المحيط البرهاني في الفقه النعماني

الفصل الثاني عشر: في صفة تسليم الإجارة
إذا وقع عقد الإجارة صحيحاً على مدة أو مسافة، وجب تسليم ما وقع عليه العقد، وإنما مدة الإجارة لا مانع من الانتفاع لأن تسليم المعقود عليه واجب وذلك بالتمكين من الانتفاع، لأن تسليم عين المنفعة لا يتصور فيقام التمكين من الانتفاع مقامه، وذلك تسليم المحل إليه بحيث لا مانع من الانتفاع، فإن عرض في بعض المدة، أو المسافة ما يمنع الانتفاع سقط الأجر بقدر مدة المنع.
وذلك بأن يغصبه غاصب أو يحدث فيه مرض، أو إباق، أو تغرق الأرض، أو يقطع عنها الشرب، لأنا أقمنا تسليم المحل قائم مقام تسليم المنفعة المستحقة بالعقد بسبب التمكين من الانتفاع، فإذا فات التمكين فإن التسليم ينفسخ العقد بقدره، فإن اختلفا بعد انقضاء المدة في تسليم ما استأجر في مدة الإجارة، فالقول قول المستأجر مع يمينه لأن الأجر للمدعى عليه تسليم المعقود عليه وتأكد الأجر، وهو ينكر، والبينة بينة الآجر تثبت التسليم وتقرر الأجر له على المستأجر، وبينة المستأجر تنفي ذلك.
ولو اتفقا أنه سلم في أول المدة أو المسافة، واختلفا في حدوث العارض فقال المستأجر: عرض لي ما منعني عن الانتفاع به من مرض، أو غصب، أو إباق، وجحد المؤاجر ذلك، فإن كان ذلك العارض قائماً عند الخصومة فالقول قول المستأجر مع يمينه البتة، وإن لم يكن قائماً فالقول قول المؤاجر مع يمينه على علمه؛ لأن في الفصل الأول الظاهر شاهد للمستأجر، وفي الفصل الثاني الظاهر شاهد للمؤاجر وإنما يحلف المستأجر

(7/460)


البتة؛ لأنه يحلف على فعل نفسه وهو التسليم، وإنما يحلف المؤاجر على العلم لا يحلف على فعل نفسه.
وإن اتفقا على حدوث المانع واختلفا في مدة بقاء المانع، فالقول قول المستأجر؛ لأن القبض الأول قد انقطع بحدوث العارض فكان هذا خلافاً في ابتداء القبض، فيكون القول فيه قول المستأجر.
قال في «المنتقى» عن أبي يوسف: المستأجر إذا جاء بالعبد المستأجر مريضاً، أو قال: قد أبق، وأقام رب العبد البينة أنه عمل كذا وكذا، وأقام المستأجر بينة أنه كان أبق يومئذ، أو كان مريضاً، فالبينة بينة رب العبد؛ لأنها هي المبينة.
وفي «الأصل» : رجل يكاري من رجل منزلاً فقال: دونك المنزل فانزله معناه بالفارسية أينك خان وجا فردد أيدن فردد أي ونيشين، إلا أنه لم يفتح الباب فجاء رأس الشهر وطلب صاحب المنزل الأجر، وقال المستأجر: لم يفتحه لي وأنزله، فإن كان يقدر على فتحه فالكراء واجب، وإن كان لا يقدر على فتحه لا يجب الكراء وذلك؛ لأنه متى كان قادراً على فتحه، وقد خلى الآجر بينه وبين الدار فقد أتى بالتسليم المستحق عليه؛ لأن التسليم المستحق بحكم العقد تسليم يتمكن المستأجر من تسلمه وقد تمكن المستأجر من تسلمه بهذه التخلية التي وجدت من الآجر، وكان إثباتاً لتسليم المستحق عليه فيتأكد عليه البدل، كالمنكوحة إذا خلى بها زوجها وهو ممن يقدر على الجماع، فإنه يجب المهر، وإن لم يوجد الجماع، وكالبائع إذا خلى بين المبيع وبين المشتري يصير قابضاً له، وإن لم يقبضه حقيقة؛ لأنه تمكن من قبضه بهذه التخلية كذا هاهنا.

وإن كان لا يقدر على فتحة فلا أجر عليه لأنه لم يأت بالتسليم المستحق عليه بالعقد؛ لأن المستأجر لم يتمكن من التسليم بهذه التخلية إذا كان لا يقدر على فتحه، وبدون التسليم لا يستحق الأجر، وكان كالمنكوحة إذا خلى بها زوجها وهي بحال لا يتمكن الزوج من جماعها، بأن كانت رتقاء، أو حائضاً، أو نفساء، فإن المهر لا يتكرر بهذه التخلية؛ لأن التسليم لم يوجد كذا هاهنا ومعنى القدرة المذكورة في الكتاب القدرة على الفتح من غير مؤنة تلزمه، حتى لو لم يقدر على الفتح لا بمؤنة يلزمه لا تعتبر القدرة.

قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وكسر الغلق ليس بشيء حتى لا يكون للآجر أن يحتج على المستأجر، فيقول: هلا كسرت الغلق ودخلت الباب.
وإذا استأجر داراً سنة فلم يسلمها إليه حتى مضى شهر، وقد طلب التسليم ثم تحاكما فليس للآجر أن يمنع المستأجر من القبض، وليس للمستأجر أن يمنع من القبض في باقي المدة؛ لأن الإجارة عندنا في حكم العقود المتفرقة يتجدد انعقادها بحسب حدوث المنافع ففوات المعقود عليه في عقد لا يؤثر في إثبات الخيار في عقد أجر، قالوا: هذا إذا لم يكن في مدة الإجارة وقت يرغب الإجارة لأجله يتخير في قبض الباقي، ولو سلم الدار إلا بيتاً كان مشغولاً بمتاع الآجر يرفع عنه الأخر بحساب ذلك بخلاف ما إذا انهدم بيت منها، أو حائط منها، وسكن المستأجر في الباقي حيث لا يسقط شيء من الأجر.

(7/461)


الفصل الثالث عشر: في المسائل التي تتعلق برد المستأجر على المالك
قال رحمه الله: وليس على المستأجر رد ما استأجر على المالك، وعلى الذي آجر أن (26ب4) يقبض منزل المستأجر وليس هذا كالعارية، فإن رد العارية على المستعير.
والفرق: أن الرد بعد القبض فكل من كان منفعة القبض عائدة إليه كان الرد عليه. قال عليه السلام: «الخراج بالضمان» ، وقال عليه السلام: «الغنم بالمغرم» ومنفعة قبض المستعار عائدة إلى المستعير؛ لأن المنفعة سلمت له مجاناً فكان مؤنة الرد عليه، ولهذا كان نفقة المستعار على المستعير، ومنفعة قبض المستأجر عائدة إلى المؤاجر، فإن حقه يتأكد في الأجرة فكان مؤنة الرد عليه.
فإن قيل: منفعة قبض المستأجر عائدة إلى المستأجر أيضاً، فإن بالقبض يتمكن من الانتفاع.
قلنا: الترجيح لجانب الآجر لأن منفعته فوق منفعة قبض المستأجر لأن الحاصل للأجر عين وإنها تبقى والحاصل للمستأجر مجرد منفعته وإنها لا تبقى وما بقي خير مما لا يبقى فكان الرجحان لجانب الآجر فكان هو أولى بإيجاد الرد عليه، الثاني أن يساوي الجانبان فلا جرم يقع التعارض بينما يوجب الرد على الآجر، وبينما يوجب الرد على المستأجر، فنقول: إيجابه على الآجر أولى؛ لأن المستأجر يملكه ومؤنة الملك على المالك يقتضيه الأصل.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : وإذا استأجر الرجل رحاً يطحن عليه شهراً بأجر مسمى، فحمله إلى منزله فمؤنة الرد على رب الرحى، وأراد بالرحى رحى اليد ويقال بالفارسية: دست آس، ثم قال: والمصر وفي غير المصر في ذلك سواء في القياس في الإجارة، والعارية في الإجارة تجب على رب المال، وفي العارية تجب على المستعير.
قال مشايخنا: وتأويل هذا إذا كان الإخراج بإذن رب المال في الإجارة والعارية، ففي الإجارة تجب مؤنة الرد على رب المال، وفي العارية تجب مؤنة الرد على المستعير، فإن حصل الإخراج بغير إذن رب المال فمؤنة الرد على الذي أخرجه مستعيراً كان أو مستأجراً؛ لأنه صار غاصباً بالإخراج ومؤنة الرد على الغاصب.
قال ابن سماعة في «نوادره عن محمد» : رجل استأجر من آخر دابة أياماً معلومة يركبها في المصر فانقضت الأيام، فأمسكها في منزله ولم يجيء صاحبها يأخذها ففقدت

(7/462)


الدابة فلا ضمان عليه، لأنه غير متعدي في هذا الإمساك، فإن على رب الدابة أن يجيء فيقبضها، فلو أن المستأجر ساق الدابة ليردها على المؤاجر في منزله مع أنه ليس عليه الرد، وهلكت في الطريق فلا ضمان عليه، ولو ذهب المالك إلى بلد آخر، وذهب هذا الرجل بالدابة ليردها على المالك فهلكت في الطريق كان عليه الضمان ويصير بالإخراج عن البلدة غاصباً.

ولو استأجرها من موضع مسمى إلى موضع مسمى يذهب عليها ويجيء، فإن على المستأجر أن يرده إلى الموضع الذي استأجرها فيه، وهذا الشرط معتبر وهو بمنزلة بيان مكان الإيفاء في السلم، فإن ذهب بها إلى منزله وأمسكها ضمن إذا هلكت؛ لأنه متعدي في الذهاب بها إلى منزله.
ولو قال: اركبها إلى موضع كذا، وارجع إلى منزلي فليس على المستأجر أن يردها إلى المكان الذي استأجرها فيه، وعلى الآجر أن يأتي منزل المستأجر ويقبضها منه.
وفي «المنتقى» : استأجر دابة وردها إلى المنزل المستأجر وأدخلها مربطها فربطها أو أغلق عليها فلا ضمان عليه، يعني إذا هلكت أو ضاعت، كل شيء يفعل بها صاحبها إذا ردت عليه، فإذا فعل المستأجر يبرأ ولو أدخلها دار صاحبها أو أدخلها مربطها ولم يربطها، ولم يغلق عليها فهو ضامن يعني إذا هلكت أو ضاعت وستأتي بعض هذه المسائل في فصل إجارة الدواب.

الفصل الرابع عشر: في تجديد الإجارة بعد صحتها والزيادة فيها
وإذا زاد الآجر والمستأجر في المعقود عليه أو المعقود به، فهذا على وجهين: إن كانت الزيادة مجهولة لا تجوز الزيادة سواء كانت الزيادة من الآجر أو من المستأجر، وإن كانت الزيادة من جنس ما أجر أو من خلاف جنس ما أجر، وإن كانت الزيادة من جانب المستأجر إن كانت من جنس ما استأجر لا يجوز؛ لأنه تمليك منفعة بمنفعة من جنسها وإنه باطل عندنا، وإن كانت من خلاف جنس ما استأجر يجوز؛ لأنه تمليك منفعة بمنفعة بخلاف جنسها وإنه جائز.
ذكر شيخ الإسلام هذه الجملة في «شرح كتاب الصلح» إبراهيم عن محمد استأجر من آخر أرضاً بأكرار حنطة فزاد رجل المؤاجر كراً فأخذه المؤاجر منه فذهب المستأجر الأول فزاده كراً أيضاً، وجدده الإجارة فالإجارة هي الثانية وانفسخت الأولى مقتضى تجديد الثانية، وذكر هذه المسألة عن أبي يوسف.
ووضعها فيما إذا زاد المستأجر الأول على المستأجر الثاني في الأجر وسلمها رب الدار الأول بهذه الزيادة، وبالأجر الأول، وذكر أن الإجارة الأولى لا تنتقض وهذه زيادة زادها في الأجر، وحاصل الجواب أن صاحب الدار إذا جدد الإجارة تنتقض الأولى، وإذا لم يجدد لا تنتقض الأولى، وتكون الثانية زيادة.

(7/463)


عن محمد: استأجر رجلاً شهراً؛ ليعمل له عملاً مسمى بأجر معلوم، ثم أمره في خلال الشهر بعمل آخر مسمى بدرهم مثلاً، فالإجارة الثانية فاسخة للإجارة الأولى بالقدر الذي دخل في الإجارة الثانية، حتى لا يكون له أجرين، بل رفعه بحصة ذلك القدر، فإذا فرغ من العمل الثاني لزمه أجره، وذلك درهم، وتعود الإجارة الأولى.

الفصل الخامس عشر: في بيان ما يجوز من الإجارات، وما لا يجوز
هذا الفصل مشتمل على أنواع: نوع يفسد العقد فيه لمكان الجهالة.
قال محمد في «الأصل» : إذا استأجر الرجل قِدراً بعينه ليطبخ فيه اللحم، فإن بين الوقت بأن قال: يوماً، أو بين مقدار اللحم يجوز، وإن لم يبين واحداً منهما لا يجوز لمكان الجهالة، وكذا في إجارة الموازين والمكاييل ينبغي أن يبين المدة، أو مقدار ما يكتله أو يزينه به، وإن لم يبين واحداً منهما لا يجوز لمكان الجهالة.
قال في «الأصل» : إذا استأجر الرجل نصيباً من دار غير مسمى، بأن قال لغيره: استأجر منك نصيبك من هذه الدار أو من هذا العبد أو من هذه الدابة، ولم يبين نصيبه، على قول أبي حنيفة: لا يجوز وعلى قول أبي يوسف: يجوز إذا علم بالنصيب بعد ذلك، وهو قول محمد أما على قول أبي حنيفة لا يشكل أنه لا يجوز، لأن المستأجر مشاع مجهول لا يدري أنه ثلث أو ربع أو نصف.
ولهذا قال: لو باع نصيباً من دار والمشتري لا يعلم لا يجوز البيع لجهالة المبيع فدل أن المستأجر مشاع مجهول، ولو كان مشاعاً معلوماً بأن أجر النصف أو الثلث لم يجز عنده، فإذا كان مشاعاً مجهولاً أولى أن لا يجوز.

وعلى قول أبي يوسف لا يشكل أنه يجوز؛ لأن جهالة النصيب عند المشتري لا تمنع جواز البيع عنده، حتى قال: إذا اشترى نصيباً من دار ولم يعلم مقداره جاز وله الخيار إذا علم بالنصيب بعد ذلك فلا يمنع جواز الإجارة أيضاً، فإذا لم يجز أن يمنع الجواز؛ لأجل هذه الجهالة على مذهبه بقي بعد ذلك مجرد الشيوع والشيوع غير مانع من الإجارة، وإنما الأشكال على قول محمد، وذلك لأن جهالة النصيب عنده يمنع جواز البيع فيجب أن يمنع جواز الإجارة أيضاً، وإن كان الشيوع لا يمنع الجواز على مذهبه ولكن من مشايخنا من قال: بأن قول محمد ها هنا يلحق بقول أبي حنيفة لا بقول أبي يوسف؛ لأنه كما ذكر قول محمد عقيب قول أبي يوسف، فقد ذكر قول أبي حنيفة فيلحق قوله بقول أبي حنيفة، أن لا تجوز هذه الإجارة على قول أبي حنيفة وهو قول محمد، فعلى هذا لا يثبت الرجوع عن محمد في البيع.
ومنهم (27أ4) » من قال: قول محمد يلحق بقول أبي يوسف، يعني تجوز الإجارة على قوله، واختلفوا فيما بينهم منهم من أثبت رجوع محمد عما ذكر في البيع؛ لأن جهالة

(7/464)


النصيب إذا لم يمنع جواز الإجارة لا يمنع جواز البيع، ومنهم من لم يثبت رجوع محمد عن فصل البيع وفرق على قوله بين الإجارة والبيع.

والفرق: وهو أن الإجارة تنعقد ساعة فساعة في حق المنافع، والأجرة تجب عند استيفاء المنافع، وعند الاستيفاء النصيب معلوم، فأما البيع ينعقد حال وجوده والمبيع حال وجود البيع مجهول، فلا يجوز.
قال: رجل استأجر أرضاً، ولم يذكر أنه يزرعها، أو ذكر أنه يزرعها ولكن لم يذكر أي شيء يزرعها، فالإجارة فاسدة، أما إذا لم يذكر أنه يزرعها فالإجارة فاسدة لجهالة المعقود عليه؛ لأن الأرض تستأجر تارة للزراعة، وتارة للبناء والغرس، ذكرهما ولا رجحان للبعض على البعض مما لم يبين لا يصير المعقود عليه معلوماً.
وكذلك إذا ذكر أنه يزرعها إلا أنه لم يبين أي شيء يزرعها فالإجارة فاسدة لجهالة المعقود عليه؛ لأن الأرض تستأجر لزراعة الحنطة وتستأجر لزراعة الشعير وتستأجر لزراعة الذرة والأرز وتفاوت ذلك في حق الأرض تفاوتاً فاحشاً مما لم يبين شيئاً من ذلك لا يصير المعقود عليه معلوماً، فإن زرعها نوعاً من هذه الأنواع ومضت المدة فالقياس أن يجب أجر المثل؛ لأنه استوفى المعقود عليه بحكم عقد فاسد.
وفي الاستحسان يجب المسمى، وينقلب العقد جائزاً؛ لأن المعقود عليه صار معلوماً بالاستعمال والإجارة بعد في الانعقاد، فصار ارتفاع الجهالة في هذه الحالة وارتفاعها لدى العقد سواء، فيجوز العقد.
وعلى هذا إذا استأجر دابة إلى بغداد ليحمل عليها، ولم يذكر أي شيء يحمل عليها فالإجارة فاسدة؛ لأن الأحمال متفاوتة، فإن اختصما قبل أن يحمل عليها شيئاً أبطل القاضي الإجارة؛ لأن العقد الفاسد يجب نقضه وإبطاله، وإن حمل عليها ما يحمل الناس على مثلها، وهلكت في الطريق فلا ضمان؛ لأنه حمل عليها بإذن، وإن بلغ ذلك المكان المسمى فعليه أجر المثل قياساً، والمسمى استحساناً، وقد مر وجه القياس والاستحسان في المسألة المتقدمة.
قال: وإذا استأجر الرجل إبلاً إلى مكة ليحمل عليها محملاً فيه رجلان وما يصلحهما من الغطاء والدثر، وقد رأى المكاري الرجلين، ولم ير الغطاء والدثر فهو فاسد قياساً لجهالة المحمول وفي الاستحسان يجوز وينصرف ذلك إلى ما يحتاج إليه مثلها في طريق مكة من الغطاء والدثر، وذلك معلوم عرفاً فيما بينهم، والمعلوم عرفاً كالمعلوم شرطاً.
وكذلك إذا استأجر راحلة يحمل عليها كذا كذا من الدقيق والسويق وما يصلحهما من الخل والزيت، ويعلق بها من المعاليق من المطهرة وما أشبهها، ولم يبين شيئاً من ذلك فهو على القياس والاستحسان الذي ذكرنا.

وإذا استأجر إبلاً أو حماراً ليحمل عليها الحنطة ولم يبين مقدار الحنطة، ولا أشار إليها ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» من كتاب الإجارات أنه لا يجوز، وذكر شمس الأئمة

(7/465)


الحلواني رحمه الله في «شرحه» أنه يجوز، وينصرف إلى المعتاد، وهذا القول أشبه بمسألة المحمل والراحلة.

وقال محمد رحمه الله في كتاب الإجارات: إذا استأجر دابة يطحن عليها كل شهر بعشرة دراهم، ولم يسم كم يطحن عليها كل يوم جاز؛ لأنه بين جنس العمل إلا أنه لم يبين مقداره، وبيان جنس العمل يكفي لجواز الإجارة، وله أن يطحن عليها مقدار ما تحمل الدابة وتطيق وما يطحن مثلها قدراً في العرف.
قال: وهو نظير ما لو استأجرها ليحمل عليها جاز، وله أن يحمل عليها قدر ما تحتمل، قال: رجل استأجر داراً أو بيتاً ولم يسم الذي يريدها له القياس أن تفسد الإجارة، وفي الاستحسان لا تفسد.
وجه القياس: أن المقصود من الدار والبيت الانتفاع، ووجوه الانتفاعات مختلفة متفاوتة وقد يكون من حيث السكنى ووضع الأمتعة، وقد يكون من حيث الحدادة والقصارة، فإنه ما لم يبين شيئاً من ذلك، كما لو استأجر دابة للحمل، ولم يبين ما يحمل عليها، أو استأجر للركوب، ولم يبين من يركب.
وجه الاستحسان: أن المعقود عليه معلوم عرفاً وهو السكنى؛ لأن البيت عرفاً يبنى ويؤاجر للسكنى فانصرف مطلق العقد إليه لما عرف أن المعلوم عرفاً كالمعلوم شرطاً، فكأنه استأجر داراً أو بيتاً للسكنى، ولو صرح بذلك أليس أنه يجوز وإن لم يبين من يسكن؛ لأن السكنى مما لا يقع فيه التفاوت بين ساكن وساكن.
بخلاف ما إذا استأجر دابة للحمل أو الركوب، ولم يبين ماذا يحمل، ومن يركب؛ لأن حمل بعض الأشياء، وركوب بعض الأشخاص غير معلوم عرفاً لينصرف مطلق العقد إليه، بل الكل متعارف والحمل والركوب ما يقع فيه التفاوت، فما لم يبين لا يصير المعقود عليه معلوماً، فلا يحكم بجواز الإجارة.
وإذا دفع الرجل الحر إلى سمسار درهماً وأمره أن يشتري له كذا وكذا على أن يكون الدرهم المدفوع إليه، أو دفع إليه ثوباً، وأمره أن يبيعه ويكون هذا الدرهم له أو استأجر الرجل ليبيع له أو يشتري فهذا فاسد؛ لأن البيع والشراء قد يتمان بكلمة واحدة، وقد يتمان بكلمات، فكان المعقود عليه مجهولاً، والجملة في ذلك من وجهين:
أحدهما: أن يستأجره يوماً إلى الليل بأجر معلوم ليبيع له ويشتري؛ لأن المعقود عليه في هذه الصورة المنفعة، ولهذا يستحق الأجر متى سلم نفسه، وقد صارت المنفعة معلومة ببيان الوقت.
الثانية: أن يأمره أن يبيع ويشتري ولا يشترط شيئاً، فيكون معيناً له ثم يعوضه بعد الفراغ من العمل بمثل ذلك الأجر؛ لأن هذا استعانة ابتداء إجارة انتهاء؛ ولهذا قال مشايخنا: يجبر على إعطاء العوض إذا امتنع، ثم في السمسار وجميع ما كان فاسداً من

(7/466)


ذلك إذا باع واشترى فله أجر المثل لا يجاوز به المسمى، كما في سائر الإجارات الفاسدة، ويطيب له ذلك؛ لأنه بدل عمله فيطيب له كما تطيب قيمة المبيع للبائع في البيع الفاسد عند عجز المشتري عن رد العين؛ لأنه بدل ملكه، لكن يأثم بمباشرته هذا العقد؛ لأنه معصية.

وإذا استأجر نهراً يابساً ليجري فيه الماء إلى أرض له أو إلى رحاً ما له أو ليستأجر مسيل ماء ليسيل فيه ماء ميزابه، أو استأجر ميزاباً ليسيل فيه غسالته أو بالوعته ليصيب فيها بوله والنجاسات لا يجوز؛ لأن المعقود عليه مجهول، أما في الفصل الأول؛ فلأنه لا يمكنه إجراء الماء في كل النهر؛ لأن النهر لا يستمسك ذلك، فلا بد من أن ينقص شيئاً وقدر ما ينقص مجهول فيصير الباقي مجهولاً، وجهالة المعقود عليه توجب فساد العقد، إذا لم يكن للناس فيه تعامل، خرج على هذا الدخول في الحمام بأجر حيث يجوز مع جهالة المعقود عليه؛ لأن للناس فيه تعاملز

وأما فيما عدا ذلك من الفصول؛ فلأن ما يسيل فيه من الماء والبول قد يقل وقد يكثر، قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني: الحرف المعتمد في جنس هذه المسائل أن الإجارات جوزت بخلاف القياس لحاجة الناس، وهذه ليست من إجارات الناس فيعمل فيها بالقياس وروي عن محمد إذا استأجر موضع أرض معروف ليسيل ماؤه فهو جائز، كأنه ذهب إلى أن المانع من جواز العقد الجهالة؛ لأنه لا يدري كم يأخذ الماء من النهر ومن السطح، فإذا عين الموضع جاز.
ولو استأجر ميزاباً ليركبه في داره جاز، ولو استأجره وهو في الحائط ليسيل الماء فيه لم يجز لما قلنا.
وإذا استأجر (27ب4) موضعاً من حائط ليضع عليه جذعاً، أو استأجر موضع كوة من الحائط بنقبها ليدخل عليه منها الضوء والريح، أو استأجر حائطاً ليبني عليه ستره، أو استأجر موضع وتد في الحائط ليعلق به الأشياء أو استأجر موضع ميزاب في حائط لا يجوز.
بعض مشايخنا قالوا: إنما لا يجوز إذا لم يبين موضع البناء والجذع والكوة والوتد حتى يكون المعقود عليه مجهولاً، أما إذا بين ذلك يجوز، ومنهم من قال: إنما لا يجوز إذا لم يبين مقدار الجذع والكوة والوتد حتى لا يجوز لمكان الجهالة، أما إذا بين جاز، ومنهم من قال: لا يجوز على كل حال، وإطلاق لفظ الكتاب يدل عليه، والمعنى ما ذكرنا أنه ليس من إجارات الناس.
وإذا استأجر موضعاً معلوماً من الأرض لينبذ فيها الأوتاد يصلح بها الغزل كي ينسج جاز؛ لأنه من إجارات الناس، ولو استأجر حائطاً ليدق فيها الأوتاد ليصلح عليها الإبريسم به شعراً أو ديباجاً لا يجوز، كذا ذكره بعض مشايخنا؛ لأن هذا من إجارات الناس، وفي عرف ديارنا ينبغي أن يجوز؛ لأن الناس تعاملوا ذلك في الفصلين جميعاً.
وإذا تكارى دابة إلى بغداد على أنه إن بلّغه إليها فله رضاه يعني ما يرضى من

(7/467)


الأجر، فالإجارة فاسدة لجهالة البدل، وكذلك إذا استأجرها بحكمة أو بحكم صاحب الدابة.
فإن قيل: جهالة البدل إنما يوجب فساد الإجارة إذا لم يكن الخيار مشروطاً لصاحب البدل، فأما إذا كان مشروطاً له فلا، ألا ترى أن من قال لغيره: أجرت منك هذه الدابة إلى بغداد بهذين العبدين، على أنك بالخيار تأخذ أيهما تشاء وترد الأخر جاز، والآخر مجهول ولكن للشرط الخيار لصاحب البدل لم يمنع ذلك جواز الإجارة.
قلنا: هذا هكذا إذا كان جنس البدل معلوماً، وها هنا جنس البدل مجهول، فإن قال: رضائي عشرون لا يزاد على العشرين؛ لأن المانع لا يتقوم بدون التسمية، وقد سمى عشرون فإنما قومها بهذا القدر فلا يزاد عليه ولأنه أبرأه عن الزيادة لما قال: رضائي عشرين ونقص عن العشرين لأنه لم يشترط لصاحب البدل مع العشرين منفعة أخرى، وفي مثل هذه الإجارة تنقص عن المسمى لما بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وكذلك إذا تكارى دابة بمثل ما يتكارى أصحابه مثل هذه الدابة معلوماً بل كان مختلفاً، بأن كان بعض أصحابه يكري مثل هذه الدابة بعشرة وبعضهم يكري بأقل من ذلك وبعضهم بأكثر من ذلك فأما إذا كان ذلك معلوماً بأن كان أصحابه يتكارون مثل هذه الدابة بعشرة لا يزيدون ولا ينقصون وقد عرف ذلك كان العقد جائزاً كما لو باع بمثل ما باع فلان، وكان ذلك معلوماً وقت العقد، أو علم في مجلس العقد وهناك البيع جائز هكذا هاهنا، وإن كان ذلك مختلفاً فعليه وسط من ذلك، يريد به أن أجر مثل هذه الدابة يختلف باختلاف الأحوال قد تكون عشرة، وقد تكون بأكثر من عشرة، وقد تكون أقل من عشرة فعليه الوسط من ذلك نظراً من الجانبين ومراعاة كلا الطرفين.

نوع آخر
يفسد العقد فيه لمكان الشرط:
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : رجل استأجر من آخر عبداً شهراً بأجر مسمى على أنه إن مرض فعليه أن يعمل بقدر الأيام التي مرض من الشهر الداخل لا تجوز هذه الإجارة؛ لأن ما شرط له من الشهر الداخل مجهول لجهالة مدة المرض في الشهر القائم.

رجل تكارى من رجل بيتاً شهراً بعشرة دراهم على أنه إن سكنه يوماً ثم خرج فعليه عشرة دراهم، كانت الإجارة فاسدة؛ لأنه شرط في العقد ما لا يقتضيه العقد، ولأحد المتعاقدين فيه منفعة.
بيانه: أنه شرط جميع بدل المعقود عليه بإزاء بعضه حال فوات الباقي قبل القبض، والعقد لا يقتضي ذلك وكان بمنزلة ما لو اشترى حنطة على أنه إن هلك شيء منها قبل القبض فعليه الثمن كله كان البيع فاسداً، وإنما كان فاسداً للمعنى الذي ذكرنا.
وإذا تكارى دابة على أن كلما ركب الأمير ركب هو معه، فهذا فاسد أيضاً لجهالة المعقود عليه؛ لأن المعقود عليه في الدابة لا يصير معلوماً، إلا بذكر المدة أو بذكر

(7/468)


المكان، ولم يوجد أحد هذين، فكان المعقود عليه مجهولاً فلا يجوز.
وإذا تكارى دابة بالكوفة إلى بغداد بخمسة دراهم إن بلغه، وإلا فلا شيء له فالإجارة فاسدة، لأنه شرط فيها ما لا يقتضيه العقد، ولأحدهما فيه منفعة.
بيانه: أنه شرط أن لا يكون له أجر متى لم يبلغه، والعقد يقتضي وجوب الأجر بقدر ما سار، وإن لم يبلغه إلى بغداد.
وفي «الأصل» : إذا استأجر أرضاً بدراهم مسماة وشرط خراجها على المستأجر، فإن هذا لا يجوز.
واعلم بأن هذه المسألة على وجهين: إما إن كان الخراج خراج مقاسمة كلها، بأن كان الخراج نصف ما تخرجه الأرض، أو ما أشبهه، أو بعضها بأن كان وظيفة كل جريب درهم، وسدس ما يخرج منها أو ما أشبهه، أو كان الخراج خراجَ وظيفة كلها، بأن كانت وظيفة كل جريب درهماً فإن كان الخراج خراج مقاسمة كلها أو بعضها فعلى قول أبي حنيفة: لا يجوز؛ لأن خراج المقاسمة على المؤاجر عنده، فإذا شرطه على المستأجر فقد جعله أجراً وإنه مجهول كله أو بعضه؛ لأن مقدار ما تخرج الأرض مجهولاً.
ونقول: شرطا شرطاً لا يقتضيه العقد، ولأحد المتعاقدين وهو الآجر فيه نفع فإن أداء الخراج لا ينفك عن ذل وهوان ومثل هذا الشرط يوجب فساد العقد وعندهما يجوز العقد لأن عندهما خراج المقاسمة على المستأجر فقد شرطا شرطاً يقتضيه العقد فلا يفسد العقد وإن كان الخراج خراج وظيفة كلها فالعقد جائز بلا خلاف بين العلماء لأن خراج الوظيفة معلوم فتكون الأجرة معلومة ومن مشايخنا قال: ينبغي أن لا يجوز وإن كان الخراج خراج وظيفة لأن النقصان من وظيفة عمر رضي الله عنه جائز إن كانت الأرض لا تطيق ذلك بالإجماع، فإذا شرطا ذلك على المستأجر فقد شرطا شرطاً لا يقتضيه العقد ولأحد المتعاقدين وهو الآجر فيه منفعة فيفسد به العقد ولو كانت أرضاً عشرية فأجرها، وشرط العشر على المستأجر جاز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله؛ لأن العشر عندهما على المستأجر فقد شرطا شرطاً يقتضيه العقد، فلا يوجب فساد العقد.

وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: لا يجوز؛ لأن العشر عنده على المؤاجر، فإذا شرط ذلك على المستأجر فقد جعله أجراً وإنه مجهول وشرط شرطاً لا يقتضيه العقد فيوجب فساد العقد.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : رجل استأجر أرضاً بدراهم على أن يكريها ويزرعها، أو يسقيها ويزرعها فهذا جائز؛ لأن هذا شرط يقتضيه العقد، فإن العقد يقتضي السقي والكراب، لأن العقد عقد المزارعة ولا ينتفع بالأرض من حيث الزراعة غالباً إلا بالسقي والكراب، وإن شرط عليه أن يثنيها ويكري أنهارها أو يسرقيها فهو فاسد.

(7/469)


واختلفوا في تفسير التثنية قال بعضهم: أن يردها مكروبة، فإن كان تفسيره هذا، فهو شرط مخالف للعقد؛ لأنه شرط يعود منفعته إلى رب الأرض بعد انتهاء العقد، وقال بعضهم: تفسير التثنية أن يكربها مرتين ثم يزرعها، فإن كان تفسيره هكذا، فالفساد يختص بديارهم؛ لأن في ديارهم تخرج الأرض ريعاً تاماً بالكراب مرة وكذا في ديار سيف، فيكون هذا الشرط في مثل هذا الموضع شرطاً لا يقتضيه العقد، ولأحدهما فيه منفعة وهو رب الأرض؛ لأن منفعة الكراب بقي بعد مدة الإجارة فيوجب فساد العقد حتى لو كانت لا تبقى لا يفسد العقد.
وأما إذا كان الأرض في بلدة تحتاج إلى تكرار الكراب فاشتراط التثنية لا يفسد العقد؛ لأنه يكون من مقتضيات العقد، وكذلك إذا شرط عليه (28أ4) إن يسرقيها فإن كان السرقين من عند المستأجر، فقد شرط عليه عيناً هو مال، فإن كان تبقى منفعته إلى العام الثاني يفسد العقد؛ لأنه شرط شرطاً لا يقتضيه العقد، ولأحد المتعاقدين فيه منفعة وهو الآجر، وإن كان لا تبقى منفعته إلى العام القابل لا يفسد العقد.
وذكر شيخ الإسلام في «شرح الإجارات» : إذا شرط على المستأجر أن يردها مكروبة، فإن كان شرط أن يردها مكروبة بكراب في مدة الإجارة، فالعقد فاسد؛ لأن وقت الكراب مجهول قد يكون يوماً وقد يكون يومين أو ثلاثة، وذلك الوقت مستثنى عن الإجارة؛ لأن المستأجر فيه عامل لرب الأرض فيوجب جهالة مدة الإجارة، فتفسد الإجارة، وإن شرط أن يردها مكروبة بكراب يكون بعد الإجارة فالمسألة على وجهين.
إما إن قال صاحب الأرض: أجرّتك هذه الأرض بكذا وبأن تكربها بعد مضي المدة وفي هذا الوجه العقد جائز.

وأما إذا قال: أجرتك بكذا على أن تكربها بعد انقضاء مدة الإجارة وفي هذا الوجه العقد فاسد، وإن أطلق الكراب إطلاقاً ينصرف إلى الكراب بعد العقد، ويصح العقد ولكن جواب هذا الفصل يخالف ظاهر ما ذكرنا ها هنا، ولا يظن به رحمه الله أنه قال ذلك جزافاً، فالظاهر أنه عثر على رواية أخرى بخلاف ما ذكر ها هنا.

وكذلك إذا شرط كري الأنهار على المستأجر يفسد العقد؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد على المستأجر، بل قضية العقد أن يكون على المؤاجر؛ لأنه من جملة التمكين من الانتفاع، فيكون على الآجر فاشتراطه على المستأجر يخالف مقتضى العقد.
ومن مشايخنا من فرق بين الجداول والأنهار، فقال: اشتراط كري الجداول صحيح؛ لأنه لا يبقى أثره بعد مضي السنة أما أثر كري الأنهار يبقى بعد مضي السنة، فيصير الآجر شارطاً عليه عملاً يختص هو بمنفعته، والأول أصح.
وإذا تكارى داراً من رجل سنة بمئة درهم على أن لا يسكنها فالإجارة فاسدة؛ لأنه شرط في الإجارة ما لا يقتضيه العقد، وللمؤاجر فيه منفعة، فإن المستأجر إذا لم يسكن الدار لم يمتلئ بئر الوضوء والمخرج، وإذا سكن بمثل ذلك، والتفريغ على رب الأرض فيتضرر فكان في هذا الشرط منفعة لرب الأرض من هذا الوجه.

(7/470)


وقال: فيمن استأجر داراً وشرط على المستأجر أن يسكن هو بنفسه، ولا يسكن معه غيره أن الإجارة جائزة، وللمؤاجر في هذا الشرط فائدة؛ لأنه متى يسكن معه غيره يمتلئ هو المخرج والوضوء أسرع مما يمتلئ لو سكن هو وحده، ومع هذا جوز العقد في هذه الصورة، ولم يجوزه في الصورة الأولى.

قال شيخ الإسلام رحمه الله في «شرحه» : لا بد من التأويل إذ لا يجئ بينهما فرق، نقول: تأويل الصورة الثانية أنه لم يكن في الدار بئر بالوعة، ولا بئر وضوء، ومتى لم يكن فيها البئر فلا منفعة للمؤاجر في هذا الشرط، لأنه لا يتضرر بإسكان غيره إذا كانت الحالة هذه؛ لأن ما يجتمع على ظاهر الدار فإخراج ذلك على المستأجر، وكثرة السكان لا يوهن البناء ولا يفسده.
وتأويل الصورة الأولى، أنه كان في الدار بئر وضوء وبئر بالوعة، وإذا كان كذلك كان لرب الدار في هذا الشرط نوع منفعة، وإنه شرط لا يقتضيه العقد، فأوجب فسادها ثم إذا فسدت الإجارة في هذه الصورة الأولى فسكن فيها المستأجر، فعليه أجر المثل بالغاً ما بلغ.
f
رجل تكارى من رجل داراً كل شهر بعشرة، على أن ينزلها هو بنفسه وأهله، على أن يعمر الدار ويرمم ما كان فيها من خراب، ويعطي أجر حارسها، وما يأتيها من يأتيه من جهة سلطان أو غيره فالإجارة فاسدة؛ لأنه جعل بعض الأجر مجهولاً جهالة توقعهما في المنازعة المانعة من التسليم والتسلم؛ لأنه متى لم توجد الثانية ولم يخرب شيء من الدار حتى لم يحتج إلى المرمة لا يدري بأي قدر يعطيه وجهالة الأجر وإن قلت توجب فساد الإجارة، قالوا: وهذا الجواب صحيح في العمارة والثوابت؛ لأن العمارة والثوابت على رب الدار، وإنها مجهولة في نفسها فصار هو بهذا الشرط شارطاً لنفسه شيئاً مجهولاً.

فأما أجر الحارس فهو على الساكن فلا يكون بهذا الشرط شارطاً لنفسه شيئاً مجهولاً، فلا يفسد العقد، فإن لم يسكنها فلا أجر عليه؛ لأن الإجارة فاسدة، والأجر في الفاسد من الإجارات لا يستحق إلا باستيفاء المنفعة، وإن سكنها فله أجر مثلها بالغاً ما بلغ يجاوز بها المسمى المعلوم.

والأصل: أن العقد إذا فسد مع كون المسمى كله معلوماً بمعنى أجر المثل، ولا يزاد على المسمى حتى أن المسمى إذا كان خمسة وأجر المثل عشرة يجب خمسة لا غير؛ وهذا لأن المنافع عندنا غير متقومة بنفسها، وإنما ثبت لها حكم المتقوم بالعقد، وقد قوماها بالعقد بقدر التسمية، وأمكن اعتبار التسمية إذا كان المسمى معلوماً كله، فما زاد عليها تبقى غير متقومة على ما كانت الأصل.
وإذا فسد العقد لجهالة المسمى أو لعدم المسمى يجب أجر المثل بالغاً ما بلغ، حتى أن المسمى، إذا كان خمسة وأجر المثل عشرة يجب عشرة؛ لأنه لا يمكن تقويم

(7/471)


المنافع في هذه الصورة بالمسمى فأوجبنا قيمتها بالعقد بالغاً ما بلغت، وكذلك إذا كان المسمى بعضه مجهولاً وبعضه معلوماً كما في مسألة المرمة، والثانية يجب أجر المثل بالغاً ما بلغ؛ لأنه لا يمكن تقدير القيمة بجميع المسمى؛ لأن بعضه مجهول ولا يمكن تقدير القيمة بقدر المعلوم؛ لأنهما ما قوماها به فحسب، إنما قوماها به وبالزيادة.
وإذا تعذر تقويمها بجميع المسمى وبالقدر المعلوم أوجبنا قيمتها بالغة ما بلغت، هذا هو الكلام في طرف الزيادة على المسمى.
وأما الكلام في طرف النقصان عن المسمى، نقول: إذا كان المسمى كله معلوم القدر وفسد العقد بسبب آخر من الأسباب ينقص عن المسمى حتى أنه إذا كان أجر المثل خمسة والمسمى عشرة يجب خمسة وإذا كان المسمى بعضه مجهولاً وبعضه معلوماً لا ينقص عن الأجر المعلوم حتى إن في المسألة الثانية والمرمة إذا كان أجر المثل خمسة يجب عشرة، وهو القدر المعلوم من المسمى؛ وهذا لأن قضية القياس فيما إذا كان المسمى كله معلوم القدر أن لا ينقص عن المسمى، لأن قيمة المنافع تثبت بسبب التسمية، فيجب التقدير بها ما أمكن كما في الجائز، والتقدير بها ممكن إذا كان المسمى كله معلوماً، فيجب التقدير بها، إلا أنا تركنا القياس لضرورة، وهو أن لا تقع التسوية بين الجائز والفاسد، ولا تجوز التسوية بينهما، وهذه الصورة معدومة فيما إذا كان المسمى بعضه معلوماً وبعضه مجهولاً؛ لأنا إذا أوجبنا مقدار المعلوم من المسمى، ولم ينقص عنه لا يؤدي إلى التسوية بين الجائز والفاسد، لأن حكم الجائز أن يجب جميع المسمى، وإن كان بعض المسمى معلوماً وبعضه مجهولاً يجب بعض المسمى وهو القدر المعلوم، ولا يجب شيء من المجهول فلا يؤدي إلى التسوية بين الجائز والفاسد.

وعن هذا قلنا: إن من استأجر داراً سنة بمئة على أن لا يسكنها حتى فسدت الإجارة لو سكنها يجب أجر المثل، فإن كان أجر المثل أقل من مئة يجب مئة لأنا لو أوجبنا قدر المئة لا يؤدي إلى (28ب4) التسوية بين الجائز والفاسد؛ لأن فيه إيجاب بعض المسمى لا الكل؛ لأن المستأجر سكن الدار فعلى هذا الأصل يخرج جنس هذه المسائل.

نوع آخر
في قفيز الطحان، وما هو بمعناه

صورة قفيز الطحان أن يستأجر الرجل من آخر ثوراً ليطحن بها الحنطة على أن يكون لصاحبها قفيز من دقيقها، أو يستأجر إنساناً ليطحن له الحنطة بنصف دقيقها أو ثلثه أو ربعه أو ما أشبه ذلك، وذلك فاسد؛ لأنه منهي عنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، «أنه نهى عن قفيز الطحان» وقال عليه السلام لرافع بن خديج في آخر حديث

(7/472)


معروف: لا يستأجره بشيء منه.
والمعنى فيه: أنه جعل الأجر شيئاً معدوماً؛ لأنه جعل الأجر بعض الدقيق الذي يخرج من علمه، وإنه معدوم في الحال حقيقة، وليس له حكم الوجود؛ لأنه غير واجب في الذمة؛ لأنه إنما يجب في الذمة ما له وجود في العالم، والبدل في المعاملات يجب أن يكون موجوداً حقيقة كالعين أو حكماً كالثمن.
والجملة في ذلك لمن أراد الجواز أن يشترط صاحب الحنطة قفيزاً من الدقيق الجيد؛ لأن الدقيق إذا لم يكن مضافاً إلى حنطة بعينها يجب في الذمة، والأجر كما يجوز أن يكون عيناً مشاراً إليه يجوز أن يكون فيها في الذمة، ثم إذا جاز يعطب ربع دقيق هذه الحنطة إن شاء وإنما شرط أن يقال: ربع هذه الحنطة من الدقيق الجيد؛ ليكون الأجر معلوم القدر.
ولو استأجر حانوتاً بنصف ما يربح فيه فالإجارة فاسدة، وكان على المستأجر أجر مثل الحانوت، وإنما فسدت الإجارة أما؛ لأن ما يربح مجهول؛ أو لأنه جعل الأجر بعض ما يحدث من علمه، فيكون في معنى قفيز الطحان.

وإذا دفع الرجل إلى حائك غزلاً لينسجه بالنصف أو ما أشبه ذلك فالإجارة فاسدة، أما لأنه في معنى قفيز الطحان لأنه جعل الأجر بعض ما يحدث من عمله؛ أو لأن هذه الإجارة في الابتداء إن صادفت محلاً غير مشترك بينه وبين المستأجر ففي الانتهاء صادفت محلاً مشتركاً، وهذا لأنه لا شركة في ابتداء العمل في المحل ولكن تم العمل والمحل مشترك، لأنه يجب بعض الأجر بابتداء العمل ولو كان صادفت محلاً مشتركاً ابتداء وانتهاء لم تنعقد الإجارة ولم يجوز الأجر لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى، فإذا صادفت محلاً غير مشترك في الابتداء ومحلاً مشتركاً في الانتهاء لم يمنع انعقاد العقد ومنع الجواز.
ومشايخ بلخ كنصيربن يحيى ومحمد بن سلمة وغيرهما كانوا يفتون بجواز هذه الإجارة في الثياب لتعامل أهل بلدهم في الثياب والتعامل حجة يترك به القياس ويخص به الأثر وتجويز هذه الإجارة في الثياب للتعامل بمعنى تخصيص النص الذي ورد في قفيز الطحان، لأن النص ورد في قفيز الطحان؛ لا في الحائك إلا أن الحائك نظيره فيكون وارداً فيه دلالة، فمتى تركنا العمل بدلالة هذا النص في الحائك وعملنا بالنص في قفيز الطحان كان تخصيصاً، لا تركاً أصلاً وتخصيص النص بالتعامل جائز.

ألا ترى أنا جوزنا الاستصناع للتعامل والاستصناع بيع ما ليس عنده وإنه منهي عنه ولكن قيل: تجويز الاستصناع بالتعامل تخصيص منا للنص الذي ورد في النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان لا تركاً للنص أصلاً، لأنا عملنا بالنص في غير الاستصناع.

قالوا: وهذا بخلاف ما لو تعامل أهل بلدة قفيز الطحان، فإنه لا يجوز ولا تكون لتعاملهم عبرة لأنا لو اعتبرنا تعاملهم كان تركاً للنص أصلاً لأنه متى انفسخ النص مما ورد فيه لا يجوز العمل بدلالته في غير ما ورد فيه فيكون تركاً للنص أصلاً وبالتعامل لا

(7/473)


يجوز ترك النص أصلاً وإنما يجوز تخصيصه، ولكن مشايخنا لم يجوزوا هذا التخصيص لأن ذلك تعامل أهل بلدة إن كان يجوز التخصيص فترك التعامل من أهل بلدة أخرى يمنع التخصيص؛ فلا يثبت التخصيص بالشك، بخلاف الاستصناع، فإنه وجد التعامل فيه في البلاد كلها، وإذا فسدت الإجارة كان للحائك أجر مثل عمله والثوب لصاحب الغزل.
قال: وكذلك الطعام يحمله الرجل في سفينة أو على دابة بالنصف، لا يجوز ولا تجيء هاهنا العلة الأولى، التي ذكرناها في الحائك أن الأجر معدوم، لأن الأجر هاهنا موجود مشار إليه، وإنما تجيء العلة الثانية أن العمل في الانتهاء يقع في شيء مشترك، لأنه بابتداء العمل يصير بعض الطعام ملكاً للعامل فيقع العمل في محل مشترك وهذا يوجب الفساد إن كان لا يمنع الانعقاد.

قال: وإذا دفع الرجل إلى رجل أرضاً ليغرسها أشجاراً أو كرماً من عند نفسه على أن الأرض والأشجار بينهما نصفان فالعقد فاسد، لأنه جعل نصف الأرض بمقابلة نصف الغرس بشرط أن يعمل في النصف الباقي فيكون البيع مشروطاً في الإجارة، والإجارة مشروطة في البيع، فيكون صفقتين في صفقة وإنه منهي والأشجار لصاحب الأرض، وعليه للغارس قيمة الأغراس وأجره مثل عمله، وإنما كان الأشجار لصاحب الأرض؛ لأن صاحب الأرض اشترى نصف الأغراس شراء فاسداً، لأن الأغراس مجهولة وصار قابضاً لما اشترى حكماً لاتصاله بأرضه فصار ذلك النصف ملكاً له والنصف الآخر بقي على ملك الغارس وقد غرسه في ملك الغير، إلا أنه تعذر عليه القلع لأن نصيبه غير ممتاز عن نصيب صاحب الأرض فلو قلع يتضرر صاحب الأرض وصاحب الأرض صاحب أصل، والغارس صاحب بيع، فيملك عليه نصيبه بالقيمة نفياً للضرر.
فإن قيل: ينبغي أن يصير نصف الأرض ملكاً للغارس؛ لأنه اشترى نصف الأرض بنصف الأغراس شراء فاسداً وقبضه حقيقة، فيصير مملوكاً له، وإذا صار نصف الأرض مملوكاً للغارس كان نصف الأغراس الذي هو على ملكه مغروسة في ملكه فلا يكون لصاحب الأرض عليه سبيل.

قلنا: صاحب الأرض ما دفع الأرض إلى الغارس بحكم عقد فاسد إنما دفع إليه الأرض ليغرسها، ثم جعل نصف الأرض له مغروساً عوضاً عن الغرس فلم تكن الأرض مقبوضة بحكم عقد فاسد قبل الغرس، فلهذا لا يملك نصف الأرض فكان الكل مغروساً على ملك رب الأرض وقد غرس بإذنه، إلا أنه ما غرسه مجاناً فيجب للغارس قيمة الغرس وأجر مثل عمله.
وفي «شرح القدوري» : وإذا دفع الرجل إلى رجل دابة ليعمل عليها بالنصف فإن تقبل الطعام ثم حمل عليها كان الأجر كله للمتقبل، ولصاحب الدابة أجر مثل الدابة وإن أجر الدابة ليحمل عليها فهو لرب الدابة، ولهذا أجر مثل عمله وفي مضاربة الأصل.
وإذا دفع الرجل إلى رجل دابة ليعمل عليها، ويؤاجرها على أن ما رزق الله من شيء فهو بينهما، فأجرها واحد عليها، فإن جميع غلة الدابة يكون لصاحب الدابة وللعامل أجر مثل عمله؛ فيما عمل لأن تصحيح هذا العقد مضاربة متعذر؛ لأنه جعل رأس مال المضاربة منافع الدابة ومنافع الدابة مما يتعين في العقود فلا يصلح رأس مال المضاربة، وإذا تعذر جعلها مضاربة جعلناها إجارة وإنها إجارة فاسدة لوجهين:
أحدهما: أنه استأجر العامل ليؤاجر دابته بنصف أجر الدابة، وإنه معلوم فيه واجب في الذمة ولا عين مشار إليه فصار في معنى قفيز (29أ4) الطحان.
والثاني: أنه استأجره ليؤاجر دابته ولم يبين لذلك مدة، وفي مثل هذا لا تجوز الإجارة وإن كان البدل معلوماً فلأن لا يجوز هاهنا والبدل مجهول أولى بعد هذا ننظر أن أجر العامل الدابة من الناس وأخد الأجر كان الأجر كله لرب الدابة، لأنه بدل منافع دابته، ألا ترى أنها لو هلكت قبل التسليم بطلت الإجارة.
وألا ترى أنه لو حمل ذلك على دابة أخرى أو على ظهره لا يستحق الأجر دل أن ما أخذ بدل منافع دابته، وقد أجرها بإذنه فيكون له وكان بمنزلة ما لو أمره ليبيع دابته على أن يكون نصف الثمن له فباعها كان كل الثمن لصاحب الدابة، لأنه ثمن دابته كذا ها هنا وللعامل

(7/474)


أجر مثل عمله؛ لأنه ابتغى لعمله عوضاً لما شرط لنفسه نصف أجر الدابة فيكون له أجر مثل عمله لما فسدت الإجارة.
وهذا بخلاف ما إذا كان العامل لا يؤاجر الدابة من الناس وإنما يقبل الأعمال من الناس ثم يستعمل الدابة في ذلك فإن الأجر يكون للعامل وعلى العامل أجر مثل الدابة؛ لأنه إذا كان يتقبل الأعمال من الناس فما يأخذ من الأجر يكون بدل عمله لا بدل منافع دابته.

ألا ترى لو هلكت الدابة في هذه الصورة قبل التسليم لا تبطل الإجارة، وألا ترى أن له أن يحمل على دابة أخرى أو على ظهره فدل أن ما أخذ من الأجر بدل عمل العامل، فيكون له وعليه أجر مثل الدابة؛ لأنه استعمل دابة الغير بإذنه ببدل مجهول.

قال: وإذا دفع الرجل إلى الرجل بعيراً ليسقي الماء ويبيع على أن ما رزق الله في ذلك من شيء فهو بينهما نصفان فهذا فاسد، لأنه تعذر تصحيح هذا العقد مضاربة؛ لأنه جعل رأس مال المضاربة ما يتعين بالتعيين، وهو منافع الدابة، ولكن هذه الإجارة فاسدة؛ لأنه جعل الأجر نصف ثمن ما يبيع من الماء، وثمن ما يبيع من الماء مجهول، فكان الأجر مجهولاً؛ ولأنه جعل الأجر بعض ما يحصل من عمله، فكان في معنى قفيز الطحان.
بعد هذا نقول: إذا استعمل البعير، والراوية وباع الماء كان الثمن كله للعامل؛ لأنه بدل الماء لا بدل منافع الدابة ألا ترى لو هلكت الدابة قبل التسليم لا يبطل البيع ولو هلك الماء قبل التسليم يبطل البيع دل أنه بدل الماء، والماء كان مملوكاً للعامل ملكه بالإحراز بالراوية فكان الثمن بدل ملك العامل، فيكون للعامل، وعلى العامل أجر مثل البعير والراوية بخلاف المسألة الأولى؛ لأن في المسألة الأولى ما أخذ العامل فهو بدل منافع الدابة فيكون لصاحب الدابة، وللعامل أجر مثل عمله على صاحب الدابة.

(7/475)


وهكذا الجواب: إذا أعطاه شبكة ليصيد بها على أن ما صاد بها من شيء فهو بينهما، فما اصطاد يكون للصائد؛ لأن الصيد مباح كالماء يملكه الصائد بالإحراز وعليه أجر مثل الشبكة؛ لأنه استعمل الشبكة بحكم إجارة فاسدة؛ لأنه جعل الأجر نصف ما يحصل من عمله.
وإذا تكارى الرجل بعيراً ليحمل عليها أمتعة نفسه ويبيعها من الناس على أن يكون أجر البعير نصف ما يحصل بتجارته، فهذا فاسد وجميع ما اكتسب المستكري هو له، وعليه لصاحب البعير أجر مثل بعيره لاستيفائه منفعة البعير بحكم إجارة فاسدة.

وإذا دفع الرجل إلى الرجل بيتاً ليبيع فيه البر، على أن ما رزق الله في ذلك من شيء فهو بينهما نصفان، فقبض البيت، وباع فيه البر، فأصاب مالاً، فإن جميع ذلك لصاحب البر، ولصاحب البيت عليه أجر مثل البيت.
واعلم بأن هذه الإجارة فاسدة؛ لأنه لم يذكر فيها مدة؛ ولأن الأجر فهو نصف ما يربح مجهول، وإذا فسدت الإجارة كان على العامل أجر مثل البيت، وكان ما أصاب العامل من المال له؛ لأنه بدل بره، ولو كان صاحب البيت دفع البيت إليه ليؤاجر ويباع فيه البر على ما رزق الله من شيء فهو بينهما فهذا فاسد؛ لأن المدة مجهولة والأجر مجهول، فإذا أجر البيت وأخذ أجره، كان الأجر كله لصاحب البيت؛ لأنه بدل منافع بيته وقد أجره بإذنه؛ لأنه استأجره ليؤاجره بيته إجارة فاسدة، فإذا استوفى عمله؛ لأن على رب البيت أجر مثل عمله بخلاف المسألة الأولى، فإن ثمة ما أصاب العامل من المال يكون كله له؛ لأنه بدل بره أما ها هنا بخلافه.

وفي «فتاوى الفضلي» : استأجر رجلاً ليحصل له القصب في الأجمة على أن يعطي أجره خمس حزمات من قصب هذه الأجمة لا يجوز؛ لأنه في معنى قفيز الطحان؛ ولأن الحزمات مجهولة، وإن عين خمس حزمات، وقال: استأجرتك بهذه الحزمات الخمس يجوز، ولو لم يضف الأجر إلى قصب الأجمة، بل قال: استأجرتك على أن تحصد هذه الأجمة بخمس حزمات من القصب لا يجوز لجهالة الحزمات.
بخلاف بذرته الكدس واجتناء القطن بحيث يجوز إذا ذكر في الأجر حنطة أو قطناً من غير أن يضاف إلى حنطة الكدس أو القطن المجتنى، وإن كان لا يجوز إذا أضيف إليهما.
والفرق: أن هناك المفسد عند الإضابة ليس هو الجهالة؛ لأن الحنطة والقطن لا يتفاوت الوسط منهما بل المفسد كون ذلك في معنى قفيز الطحان، وإذا لم يضف لم يكن في معنى قفيز الطحان، وها هنا المفسد عند الإضافة كونه في معنى قفيز الطحان، والجهالة وبعدم الإضافة لا يخرج عن حد الجهالة، فلم يجز.

نوع آخر
في فساد الإجارة إذا كان المستأجر مشغولاً بغيره.

(7/476)


قال محمد رحمه الله: إذا استأجر الرجل أرضاً فيها زرع أو رطبة أو قصب أو شجر أو كرم مما يمنع الزراعة، فهذا فاسد؛ لأنه أجر ما لا يمكن تسليمه إلا بضرر يلحقه؛ لأنه لا يمكن تسليم الأرض إلا بقلع الأشجار والزرع وفي قلع الأشجار والزرع ضرر بالآجر؛ لأن الأشجار على ملك الآجر، ومثل هذا يوجب فساد العقد كما في بيع العين.
ألا ترى أنه لا يجوز بيع الجذع في السقف؟ وإنما لا يجوز؛ لأنه باع ما لا يمكنه تسليمه إلا بضرر يلزمه في غير ما دخل تحت العقد كذا ها هنا.
والمراد من الزرع المذكور في هذه المسألة، الزرع الذي لم يدرك بحيث يضره الحصاد، أما إذا أدرك الزرع بحيث لا يضره الحصار.
ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» في كتاب الإجارات: أنه يجوز ويؤمر الآجر بقلع الزرع، وهكذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «شرح كتاب الإجارات» ، وهو نظير ما لو أجر داراً فيها متاع الآجر، فإن الإجارات جائزة ويجبر الآجر على التفريغ، كذا ها هنا، ثم إن محمداً رحمه الله نص على فساد هذه الإجارة، وهكذا حكي عن الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني أن هذا العقد فاسد، وبعض مشايخنا قالوا: إنه موقوف إلى تفريغ الأرض، وقاسوا هذه المسألة على مسألة بيع الجذع في السقف.
والحاكم الشهيد رحمه الله: مال إلى ظاهر ما ذكر محمد رحمه الله، وفرق بين هذه المسألة وبين مسألة بيع الجذع في السقف.
وفي «القدوري» : إذا استأجر أرضاً سنة فيها رطبة، فالإجارة فاسدة، فإن قلع رب الأرض وسلمها أرضاً بيضاء فهو جائز، وقاسه على ما إذا باع الجذع في السقف ثم نزع الجذع وسلمه إلى المشتري، وإن اختصما قبل ذلك فأبطل الحاكم الإجارة ثم قلع الرطبة، فالمستأجر بالخيار، إن شاء قبضها على تلك الإجارة وطرح عنه أجر ما لم يقبض، وإن شاء ترك، هذا جملة ما ذكره في «القدوري» ، ثم الزرع إذا لم يدرك، وأراد جواز الإجارة في الأرض.
فالحيلة في ذلك: أن يدفع الزرع إليه معاملة، إن كان الزرع لرب الأرض على أن يعمل المدفوع إليه في ذلك بنفسه، وأجرائه وأعوانه على أن ما يرزق الله تعالى من الغلة، فهو بينهما على مئة سهم، سهم من ذلك للدافع، وتسعة وتسعون سهماً للمدفوع إليه، ثم يأذن له الدافع أن يصرف السهم الذي له إلى مؤنة هذه الضيعة أو شيء أراد، ثم يؤاجر الأرض منه، وإن كان الزرع لغير رب الأرض ينبغي أن يؤاجر الأرض منه بعد مضي السنة التي فيها الزرع (29ب4) فيجوز، وتصير الإجارة مضافة إلى وقت في المستقبل.

وحيلة أخرى إذا كان الزرع لرب الأرض أن يبيع الزرع منه بثمن معلوم ويتقابضان ثم يؤاجر الأرض منه، وكذلك الحيلة في الشجر والكرم، يدفع الأشجار والكرم معاملة أو يبيع الأشجار والكرم منه، ثم يؤاجر الأرض منه، ثم إن بعض مشايخنا زينوا حيلة بيع الأشجار والكروم، وكانوا لا يجوزون إجارة الأراضي فيها أشجار وكروم بهذه الحيلة، وكانوا يقولون: بيع الأشجار هاهنا بيع تلجئة لا بيع رغبة بدليل أن المستأجر يمنع عن قلع الأشجار، وإذا كان بيع تلجئه لا يزيل الأشجار عن ملك صاحبها، فحين يؤاجر الأرض

(7/477)


كانت الأرض مشغولة بحق المؤاجر، فلا يجوز.
ومن المشايخ من يقول: يحكم الثمن إن كان الثمن الذي قوبل بالأشجار مثل قيمة الأشجار أو أكثر يستدل به على أن بيع الأشجار بيع رغبة، فتجوز الإجارة بعد ذلك، ومالا فلا، وكان الحاكم الإمام عبد الرحمن الكاتب والشيخ الإمام إسماعيل الزاهد وغيرهما من المشايخ يقولون: إن الإجارة صحيحة، وبيع الأشجار بيع رغبة إلا أن المستأجر يمنع عن قلع الأشجار لمكان العرف والعادة، وقد يمنع الإنسان عن التصرف في ملكه كما يمنع عن بيع السلاح في أيام القسمة من أهل القسمة.

