجح جانب الحرمة احتياطاً.
بيانه: أن قبض الثاني قبض الأول حكماً فإن الأجرة تجب عليه وليس يقبض الأول حقيقة فإن المنافع لم تحدث في يد الأول حقيقة فالقبض وجد من وجه ولم يوجد من وجه والضمان حكم القبض فيكون ثابتاً من وجه غير ثابت من وجه.

ونظير هذا ما قالوا: فيمن اشترى عبداً قيمته ألف درهم بألف درهم؛ فقتل قبل القبض خطأ، فاختار المشتري اتباع القاتل، وأخذ منه ألفي درهم فإنه يتصدق بألف درهم لأنه ربح ما لم يضمن من وجه وربح ما قد ضمن من وجه لأن القبض وجد من حيث الحكم لما اختار اتباع القاتل ولهذا تأكد عليه الثمن كما لو قتل نفسه ولكن من حيث الحقيقة لم يوجد القبض فلما وجد القبض من وجه دون وجه كان الضمان الذي هو حكم القبض ثابتاً من وجه دون وجه فيحل من وجه دون وجه فلا يحل احتياطاً، وأما (إذا) زاد في الدار شيئاً بأن جصّصها أو طينها أو ما أشبه ذلك أو أجر مع ما استأجر شيئاً من ماله يجوز أن يعقد عليه عقد الإجارة وتطيب له الزيادة، لأن زيادة الأجر تجعل بإزاء منفعة الزيادة وإذا ما أجر من ماله احتيالاً للطيبة، وإن كان لا يقتضيه ذلك بمطلق الانقسام.
كما لو باع درهماً وديناراً بدرهمين ودينارين نصرف الجنس إلى خلاف الجنس احتيالاً للصحة، وإن كان مطلق الانقسام لا يقتضي ذلك فكذلك هاهنا، وإذا صرفنا إلى ذلك لا تبقى زيادة الأجر ربحاً حتى يكون ربح ما لم يضمن من وجه، وكذا إذا أجره بجنس آخر تطيب له الزيادة؛ لأن الربح لا يظهر عند اختلاف الجنس.

وذكر الخصّاف في كتاب «الحيل» : أنه إذا كان المستأجر داراً فكنسها من التراب ثم أجرها بأكثر مما استأجر لا تطيب له الزيادة، وإن أجرها بأكثر مما استأجر، وقال به عند الإجارة على أن أكنس الدار يطيب لي الفضل ذكره شيخ الإسلام في «شرح كتاب الحيل» .
وإن كان المستأجر أرضا فعمل لها مسقاة فذاك زيادة ويطيب له الفضل قال: وكذلك كل ما عمل فيها عملاً يكون قائماً فذاك زيادة ويطيب له الفضل وإن كرى أنهارها، ذكر الخصاف أنها زيادة توجب طيبة الفضل.

المحيط البرهانى
قال القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله: أصحابنا في هذا مترددون بعضهم يعدون هذه زيادة، وقالوا: تيسر على المستأجر إجراء الماء إليها ويسهل العمل فيها فكان ذلك زيادة، وبعضهم لا يعدون هذه زيادة؛ لأنه لم يوجد إلا رفع التراب، وذلك نقصان وليس بزيادة ولو جاز أن تطيب الزيادة بهذا لجاز أن يقال: إذا استأجر دابة وأعطاها شعيراً أنه تطيب له الزيادة؛ لأن ذلك مما يزيد في قوتها ويتيسر على المستأجر العمل بها

(7/430)


ومع هذا لا تطيب الزيادة بذلك بالاتفاق.
وهو نظير ما لو استأجر أرضاً لا يمكن زراعتها لما فيها من التراب فرفع التراب ثم أجر بأكثر مما استأجر فإنه لا يطيب له الفضل وإن تيسر بسبب هذا الفعل الزراعة، لكن لما يزد من عنده شيئاً بل نقص لم يوجب ذلك طيبة الزيادة كذا هاهنا.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: إذا استأجر الرجل بيتين صفقة واحدة، وزاد في أحدهما شيئاً وفي بعض النسخ وأصلح من أحدهما شيئاً له أن يؤاجرهما بأكثر مما استأجرهما، ولو كانت الصفقة متفرقة ليس له أن يؤاجرهما بأكثر مما استأجرهما وإذا أجر المستأجر الدار من آجره لا يجوز، لأنه لو جاز يصير الشخص الواحد مملكاً ومتملكاً في شيء واحد.
بيانه: أن المنافع إنما تصير مملوكة للمستأجر على حسب حدوثها والعقد في حق الملك يتجدد انعقاده على حسب حدوث المنافع فيصير المستأجر من الآجر متملكاً ومملكاً لكل منفعة حدثت في تلك وهذا مما لا وجه له ولا سبيل إليه، وهل تنفسخ الإجارة الأولى بهذه الإجارة الثانية مع أن الثانية لم تصح، اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: تنفسخ.

قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: هذا غلط؛ لأن الثاني فاسد والأول صحيح والفاسد لا يقدر على رفع الصحيح، وعامتهم على أنه لا تنفسخ الأولى بالثانية، ولكن إذا قبض الأجر الأول المستأجر من المستأجر الأول حتى انتهت الإجارة الأولى تنتهي الإجارة الأولى؛ (20ب4) لأن الثانية فاسخة لهما ولكن؛ لأن المنافع تحدث ساعة فساعة وعلى حسب الحدوث يقع التسليم إلى المستأجر، فإذا استأجرها الآجر من المستأجر ثانياً واستردها منه فذاك يمنعه عن تسليم ما يحدث إلى المستأجر، فإذا داما على ذلك حتى انتهت المدة فقد انتهت المدة من غير تمكن المستأجر من استيفاء المعقود عليه، فتنفسخ الإجارة الأولى ضرورة حتى أن بعد مضي بعض المدة لو استرد المستأجر الأول المستأجر من الآجر الأول داراً، وأن يسكنه بقية الشهر فله ذلك؛ لأن العقد الأول إنما انفسخ في قدر ما تلف من المنفعة وقدر ما بقي من المنفعة هو على حاله وكذلك على هذا حكم الأجرة إذا أخذ الآجر الأول المستأجر من المستأجر الأول بحكم هذه الإجارة، ودام على ذلك حتى انتهت المدة، فالأجر على المستأجر الأول وإن لم يقبضه منه فعلى المستأجر الأول الأجر.
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: ذكر في كتاب المزارعة إذا دفع أرضه مزارعة ثم إن رب الأرض أخذها مزارعة من المزارع فالمزارعة الثانية باطلة والأولى على حالها كذا في الإجارة، ولو أن المستأجر أعاد المستأجر من المالك لا يسقط عنه الأجر بلا خلاف بين المشايخ.
وفي «المنتقى» : إبراهيم عن محمد رحمهما الله: رجل استأجر داراً من رجل ثم إن المستأجر أجرها من صاحبها أو أعارها منه فذلك نقض للإجارة الأولى.

(7/431)


ولو استأجر أرضاً ثم دفعها إلى صاحبها مزارعة إن كان البذر من قبل رب الأرض لم يجز وهذه مناقضة، وإن كان البذر من قبل المستأجر جاز.

أما الكلام في فصل الإجارة والإعارة بناء على أنه لا جواز للإجارة الثانية والعارية إلا بعد فسخ الإجارة الأولى فيتضمن إقدامها على العقد الثاني فسخاً للأول، وأما الكلام في المزارعة؛ فلأن البذر إذا كان من قبل رب الأرض فهو مستأجر الأرض فيتضمن إقدامه عليه فسخاً للإجارة الأولى.
وذكر ابن رستم في «نوادره» عن محمد: أنه لا يجوز دفع الأرض المستأجرة مزارعة إلى رب الأرض سواء كان البذر من جهه رب الأرض أو من جهة المستأجر، ولو استأجر رب الأرض بالدراهم ليعمل في الأرض جاز.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل استأجر من آخر داراً أو أرضاً وزاد المستأجر فيها بناء ثم أجرها من الآخر أو أعارها منه كان هذا نقصاً للإجارة الأولى.
قال في فصل الإجارة: في «نوادر ابن سماعة» وعلى رب الدار حصة بناء المستأجر من الأجر. قال الحاكم الشهيد رحمه الله وهذه المسألة دليل على جواز إجارة البناء وحده.
وفي «فتاوى الفضل» استأجر من رجل داراً إجارة طويلة، ثم أجرها من الآخر مشاهرة لا تصح الإجارة الثانية وما أخذه المستأجر الأول من الآخر الأول فهو محسوب من رأس المال، والإجارة الأولى تنتقض في الشهر الأول من الإجارة الثانية، فأما فيما بعد الشهر الأول شك الفضل رحمه الله في انتقاضها؛ لأن الإجارة الثانية وقعت على شهر واحد، ثم قال: كلما دخل شهر بعد شهر يجب أن تنتقض الأولى؛ لأنه كلما دخل شهر انعقدت الإجارة الثانية.
وهكذا قال القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله، وجعله نظير ما باع ثم باع فإن الثاني يفسخ الأول كذا هاهنا، فقيل لركن الإسلام: هذا ليس نظير ما لو باع ثم باع؛ لأن هناك كل واحد من البيعين صحيح فجاز أن ينفسخ الأول بالثاني، وهاهنا الإجارة الثانية فاسدة فكيف تنفسخ الأولى بالثانية فأشار وركن الإسلام إلى أنه يجوز أن يقع العقد فاسداً ويوجب انتقاض عقد وقع صحيحاً.

فقال: ألا ترى أن المشتري إذا باع المشترى قبل القبض من بائعه فهذا العقد لا يصح ويوجب انتقاض العقد الأول على ما رواه خالد بن صبيح عن أبي يوسف رحمه الله، ورواية خالد بن صبيح مخالفة لظاهر الرواية، قال في ظاهر الرواية: لا ينتقص البيع الأول بهذا البيع.
وذكر في كتاب الصلح مسألة تدل على أن المستأجر يملك الإجارة من المالك.
وصورتها: الموصى له بغلة عبد بعينه إذا آجر العبد من أجنبي أو وارث الوصي إنه يجوز ووجه الدلالة: أن الوارث قائم مقام المورث وحال الموصى له بالغلة كحال المستأجر وإذا أجر المستأجر المستأجر من رجل ثم إن المستأجر الثاني أجره من المالك

(7/432)


كان القاضي أبو علي النسفي رحمه الله يحكي عن أستاذه أنه يجوز.
وهكذا ذكر الحاكم الشهيد رحمه الله في «المنتقى» : عن محمد، قال شمس الأئمة الحلواني: ذكر ابن سماعة في «نوادره» عن محمد أن الإجارة من المالك لا تجوز سواء كان المستأجر الأول آجر بنفسه أو آجر مستأجره.
قال رحمه الله: وعليه عامة المشايخ. الغاصب إذا أجر المغصوب من غيره ثم إن المستأجر من الغاصب آجره من الغاصب وأخذ منه الأجر كان للغاصب أن يسترد منه ما دفع إليه من الأجر لوجهين:
أحدهما: أن إجارة المستأجر من الغاصب رد للمغصوب، كما جعل بيع المشتري شراءً فاسداً من بائعه رداً للمشتري الثاني أن إجازة الغاصب العقد فيصير المستأجر من الغاصب أجر من أجره، وأنه لا يجوز للفقه الذي روينا وعلى هذا المستأجر من المالك إذا آجر من غيره ثم إن المستأجر الثاني آجره من المستأجر الأول لا يصح وطريقه ما قلنا: إذا استأجر كرماً ثم إن المستأجر دفع الكرم إلى المؤاجر معاملة فهذا على وجهين: إن كان المالك في الإجارة باع الأشجار كما هو أحد الطريقين جاز وإن كان دفع الأشجار معاملة كما هو الطريق الآخر لا يجوز وإذا استأجر إجارة فاسدة فآجر المستأجر من غيره إجارة صحيحة جاز إليه أشار في إجارات الفقيه أبي الليث رحمه الله.

ومن المشايخ من قال: لا يجوز واستخرج الرواية من مسألة ذكرنا في كتاب الإجارات في باب إجارة الدور رجل دفع داره إلى رجل على أن يسكنها ويردها ولا أجر لها فأجرها هذا المستأجر من رجل وانهدم من سكنى الثاني ضمن الثاني بالاتفاق؛ لأنه صار غاصباً فهذا إشارة إلى أن الإجارة الثانية لم تصح.
ألا ترى أنه أوجب الضمان على الثاني، وألا ترى أنه سماه غاصباً، وعامة المشايخ على أنه يملك قالوا: وما ذكر في كتاب الإجارات ليس برواية في هذه المسألة؛ لأن ذلك ليس بإجارة بل هو عارية؛ وهذا لأنه لم يذكر الحرمة على سبيل الشرط؛ لأنه لم يذكر كلمة الشرط إنما ذلك على سبيل المشورة إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل فكان الأول مستعيراً لا مستأجراً والمستعير يملك أن يؤاجر.

وزان مسألتنا في تلك المستأجر، أن لو ذكر الحرمة على سبيل الشرط ولو كان هكذا حتى كان العقد الأول إجارة فاسدة لا يجب الضمان على الثاني، وتصح الإجارة من الثاني؛ وهذا لأن المستأجر إجارة فاسدة ملك المنفعة بقبض المستأجر فيملك تمليكها من غيره ملكاً صحيحاً كالمشتري شراءً فاسداً ملك التمليك من غيره صحيحاً، ثم على قول من يقول بأن المستأجر إجارة فاسدة يملك أن يؤاجر من غيره إجارة صحيحة إذا أجر كان الأول أن ينقض الثاني.
كما إذا اشترى شيئاً شراءً فاسداً وأجره من غيره إجارة جائزة بخلاف ما إذا اشترى شراء فاسداً وباعه من غيره بيعاً صحيحاً.

(7/433)


والفرق أن الإجارة تنفسخ بالأعذار والنَّساء عذراً يرفع، أما البيع مما لا ينفسخ (21أ4) بالأعذار المستأجر إذا أجر من غيره أو دفع إلى غيره مزارعة، ثم إن المستأجر الأول فسخ العقد الأول هل ينفسخ العقد الثاني؟ اختلف المشايخ فيه والصحيح أنه ينفسخ اتحدت المدة أو اختلفت، أما إذا اتحدت فظاهر، وأما إذا اختلفت فلأنه لما فسخ الإجارة الأولى تبين أن المستأجر فضولي في الإجارة من الثاني في هذه المدة وهو المدة بعد فسخ الأول، والفضولي في المعاوضات المالية يملك الفسخ قبل الإجازة.
وفي «فتاوى الفضلي» : استأجر الرجل من غيره موضعاً إجارة طويلة ثم إن المستأجر أجره من عبد الآخر، فإن كان بغير إذن مولى العبد لم يحسب على المستأجر ما أخذ من العبد من رأس ماله؛ لأنه ليس للعبد أن يفسخ الإجارة بغير إذن المولى، وأما إذا كان العبد استأجره بإذن المولى، فقد توقف الشيخ الإمام فيه، والصحيح أن يقال: استئجار العبد بإذن المولى كاستئجار المولى بنفسه، وقد مرّ الكلام فيه من قبل.
وفي «فتاوى أبي الليث» : رجل أجر داره من رجل كل شهر بدرهم ثم باعها من آخر، فكان المشتري يأخذ أجرة الدار من هذا المستأجر وأتى على ذلك زمان، وقد كان وعد المشتري البائع أنه إن رد الثمن عليه رد عليه داره ويحتسب عليه ما قبض من المستأجر، ثم جاء البائع بالدرهم وأراد أن يحسب الأجر من ذلك.
قال: لما طلب المشتري الأجر من المستأجر كان ذلك إجارة منه وصار بمنزلة إجارة مستقلة وجميع ما أخذ من الأجر للمشتري، وليس للبائع من الأجر لا قليل ولا كثير؛ لأن الأجر وجب بعقد المشتري على ما ذكرنا، ومواضعة المشتري على رد الدار وعد منه فإن أنجز فحسن وإلا فلا شيء عليه، وإن كان الشرط في البيع فالبيع فاسد؛ لأنه شرط يخالف مقتضى العقد، الأجر المستأجر من رجل آخر لا تنعقد الإجارة الثانية في حق الآجر حتى لو سقط حق المستأجر الأول لا يلزمه التسليم إلى المستأجر الثاني، لأن الإجارة تصادف المنفعة والمنفعة صادفت حقاً للأول، فالإجارة الثانية صادفت حق الغير فلم تنعقد، والإجارة تخالف البيع فإن بيع الآجر المستأجر ينعقد نافذاً في حق البائع حتى لو سقط حق المستأجر يلزمه التسليم إلى المشتري، إنما لا ينفذ في حق المستأجر حتى لا يكون للمشتري حق الأخذ من المستأجر؛ لأن البيع يصادف الرقبة والرقبة لم تصر حقاً للمستأجر، فالبيع ما صادف حق المستأجر إنما صادف حق البائع فانعقد صحيحاً لكن لا يؤمر المستأجر بتسليمه إلى المشتري صيانة لحق المستأجر، فإذا سقط حق المستأجر زال المانع فعمل ذلك البيع علمه.

ثم المشتري في هذه المسألة بالخيار إن شاء تربص حتى انقضت مدة المستأجر، وإن شاء رفع الأمر إلى القاضي ويطلب التسليم هكذا ذكر في «الزيادات» ولم يفصل بينهما إذا علم المشتري بكونه مستأجراً أو لم يعلم وهذا قول محمد.
وعلى قول أبي يوسف: إذا علم المشتري بكونه مستأجراً لا يجوز وقد ذكرنا المسألة في كتاب البيوع.

(7/434)


ولو أراد المستأجر فسخ هذا البيع ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «الفتاوي» أن في ظاهر الرواية له ذلك، وفي رواية الطحاوي ليس له ذلك وأحال إلى رهن الجامع لشمس الأئمة الحلواني في شرح «الإسبيجابي» إنه ليس للمستأجر حق الفسخ، وهو اختيار شمس الأئمة السرخسي، وهكذا ذكر في شرح القدوري، وفي شرح الساقي في رهن الجامع للسيد الإمام أبي شجاع، وذكر شيخ الإسلام أن في المسألة روايتين: في رواية للمستأجر حق الفسخ وهو القياس، وفي رواية ليس له حق الفسخ وهو الاستحسان وعليه الفتوى.

الفصل الثامن: في انعقاد الإجارة بغير لفظ، وفي الحكمببقاء الإجارة أو انعقادها مع وجود ما ينافيها
وإذا استأجر الرجل من آخر داراً شهراً فسكنها شهرين فعليه أجر الشهر الأول، وليس عليه في الشهر الثاني أجر؛ لأنه سكن في الشهر الثاني من غير إجارة من المالك فكان غاصباً هكذا ذكر في عامة روايات كتاب الإجارة.
s
وذكر في بعض الروايات: أنه يجب عليه الأجر في الشهر الثاني أيضاً، قال مشايخنا: ما ذكر في عامة الروايات محمول على ما إذا لم تكن الدار معدة للاستغلال، لأنها إذا لم تكن معدة للاستغلال لا تثبت الإجارة في الشهر الثاني لا نصاً ولا عرفاً وما ذكر في بعض الروايات محمول على ما إذا كانت الدار معدة للاستغلال؛ لأنها إذا كانت معدة للاستغلال في العقد في الشهر الثاني، إن لم يثبت نصاً فقد ثبت عرفاً والثابت عرفاً كالثابت نصاً.

وعن هذا قلنا: إذا سكن الرجل في دار رجل ابتداء من غير عقد، فإن كانت الدار معدة للاستغلال يجب الأجر، وإن لم تكن معدة للاستغلال لا يجب الأجر إلا إذا تقاصا صاحب الدار بالأجر وسكن بعد ما تقاصاه؛ لأن سكناه تكون رضا بالأجر، قالوا: وفي المعدة للاستغلال إنما يجب الأجر على الساكن، إذا سكن على وجه الإجارة عرف ذلك عنه بطريق الدلالة أما إذا سكن بتأويل عقد أو تأويل ملك كبيت أو حانوت بين رجلين سكن أحدهما فيه لا يجب الأجر على الساكن، وإن كان ذلك معداً للاستغلال.
وذكر محمد رحمه الله: في باب إجارة الحمام إذا استأجر حماماً ليعمل فيه شهراً فعمل فيه شهرين فلا أجر عليه في الشهر الثاني؛ لأنه لا عقد في الشهر الثاني، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: هذه المسألة دليل عل أن في مسألة الدار لا يجب الأجر بدون العقد، وإن كانت الدار معدة للاستغلال.
ألا ترى أنه لم يوجب في الحمام أجر الشهر الثاني، وإن كان الحمام معداً للاستغلال والكراء قال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: الجواب في

(7/435)


الحمام كالجواب في الدار وما ذكر في الحمام محمول على ما إذا لم يكن الحمام معداً للكراء والإنسان قد يبني الحمام للكراء، وقد يبني لحاجة نفسه ثم يؤاجره شهراً معارض أمر، وعلى هذا الاعتبار لا تكون مسألة الحمام مخالفة لمسألة الدار.
وفي «الفتاوى» : خانٌ فيه نزل رجل يكون نزوله بأجر، ولا يصدق أنه سكن بغير أجر وهذا بناء على أن الخان غالباً يكون معداً للكراء فسكناه يكون رضا بالأجر وبه كان يفتي محمد بن سلمه وأبو نصر بن سلام والفقيه أبو بكر والفقيه أبو الليث.

وكان نصر رحمه الله يقول: لا يجب الأجر بنزوله إلا أن يتقاصا عليه صاحب الخان فإذا تقاصاه وأجابه ولم يخرج الآن يجب الأجر ولكن من حين نزل؛ لأن إجابته بعد التقاصي دليل على أن سكناه كان بأجر.

وبعض مشايخ زماننا قالوا: الفتوى على لزوم الأجر؛ لأن الظاهر السكنى بأجر فيجب اعتبار هذا الظاهر إلا إذا عرف بخلافه بأن صرح بأن نزل بطريق الغصب أو كان الساكن معروفاً بالظلم والغصب مشهوراً بالنزول في مساكن الناس لا بطريق الإجارة فلا يجب الأجر وذكر بعد هذا ما يخالف هذا القول فقال: رجل له حوانيت مشعلة، جاء إنسان وسكن في واحد منها يلزمه أجر المثل ولو قال: كنت غاصباً لا يصدق؛ لأنه ادعى بخلاف الظاهر فهو كمن دخل الحمام من غير أن يصرح له صاحب الحمام بالأذن، وقال: دخلت على وجه الغصب لا يصدق.
وفي «الفتاوى» أيضاً: مقصرة يعمل فيها القصارون ولرجل فيها أحجار يؤاجرها منهم جاء قصار وعمل فيها ولم يشارط صاحب الأحجار بشيء، فإن لم يكن المعروف عندهم أن من شاغل عليها وأدى الأجر فلا أجر عليه إذا (21ب4) عمل بغير إذن رب الأحجار؛ لأنه لم يوجد العقد لا صربحاً ولا دلالة، وإن كان المعروف عندهم أن من شاء عمل عليها وأدى الأجر فعليه الأجر؛ لأن المعروف كالمشروط، ثم إن كان لهذا الحجر أجرة معروفة فيما بينهم يجب ذلك، وإلا يجب أجر المثل.
وفي «المنتقى» : عن محمد صاحب الدار إذا قال للغاصب هذا داري فاخرج منها فإن نزلتها فهي عليك بكذا فجحدها الغاصب، ثم أقام المالك عليه البينة بعد أشهر فلا أجر؛ لأن النازل لم يزل جاحداً ومع الجحود لا يمكن القول بانعقاد الإجارة ولو كان مقراً بالدار للمدعي، والباقي بحاله كأن سكناه رضا بالإجارة ويجب الأجر؛ لأن المالك أجر منه إجارة مضافة وهو قد قبلها دلالة.
وفيه أيضاً: اكترى داراً منه بألف درهم، فلما انقضت: السنة قال رب الدار: إن فرغتها اليوم وإلا فهي عليك كل شهر بألف درهم، فإنما يجعل في قدر ما ينقل متاعه منها بأجر المثل، فإن فرغها إلى ذلك الوقت وإلا جعلناها بعد ذلك بما قال المالك لأنه قبل ذلك دلالة.

وفي «إجارات النوازل» : رجل استأجر حانوتاً كل شهر بثلاثة دراهم مثلاً، فلما مضى شهران قال له صاحب الحانوت: إن رضيت كل شهر بخمسة دراهم وإلا فأفرغ

(7/436)


الحانوت فلم يفرغ بل سكن فيه فعليه لكل شهر خمسة وسكناه رضا بما قال صاحب الحانوت، ولو قال المستأجر: لا أرضى بخمسة وسكنها لا يجب عليه إلا الأجر الأول.

وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا قال لغيره: بكم تؤاجر هذه الغرارة شهراً فقال بدرهمين فقال المستأجر: لا بل بدرهم، وقبضها ومضى الشهر يجب أجر المثل لا يزاد على درهمين ولا ينقص من درهم والصحيح أنه يجب درهم لما ذكرنا.
وفي «فتاوي أبي الليث» : ومن رعى غنم إنسان إذا قال الراعي لصاحب الغنم: لا أرعى غنمك بعد هذا إلا أن تعطيني كل يوم درهماً فلم يقل صاحب الغنم شيئاً، وترك غنمه معه لزمه كل يوم درهم وترك صاحب الغنم غنمه معه رضاً منه بما قال الراعي.
وفيه أيضاً: رجل استأجر أجيراً ليحفظ شهره كل شهر بكذا ثم مات المستأجر فقال الوصي للأجير: اعمل عملك على ما كنت تعمل، فإنا لا نحبس عنك الأجر فأتى على ذلك أيام ثم باع الوصي الضيعة فقال المشتري للأجير: اعمل عملك فإنا لا نحبس عنك الأجر فمقدار ما عمل الأجير في حياة الأول يجب الأجر في تركته ومن حين قال له الوصي: اعمل عملك يجب على الوصي ومن حين قال له المشتري: اعمل عملك يجب على المشتري، إلا أن الواجب في تركة الميت المسمى لوجود التسمية منه والواجب على الوصي وعلى المشتري أجر المثل إذا لم يعلما مقدار المشروط من الميت أما إذا علما ذلك وأمراه أن يعمل على ذلك الشرط فعليهما المسمى.
وفيه أيضاً: رجل استأجر من رجل حماراً بعشرة بعضها جياد وبعضها زيوف فقال المكاري في الطريق: أنا أطلب الكل جياداً فقال المستأجر بالفارسية: حنان كتم له ترخوا مني، فهذا وعد منه ولا يلزمه بذلك شيء وكذلك لو استزاده في الأجر فأجابه بذلك شيء.