وكان الطحاوى رحمه الله: يقول بصحة بيع الأشجار، وبصحة هذه الإجارة بشرط أن يبيع الأشجار بطريقها، ويبين طريقاً معلوماً لهما من جانب من جوانب الأرض، أما بدون ذلك لا يجوز البيع ولا الإجارة بعده.
ومن المشايخ من زين حيلة بيع الأشجار من وجه آخر، فقال: في بيع الأشجار مطلقاً يدخل موضعها من الأرض في البيع على أصح الروايتين، فإذا دخل لا يمكن تجويز إجارة ذلك الموضع؛ إما لأن المستأجر يصير مستأجراً ملك نفسه؛ أو لأن استئجار الأرض لتنقية الأشجار وقد وقع الاستغناء عن استئجار موضع الأشجار لتنقية الأشجار لدخول ذلك الموضع في بيع الشجر، وإذا صار موضع الاستئجار ملك مشتري الأشجار، فإذا استأجر الأرض بعد ذلك صار مستأجراً ملك نفسه، وملك رب الأرض بصفقة واحدة، وإنه لا يجوز، ثم إذا فسخت الإجارة وكان فيها بيع الأشجار لا يشترط فسخ بيع الأشجار نصاً بعد فسخ الإجارة، بل ينفسخ البيع في الأشجار بطريق الدلالة، والفسخ مما يثبت بطريق الدلالة.
u
وإذا اشترى ثمرة في نخل، ثم استأجر النخل مدة لتنقيتها فيها لم يجز؛ لأنها ليست من إجارات الناس.
وكذلك لو استأجر الأرض بدون النخلة لم يجز؛ لأن النخل حائل بينة وبين الثمرة، وإنه ملك المؤاجر، والمستأجر مشغول بملك المؤاجر.

وكذلك إذا اشترى أطراف الرطبة دون أصلها، ثم استأجر الأرض لإبقاء الرطبة لا يجوز؛ لأن أصل الرطبة على ملك الآجر، فقد حال بينه وبين المستأجر ملك الآجر.
ولو اشترى نخلة فيها، ثم ليقلعها، ثم استأجر الأرض لتنقينها جاز، وكذلك إذا اشترى الرطبة بأصلها ليقلعها، ثم استأجر الأرض لتنقيتها جاز؛ لأن الأرض مشغولة بملك المستأجر، وذلك لا يمنع جواز العقد.
ولو استعار الأرض في ذلك كله جاز؛ لأن العارية تبرع لا يتعلق به اللزوم، فيجوز بيع الشيوع، وما هو في معنى الشيوع.

ومما يتصل بهذا النوع مسائل الشيوع في الإجارة

قال محمد رحمه الله: في رجل أجر نصف داره مشاعاً من أجنبي لم يجز، وإذا سكن المستأجر فيها يجب أجر المثل، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف

(7/478)


ومحمد والشافعي رحمهم الله: يجوز بلا خلاف في ظاهر الرواية.
وروي في «النوادر» عن أبي حنيفة أنه لا يجوز ولو أجر داره من رجل ثم تقايلا العقد في النصف لا يبطل العقد في النصف الباقي بلا خلاف في ظاهر الرواية وفي «النوادر» عن أبي حنيفة أنه تبطل الإجارة في النصف الباقي، وإذا أجره داره من رجلين يجوز بلا خلاف، وإذا مات أحدهما تبطل الإجارة في نصيبه، وتبقى في نصيب الحي صحيحة.
وكذلك إذا أجر الرجلان داراً من رجل، فمات أحد المؤاجرين، بطلت الإجارة في نصيبه، وفي نصيب الحي صحيحة، وكذا إذا مات أحد المتكاريين بطل الكراء في نصيبه، ويبقى في نصيب الآجر، وإذا كانت الدار بين الرجلين آجر أحدهما نصيبه من أجنبي، فقد اختلف المشايخ فيه على قول أبي حنيفة.
بعضهم قالوا: لا يجوز، وهكذا روى الحسن في «جامعه» عن أبي حنيفة وعندهما يجوز، ولو استأجر علو منزل ليمر فيه إلى حجرته لا يجوز عند أبي حنيفة، وعندهما يجوز.
وكذلك إذا استأجر السفل ليمر فيه إلى سكنه لم يجز في قول أبي حنيفة، وعندهما يجوز، لأن المستأجر مشاع، وإجارة المشاع على الخلاف الذي قلنا.
قال الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي رحمه الله: ينبغي أن لا تجوز هذه الإجارة إجماعاً؛ لأن المعقود عليه مجهول؛ لأن موضوع المسألة أن الطريق غير معين، وجهالة المعقود عليه تمنع جواز الإجارة إجماعاً، ولا يجوز إجارة البناء دون الأرض هكذا ذكر في «الأصل» وذكر محمد في «النوادر» في مواضع أنه يجوز، قال القاضي الإمام أبو علي النسفي: وبه كان يفتي شيخنا وقاسه بإجارة الفسطاط والخيمة.

نوع آخر في الاستئجار على الطاعات

وإذا استأجر الرجل رجلاً ليعلمه القرآن، أو ليعلم ولده القرآن لا يجوز، ومعناه أنه لا ينعقد العقد أصلاً حتى لا يجب للأجير شيء بحال من الأحوال، هذا جواب «الكتاب» ، وإنما لم يجز؛ لأن الإجارة وقعت على عمل ليس في وسع الأجير إبقاؤه؛ لأن التعليم إنما يتم بالتعلم كالكسر بالانكسار، والتعلم ليس في وسع المعلم، ومثل هذا الاستئجار لا يجوز.
ومشايخ بلخ جوزوا الاستئجار على تعليم القرآن، إذا ضرب لذلك مدة أفتوا بوجوب أجر المثل قالوا: وإنما كره تعليم القرآن بالأجر في الصدر الأول؛ لأن حملة القرآن كانوا قليلاً فكان التعليم واجباً حتى لا يذهب القرآن، فأما في زماننا كثر حملة القرآن ولم يبق التعليم واجباً، فجاز الاستئجار عليه.
وذكر الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري كان المتأخرون من أصحابنا يجوزون ذلك، ويقولون إنما كان المتقدمون يكرهون ذلك لأنه كان للمعلمين عطيات من

(7/479)


بيت المال وكانوا مستغنين عما لا بد لهم من أمر معاشهم، وقد كان في الناس رغبة في التعليم بطريق الحسبة، وللمتعلمين مروءة في المجازاة بالإحسان من غير شرط أما اليوم ليس لهم عطيات من بيت المال والتعليم يشغلهم عن اكتساب ما لا بد لهم من أمر المعاش وانقطع رغبة المعلمين في الاحتساب ومجازاة المتعلمين من غير شرط، فتجوز الإجارة ويجبر المستأجر على دفع الأجرة ويحبس بها وبه يفتى.
وكذلك يجبر المستأجر على الحَلْوَة المرسومة وهذا استحسان أيضاً استحسن المشايخ على ذلك.
وكذلك يفتى بجواز الاستئجار على تعليم الفقه في زماننا والاستئجار على الإمامة والأذان لا يجوز لأنه استئجار على عمل للأجير فيه شركة لأن المقصود من الأذان والإمامة أداء الصلاة بجماعة وبأذان وإقامة وهذا النوع كما يحصل للمستأجر يحصل للأجير.
وكذا الاستئجار على الحج والغزو وسائر الطاعات لا يجوز، لأنه لو جاز يوجب على القاضي جبر الأجير عليها ولا وجه إليه، لأن أخذها لا يجبر على الطاعات.

وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني والقاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي لا يفتيان بجواز الاستئجار على تعليم القرآن، وهكذا حكي عن الشيخ الإمام ركن الدين أبي الفضل رحمه الله وفي روضة الزندويس، كان شيخنا أبو محمد عبد الله الحرافري يقول: في زماننا يجوز للإمام والمؤذن والمعلم أخذ الأجر.
وسيأتي بيان الحيلة للجواز على قول الكل في فصل الاستئجار على (30أ4) التعليم، وفي روضة الزندويس أن المستأجر إذا استأجر رجلاً ليعلم ولده الكتابة.

وفي «النوازل» : إذا استأجر مؤدباً مرة كل شهر بسبعة دراهم يعلم صبيين أحدهما العربية، والآخر القرآن، فقال المؤدَب: أنا لست من يأته تعليم القرآن فاستأجر معلَماً وضم الصبي إليه.... الناس، وأعطى منه أخرى فسلم الصبي إلى معلمه، فلما جاء رأس الشهر حبس عن المؤدب ثلاثة دراهم، فقال المؤدب: أنا لا أرضى بما حبست؛ لأن أجر المعلم يكون كل شهر نصف درهم، أو درهم.
قال: خطاب المؤدب الذي خاطب به المستأجر قريب من توكيله إياه بذلك، فيحط من أجره قدر ما يستحقه المعلم الذي ضم إليه الصبي، وإذا استأجر المسلم من المسلم بيتاً يصلي فيه لم يجز؛ لأنه عيَن جهة القربة لصرف المنفعة إليها، ولا يحل المنع عن الانتفاع لأجل تلك الجهة، فلا يجوز أخذ الأجر عليه.
متولي المسجد إذا تعذر عليه الحساب بسبب أنه أمي لا يكتب ولا يقرأ، فاستأجر

(7/480)


رجلاً يكتب له ذلك لا يحَل له أن يعطي أجر الكاتب من مال المسجد؛ لأن الحفظ عليه ونفع الكتابة راجع إليه.
ولو استأجر رجلاً ليكنَس المسجد، ويغلق الباب ويفتحه بمال المسجد جاز؛ لأنه ليس على المتولي ذلك، أما حفظ الرجل والخرج عليه.

نوع آخر في الاستئجار على المعاصي
إذا استأجر الرجل حمالاً ليحمل له خمراً، فله الأجر في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: لا أجر له.

فوجه قولهما: أن حمل الخمر معصية؛ لأن الخمر يحمل للشرب والشرب معصية، وقد «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم حامل الخمر والمحمول إليه» ، وذلك يدل على كون الحمل معصية، وأبو حنيفة رحمه الله يقول يحمل للإراقة وللتخليل كما يحمل للشرب، فلم يكن متعيناً للمعصية، فيجوز الاستئجار عليه.
قال القدوري في «كتابه» : قال محمد رحمه الله: ابتلينا بمسألة ميت مات من المشركين، فاستأجروا له من يحمله إلى بلدة أخرى، قال أبو يوسف: لا أجر له، وقلت أنا: إن كان الحمال يعرف أنه جيفة فلا أجر له وإن لم يعلم فله الأجر، قال أبو يوسف: وهذا بخلاف ما لو استأجر لنقله إلى مقبرة البلدة حيث يجوز؛ لأن ذلك لدفع أذيته عنهم فصار كاستئجار الكناس واستئجار المسلم ليخرج له حماراً ميتاً من داره.
وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا أجر نفسه من المجوسي ليوقد له ناراً فلا بأس به، فأبو حنيفة سوّى بين هذا وبينما إذا أجر نفسه من ذمّي ليحمل له خمراً، وهما فرقا بين المسألتين.
ووجه الفرق: أن التصرف في النار والانتفاع بها جائز في الجملة، ولا كذلك التصرف في الخمر والانتفاع بها.
وفي «العيون» : لو استأجر رجلاً ينحت له أصناماً أو يزخرف له بيتاً بتماثيل والأصباغ من رب البيت فلا أجر؛ لأن فعله معصية، وكذلك لو استأجر نائحة أو مغنية فلا أجر لها؛ لأن فعلها معصية.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا استأجر رجلاً ينحت له طنبوراً أو بربطا ففعل يطيب له الأجر إلا أنه يأثم في الإعانة على المعصية، وإنما وجب الأجر في هذه المسألة ولم يجب في نحت الصنم؛ لأن جهة المعصية ثمة مستغنية؛ لأن الصنم لا ينحت إلا للمعصية

(7/481)


أما في نحت الطبل والطنبور جهة المعصية ليست بمتعينة؛ لأنها كما للمعصية تصلح لغير المعصية بأن يجعل وعاء للأشياء.
ولو استأجر الذمي مسلماً ليبني له بيعة أو كنيسة جاز، ويطيب له الأجر.
وكذلك لو أن امرأة استكتبته كتاباً، إلى حبها جاز ويطيب له الأجر؛ لأنه بدل عمله، وقال أبو حنيفة: لا تجوز الإجارة على شيء من اللهو والمزامير والطبل وغيره؛ لأنها معصية والإجارة على المعصية باطلة؛ ولأن الأجير مع المستأجر يشتركان في منفعة ذلك فتكون هذه الإجارة واقعة على عمل هو فيه شريك، قال: وإن أعطي المستأجر شيئاً من اللهو ليلهو به فضاع أو انكسر فلا ضمان عليه؛ لأن الإجارة لما لم تنعقد بقي مجرد الإذن، كما في استئجار النخيل وإذا بقي الأخذ بإذن المالك فمتى ضاع أو انكسر لا يكون عليه شيء، كما لو أذن ولم يؤاجر.

قال: وإذا استأجر الذمي من المسلم بيعة يصلَي فيها فإن ذلك لا يجوز؛ لأنه استأجرها ليصلي فيها وصلاة الذميّ معصية عندنا وطاعة في زعمه، وأي ذلك ما اعتبرنا كانت الإجارة باطلة؛ لأن الإجارة على ما هو طاعة ومعصية لا يجوز، وكذلك المسلم إذا استأجر من المسلم بيتاً ليجعلها مسجداً يصلي فيها المكتوبة أو النافلة، فإن الإجارة لا تجوز في قول علمائنا، وعند الشافعي تجوز وهذا لأنها وقعت على ما هو طاعة، فإن تسليم الدار ليصلي فيها طاعة ومن مذهبنا أن الإجارة على ما هو طاعة لا تجوز، وعنده تجوز.
وكان هذا بمنزلة ما لو استأجر رجلاً للآذان أو الإمامة لا يجوز عندنا؛ لأنه طاعة، وعند الشافعي يجوز فكذلك هذا وكذلك الذمي إذا استأجر رجلاً من أهل الذمة ليصلي بهم فإن ذلك لا يجوز لأن هذه معصية عندنا وطاعة في دينهم وأيّ ذلك ما اعتبرنا لا تجوز هذه الإجارة.
قال: وإذا استأجر رجل من أهل الذمة مسلماً يضرب لهم الناقوس فإنه لا يجوز لما ذكرنا، وإذا استأجر مسلماً ليحمل له خمراً ولم يقل ليشرب، أو قال ليشرب جازت الإجارة في قول أبي حنيفة خلافاً لهما، وكذلك إذا استأجر الذمي بيتاً من مسلم ليبيع فيه الخمر، جازت الإجارة في قول أبي حنيفة خلافاً لهما.

والوجه لأبي حنيفة فيما إذا نص على الشرب، إن هذه إجارة وقعت لأمر مباح؛ لأنها وقعت على حمل الخمر ليشربها الذمي، أو وقعت على الدار ليبيع الذميّ وشرب الخمر مباح؛ لأن خطاب التحريم كان غير نازل في حقه.
وهذا بخلاف ما إذا استأجر الذمي من المسلم بيتاً يصلي فيه حيث لا يجوز؛ لأن ثمة صفة المعصية، إذا أمنت في حقه لديانته تبقى صفة الطاعة والاستئجار على الطاعة لا يجوز ومعنى صفة المعصية متى انتفت عن الشرب لديانته بقي فعلاً مباحاً في نفسه ليس بطاعة فتجوز الإجارة، وفيما إذا لم ينص على الشرب، فالوجه له أن الخمر كما يكون للشرب وإنه معصية في حق المسلم يكون للتخليل، وإنه مباح للكل فإذا لم ينص على

(7/482)


الشرب يجب أن يجعل التنقل للتخليل حملاً لهذا العقد على الصحة.
وهو نظير ما لو استأجر الذميّ من المسلم بيتاً ولم يقل ليصلى فيه، فإنه يجوز، وإن كان له أن يصلي فيه ويتخذه بيعة وكنيسة.
وإذا استأجر الذميّ مسلماً ليحمل له ميتة، أو دماً يجوز عندهم لأن نقل الميتة والدم؛ لإماطة الأذى عن الناس مباح فتكون الإجارة واقعة على أمر مباح فتجوز، وقد تكون للأكل فتكون الإجارة واقعة على فعل حرام فلا تجوز، فإذا أطلق تحمل الإجارة على الحمل لإماطة الأذى تجويزاً للإجارة.

وإذا استأجر الذمي لنقل الخمر أو استأجر منه بيتاً ليبيع فيه الخمر جاز عندهم جميعاً؛ لأن الخمر عندهم كالخل عندنا وهذا بخلاف ما لو استأجر ذميّ من ذميّ بيتاً يصلّي فيه حيث لا يجوز؛ لأن صلاتهم طاعة عندهم معصية عندنا وأي ذلك كان لم تجز الإجارة، فأما في الخمر متى انتفت صفة المعصية بقي بعد ذلك صفة الإباحة، والاستئجار على فعل مباح جائز.
ولو استأجر مسلماً ليرعى له خنازير يجب أن تكون على الخلاف كما في الخمر ولو استأجره ليبيع له ميتة لم يجز؛ لأن بيع الميتة لا تجوز في دين من الأديان لأنه لا ثمن لها، وإذا لم يجز بيعه فقد استأجر على فعل ليس في وسعه تحصيله بحال (30ب4) وإذا استأجر الذميّ من المسلم داراً ليسكنها فلا بأس بذلك؛ لأن الإجارة وقعت على أمر مباح فجازت وإن شرب فيها الخمر أو عبد فيها الصليب أو أدخل فيها الخنازير، لم يلحق المسلم في ذلك شيء لأن المسلم لم يؤاجر لها إنما يؤاجر للسكنى، وكان بمنزلة ما لو أجر داراً من فاسق كان مباحاً، وإن كان يعصي فيها، ولو اتخذ فيها بيعة أو كنيسة أو بيت نار يمكن من ذلك إن كان في السواد.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وأراد بهذا إذا استأجرها الذمي ليسكنها، ثم أراد بعد ذلك أن يتخذ كنيسة أو بيعة فيها، فأما إذا استأجرها في الابتداء ليتخذها بيعة أو كنيسة لا يجوز إلا إلى ما ذكر قبل هذا أن الذمي، إذا استأجر من المسلم بيعة يصلي فيها لم يجز بعض مشايخنا قالوا: وما ذكر في سواد الكوفة؛ لأن عامة سكانها أهل الذمة والروافض أما في سوادنا عامة سكانها المسلمون فيمنعون عن إحداث الكنائس كما يمنعون عنها في الأمصار، وكثير من المشايخ قالوا: لا يمتنعون عن إحداث الكنائس في سوادنا أيضاً.
قال: وإذا استأجر كتاباً يقرأ فيه لا يجوز شعراً كان أو فقهاً أو غيره.
وكذلك إذا استأجر مصحفاً وإنما لا يجوز، لأن الإجارة عقدت على القراءة والنظر، والإجارة على النظر والقراءة لا تنعقد؛ لأن القراءة فلا تخلو إما أن تكون طاعة أو معصية أو مباحاً.
فإن كانت القراءة طاعة كقراءة القرآن والأحاديث، كان هذا إجارة على الطاعة، والإجارة على الطاعة لا تنعقد.
وإن كانت معصية كالنياحة والغناء فهو إجارة على المعصية، والإجارة على المعاصي باطلة.

وإن كان مباحاً كقراءة كتب الأدب، فلأن القراءة والنظر مباح له بغير إجارة، إنما لا يباح حمله وتقلب الأوراق والإجارة لا

(7/483)


تنعقد على ما كان يملكه المستأجر قبل الإجارة من غير إجارة، ولا تنعقد على حمله وتقليب الأوراق وإن كان لا يملكه المستأجر من غير إجارة؛ لأنه لا فائدة للمستأجر في ذلك، ألا ترى أنه لو نصّ فقال: استأجرت منك هذا الكتاب لأحمله وأقلب أوراقه، بأن الإجارة لا تصح فكذلك ها هنا.

وكذلك إذا استأجر قارئاً ليقرأ عليه شيئاً لا يجوز؛ لأن القراءة التي وقعت الإجارة عليها إن كانت طاعة أو معصية لا تجوز الإجارة عليها، إما لأن الاستئجار على الطاعات والمعاصي باطلة وإما لأن القارىء مع السّامع يشتركان في منفعة القراءة؛ لأنه كما ينتفع السامع بالقراءة من حيث العظة والتلذّذ ينتفع بها القارىء لعمل فقد استأجره لعمل هو شريك فيه، ومثل هذا لا يجوز على ما مرّ، وإن كانت القراءة التي وقع عليها الإجارة مباحاً كقراءة كتب الأدب وما أشبه ذلك، لا تجوز الإجارة عليها للوجه الثاني.

نوع منه في الاستئجار على الأفعال المباحة
نحو تعليم الصناعة والتجارة والهدم والبناء والحفر وأشباه ذلك.

وإذا دفع عبده إلى رجل يقوم عليه أشهراً مسماة في تعليم النسخ على إن أعطاه المولى كل شهر شيئاً مسمّى فهو جائز، أما على قول من قال: بأن الإجارة على تعليم القرآن لم تجز؛ لأن تعليم القرآن طاعة فظاهر؛ لأن تعليم النسخ مباح وليس بطاعة، وأما على قول من قال: بأن الإجارة على تعليم القرآن إنما لا تجوز؛ لأن التعليم ليس من عمل الأجير بل من فهم المتعلم، فلأن الإجارة هاهنا وقعت على أن يقوم عليه ويحفظه، ولكن ذكر الشيخ لرعب المولى فيما يحصل له في أثناء العقد عن عمل الحياكة، فإن الصبيّ ربما يأخذ ذلك لفهمه وذكائه، فهذا جاري مجرى البيع والمقصود هو القيام عليه وفي وسع الأستاذ الوقاية حتى لو شرط عليه تعليم الحياكة، ولم يقل ليقوم عليه في عمل كذا يجب أن لا يجوز كما في تعليم القرآن.
ولو شرط على المعلم أن يقوم على ولده شهراً في تعليم القرآن يجب أن يجوز، وإن كان الأستاذ هو الذي شرط للمولى أن يعطيه ذلك ويقوم على غلامه في تعليم ذلك فهو جائز، وإن لم يشترط كل واحد منهما على صاحبه الأجر يعني الأستاذ مع الولي ودفعه على وجه الإجارة، فلما فرغ الأستاذ من التعليم، قال الأستاذ: لي الأجر على رب العبد وقال ربّ العبد: لا بل لي الأجر على الأستاذ، فإني أنظر في ذلك العمل إلى ما يصنع أهل تلك الصنعة في تلك البلدة فإن كان المولى هو الذي يعطي الأجر جعلت على الأستاذ أجر مثله للمولى.
قال الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي رحمه الله: معنى قوله دفعه على وجه الإجارة أن ذلك العمل مما لا يعمل بغير بدل، إذا استأجر الرجل سمساراً ليشتري له

(7/484)


الكرابيس أو استأجر دلالاً ليبيع له ويشتري فإن لم يبيّن لذلك أجلاً لا يجوز، وقد ذكرنا المسألة مع ما فيها من الحيلة للجواز من قبل.

وفي «واقعات الناطقي» : إذا قال الرجل: بع هذا المتاع ولك درهماً أو قال: أشتر لي هذا المتاع ولك درهم، ففعل فله أجر مثله لا يجاوز به الدرهم؛ لأن هذا الاستئجار وقع فاسداً فكان عاملاً له بإجارة فاسدة فيجب له أجر المثل، وفي الدلال والسمسار يجب أجر المثل وما تواضعوا عليه أن من كل عشرة دنانير كذا، فذلك حرام عليهم.
وفي «العيون» : رجل دفع إلى أخر ثوباً فقال له: بعه بعشرة فما زاذ فهو بيني وبينك، قال أبو يوسف: إن باعه بعشرة أو لم يبعه فلا أجر له، وإن بعت في ذلك؛ لأنه نفى الأجر إذا باعه بعشرة لما علقه بأكثر من عشرة ولو باعه باثني عشر، أو أكثر أو أقل فله أجر مثل عمله.

وقال محمد رحمه الله: له أجر مثل عمله، وإن لم يبع فإذا بعت في ذلك؛ لأنه عمل بحكم إجارة فاسدة، والفتوى على قول أبي يوسف؛ لأن الأجر مقابل بالبيع دون مقدماته، فلا يستحق الأجر بدون البيع وإن بعت في عمله بحكم إجارة فاسدة.
وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا قال لدلال: إعرض صنعتي وبعها على أنك إذا بعتها فلك من الأجر كذا، فلم يقدر الدلال على إتمام الأمر فباعها دلال آخر.
قال الفقيه أبو القاسم رحمه الله: إن كان الأول قد عرضها وذهب له في ذلك دور جار يعتد به فأجر المثل له واجب بقدر عنائه وعمله.
وعن أبي نصر مثل ما قاله الفقيه أبو القاسم فإنه سئل عمّن دفع ثوباً إلى منادي ليبيعه بأجر فنادى، ولم يبع صاحبه قال: له أجر مثله؛ لأنه عمل بإجارة فاسدة.
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: هذا هو القياس أمّا في الاستحسان لا يجب له الأجر؛ لأن العرف والعادة جرت أنهم لا يأخذون الأجر إلا بالبيع وهذا موافق لقول أبي يوسف في المسألة المتقدمة، وعليه الفتوى.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل يبيع ثياباً بالمزايدة، أجر منادياً ينادي ببيع ذلك، فإن بيّن له وقتاً أو قال ينادي كذا صوتاً فذلك جائز ومالا فلا.

وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل ضلّ شيئاً، فقال: من دلني عليه فله درهم فدلّه إنسان فلا شيء له؛ لأن الدلالة والإشارة ليست بعمل يستحق به الأجر، ولو قال لإنسان بعينه: إن دللتني عليه فلك درهم، فإن دلّه من غير شيء معه فكذلك الجواب لا يستحق به الأجر وإن مشى معه ودلّه فله أجر مثله، لأن هذا عمل يقابل الأجر عرفاً وعادة إلا أنه غير مقدر ففسد العقد ووجب به أجر المثل.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : استأجر رجلاً ليصيد له أو يحتطب له فإن كان وقّت لذلك وقتاً جاز، وإن لم يوقت ولكن عين الحطب، فالإجارة فاسدة وما اصطاد فهو للمستأجر (31أ4) وإن كان الحطب الذي عينه ملك المستأجر، فالإجارة جائزة.
وفي «القدودي» وعن محمد فيمن قال لغيره: اقتل هذا الذئب أو هذا الأسد ولك

(7/485)


درهم، وهما صيد ليس للمستأجر فله أجر مثله لا يجاوز به درهماً، لأنه يحتاج في الصّيد إلى المعالجة، فيصير العمل مجهولاً باعتباره فيجب أجر المثل، قال: ويكون الصيد للمستأجر قال: لأن القتل سبب التملك وعمل الأجير يقع للمستأجر.
وفي «فتاوى الفضلي» : إذا استأجر الرجل رجلاً ليهدم جداره، أو يبني حيطانه كل ذراع بكذا أو قال: بك تاجره بكذا، أو ليكسر حطبه جازت الإجارة، فإن لم يذكر الأجل.

والأصل في جنس هذه المسائل: أن العمل إذا كان معلوماً، ولو أراد المستأجر أن يشرع في ذلك العمل في الحال يمكنه الشروع فيه ويقدر عليه، فإنه تجوز الإجارة من غير ذكر الأجل، وكذلك لو ذكر الأجل إلا أنه لم يبين مقدار العمل وهو يقدر على الشروع في الحال يجوز أيضاً.
بيان الأول: ما ذكرنا من مسألة الهدم، وبناء الحائط، وكسر الحطب، وكذلك لو استأجر رجلاً ليخبز له عشرين طناً من الخبز بدرهم يجوز، وإن لم يذكر الأجل؛ لأن العمل معلوم.
بيان الثاني: لو استأجره ليخبز له اليوم إلى المثل جاز، وإن لم يبيّن مقدار العمل؛ لأن العمل صار معلوماً بذكر الأجل.

ولو استأجر رجلاً ليذري كدسه، أو قال: له بالفارسية باين يك خرمن من رابا وكن لا يجوز ولو قال يا ين يك درهم أين ويوار بابازكن جاز درهم أين لأن في الجدار وجنسها لو أراد الأجير أن يشرع في العمل في الحال يقدر أما يذريه الريح لا تتم به وحده وإنما يتم به، وبالريح فلم يكن قادراً على العمل المستأجر عليه فلا يصح.
وفي «الأصل» : استأجره ليبني له حائطاً بالآجر والجص وسمى كذا كذا أجرة من هذه الأجرار وكذا كذا كراً والجص، ولم يسم الطول والعرض كانت الإجارة فاسدة قياساً، صحيحة استحساناً.
وجه القياس: أن مقدار الطول والعرض مجهول، وهذه جهالة توقعهما في المنازعة.
وجه الاستحسان: أن مقدار الطول والعرض معلوم عرفاً؛ لأن بعد بيان الآجر عدداً والجص كيلاً يعرف أهل هذه الصنعة مقدار طوله وعرضه ولو سمى كذا كذا عدداً من الآجرة أو اللبّنة ولم يسم الملبن ولم يره إياه إن كان ملبن أهل تلك البلدة واحداً أو كان لهم ملابن مختلفة إلا أن غالب عملهم على ملبن واحد جازت الإجارة استحساناً؛ لأن ملبنهم إذا كان واحداً ينصرف مطلق الاسم إليه.
وكذلك إذا كانت لهم ملابن مختلفة، إلا أن غلبة أعمالهم على ملبن واحد ينصرف مطلق الاسم إليه عرفاً وعادة، وإن كان ملابنهم مختلفة ولم يغلب استعمال واحدة منها، كانت الإجارة فاسدة؛ لأن في هذه الصورة الملبن لا يصير معلوماً لا شرطاً ولا عرفاً وجهالة الملبن توجب فساد الإجارة؛ لأن العمل مما يتفاوت الملبن صغراً وكبراً.

(7/486)


وإذا استأجره ليبني له حائطاً بالمرمص وشرط عليه الطول والعرض وبدون بيان الطول والعرض لا يجوز؛ لأن العمل لا يصير معلوماً.

وإذا استأجره ليعمر له في هذه الساحة بيتين ذي سقفين أو ذي سقف واحد، وبيّن طوله وعرضه السرد وغير ذلك، ويقال بالفارسية: شكروداون لا يجوز، هكذا ذكر في «فتاوى أبي الليث» ، والصواب أنه يجوز إذا كان بآلات المستأجر لتعامل الناس، ومسألة الاستئجار لبناء الحائط بالآجر والجصّ التي تقدم ذكرها يشهد لهذا القول.

ولو استأجره ليحفر له بئراً في داره وسمى عمقها وسعتها، حتى جازت الإجارة، فلما حفر بعضها وجد حبلاً أشد عملاً وأشد مؤنة، فإن كان يقدر على حفرها بالآلة التي تحفر بها الآبار إلا أنه يلحقه زيادة مشقة وتعب، فإنه يجبر على العمل؛ لأنه ضمن بعقد الإجارة حفر هذا الموضع بالآلة التي تحفر بها الآبار، وقد أمكنه ذلك فقد قدر على الوفاء بما ضمن بعقد الإجارة فيجبر عليه، وإن كان لا يقدر على حفرها بالآلة التي تحفر بها الآبار لا يجبر عليه؛ لأنه ما قدر على الوفاء بما ضمن بعقد الإجارة، لأنه إنما ضمن الحفر بالآلة التي تحفر بها الآبار لا بآلة أخرى، وهل يستحق الأجر بقدر ما عمل؟ لم يذكر محمد رحمه الله هذه المسألة في «الكتاب» .
وحكى فتوى شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله: أنه يستحق إذا كان يعمل في ملك المستأجر، بخلاف ما إذا كان يعمل في غير ملكه وقاس هذه المسألة على ما إذا استأجر خياطاً ليخيط له ثوباً في بيت المستأجر فخاط بعضه فسرق الثوب، أو حفاراً ليحفر له بئراً في دار المستأجر فحفر البعض فانهار يستحق من الأجر بقدره وإن كان يعمل ذلك في غير ملكه فله أجر له كذا هاهنا.