قال في «الأصل» : وإذا استأجر دابة إلى مكان مسمى، فمات صاحب الدابة في وسط الطريق كان للمستكري أن يركب الدابة إلى المكان المسمى بالأجر، فإذا وصل إلى ذلك المكان يرفع الأمر إلى القاضي، وفي هذا الفصل إشكال؛ لأن المكاري يؤاجر وموت المؤاجر لا يوجب انتقاض الإجارة وإنما لا تنتقض الإجارة؛ لأن الحال حالة العذر، والإجارة تنعقد ابتداء بالعذر فإن من استأجر سفينة شهراً فمضت المدة، والمستأجر في وسط البحر، فإنه تنعقد بينهما إجارة مبتدأة فلأن تبقى حالة العذر كان أولى.
وبيان العذر أنه يخاف على نفسه وماله؛ لأنه لا يجد دابة أخرى في وسط المفازة، ولا يكون ثمة قاضى حتى يرفع الأمر إليه فيؤاجر الدابة منه ثانياً حتى قال مشايخنا: لو وجد ثمة دابة أخرى يحمل عليه متاعه تنتقض الإجارة، وكذلك لو كان الموت في موضع ثمة قاض تنتقض الإجارة؛ لأنه لا ضرورة إلى إبقاء الإجارة مع وجود ما ينافي البقاء وهو

(7/437)


موت الآجر، لأنه يمكنه المرافقة إلى القاضي حتى يؤاجر الدابة منه.

نص على هذا في الشروط وإليه أشار في «الأصل» ، فإنه قال في عين هذه المسألة فإذا وصل ذلك المكان يرفع الأمر إلى القاضي فقد أخر الأمر بالمرافعة إلى أن يصل إلى ذلك المكان، ولو كان الموت في موضع فيه قاض لم يكن لتأخير الأمر بالمرافعة معنى وفائدة، ثم إذا ركب المستكري الدابة إلى ذلك المكان وأنفق عليها في الطريق كان متبرعاً حتى لا يرجع على ورثة المكاري بذلك.

وكذلك إذا استأجر المستكري رجلاً يقوم على الدابة كان أجره على المستكري ولا يرجع بذلك على ورثة المكاري؛ لأن الإنفاق والاستئجار حصل بغير إذن الورثة وبغير إذن من يلي على الورثة ثم إذا وصل إلى ذلك المكان رفع الأمر إلى الحاكم لأن الإجارة قد انفسخت لما وصل إلى ذلك المكان لأنه زال العذر لما وصل إلى ذلك المكان، وإذا انتقضت الإجارة بقيت دابة الغير في يده بغير إجارة ويرفع الأمر إلى القاضي ليقضي القاضي بها هو الأصلح لورثة الميت.
فإن رأى القاضي الصلاح في أن يؤاجر منه ثانياً بأن عرف المستأجر ثقة أميناً ورأى الدابة قوية حتى عرف أن الورثة يصلون إلى عين ما لهم متى آجر منه وإن رأى الصلاح في بيع الدابة بأن أتهم المستأجر أو رأى الدابة ضعيفة ظاهراً يعلم أن الورثة لا يصلون إلى عين ما لهم وإن وصلوا يلحقهم ضرر عظيم ببيع الدابة ويكون بيعه حفظاً للمال على الغائب لا قضاء على الغائب.
وإن كان المستأجر قد عجل الأجر إلى رب الدابة وفسخ القاضي الإجارة وباع الدابة، فادعى المستأجر ذلك، فالقاضي يأمره بإقامة البينة على دعواه؛ لأنه يدعى ديناً على الميت ومجرد الدعوى بدون البينة لا تكون معتبرة شرعاً وينصب القاضي وصياً عن الميت حتى يسمع البينة لأن البينة لا تسمع إلا على الخصم وللقاضي ولاية نصيب الوصي عن الميت.
ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» : مسألة السفينة إذا انقضت مدة الإجارة في المفازة ولا يجد المستأجر سفينة أخرى، أو رأى أخر وأبى الآجر أن يؤاجر منه وقد حضرهم الإمام، إن الإمام يجعل ذلك للمستأجر كل يوم بكذا بشرط، أن تكون هذه الإجارة من الإمام. وقد ذكر ابن سماعة في «نوادره» هذه المسألة عن محمد ولم يشترط أن يكون المؤاجر هل الإمام بل شرط أن يقول المستأجر استأجرت هذه السفينة كل يوم بكذا أو يؤاجره واحد من أصحابه ورفقائه، فإن أبى الأجر بعد ذلك أن يعطيه السفينة أو الرق استعان المستأجر بأعوانه ورفقائه حتى يترك السفينة والرق عليه، إلى أن يجد سفينة أخرى ورقاً أخرى وإنما احتيج إلى إنشاء العقد في هذه الصورة؛ لأن وضع المسألة أن صاحب السفينة أو صاحب الرق أبى الإجارة صريحاً، ومع إبانة ذلك صريحاً لا يمكن إثبات العقد دلالة فلا بد من إنشائه صريحاً، وبهذه المسألة تبين أن من سكن دار غيره لا يجب الأجر إذا كان صاحب الدار يأبى ذلك، وإن كانت الدار معدة للاستغلال إلا

(7/438)


استأجر الساكن بنفسه فيقول: استأجرت كل شهر بكذا، ثم قال: ليس في مسألة السفينة والرق اختلاف الروايتين ما ذكر في السير محمول على ما إذا احضر الإمام.

وما ذكر في (22أ4) «نوادر ابن سماعه» : محمول على ما إذا لم يحضر الإمام، وفي «الأصل» إذا انقضت مدة الإجارة وفي الأرض رطبة قلعت لو انقضت مدة الإجارة، وفي الأرض زرع لم يدرك يترك في يده إلى أن يستحصل بأجر المثل، ولو مات الآجر أو المستأجر في وسط المدة وفي الأرض زرع تترك الأرض في يد المستأجر أو ورثته بالأجر المسمى.

وفي «المنتقى» : إذا انقضت الإجارة وفي الأرض رطاب تركت فيها بأجر مثلها حتى يحر وهو على أول جره يدرك انقضاء الإجارة، وقال في الموت إذا مات المؤاجر وفي الأرض رطاب تركت بالمسمى حتى يجر؛ لأن للجرة الأولى غاية معلومة، فصارت الرطبة نظير الزرع، وإنما اعتبرنا الجرة الأولى؛ لأن طريق الترك إما إبقاء ذلك العقد في الفصلين كما ذهب إليه بعض المشايخ؛ لأن القول بالانفساخ والتجديد من ساعته في صورة العيب وحاشا الشرع عن ذلك، وأما تجديد العقد فيهما؛ لأن حكم البقاء في هذا الباب يخالف حكم الابتداء؛ لأن العقد الأول إذا بقى يبقى المسمى، وإذا تجدد العقد يجب أجر المثل، وإذا اختلف الحكم لا يكون عيباً أو بقاء العقد في الفصل الثاني وتجديده في الفصل الأول؛ لأن الحاجة في الفصل الأول إلى الابتداء، وإلى الفصل الثاني إلى البقاء وأياً ما كان فهو ضروري، والثابت بالضرورة لا يراعى فيه النهاية فيقع على الجرية الأولى لهذا ومن هذا الجنس إذا استأجر من آخر زقاقاً، وجعل فيها خلاً ثم انقضت الإجارة في صحراء جعل عليه بأجر مثله إلى موضع يحد فيه زقاقاً، ولو مات المؤاجر قبل مضي المدة لا يجعل عليه بأجر مثلها لكنها تترك على الإجارة الأولى.
وروى إبراهيم عن محمد: في رجل استأجر أرضاً سنة، وزرعها ثم اشتراها المستأجر ورجل آخر حتى انقضت الإجارة نترك الزرع في الأرض حتى يستحصد ويكون للشريك على صاحب الزرع أجر مثل نصف الأرض.
وفي «الأمالي» : عن أبي يوسف إذا انقضت مدة الإجارة والزرع بقل فلم يختصموا فيه حتى استحصد فله من الأجر بحساب ذلك، ولا يتصدق رب الزرع بالفضل وإن انقضت مدة الإجارة، ولم يخرج الزرع فسخت الإجارة ورددت الأرض على صاحبها فإن خرج بعد ذلك رددت إلى صاحب البذر، فيكون له الزرع وعليه أجر مثل الأرض وكذلك لو لم يختصموا حتى يستحصد.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا استأجر أرضاً وغرس فيها أشجاراً ثم انقضى وفيها فعلى المؤجر قيمة الأشجار مقلوعة؛ لأن حق المستأجر أشجار مقلوعة؛ لأن لرب الأرض قلع أشجاره، إلا أنه يمنع عن ذلك دفعاً للضرر عن الغارس كذا ذكر هاهنا، والصحيح أنه إذا انقضت المدة فلرب للأرض أن يطالب المستأجر بتفريغ أرضه إذا كان فيها غرس بخلاف ما إذا كان فيها زرع حيث يترك لإدراك الزرع نهاية، ولا كذلك الغرس

(7/439)


وليس لرب الأرض أن يتملك الأشجار على الغارس إذا لم يكن في قلعها ضرر فاحش بالأرض.

وفيه أيضاً: استأجر من آخر بيتاً ووضع فيه حبات خل فانقضت مدة الإجارة والمستأجر يأبى تفريغ الحانوت فإن كان الخل بلغ مبلغاً لا يفسد بالتحويل يؤمر بالتحويل، وإن كان يفسد لا يؤمر بالتحويل، ويقال للمستأجر: إن شئت فرّغ الحانوت، وإن شئت فاستأجر منه إلى وقت إدراكه والمراد من قوله استأجر منه الحكم بأجر المثل عليه لا الاستئجار ابتداء ببدل مسمى؛ لأن هذا بمنزلة مدة نقل المتاع وتفريغ الدار، والواجب هناك أجر المثل دون الإجارة ابتداء ولو مات المؤاجر أو المستأجر قبل انقضاء المدة، ولم يتيسر التفريغ يجب المسمى استحساناً والقياس أن يجب أجر المثل كما بعد انقضاء المدة.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا انقضت مدة الإجارة ورب الدار غائب فلم يرد المستأجر الدار بل سكن فيها سنة ثم حضر رب الدار لا يلزمه الأجر لما بعد انقضاء المدة؛ لأنه سكنها بلا عقد ولو مات المؤاجر فسكنه المستأجر اختلف المشايخ فيه منهم من قال: يجب الأجر؛ لأنه مات على الإجارة وليس بغاصب، ومنهم من قال: هو غاصب في الشهر الأول بعد الموت؛ لأن الإجارة تثبت صريحاً أو دلالة وقد عدم الأمران ويلزمه الأجر في الشهر الثاني إذا طلب صاحب الدار الأجر.

وقيل: إذا سكن بعد الموت أو بعد انقضاء المدة فلا أجر عليه قبل الطلب، وإذا سكن بعد الطلب فعليه الأجر لما سكن بعد الطلب سواء كان في الشهر الأول أو في الشهر الثاني وهذا القائل يقول: لا فرق في هذا بين الدار المعدة للإجارة وغير المعدة للإجارة إنما ذلك في ابتداء السكنى على ما مر، والأصح أنه يلزمه الأجر إذا كانت الدار معدة للاستغلال على كل حال.
وفي «الأمالي» عن محمد: رجل استأجر أرضاً بدراهم معلومة سنة، وزرعها ثم مات المؤاجر قبل أن يستحصد الزرع، واختار المستأجر المضي على الإجارة حتى يستحصد الزرع وبالأجر كفيل قال: لا يبرأ الكفيل من أجر ما بقي إلى أن يستحصد الزرع، وكذلك لو لم يمت الآجر ولكن مات المستأجر واختار ورثته ترك الزرع في الأرض حتى يستحصد لم يبرأ الكفيل من الكفالة، فإن قال المؤاجر: لا أرضى إلا أن يكون الأجر على ورثة الميت؛ لأن مال الميت لا يفي بالأجر ليس له ذلك؛ لأنها تركت على الإجارة الأولى والأجر في الإجارة الأولى في مال الميت وفى بالأجر أو لم يفِ ولو انقضت السنة، ثم مات المستأجر والزرع بقل واختار ورثته ترك الزرع بأجر المثل فالأجر عليهم في مالهم دون مال الميت والله أعلم بالصواب.

(7/440)


الفصل التاسع: فيما يكون الأجير مسلماً مع الفراغ منه وما لا يكون
قال محمد رحمه الله: في «الجامع الصغير» عن أبي حنيفة: رجل استأجر رجلاً ليخبز له فخبز فلما أخرج الخبز من التنور احترق من غير عمله فلا ضمان عليه وله الأجر، وهذا إذا كان الخباز يخبز في بيت المستأجر؛ وهذا لأنه لما أخرج الخبز من التنور فقد أتم العمل؛ لأن عمله جعل الدقيق خبزاً ومتى أخرجه من التنور صار منتفعاً به انتفاع الخبز فيتم عمله، وصار مسلماً لقيام يد المستأجر على الخبز؛ لأن الخبز في بيته، والبيت في يده فتثبت يده على الخبز ضرورة ثبوت يده على البيت وإذا صار مسلماً إليه وجب الأجر، فإذا هلك بعد ذلك فقد هلك بعد ما صار مسلماً إلى المستأجر، فلهذا قال: فله الأجر ولا ضمان عليه.
أما عند أبي حنيفة رحمه الله؛ فلأنه لم يهلك من عمله وأما على قولهما: فلأن هلك بعد التسليم.
وذكر القدوري في «شرحه» في هذه المسألة: أن عليه الضمان على قولهما لأن العين مضمون على الأجير بمنزلة المغصوب في يد الغاصب، فلا يبرأ عن الضمان إلا بالتسليم دون الوضع في بيته ثم على ما ذكره القدوري إذا وجب الضمان عندهما، كان لصاحب الدقيق الخيار إن شاء ضمنه دقيقاً مثل دقيقه، ولا أجر له وإن شاء ضمنه قيمة الخبز مخبوزاً وأعطاه الأجر.
قال القدوري في «شرحه» : ولا ضمان عليه في الحطب والملح عندهما؛ لأن ذلك صار مستهلكاً قبل وجوب الضمان عليه وحال ما وجب الضمان فهو رماد لا قيمة له، وإن لم يخرج الخبز من التنور حتى احترق فلا أجر له؛ لأنه لم يتم عمله فإن ما عمل غير منتفع به فصار كأنه لم يوجد أصلاً فلهذا ما وجب الأجر.