وعلى قياس ما ذكرنا قبل هذا عن القدوديّ أن الخياط إذا خاطه في بيت المستأجر فخاط بعض الثوب أن لا أجر له؛ لأنه لا ينتفع به يجب أن يقال هاهنا: إنه لا ينتفع به وسيأتي بخلاف هذا عن أبي يوسف في فصل فسخ الإجارة بالعذر، وإن شرط عليه أن كل ذراع في لبن أو سهله بدرهم، وكل ذراع في جبل بدرهمين وكل ذراع في الماء بثلاثة وبينّ مقدار الطول والعرض فهو جائز، لأنه الأجر معلوم حال وجوبه؛ لأن الأجر إنما يجب بعد العمل وبالعمل يصير جميع الأجر معلوماً؛ لأنا نعلم بأي قدر حفر في السهلة وبأي قدر حفر في الجبل.
ولو استأجره ليحفر له بئراً في داره وظهر الماء قبل أن يبلغ المسمى الذي شرط عليه، فإن أمكنه الحفر في الماء بالآلة التي تحفر بها الآبار أجبر على الحفر، وإن احتيج إلى اتخاذ آلة أخرى لا يجبر عليه على نحو ما ذكرنا في المسألة المتقدمة.
وكذلك لو استأجره ليحفر له في حجارة مروة، فلما حفر البعض استقبله حجارة صفا أصم، فإن أمكنه حفر الصفا بالآلة التي يحفر بها المروّة أجبر على الحفر، ومالا فلا.
وإن استأجر رجلاً ليحفر له حوضاً عشرة في عشرة وسمى عمقها وعرضها ببدل

(7/487)


معلوم فحفر خمسة في خمسة يجب ربع المسمى؛ لأنه أوفى ربع العمل؛ لأن عشرة في عشرة مائة، وخمسة في خمسة، خمسة وعشرون.

وإذا استأجر الرجل رجلاً ليحفر له قبراً فحفر فانهار أو دفن فيها إنسان قبل أن يأتي المستأجر بجنازته فهو على التفصيل الذي ذكرنا في حفر بئر قبل هذا إن كان ذلك في ملك المستأجر فله الأجر، وإن كان في غير ملكه فلا أجر له، ولو استأجره ليحفر له قبراً ولم يسمّ في أيّ مقابر جاز استحساناً وينصرف إلى المكان الذي يدفن فيه أهل تلك المحلة موتاهم.

قال مشايخنا رحمهم الله هذا الجواب بناءً على عرف أهل الكوفة، فإن لكل محلّة مقبرة خاصّة يدفنون موتاهم فيها، ولا ينقلون موتاهم إلى مدافن محلة أخرى، أما في ديارنا تنقل الموتى من محلة إلى مقابر محلة أخرى فلا بد من تسمية المكان حتى لو كان موضعاً لهم مقبرة واحدة تجوز الإجارة من غير تسمية المكان، وإذا عيّن المستأجر للأجير مكاناً يحفر فيها القبر فحفر في مكان آخر، فالمستأجر بالخيار إن شاء رضي بذلك وأعطاه الأجر، وإن شاء رد ذلك عليه ولا أجر له لأن الأجير موافق من وجه من حيث إنه أمر بحفر القبر وقد حفر، مخالف من وجه من حيث إنه لم يحفر في المكان الذي أمر بالحفر فيه، فإن شاء مال إلى جهة الوفاق وجعله عاملاً بعقد وأعطاه الأجر، وإن شاء مال إلى جهة الخلاف، وجعله عاملاً بغير عقد ولم يعطه الأجر، وإذا لم يصفوا له طول القبر وعمقه جاز الاستئجار استحساناً، ويوجد بأوسط ما يعمل الناس

نوع منه في المتفرقات
وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يجوز أن يستأجر من عقار مائة أذرع أو من أرض جريباً أو جريبين إذا كان أكثر من ذلك، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يجوز، لأن من أصل أبي حنيفة أن بيع الذراع من الأرض لا يجوز وعندهما يجوز، لأنه عبارة عن النّصيب وإجارة المشاع جائزة عندهما (31ب4) .
ولا يجوز استئجار القناة والبئر والنهر ليسقى منهما غنمه أو أرضه، لأن المقصود هو الماء وأنه عين والأعيان لا تستحق بعقد الإجارة، وكذلك إذا كان لرجل شرب في النهر فاستأجره ليسقي منه غنمه أو أرضه لم يجز لما قلنا، ولا تجوز إجارة الآحام والأنهار للسمك وغيره، أما للسمك فلأن هذه الإجارة لا تفيد إلا ما كان ثابتاً له من قبل؛ لأن المشروط في هذه اصطياد السمك والمستأجر كان يملك اصطياد السمك من غير إجارة، ولأن هذه الإجارة عقدت على استحقاق العين، وأما لغير السمك، فلأن غير السمك في الآحام والأنهار القصب والماء، وإنها عين.

ولا تجوز. إجارة المراعي لم يرد به إجارة الأراضي، فإن إجارة الأرض جائزة وإنما أراد به إجارة الأراضي فإن إجارة الأرض جائزة، وإنما أراد إجارة الكلأ، وإنما لم يجز؛ لأنها وردت على العين.
والحيلة في جوازها: أن يستأجر موضعاً من الأرض ليضرب فسطاطاً أو ليجعل حظيرة لغنمه فتصح الإجارة، ويبيح صاحب المرعى الانتفاع بالمرعى.

(7/488)


وإذا استأجر الرجل دراهم أو دنانير أو حنطة أو شعيراً أو ما أشبه ذلك من الوزنيات أو الكيلات ليعمل منها كل شهر بدرهم لا تجوز، لأن الإجارة جوزت بخلاف القياس لمنفعة مقصودة من الأعيان، والمنفعة المقصودة من الكيلات والموزونات لا يمكن استيفاؤها إلا باستهلاكها فتكون هذه الإجارة معقودة على استهلاك العين، والإجارة لا تنعقد على استهلاك العين.
ولو استأجر الدراهم أو الدنانير شهراً ليتزين بهما أو استأجر الحنطة أو الشعير ليعير بها مكياله ذكر في «الأصل» أنه يجوز، قال أبو الحسن رحمه الله: وعندي أنه لا يجوز، بعض مشايخنا قالوا: ما ذكر في «الأصل» محمول على ما إذا استأجر ليعبر بهما مكيالاً بعينه، وما ذكر أبو الحسن محمول على ما إذا استأجرها ليعبر بهما مكيالاً بعينه.
وبعضهم قالوا: في المسألة روايتان وجه الجواز أن هذه منفعة مطلوبة وجه عدم الجواز أن هذه المنفعة ليست بمقصودة من هذه الأعيان فلا تصح الإجارة عليها، ولو استأجر الدراهم أو الحنطة يوماً مطلقاً ولم يبّين لماذا يستأجرها لم يذكر هذه المسألة في «الأصل» .

قال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده: ولقائل أن يقول: لا يجوز ويحمل على الانتفاع بهما وزناً احتيالاً لجواز العقد، ولقائل أن يقول: يجوز وإليه مال الكرخيّ لأنا وإن حملناه على الانتفاع بهما وزناً لا يجوز العقد على قول الكرخيّ على ما مرّ.

وإذا استأجر الرّجل نخلاً أو شجراً على أن يكون ما أثمر للمستأجر لا يجوز؛ لأن هذه إجارة عقدت على استحقاق العين ومحل الإجارة المنفعة دون العين على ما مرّ، ولا يمكن العمل بحقيقة الإجارة ولا يمكن أن تجعل مجازاً عن البيع، لأن الإجارة لا تصير سبباً لملك الرقبة قط فكيف يمكن أن تجعل كناية عن البيع، وإذا أطلق الإجارة على النخيل إطلاقاً ولم يشترط سبباً، لم يذكر محمّد هذه المسألة في «الأصل» .
قال شيخ الإسلام: ولقائل أن يقول: يجوز وتصرف الإجارة إلى منفعة محضة تتحقق من الأشجار مع بقاء العين كبسط الثياب على أغصانها أو شد الدابة بها، والإجارة على مثل هذه المنفعة جائزة.
وقد ذكر الكرخيّ في «مختصره» : أن من استأجر نخلاً أو شجراً ليبسط عليه ثيابه لا يجوز؛ لأن هذه ليست بمنفعة مقصودة من الأشجار والإجارة، إنما يجوز إيرادها على منافع مقصودة، ولأن هذه ليست من الإجارات فإنا لا نجد أحداً يستأجر أشجاراً ليبسط عليها ثيابه.
وفي «المنتقى» : إذا استأجر الرجل سطحاً ليجفف ثيابه عليه جاز قال: ولا يشبه هذا إذا استأجر نخلاً ليجفف ثيابه عليه، وإذا استأجر الرجل علو منزل ليبني عليها لم يجز في قول أبي حنيفة، ويجوز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، فمن مشايخنا من قال: موضع المسألة إذا كان العلو لرجل والسفل لرجل آخر، أجر صاحب العلو من رجل ليبني عليه وتكون هذه المسألة فرع مسألة أخرى، أن صاحب العلو إذا أراد أن يحدث في العلو بناء.

(7/489)


قال أبو حنيفة: ليس له ذلك أضر بالسفل أو لم يضرّ، فإذا لم يملك صاحب العلو إحداث البناء لم يملك التمليك من غيره بالإجارة.

وعندهما: له أن يحدث البناء إذا لم يضّر بالسفل فلما ملك صاحب العلو هذا بنفسه ملك التمليك من غيره بالإجارة حتى لو كان العلو والسفل لواحد، فإنه تجوز هذه الإجارة عندهم جميعاً؛ لأن الأجير يملك إحداث هذا البناء بنفسه فيملك التمليك من غيره بالإجارة، ومنهم من قال: لا بل المسألة على الخلاف وإن كان العلو والسفل لواحد فعلى هذا لا تكون المسألة بل تكون مسألة مبتدأة فلا بد أن يتكلم لكل واحد منهما بكلام مبتدأ، وإطلاق محمد رحمه الله يدلّ على هذا فكان الحجة لهما أن أرض العلو وهو سقف السفل في إجارة العلوّ للسكنى من غير ذكر، كأرض السفل ولما ألحق بالأرض في حق الإجارة للسكنى فكذا في حق الإجارة للبناء يلحق بالأرض.

ومن استأجر أرضاً ليبني جازت الإجارة، وإن كان قدر البناء مجهولاً فكذا هذا بهذا تدائنا وأبو حنيفة يقول: إذا استأجر الأرض للبناء إنما جاز مع الجهالة؛ لأن جهالة قدر البناء مما لا يلحق بصاحب الأرض زيادة ضرر، فإن قل البناء أو كثر لا يتضرر به ربّ الأرض، فأما جهالة قدر البناء مما يضر بأرض العلو وهو سقف السفل فكانت جهالة قدر البناء هاهنا مانعاً جواز الإجارة من هذا الوجه.
ولو استأجر سطحاً ليبيت عليه شهراً ذكر في كتاب الصلح وفي بعض روايات كتاب الإجارات أنه يجوز، وذكر في بعض المواضع أنه لا يجوز فمن مشايخنا من وفق فقال: ما ذكر في كتاب الصلح وفي بعض روايات كتاب الإجارات محمول على ما إذا كان العلو مسقفاً أو إن لم يكن مسقفاً يكون مجهولاً، بأن دور عليه الحائط؛ لأنه إذا كانت هذه الصفة فهو موضع السكنى عادة فجاز الاستئجار للبيتوتة عليه.

وما ذكر في بعض المواضع محمول على ما إذا لم يكن مسقفاً ولا محجراً، لأنه إذا لم يكن بهذه الصفة فهو ليس موضع السكنى عادة فلا يجوز الاستئجار للبيتوتة عليه، ومن المشايخ من قال: في المسألة روايتان ومن المشايخ من زيف ما ذكر في بعض المواضع، وقال: يجوز استئجار الشرط للبيتوتة على كل حال وإطلاق لفظ كتاب الصلح، وفي بعض روايات كتاب الإجارات يدل عليه ووجه ذلك أن السّطح مسكن يمكن السكنى فيه بنصب خيمة أو ما أشبهه، فتجوز الإجارة عليه.
وإذا استأجر القاضي رجلاً ليقوم عليه في مجلس القضاء شهراً بأجر مسمى فهو جائز؛ لأنه استأجره مدّة معلومة بأجر معلوم لعمل مباح وهو قيامه في مجلسه فيصبح كما لو استأجره شهراً للخدمة ويدخل في ذلك الحدود والقصاص؛ لأنه مجرد القيام في مجلس لا يفيد للقاضي فائدة والإجارة لا تنعقد على مالا فائدة للمستأجر فيه وإنما يفيده القيام في مجلسه إذا قام لبعض ما يعرض للقاضي من هذه الأسباب فصار القيام إقامة هذه الأسباب مستحقاً للقاضي ثمرة من ثمرات ما وقعت عليه الإجارة وهو القيام في مجلسه لا أن يكون هذا معقوداً عليه حتى لا تجوز الإجارة عليه.

(7/490)


ولو استأجره القاضي لإقامة الحدود خاصّة أو لاستيفاء القصاص خاصة إن لم يذكر لذلك مدّة لا شك أنه لا يجوز، وإن ذكر لذلك مدّة لم يذكر محمّد رحمه الله في «الكتاب» هذا الفصل، وذكر الشيخ أبو الحسن الكرخي في كتابه أنه يجوز، وإليه مال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني، والشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي في «شرح كتاب الإجارات» .
وذكر الشيخ الإمام الأجل شيخ الإسلام المعروف بخواهرزاده في «شرح كتاب الإجارات» أنه لا يجوز، وإنما اختلفوا لاختلافهم في علة عدم الجواز إذا لم يذكر لذلك مّدة فالكرخي ومن تابعه قالوا: إذا لم يذكر لذلك من مدّة إنما لا يجوز؛ لأن المعقود عليه العمل وإنه مجهول لا يدري كم يوجد ومع الجهالة (32أ4) فيه خطر لا يدري أيوجد أو لا يوجد، وهذا المعنى لا يتأتى فيما إذا ذكر لذلك مّدة؛ لأن عند ذكر المّدة المعقود عليه تسليم النفس لا العمل، والشيخ الإمام الأجل شيخ الإسلام قال: إذا لم يذكر لذلك مدة إنما لا يجوز إما لإقامة الحدود، فلأنها طاعة والاستئجار على الطاعة لا يجوز وإن ذكر لذلك مّدة.
كما لو استأجر رجلاً سنة ليعلم ولده القرآن، وإما لاستيفاء القصاص إنما لا يجوز كيلا يصير الأجير كالمستوفي لنفسه من وجه متى استحق ما رآه أمراً، وسيقرر هذا إن شاء الله تعالى هذا المعنى موجود فيما إذا ذكر لذلك مّدة وإذا قضى القاضي لرجل على يد رجل بالقصاص في النفس، فاستأجر المقضي له رجلاً ليستوفي ذلك على قول أبي حنيفة وأبي يوسف لا يجوز وعلى قول محمد يجوز وفيما دون النفس تجوز الإجارة بالإجماع.
محمد رحمه الله يقول: استأجره لعمل معلوم وهو حز الرقبة، فوجب أن يجوز قياساً على ما لو استأجر لذبح شاة له أو استأجره لاستيفاء القصاص فيما دون النفس.

وأبو حنيفة وأبو يوسف ذهبا في ذلك إلى أن القصاص فيما لا يجري فيه التمليك، فإنه لو وهب من غير القاتل أو باع لم يجز ومتى انعقدت الإجارة على القتل ووجب البدل له، إما المسمى، أو أجر المثل يثبت التمليك من حيث المعنى؛ لأن الأجير فيما يعمل كالعامل لنفسه من حيث إنه يأخذ لذلك أجراً فيصير من وجه كالمستوفي لنفسه، فيحصل له نوع ملك والقتل لا يقبل ذلك، فلم يجب البدل حتى يصير معيناً له في القتل من كل وجه فلا يثبت له معنى التمليك، وهذا معنى ما يقول في «الكتاب» : إن القتل ليس بعمل أي: ليس بعمل يجوز فيه أخذ الأجر عليه، فأما لا شك أنه عمل في نفسه بخلاف الذبح؛ لأنه متى استحق به أجر ثبت الملك من حيث المعنى أكثر ما في الباب أنه يصير كالذابح لنفسه من وجه، ولكن الذبح لنفسه من كل وجه من جهته جائز بأن ملك الشاة منه فكذا يجوز من وجه، بأن استأجره للذبح بخلاف القصاص فيما دون النفس؛ لأن له حكم المال حتى جاز للوصي استيفاؤه وجاز القضاء بالنكول عند أبي حنيفة رحمه الله واعتبر فيه التساوي والتكافؤ ولو كان مالاً من كل وجه جاز التمليك من كل وجه.

فإذا كان له حكم المال من وجه جاز التمليك من وجه بخلاف القصاص في

(7/491)


النفس؛ لأنه ليس حكم المال بوجه ما، فإذا لم يكن له حكم المال لا يكون قابلاً للتمليك بوجه ما، ومتى صحت الإجارة يثبت للآجر نوع ملك من حيث المعنى على ما بينا فامتنع جواز الإجارة، ولأن المستحق في القصاص في النفس لزهاق الروح مقصوداً وتخريب البنية طريق إليه، وإزهاق الروح من صنع الله تعالى لا صنع للعبد فيه وتخريب البنية، وإن كان من صنعه فهو ليس بمستحق مقصود الرد عليه عقد الإجارة، فهو ليس من صنع العبد وما هو صنع العبد ما ورد عليه عقد الإجارة بخلاف القصاص فيما دون النفس؛ لأن المستحق هناك إبانة الجزء فيرد عليه العقد وإنه من صنيع العباد وبخلاف الذبح؛ لأنه عبارة عن قطع الحلقوم والعروق، فيرد عليه العقد، وإنه من صنيع العباد.
إذا استأجر سنوراً لأخذ الفأرة لا يجوز، ولو استأجر كلباً أو بازياً ليصيد به ذكر في أضاحي الزعفراني أنه يجوز؛ لأن الأول ليس من إجارات الناس والثاني من إجاراتهم وذكر في القدوريّ مسألة الكلب والبازي، وقال: لا يجوز؛ لأنه لا يقدر على تسليم المعقود عليه فإنه لا يمكن إجبار الكلب والبازي على الصّيد.
قال في «المنتقى» : وكذلك إذا استأجر ديكاً ليصيح لا يجوز، وذكر ثمة أصلاً فقال: كل شيء، من هذا يكون فيه من غير فعل أحد لا يستطيع الإنسان أن يضربه حتى يفعل فلا يجوز البيع فيه والإجارة.
ولو استأجر فحلاً للإنزاء فهو باطل، لقوله عليه السلام «وإن من السحت ثمن الكلب ومهر البغي وعسب التيس» والمراد به أخذ الأجرة؛ ولأن نفس الإنزاء ليس بمقصود إنما المقصود الإعلاق وليس في وسعه إبقاؤه، وعن أبي يوسف فيمن استأجر ثياباً ليبسطها في بيت ولا يجلس عليها أن الإجارة فاسدة، لأن هذه ليست بمنفعة مقصودة والإجارة جوزت بخلاف القياس لتحصيل منفعة مقصودة وكذا روي عن محمد رحمه الله فيمن استأجر دابة ليُجنيها مترين فلا أجر لها؛ لأن قود الدابة ليست بمنفعة مقصودة.
وفي «المنتقى» : إذا استأجر تيساً أو كبشاً للدلالة ليسوق لها الغنم لا يجوز وفي «القدوديّ» لو استأجر شاة ليرضع منها جدياً أو صبياً لم يجز وليس هذا كالآدمي، وإذا استأجر من آخر عبداً أو دابة وشرط على المستأجر طعام العبد أو علف الدابة لم يجز؛ لأن ما شرط يصير أجره وإنه مجهول وجهالة الأجر توجب فساد الإجارة وعلى هذا إذا استأجر عبداً كل شهر بأجر معلوم وعلفها لا تجوز؛ لأن بعض الأجر مجهول ومعنى آخر في هذه المسائل أنه شرط شرطاً لا يقتضيه العقد؛ لأن طعام عبد المستأجر وعلف الدابة المستأجرة على الآجر على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى، وفيه منفعة لأحد المتعاقدين ومثل هذا الشرط يوجب فساد الإجارة.

(7/492)


وفي «المنتقى» : استأجر سيفاً شهراً ليتقلده أو استأجر قوساً شهراً ليرمي به يجوز وإذا استأجر وتداً يوتد به ذكر هذه المسألة في «المنتقى» بهذه العبارة في موضع وذكر أنه يجوز وذكر في موضع آخر إذا استأجر وتداً، ليعلق به بعض الأمتعة لا تجوز هذه الإجارة.t
ولو استأجر قوماً يحملون الجنازة أو يغسلون ميتاً، فإن كان في موضع لا يجد من يغسله غير هؤلاء فلا أجر لهم وإن كان ثمة أناساً غيرهم فلهم الأجر لأن في الوجه الأول قاموا وهم متعينون له ولا كذلك الوجه الثاني.

الفصل السادس عشر: فيما يجبُ على المستأجر وفيما يجب على الأجير
نفقة المستأجر على الآجر سواء كانت الأجرة عيناً أو كانت منفعة، حتى أن من استأجر دابة إلى بغداد بسكنى بيت شهراً أو بخدمة عبد شهراً، أو استأجر عبداً بسكنى بيت شهراً، كان علف الدابة ونفقة العبد على الآجر، وهذا الحكم ظاهر فيما إذا كانت الأجرة منفعة؛ لأن الأجرة إذا كانت عيناً إنما تجب النفقة على الآجر مع أن المستأجر في قبض المستأجر عامل لنفسه، وللآجر من حيث إنه يستوفي المنفعة والآجر من حيث إنه يحصل له الآجر إلا أن ما يحصل للآجر غير ما يحصل للمستأجر؛ لأن الحاصل للآجر عين وللمستأجر منفعة، والعين خير من المنفعة؛ لأن العين تبقى زمانين والمنفعة لا تبقى زمانين والباقي خير من الفاني فيرجح جانب الآجر على المستأجر، وجعل المستأجر في القبض عاملاً للآجر من كل وجه وصار المستأجر بمنزلة المودع فلهذا كانت النفقة على الآجر.
فأما إذا كان الآجر منفعة فلا رجحان لأحد الجانبين على الآخر فيجب أن لا تكون النفقة على الآجر الجواب بلى إذا كانت الأجرةُ منفعة فلا رجحان لأحد الجانبين على الآخر في قبض المستأجر فلا حرم بقي ما كان، على ما كان والنفقة في الأصل كانت على المالك.
فإذا لم يثبت الرجحان لأحد الجانبين في هذا القبض تبقى المنفعة على المالك، كما كان في الأصل وصارت نفقة المستأجر في هذه الصورة نظير نفقة المرهون، فإن نفقة المرهون تجب على الراهن، وإن كانت منفعة قبض المرهون مشتركة بين الراهن والمرتهن، فإن الراهن بقبض المرتهن يصير موفياً دينه والمرتهن بقبضه يصل إلى استيفاء الدين فإن قبض المرتهن بغير الراهن فيحمله ذلك على قضاء الدين، ولا رجحان لأحد الجانبين على الآخر فيبقى ما كان على ما كان كذا ها هنا.
قال: وتطيين الدار وإصلاح ساريها وما وهي من ثيابها على رب الدار من المستأجر؛ لأن إصلاح الملك على المالك ولا أجر على ذلك (32ب4) ولكن

(7/493)


للمستأجر أن يخرج إذا لم يعمل؛ لأنه عيب حصل في المعقود عليه ولا يجب على المالك إزالة العيب وللمستأجر أن لا يرضى بذلك، وإن كان استأجرها وهي كذلك ورآها فلا خيار له؛ لأنه عقد مع العلم بالعيب فيلزم، قال: وإصلاح بئر الماء وبئر البالوعة والمخرج على ربّ الدار، وإن كان أصلاً من فعل المستأجر ولا يجبر على ذلك لما بينا.
قال: ولو انقضت الإجارة وفي الدار تراب من كسبه فعليه أن يرقعه؛ لأنه اجتمع بفعله فصار بمنزلة متاع وضعه قال: وإن كان امتلأ جلاها ومجاريها من فعله، فالقياس أن يلزمه نقلها؛ لأنه حدث بفعله كالرماد والتراب وإنما استحسنوا فيما كان معنياً في الأرض فالانتفاع به لا يحصل، إلا من هذا الوجه فإن الانتفاع بالمجاري من حيث الأجراء، وبالجلاء من حيث التجلي فيه وإن كانت المنفعة من هذا الوجه تحصل كان مستحقاً بالعقد، فلم يجب عليه نقله، قال: فإن أصلح المستأجر شيئاً وذلك لم يحتسب له ما أنفق؛ لأنه فعل بغير أمر مالكه فكان متبرعاً والله أعلم.

ومما يتصل بهذا الفصل فصل التوابع
والأصل فيه: أن الإجارة إذا وقعت على عمل فكل ما كان من توابع ذلك العمل ولم يشترط ذلك في الإجارة على الأجير، فالمرجع فيه العرف.
حتى قال في «الكتاب» : من استأجر رجلاً ليضرب له لبناً فالزنبيل والملبن على اللبان إن جرت العادة، وكذلك في الدقيق الذي يصلح الحائك الثوب يعتبر العرف والسلك الذي يخاط به الثوب والإبرة على الخياط، باعتبار العرف وإخراج الخبز من التنور على الخباز بحكم العرف وكذلك الطباخ إذا استؤجر في عرس، فإخراج المرقة من القدور إلى القصاع على الطباخ، وإن استؤجر لطبخ قدر خاص فإخراج المرقة من القدر ليس عليه.

وإذا تكارى دابّة للحمل ففي الإكاف والحبال والجوالق يعتبر العرف، وكذلك إذا تكاراها للركوب ففي اللجام والسرج يعتبر العرف أيضاً، وإذا تكارى دابة لحمل الحنطة إلى منزله فإنزال الحمل عن ظهر الدابّة على المكاري وفي الإدخال في المنزل يعتبر العرف، وكذلك الحمال على ظهره، ففي الإدخال في المنزل يعتبر العرف، وليس على المكاري أن يصعد بها على السطح إلا أن يكون اشترط ذلك وبين له وفي سلك الخياط، إذا لم تكن عادة معروفة فهو على صاحب الثوب لأن الإجارة ما وضعت لاستيفاء العين، وهو كالصبغ إذا لم تكن فيه عادة معروفة يكون على صاحب الثوب لما ذكرنا وإذا استأجر وراقاً وشرط عليه الجر والبياض فاشتراط الجر صحيح واشتراط البياض باطل؛ لأنه لو صح يكون عاملاً في ملك نفسه فلا يكون أجيراً.
وإذا استأجر قصاراً ليقصر له ألف ثوب فحملها على القصار، إلا أن يشترط القصار حملها على رب الثياب.
حمال حمل أحمالاً بكذا فلما بلغ الموضع نزل في دار ووضع الحمال في موضع

(7/494)


منها ثم وزنها على صاحبها ويسلمها إليه فلم يرفعها أياماً ثم اختصموا في كراء ذلك الموضع، ورب الدار بأحد الحمال بالكراء فإن كانت الأحمال في موضع مستأجر بالعقد، فالكراء على من استأجر، وإن كانت الأحمال في موضع يستعمل بأجر غير معقود عليه فبعد الوزن والتسليم يحب الكراء على المسلم إليه وقبل ذلك يجب على الحمال؛ لأن ما يجب في هذه الصورة يجب بحكم الاستعمال لا بالعقد، والمستعمل بعد التسليم المسَلم إليه وقبل ذلك المستعمل هو الحمال.

الفصل السابع عشر: الرَجل يستأجر فيما هو شريك فيه
وإذا استأجر أحد الشريكين نصف دابة صاحبه أو نصف عبد صاحبه على أن يحمل نصيبه من الطعام المشترك إلى موضع كذا والطعام غير مقسوم فلا أجر له، وعلى هذا الإجارة على عمل في محل مشترك.

ووجه ذلك: أن المقصود من هذه الإجارة ليس نفس العمل، بل المقصود وصف يحصل للمتحمل وهو ضرورة المحمل محيطاً ومحمولاً، وهذا الوصف لا يتصور تحصيله للبائع، فقد أضاف العقد إلى محل لا يمكن تحصيل المعقود عليه فيه فلغى العقد.
قال محمد رحمه الله: لو استأجر أحدهما نصف سفينة صاحبه ليجعل الطعام المشترك، ولأحدهما رحى فاستأجر أحدهما نصف رحى شريكه ليطحن به الطعام المشترك، وكذلك لو استأجر منه نصف الجوالق على أن يحملا فيه هذا الطعام إلى موضع كذا.
والفرق هو: أن الإجارة إذا وقعت على العمل فوجوب الأجرة يقف على العمل في محل شائع لا يتصور فلا ينعقد العقد، أما إذا وقعت على المنفعة فوجوب الأجر لا يقف على إيقاع النفع في ذلك المحلّ، ألا ترى أنه يجب الأجر بتسليم العين قبل الانتفاع، فيصبح العقد في قول من يجوز إجارة المشاع.
ذكر هذه المسائل في «المنتقى» وفي «عيون المسائل» ، قال محمد رحمه الله في «العيون» عقيب ذكر هذه المسائل: كل شيء استأجره أحدهما من صاحبه مما يكون منه عمل، فإنه لا يجوز وإن عمل فلا أجر له وكل شيء استأجره أحدهما من صاحبه لا يكون منه العمل فهو جائز، وذلك نحو الجوالق وأشباهه، قال الفقيه رحمه الله: هذا خلاف رواية الأصل، فإنه ذكر محمد رحمه الله في كتاب المضاربة لو استأجر من صاحبه بيتاً أو حانوتاً لا يجب الأجر.
وفي «نوادر ابن سماعة» : رجل استأجر رجلين يحملان له هذه الخشبة إلى منزله بدرهم، فحملها أحدهما فله نصف درهم وهو متطوع إذا لم يكونا شريكين قبل ذلك في الحمل والعمل.

(7/495)


وكذلك لو استأجر لبناء حائط وحفر بئر، ولو كانا شريكين قبل ذلك في العمل يجب الأجر كله، ويكون بين الشريكين ويصير عمل أحدهما بحكم الشركة كعملهما.

وفي «الأصل» : إذا استأجر الرجل قوماً يحفرون له سرداباً إجارة جائزة، فعملوا إلا أن بعضهم عمل أكثر مما عمل الآخر كان الأجر مقسوماً بينهم على عدد الرؤوس، فرق بين هذا وبينما إذا استأجر دابتين ليحمل عليهما عشرون محتوماً من الحنطة بكذا، حتى لم يكن له أن يحمل على واحد منهما أكثر من العشرة؛ لأن العشرين أضيفت إليهما على السواء فلو حمل عليهما عشرون محتوماً إلا أنه حمل على أحدهما أكثر من العشرة، فإنه يقسم الأجر عليهما على قدر أجر مثلهما، وهاهنا قال: يقسم الأجر على عدد الرؤوس.

والفرق: أن التفاوت بين الرواة تفاوت فاحش يختلف الأجر بمثله، اعتبار التفاوت وقسمة الأجر على قيمة عملهما وأما التفاوت بين الأجراء في عمل واحد تفاوت بيسير لا يعتبره الناس فيما بينهم فسقط اعتبار التفاوت وقسم الأجر بينهم على عدد رؤوسهم إذا اشتركوا في العمل.
قال بعض مشايخنا: هذا إذا لم يكن التفاوت بين الأجراء في العمل في هذه الصورة تفاوتاً فاحشاً، أما إذا فحش التفاوت لا يقسم الأجر على عدد الرؤوس في مسألة الدابتين، وإن لم يعمل أحدهما لمرض أو عذر آخر إن لم يكن بينهم شركة، بأن لم يشتركوا في تقبل هذا العمل سقط حصة أجر المريض؛ لأنه لم يوف عمله لا بنفسه ولا نيابة؛ لأنه لم يسبق منه استعانة من أصحابه حتى يجعل ما زاد على نصيبهم من العمل بحكم الاستعانة وأفعاله، بل تجعل الزيادة واقعة لصاحب السرداب ويكون عملهم في الزيادة على نصيبه تطوعاً.
فهو نظير رجل دفع أرضه إلى آخر مزارعة فما أجر وزرع ذلك الأرض متبرعاً كان الزرع لصاحب الأرض؛ لأنه لا يمكن أن يجعل عمله للمزارع؛ لأنه لم توجد منه الاستعانة به ولم يعمل في ملكه فجعلناه واقعاً لصاحب الأرض.