وفي القدوري: إذا استأجر (22ب4) رجلاً ليبني له بناء في داره أو فيما هو في يده أو يحفر له بئراً أو قناة في داره أو نهراً، فعمله ولم يفرغ منه حتى انهدم البناء، وانهارت البئر فله من الأجر بحصة ما عمل؛ لأن العمل بقدر ما عمل وقع مسلماً؛ لأن محل العمل في يد المستأجر فيستحق الأجر، وإن كان ذلك في غير ملكه ولا هو في يده فلا أجر له حتى يفرغ منه ويسلمه إليه؛ لأن التسليم لم يوجد، فإن العمل في المحل إنما يعتبر مسلماً إلى المستأجر على تقدير كون المحل في يده.
وقال الحسن بن زياد: إذا أراه موضعاً من الصحراء ليحفر فيه بئراً فهو بمنزلة ما لو كان في ملكه ويده قال: وهو قياس قول أبي حنيفة فإنه تثبت يده عليه بالتعيين، لأنه يثبت له ضرب خصوصية فيجعل بمنزلة الملك فيما بينهما، وعن محمد أنه لا يصير قابضاً إلا بالتخلية وهو الصحيح؛ لأنه وإن عين لم تثبت يده على المحل.

وفي «الأصل» يقول: إذا استأجر ليحفر له بئراً في الجبانة فحفرها فلا أجر له حتى يسلمها إلى صاحبه قال مشايخنا رحمهم الله: إن محمداً رحمه الله سلم هذه الإجارة ولم

(7/441)


يشترط بيان موضع الحفر قالوا: وهذه إشارة إلى أن بيان الموضع في غير ملكه ليس بشرط.
قال في «الأصل» : وإذا استأجر الرجل رجلاً ليضرب له لبناً في داره وعين اللبن أو سمى ملبناً معلوماً فالإجارة جائزة؛ لأنه استأجره لعمل معلوم، وإن لم يعين الملبن ولا سمى ملبناً معلوماً، فإن كانت بلدة ملابينهم مختلفة، وكل الملابن في الاستعمال على السواء فالإجارة فاسدة وإن كانت بلدة لأهلها ملبن واحد أو ملابن مختلفة، إلا أنه غلب استعمالهم لواحد تجوز الإجارة؛ لأن الملبن معلوم في هذه الحالة عرفاً إن لم يكن معلوماً شرطاً، فإن لبنه وأصاب المطر اللبن فأفسده قبل أن يدفعه فلا أجر له، وإن كان يعمل في داره.

فرق بين هذا وبينما إذا استأجر خياطاً ليخيط له ثوباً في داره فخاط بعض الثوب فسرق يستحق الأجر بقدره.
وكذلك إذا استأجر حفاراً يحفر بئراً في داره فحفر بعضه فانهار استحق الأجر بقدر ما حفر، وكذلك إذا استأجر بنَّاء ليبني له بناء في أرضه فبنى البعض فانهدم، فإنه يستحق من الأجر بقدره.
والفرق بين هذه المسائل وبين مسألة اللبن: أن في مسألة اللبن قدر ما وجد من العمل أن وقع مسلماً إلى المستأجر من الوجه الذي صار مسلماً في تلك المسائل، إلا أن هذا القدر من العمل في مسألة اللبن غير مقابل بالأجر؛ لأن الأجر مقابل بعمل الثلثين وليس بثلثين؛ لأن الثلثين لم يتم بعد.
ألا ترى أنه يحتاج إلى إحداث عمل آخر فيما عمل، وهو النصب والتسوية فيكون ما يجد به من العمل فيما عمل إتماماً للعمل الأول؛ لأنه يجعل في محل عمل الأول فيكون إتماما لذلك العمل وإذا لم يتم الثلثين قبل النصب والإقامة والأجر مقابل بالثلثين لم يستحق شيئاً.
u
وإن كان يعمل في داره كما لو استأجر خياطاً ليخيط له ثوباً في داره فقطع الثوب، وقبل الخيط وسرق الثوب لا يستحق بإزاء ما عمل شيئاً وإن وقع ذلك القدر مسلماً، لأنه يعمل في داره إنما كان كذلك؛ لأن الأجر مشروط مقابل بالخياطة، وما صنع ليس بخياطة إنما هو عمل من أعمال الخياطة.
وكذلك إذا استأجر رجلاً ليخبز له دقيقاً معلوماً في داره فنخل الدقيق وعجن ثم سرق قبل أن يخبزه لا يستحق أجراً وكذلك لو احترق الخبز في التنور قبل إخراجه من التنور لا أجر له، وإن كان يخبز في بيت المستأجر؛ لأن الأجر مقابل بالخبز ولم يوجد الخبز إنما وجد عمل من أعماله فكذا في مسألتنا.

بخلاف ما إذا خاط بعض الثوب؛ لأن القدر الذي أتى به خياطة ألا ترى أنه لا يحتاج إلى فعل آخر فيما خاط، فإنما يحتاج إلى إحداث فعل آخر في محل آخر مثل الأول وما يوجد من الفعل في محل لا يكون إتماماً لما وجد من الفعل في محل آخر.

وكذلك قدر ما حفر حفر تام، ألا ترى أنه لا يحتاج

(7/442)


إلى إحداث فعل آخر فيما حفر وفي البناء كذلك، فإذا تم الفعل الذي صار الأجر به مقابلاً وقد وقع مسلماً إذا كان يعمل في داره استحق الأجر بقدره، وإن هلك بعد ذلك قياس مسألة اللبن من هذه المسائل أن لو أصابه المطر بعد ما نصبه وسواه عند أبي حنيفة وشرح وجمع على قولهما، ولو كان كذلك يستحق الأجر بقدر ما عمل إذا كان يعمل في داره كذا هاهنا، فأما إذا نصبه وسواه بعد الجفاف ولم يشرحه فأصابه المطر فأفسده، وعلى قول أبي حنيفة له الأجر إذا كان يعمل في داره، وعلى قولهما لا أجر له ما لم يشرحه، وأجمعوا على أنه إذا كان يعمل في دار نفسه لا يستحق الأجر وإن وجدت هذه الأعمال ما لم يسلمه إلى المستأجر منصوباً عند أبي حنيفة ومشروحاً عندهما، وحاصل الخلاف بينهم أن الثلثين بماذا يتم.
قال أبو حنيفة رحمه الله: بالنصب والتسوية بعد الجفاف، وقالا: بهذه الأشياء وبالتشريح أيضاً.
وفي «القدوري» الخياط إذا أخاط في بيت المستأجر، فإن خاط بعضه لم يكن له أجر؛ لأنه لا ينتفع به وإن هلك فلا ضمان عليه فلم يوجب الأجر بخياطة بعض الثوب، وإنه يخالف ما ذكر في «الأصل» قال في «القدوري» وإن فرغ منه فله الأجر، لأنه صار مسلماً للعمل، وعلى قولهما: إذا هلك قبل الفراغ من العمل أو بعده قبل التسليم إلى المالك فهو ضامن، فالمحل مضمون في يد الأجير عندهما فلا يخرج عن الضمان إلا بالتسليم إلى المالك، فإذا هلك كان صاحب الثوب بالخيار إن شاء ضمنه قيمة ثوب ولا أجر له، وإن شاء ضمنه قيمته مخيطاً وأعطاه الأجر.

وفي «الأصل» : إذا استأجر رجلاً يضرب له لبناً بملبن معلوم، ويطبخ له في أتون المستأجر ببدل معلوم فهو بمنزلة الخيار وإخراجه من الأتون من تمام عمله، حتى لو هلك قبل الإخراج بعدما نضج وكف عنه النار فإنه لا أجر له؛ لأن غير اللبن لا يحسن إخراج ذلك من الأتون فكان كإخراج الخبز من التنور، ولو هلك بعد ما أخرج من التنور فله الأجر كما في مسألة الخبز وهذا إذا كان يعمل في دار المستأجر، وأما إذا كان يعمل في دار نفسه فلا أجر له حتى يسلمه إلى المالك كما في مسألة الخبز.

الفصل العاشر: في إجارة الظئر
القياس يأبى جواز إجارة الظئر: لأنها ترد على استهلاك العين مقصوداً وهو اللبن، فهو بمنزلة ما لو استأجر شاة أو بقرة مدة معلومة بأجرة معلومة ليشرب لبنها لكن جوزناها استحساناً بقوله تعالى: {فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن} (الطلاق: 6) ، وهذا العقد لا يرد

(7/443)


على العين وهو اللبن مقصوداً، وإنما يرد على فعل التربية والحضانة وخدمة الصبي، واللبن يدخل فيه تبعاً لهذه الأشياء، هذا جائز.
كما لو استأجر صباغاً يصبغ له الثوب فإنها جائزة، وطريق الجواز: أن يجعل العقد وارداً على فعل الصبّاغ، والصبغ يدخل فيها تبعاً فلم تكن الإجارة واردة على استهلاك العين مقصوداً خرج على هذا فصل البقرة والشاة، لأن هناك عقد الإجارة يرد على استهلاك العين مقصوداً، وإذا جازت هذه الإجارة نظر بعد هذا إن لم يشترط في عقد الإجارة أنها ترضع الصبي في منزل الأب، ولم يكن العرف فيما بين الناس أنها ترضع الصبي في منزل الأب وإن شاءت أرضعته في منزلها، لأنه إنما يستحق على الأجير ما شرط عليه ولم يشترط عليها الإرضاع في منزل الأب لا نصاً ولا عرفاً، فلا يلزمها ذلك وإن شرط عليها الإرضاع في منزل الأب أرضعته في بيت الأب، وكان ينبغي أن لا يصح هذا الشرط؛ لأن هذا شرط لا يقتضيه مطلق العقد، ولأحد المتعاقدين فيه منفعة.

والجواب: أن الثابت بهذا الشرط زيادة جودة في المعقود عليه، لأن الإرضاع في منزل الأب أجود للصبي من الإرضاع في منزل الظئر؛ لأن الظئر تخشى من الأب في منزله، فتحسن في الإرضاع ما لا تحسن في منزلها واشتراط زيادة الجودة في المعقود (23أ4) عليه الذي لا يقتضيه مطلق العقد لا يفسد العقد.
كما لو اشترى عبداً على أنه كاتب أو اشترى بدراهم جياد، وكذلك إذا لم يشترط ذلك عليها صريحاً لكن كان العرف الظاهر فيما بين الناس أن الظئر ترضع الصبي في منزل أبيه لزمها ذلك، لأن المعروف فيما بين الناس كالمشروط ولو ضاع الصبي من يدها أو وقع فمات أو سرق شيء من حلي الصبي، أو ثيابه فلا ضمان على الظئر أما ضمان الصبي فلأنه ضمان آدمي، وضمان الآدمي لا يجب بالعقد.
ألا ترى أن ضمان الآدمي تتحمله العاقلة، وضمان المعقود لا تتحمله العاقلة كالثمن والأجر وهذا ضمان عقد فإنه لولا عقد الإجارة لما ضمن الظئر، وأما ضمان ما على الصغير من الثياب والحلي؛ لأن ما عليه تبع له فإذا لم يجب الضمان للأصل.
فكيف يجب ضمان البيع وطعام الظئر وكسوتها على الظئر إذا لم يشترط ذلك في عقد الإجارة على المستأجر، لأن الأجير بعقد الإجارة إنما يستحق على المستأجر ما شرط له.

فإن قيل: الطعام إن لم يكن مشروطاً لها نصاً فهو مشروط لها عرفاً والمعروف كالمشروط.
قلنا: إنما يجعل المعروف كالمشروط في العقد إذا كان فيه تجويز العقد وفي جعل الطعام مشروطاً لها في العقد فساد العقد عندهما قياساً واستحساناً، وعند أبي حنيفة رحمه الله قياساً فلا يجعل ذلك مشروطاً في العقد.

ثم إذ استأجر بالدراهم فلا بد من بيان قدرها وصفتها، وإن استأجرها بمكيل أو موزون فلابد من بيان قدره وصفته وإن استأجرها بثياب يشترط فيه جميع شرائط السلم،

(7/444)


وقد مر ذلك في صدر الكتاب وإن استأجرها بطعامها وكسوتها ووصف ذلك جاز بالاتفاق، وإن لم يصف فالقياس أن لا يجوز وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله.
وفي الاستحسان يجوز وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وجه القياس في ذلك: أن الأجرة مجهولة وجهالة الأجرة يوجب فساد العقد، كما في سائر الإجارات وجه الاستحسان قوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن} إلى قوله: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} (البقرة: 223) والمراد من قوله: {رزقهن وكسوتهن} أجرة الرضاع، لا نفقه النكاح لأن الله تعالى ذكر الإرضاع أولاً، ثم أوجب الرزق والكسوة ولم يذكر النكاح والحكم إذا نقل عقيب سبب قائماً يحال بالحكم على السبب المنقول، والسبب المنقول الإرضاع فعلم أن المراد من الآية الأجرة للرضاع.
فوجه الاستدلال بالآية: أن الله تعالى أوجب الأجرة للرضاع مع الجهالة فإنه قال: {بالمعروف} ، وإنما يقال: هذا فيما كان مجهول الصفة والنوع كما في قوله عليه السلام لهند امرأة أبي سفيان: خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف» فأما ما يكون معلوم القدر والصفة من كل وجه لا يقال له ذلك بالمعروف، فهذا دليل على أن الطعام والكسوة يصلح أجرة الرضاع مع الجهالة، ولأن هذا يجري مجرى نفقة الولد لأن الواجب في الحاصل والحقيقة نفقة الولد، إلا أن إيصال النفقة إلى الولد بواسطة الظئر وإذا كان هذا يجري مجرى النفقة صح مع الجهالة، ولأن الجهالة لا توجب فساد العقد بعينها بل للإفضاء إلى المنازعة والجهالة هاهنا لا تفضي إلى المنازعة لأن العادة فيما بين الناس، في كل البلدان التوسعة على الظئر وترك المنازعة في طعامهن وكسوتهن، لأن البخس في ذلك يؤدي إلى الضرر بالولد ومثل هذه العادة معدومة في سائر الإجارات.