وإن اشتركوا في تقبل هذا العمل يجب كل الأجر وتكون حصة المريض له؛ لأن المريض في هذه الصورة مُستعين بهم دلالة؛ لأن العادة فيما بين الناس أنهم إنما يعقدون عقد الشركة في تقبل الأعمال حتى إذا عجز واحد منهم يعينه الآخر، ولو وجدت الاستعانة صريحاً كان الجواب كما قلنا فهاهنا كذلك (33أ4) .
وفي «فتاوى أبي الليث» : صباغان أجر أحدهما آلة عمله من الآخر ثم اشتركا، فإن كانت الإجارة وقعت على كل شهر يجب الأجر في الشهر الأول ولا يجب بعد ذلك؛ لأن في الشهر الأول الشركة جرت على إجارة صحيحة معدة فلا يبطلهما، وفي الشهر الثاني الشركة سبقت الإجارة فمنعت انعقادها فلا يجب الأجر بعد ذلك، لهذا وإن أجرها عشر سنين مثلاً، فالأجر واجب عليه في ذلك كله؛ لأن الإجارة قد صحت في كل المدّة المسمّى فلا يبطلها لجريان الشركة عليها.
وعن محمد بن سلمة: أن الشركة توهن الإجارة وصورة ما نقل عنه رجل استأجر

(7/496)


من آخر حانوتاً، ثم اشتركا في عمل يعملا في ذلك الحانوت، ويقول محمّد بن سلمة: ويسقط الأجر إذا عملا فيه بحكم الشركة، لأنه لم يسلم المعقود عليه، وفي آخر باب إجارة الدور من إجارت الأصل إذا تكارى داراً شهراً، فأقام معه ربّ الدار فيها إلى آخر الشهر فقال المستأجر: لا أعطيك الأجر؛ لأنك لم تحل بيني وبين الدار، فعليه من الأجر بحساب ما كان في يده اعتباراً للبعض بالكل.

الفصل الثامن عشر: في فسخ الإجارة بالعذر وبيان ما يصلح عذراً وما لا يصلح
الإجارة تنفسخ بالأعذار عندنا؛ لأن الفسخ في باب الإجارة امتناع عن القبول من وجه وفسخ لعقد منعقد من وجه؛ لأن في حق المعقود عليه وهو المنافع يتجدد انعقادها ساعة فساعة على حسب حدوث المنافع، وفي حق الأجرة يعتبر منعقداً في الحال؛ لأنه لا ضرورة في حق الأجرة، وإنما تأخر وقوع الملك في الأجر لا لعدم انعقاد العقد في حقه للحال بل ضرورة بأمر الملك في المنفعة تحقيقاً للتساوي.

ولهذا قلنا: إن الأجرة تملك بالتعجيل أو باشتراط التعجيل ولو لم يكن العقد منعقداً في طرف الأجرة، لما ملكت بالتعجيل أو اشتراط التعجيل كما إذا أضيفت إلى وقت آتي، وإذا اعتبرت الإجارة منعقدة في الحال في حق الأجرة وفي حق المنافع تعتبر متجدداً انعقادها ساعة فساعة، كان الفسخ امتناعاً عن القبول من وجه فسخاً لعقد منعقد من وجه ضمن بهما في حالين، فاعتبرناه امتناعاً عن القبول حال عذر يتمكن في العاقد فجوزناه من غير قضاء، ولا رضا صاحبه على ما عليه إشارات «الأصل» و «الجامع الصغير» ، واعتبرناه فسخاً لعقد منعقد حال عدم العذر فلم يجوزه بغير رضا صاحبه توقراً على الشبهين حظهما بقدر الإمكان، وإنما أظهرنا نسبة الامتناع عن القبول حالة عدم العذر؛ لأنا لو أظهرنا نسبة الامتناع عن القبول حالة عدم العذر، يلزمنا إظهاره حالة العذر من الطريق الأولى فحين يتعطل العمل بالشبهين فعملنا على الوجه الذي قلنا، لتمكننا العمل بالشبهين.
واستفتح محمد رحمه الله قول من يقول: بأن الإجارة لا تنفسخ بالأعذار.
فقال: أرأيت لو أن رجلاً استأجر رجلاً ليقلع سنّه لوجع أصابه، أو استأجر رجلاً ليقطع يده لآكلة وقعت فيها فسكن الوجع وبرأت اليد، أيجبر المستأجر على المضي في الإجارة، والتمكين من قلع السنّ وقطع اليد؟.
أرأيت لو استأجر رجلاً ليتخذ له وليمة لعرس فماتت المرأة، أيجبر المستأجر على المضي؟ لا شك أنه لا يجبر لما في المضي من الضرر، وإنه قبيح ثم العذر إذا تحقق تنفسخ الإجارة بنفس العذر أو تحتاج فيه إلى الفسخ، لم يذكر محمد رحمه الله هذا نصاً في شيء من الكتب وإشارات الكتب متعارضة في بعضها يشير إلى أنها تنفسخ بنفس

(7/497)


العذر، وبه أخذ بعض المشايخ وفي عامتها يشير إلى أنه يحتاج فيه إلى الفسخ، وعليه عامة المشايخ وهو الصحيح.
ومن المشايخ من قال: كل عذر يمنع المضي في موجب العقد شرعاً، تنتقض الإجارة بنفسه ولا تحتاج فيه إلى الفسخ كما في مسألة الآكلة وقلع السنّ، فإن بعد ما برأت اليد وسكن الوجع لا يجوز قلع السنّ وقطع اليد فلا فائدة في إبقاء العقد، فتنتقض ضرورة وكل عذر لا يمنع المضي في موجب العقد شرعاً ولكن يلحقه نوع ضرر يحتاج فيه إلى الفسخ، ثم إذا احتيج إلى الفسخ على ما عليه إشارات عامة الكتب مقر وصاحب العذر بالفسخ أو يحتاج فيه إلى قضاء القاضي أو رضا العاقد الآخر.

ذكر في «الزيادات» : أنه يشترط القضاء أو الرضا وإليه أشار في «الجامع الصغير» وفي «الأصل» إلى أنه لا يشترط القضاء، أو الرضا ومن شرط النقض من المشايخ اختلفوا فيما بينهم، بعضهم قالوا: ما ذكر في «الزيادات» : محمول على عذر يحتمل الاشتباه كما إذا لحق الآخر دين وهو يدعي أنه لا وفاء له، إلا من ثمن الدار؛ إذ يحتمل أن له وفاء بعين الدار المستأجرة فيحتاج فيه إلى القضاء ليزول الاشتباه بالقضاء، وما ذكر في «الأصل» وفي «الجامع الصغير» محمول على ما إذا كان العذر أمراً واضحاً لا اشتباه فيه، فلا يحتاج فيه إلى القضاء.
ومنهم من قال: في المسألة روايتان وجه رواية «الجامع الصغير» ، و «الأصل» أن هذا في معنى العيب قبل القبض، فإن المنافع لا تصير مقبوضة لقبض الدار حقيقة والعيب قبل القبض يوجب الفسخ من غير قضاء ولا رضا كما في بيع العين.
وجه ما ذكر في «الزيادات» : أن هذا إن كان في معنى العيب قبل القبض حقيقة على الوجه الذي قلتم فهو في معنى العيب بعد القبض حكماً، فإنه أقيم قبض الدار مقام قبض المنافع في حق تمام العقد فيشترط فيه القضاء أو الرضا.

إذا حدث في العين المستأجر عيب لا يوجب خللاً في المنافع، لم يكن للمستأجر أن يفسخ العقد وذلك نحو العبد المستأجر للخدمة إذا ذهبت إحدى عينيه، وذلك لا يضر بالخدمة أو سقط شعره أو سقط حائط من الدار لا ينتفع به في سكناها؛ وهذا لأن المعقود عليه في الإجارة المنفعة فإذا لم يتمكن الخلل في المنافع كان المعقود عليه قائماً من كل وجه فلا معنى لإيراد الخيار.
وإن كان العيب يوجب خللاً في المنافع كالعبد إذا مرض والدابة إذا دبرت والدار إذا انهدمت بعض بنائها حتى أوجب نقصاناً في سكنى الباقي، كان للمستأجر أن يفسخ العقد؛ لأنه تعذر عليه استيفاء المعقود عليه على الوجه المستحق بالعقد لتمكن الخلل فيه، فإن شاء رضي بالخلل واستوفاه كذلك وإن شاء فسخ العقد، وإن شاء المؤاجر أسقط من الدار قبل فسخ المستأجر فلا خيار للمستأجر؛ لأن الخلل قد ارتفع والعقد يتجدد انتقاؤه على حسب المنافع فلم يتمكن الخلل في المعقود عليه في العقد الآتي فلا يكون له حق الفسخ.

(7/498)


ولو كان المؤاجر غائباً فليس للمستأجر أن يفسخ؛ لأن حضور العاقدين شرط صحة الفسخ عرف ذلك في كتاب البيوع ولو سقطت الدار كلها فله أن يخرج، سواء كان صاحب الدار شاهداً أو غائباً فهذا إشارة إلى أن عقد الإجارة ينفسخ بانهدام الدار، فإنه قال: فللمستأجر أن يخرج سواء كان صاحب الدار شاهداً أو غائباً ولو لم ينفسخ العقد واحتيج إلى الفسخ اشترط حضرة صاحبه، كما في المسألة المتقدمة.

وهذا فصل اختلف أصحابنا فيه، بعضهم قال: ينفسخ العقد، بانهدام الدار وانقطاع الماء عن الرحى وانقطاع الشرب عن الأرض إذا كان لا يمكنه أن يزرع، واستدل هذا القائل باللفظ الذي ذكرنا، ومنهم من قال: لا ينفسخ العقد بانهدام الدار، واستدل هذا القائل بما ذكر محمد في كتاب الصّلح، أنه إذا صالح على سكنى دار فانهدمت لم ينفسخ الصّلح.
واستدلوا أيضاً ما روى هشام عن محمّد فيمن استأجر بيتاً فانهدم ثم بناه الآخر فليس للمستأجر (33ب4) أن يمتنع ولا الآجر فهذا إشارة إلى أن العقد لا ينفسخ بانهدام الدار؛ وهذا لأن المنفعة ما فاتت من كل وجه فإن الانتفاع بالعرصة ممكن من وجه بأن ينصب خيمة فيها أو إن فاتت المنفعة من كل وجه، إلا أنها ما فاتت على سبيل التأبيد إنها فاتت على وجه يحتمل العود فأشبه إباق العبد المستأجر، وذلك لا يوجب انفساخ العقد.
ونصّ في إجارات «الأصل» في باب الرحى أن الإجارة في الرحى لا تنفسخ بانقطاع الماء عنها.
وفي «فتاوى الفضلي» : المؤاجر إذا نقض الدار المستأجرة برضا المستأجر أو بغير رضاه لا تنتقض الإجارة، لأن الأصل باق قال: وهذا بمنزلة ما لو غصب الدار المستأجرة من المستأجر، وهناك لا تنتقض الإجارة بل سقط الأجر على المستأجر مادامت الدار في يد الغاصب ومن المشايخ من قال: ينفسخ العقد بانهدام الدار ثم يعود بالبناء ومثل هذا جائز.
ألا ترى أن الشاة المبيعة إذا ماتت في يد البائع ينفسخ العقد، ثم إذا دبغ جلدها يعود العقد بعذره كذا ها هنا، فإن بنى المؤاجر الدار كلها قبل الفسخ فللمستأجر أن يفسخ العقد إن شاء هكذا ذكر في «النوادر» ، وإنه يخالف راوية هشام عن محمد في مسألة البيت.
ووجه هذه الرواية: أن التغير قائم فيها؛ لأن الدار إذا كانت جديدة تكون أبرد في بعض الأوقات وأحر في بعضها وعلى قياس هذه الرواية ينبغي أن يكون للمستأجر حق الفسخ إذا سقط بعض البناء وبناه الآخر قبل الفسخ، ويجوز أن يكون بينهما فرق فيتأمّل.
وقال محمد رحمه الله: في السفينة المستأجرة إذا أنقضت وصارت ألواحاً، ثم ركبت واعتدّت سفينة لم يجبر على تسليمها إلى المستأجر، قال محمد: ولا يشبه هذا الدار؛ لأن السفينة بعد النقض إذا اعتدت صارت سفينة أخرى، ألا ترى أن من غصب

(7/499)


من آخر ألواحاً وجعلها سفينة ينقطع حق المالك فأما عرصة الدار لا تتغير بالبناء عليها.

وفي «نوادر ابن سماعة» : عن أبي يوسف رحمه الله: رجل استأجر داراً وقبضها فانهدم بيت منها فرفع عنه من الأجر بحصته ولا يؤخذ منهما.

بيانه: وإذا استأجر غلاماً ليخدمه في المصر ثم أراد المستأجر أن يسافر فهذا عذر له في فسخ الإجارة؛ لأنه لا يمكنه استيفاء المعقود عليه إلا بحبس نفسه في المصر؛ إذ لا يمكنه أن يخرج بالعبد؛ لأن خدمة السفر أشق من خدمة الحضر وحبس نفسه في مكان يعينه عقوبة فيصير عذراً له في فسخ الإجارة، وأما إذا استأجره ليخدمه مطلقاً ولم يقيده بالمصر ثم أراد المستأجر المسافر هل يكون له عذر في فسخ الإجارة فهذه المسألة تبنى على مسألة أخرى أن من استأجر عبداً في المصر للخدمة هل له أن يسافر؟ إن لم يكن له أن يسافر به كان عذراً له، وإن كان له أن يسافر لم يكن عذراً وقد مرت المسألة في فصل الاستئجار للخدمة.

فإن قال المؤاجر للقاضي: إنه لا يريد السفر ولكنه يريد فسخ الإجارة، وقال المستأجر: أنا أريد السفر فالقاضي يقول: للمستأجر مع من يخرج فإن قال: مع فلان وفلان، فالقاضي يسألهم أن فلاناً هل يخرج معكم؟ وهل استعد للخروج؟ فإن قالوا: نعم ثبت العذر ومالا فلا، وهذا لأن الخروج لابد له من الاستعداد قال الله تعالى: {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له العدة} (التوبة: 46) وبعض مشايخنا قالوا: القاضي يحكم زيه وسامه فإن كانت يداه شاق السفر يجعله مسافراً وهذا؛ لأن الزي والسيما حجة يجب العمل بها عند اشتباه الحال على ما عرف في موضعه، وبعضهم قالوا: إذا أنكر الآجر السفر فالقول قوله وبعضهم قالوا: القاضي يحلف المستأجر بالله إنك عزمت على السفر، وإليه مال الكرخي والقدوري وكذلك لو خرج من المصر ثم عاد يحلّف بالله إنك قد خرجت قاصداً إلى الموضع الذي ذكرت، ولو أراد ربّ العبد أن يسافر لا يكون ذلك عذراً في فسخ الإجارة؛ لأنه لا يمكنه إيفاء المعقود عليه من غير أن يحبس نفسه في مكان معين بأن يخرج إلى السفر، ويخلي بين المستأجر وبين العبد.
d
ونظير هذه المسألة إذا استأجر من آخر داراً ليسكنها ثم عزم على السفر لا يكون ذلك عذراً له في فسخ الإجارة، وإذا استأجر حانوتاً في سوق ليعمل فيه عملاً مثلاً بزازي فلحقه دين أو أفلس وقام عن السوق فهذا عذر في فسخ الإجارة؛ لأنه فات ما هو المقصود من هذه الإجارة؛ لأن المقصود منها أن يتجر في هذا الحانوت، ولا يمكنه ذلك بعد الإفلاس وبعد ما لحقه الديون لأن الغرماء يأخذون المال منه ويمنعونه عن التصرف فيه، ولم يكن شيء من ذلك ولكن أراد المستأجر أن يتحول إلى حانوت آخر هو أوسع إذا رخص ويعمل ذلك العمل لم يكن ذلك عذراً؛ لأن ما هو المقصود من هذه الإجارة لم يفت واستيفاء ما وقع عليه العقد ممكن من غير أن يلحق المستأجر ضرر لكن يفوته نفع طمعه، إلا أنّ تحصيل النفع ليس بواجب إنما الواجب دفع الضرر ولو أراد أن يقوم من هذا العمل ويعمل عملاً آخر.

(7/500)


ذكر في «الفتاوى الصغرى» : أن هذا عذر وفرق بين هذا وبينما إذا استأجر غلاماً ليعمل له عمل الخياطة، ثم بدا له أن يأخذ في عمل آخر فإن ذلك ليس بعذر؛ لأنه لا يمكنه أن يحمل الغلام في ناحية الدكان يعمل له عمل الخياطة وهو في ناحية أخرى يعمل عملاً آخر بخلاف ما إذا كان هو يعمل بنفسه.
وذكر في فتاوى «الأصل» : هذه المسألة على التفصيل فقال: إن تهيأ له العمل الثاني على ذلك الدكان ليس له النقض، لأنه لم يتحقق القدر وإن لم يتهيأ فله النقض؛ لأنه تحقق العذر، وذكر في «الجامع الصغير» مطلقاً أنه ليس بعذر، كما ذكر في «الفتاوى الصغير» ومسألة «الجامع الصغير» تأتي بعد هذا والمؤاجر إذا وجد زيادة على الأجرة لا يكون ذلك عذراً له في فسخ الإجارة؛ لأنه لا يمكنه إنما المعقود عليه من غير ضرر يلزمه إنما يفوته نوع نفع طمعه غير أنه لا عبرة لفوات المنفعة على ما مرً.

وفي «فتاوي أبي الليث» : رحمه الله رجل ساكن في قرية استأجر أرضاً في قرية أخرى ثم بدا له أن يترك هذه الأرض، ويزرع أرضاً أخرى في قرية أخرى قال: إن كان بينهما مسيرة سفر كان عذراً له في فسخ الإجارة، وما لا فلا وهذا؛ لأن المسافة إذا كانت بعيدة يلحقه الضرر وإذا كانت قريبة لا يلحقه الضرر، وقدرت البعيدة بمسيرة السفر وإذا لحق الآجر دين لا وفاء له إلا من ثمن الدار المستأجرة أو ثمن العبد المستأجر، فهذا عذر في فسخ الإجارة؛ لأنه لا يمكنه إيفاء المعقود عليه إلا بضرر يلحقه، وهو الحبس، فإنه يحبس فيصير ذلك عذراً له في فسخ الإجارة.
فإن قيل: ينبغي أن لا يحبسه القاضي إذا تعلق بماله حق المستأجر بل يتأخر الحبس إلى أن تنقضي الإجارة.
قلنا: القاضي لا يصدقه في أنه لا وفاء له إلا من ثمن المستأجر فيحبسه لهذا، وينبغي للآجر أن يرفع الأمر إلى القاضي ليفسخ العقد وليس للآجر أن يفسخ بنفسه، وقد مرّ هذا، ثم إذا رفع الأمر إلى القاضي إن طلب من القاضي أن ينقض الإجارة فالقاضي لا ينقضها؛ لأنه لاحق للآجر في نقض الإجارة إنما حقه في البيع قضاء لدينه وتخليصاً لرقبته فلو نقض القاضي الإجارة بطلبه ربما لا يتفق البيع بعد ذلك أو يكون احتيالاً فيصير النقض مقصوداً، أو يبطل حق المستأجر وإنه لا يجوز وإن طلب من القاضي أن يبيع المستأجر بنفسه أو بأمر الآجر أو غيره بالبيع، أجابه القاضي إلى ذلك وهذا الجواب إنما يتأتى على ظاهر الرواية؛ لأن على ظاهر الرواية حق المستأجر لا يمنع البيع ولكن يمنع التسليم.

وللمشتري الخيار بين أن يتربص إلى أن تمضي هذه الإجارة، وبين أن يرفع الأمر إلى القاضي ويطلب التسليم أو الفسخ، فإذا رفع إلى القاضي (34أ4) وأثبت البائع الدين بالبيّنة، فالقاضي يمضي البيع ويتضمن ذلك نقض الإجارة فيأخذ الثمن من المشتري ويسلمه إلى الغريم.
قال: وإلى أن يمضي القاضي البيع فالأجرة واجبة على المستأجر؛ لأن المستأجر

(7/501)


في يده وهو متمكن من الانتفاع به فيجب عليه الأجر، وكان الأجر للآجر؛ لأنه بدل ملكه ويكون طيباً له؛ لأنه وجب بحكم عقد صحيح وكذلك لو أن الآجر باع الدار بنفسه قبل أن يتقدموا إلى القاضي، ثم تقدموا إلى القاضي، فعلى المستأجر أجر الدار حتى ينقض القاضي الإجارة بإمضاء البيع وتنفيذه لما ذكرنا من المعنى.
هذا إذا كان الدّين على الآجر ظاهراً معلوماً للقاضي، وأما إذا لم يكن ظاهراً معروفاً وإنما عرف بإقرار الآجر وصدقه المقر له في إقراره وكذبه المستأجر فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله بيعت الأرض، ونقضت الإجارة وعلى قولهما لا تباع الأرض ولا تنقض الإجارة فهما لا يقولان بصحة إقراره في حق المستأجر؛ لأنه يضمن احترازاً بالمستأجر بإبطال حقّه عن عين المستأجر؛ لأن حقّه تعلق بعين المستأجر لغيره فيكون إقراراً على المستأجر وإقرار الإنسان على غيره لا يصح.
وأبو حنيفة يقول بصحة إقراره؛ لأنه يعرف في ذمّته؛ لأن محل الدين الذمّة ولاحق لأحد في ذمّته فكان إقراراً على نفسه، فيصح الإقرار ويثبت الدين مطلقاً، وما يقول بأن فيه ضرر المستأجر.
قلنا: لا ضرر للمستأجر في نفس الإقرار وإنما ضرره في البيع والاستيفاء، وإنه فعل اختياري لا يضاف إلى الإقرار فلا يصير به مقراً على الغير، كإقرار العبد على نفسه بالقصاص ثم عند أبي حنيفة رحمه الله إذا ثبت الدّين مطلقاً بإقرار الآجر صار الآجر قادراً على قضاء الدين بواسطة البيع فيجب عليه البيع كما في المسألة الأولى، ويحبس إذا امتنع عنه وعندهما لما لم يثبت الدّين بإقراره في حق المستأجر لم يصر قادراً الآجر على قضاء الدين بواسطة البيع، فلا يجب عليه البيع ولا يحبس إذا امتنع عنه ولكن المقر له يلازم الآجر، ويدور معه حيث دار فإذا انقضت مدة الإجارة الآن يحبسه؛ لأنه صار قادراً على قضاء الدين بواسطة البيع.

إذا أجر داره ثم أراد أن ينقص الإجارة ويبيع الدار؛ لأنه لا نفقة له ولعياله فله ذلك هكذا ذكر في «فتاوى أبي اللّيث» ؛ لأن هذا أشد من الحاجة إلى قضاء الدين وذلك عذر فهذا أولى.

وفي «الأصل» : إذا انهدم منزل الآجر ولم يكن له منزل آخر، فأراد أن يسكن هذا المنزل لم يكن له ذلك.
وفي «فتاوى أبي اللّيث» رحمه الله: إذا تكارى إبلاً من الكوفة إلى بغداد، ثم بدا له أن يتكارى بغلام فهذا ليس بعذر بل هذا تمني أما لو اشترى بعيراً أو دابة فهو عذر، لأنه استغنى عن الإجارة فصار كما لو ترك السفر.
وفي «الأصل» : إذا استأجر من آجر منزلاً، ثم إن المستأجر اشترى منزلاً وأراد أن يتحول إليه ويفسخ الإجارة فليس له ذلك، وهذا ليس بعذر؛ لأنه يمكنه استيفاء المعقود عليه من غير ضرر يلحق نفسه فإنه يؤاجر منزله الذي اشترى، ويصرف كراه إلى الذي استأجر فلما أمكنه استيفاء المعقود عليه من غير ضرر يلحقه، وماله لم يصلح عذراً في

(7/502)


فسخ الإجارة، فعلى قياس ما ذكر في «الأصل» ينبغي أن يقال في مسألة «الفتاوى» ، إنه إذا اشترى بعيراً أو دابّة لا يكون عذراً.
قال في «الجامع الصغير» : الخياط إذا استأجر غلاماً ليخيط معه، فأفلس الخياط وقام عن السوق فهذا عذر؛ لأن تجارته تنقطع بالإفلاس فتبقى التجارة غرامة عليه فيثبت له حق الفسخ دفعاً للغرامة عن نفسه.
فإن قيل: الخياط يتوصل إلى الخياطة بمال قليل فكيف يتحقق إفلاسه.
قلنا: الخياط إنما يتوصل إلى الخياطة بمال قليل إذا كان يعمل لغيره أما إذا كان يعمل لنفسه لا يتوصل إليها إلا بمال كثير، وكان محمد رحمه الله يقول هذا في خياط يعمل لنفسه على أن الخياط الذي يعمل لغيره، قد يتحقق إفلاسه بأن تظهر خيانته عند الناس فيمتنعون عن تسليم الثياب إليه أو يلحقه ديون كثيرة، ويصير بحال الناس لا يأتمنوه على أمتعتهم، وأما إذا أراد أن يترك الخياط ويعمل في الصرف، فهذا ليس بعذر تفسخ به الإجارة.
وقال في كتاب الإجارات: إذا استأجر من آجر حانوتاً ليبيع فيه الطعام، ثم بدا له أن يقعد في سوق الصيارفة فهذا عذر.
والفرق إن في مسألة كتاب الإجارات لا يمكنه استيفاء المعقود عليه، إلا أن يحبس نفسه في هذا السوق المعين؛ إذ لا يمكنه الجمع بين تجاريين في سوق واحد، وحبس نفسه في مكان معيّن عقوبة وعذاب فجعل ذلك عذراً دفعاً للعقوبة عن نفسه، أما في مسألة «الجامع الصغير» يمكنه استيفاء المعقود عليه من غير أن يحبس نفسه في هذا السوق المعيّن، بأن يقعد بنفسه في سوق الصيارفة ويستعمل الغلام في عمل الخياطة في ذلك السوق، فلم يجعل ذلك عذراً.
وإذا استأجر إنساناً ليقصر ثياباً له أو ليخيط أو ليقطع قميصاً له أو ليبني له بناء أو ليزرع أرضاً له، ببذره ثم بدا له أن لا يفعل كان ذلك عذراً له؛ لأنه لا يمكنه المضي على الإجارة إلا باستهلاك المال في بعض الصور، وهو الزراعة والقطع والبناء أما الزراعة والقطع فظاهر وأما البناء؛ فلأن فيه إتلاف المالية، وكذلك إذا استأجر لحفر البئر؛ لأن في الحفر إتلاف جزء من الأرض وكذلك إذا استأجر للحجامة والفصد؛ لأن في الحجامة إيلام وإتلاف جزء من البدن، ولو امتنع الأجير عن العمل في هذه الصورة يجبر عليه، ولا تفسخ الإجارة؛ لأنه يمكنه المضي على الإجارة من غير ضرر يلزمه.

وإذا استأجر أرضاً ليزرعها فغرقت الأرض أو نزّت كان ذلك عذراً له في فسخ الإجارة؛ لأن المعقود عليه قد فات قبل التسليم وإنه يثبت للعاقد حق الفسخ في بيع العبد إذا أبق العبد قبل القبض، فإنه يكون للمشتري حق الفسخ، وطريقه ما قلنا: فإن مرض المستأجر وعجز عن الزراعة، فإن كان ممّن يعمل بنفسه فهذا عذر؛ لأنه عجز عن الانتفاع بالأرض لمرضه، إذا كان يعمل بنفسه فهو بمنزلة ما لو عجز عن الانتفاع بالأرض بأن غرقت أو نزّت، وذلك عذر فهذا كذلك وإن كان إنما يعمل بأجرائه، فهذا ليس بعذر؛

(7/503)


لأن مرضه لا يمنع أجراه عن العمل في الأرض.
وإذا أبق العبد المستأجر فللمستأجر أن يفسخ الإجارة فهو عذر؛ لأن المعقود عليه فات قبل التسليم فهو بمنزلة الأرض إذا غرقت أو نزّت، وإذا وجد العبد المستأجر للخدمة سارقاً فهذا عذر؛ لأن هذا بمنزلة العيب في المعقود عليه؛ لأنّ السرقة توجب نقصاناً في الخدمة؛ لأنه متى كان سارقاً لا يأتمنه المستأجر على ماله إذا خلى بينه وبين أعمال الخدمة في الدار خوفاً من سرقته على ماله، ويتعسر عليه ملازمته كل ساعة وأوان.
فهو معنى قولنا هذا عيب في المعقود عليه، فيثبت للعاقد الخيار، كما إذا وجد العبد المشتري سارقاً، وإن كان العبد غير حاذق للعمل الذي استأجره عليه، فهذا لا يكون عذراً للمستأجر في فسخ الإجارة؛ لأنه لا عيب في المعقود عليه ولا نقصان إنما فات صفة الحذاقة وإنها بمنزلة الجودة فلا تصير مُستحقة بمطلق العقد بل يراعي في استحقاقها الشرط.
ألا ترى أن من اشترى حنطة ولم يشترط جودتها فوجدها وسطاً، لا يكون له حق الفسخ كذا هاهنا، وإن كان عمله فاسداً كان له الخيار، لأن هذا عيب في المعقود عليه فهو بمنزلة ما لو وجد الحنطة عفنة وإذا وقعت الإجارة على دواب بعينها لحمل المتاع، فماتت انفسخت الإجارة بخلاف ما إذا وقعت على دواب لا بعينها. (34ب4) وسلم الآجر إليه دواباً فماتت لا ينفسخ العقد، وعلى الآجر أن يأتي بغير ذلك.

والفرق: أن عند تعيين الدواب المعقود عليه منافع الدواب المعيّنة، فإذا هلكت فقد هلك المعقود عليه فيبطل أما عند انعدام التعيين المعقود فعمل الحمل في ذمّة الآجر والإبل آلة الحمل، وكما أن التي عينها الآجر بعد العقد آلة الحمل فغيرها آلة الحمل فلا معنى لانفساخ العقد، فإن وقعت الإجارة على دواب بعينها ومرضت فللمستأجر حق الفسخ؛ لأن منفعة الحمل تنتقض بالمرض فكان ذلك عيباً في المعقود عليه وعن أبي يوسف أن للمؤاجر حق الفسخ أيضاً؛ لأن الركوب والحمل مع المرض يوجب زيادة ضرر في ملكه وذلك غير مستحق بالعقد، وإن مرض الآجر في هذه الصورة.
ذكر القدوريّ في «شرحه» : أن له حق الفسخ، وهذا خلاف رواية «الأصل» فعلى ما ذكره القدوري يحتاج إلى الفرق، بينما إذا مرض المؤاجر، وبينما إذا أراد أن يقعد ولا يخرج فإن ذلك لا يكون عذراً له في فسخ الإجارة.
والفرق: أنه إذا مرض فقد عجز عن الخروج، وغيره لا يقوم مقامه في الخروج إلا بموته وضرر يلحقه فيكون ذلك عذراً له، أما إذا أراد أن يقعد ولا يخرج فما عجز عن الخروج بل هو قادر عليه، وإنما تركه باختياره فكان عليه أن يقيم غيره مقامه.
وعن أبي يوسف: في امرأة ولدت يوم النحر قبل أن تطوف طواف الزيارة، وأبى الحمال أن يقيم معها مدة النّفاس فهذا عذر للحمال في فسخ الإجارة، ولو ولدت قبل يوم النحر فجاء يوم النحر وقد بقي من مدة نفاسها مدة الحيض عشرة أو أقل خيرّ الحمال على المقام معها، وهذا؛ لأنه لا يمكن جبر الحمال على المقام في الفصل الأول؛ لأنه ما

(7/504)


جرت العادة بالمقام بمكة بعد الفراغ من الحج مثل مدّة النفاس، فيتضرر الحمال بذلك فيفسخ العقد دفعاً للضرر عنهما، أما في الفصل الثاني جبر الحمال على المقام ممكن؛ لأن العادة جرت بالمقام بمكة بعد الفراغ من الحج مثل هذه المدة فلا يتضرر الحمال بذلك.