وإذا صحت هذه الإجارة كان لها الوسط من الطعام والكسوة كما في نفقة الولد، والذي يجب على الظئر بعد الاستئجار الإرضاع والقيام بأمر الصبي فيما يصلحه من رضاعه وغسل ثيابه أما الإرضاع فظاهر، وأما القيام بأمر الصبي؛ فلأن القيام بأمر الصبي، وإن لم يكن من الارضاع إلا أن العادة فيما بين الناس أن الظئر هي التي تتولى ذلك فصار ذلك كالمشروط، وما يعالج به الصبيان من الريحان والدهن فهو على الظئر، وكان ذلك عرف ديارهم أما في عرفنا ما يصالح به الصبيان على أهله وطعام الصبي على أهله إن كان الصبي يأكل الطعام، والظئر أن يهبه والمرجع في جميع ذلك العرف وهذا لأن هذه الأشياء من توابع الإرضاع.

والأصل: أن الإجارة إذا وقعت على عمل فكل ما كان من توابع ذلك العمل ولم يشترط ذلك على الأجير في الإجارة فالمرجع فيه العرف وسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.

(7/445)


وليس للظئر ولا للمسترضع أن تفسخ هذه الإجارة إلا بعذر كما في سائر الإجارات، وكان ينبغي أن تكون للظئر ولاية الفسخ من غير عذر، لأن المعقود عليه في جانبها اللبن وإنه عين واستهلاك العين عذر في فسخ العقد كما في باب المزارعة، فإن لمن كان البذر من جهته حق فسخ المزارعة لأنه يحتاج إلى استهلاك العين.
وكما إذا استأجر جزاراً ليجزر له حقاً من هذا الأديم، ثم بدا له أن لا يقطع الأديم كان له فسخ العقد، لأنه يحتاج إلى استهلاك العين كذا هاهنا.
والجواب هذا هكذا إذا كانت العين متقوماً يضمن بالاستهلاك، وما يستهلك من اللبن ليس بمال متقوم يضمن بالاستهلاك، فكان اللبن والمنفعة سواء فلا يعتبر استهلاكه عذراً في الفسخ والعذر لأجل الصبي أن لا يأخذ لبنها أو معناً، لأن المقصود لا يحصل متى كانت الحالة هذه وكذلك إذا حبلت لأن الحبل يفسد اللبن، وكذلك إذا مرضت لأن اللبن يفسد بسائر أنواع المرض.

وكذلك إذا كانت سارقة لأنه يلحقهم زيادة ضرر، وكذلك إذا كانت فاجرة بينة الفجور لأنها ربما تحبل بما تدخل بيتهم فاجراً إن كانت ترضع في بيتهم، وفي ذلك ضرر على أهل الصبي ولأنها تتشاغل عن حفظ الصبي، وكذلك إذا أرادوا سفراً وأبت هي الخروج معهم وهذا لأنه لا يجب على الظئر بعقد الإجارة أن تسافر معهم، لا يجب على أهل الصغير ترك المسافرة وفي ترك الصغير عند الظئر ضرر لأهله، فيتعين الفسخ عند انتفاء هذه الوجوه.
وكذلك إذا كانت سيئة الخلق بذيئة اللسان لأنه لا يمكنهم تسليم المعقود عليه إلا بتحمل الأذى، وفيه ضرر زائد والعذر من جانب الظئر أن تمرض مرضاً لا تستطيع معه الإرضاع إلا بمشقة تلحقها، لأنه لا يمكنها إيفاء المعقود عليه إلا بزيادة ضرر.
وكذلك إذا حبلت وكذلك إذا آذوها بألسنتهم ولم يكفوا عنها لأنه لا يمكنها تسليم المعقود عليه إلا بضرر زائد، وهو ضرر تحمل الأذى.
وكذلك إذا لم تكن معروفة بالظئورة وهي ممن يعاب عليها، فلها الفسخ بخلاف ما إذا كانت تعرف بذلك ومعنى قوله لا تعرف بذلك أن تكون هذه أول إجارة منها، وإن كان الصبي قد ألفها ولا يأخذ لبن غيرها وهي لا تعرف بالظئورة كان لها الفسخ أيضاً في ظاهر الرواية.
وروي عن أبي يوسف: أنها ليس لها الفسخ إذا كان يخاف على الصبي من ذلك، قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: والاعتماد على رواية أبي يوسف، وتأويل قول محمد إذا كان الصبي يعالج بالغذاء من الفانيد والسمن ونحو ذلك مما يعالج به الصبيان أو يأخذ لبن الغير بنوع حيلة، أما إذا كان لا يعالج بالغذاء، ولا يأخذ لبن غيره فجواب محمد رحمه الله كجواب أبي يوسف وعليه الفتوى.

وفي «العيون» : إذا استأجر ظئراً لصبي شهراً، فلما انقضى الشهر أبت أن ترضعه والصبي لا يقبل ثدي غيرها، قال محمد رحمه الله: أخبرها على أن ترضعه بأجر مثلها، قال الحاكم: يحتمل أن يكون هذا الجواب في المعروفة بهذا الغدر وإذا كان لها زوج معروف فأجرت نفسها للظئورة بغير إذن الزوج.

(7/446)


ذكر في «الأصل» مطلقاً أن للزوج حق الفسخ قيل: هذا إذا كان الزوج يشينه ذلك لشرفه، أما إذا كان ممن لا يشينه ذلك فليس له الفسخ، وقيل: له حق الفسخ في الحالين، وهو الصحيح أما إذا كان الزوج من الأشراف فلعلتين:
أحدهما: أنه يعير بذلك، لأن الإجارة على الرضاع تعد دناءة (23ب4) والنكاح يفسخ لدفع ضرر العار حتى كان للأولياء حق الفسخ إذا زوجت نفسها من غير كفؤ مع أن النكاح لا يفسخ بسائر أسباب الفسخ أولى.
ألا ترى أن الغلام المأذون أو البالغ إذا أجر نفسه من رجل ليخدمه ويكون معه كان للأولياء حق الفسخ، وإنما كان لهم حق الفسخ لدفع العار عن أنفسهم كذا هاهنا.
ألا ترى أن المرأة إذا كانت من الأشراف، وأهل البيوتات فأجرت نفسها للظئورة، كان للأولياء حق الفسخ، وإنما كان لهم حق الفسخ لدفع العار عن أنفسهم.
والثاني: أن هذه الإجارة مما يوجب خللاً بحق الزوج؛ لأنها حال ما تنتقل لخدمة الصبي لا يمكنها خدمة الزوج، وللزوج أن يمنع المرأة عما يوجب خللاً في حقه وأما إذا لم يكن الزوج من الأشراف فللعلة الثانية، وإن كان زوجها مجهولاً لا تعرف أنها امرأته إلا بقولها فليس له أن ينقض الإجارة وإذا كان لها زوج معروف وقد استؤجرت شهراً، فانقضى الشهر والصبي لا يأخذ لبن غيرها إن كانت أجرت نفسها بغير إذن الزوج، فللزوج أن يأباه وإن خيف أن يموت الصبي وإن كانت أجرت نفسها بإذن الزوج فليس للزوج أن يمنعها إذا كان الصبي ممن لا يأخذ لبن غيرها.

في «العيون» : وإن كان الزوج قد سلم الإجارة فأراد أهل الصبي أن يمنعوه من غشائها مخافة الحبل وأن يضر ذلك تصبيهم فلهم أن يمنعوه عن ذلك في منزلهم، لا؛ لأن لهم ولاية منعه عن غشائها ولكن لأن غشيانها في منزلهم لا يكون إلا بعد الدخول في منزلهم ولهم ولاية منع الزوج عن الدخول في منزلهم وإن تغشها في منزله فله أن يغشها لأن الغشيان صار مستحقاً له بعقد النكاح لو سقط هذا الحق إنما سقط دفعاً للضرر عن الصبي والحبل أمر موهوم قد يكون وقد لا يكون ولا يجوز إسقاط الحق الثابت بيقين للأمر الموهوم ولا يسع للظئر أن تمنعه عن ذلك، لأن هذا الحق لم يسقط بسبب هذه الإجارة فلا يكون للمرأة منعه عن ذلك وكل ما يضر بالصبي نحو الخروج عن منزل الصبي زماناً كثيراً، وما أشبهه فلهم أن يمنعوها عنه وما لا يضر فليس لهم منعها عنه لحاجتها إلى ذلك، ويصير ذلك مستثناً من الإجارة كأوقات الصلاة ونحوها، ومعنى قوله: وكل ما يضر بالصبي لا محالة، أما ما كان فيه فهم الضرر فليس لهم منعها عنه ألا ترى أنها لا تمنع عن تمكين الزوج في منزله مع أن فيه وهم الضرر.
وفي «الأصل» : إذا استأجر الرجل ظئراً لولده الصغير، ثم مات الرجل لا تنتقض إجارة الظئر لأن إجارة الظئر وقعت للصغير؛ لأن الأب فيما يتصرف للصغير وكيل عن الصغير شرعاً، فيعتبر بالوكيل الحقيقي، والوكيل الحقيقي في باب الإجارة إذا مات لا تبطل الإجارة، فكذا الوكيل الشرعي.

(7/447)


فكان الفقيه أبو بكر البلخي يقول: إنما لا تبطل إجارة الظئر بموت الأب وهذا لأنه إذا كان للصغير مال، فالإجارة وقعت للصغير باعتبار المنفعة والأجر جميعاً فإن أجر الإرضاع يجب في مال الصبي، فكانت الإجارة واقعة للصبي من كل وجه فبقي بقاء الصبي فأما إذا لم يكن للصبي مال فالأجر يجب على الأب؛ لأن مؤنة الإرضاع على الأب إذا لم يكن للصغير مال فتكون الإجارة واقعة للأب، فتبطل بموت الأب.

ومنهم من قال: لا بل في الحالين جميعاً لا تبطل الإجارة بموت الأب وإطلاق محمد رحمه الله في «الكتاب» يدل عليه.
ووجه ذلك: أن الإجارة وقعت للصبي من كل وجه، باعتبار المنفعة والأجر جميعاً فإن الأجر يجب في ذمة الصبي، والأب يقضي ما وجب على الصغير من ماله ألا ترى أنه لو ظهر للصغير مال كان للأب أن يقضي ذلك من ماله فعلم أن الإجارة وقعت للصغير من كل وجه فلا تبطل بموت الأب، أو نقول: إن وقعت الإجارة للأب باعتبار الأجر وقعت للصغير باعتبار المنفعة فمن حيث أنها وقعت للأب إن كانت تبطل بموت الأب، فمن حيث أنها وقعت للصغير لا تبطل فلا تبطل بالشك أو نقول: لا فائدة في نقض الإجارة بموت الأب؛ لأنه يحتاج إلى إعادة مثلها في الحال.
ثم قال محمد رحمه الله: وأجر الظئر في ميراث الصبي قيل: أراد به أجر ما يستقبل من المدة بعد موت الأب أما ما وجب من الأجر حال حياة الأب يستوفى من جميع التركة وقيل: الكل يستوفى من نصيب الصغير، وهو الصحيح.
وفي «النوازل» : استأجر الرجل ظئراً ليرضع ابنه الصغير، فلما أرضعته شهوراً مات أب الصغير فقالت عمة الصغير للظئر: أرضعيه حتى يعطيك الأجر فأرضعته شهوراً، قال: إن لم يكن للصبي مال حتى استأجرها الأب فمن يوم مات الأب الأجر على العمة ثم ينظر إن كانت وصية الصغير رجعت بذلك في مال الصغير وما لا فلا، وإن كان للصبي مال يوم استأجرها فالأجر كله في مال الصبي وأشار إلى المعنى فقال: لأن في الفصل الأول الإجارة قد انقضت بموت الأب فإذا قالت العمة: أرضعيه ووافقته على ذلك، انعقد بينهما إجارة مبتدأة فيكون الأجر على العمة من هذا الوجه وفي الفصل الثاني الإجارة لم تنتقض بموت الأب، بل بقيت على حالها لأن العقد وقع للصغير من كل وجه فيكون الأجر في مال الصبي.

وإن ماتت الظئر انتقضت الإجارة كما في سائر الإجارات إذا مات الآجر وكذا إذا مات الصبي؛ لأن العقد وقع له فيبقى ببقائه ويبطل بموته، ولأنها عجزت عن إيفاء المعقود عليه عجزاً لا يرجى زواله، فهو بمنزلة العبد المستأجر إذا مات وذلك يوجب انفساخ العقد كذا هاهنا.
وإذا استأجر الرجل ظئراً ترضع صبيين له فمات أحدهما فإنه يرفع عنه نصف الأجر؛ لأنها بقدر النصف عجزت عن إيفاء المعقود عليه.
بيانه: أنه لا يمكن إيفاء المعقود عليه بدون الصبي، وليس لأب الصبي إقامة صبي

(7/448)


آخر مقام الصبي لما يقع بين الصبيين من التفاوت في الإرضاع، فهو معنى قولنا: عجزت عن إيفاء المعقود عليه بقدر النصف فتنفسخ الإجارة في النصف، فلهذا قال: يرفع عنه نصف الأجر.
ولو استأجرت ظئرين يرضعان صبياً واحداً فماتت إحداهما، فالأخرى بنصف الأجر إن كان متفاوتاً فبحساب ذلك.
والحاصل: أن الأجر يتوزع على لبنهما، وإن أجرت الظئر نفسها من قوم آخرين ترضع صبياً لهم ولا يعلم بذلك أهلها الأولون حتى يفسخوا هذه الإجارة، فأرضعت كل واحد منهما وفرغت فتداعت وهذه خيانة منها ولها الأجر كاملاً على الفريقين، ولا تتصدق بشيء، وهذا الجواب لا يشكل إذا قال أب الصغير للظئر: استأجرتك لترضعي ولدي هذا سنة بكذا؛ لأن الظئر في هذه الصورة تعتبر أجيرة مشترك؛ لأن الأب أوقع العقد أولاً على العمل إنما يشكل فيما إذا قال لها: استأجرتك سنة لترضعي ولدي هذا بكذا؛ لأنها أجيرة وجدت في هذه الصورة لأنه أوقع العقد على المدة أولاً، وسيأتي بيان ذلك في باب الراعي إن شاء الله تعالى.
وليس للأجير الواحد أن يؤاجر نفسه من آخر، وإذا أجر لا يستحق تمام الأجر على المستأجر الأول ويأثم.

والوجه في ذلك: أن أجير الواحد في الرضاع يشبه أجير المشترك من حيث إنه يمكنه إبقاء العمل إلى كل واحد منهما بتمامه كما في الخياط والقصار، وإن كانت أجير وعد من حيث إنه أوقع بالعقد في حقها على المدة ولو كانت أجيرة وعد من كل.... بل أوقع العقد في حقها على المدة والعمل عمل لا يمكنها إبقاؤها لكل واحد منهما على الكمال في تلك المدة، بأن أجرت نفسها يوماً للحصاد أو للخدمة فخدم في بعض اليوم الأول، وخدم في بعض اليوم (24أ4) الوحد، وقلنا بأنها تستحق الأجر كاملاً لشبهها بالأجير المشترك، وإذا دفعت الظئر الصبي إلى خادمتها حتى أرضعته فلها الأجر كاملاً استحساناً، لأنه لم يشترط عليها الإرضاع بلبنها.
فهو نظير من استأجر قصاراً ليقصر له ثوباً أو خياطاً ليخيط له ثوباً ولم يشترط عليه العمل بنفسه فعمل بغيره فإن يستحق الأجر كذا هاهنا، والمعنى فيه أن قوله: ليخيط ليقصر لترضع كما تذكر ويراد به المباشر تذكر ويراد به النسب فلا تتعين المباشرة مراداً له إلا بالتنصيص عليه، فأما إذا شرط عليها الإرضاع بنفسه فدفعته إلى خادمتها حتى أرضعته، هل تستحق الأجر؟ فقد اختلف المشايخ فيه، والصحيح أنها لا تستحق.
r

وإن أرضعته بلبن شاة أو غذته بطعام حتى انقضت المدة فلا أجر لها؛ لأن هذا لا يسمى إرضاعاً فلا يتحقق إيفاء المعقود عليه وبدونه لا تستحق الأجر وإن جحدت الظئر ذلك، وقالت: ما أرضعته بلبن البهائم وإنما أرضعته بلبني فالقول قولها مع يمينها استحساناً وإن قامت لأهل الصبي بينة على ما ادعوا فلا أجر لها.

(7/449)


قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: تأويل المسألة أنهم شهدوا أنها أرضعته بلبن الشاة، وما أرضعته بلبن نفسها أما لو اكتفوا بقولهم: ما أرضعته بلبن نفسها لا تقبل شهادتهم؛ لأن هذه شهادة قامت على النفي مقصوداً بخلاف الفصل الأول؛ لأن هناك النفي دخل في ضمن الإثبات وإن أقاما البينة أخذت ببينة الظئر.

وإذا استأجر الأب أم الصغير لإرضاعه فهو على وجهين: إما أن يستأجرها بمال نفسه أو بمال الصغير، فإن استأجرها حال قيام النكاح بمال نفسه لا يجوز، واختلفت عبارة المشايخ في تخريج المسألة بعضهم قالوا: إرضاع الصبي حال قيام النكاح واجب عليها ديانة إن لم يكن واجباً حكماً؛ وهذا لأنه اجتمع ما يوجب أن يكون الرضاع واجباً عليها وما يمنع أن يكون الإرضاع واجباً عليها من حيث إن النكاح وضع لاستحقاق الوطئ على المرأة ولاستحقاق المهر على الزوج، لا الإرضاع يوجب أن لا يكون الإرضاع واجباً عليها ومن حيث إن الامتناع عن إرضاع الصغير حال قيام النكاح سبب النفرة والنفرة سبب فوات مصالح النكاح يوجب أن يكون الإرضاع واجباً عليها فجعلناه واجباً ديانة لا حكماً.
إذا أثبت هذا فنقول: اعتبار الحكم إن كان يوجب جواز هذه الإجارة فاعتبار الديانة يمنع الجواز؛ لأن الإجارة بالاستحقاق قائماً بجوز إيرادها على ما ليس بمستحق، فلا يثبت الجواز بالشك وبعضهم قالوا: إنما لا يجوز هذا العقد؛ لأنه مهجور بين الناس.
فإنك لا ترى امرأة في نكاح رجل تأخذ الأجر على إرضاع ولده منها ولعرف الناس أثراً في جواز العقد وفساده، ألا ترى لو استأجر الرجل مرآة ليسوي عمامته جاز، ولو استأجر حباً لذلك لا يجوز وما افترقا إلا من حيث إن الأول عمل الناس، والثاني ليس عمل الناس، وبعضهم قالوا: إنما لا يجوز هذا العقد؛ لأنه استأجرها هي فيه شريكة؛ لأنهما يشتركان في الولد والإجارة لمثل هذا العمل لا يجوز وكما لا يجوز استئجار خادمتها؛ لأن خادمتها مملوكة لها وما يجب من الأجر فهو لها فيكون استئجار خادمتها كاستئجارها، وكذا لا يجوز استئجار مدبرتها، ولو استأجر مكاتبة لها جاز.

وإن استأجرها بمال الصغير روى ابن سماعة عن محمد: أنه يجوز وهو مشكل على العبادات كلها هذا استأجرها حال قيام النكاح وإذا استأجرها بعد الطلاق، فإن كان الطلاق رجعياً لا يجوز لأن الطلاق الرجعي لا يقطع ملك النكاح، فصار الحال بعد الطلاق الرجعي كالحال قبل الطلاق، وإن كان بائناً ففي ظاهر الرواية يجوز؛ وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يجوز؛ لأن هذا منع ثبت بالنكاح فبقي ما بقيت العدة كمنع نكاح الأخت وأربع سواها ومنعها عن زوج آخر.
وجواب ظاهر الرواية يخرج على العبارة الأولى والثانية أما على العبارة الأولى؛ فلأنا إنما أوجبنا الإرضاع عليها ديانة؛ لأن الامتناع عنه سبب لوقوع الخلل في مصالح النكاح بواسطة النفرة وهذا المعنى لا ينافي بعد الطلاق البائن؛ لأن مصالح النكاح لا حصول لها بعد البينونة، وأما على العبارة الثانية فلأن هذا العقد غير مهجور فيما بين

(7/450)


الناس ولا يخرج على العبارة الثالثة، وإنه ظاهر هذا إذا استأجر زوجته لإرضاع ولده منها ولو استأجرها لإرضاع ولده من غيرها يجوز، وإنه يخرج على العبارات كلها.
ولو استأجر الرجل أمته أو ابنته أو أخته ترضع صبياً له جاز، وكذلك كل ذات رحم محرم منه.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا استأجر ظئراً لترضع ولده سنة بمئة درهم على أنه إن مات الصبي قبل ذلك فالدراهم كلها للظئر فهذا شرط فاسد يفسد الإجارة؛ لأنه يخالف حكم الشرع؛ لأن حكم الشرع انفساخ الإجارة عند موت الصبي قبل المدة وعود الأجرة إلى المستأجر بقدر ما بقي من المدة، فإذا شرط خلافه فسد به العقد، فإن مات الصبي قبل ذلك فلها بقدر ما أرضعت أجر مثلها وترد البقية إلى المستأجر.

وفي «فتاوى الفضلي» : استأجر ظئراً ترضع ولده سنة على أن أجرتها ليلة ويوماً خمسون درهماً، وباقي السنة ترضع مجاناً فأرضعت شهرين ونصف ثم مات الولد يحسب لها من ذلك أجر مثلها على رضاع شهرين ونصف وترد الباقي؛ لأن هذه إجارة فاسدة؛ لأن قضية العقد انقسام الأجرة على منافع المدة، وقد شرط خلافها أو لأنهما شرطا عقد التبرع في الإجارة.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: مسلمة ترضع ولده الكافر بالأجر فلا بأس به فقد صح أن علياً رضي الله عنه أجر نفسه من كافر، ليسقى له الماء والله أعلم.

الفصل الحادي عشر: في الاستئجار للخدمة
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : ويكره للرجل أن يستأجر امرأة حرة يستخدمها بخلوتها؛ لأن الخلوة بالأجنبية قبل الإجارة مكروه كيلاً تصير سبباً للوقوع في الفتنة، وهذا المعنى موجود بعد الإجارة لكن الإجارة جائزة؛ لأنها عقدت على الاستخدام وأنه مباح في الخلوة بها وقد يخلو بها وقد لا يخلو بها وكان بمنزلة الاستئجار على كتابة النوح والغناء، فإنها جائزة؛ لأن المعصية في القراءة وعسى تقرأ وعسى لا تقرأ كذا هاهنا، إلا أنه لم يذكر الكراهة ثمة وذكر هاهنا لأنه قد يخلو بها والخلوة بالأجنبية في الحمل على المعصية أبلغ من الكتابة في حمله على القراءة، فلهذا ذكر الكراهة هاهنا ولم يذكر ثمة.
وفي «النوازل» : حرة أجرت نفسها من رجل ذي عيال فلا بأس به ولكن يكره أن يخلو بها؛ لأنه من احتمال الوقوع في الفساد، وهو تفسير ما ذكر في «الأصل» .
وقال أبو حنيفة: إذا استأجر الرجل امرأته لتخدمه كل شهر بأجر مسمى لا يجوز؛ لأن خدمة الزوج مستحقة على المرأة ديانة لما فيه من حسن المعاشرة، أن لم يكن مستحقاً عليها حكماً، والإجارة على ما كان مستحقاً على الأجير ديانة لا حكماً لا تجوز،

(7/451)


كما لو استأجرها لتخدمه فيما ليس من جنس خدمة البيت كرعي دوابه، وما أشبه ذلك يجوز؛ لأن غير ذلك غير مستحق عليها لا حكماً ولا ديانةً.
ولو استأجرت زوجها ليخدمها قال هو جائز هكذا ذكر (24ب4) في ظاهر الرواية وروى أبو عصمة سعد بن معاد المروري عن أبي حنيفة، أنه باطل وذكر في كتاب جعل الآبق أن المرأة متى استأجرت زوجها، فله أن لا يخدمها ومتى رفع إلى القاضي فإن القاضي يفسخ العقد وينقضه.
فمن مشايخنا من قال: ليس في المسألة اختلاف الروايتين لكن تأويل ما روى أبو عصمة أنه باطل أنه سيبطل، ومنهم من قال: لا بل في المسألة روايتان على ظاهر الرواية يجوز وله حق الفسخ بالمرافعة إلى القاضي، وعلى رواية أبي عصمة لا يجوز، واتفقت الروايات أن الأب إذا أجر نفسه للخدمة من ابنه لا يجوز حتى كان له أن يفسخ من غير قضاء ولا رضا.
واتفقت الروايات في الزوج والأب إذا أخدمهما أنهما يستحقان المسمى، نص على هذا في كتاب المزارعة، فإنه قال في المزارعة: كل من لا يجوز أن يستأجر للخدمة فله أجر المثل إلا الوالد والزوج فوجه أبو عصمة الاستخدام على سبيل القهر من غير عوض يجعل للخادم ذل ويقتضيه بالخادم.
ولهذا قالوا: الكافر إذا اشترى عبداً مسلماً فإنه يجبر على بيعه حتى لا يستخدمه قهراً من غير عوض يحصل للعبد فيكون في ذلك إخلالاً بالمسلم وليس للكافر استذلال المسلم فدل أن الاستخدام على سبيل القهر من غير عوض يحصل للخادم ذل.