ولو اشترى شيئاً وأجره من غيره ثم اطلع على عيب به فلا يرده بالعيب وتفسخ الإجارة؛ لأن لو نفينا عقد الإجارة يتضرّر الآجر من حيث إن يلزمه المبيع معيباً، وإذا أجر الرجل نفسه في عمل من الأعمال ثم بدا له أن يترك ذلك العمل وينتقل إلى غيره بأن كان حجاماً مثلاً أجر نفسه للحجامة ثم قال: أنفت من هذا العمل وأريد أن أتركه ليّس له ذلك؛ لأنه التزم العمل وصح الالتزام؛ ولا عار فيه وقت الالتزام لأنه من أهله إنما أراد أن يترفع الآن فيقال له: أوف ما التزمت.
ثم تترفع وإن كان ذلك العمل ليس من عمله وهو مما يعاب بذلك فله أن يمتنع عن العمل، وأن يفسخ الإجارة؛ لأنه إذا لم يكن ذلك العمل من عمله يلحقه العار في المضي عليه، فيصير ذلك عذراً له في فسخ الإجارة، وكذلك المرأة إذا أجرت نفسها ظئراً ممن يعاب بذلك، فلأهلها أن يخرجوها وكذا إن انتهى لم يجبر عليه لما ذكرنا.
وعن محمد رحمه الله، فيمن استأجر أرضاً ليزرع شيئاً سماه فزرعها وأصاب الزرع آفة وقد ذهب وقت زراعة ذلك النوع، فإن أراد أن يزرع ما هو أقل ضرراً من الأول أو مثله فله ذلك وإلا فسخت الإجارة، وألزمته ما مضى من الأجر وهذا؛ لأن في إيفاء العقد مع فوات المقصود اضرار بالمستأجر ولا ضرر للآجر في زراعة ما هو دون الأوّل أو مثله.

وإذا انتقص الماء عن الرّحى، فإن كان النقصان فاحشاً فللمستأجر حق الفسخ وإن كان غير فاحش فليس له حق الفسخ؛ لأن مدة الإجارة لا تخلو عن نقصان غير فاحش غالباً وهذا لأن الماء يجري على سنن واحد وإنما بل ينتقص مرة ويزداد بأخرى غير أن النقصان الفاحش في مدة قليلة ليس بغالب وغير الفاحش غالب، فإذا أقدم على استئجار الرحى مع علمه بما قلنا يصير راضيااً بالغير الفاحش، ولا يصير راضياً بالفاحش فلا يثبت حق الفسخ في غير الفاحش لمكان الرضا، ويثبت في الفاحش لعدم الرضا.

قال القدوري في «شرحه» : إذا صار يطحن أقل من نصف طحنه، فهو نقصان فاحش.
وفي «واقعات الناطفي» : إذا قل الماء ويدور الرحى ويطحن على نصف ما كان يطحن، فللمستأجر ردّه أيضاً ولو لم يرده حتى طحن كان هذا رضاً منه، وليس له أن يرد الرحى بعد ذلك وهذه الرواية تخالف رواية القدوريّ هذا إذا انتقص الماء عن الرحى في بعض المدّة، نحو أن يستأجر رحاً ما كل شهر بأجر مسمّى فانقطع الماء عنها في بعض الشهر، فلم يعمل فللمستأجر الخيار هكذا ذكر في «الأصل» ، وهذا نص على أن الإجارة لا تنفسخ بانقطاع الماء عن الرحى؛ لأن المعقود عليه وهو منفعة الطّحن وإن فاتته قبل

(7/505)


القبض إلا أن العود موهوم، ومثله لا يوجب انفساخ العقد بل يثبت الخيار للعاقد كالعبد المستأجر إذا أبق في مدة الإجارة، فإن لم يفسخ حتى عاد الماء لزمته الإجارة فيما بقي من الشهر لزوال الموجب للفسخ، ويرفع عنه الأجر بحساب ذلك هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» .
واختلف المشايخ في تفسير قوله: بحساب ذلك، بعضهم قالوا: معناه بحساب ما انقطع من الماء في الشهر حتى إذا انقطع الماء عشرة أيام يسقط بحصة عشرة أيام من الشهر، وذلك ثلث المسمى فيسقط عنه ثلث المسمى وهذا؛ لأن المعقود عليه في إجارة الرحى منفعة الطحن لا غير؛ لأن الرحى مستأجر للطحن لا غير فيجعل المعقود عليه منفعة الطحن وقد فاتت منفعة الطحن في مدة عشرة أيام، فيسقط الأجر بقدره.
كما لو استأجر عبداً ليخدمه شهراً فأبق عشرة أيام، فإنه يسقط الأجر بقدره وذلك ثلث المسمّى فكذلك هذا وقال بعضهم: أراد بقوله بحساب ذلك أي بحصّة ما انقطع من الماء.

وبيان ذلك: أن ينظر إلى بيت رحى عشرة أيام وهو يطحن بكم يستأجر؟ فإن كان يطحن يستأجر عشرة أيام بعشرة ولا يطحن يستأجر بخمسة يسقط خمسة دراهم، وهو حصة ما انقطع من الماء ولا يسقط ثلث المسمّى كما قاله الأولون، وذلك لأن منفعة الطحن إن فاتت بقيت منفعة السكنى وربط الدواب، فإن للمستأجر أن يسكن فيها ويربط فيها دوابه كما له أن يطحن فمنفعة الرحى إن فاتت بقيت منفعة السكنى وربط الدواب فيسقط الأجر بقدر ما فات، ويبقى بقدر ما بقي.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: وما قاله الأولون أصح، لأن ظاهر الرواية يشهد لهذا فإنه قال في «الأصل» : الماء إذا انقطع الشهر كله ولم يفسخها المستأجر حتى مضى الشهر، فلا أجر عليه في ذلك فقد نفى الأجر عنه أصلاً، ولو كانت منفعة السُكنى معقوداً عليه مع منفعة الطحن لأوجب بقدر ما يخصّ منفعة السُكنى؛ وهذا لأن الرحى لا تستأجر لمنفعة السُكنى وإنما تستأجر لمنفعة الطحن فيجعل منفعة الطحن هو المعقود مقصوداً، وغيره يدخل تبعاً والبدل لا يقابل الاتباع فيكون الأجر كله بإزاء منفعة الطحن.
وذكر القدوري في «شرحه» : أن من استأجر رحى ماء سنة، فانقطع الماء بعد ستة أشهر، فأمسك الرحى حتى مضت السنة فعليه الأجر لستة أشهر ولاشيء عليه لما بقي، وإن كان البيت ينتفع به لغير الطحن فعليه من الأجر بحصته لأنه بقي شيء من المعقود عليه فيبقى الأجر بحصته، وهذا يدلك على أن ما سوى منفعة الطحن داخل في هذا العقد أصلاً لاتبعاً فيكون دليلاً على ما قاله الآخرون فيه. (35أ4) .

وفي «نوادر ابن سماعه» عن محمد رحمه الله رجل استأجر رحى ماء بأداتها وبيتها والماء جار ثم انقطع الماء عنها، فهذا عذر وقد مرّ هذا قال: ولو استأجرها والماء منقطع عنها وقال أنا أصرف ماء نهري إليها، وكان ذلك بلا حفر ولا مؤنه لزمه الأجر صرف الماء إليه أو لم يصرف، وإن كان ينبغي لذلك حفر نهر من نهره إلى نهر الرحى ومؤنته

(7/506)


فقال: بدا لي في حفر ها كان له أن يترك الإجارة، فإن حفر وأجرى الماء ثم بدا له أن يصرف الماء إلى زرعه ويترك الإجارة لم يكن له ذلك ويلزمه الأجر، فإن جاء من ذلك أمر فيه ضرر عظيم يذهب فيه زرعه ويضر بماله إضراراً عظيماً إن قطع الماء عنه جعلت هذا عذراً له أن يترك الإجارة.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: إذا استأجر أرضاً وانقطع عنها شربها وقد بقي من الإجارة شيء، قال: إن كانت مما يصلح أن يزرع عرفاً فلم يخاصم في الإجارة ولم ينقضها حتى مضت المدة لزمه الأجر تاماً، وإن خاصم فيها كان له أن يردها ويعطيه من الأجر بحسابه، وإن كانت مما لا يزرع عرفاً لم يلزمه أجر ما بقي من السنة، وإن لم يخاصم في ردّها.
وكذلك رجل استأجر عبداً من رجل كل شهر بدرهم مثلاً، فمرض العبد ولم يقدر على مثل ما كان يعمل إلا أنه قد يعمل عملاً دون العمل الذي كان يعمله في الصحة، فله أن ينقض الإجارة وإن لم ينقضها حتى مضى شهراً لزم الأجر، وإن مرض مرضاً لا يقدر على شيء من العمل فلا أجر عليه.

وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: رجل استأجر رجلاً ليحفر له بئراً فلقي جبلاً قال: له الأجر بحساب ما حفر، فإن كانت بلدة يكون فيها ذلك فبلغ إلى ما هو أصلب مما رأى، فإن كان يعلم أن ذلك سيلقاه كان عليه أن يحفره، وإن قال: لم أعلم حلف بالله لم يعلم وكان له من الأجر بحساب ما حفر، قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: هذا الجواب خلاف جواب «الأصل» وقد مرّ جنس هذه المسألة قبل هذا.
l

وعنه أيضاً: في رجل استأجر رجلاً ليحفر له بئراً في موضع أراه إياه وأراه قدر استدارتها، وشرط عليه أن يحفرها عشرة أذرع كل ذراع بكذا، فحفر منها أذرعاً ثم مات، فإنه يقوم ما حفر ويقوم ما بقي ثم يقسم الأجر على قيمتين فيعطى حصة ما حفر.
علل فقال: لأن كل ذراع منها سابغ في أسفلها وأعلاها ومعنى هذا أنه ينظر إلى قيمة ذراع من الأعلى وإلى قيمة ذراع من الأسفل؛ لأن في الأعلى الحفر يكون أرخص وفي الأسفل الحفر يكون أغلى فلا بد من الجمع بين القيمتين لتحقيق معنى العدل، ثم إذا ظهر قيمة الأعلى وقيمة الأسفل يجعل كل ذراع منهما، فيكون كل ذراع من الذراعين وتكون حصته من القيمتين.
وإذا تكارى دابة فوجدها لا تبصر بالليلّ أو وجدها جموحاً أو عضوضاً، فله أن يردها؛ لأنه وجد المعقود عليه معيبّاً فكان له الرد كما في بيع العين، فإن ردها فليس له أن يطالب المكاري بدابة أخرى إن وقعت الإجارة على هذه الدابة بعينها؛ لأن الإجارة انفسخت بردها وإن وقعت الإجارة على الدابة لا بعينها، فله أن يطالبه بدابة أخرى.
وفي «مزارعة العيون» : إذا استأجر من آخر أرضاً وزرعها فلم يجد ماء ليسقيها، فيبس الزرع قال: إن كان استأجرها بغير شرب ولم ينقطع ماء النهر الذي يرجى منه السقي فعليه الأجر، وإن انقطع كان له الخيار، وإن كان استأجرها لشربها، فانقطع الشرب عنها

(7/507)


فمن يوم فسد الزرع من انقطاع الشرب فالأجر عنه ساقط كما لو انقطع الماء عن الرحى المستأجرة.
وفي موضع آخر: إذا استأجر أرضاً وماء ليزرعها فجدب النهر الأعظم، فلم يستطع سقياً فهو بالخيار إن شاء ردها وإن شاء أمسكها، فإن لم يرد حتى مضت المدة فعليه الأجر إذا كان بحال يمكنه أن يحتال بحيلة ليزرع فيها شيئاً، أما إذا كان بحال لا يمكنه أن يزرع فيها شيئاً بعدما بوجه من الوجوه ولا حيلة له في ذلك، فلا أجر عليه.

وفي «فتاوى الفضلي» : استأجر أرضاً فانقطع الماء إن كانت الأرض تسقى بماء الأرض، أو كانت تسقى بماء المطر لكن انقطع المطر أيضاً فلا أجر عليه؛ لأنه لم يتمكن من الانتفاع بها.
وفي «الواقعات» : لو استأجر أرضاً فغرقت الأرض قبل أن يزرعها فلا أجر عليه كما لو غصبها من المستأجر رجل وزرعها، ولو زرعها المستأجر فأصاب الزرع آفة فهلك أو غرق ولم ينبت فعليه الأجر كاملاً؛ لأنه قد زرع رواه ابن رستم عن محمد رجل استأجر أرضاً فزرعها وقل ماؤها فانقطع فله أن يخاصم الآجر حتى يفسخ القاضي العقد بينهما، وبعدما فسخ القاضي العقد ترك الأرض في يد المستأجر بأجر المثل حتى يدرك زرعه، فإن سقى زرعه لا يكون له حق الفسخ بعد ذلك وكان ذلك منه رضاً والفتوى في مسألة هلاك الزرع أنه لا أجر على المستأجر فيما بقي من المدّة بعد هلاك الزرع، إلا إذا تمكن من إعادة زرع مثله أو دونه في الضرر بالأرض، وإذا اختّل الزرع بأن قل ماؤه وانقطع فالجواب فيه على نحو ما ذكره هشام وعليه الأجر إذا لم يرفعه إلى الحاكم وإن لم يسقه.
وفي مزارعة «فتاوى أهل سمرقند» : رجل استأجر أرضاً من أراضي الجبل، فزرعها فلم يمطر عليه ولم ينبت حتى مضت السنة ثم مطر، ونبت فالزرع كله للمستأجر وليس عليه كراء الأرض ولا نقصانها، وأحاله إلى «نوادر ابن سماعة» أما لاكراء عليه فلتقرر العذر في كل المدّة وأما عدم النقصان، فلأن الزراعة حصلت بإذن المالك، قوله: لاكراء عليه قبل النبات فأما بعدما نبت يجب أن يترك الأرض في يد المستأجر بأجر المثل، كما لو انقضت المدة وفي الأرض زرع لم يستحصد بعد، فإن هناك تترك الأرض في يد المستأجر بأجر المثل كذا هاهنا.

وفي «فتاوي أبي الليث» : رجل استأجر طاحونتين بالماء في موضع يكون الحفر على المؤاجر عادة فاجتاح النهر إلى الكراء وصار بحال لا يعمل إلا إحدى الرحاتين، فإن كان بحالٍ لو صرف الماء إليها جميعاً عملا عملاً ناقصاً، فله الخيار لاختلاف ما هو المقصود بالعقد وعليه أجرهما إن لم يفسخ لتمكنه من الانتفاع بهما، وإن كان بحال لو صرف الماء إليهما لم يعملا فعليه أجر إحداهما إن لم يفسخ؛ لأنه لا يتمكن من الانتفاع بالثانية فإن تفاوت أجرهما، فعليه أجر أكثرهما إذا كان كل الماء يكفيها؛ لأن الشك وقع في سقوط الزيادة وإن كان ذلك في موضع يكون الحفر على المستأجر، فعليه الأجر

(7/508)


كاملاً، لأنه هو المعطل لما لم يحفر مع أن الحفر عليه.
ولو استأجر خيمة وانكسر أوتادها فالأجر واجب وليس للمستأجر حق الفسخ لأجله ولو انقطع الأطناب فلا أجر؛ لأن الأطناب على الآجر والأوتاد على المستأجر، وإذا قلع الآجر شجرة من أشجار الضياع المستأجر، فللمستأجر حق الفسخ إن كانت الشجرة مقصودة.

وإذا استأجر الرّجل رجلاً ليذهب بحمولته إلى موضع كذا، فلما ذهب نصف الطريق بدا للمستأجر أن لا يذهب إلى ذلك الموضع ويترك الإجارة، وطلب من الآجر نصف الأجر قال: إن كان النصف الباقي من الطريق مثل الأوّل في الصعوبة والسهولة، فله ذلك وإلا يسترد بقدره والله أعلم.

الفصل التاسع عشر: فيما يكون فسخاً وفي الأحكام المتعلقة بالفسخ وما لا يكون فسخا
كل من وقع له عقد الإجارة، إذا مات تنفسخ الإجارة بموته. (35ب4) ومن لم يقع له العقد لا ينفسخ العقد بموته وإن كان عاقداً يريد به الوكيل والأب والوصي، وهذا لأن موت من وقع له العقد إنما يوجب انفساخ العقد؛ لأن ابتداء العقد انعقد موجباً للاستحقاق عليه، فإذا مات وثبت الملك للوارث سمّي يقيناً العقد يكون الاستحقاق واقعاً على الوارث فيكون خلاف ما وقع عليه العقد ابتداء، فأما إذا لم يقع له العقد لو يقيناً أو العقد بعد موته يكون الاستحقاق على وفاق ما وجد العقد؛ لأن المستحق عليه قائم وكذا المستحق وكذلك المتولي في الوقف إذا عقد ثم مات؛ لأن حكم العقد لم يقع له فموته لا يغير حكمه.
وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده في آخر شرح كتاب «التحري» : إن من أجر ملك الغير ومات الآجر قبل إجارة المالك أنه تنفسخ الإجارة كما في بيع العين، فإن وقعت الإجارة على شيء بعينه فهلك ذلك الشيء بطلت الإجارة بهلاكه؛ لأن المعقود عليه قد هلك وهلاك المعقود عليه يوجب بطلان العقد.
وإن وقعت الإجارة على دابة بغير عينها بأن استأجر رجلاً حتى يحمل هذا المتاع على إبل فهو جائز؛ لأن المعقود عليه الحمل، وإنه معلوم والإبل آلة الحمل وتعيين آلة الحمل ليس بشرط ثم إذا جاز هذا العقد، وجاء الآجر بإبل ودفعه إلى المستأجر، فمات في يده فعلى الأجير أن يأتي بغير ذلك ليحمل المتاع، وليس له أن يفسخ الإجارة بموت ما سلم؛ لأن المعقود عليه هاهنا إذا لم يعيّن الدابّة فعل الحمل وفعل الحمل كان واجباً عليه في الذمّة، والإبل آلة إيفاء ذلك فإذا هلكت بقي الإيفاء مستحقاً عليه في ذمته كما في الابتداء، فأما إذا عيّن الإبل فالمعقود عليه منفعة دابة بعينها، فإذا هلكت بطل العقد ضرورة.

(7/509)


وإذا قال الآجر للمستأجر بع المستأجر فقال:.... لا تنفسخ الإجارة ما لم يبع؛ لأن قوله: بع ليس بصريح في الفسخ بل هو وكيل بالبيع والفسخ من ضرورات البيع فما لم يبع لا يثبت ما هو من ضروراته، وحكي عن بعض المشايخ أن الآجر إذا قال للمستأجر: بع المستأجر من فلان فباعه من غيره جاز.
ولو كان مكان الإجارة رهناً فقال الراهن للمرتهن: بع الرهن من فلان فباع من غيره لا يجوز.
والفرق: إن ثمن الرهن رهن والناس يتفاوتون في اليسار والعسار ولا كذلك ثمن المستأجر، وفي الإجارة الطويلة إذا قال المستأجر للآجر: ما لا حازت يده فقال: بدرهم ينفسخ العقد، وإن لم يدفع وكذلك في باب البيع إذا قال المشتري للبائع: بعها، فقال البائع: هلا بدرهم ينفسخ العقد، إليه أشار محمد رحمه الله في الباب الرابع من «الزيادات» ، وعلى هذا قالوا: إذا قال المستأجر: للآجر في الإجارة الطويلة فإن أجازت يده فقال: روايا شد تنفسخ الإجارة، وفي الإجارة الطويلة إذا أخذ مال الإجارة من غير سابقة الطلب إن أخذ الكل تنفسخ الإجارة، وإن أخذ البعض دون البعض.

قال بعض مشايخنا: إن أخذ الأكثر ينفسخ العقد، وإن أخذ الأقل لا ينفسخ وبه كان يفتي الصدر الشهيد رحمه الله وقال بعضهم: لا ينفسخ العقد بأخذ البعض من غير تفصيل، وقال بعضهم: ينفسخ العقد بقدر ما أخذ.
وقال بعضهم: إن أخذ البعض بطريق الفسخ أي: بدلالة تدل على الفسخ ينفسخ العقد في الكل، وإن كان المأخوذ أقلّ وإن أخذ من غير دلالة تدل على الفسخ لا ينفسخ ما لم يأخذ الكل وبه كان يفتي الصدر الامام ظهير الدين المرغيناني.

وإذا بعت المستأجر إلى الآجر سيتم نفد شده است تابيالي ويكبري، فلما جاء المستأجر قال الآجر: قد أنفقت الدراهم على نفسي لا تنفسخ الإجارة وإذا قال المستأجر للآجر عند الفسخ: فسخت الإجارة في المحدود الذي استأجرته منك صح الفسخ وإن لم يذكر حدود المستأجر ولا أضاف المستأجر إلى القبالة، وكذلك إذا قال الآجر للمستأجر: فسخت الإجارة في المحدود الذي آجرته منك صح الفسخ.
وفي «فتاوى شمس الإسلام الأوزجندي» : رجل استأجر من رجلين داراً مشتركاً بينهما ثم دفع المفتاح إلى أحدهما وقبل هو انفسخت الإجارة في حصته؛ لأن دفع المستأجر المفتاح وقبول الآجر ذلك دلالة الفسخ والإجارة كما تنفسخ بصريح الفسخ تنفسخ بدلالة الفسخ.
ألا ترى أن المستأجر والآجر لو كانا واحداً ودفع المستأجر المفتاح إلى الآجر، وقبل الآجر ذلك تنفسخ الإجارة بينهما وطريقه ما قلنا.
وإذا باع الآجر المستأجر بغير إذن المستأجر نفذ البيع في حق البائع والمشتري، ولا ينفذ في حق المستأجر حتى لو سقط حق المستأجر يعمل ذلك البيع ولا يحتاج إلى تجديده.

(7/510)


وذكر الصدر الشهيد في الباب الأوّل من رهن «الجامع» في هذا الفصل روايتان، قال: والصحيح أنه لا يحتاج إلى تجديد البيع وإنما أجاز المستأجر البيع نفد البيع في حق الكلّ، ولكن لا تنزع العين من يد المستأجر إلى أن يصل إليه ماله، وإن رضي بالبيع واعتبر رضاه بالبيع تفسخ الإجارة لا للانتزاع من يده، وعن بعض مشايخنا أن الآجر إذا باع المستأجر بغير رضا المستأجر، وسلم ثم أجاز المستأجر البيع والتسليم بطل حقه في الحبس، وإذا باع الآجر بغير رضا المستأجر وأراد المستأجر فسخه فقد ذكرنا في كتاب البيوع أنه ليس له ذلك.

وذكر الصدر الشهيد في «الفتاوى الصغرى» : أن له ذلك في ظاهر الرواية، وفي رواية الطحاوي ليس له ذلك، وأحاله إلى رهن الجامع لشمس الأئمة الحلواني رحمه الله، وكان القاضي الامام الإسبيجابي يقول: ليس للمستأجر حق الفسخ وهو اختيار شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وهكذا ذكره نجم الدين النسفي رحمه الله في شرح «الشافي» والسيد الإمام أبو شجاع في رهن الجامع.

وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله في «شرح الجامع» : إن في المسألة روايتان في رواية ليس له ذلك، وإنه استحسان وعليه الفتوى وقد ذكرنا هذه المسألة في الفصل السابع، وإذا باع الآجر المستأجر برضا المستأجر حتى انفسخت الإجارة أو تفاسخا العقد، أو انتهت المدّة والزرع بقل وقد صار بحال يجوز بيعه بلا خلاف أو كان بحال في جواز بيعه اختلاف المشايخ، فهو للمستأجر، فلو أبرأ المستأجر الآجر عن جميع الخصومات والدعاوي، ثم أدرك الزرع ورفع الآجر الغلة فجاء المستأجر وادعى الغلة لنفسه وخاصم الآجر فيها هل تصح دعواه، وهل تسمع خصومته؟.
فقد قيل: ينبغي أن تسمع؛ لأن الغلة إنما حدثت بعد الإبراء فلا تدخل تحت الإبراء، ولو كان الآجر قد رفع الغلة ثم إن المستأجر أبرأه عن الخصومات والدعاوي، ثم ادعى الغلة بعد ذلك لا تسمع دعواه؛ لأن الغلة كانت موجودة وقت الإبراء فدخلت تحت الإبراء أكثر ما في الباب أن الغلة عين إلا أن الإبراء عن الأعيان، إنما لا تصح بمعنى أنه لا تصير العين ملكاً لمن وقع البراءة أما لا يصح دعوى المشتري العين بعد ذلك، وسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.

الفصل العشرون: في إجارة النباتِ والأمتعة والحلي (36أ4) والفسطاط وأشباهها
إذا استأجر الرجل ثوباً ليلبسه إلى الليل بأجر معلوم فهو جائز، وكذلك إذا استأجر دابة ليركبها إلى مكان معلوم فهو جائز، ولو لم يبين من يلبس أو من يركب لا يجوز.

وفرق بين هذا وبينما إذا استأجر عبداً للخدمة ولم يبين من يخدمه، أو استأجر داراً

(7/511)


للسكنى ولم يبين من يسكن حيث يجوز.
والفرق: وهو الناس لا يتفاوتون في اللبس والركوب تفاوتاً فاحشاً فإنّ ربّ إنسان يفسد الثوب إذا ألبسه يوماً كالجزار وآخر لا يفسده، وإن لبسه أياماً كالبزاز وربّ راكب يفسد الدابة إذا ركب عليها يوماً، وآخر لا يفسد إذا ركب عليها شهراً بل يصلحها، ولهذا يبذل الإنسان الأجر للرابض ولا يرضى ركوب غيره دابته، وإذا كان التفاوت فاحشاً كان جهالة الراكب واللابس مفضية إلى المنازعة المانعة من التسليم والتسلم؛ لأن صاحب الدابة يقول للمستأجر: استأجرته ليلبسه ويركبه المستأجر يقول: استأجرته لألبس وأركب غيري فإن ألبسه غيره فهو ضامن إن أصابه شيء، وإن لم يصبه فلا أجر عليه، أما الضمان إذا أصابه شيء، فلأن إلباس غيره لم يدخل تحت العقد؛ لأنه شرط لبسه وفقد هذا الشرط لما ذكرنا أن الناس يتفاوتون في اللبس، وأما عدم الأجر إذا لم يصبه شيء؛ لأنه استوفى فيما ليس بداخل تحت العقد أصلاً والمنافع لا تتقوم بدون العقد.
بيانه: أن التفاوت بين الملابس واللابس باختلاف الجنسين، فهو معنى قولنا: استوفى ما ليس بمعقود عليه، وإنه لا يوجب الأجر فرق بين هذا وبينما إذا استأجر قميصاً ليلبسه فأتزر به ولم يصب الثوب شيء فإنه يجب عليه الأجر استحساناً وقد صار مخالفاً حتى أنه إذا أصاب الثوب شيء، فإنه يضمن، وهاهنا قال: لا يجب الأجر.
والفرق: أن التفاوت الذي بين لبسه وبين إتزاره تفاوت يسير، فلم يلتحقا بجنسين مختلفين فكان موافقاً في أصل المعقود عليه مخالفاً في صفته، فلمكان الوفاق أوجبنا الأجر إذا لم يصبه شيء؛ لأنه استوفاه بحكم العقد ولمكان الخلاف أوجبنا الضمان متى هلك عملاً بهما، فأما التفاوت بين لبسه ولبس غيره تفاوت فاحش فالتحقا بالجنسين المختلفين، فما استوفاه إنما استوفاه بغير عقد؛ فلهذا لم يجب الأجر.

وفرق أيضاً: بين هذه المسألة وبينما إذا استأجر حانوتاً ليقعد فيه فاسياً فقعد فيه قصاراً وسلم الحانوت، فإنه يجب الأجر والتفاوت بين سكنى الفاسي وبين سكنى الحداد تفاوت فاحش ثم لم يجعل ما استوفى باعتبار التفاوت الفاحش جنساً آخر غير ما تناوله العقد.

والفرق: وهو أن في تلك العقد انعقد على شيئين على السكنى وعلى العمل، ولا تفاوت في السكنى إنما التفاوت في حق العمل، والعقد انعقد على السكنى، فصار مستوفياً ما تناوله العقد وزيادة واستيفاء الزيادة لا تمنع وجوب الأجر، فأما هاهنا العقد انعقد على شيء واحد وهو اللبس ولبس غيره من يلبسه جنس آخر على ما ذكرنا، فلم يستوف المعقود عليه أصلاً فلهذا لا يجب الأجر.
فإن قيل: يجب كأنه استوفى ما ليس بمعقود عليه إلا أنه كان متمكناً من استيفاء المعقود عليه بأن يلبس بنفسه والتمكن من استيفاء المعقود عليه، لا يمنع وجوب الأجر.
قلنا: التمكن من استيفاء المعقود عليه إن أوجب الأجر إذا لم تزل يد الإجارة، وكما ألبس غيره فقد زالت يد الإجارة، ألا ترى أنه يضمن وإن هلك الثوب لا من لبس

(7/512)


الغير، ولما زالت يد الإجارة فلم يوجد التمكن من الاستيفاء حال قيام الإجارة، فلهذا لم يجب الأجر.
ولو استأجر يوماً إلى الليل للبس ولم يبين اللابس أو استأجر دابّة يوماً إلى الليل للركوب ولم يبيّن الراكب حتى فسدت الإجارة، فاختصما إلى القاضي قبل أن يلبس هو أو يلبس غيره، فإن القاضي يفسخ الإجارة بينهما دفعاً للفساد ودفعاً للمعصية وإن لم يختصما حتى لبس هو يوماً إلى الليل، أو لبس غيره فالقياس أن لا تعود الإجارة جائزة ويجب عليه أجر المثل، وفي الاستحسان تعود جائزة ويجب المسمى؛ لأن المعقود عليه متعين حالة العقد من حيث الحكم، إن كان مجهولاً من حيث الحقيقة.

بيانه: وهو أن الإجارة يتجدد انعقادها ساعة فساعة على حسب حدوث المنافع، فحال ما يستوفي المنفعة يتجدد العقد والمعقود عليه متعين في تلك الحالة، فهو معنى قولنا: أن المعقود عليه متعين حالة العقد من حيث الحكم ولو كان متعيناً من حيث الحقيقة أليس، إنه يجوز العقد فكذا إذا كان متعيناً من حيث الحكم إذ المقصود، من العقد الحكم لا عينه ولا يصير المستأجر غاصباً الثوب بإلباسه غيره.
والفرق: أن الحاصل يجب العقد هاهنا إما بلبسه أو لبس غيره؛ لأنه استأجره للبس مطلقاً والجمع بين الأجرين في حالة واحدة متعذر، فيكون العقد متناولاً أحدهما، فإنهما مانعين كان هو الداخل تحت العقد، أما في المسألة الأولى الداخل تحت العقد لبسه، فأما لبس غيره فليس بداخل تحت العقد أصلاً فلهذا افترقا.
وإذا استأجر الرجل قميصاً ليلبسه يوماً إلى الليل بدرهم فلم يلبسه ووضعه في منزله حتى مضى اليوم فعليه الأجر.
كما لا فرق بين هذا وبينما إذا استأجر دابة ليركبها إلى مكان معلوم خارج المصر، فأمسكها في منزله في المصر حيث لا يجب الأجر، وقد تمكن من استيفاء المعقود عليه في الفصلين جميعاً، والفرق بناء على الأصل الذي تقدم ذكره في صدر الكتاب أن التمكن من استيفاء المعقود عليه، إنما يوجب الأجر إذا ثبت التمكن في المدّة التي ورد عليها العقد في المكان الذي أضيف إليه العقد.

وفي مسألة الثوب وجد التمكن بهذه الصّفة، أما في مسألة الدابة لم يوجد التمكن في المكان الذي أضيف إليها العقد خارج المصر ولا يثبت التمكن من استيفاء المنفعة خارج المصر، والدابة في المصر حتى لو وجد التمكن بهذه الصفة في مسألة الدابة، بأن ساق الدابة إلى ذلك المكان ولم يركبها نقول بوجوب الأجر.