وليس للمسلم أن يذل نفسه إذا ثبت هذا فنقول: بأن إجارة المرأة زوجها للخدمة لو صحت كان في ذلك استخدام الزوج على سبيل القهر من غير عوض يحصل له من وجه؛ لأنه إن حصل له عوض باعتبار ملك الرقبة فإن الأملاك من حيث الرقبة متباينة لم يحصل له العوض باعتبار المنافع متصلة ما للزوج كما للمرأة، وما للمرأة كأنه للزوج ولهذا لم يجز لواحد منهما أن يضع زكاة ما له في يد صاحبه فباعتبار المنفعة لا يحصل العوض فلا ينتفي الذل، وكان كالأب إذا أجر نفسه من ابنه للخدمة فإنه لا يجوز؛ لأنه من وجه كالحاصل بغير عوض من حيث إن للأب شبه ملك في مال ابنه، وهذا بخلاف المسلم إذا آجر نفسه من كافر للخدمة حيث يجوز باتفاق الروايات؛ لأنه وإن كان يستخدمه قهراً بعد الإجارة إلا أنه يستوجب عليه عوضاً من كل وجه على سبيل القهر، فينتفي الذل أما هاهنا بخلافه وجه ظاهر الرواية.
وهو الفرق بين الزوج وبين الأب أن مال الزوج في مال امرأته دون ما للأب في مال ولده؛ لأن للأب في مال ولده شبهة ملك حتى لو وطئ جارية ابنه، وقال: علمت أنها علي حرام لا يحد وليس للزوج في مال امرأته شبهة ملك ولهذا لو وطئ في جارية زوجته، وقال: علمت أنها علي حرام يحد ولو كان للزوج في مال زوجته مثل ما للأب في مال ولده لكان لا تجوز الإجارة أصلاً ولو لم يكن للزوج في مال زوجته شيء أصلاً

(7/452)


لكانت تجوز الإجارة، كما لو أجر نفسه لخدمة أجنبية فإذا كان له في مال المرأة شيء، ولكن دون ما للأب في مال ابنه حكمنا بجواز الإجارة وأثبتنا له حق الفسخ بالمرافعة إلى القاضي توقيراً على الأمرين حطهما بقدر الممكن.
وفي «الفتاوى» : امرأة قالت لزوجها اغمز رجلي على أن لك علي ألف درهم فغمز الزوج رجلها، إلى أن قالت: لا أريد الزيادة فالإجارة باطلة؛ لأن استئجار المرأة زوجها للخدمة باطلة، وهذا الجواب يوافق رواية أبي عصمة ويخالف ظاهر الرواية ثم الزوج أو الأب إذا خدم كان له المسمى اتفقت الروايات في ذلك، وهذا الحكم لا يشكل في الزوج على ظاهر الرواية؛ لأن على ظاهر الرواية هذه الإجارة جائزة أما يشكل على رواية أبي عصمة لأن على هذه الرواية الإجارة فاسدة، وكذلك يشكل في الأب على ظاهر الرواية لأن على ظاهر الرواية استئجار الابن أباه للخدمة فاسدة.
وفي الإجارة الفاسدة يجب أجر المثل، والجواب أنا إنما حكمنا بفساد هذه الإجارة في الزوج على رواية أبي عصمة، وفي الأب على ظاهر الرواية نظراً للأب والزوج حتى لا يلحقه ذل بسبب الخدمة، والنظر في إيجاب المسمى متى خدم لا في إيجاب أجر المثل لا يزاد على المسمى، إن كان المسمى شيئاً معلوماً فلا يستحق الزيادة إن كان أجر مثله يريد على المسمى، وينقص عن المسمى إذا نقص أجر المثل عن المسمى، وإذا حكمنا بوجوب المسمى لا ينقص عنه شيء بعد ذلك فكان النظر في إيجاب المسمى من هذا الوجه، فلهذا أوجبنا المسمى.

هذا كما قلنا في العبد المحجور إذا أجر نفسه أنه لا تجوز الإجارة، ولكن إذا عمل وسلم من العمل يستحق المسمى؛ لأنا إنما حكمنا بالفساد نظراً للمولى، وانظر متى عمل وسلم في التجويز حتى لا تزول منافع عبده مجاناً كذا هنا.
وإن استأجرت المرأة زوجها ليرعى غنمها، أو يقوم على عمل لها جاز أما على ظاهر الرواية فظاهر، وأما على رواية أبي عصمة فلأنه لا ذل فيه.

ولو استأجر الرجل ابنه للخدمة أو استأجرت المرأة ابنها للخدمة لم يجز، وإذا خدم فلا أجر له؛ لأن خدمة الأب واجبة على الابن فالإجارة وردت على ما هو المستحق فلا تعمل، قال: إلا إذا كان الابن عبداً للغير أو مكاتباً للغير فاستأجره أحدهما من المولى للخدمة، لأن خدمة الأب لا تلزم الابن إذا كان عبداً لغيره أو مكاتباً لغيره، وإن كان الابن حراً فاستأجره أحدهما ليرعى غنماً له أو استأجره لعمل آخر وراء الخدمة، فإنه يجوز.
وإن استأجر الابن أمه، أو جدته، أو جده للخدمة لا يجوز ولو خدمت فلها المسمى، ويستوي ذلك أن يكون الابن حراً، أو عبداً مسلماً، أو كافراً؛ لأن خدمة الأب واجبة على الابن مع اختلاف الدين، ويجوز الاستئجار للخدمة فيما بين الأخوة وسائر القرابات. ومن مشايخنا من قال: إذا استأجر عمه للخدمة والعم أكبر أو استأجر أخاه الأكبر للخدمة لا يجوز.

(7/453)


ويكره للمسلم أن يؤاجر نفسه من الكافر للخدمة، ويجوز إذا فعل، أما الجواز فلما مرّ وأما الكراهة؛ لأنه استذلال صورة فإن لم يكن استذلالاً معنى، وليس للكافر استذلال المسلم صورة.
«وفي فتاوي الفضلي» : لا تجوز إجارة المسلم نفسه من النصراني للخدمة، وفيما سوى الخدمة يجوز والأجير في سعة من ذلك ما لم يكن في ذلك إذلال.
وإذا استأجر الرجل عبداً ليخدمه كل شهر بأجر مسمى فله أن يستخدمه من السحر إلى ما بعد العشاء الآخرة، والقياس أن يكون له استخدامه بالليل والنهار الشهر كله؛ لأن الشهر اسم لثلاثين يوماً وليلة إلا أن ما بعد العشاء الآخرة إلى السحر صار مستثنى عن الإجارة عرفاً، فإن العرف فيما بين الناس أنهم لا يستخدمون المماليك بعد العشاء الآخرة إلى السحر؛ لأنهم ينامون والمستثنى عرفاً كالمستثنى شرطاً.

وإذا استأجر الرجل عبداً شهرين شهراً بخمسة وشهراً بستة، كان الشهر الأول بخمسة، والشهر الثاني بستة؛ لأن قوله: آجرتك شهراً بخمسة بمنزلة قوله: أجرتك هذا الشهر؛ لأن الإجارة شهراً تنصرف إلى الشهر الذي يلي العقد فصار كأنه قال: آجرتك هذا العبد في هذا الشهر بخمسة، وفي الشهر الثاني بستة.
وإذا استأجر عبداً بالكوفة يستخدمه ولم يعين مكاناً للخدمة، كان له أن يستخدمه بالكوفة وليس له أن يستخدمه خارج الكوفة؛ لأن الاستخدام بالكوفة ثابت بدلالة الحال فيعتبر بما لو ثبت نصاً.
بيانه: أن المستأجر له حمل ومؤنة فالظاهر من حال صاحب العبد، أنه يريد الاستخدام في مكان العقد حتى لا يلزمه مؤنة الردود بما يرى ذلك على الأجر فيتعين موضع العقد مكاناً للاستيفاء بدلالة الحال من هذا الوجه، فإن سافر بها ضمن (25أ4) لأن كونه تعين مكاناً للاستيفاء بدلالة الحال فيعتبر بما لو تعين بالنص وهناك لو سافر بالعبد يضمن كذا هاهنا، هكذا ذكر محمد رحمه الله في إجارات «الأصل» وذكر في صلح «الأصل» أن من ادعى داراً وصالحه المدعى عليه على خدمة عبده سنة إن له أن يخرج بالعبد إلى أهله؛ لأن الإذن بالاستخدام حصل مطلقاً واعتبره بالعبد الموصى له بالخدمة.
قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني في «شرح كتاب الصلح» : لم يرد بقوله يخرج بالعبد إلى أهله أن يسافر به، وإنما أراد به أن يخرج به إلى أهله في القرى، وأقرّ البلد قال رحمه الله: وهذا كما قلنا في باب الإجارة من استأجر عبداً للخدمة ليس له أن يسافر به، وله أن يخرج إلى أهله في القرى وما فيه البلدة.
وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله يفرق بين مسألة الصلح وبين مسألة الإجارة وكان يقول في مسألة الصلح: لصاحب الخدمة أن يسافر بالعبد، وليس للمستأجر أن يسافر بالعبد المستأجر للخدمة.

وحكي عن الفقير أبي إسحاق الحافظ أنه كان يقول: لا رواية عن محمد في فصل الإجارة فلقائل أن يقول: للمستأجر أن يخرج بالعبد عن المصر كما في الصلح ولقائل:

(7/454)


أن يفرق بينهما وقد عرنا على الرواية في «إجارات الأصل» على نحو ما كتبنا قال محمد رحمه الله: وليس للمستأجر أن يضرب الغلام لأن صاحب الغلام لم يأذن له بالضرب، إنما أذن له بالاستخدام والضرب ليس من الاستخدام في شيء، ولا ضرورة إليه أيضاً؛ لأنه يمكن استخراج الخدمة من العبد بدون الضرب بالملائمة فلا يصير الضرب مأذوناً فيه وخرج على هذا فصل الدابة فإن المستأجر الدابة للركوب أن يضرب الدابة لأنه لا يمكن استخراج السير من الدابة بدون الضرب فصار الضرب ثمة مأذوناً فيه أما هاهنا بخلافه.
ولو دفع المستأجر الأجر إلى العبد فإن كان العبد هو العاقد فقد برأ عن الأجر، لأنه دفع الأجر إلى العاقد وإن لم يكن عاقداً لا يبرأ وإن حصل الرد إلى من يره يد المولى من حيث الحكم، فرق بين هذا وبين المودع إذا دفع الوديعة إلى عبد المودع حيث لا يضمن.

والفرق: أن يد العبد يد المولى من حيث الحكم لا من حيث الحقيقة والأمر كان واجباً على المستأجر، فباعتبار الحكم إن كان يحصل له البراءة عنه فباعتبار الحقيقة لا تحصل فلا تحصل البراءة بالشك، أما الوديعة فلم تكن في ضمان المودع فباعتبار الحقيقة إن كان يجب الضمان، فباعتبار الحكم لا يجب فلا يجب الضمان بالشك.
وإذا استأجر الرجل عبداً للخدمة فله أن يكلفه ما هو من أنواع الخدمة؛ لأن الخدمة اسم جنس فتتناول جميع أنواعه فله أن يكلفه أن يخيط له يوماً، وأن يخبز له هكذا ذكر في «الكتاب» قالوا: وهذا إذا كان خياطة وخبزاً لا بدّ للمستأجر منه، وأما إذا أراد أن يقعده خياطاً يخيط ثياب الناس أو يقعده خبازاً يخبز للناس ليس له ذلك؛ لأن هذا تجارة واكتساب المال فلا يدخل تحت اسم الخدمة.

قال: وطعام العبد على صاحبه وليس على المستأجر من ذلك شيء؛ لأن المستحق على المستأجر المشروط عليه في العقد والطعام غير مشروط على المستأجر في العقد لا نصاً ولا عرفاً.
قال: وإذا نزل بالمستأجر ضيفان ففي العبد المستأجر أن يخدمهم؛ لأن خدمة ضيفان المستأجر من جملة خدمة المستأجر ألا ترى أنه لولا هذا العبد كان على المستأجر أن يخدمهم ديانة ومروءة قال عليه السلام: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه أو فليخدم ضيفه» وإذا كان على المستأجر خدمة ضيفه، وإذا كان على المستأجر خدمة نفسه صار خدمة ضيفانه كخدمته.
وإن تزوج المستأجر امرأة بعد ما استأجر العبد، فعلى العبد أن يخدم المستأجر ويخدم المرأة أيضاً؛ لأن حال المرأة لا يكون أقل من حال الضيف، وعلى العبد خدمة الضيف فكان عليه خدمة المرأة من الطريق الأولى.
وفي رواية إبراهيم عن محمد: رجل أجر عبداً له سنة ثم إن العبد أقام البينة أن المولى كان أعتقه قبل الإجارة، فالأجرة للعبد؛ لأنه تبين أن المولى كان أجنبياً في هذه

(7/455)


الإجارة فتوقف على إجارة العبد، ونفذ بإجارته والمبدل وهو المنافع بعد العتق للعبد فكان البدل له أيضاً ولو قال العبد: إني حر، وقد فسخت الإجارة ولم يكن له بينة ودفعه القاضي إلى مولاه وأجبره المولى على العمل ثم أقام بينة أنه حر، وأن المولى أعتقه قبل الإجارة فلا أجر للعبد ولا للمولى ولو لم يقل فسخت كان الأجر للعبد، ولو كان غير بالغ فادعى العتق وقد أجره المولى وقال: قد فسخت ثم عمل، وباقي المسألة بحاله فالأجر للغلام.
قال في «الكتاب» : وهو بمنزلة لقيط في حجر رجل أجره، وفي المسألة نوع إشكال؛ لأنه تبين أن المولى كان أجنبياً عنه، وأن عقده يوقف على إجارته فينبغي أن يعمل فسخه حتى لا يكون له الأجر ثم أشار إلى الجواب، وقال: هذا بمنزلة لقيط في حجر رجل أجره.

وبيان ذلك: أن الملتقط إنما ملك إجارة اللقيط لأنه بالإجارة يجعل ما ليس بمتقوم في حقه متقوماً، وإنه نظر في حق الصغير وهذا المعنى يقتضي أن يملك المولى إجارة معتقة، إذا كان صغيراً في حجره فينفذ عقد المولى الإجارة عليه بصفة اللزوم فلا يملك فسخها بعد ذلك.
قال في «القدوري» : وإذا أجر الرجل عبده سنة فلما مضت ستة أشهر أعتقه فعتقه جائز، لأنه اعتق ملك نفسه والرقبة بعد الإجارة باقية على ملك المولى فينفذ عتقه، وكان العبد بالخيار إن شاء مضى على الإجارة وإن شاء فسخ، وهذا بناء على ما قلنا: أن عقد الإجارة ينعقد ساعة فساعة على حسب حدوثها، والمنافع بعد العتق حدث على ملك العبد، فيصير العقد في حق المنافع الحادثة بعد العتق كأنه صدر من الفضولي فتوقف على الإجازة، وإذا أجاز لم يكن له أن ينقض بعد ذلك وأجر ما مضى للسيد وما بقي للعبد لأن الأجر بدل المنافع والمنافع بعد العتق ملك العبد، ونفذ العقد عليها بإجارة العبد فكان بدلها للعبد، وليس للعبد أن يقبض الأجرة إلا بوكالة من المولى؛ لأن قبض البدل من حقوق العقد، فثبت للعاقد والعاقد هو المولى، وإن كان المولى حين أجر العبد استعجل الأجرة ثم أجاز العبد بعد العتق، فالأجرة كلها للسيد؛ لأن الأجرة تملك بالتعجيل وفي تلك الحالة المبدل على حكم ملك المولى، فصارت الأجرة مملوكة للمولى، وبالإجارة عن العبد تقرر حكم ذلك الملك فلا يتغير بالعتق.
ولو كان العبد هو الذي آجر نفسه بإذن المولى، ثم عتق بعد ما مضى مدة فله حق الفسخ، والعبد هو الذي يلي قبض الأجرة؛ لأن العقد كان منه ولو آجر المكاتب عبده، ثم عجز ورد في الرق، فالإجارة باقية في قول أبي يوسف وقال محمد: تنقض الإجارة.
f

ولو استأجر عبداً ثم عجز بطلت الإجارة في القولين، ولو أجر الرجل عبداً له ثم استحق وأجاز المستحق الإجارة، فإن كانت الإجارة قبل استيفاء المنفعة جاز وكانت الأجرة للمالك لأن الإجارة في الانتهاء كالأذن في الابتداء، وإن أجاز بعد استيفاء المنفعة لم تعتبر الإجارة والأجرة للعاقد؛ لأن المنافع قد مضت وتلاشت (25ب4) .

(7/456)


وابتداء العقد عليها لا يجوز فلا تلحقها الإجازة؛ لأن الإجازة في معنى ابتداء العقد وإن أجاز في بعض المدة، فالأجر في الماضي والباقي للمالك في قول أبي يوسف.
وقال محمد: أجر ما مضى للغاصب وما بقي فهو للمالك.
فوجه قول أبي يوسف: أن العقد قائم فتلحقه الإجازة، ووجه قول محمد: أن العقد ينعقد ساعة فساعة، ففي حق ما مضى من منفعة العقد قد انعدم فلا تلحقه الإجازة.

وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا أجرت المرأة دارها من زوجها وسكناها جميعاً فلا أجر لها، قال وهو بمنزلة استئجارها لتطبخ، أو تخبز، هكذا ذكر.
وقيل: في المعنى أن التسليم شرط لصحة الإجارة، ولوجوب الأجر وسكناها معه يمنع التسليم والحكم ممنوع والعلة مردودة، والقياس على استئجارها للطبخ والخبز غير صحيح؛ لأن الطبخ والخبز واستحق عليها ديانة إن لم يكن مستحقاً عليها حكماً.
أما إسكان الزوج في منزلها غير مستحق عليها إلا ديانة ولا حكماً وقوله: بأن سكناها مع الزوج يمنع التسليم.
قلنا: لا يمنع لأنها تابعة للزوج في السكنى ولو استأجر الرجل غلاماً ليخدمه فرفع الغلام شيئاً من متاع البيت، ووقع من يده على شيء آخر من متاع البيت فكسره فلا ضمان على الغلام، ولو وقع على وديعة كانت عند المستأجر وكسرها فالغلام ضامن.

ومما يتصل بهذا الفصل إجارة الصبي والاستئجار له

إذا أجر الأب أو الجد أو الوصي الصبي في عمل من الأعمال، فهو جائز؛ لأن لهؤلاء ولاية استعمال الصغير من غير عوض بطريق التهذيب والرياضة، فمع العوض أولى، ولا يجوز إجارة غيرهم إذا كان له واحد منهم؛ لأنه لا ولاية لغيرهم على الصغير حال قيام واحد منهم وإن لم يكن له واحد منهم فأجره ذو رحم محرم منه، وهو في حجره جاز بطريق التهذيب والرياضة فإن لصاحب الحجر ولاية تهذيب من في حجره، فإن كان في حجره ذو رحم محرم فأجره آخر هو أقرب كالصبي إذا كان في حجر عمه وله أم فأجرته الأم جاز في قول أبي يوسف وقال محمد: لا يجوز.
فوجه قول محمد: أن هذه الولاية في حق غير الأب والجد ووصيهما بطريق التهذيب والرياضة، وإنما تثبت ولاية التهذيب والرياضة لمن كان الصبي في حجره، ولأبي يوسف أن القرابة مؤثرة في إثبات الولاية فإذا ملكه الأبعد ملكه الأقرب من الطريق الأولى، والذي ولي الإجارة على الصغير أن يقبض الأجرة؛ لأنه من حقوق العقد فيتعلق بالعاقد وليس له أن ينفقها عليه؛ لأنها مال الصغير وليس لغير الأب والجد ووصيهما؛ ولأنه التصرف في مال الصغير، وكذلك إذا وهب للصغير شيء فللذي الصغير في حجره أن يقبضه، ولكن لا ينفق عليه لما قلنا وللأب والجد ووصيهما إجارة عبد الصبي وسائر أمواله، فأما غير ممن هؤلاء ممن الصغير في حجره لا يمكن إجارة مال الصغير؛ لأنه ليس لغير هؤلاء ولاية التصرف في مال الصغير.

(7/457)


وعن محمد رحمه الله أنه قال: استحسن أن يؤاجروا عبده، لأنه ظهر ولا يتهم في نفس الصغير نظراً له فكذا تظهر ولايتهم في مال الصغير نظراً له قال: وكذلك استحسن أن ينفقوا عليه ما لا بد منه؛ لأن في تأخير ذلك ضرر بالصغير، ولو أجر الأب أو الجد أووصيهما الصغير ثم بلغ الصغير فهو بالخيار إن شاء مضى على الإجارة وإن شاء فسخ.
فرق بين هذا وبينما إذا أجروا عبداً للصغير، ثم بلغ الصغير حيث لا يكون له ولاية الفسخ.

والفرق: أن إجارة مال الصغير محض منفعة في حق الصغير إذ بها يحصل للصغير ما هو متقوم وهو الأجر بمقابلة ما ليس بمتقوم وهو المنافع فينوب الجد والوصي فيها مناب الصغير، وصار كأنه آجر بنفسه وهو بالغ، فأما إجارة الصغير لم يتمحض نفعاً في حق الصغير؛ لأنه أتعب بدنه فكان ينبغي أن لا يملكها هؤلاء لكن ملكوها من حيث التهذيب والرياضة، فلهؤلاء ولاية تهذيب الصبي ورياضته قلنا: وولاية التهذيب قد انقطعت بالبلوغ.

وإذا أجر الوصي نفسه للصغير لا يجوز.
أما على قول محمد؛ فلأن الوصي لا يملك بيع مال نفسه مع أنه مقابلة العين بالعين فلأن لا يملك إجارة نفسه منه وإنه مقابلة المنفعة بالعين أولى.
وأما على قول أبي حنيفة: فلأنه إنما يملك بيع مال نفسه من الصغير إذا كان النفع ظاهراً للصغير ولا نفع في بيع المنفعة للصغير، وإن كان بأقل من قيمته بحيث لا يتغابن الناس في مثله؛ لأن ما يحصل للوصي غبن وما يحصل للصغير منفعة والعين خير من المنفعة.
ولو استأجر الوصي الصغير لنفسه فينبغي أن يجوز في قول أبي حنيفة إذا كان بأجرة لا يتغابن الناس في مثلها؛ لأن في هذا التصرف نفع للصغير؛ لأنه يحصل له العين وهو الأجر بمقابلة المنفعة، وأما الأب إذا استأجر الصغير لنفسه لا شك في جواز هذه الإجارة، وأما إذا أجر نفسه للصغير بمثل القيمة ذكر في عامة الروايات أنه يجوز عندهم جميعاً؛ لأنه باع منفعة له من الصغير بمثل القيمة فيعتبر بما لو باع عيناً له من الصغير بمثل القيمة، وذلك جائز فكذا هذا.
وذكر في بعض الروايات أنه لا يجوز، هكذا ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» .
ووجه ذلك: أن العمل للصغير واجب على الأب ديانة، إن لم يكن واجباً من حيث الحكم، فالوجوب ديانة مانع جواز الإجارة لما هو قبل هذا.

الوصي إذا استأجر من نفسه عبد اليتيم ليعمل ليتيم آخر هو في حجره، وهو وصيهما لا يجوز؛ لأنه باع منفعة أحد اليتيمين من الآخر فيعتبر بما لو باع عيناً من أعيان مال أحدهما من الآخر وذلك لا يجوز، فهذا كذلك الصبي المحجور إذا أجر نفسه لم يجز.
وكذلك العبد المحجور إذا أجر نفسه لم يجز، وهذا؛ لأن الإجارة عقد المعاوضة كالبيع فلا يملكها المحجور عليه كما لا يملك البيع، فإن عمل فهذا على وجهين: إما إن سلم من العمل وفي هذا الوجه القياس أن لا يجب الأجر؛ لأن وجوب الأجر باعتبار العقد والعقد باطل.

(7/458)


وفي الاستحسان يجب الأجر المسمى؛ لأن بعدما سلم من العمل فتجويز العقد يتمحض نفعاً في حق المولى وفي حق الصبي؛ لأنا إذا جوزنا الإجارة يحصل للمولى وللصبي الأجر من غير ضرر يلزمهما، ولو لم تجوز لا يجب الأجر وتضيع على المولى منافع العبد وعلى الصبي منافع نفسه ولا يتقوم أصلاً، وعلم أن الجواز بعدما سلم من العمل تمحض نفعاً وامتناع الجواز من الابتداء لكون الإجارة مترددة بين الضرر والنفع لجواز أن يهلك العبد أو الصبي من العمل فيبطل ضمان العين إن حصل به الأجر، فكانت الإجارة نفعاً شائباً بالضرر فلم يجز من الابتداء؛ لهذا وبعد ما سلم من العمل بمحض الجواز نفعاً، والمحجور غير ممنوع عن استجلاب النفع كقبول الهبة وغير ذلك؛ فلهذا جازت الإجارة.

وإما إن هلك المحجور من العمل، وفي هذا الوجه إن كان المحجور صبياً وعلى عاقلة المستأجر ديته وعليه الأجر فيما عمل قبل الهلاك. وإن كان المحجور عبداً فعلى المستأجر قيمته ولا أجر عليه فيما عمل له العبد، وهذا لأن المستأجر صار غاصباً للعبد كما استعمله، فإذا ضمن ملكه من ذلك الوقت وصار منتفعاً بملكه فلا يجب عليه أجر، فأما الصغير لا يضمن بالغصب، وإنما يضمن بالخيانة، وقد صار باستعماله، إلا أن ضمان الخيانة، لا يعيد الملك في المضمون إذا كان المضمون عبداً، فإذا كان حراً أولى، فلم يملكه المستأجر بهذا الضمان ولم يصر منتفعاً بملك نفسه، فكان عليه الأجر فيما عمل قبل الهلاك من هذا الوجه.
قال في «القدودي» : وأحد الوصيين يملك أن يؤاجر الصبي في قول أبي حنيفة، ولا يؤاجر عبده. وقال محمد: يؤاجر عبده.
وفي «المنتقى» إذا لم يكن أب الصبي حائكاً فليس لمن كان الصغير في حجره (26أ4) أن يسلمه إلى حائك؛ لأن التصرف في الصغير مفيد بشرط النظر، وفي هذا ضرر بالصغير لأن الحياكة من خبائس الحرف.
الوصي إذا أجر منزل اليتيم بدون أجر المثل، أيلزم المستأجر أجر المثل أم يصير غاصباً بالسكنى ولا يلزمه الأجر. ذكر «الفضلي في فتاويه» : أنه يجب أن يصير غاصباً على أصول علمائنا، ولا يلزمه الأجر. فقد قال في كتاب المزارعة: الوكيل يدفع الأرض مزارعة إذا دفعها وشرط للزارع من الزرع ما لا يتغابن الناس في مثله، إن الوكيل يصير مخالفاً غاصباً، ويصير الزارع غاصباً، ولم نقل: هذه مزارعة فاسدة، ولم نحكم فيها بأحكام المزارعة الفاسدة.

قال: وذكر الخصاف في «كتابه» أن المستأجر لا يكون غاصباً بل يلزمه أجر المثل، وهذا لأن الإجارة لو كانت من المالك ولم يسم بدلاً يجب أجر المثل بالغاً ما بلغ، ولو كان سمى فيه الأجر وجب المسمى، ولا يزاد عليه فالزيادة على المسمى إنما لم تجب على المستأجر؛ لأن المؤاجر أبطلها بالتسمية، فالوصي أيضاً لو لم يسم الأجر أصلاً يجب أجر المثل بالغاً ما بلغ، وإذا سمى الأجر لم تجب الزيادة على المسمى إنما لا

(7/459)


تجب لإبطال الوصي الزيادة بالتسمية وليس له إلى إبطالها سبيل، ويجعل في حق الزيادة كأن التسمية لم توجد أصلاً.
والقاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي كان يفتي بقول الخصاف حتى حكى عنه أنه قال: لو غصب إنسان دار صبي يجب عليه أجر المثل، فما ظنك في هذا، والفتوى على أنه يجب أجر المثل في هذه الصورة بالغاً ما بلغ، لا إذا انتقص المنزل بسبب سكنى المستأجر، وكان ضمان النقصان أنفع لليتيم من أجر المثل فيجب ضمان النقصان، أما بدون ذلك يجب أجر المثل وهكذا يقول فيمن سكن دار صغير أو حانوت صغير، وإنه معد للاستغلال أنه يجب أجر المثل إلا إذا انتقص بسبب سكناه وضمان النقصان أنفع في حق الصغير فيجب ضمان النقصان.

وفي «قضايا الفتاوى» : رجل أقعد صبياً مع رجل يعمل معه، فاتخذ له هذا الرجل كسوة ثم بدا للصبي أن لا يعمل معه قال: إن كان أعطاه كرباساً والصبي هو الذي تكلف خياطته لم يكن للرجل على الكسوة سبيل؛ لأن الصبي ملكه بخياطته فانقطع عنه حق الدافع والله أعلم.