قياس مسألة الدابة من مسألة الثوب، أن لو استأجرها ليركبها يوماً إلى الليل فحبسها في منزله ولم يركبها، وهناك يجب الأجر أيضاً ثم ذكر الضمان، وفرق فيه بين مسألة الثوب وبين مسألة الدابة، فقال: لو أمسك الثوب في منزله ولم يلبسه حتى هلك لا يصير ضامناً، وفي مسألة الدابة قال: يصير ضامناً.
والفرق في أن مسألة الدابة الإمساك حصل بإذن صاحب الدابة لأن صاحب الدابة

(7/513)


إنما أذن له بإمساك يجب به الأجر، وفي مسألة الدابة لا يجب بهذا الإمساك على ما ذكرنا، أما في مسألة الثوب هذا الإمساك حصل بإذن المالك؛ لأن الأجر يجب به فيكون حاصلاً بإذن المالك حتى أن في مسألة الدابة لو وجب الأجر بالإمساك في منزله، بأن استأجرها ليركبها يوماً إلى الليل نقول: لا يجب الضمان، إذا هلكت الدابة ولو لم يفعل ذلك ولكن ارتد لي به يوماً إلى الليل فعليه الأجر كاملاً ولا ضمان؛ لأن اللبس على سبيل الإرتداء في إفساد الثوب ليس فوق لبسه قميصاً بل هو مثله (36ب4) أو دونه، فإن كان مثله فقد استوفى المعقود عليه بكماله، وإن كان دونه فقد استوفى بعض المعقود عليه ويمكن من استيفاء الباقي، وفي مثل هذه الصورة يجب الأجر كاملاً ولا يجب الضمان، وإن لم يفعل ذلك ولكنه إئتزر يوماً إلى الليل فهو ضامن إن هلك الثوب في يده ولا أجر؛ لأنه ملكه بالضمان من حين إئتزر به وإن لم يهلك فالقياس أن لا يجب الأجر، وفي الاستحسان يجب.

وإذا استأجرت المرأة ذرعاً لتلبسه أياماً معلومة ببدل معلوم فهو جائز، ولها أن تلبسه النهار كله ومن الليل أوله وآخره تلبسه في طرفي الليل، ولا تلبس فيها بين ذلك إذا كان الثوب ثوب ضيافة وتجمل فقد جعل ما بين طرفي في الليل مستثنى مع أن اللفظ تناوله ظاهراً؛ لأن الأيام ذكرت باسم الجمع، فيتناول ما بإزائها من الليالي، إنما فعل هكذا بناء على الفرق، فإن العرف فيما بين الناس أنهم لا يلبسون ثوب الضيافة فيما بين طرفي الليل، والمعروف كالمشروط صريحاً، وإن لم يكن الثوب ثوب ضيافة وتجمل بأن كان ثوب بذلة ومهنة كان لها أن تلبس الليالي كلها لأن اللفظ تناول الليالي كما تناول الأيام ولا عرف بخلاف إذا كان الثوب ثوب بذلة ومهنة، فيعمل فيه لقبضه اللفظ.

فرع على ثوب الضيافة فقال: إذا لبسته الليل كله فتخرق وإن تخرق في الليل فهو ضامن، وإن تخرق في غير الليل بأن تخرق في الغد فلا ضمان، وإن صارت مخالفة باللبس في كل الليل؛ لأن الخلاف ارتفع إذا جاء الغد وعقد الإجارة باق فيعود أميناً كالمودع إذا خالف في الوديعة، ثم عاد إلى الوفاق فقد سوى في حكم البراءة عن الضمان بالعود إلى الوفاق بين المستأجر وبين المودع، وسيأتي الكلام فيه بعد هذا مع ما فيه من اختلاف المشايخ إن شاء الله تعالى.
r
قال: وليس له أن ينام فيه، يعني في ثوب الضيافة والمراد به النوم في النهار؛ لأنه ليس لها اللبس حالة اليقظة فيما بين طرفي الليل إذا كان الثوب ثوب ضيافة فحالة النوم أولى، فعلمنا أن المراد به النوم في النهار وإنما لم يكن لها ذلك؛ لأن اللبس حالة النوم في ثوب الضيافة صار مستثنى عرفاً؛ لأن اللبس حالة النوم أعنف بالثوب من اللبس حالة اليقظة؛ فإن فعلت ذلك يعني نامت فيه فتخرق الثوب من ذلك، فهي ضامنة وليس عليها أجر في تلك الساعة التي تخرق فيها؛ لأنها كانت غاصبة حال لبسها نائمة ولا أجر على الغاصب وعليها أجر ما قبله وما بعده، أما أجر ما قبله فلأنها استوفته بحكم العقد، وأما أجر ما بعده فلأنها لما انتهت فقد تركت الخلاف، وعقد الإجارة باقي فيعود أميناً وتكون

(7/514)


مستوفية بحكم الإجارة.
وطريق معرفة أجر تلك الساعة الرجوع إلى من يعرف الساعات حتى يقسم الأجر على الساعات فيعرف حق تلك الساعة من الأجر، هذا إذا كان الثوب ثوب ضيافة، فأما إذا كان ثوب بذلة كان لها اللبس حالة النوم، لأن ثوب البذلة يلبس حالة النوم عرفاً فلم يصير ذلك مستثنى عن الإجارة لا عرفاً ولا شرطاً.

ولو كانت استأجرته لمخرج يخرج به يوماً بدرهم فلبسته في بيتها فعليها الأجر، لأن اللبس وجد فيما قدر به المعقود عليه؛ لأن المعقود عليه مقدر باليوم لا بالمكان؛ لأنه لم يسم المكان الذي يخرج إليه فلم يصح لتقدير المعقود عليه فكان المعقود عليه مقدراً باليوم، وصار ذكر الخروج في حق التقدير هو العدم بمنزلة كأنها استأجرته لتلبسه يوماً إلى الليل، ولم تقل لمخرج تخرج به وهناك إذا لبسته في بيتها كان عليها الأجر بخلاف ما إذا استأجر دابة ليركبها إلى مكان معلوم خارج المصر فركبها في منزله حيث لا يجب الأجر؛ لأن هناك ذكر مكاناً معلوماً ولم يذكر المدة والمكان المعلوم يصلح لتقدير المعقود عليه، فصار المعقود عليه مقدراً بالمكان ولم يوجد الاستيفاء فيه، أما هاهنا بخلافه حتى أنه لو استأجر الدابة ليركبها يوماً إلى الليل، ولم يسم المكان إذا ركبها في منزله يجب الأجر كاملاً كما في مسألتنا، ولو ضاع الثوب منها في اليوم فلا أجر عليها؛ لأن الضياع حال بينها وبين الانتفاع بالثوب فيعتبر بما لو حال بينها وبين الانتفاع به غصب غاصب.

وإن اختلفا في الضياع فقال رب الثوب: لم يضع في اليوم، وقالت هي بل ضاع في اليوم، فإنه يحكم الحال إن كان في يدها وقت المنازعة، فالقول: قول رب الثوب مع يمينه، وإن لم يكن في يدها وقت المنازعة فالقول: قولها هذا إذا ضاع ثم وجد، وإن لم يوجد لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في «الكتاب» وينبغي أن يكون القول قولها أيضاً؛ لأنها تنكر وجوب الأجر وإن سرق الثوب منها فلا ضمان بخلاف الأجير المشترك إذا سرق العين من يده، فإنه يضمن على قولهما.

والفرق: أن مستأجر الثوب فلم يقبض عامل لرب المال؛ لأن ما يستفيد رب الثوب من المنفعة بقبض المستأجر الثوب أكثر مما يستفيده المستأجر؛ لأن صاحب الثوب يستفيد العين وهو الأجرة والمستأجر يستفيد المنفعة والعين خير من المنفعة فجعل المستأجر في القبض عاملاً لنفسه فأشبه المودع والوديعة إذا سرقت من يد المودع لاضمان عليه، أما أجير المشترك في القبض عامل لنفسه؛ لأن ما يستفيد من المنفعة بسبب هذا القبض أكثر مما يستفيده صاحب المال لأن الأجير يستفيد به عيناً، وصاحب الثوب يستفيد به المنفعة فجعل قابضاً لنفسه، فأشبه الغاصب ولو تخرق الثوب من لبسها فلا ضمان عليها وإن حصل الهلاك بجناية يدها بخلاف الأجير المشترك إذا هلك المال من جناية يده حيث يضمن.
والفرق: أن في مسألتنا الهلاك حصل من عمل ليس بإزائه أجر؛ لأن الفساد حصل من اللبس والأجر ليس بإزاء اللبس بل بإزاء تسليم الثوب للبس، ألا ترى أنه إذا سلم

(7/515)


الثوب يستحق الأجر لبست أو لم تلبس والهلاك متى حصل من عمل ليس بإزاء أجر لا يجب الضمان على العامل متى عمل كالعين وأجير الوحد إذا رق وتخرق، أما في الأجير المشترك الهلاك حصل من عمل بإزائه أجر، لأن الهلاك حصل من عمل بإزائه أجر؛ لأن الهلاك حصل من عمل الرق والأجير المشترك لا يستحق الأجر إلا بالرق، فصار الأجير المشترك معارضاً ومطلق المعارضة تقتضي السلامة عن العيب كما في بيع العين.

وإذا استأجر الرجل قبة لينصبها في بيته ويبيت فيها شهراً بخمسة دراهم فهو جائز، وإن لم يسم مكان النصب لأن جهالة مكان النصب؛ لا يوقعها في المنازعة، لأن الأمكنة لا تتفاوت في حق الضرر بالغير تفاوتاً معتبراً أو إن نصبها في الشمس والمطر، وكان على القبة في ذلك ضرر فهو ضامن لأن النصب في الشمس والمطر مستثنى من الإجارة عرفاً، لأن الشمّس والمطر يضران بالقبة، ولو شرط أن ينصبها في دار فنصبها في دار أخرى من قبيلة أخرى، ولكن في ذلك المصر فلا ضمان، فرق بين هذا وبينما إذا أودع عند إنسان شيئاً وشرط عليه أن يحفظه في دار فحفظه في دار أخرى من ذلك المصر فإنه يضمن.

والفرق: أن المقصود من الإيداع الحفظ والتحصين والداران متفاوتان في الحرز والتحصين، أما المقصود من الإجارة الانتفاع دون الإحراز والتحصين وفي حق الانتفاع. (37أ4) بالأمكنة على السواء، فإن أخرجها إلى مصر، أو إلى السواد فلا أجر عليه سلمت القبة أو هلكت؛ لأنه استوفى ما لم يتناوله العقد؛ لأن الانتفاع به خارج المصر مما يلحق بالمالك ضرراً كثيراً وهو مؤنة الرد فبحكم كثرة الضرر التحق الانتفاع خارج المصر بجنس آخر.

فهو معنى قولنا: استوفى ما لم يتناوله العقد والمنافع لا تتقوم بدون العقد، ولو استأجر فسطاطاً يخرج به إلى مكة يستظل به بنفسه وبغيره لعدم تفاوت الناس فيه، وإن أسرج في الخيمة أو في الفسطاط أو القبة أو علق به فإنه يجوز وله أن يستظل به بنفسه قنديلاً فأفسد فلا ضمان عليه؛ لأنه صنع ما يصنع الناس فكان داخلاً تحت العقد فإن جاوز المعروف المعتاد فهو ضامن، وإن اتخذ فيه مطبخاً فهو ضامن؛ لأنه صنع ما لا يصنع الناس عادة إلا أن يكون معداً لذلك العمل، ولو استأجر فسطاطاً لما يخرج به إلى مكة ذاهباً وجائياً ويحج به ويخرج في يوم كذا فهو جائز، وإن لم يبّين متى يخرج فإن لم يكن لخروج الحاج وقت معلوم بحيث لا يتقدم خروجهم عليه، ولا يتأخر عنه فالإجارة فاسدة قياساً واستحساناً، وإن كان لخروجهم وقت معلوم بحيث لا يتقدم ولا يتأخر، فالإجارة جائرة استحساناً؛ لأن المعلوم عرفاً كالمعلوم شرطاً.
وإن تخرق الفسطاط من غير عنف، ولا خلاف فلا ضمان وإن لم يتخرق ولكن قال المستأجر: لم أستظل تحته ولم أضربه وقد ذهب به إلى مكة فعليه الأجر؛ لأنه تمكن من استيفاء المعقود عليه في المكان الذي أضيف إليه العقد، ولو انقطع أطنابه أو انكسر عوده فلم يستطيع نصبه فلا أجر عليه، ولو اختلفا فيه فهذا على وجهين، إما أن يختلفا في مقدار الانقطاع مع اتفاقهما على أصل الانقطاع، وفي هذا الوجه القول قول المستأجر

(7/516)


وإن اختلفا في أصل الانقطاع.
ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» : أنه يحكم الحال كما لو وقع هذا الاختلاف في انقطاع الماء في إجارة الرحى، وسيأتي الكلام فيه بعد هذا إن شاء الله تعالى هكذا ذكر وهذا الجواب مشكل في مسألة الفسطاط ظاهر في مسألة الرحى؛ لأن الماء قد ينقطع ثم يعود فيمكن تحكيم الحال أما الإطناب إذا انقطع أو العود إذا انكسر يبقى إلى وقت الخصومة كذلك، فكيف يستقيم تحكيم الحال، فإن كان المستأجر اتخذ أطناباً من عند نفسه أو عموداً من عند نفسه ونصبه حتى رجع فعليه الأجر كله؛ لأنه استوفى المعقود؛ لأن المعقود عليه في إجارة الفسطاط السكنى، وقد سكن فيه ولو انكسر الأوتاد فلم يقدر على نصبه حتى رجع فعليه الأجر كله، فرق بين الأوتاد وبين الأطناب والعمود.

والفرق: أن الأوتاد على المستأجر فلم يعجز عن الانتفاع بالفسطاط، أما العمود والأطناب على الآجر، فقد عجز المستأجر عن الانتفاع بالفسطاط، وإذا أوقد ناراً في الفسطاط كان كالسراج، إن أوقد مثل ما يوقد الناس عرفاً وعادة في الفسطاط وأفسد الفسطاط أو أحرق الفسطاط فلا ضمان، وإن جاوز المتعارف فهو ضامن فبعد ذلك ينظر إن أفسد كله بحيث لا ينتفع به ضمن قيمة الكل ولا أجر عليه، وإن أفسد بعضه لزمه ضمان النقصان وعليه الأجر كملاً، إذا كان قد انتفع بالباقي، لأن فساد البعض أوجب نقصاناً في الباقي، فإذا استوفاه مع النقصان صار راضياً بالعيب فيجب عليه جميع الأجر كما لو استأجر داراً فانهدم حائط منها، وأوجب نقصاناً في الباقي فسكن كذلك كان عليه جميع الأجر كذا هاهنا وإن لم يفسد شيء منه وسلم، وكان جاوز المعتاد فالمسألة على القياس والاستحسان، القياس أن لا يجب الأجر.

وفي الاستحسان يجب وقد مر جنس هذه المسألة، وإن شرط رب الفسطاط على المستأجر أن لا يوقد فيه ولا يسرج فيه ففعل فهو ضامن وعليه الأجر كملاً إذا سلم الفسطاط؛ لأنه استوفى المعقود عليه وزيادة وإن كان المستأجر لم يخرج بنفسه، فأراد أن يؤاجر الفسطاط من رجل يخرج إلى مكة أو أراد أن يغير ذلك فله ذلك في قول محمد وعلى قولهما ليس له ذلك، وإذا فعل فهو ضامن ولا أجر عليه.
محمد رحمه الله قال: الناس لا يتفاوتون في السكنى في الفسطاط فهو بمنزلة ما لو استأجر داراً أو منزلاً كان له أن يؤاجر من غيره؛ لأن الناس لا يتفاوتون في السكنى والدليل عليه أن من استأجر عبداً للخدمة في طريق مكة فأجره من غيره ليخدمه في طريق مكة أو أعاره منه، فإنه يجوز، إنما جاز لأن الناس لا يتفاوتون في الخدمة.
وهما قالا: إن الفسطاط والخيمة مما ينقل ويحول وينصب ويرفع والناس يتفاوتون في ذلك تفاوتاً فاحشاً ربّ إنسان ينقل الفسطاط شهراً ولا يفسده لمعرفته بنصبه وآخر ينقله أسبوعاً ويفسده لهيبة وقلة مرانه في نصبه ورفعه، وإذا كان فاحشاً منع الإجارة والإعارة من غيره.
كما لو كان المستأجر ملبوساً أو مركوباً بخلاف الدار؛ لأنها مما لا ينقل ولا يحول

(7/517)


ولا يرفع ولا ينصب وإنما يسكن فيها لا غير والناس لا يتفاوتون في ذلك تفاوتاً فاحشاً، إلا أن ما يلحقه من زيادة المشقة من جهة التالي يمكنه؛ لأنه حافظ نفسه، ولو أن المستأجر خلّف الفسطاط بالكوفة في بيته أو بيت غيره وخرج بنفسه فلا كراء عليه؛ لأنه لم يتمكن من استيفاء المعقود عليه في المكان الذي أضيف إليه العقد وهو ضامن لها بهذا الإمساك؛ لأن المالك لم يرض بإمساك لا يجب به الأجر والقول قول المستأجر مع يمينه في أنه لم يخرج الفسطاط؛ لأن حاصل اختلافهما في وجود التسليم في المكان الذي أضيف إليه العقد.

قال: ولو كان المستأجر دفع الفسطاط إلى رجل أجنبي ليدفعه إلى صاحب الفسطاط فدفعه ذلك الرجل إلى صاحبه فقد برئا جميعاً، وإن أبى صاحب الفسطاط أن يقبله فليس له ذلك؛ لأن لمستأجر الفسطاط أن يترك الفسطاط ولا يخرجه من الكوفة، كما أن له أن يترك إجارة البيت إذا أراد سفراً، فإن هلك الفسطاط عند هذا الرجل قبل أن يحمله إلى صاحبه.
ذكر أن على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: صاحب الفسطاط بالخيار إن شاء ضمن المستأجر، وإن شاء ضمن ذلك الرجل، ولم يذكر قول أبي حنيفة قالوا: وينبغي على قوله أن يقال: إن كان المستأجر دفع الفسطاط إلى ذلك الرجل قبل أن يصير المستأجر غاصباً، فإن أمسك الفسطاط قدر ما يمسكه الناس إلى أن يرتحل ويسوي أشبابه، إذا كانت الحالة هذه لاضمان على الثاني، لأنه مودع المودع بل أحسن حالاً من مودع المودع؛ لأن مودع المودع إنما أخذها ليحفظ للمودع وهذا إنما أخذ ليحفظ للمودع ويردها على المالك.
ومن مذهب أبي حنيفة رحمه الله: أن المودع الثاني لا يضمن إنما يضمن المودع الأول، فأما إذا أمسك المستأجر الفسطاط زيادة على ما يمسكه الناس حتى يصير غاصباً ضامناً له ثم دفع إلى الثاني يجبر المالك، إن شاء ضمن الأول وإن شاء ضمن الثاني؛ لأن الثاني يكون مودع الغاصب لا مودع المودع ومودع الغاصب (37ب4) ضامن عندهم جميعاً، فإن ضمن المستأجر فالمستأجر لا يرجع بذلك على ذلك الرجل، وإن ضمن ذلك الرجل يرجع على المستأجر.
قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا استأجر الرجلان أحدهما بصري والآخر كوفي فسطاطاً من الكوفة إلى مكة ذاهباً وجائياً بأجر معلوم وذهبا به إلى مكة واختلفا، فقال البصري: إني أريد أن آتي البصرة، وقال الكوفي: إني أريد أن أرجع إلى الكوفة وأراد كل واحد أن يذهب بالفسطاط إلى حيث قصد.

فهذا على وجهين: إما أن يذهب البصري بالفسطاط إلى البصرة أو يذهب الكوفي إلى الكوفة، وكل وجه من ذلك على وجهين، إما إن ذهب به بأمر صاحبه أو بغير أمره، فإن ذهب البصري بالفسطاط إلى البصرة إن ذهب به بغير أمر صاحبه فالبصري ضامن للفسطاط كله ولا ضمان على الكوفي وليس عليهما أجر الرجعة، أما البصري فيضمن جميع الفسطاط أما نصيبه؛ لأنه أمسكها في موضع لا يجب عليه الأجر بإمساكه؛ لأن

(7/518)


الإجارة عقدت على أن ينتفع بها في طريق الكوفة فإذا انتفع بها في طريق البصرة صار غاضباً.
وأما نصيب الكوفة؛ فلأنه صار غاضباً نصيب الكوفي لأنه ذهب بنصيبه بغير أمره فصار غاصباً نصيب الكوفي ولا أجر عليهما على الكوفي، لأنه غصب منه نصيبه وعلى البصري فلأنه أمسكها في موضع لم يأذن له صاحب الفسطاط بالإمساك فيه في طريق البصرة، فيصير ضامناً كما لو أمسكها بالكوفة هذا إذا ذهب به البصري إلى البصرة بغير أمر الكوفي فأما إذا ذهب به بأمر الكوفي، فالبصري يصير ضامناً لجميع الفسطاط، والكوفي يضمن نصيبه وهو النصف ولا أجر عليهما.
أما البصري يضمن جميع الفسطاط نصيبه؛ لأنه أمسكها في موضع لم يأذن له المالك بالإمساك فيه ونصيب الكوفي؛ لأنه مودع الكوفي إن لم يأذن له بالانتفاع بنصيبه والكوفي غاصب ومودع الغاصب ومستعيره ضامن، وإنما قلنا ذلك؛ لأن الكوفي لما دفع نصيبه إلى البصري حتى يمسكها في طريق البصرة صار غاصباً، بهذا التسليم؛ لأنه ليس له أن يسلم نصيبه إلى أحد حتى يمسكه في طريق البصرة أو ينتفع به، وإذا صار الكوفي غاصباً بهذا التسليم صار البصري مودع الغاصب أو مستعيره، وإنه ضامن في حق المالك، فصار البصري ضامناً جميع الفسطاط من هذا الوجه، ويضمن الكوفي النصف؛ لأنه لم يوجد منه سبب ضمان في نصيب البصري، إنما وجد منه سبب الضمان في نصيبه ولا أجر عليهما في الرجعة؛ لأنهما أمسكا الفسطاط في موضع لم يأذن لهما المالك بالإمساك فيه فلا يكون عليهما أجر هذا الذي ذكرنا إذا ذهب البصري بالفسطاط إلى البصرة، فأما إذا ذهب الكوفي إلى الكوفة بغير أمر البصري يضمن نصف الفسطاط وهو نصيب البصري فلا يضمن نصيبه وعليه نصف الكراء في الرجعة، ولا يجب على البصري شيء في الرجعة أما يضمن نصيب البصري، لأنه غصب من البصري نصيبه فيصير ضامناً نصيب البصري ولا يضمن نصيب نفسه؛ لأنه لم يمسكها في موضع لم يؤذن له بالإمساك فيه وعليه نصف الكراء؛ لأنه انتفع بنصيبه في طريق الكوفة ولا أجر على البصري في نصيبه في الرجعة؛ لأنه غصب من المستأجر هذا إذا ذهب الكوفي به إلى الكوفة بغير أمر البصري، فأما إذا ذهب به إلى الكوفة بأمر البصري فلا ضمان على البصري في نصيبه على قول محمد رحمه الله سواء أعار منه نصيبه أو أودعه بأن قال: انتفع به يوماً في نوبتك واحفظها يوماً في نوبتي، لأن من مذهب محمد رحمه الله أن لمستأجر الفسطاط أن يعيره من غيره، وأن يودع في المكان الذي أضيف إليه العقد ولا يصير ضامناً بذلك؛ لأنه يجب عليه الأجر بذلك.

وأما في قول أبي يوسف رحمه الله: فكذلك الجواب إن أودعها من الكوفي، لأن الفسطاط كان أمانة عندهما وكانا بمنزلة المودعين.
ومن مذهب أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: أن من أودع عند رجلين وديعة لما يقسم أو لا يقسم فأودع أحدهما نصيبه من صاحبه أنه لا يضمن عندهما، فهذا على ذلك.

(7/519)


فإن قيل: يجب أن يضمن البصري؛ لأن المستأجر شيء أودع ما استأجر من غيره يصير ضامناً فيجب أن يضمن البصري حصّته لمن دفع حصته إلى الكوفي وديعة.
قلنا: إنما يضمن بالإيداع إذا كان إيداعاً لا يجب الأجر بإمساك المودع كإمساكه الأجر لا يصير ضامناً، ويكون إمساك المودع كإمساكه والإيداع هاهنا حصل على وجه لا يجب الأجر بإمساك المودع؛ لأنه يمسكها في طريق الكوفة فإمساكه كإمساكه، وإن كان أعار نصيبه من الكوفي أو آخر يجب أن يضمن البصريّ نصيبه على قول أبي يوسف؛ لأنه ليس لمستأجر الفسطاط عند أبي يوسف أن يعير وأن يؤاجر من غيره، والكلام في وجوب الضمان على الكوفي نظير الكلام في وجوب الضمان على البصريّ وعليهما الأجر كملاً.

إن أودع البصريّ نصيبه؛ لأن إمساك الكوفي كإمساكه وإن كان أعار منه لا أجر على البصري؛ لأنه صار مخالفاً وإن ارتفعا إلى القاضي وقصّا عليه القصّة واختصما في ذلك، فإن القاضي إن شاء لم يلتفت إلى ما قالا ما لم يقيما بّينة على ذلك؛ لأنهما يريدان إيجاب حفظ على القاضي في مال الغائب، فكان للقاضي أن لا يلزم ذلك بمجرد قولهما لكن جاء بداية إلى القاضي وقال: وجدتها لقطة من هي بالإنفاق عليهما كان للقاضي أن لا يصدقه فيما قال ما لم يقم البينة، وإن شاء القاضي صدقهما فيما قالا، ثم هو بالخيار إن شاء ترك ذلك في أيديهما، وإن شاء فسخ الإجارة؛ لأن القاضي نصب ناظراً في مال الغائب فإن رأى القاضي النظر للغائب في فسخ الإجارة فسخ؛ لأنه لا يستحق على البصريّ الرجوع إلى الكوفة بسبب إجارته الفسطاط.
ألا ترى أنه في أول الأمر حين استأجر الفسطاط لو قال: أقعد بالكوفة ولا أخرج إلى مكة كان له ذلك، فكذلك إذا بلغ مكة إذا قال: لا أخرج إلى الكوفة كان ذلك عذراً له في فسخ الإجارة فكان له أن يفسخ الإجارة، فإن فسخ الإجارة وبعد هذا يؤاجر نصيب البصري من الكوفي إن رغب في إجارة نصيب البصري، حتى يصل إلى الغائب عين الفسطاط مع الأجر ويكون هذا أولى من الإجارة من غيره؛ لأن الرد على صاحب الفسطاط مع الأجر يحصل مع مختار صاحب الفسطاط، فكان أولى من الإجارة من غيره وتجوز هذه الإجارة عندهم جميعاً وإن أجر المشاع؛ لأن إجارة المشاع ممن يملك الانتفاع بالكل جائز عندهم جميعاً.
كما لو أجر من شريكه، وإن لم يرغب الكوفي في إجارة ذلك يؤاجر من غيره إن وجد، لأنه أنفع للغائب من أن يودعه، ولا يؤاجر وتجوز هذه الإجارة وإن أجر المشاع ممن لا يملك الانتفاع؛ لأنه قضى في موضع مختلف فيه فيفنذ قضاؤه بالكل، وإن لم يجد أحداً يؤاجر نصيبه يودع نصيب البصريّ من الكوفي إن رآه ثقة حتى يصل إلى المالك، وإن شاء ترك ذلك في أيديهما؛ لأن في الترك في أيديهما نظر للغائب؛ لأنه إن ذهب البصريّ بالفسطاط كان مضموناً على البصري لو هلك في يده ولو فسخت الإجارة، وبعث بها إلى صاحبه ربما يهلك في الطريق فلا يصل إلى صاحبه لا عينه ولا بدله، فإن مال إلى هذا وفيه نظر للغائب من وجه كان له ذلك.

(7/520)


وإذا تكارى الرجل فسطاطاً من الكوفة إلى مكة ذاهباً وجايئاً. (38أ4) ثم خرج به إلى مكة ثم خلفه بمكة ورجع فعليه الكراء ذاهباً، وهو ضامن لقيمة الفسطاط؛ لأنه أمسك الفسطاط في موضع لم يؤذن له بالإمساك فيه فيصير ضامناً فلو لم يضمنه صاحب الفسطاط ولم يختصما حتى حج من قابل فرجع بالفسطاط فلا أجر عليه في الرجعة؛ لأن العام الثاني غير داخل تحت الإجارة فلا يكون عليه أجر برجوعه في العام الثاني.

وروي عن الحسن البصري أنه قال: لا بأس بأن يستأجر حلي الذهب بالذهب وحلي الفضة بالفضة؛ لأن ما يبدل من الأجر ليس ببدل عن العين ليقال: بيع ذهب بذهب على وجه يعود ذهب إليه فيكون ربا بل الأجر بإزاء منفعة العين والمنفعة مع العين جنسان مختلفان، والربا لا تجري في مختلفين.
وهذا كما لو استأجر داراً فيها صفائح ذهب بذهب، فإنه يجوز وإنما جاز بالطريق الذي قلنا.
وإذا استأجرت المرأة حلياً معلوماً لتلبسه يوماً إلى الليل ببدل معلوم فحبسته أكثر من يوم صارت غاصبة، قالوا: وهذا إذا حبسته بعد الطلب أو حبسته مستعملة، فأما إذا حبسته للحفظ لا تصير ضامنة قبل وجود الطلب من صاحبها وذلك لأن العين تقع أمانة في يدها فلا يصير مضموناً إلا بالاستعمال أو بالمنع بعد وجود الطلب كالوديعة.
بخلاف المستعير، إذا أمسك العين بعد مضي المدة حيث يضمن؛ لأن هناك وجد الطلب من حيث الحكم، لأن من حكم الطلب وجوب الرد وقد وجب الرد عليه بعد مضي المدة، أما في الإجارة لم يوجد الطلب لا من حيث الحقيقة ولا من حيث الحكم ولم يوجد الاستعمال، فلهذا لا يجب الضمان.
m
والحد الفاصل بين الإمساك للحفظ وبين الإمساك للاستعمال أنه إذا أمسك العين في موضع لا يمسك للاستعمال في ذلك الموضع فهو حفظ فعلى هذا قالوا: إذا تسورت بالخلخال أو تخلخلت بالسوار أو تعمم بالقميص أو وضع العمامة على العاتق، فهذا كله حفظ وليس باستعمال؛ لأن الإمساك وجد في موضع لا يمسك للاستعمال فكان حفظاً وليس باستعمال فلا تضمن، وإن ألبست غيرها في ذلك اليوم فهي ضامنة ولا أجر عليها؛ لأن الناس يتفاوتون في لبس الحلي، وإن استأجره كل يوم بأجر مسمى فحبسته شهراً ثم جاءت به فعليها أجر كل يوم حبسته لأن الإمساك في كل يوم حصل بحكم الإجارة، وإن استأجرته يوماً إلى الليل فإن بدا لها حبسته كل يوم بذلك الأجر فلم ترده عشرة أيام، فالإجارة على هذا الشرط فيما عدا اليوم فاسدة قياساً؛ لأن الإجارة فيما عدا اليوم معلقة بالشرط وهو أن يبدو لها ذلك، وفي الاستحسان يجوز؛ لأن هذا شرط متعارف محتاج إليه، فإنها إذا أخرجت إلى العرض أو إلى وليمة لا يدري كم يبقى فيحتاج إلى مثل هذا الشرط لدفع الضرر والضمان وتعليق الإجارة بمثل هذا الشرط جائز أو نقول: الإجارة فيما عدا اليوم معلق بالمشيئة فكان تفسيراً للقبول، كأنه قال: أجرت فيما عدا اليوم الأول إن قلت: ألا ترى أن من قال لغيره: بعت مثل هذا العبد بألف درهم إن شئت جاز وكان

(7/521)


تفسيراً للقبول؛ لأن القبول لا يكون إلا عن مشيئة وصار كأنه قال: بعت منك هذا العبد بألف درهم إن قبلت وذلك جائز كذا هذا والله أعلم.

الفصل الحادي والعشرون: في إجارة لا يوجد فيها تسليم المعقود عليه إلى المستأجر
وفي كتاب «الواقعات» رجل دفع ثوباً إلى خياط ليخيطه فقطعه ومات قبل أن يخيطه؛ قال عيسى بن أبان: لا أجر له؛ لأن الأجر مقابل بالخياطة والقطع ليس من الخياطة ولهذا لو أراد المشتري أن يرجع بنقصان العيب بعد القطع قبل الخياطة، فقال البائع: أنا أقبله كذلك فله ذلك ولو كان القطع بين الخياطة لم يكن له ذلك كما لو خاطه، وقال أبو سليمان: له أجر القطع؛ لأن الأجر مقابل باتخاذ الثوب والقطع من جملته.
وعن أبي يوسف: فيمن استأجر دابة يذهب بها إلى منزله ويركبها إلى موضع قد سماه فدفعها إليه وذهب بها إلى منزله ثم بداله ذلك فردها فعليه من الأجر بحساب ذلك يعني بحساب ما ذهب إلى منزله.
وفي «نوادر ابن سماعة» : عن محمد في خياط خاط ثوب رجل بأجر قبل أن يقبض رب الثوب فلا أجر للخياط؛ لأنه لم يسلم العمل إلى رب الثوب ولا يجبر الخياط على أن يعيد العمل؛ لأنه أجير بحكم العقد الذي جرى بينهما، وذلك العقد قد انتهى بتمام العمل وإن كان الخياط هو الذي فتق، فعليه أن يعيد العمل وهذا؛ لأن الخياط لما فتق الثوب وقد نقض عمله وصار كأن لم يكن بخلاف ما إذا فتقه أجنبي؛ لأنها بفتق الأجنبي لا يمكن أن يجعل كأن الخياط لم يعمل أصلاً وكذلك الإسكاف على هذا.
وكذلك المكاري إذا حمل في بعض الطريق فخوفوه فرجع وأعاد الحمل إلى الموضع الأول لا أجر له هكذا ذكر في «الفتاوي» ولم يذكر الجبر على الإعادة وينبغي أن يجبر كما في المسائل المتقدمة ومسألة السفينة التي بعد هذا وكذلك الملاح إذا حمل الطعام إلى موضع سمي في العقد فصرف الريح السفينة وردها إلى مكان العقد فلا أجر للملاح إن لم يكن الذي اكتراها معه؛ لأن العمل لم يقع مسلماً إليه وإن كان معه فعليه الكراء؛ لأن العمل صار مسلماً إليه وإن لم يكن الذي اكترى معه حتى لم يجب الأجر لا يجبر الملاح على أن يعيد الحمل وإن كان الملاح هو الذي رد السفينة أجبر على الإعادة إلى الموضع المشروط لما قلنا: وإن كان الموضع الذي رجعت إليه السفينة لا يقدر رب الطعام على قبضه فيه، فعلى الملاح أن يسلمه في موضع يقدر رب الطعام على قبضه ويكون له أجر مثله فما سار من هذا المسير؛ لأنا لو صححنا التسليم وأجبرنا رب المال على القبض لتلف المال عليه وقد أمكن صون ماله مراعاة حق صاحب السفينة بإيجاب أجر المثل له، فإن قال الذي أكترى السفينة بعدما ردتها الريح: لا حاجة لي في سفينتك،

(7/522)


أنا أكتري غيرها فله ذلك رواه هشام عن محمد.

ولو اكترى بغلاً إلى موضع معلوم فركبه فلما سار بعض الطريق جمح به فرده إلى موضعه، فعليه الأجر بقدر ما سار؛ لأن بذلك القدر صار مستوفياً المنفعة بنفسه فإن قال المستأجر للقاضي: مر صاحب البغل فليبلغني إلى حيث استأجرته وله علي الذي شارطته عليه، قال: إن شاء الآجر فعل ذلك وإلا قيل للمستأجر: استأجره إلى المكان الذي بلغت ثم هو يحملك من ثمة إلى حيث استأجرته هكذا رواه هشام عن محمد، قال: وعلى هذا السفينة.
قال في «الجامع الصغير» : وإذا استأجر الرجل رجلاً ليذهب إلى البصرة ويجيء بعياله، فوجد بعضهم ميتاً وجاء بمن بقي فله من الأجر بحسابه؛ لأنه أوفاه بعض العمل فيجب من الأجر بحساب ذلك.

حكي عن الفقيه أبي جعفر رحمه الله أنه قال: تأويل المسألة إذا كانت المؤنة قبل نقصان العدد أما إذا كانت مؤنة البعض ومؤنة الكل سواء يجب جميع الأجر، قال: وفيه أيضاً: رجل استأجر رجلاً ليذهب بكتاب له إلى البصرة إلى فلان ويجيء بجوابه فذهب فوجد فلاناً قد مات فرد الكتاب فلا أجر له وهذا قول أبي حنيفة.
وقال محمد: له أجر الذهاب وقول أبي يوسف مضطرب واعلم بأن ها هنا مسألتان (38ب4) .
أحدهما: إذا استأجر رجلاً ليذهب بكتاب له إلى البصرة إلى فلان ولم يشترط عليه المجيء بجوابه.
والثانية: أن يشترط عليه المجيء بجوابه، ومحمد رحمه الله ذكر في «الكتاب» ما إذا شرط عليه المجيء بالجواب ولم يذكر ما إذا لم يشترط عليه المجيء بالجواب ولا بد من ذكرهما فنقول فيما إذا لم يشترط عليه المجيء بجوابه: إذا ترك الكتاب ثمة حتى يوصل إليه إذا حضر بأن كان غائباً وإلى ورثته بأن كان ميتاً، فإنه يستحق الأجر كملاً؛ لأنه أتى بأقصى ما في وسعه إذ لا وسع له في الاتصال بأبلغ من هذا الوجه إذا وجد المرسل إليه غائباً أو ميتاً.
وكذلك إذا وجد المرسل إليه ودفع الكتاب إليه، فلم يقرأ حتى عاد من غير جواب فله الأجر؛ لأنه أتى بالمشروط عليه وإن لم يجده أو وجده ولكن لم يدفع الكتاب إليه بل رد الكتاب، فعلى قول أبي حنيفة لا أجر له، وقال محمد: له الأجر في الذهاب، وقول أبي يوسف يضطرب.
وأجمعوا على أنه إذا استأجره ليذهب بطعام له إلى البصرة إلى فلان فذهب ولم يجد فلاناً أو وجده ولكن لم يدفع الطعام إليه بل رده أنه لا أجر له.
وأجمعوا على أنه إذا استأجره ليبلغ رسالته إلى فلان بالبصرة فذهب الرجل ولم يجد المرسل إليه أو وجده إلا أنه لم يبلغه الرسالة ورجع أن له الأجر.
وأجمعوا على أنه لو ذهب إلى فلان بالبصرة ولم يذهب بالكتاب أنه لا أجر له

(7/523)


وفيما إذا شرط المجيء بجوابه إذا دفع إلى فلان وأتى بالجواب، فله الأجر كاملاً؛ لأنه أوفى جميع المعقود عليه، ولو كان المكتوب إليه غائباً فدفع إلى آخر ليدفعه إليه أو دفع المكتوب إليه، فلم يقرأ ورجع هذا الرجل فله أجر الذهاب؛ لأنه استؤجر لإيصال الكتاب إليه وللمجيء بالجواب وقد وجد الاتصال بقدر الإمكان ولم يوجد المجيء بالجواب فيجب أجر الاتصال ولو مزق الكتاب.
ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» : أن عليه أجر الذهاب في قولهم ولا يفتى به؛ لأنه قد أبطل عمله حيث مزقه وإن رد الكتاب، قال أبو حنيفة: لا شيء له من الأجر وقال محمد: له أجر الذهاب وقول أبي يوسف مضطرب، محمد رحمه الله يقول: رد الكتاب حصل بإذن المستأجر؛ ولأنه فلا يسقط له الأجر كما لو أذن له بذلك نصاً بأن قال: إن لم تجد فلاناً فأت إلي بالكتاب وإنما قلنا ذلك؛ لأنه ربما يكون في الكتاب سراً لا يرضى المرسل بأن يطلع عليه غير المرسل إليه ومتى ترك الكتاب ثمة ربما يفتحه غيره فيطلع عليه فبهذا الاعتبار يصير مأموراً برد الكتاب متى لم يجد فلاناً وربما لا يكون فيه سر فيكون مأموراً بالترك هناك إذا لم يجده حتى يوصل إليه إن كان غائباً وإلى ورثته إن كان ميتاً.
فإذا لم ينص صاحب الكتاب على الترك ثم ولا على الرد ثانياً دخل كلا الأمرين تحت الإذن، كما في الرسالة فإن الرسول يكون مأموراً بترك التبليغ إلى غير المرسل إليه بأن يكون سراً لا يرضى أن يطلع عليه غير الرسول والمرسل إليه، وربما لا يكون سراً فيكون مأموراً بالتبليغ إلى غير المرسل إليه إذا لم يجده حتى يبلغ إليه متى حضر فيحصل مقصود المرسل فدخل كلا الأمرين تحت الإذن فكذلك هذا، وإذا كان كذلك صح قولنا: إن رد الكتاب حصل بإذن المستأجر دلالة.

وهذا بخلاف ما لو كان المستأجر شيئاً له حمل ومؤنة، فلم يحمل المرسل إليه فرد ثانياً؛ لأنه غير مأمور بهذا الرد من جهة المالك لا نصا ولا دلالة؛ لأنه لا ضرر عليه متى ترك المحمول على يدي عدل حتى يوصله إليه فلم يثبت الإذن بالرد دلالة بل الثابت دلالة من جهته النهي عن الرد حتى لا يضيع ما لحقه من المؤنة بخلاف الكتاب؛ لأنه ربما يكون فيه سراً لا يرضى بأن يطلع غيره عليه، فإذا لم يأمره بالترك هناك يثبت الإذن بالرد إليه ثانياً فبهذا تعلق محمد رحمه الله وإنه واضح.

وأبى أبو حنيفة رحمه الله ذلك في ذلك إلى أن الرد حصل بغير إذن المالك نصاً ولا دلالة فلا يستحق الأجر قياساً على ما لو أمره بالترك هناك إذا لم يجده وإنما قلنا: إنه حصل بغير إذنه نصاً؛ لأنه أمره بالاتصال إليه لا بالرد ولا دلالة لأن الإذن بالرد لو ثبت دلالة إنما يثبت ليوهم أن يكون في الكتاب سر لا يرضى أن يطلع عليه غيره ولا يجوز أن يثبت الإذن بالرد دلالة من جهة المالك بهذا؛ لأن الحال لا إما أن يكون الكتاب مختوماً أو غير مختوم، فإن كان مختوماً يجد عدلاً لا يفتح الختم فلا يطلع على ما فيه غير المرسل إليه وإن كان غير مختوم لا يكون فيه سراً فإذا أفشى السر لا يتحقق بالترك هناك فلا يثبت الإذن بالرد دلالة بهذا السبب ولم يأذن له بالرد نصاً فكان الرد حاصلاً بغير إذنه

(7/524)


وليس كالرسول وذلك؛ لأن الرجوع فبلغ التبليغ إلى غير المرسل إليه حصل بإذن المرسل دلالة وذلك؛ لأنه ربما تكون الرسالة سراً لا يرضى المرسل بأن يطلع عليه أحد ولا يمكنه التبليغ إلى المرسل إليه بحيث لا يطلع عليه غير المرسل إليه، فيصير مأذوناً بالرجوع من غير تبليغ إلى غير المرسل دلالة فأما التبليغ في باب الكتاب بقدر الإمكان بأن يترك الكتاب ثمة ممكن من غير إفشاء ما فيه من السر بأن كان مختوماً، وإن كان غير مختوم فلا يكون فيه سر فلا يثبت الإذن بالرد دلالة، فيكون الرد بغير إذن المالك فلا يستوجب الأجر كما لو كان المحمول شيئاً له حمل ومؤنة.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في شرح إجارات «الأصل» : وينبغي أن لا يسلم فصل الرسالة على مذهب أبي حنيفة رحمه الله ثم الأجير يستحق الأجر على المرسل لا على المرسل إليه؛ لأن الأجر إنما يستحق على العاقد والعاقد هو المرسل لا على المرسل إليه.

وذكر الشيخ الإمام فخر الإسلام علي البزودي رحمه الله هذه المسألة في تطبقه، وذكر قول أبي يوسف مع محمد في «نوادر هشام» عن محمد رحمه الله رجل تكارى سفينة على أن يذهب بها إلى موضع كذا فلم يجد ذلك الشيء ثم رجع قال: يلزمه كراء السفينة في الذهاب فارغة فإن قال: اكتريتها منك على أن تحمل لي الطعام من موضع كذا إلى ها هنا فذهب بها فلم يجد الطعام فرجع بالسفينة فلا شيء له من الكراء.
وروى إبراهيم: رجل استأجر دابة من بغداد ليذهب بها إلى المدائن ويحمل عليها طعاماً من المدائن، فذهب فلم يجد الطعام فإن على المستأجر أجر الذهاب، ولو استأجرها ليحمل عليها من المدائن ولم يستأجرها ليذهب من موضع العقد وباقي المسألة بحاله فإنه لا أجر عليه في الذهاب أيضاً.

والفرق: أن في المسألة الأولى العقد انعقد على شيئين على الذهاب إلى ذلك الموضع والحمل منه إلى ها هنا، وقد ذهب إلى ذلك الموضع فقد استوفى بعض المعقود عليه فيجب الأجر بحصته.
وفي المسألة الثانية: العقد انعقد على شيء واحد وهو الحمل من ذلك الموضع إلى ها هنا ولم ينعقد على الذهاب إلى ذلك الموضع، لأن الذهاب غير مذكور ولم يوجد حمل الطعام من ذلك الموضع فلم يوجد استيفاء المعقود عليه أصلاً فلهذا لا يجب شيء من الأجر.
وعلى هاتين المسألتين قسنا مسألة صارت واقعة للفتوى.
وصورتها: رجل اشترى من آخر شجراً في قرية واستأجر أجيراً لقلعها، وذهب إلى موضع الشجرة ثم إن البائع مع المشتري تقايلا البيع في الشجرة ولم يتهيأ (39أ4) قطع الشجرة هل يجب للأجير أجر الذهاب؟.
فقلنا: إن استأجرا الأجير ليذهبوا إلى موضع الشجرة ويقلعوها فلهم أجر الذهاب؛ لأن العقد انعقد على شيئين على الذهاب والقلع، وإن استأجرهم لقلع الشجرة ولم يتعرض للذهاب في العقد فلا أجر لهم.

(7/525)


وفي «النوازل» : رجل اشترى دابة إلى بلدة ليحمل من هناك حمولاً به، فجاء المكاري فقال: ذهبت فلم أجد الحمل فإن صدقه المستكري في ذلك فعليه أجر الذهاب خالياً من غير حمل وقوله: إلى بلدة كذا بمنزلة قوله: ليذهب بها إلى بلده كذا.
وفي «فتاوى الفضلي» : استأجر دابة في المصر ليحمل الدقيق من الطاحونة أو ليحمل الحنطة من قرية كذا فذهب فلم يجد الحنطة طحنت أو لم يجد الحنطة من القرية، فعاد إلى المصر ينظر إن كان قال: استأجرت منك هذه الدابة من هذه البلدة حتى أحمل الدقيق من طاحونة كذا يجب نصف الأجر؛ لأن الإجارة وقعت صحيحة من البلدة إلى الطاحونة من غير حمل شيء فيجب نصف الأجر بالذهاب ثم الإجارة من الطاحونة إلى البلدة إنما كانت بشرط حمل الدقيق ولم يوجد فلا يجب الأجر، فأما إذا كان قال: استأجرت منك هذه الدابة بدرهم حتى أحمل الدقيق من الطاحونة فها هنا لا يجب الأجر في الذهاب.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : استأجر رجلاً ليذهب إلى موضع كذا ويدعو فلاناً بأجر مسمى فذهب الرجل إلى ذلك الموضع فلم يجد فلاناً يجب الأجر.
وفي «فتاوى الأصل» : استأجر رجلاً ليقطع له الأشجار في قرية بعيدة ولم يتعرض للذهاب والمجيء فلا أجر على المستأجر في ذهابه ومجيئه؛ لأن المعقود عليه العمل وهو قطع الأشجار ولم يعمل في ذهابه ومجيئه.

الفصل الثاني والعشرون: في بيان التصرفات التي يمنع المستأجر عنهاوالتي لا يمنع وفي تصرفات الآجر
وإذا استأجر داراً أو بيتاً ولم يسم الذي يريدها له حتى صارت الإجارة استحساناً لا قياساً على ما مر قبل هذا كان للمستأجر أن يسكنها وأن يسكنها من شاء؛ لأن الإجارة انصرفت إلى السكنى عرفاً ولو انصرفت إلى السكنى نصاً كان له أن يسكنها وأن يسكنها من شاء؛ لأن الناس لا يتفاوتون في السكنى ولو وقع التفاوت كان يسيراً فلا يعتبر وله أن يضع متاعه فيها. لأن هذا من جملة السكنى وله أن يربط فيها دوابه.

قال مشايخنا رحمهم الله: إنما يكون له ولاية ربط الدواب فيها إذا كان فيها موضعاً معداً لربط الدواب فأما إذا لم يكن فليس له ولاية ربط الدواب، وما ذكر في «الكتاب» فهو بناء على عرف ديارهم؛ لأن في ديارهم الربط يكون في الدار لسعة دورهم، أما في ديارنا فبخلافه وله أن يعمل فيها ما بدا له من العمل مما لا يضر بالبناء ولا يوهنه نحو الوضوء وغسل الثياب أما كل عمل يضر بالبناء ويوهنه نحو الرحى والحدادة والقصارة، فليس له ذلك إلا برضا صاحبه؛ لأن كل عمل هذا حاله فهو مستثنى عن الإجارة بحكم العرف فيعتبر ما لو كان مستثنى عن الإجارة بحكم الشرط.

(7/526)


يوضحه: أن الإجارة وضعت للانتفاع مع بقاء العين مما يؤدي إلى فساد العين لا يكون داخلاً تحت الإجارة.
بعض مشايخنا قالوا: أراد بالرحى رحى الماء ورحى الثور لا رحى اليد، وبعض مشايخنا قالوا: يمنع عن الكل، وبعضهم قالوا: إن كان رحى اليد يضر بالبناء يمنع عنه وإلى هذا مال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله وعليه الفتوى.
وأما كسر الحطب فيها فقد ذكر بعض مشايخنا أنه لا يمنع عن المعتاد؛ لأنه من جملة السكنى وبعضهم قالوا: يمنع ويؤمر بالكسر خارج الدار؛ لأنه يؤثر في البناء والبناء لا محالة فلو أنه أقعد فيه قصاراً أو حداداً أو عمل ذلك بنفسه، فانهدم شيء من البناء ضمن قيمة ذلك لأن الانهدام أثر للحدادة والقصارة لا أثر السكنى؛ لأن مجرد السكنى لا يؤثر في الانهدام فيضاف بالانهدام على الحدادة والقصارة وإنها ليست بداخله تحت العقد فيكون متعدياً فيها فيضمن ما تلف بها ولا أجر عليه فيما ضمن؛ لأن الأجر مع الضمان لا يجتمعان وإن لم يهدم شيء من البناء من عمل الحدادة والقصارة لا يجب الأجر قياساً؛ لأن عمل الحدادة والقصارة غير داخل تحت العقد صار الحال فيه بعد العقد والحال قبل العقد سواء ويجب الأجر المسمى استحساناً؛ لأن المعقود عليه السكنى.

وفي الحدادة سكنى وزيادة فقد استوفى المعقود عليه وزيادة فهو بمنزلة ما لو استأجر دابة ليحمل عليها عشرة مخاتم حنطة فحمل أحد عشر وسلمت الدابة وهناك يجب الأجر كذا ها هنا فإن اختلف الآجر والمستأجر في ذلك فقال المستأجر: استأجرت للحدادة وقال الآجر: أجرت للسكنى دون الحدادة فالقول قول الآجر، لأنه لو أنكر الإجارة أصلاً كان القول قوله، فكذا إذا أنكر الإجارة في نوع دون نوع؛ ولأن الحدادة والقصارة مما لا يستحق بمطلق العقد وإنما يستحق بالشرط والمستأجر يدعي زيادة شرط على مطلق العقد والآجر ينكر والقول قول المنكر وإن أقاما البينة فالبينة بينة المستأجر لأن المستأجر يثبت زيادة شرط.
ومما يتصل بهذه المسألة: إذا استأجر الرجل من آخر داراً على أن يقعد فيها حداداً فأراد أن يقعد فيها قصاراً له ذلك إن كانت مضرتهما واحدة أو كانت مضرة القصارة أقل وكذلك الرحى على هذا وإنما كان كذلك؛ لأنه ليس في ذلك على صاحب الدار زيادة ضرر لم يرض به.
فإن قيل: ينبغي أن لا يكون له ذلك؛ لأن هذا خلاف من حيث الجنس، فإن الحدادة مع القصارة جنسان مختلفان ولا عبرة للضرر والمنفعة حالة الخلاف في الجنس.
ألا ترى إن وكل رجلاً بأن يبيع عبده بألف درهم فباع بألف دينار لم يجز؛ لأنه خالف الجنس، والجواب عنه أن المخالفة فيما يكن فيه في الصفة لا في الجنس؛ لأن أصل المعقود عليه في الموضعين جميعاً السكنى في الدار إلا أن صفة السكنى تختلف، والمخالفة متى كانت في الصفة لا في الجنس، فالعبرة في ذلك للضرر والمنفعة وكان بمنزلة ما لو وكله بأن يبيع بألف زيوف، فباع بألف جياد جاز ذلك.

(7/527)


قال: رجل تكارى منزلاً أو داراً من رجل على أن يسكن فيها فلم يسكنها ولكنه جعل فيها طعاماً حنطة وشعيراً وتمراً وغير ذلك وأراد رب الدار أن يمنعه قال: لأنه يخرب الدار فليس له ذلك.

علل وقال: لأن وضع هذه الأشياء من جملة السكنى الذي يرتفق الناس بها من المساكن، فيكون داخلاً تحت العقد فلا يكون لصاحب الدار أن يمنعه من ذلك كما لا يمنعه من السكنى.
رجل استأجر داراً أو حفر فيها بئراً للماء وليتوضأ فيها فعطب فيها إنسان ينظر إن كان حفر بإذن رب الدار فلا ضمان كما لو حفر رب الدار بنفسه وهذا؛ لأنه غير متعد في الحفر بإذن رب الدار؛ لأن لرب الدار حفره بنفسه فكان له الإذن بالحفر والتسبب إذا لم يكن متعدياً في التسبيب لا يضمن وإن كان قد حفر بغير إذن رب الدار فهو ضامن؛ لأنه متعد في الحفر بغير إذن رب الدار؛ لأنه حفر في موضع ليس له حق الحفر؛ لأن الحفر يصرف في رقبة الدار (39ب4) والمستأجر يملك التصرف في منفعة الدار لا في رقبته.

رجل استأجر من رجل حانوتاً وحانوتاً آخر من رجل آخر فنقب أحدهما إلى الآخر يرتفق بذلك فإنه يضمن ما أفسد من الحائط ويضمن أجر الحانوتين بتمامه، أما يضمن ما نقب من الحائط؛ لأنه نقب حائط غيره بغير أمره وعليه أجر الحانوتين كملاً، وإن ضمن بعض ما استأجر، فرق بين هذا وبين مسألة تأتي بعد هذا.
وصورتها: إذا استأجر بيتاً ولم يشترط أنه يقعد فيه قصاراً أو حداداً فقعد فيه قصاراً أو حداداً حتى انهدم البيت قال: يضمن ما انهدم ولا أجر عليه فيما ضمن فقد أسقط عنه أجر ما ضمن في تلك المسألة ولم يسقط شيئاً من الأجر ها هنا، وإنما فعل هكذا؛ لأن النقب في مسألتنا لم يضر بالسكنى.
ألا ترى لو حصل مثل هذا بآفة سماوية فإنه لا يجبر المستأجر إذا لم يضر بالسكنى وإذا لم يضر هذا النقب بالسكنى صار مستوفياً جميع المعقود عليه من ملك الآجر بتمامه فكان عليه جميع الأجر فأما المسألة التي تأتي بعد هذا وضع المسألة أنه انهدم البيت كله وانهدام البيت كله مما يضر بالسكنى.
k

ألا ترى لو حصل هذا بآقة سماوية يجبر المستأجر المشتري، فإذا حصل بفعل المستأجر وصار قدر ما ضمن ملكاً له من وقت العقد سقطت حصته من الأجر؛ لأنه لم يستوف جميع ما ورد عليه العقد من ملك الآجر بل يستوفي البعض من ملكه والبعض من ملك الآجر.
وإذا تكارى منزلاً من رجل سنة بعشرة دراهم فخرج الرجل من البيت وعمل أهله وأكروا من المنزل بيتاً أو أنزلوا إنساناً بغير أجر فانهدم البيت الذي أسكنوه فيه فهذا على وجهين: إما أن ينهدم من سكنى الساكن أو من غيره وفي الحالين لا ضمان على المستأجر؛ لأنه لم يوجد منه جناية وهل يضمن الأهل والساكن؟ إن حصل الانهدام لا من سكناه فلا ضمان على واحد منهما في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف الأجر، وعلى قول محمد يجب الضمان بناء على أن الدور والعقار لا تضمن بالغصب عند أبي حنيفة وأبي يوسف الأجر، وعلى قول محمد يضمن، والأهل غاصب والساكن غاصب الغاصب،

(7/528)


ويكون لصاحب الدار الخيار على قوله فإن ضمن الأهل فالأهل لا يرجع على الساكن وإن ضمن الساكن فالساكن يرجع على الأهل وإن انهدم من سكنى الساكن فالساكن يضمن بالإجماع فالعقار يضمن بالإتلاف بالإجماع والساكن يتلف ها هنا لما انهدم سكناه وهل له تضمين الأصل فالمسألة على الاختلاف الذي ذكرنا.
وإذا تكارى منزلاً ولم يسم ما يعمل فيه فقعد فيه حداداً أو قصاراً فهذا على وجهين: إما إن انهدم الدار من عمله وفي هذا الوجه عكسه ضمان ما انهدم وقد مرت هذه المسألة في أول هذا الفصل قال: ولا أجر عليه فيما ضمن؛ لأنه ملك المضمون بالضمان من وقت العقد؛ لأن سبب الضمان مجموع عمل الحدادة والقصارة لا الحز والأخير الذي حصل الانهدام عقيبه وإذا صار الانهدام مضافاً إلى الكل صار هذا العمل من وقت العقد سبب ضمان فيملكه من ذلك الوقت، وإذا ملك المضمون من ذلك الوقت انقطعت به الإجارة فلا يكون عليه الأجر فيما ضمن ولم يقل في «الكتاب» إنه هل يجب الأجر فيما لم يضمن وهو الساحة وينبغي أن يجب؛ لأن امتناع الوجوب فيما ضمن لثبوت الملك للمستأجر فيما ضمن من وقت العقد ولم يثبت له الملك في الساحة؛ لأن الملك حكم الضمان ولا يجب الضمان في الساحة وإن لم تنهدم الدار من عمله يجب الأجر استحساناً وقد مرّ وجهه في أول هذا الفصل.

وإذا ربط المستأجر دابته على باب الدار المستأجرة وضربت إنساناً فمات أو صدمت حائطاً، قال: الضمان عليه؛ لأن ربط الدابة على باب المنزل من مرافق المنزل عرفاً فالناس في عاداتهم يرتفقون بالساكن بربط الدواب، وإذا كان هذا من مرافق السكنى عرفاً ملكه المستأجر بالإجارة فلم يكن متعدياً في فعله ذلك فلا يصير ضامناً ولو أدخل صاحب الدار دابته في الدار المستأجرة أو ربطها على بابها فأوطأت إنساناً فهو ضامن إلا إذا فعل ذلك بإذن المستأجر أو دخل الدار متعمداً لزم منها ما انهدام.
وهذا بخلاف ما لو أعار رجل داره من رجل ثم إن المعير ربط دابته على باب الدار أو ضربت إنساناً أو هدمت جداراً فإنه لا ضمان؛ لأن بعد الإعارة بقي للمعير ولأنه ربط الدابة على بابها فلا يكون متعدياً في فعل ذلك.

وإذا تكارى داراً من رجل شهراً بدرهم وفي الدار بئر فأمر الآجر المستأجر أن يكنس البئر ويخرج ترابها منها فأخرج وأبقاها في صحن الدار فعطب به إنسان فلا ضمان على المستأجر سواء أذن له رب الدار أن يلقي التراب في صحن الدار أو لم يأذن لأن وضع التراب على ظاهر الدار من جملة الانتفاع بالدار وللمستأجر ذلك.
ألا ترى أن له أن يضع لبنة نفسه وتراب نفسه في صحن الدار وكان له وضع هذا التراب في صحن الدار أيضاً، وإذا كان له ذلك لم يكن هو في هذا الفعل متعدياً فلا يضمن، كما لو وضع أمتعة أخرى لنفسه.
فرق بين هذا وبينما إذا حفر المستأجر بئراً فيها بغير إذن رب الدار، والفرق: أن الحفر يصرف في رقبة الدار وليس بانتفاع بالدار وبعقد الإجارة لا يملك التصرف في رقبة

(7/529)


الدار فمتى كان بغير إذن رب الدار كان متعدياً فيه فيضمن ما هلك به هذا إذا كنس المستأجر وإلقاء الطين في صحن الدار وإن فعل الآجر البئر ذلك وألقى الطين في صحن الدار فعطب به إنسان إن فعل ذلك بإذن المستأجر فلا ضمان وإن فعل بغير إذن المستأجر فعليه الضمان.
والجواب نظير الجواب فيما إذا وضع متاعاً آخر له في الدار المستأجرة فيعقل به إنسان وهذا لأن وضع الشيء به في الدار من جملة الانتفاع بالدار والانتفاع بالدار صار للمستأجر بعقد الإجارة فلم يبقى للآجر فيصير متعدياً فيما صنع هذا إذا حصل إلقاء التراب في صحن الدار وإن حصل إلقاء التراب خارج الدار في طريق المسلمين فعطب به إنسان، فالملقي ضامن الآجر والمستأجر في ذلك على السواء إذ ليس لواحد منهما ولاية شغل الطريق بالتراب وغيره.
رجلان استكريا بيتين في دار كل واحد منهما بيتاً على حدة فعمد كل واحد منهما وأعطى صاحبه بيته وسكن فيه صاحبه فانهدم إحدى البيتين أو كلاهما فلا ضمان على واحد منهما؛ لأن كل واحد منهما مستأجراً سكن غيره فيما استأجر وإن سكن كل واحد منهما بيت صاحبه من غير إذن صاحبه، فإنه يضمن كل واحد منهما ما انهدم من سكناه عندهم جميعاً لأن كل واحد منهما صار غاصباً للبيت الذي سكن فيه وما انهدم من غير سكناه ففي وجوب الضمان خلاف معروف ولا أجر على المستأجر في بيته؛ لأن المستأجر قد غصب بيته.

رجلان استأجرا حانوتاً يعملان فيه هما بأنفسهما فاستأجر أحدهما أجراء وأقعدهم في الحانوت مع نفسه وأبى صاحبه ذلك قال: له أن يقعد في نصيبه من شاء ما لم يدخل على شريكه ضرر بيّن بأن يصير آخذاً شيئاً من نصيب صاحبه معين بإقعاد أجرائه وهذا؛ لأن كل واحد منهما ملك منفعة نصف الحانوت، فكل لكل واحد الانتفاع به لا الزيادة على ذلك وإن أراد أحدهما أن يبني في وسط الحانوت بناء فليس له ذلك؛ لأنه تصرف في رقبة الحانوت وليس للمستأجر ذلك وإذا بنى المستأجر تنوراً أو كانوناً في الدار المستأجرة فاحترق (40أ4) بعض بيوت الجيران أو احترق بعض الدار لا ضمان عليه فعل بإذن رب الدار أو بغير إذنه؛ لأن هذا الانتفاع بظاهر الدار على وجه لا يغير هيئة الباقي إلى نقصان بخلاف الحفر؛ لأنه تصرف في رقبة الدار وبخلاف البناء؛ لأنه يوجب تغير هيئة الباقي إلى نقصان فإن صنع المستأجر في نصب التنور شيئاً لا يصنعه الناس من ترك الاحتياط في وضعه أو أوقد ناراً لا يوقد مثله في التنور في البيوت كان ضامناً.