المعتصر من المختصر من مشكل الآثار

كتاب الجنائز
في توجيه المحتضر القبلة
عن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سيدكم يا بني سلمة؟ " قالوا: سيدنا ناجد بن قيس قال: "بم سودتموه؟ " قال: بأنه أكثرنا مالا وأنا على ذلك لنداريه بالبخل, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي داء أدوأ من البخل؟ ليس ذلك سيدكم" قالوا: فمن سيدنا يا رسول الله؟ قال: "سيدكم بشر بن البراء بن معرور" أول من استقبل القبلة حيا وعند حضور وفاته قبل أن يوجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يستقبل بيت المقدس وهو بمكة فأطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى حضرته الوفاة فأمر أهله أن يوجهوه قبل المسجد الحرام ورسول الله يومئذ بمكة قال أبو حنيفة وأصحابه: يستقبل المحتضر القبلة على جنبه كما في لحده لأنه سبب من أسباب الموت فيعطى له حكمة ولا حجة لمن قال: يستقبل عند الموت كما يستقبل للصلاة استدلالا بفعل البراء فإنه أول من استقبل القبلة حيا وعند حضور وفاته وتناهى ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره إذ ذكر استقباله القبلة للصلاة وعند الموت ذكرا واحدا فكان ذلك دليلا على استواء كيفيتهما لأنه يجوز أن يذكر في الحديث استقباله القبلة في الشيئين المذكورين لاستقباله فيهما القبلة وإن اختلف كيفيتهما في ذلك.

(1/104)


في التكفين
عن خباب بن الأرت هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نبتغي وجه الله عز وجل فوجب أجرنا على الله فمنا من مات ولم يأكل من أجره شيئا وكان منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم يترك إلا نمرة فكنا إذا غطينا رأسه بدت رجلاه وإذا غطينا رجليه بدأ رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غطوا رأسه واجعلوا على رجليه من الأذخر ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهد بها".
وعن ابن عباس أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وقال: "ادفنوهم بدمائهم" فيه أن الكفن مقدم على الديون والوصايا والميراث وهو قول أهل العلم جميعا حاشا سعيد بن المسيب فإنه قال في أحد قوليه: أن الكفن من الثلث وهو محجوج بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدفن الموتى في ثيابهم التي هي جميع أموالهم التي تركوها من غير سؤال عن دينهم ووصيتهم وورثتهم.

(1/105)


في الصلاة على المنافق
روى ابن عمر وابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على عبد الله بن ابي ابن سلول وفيما روى عن جابر ما دل أنه لم يصل عليه وهو الأشبه بأفعاله لأنه كان لا يصلي على مديون لا وفاء له به ولا على من غل زجرا له فالمنافق بذلك كان أحرى لما أخبر الله تعالى به من كفرهم روى أن عمر بن الخطاب قال لما أتى ليصلى عليه: أتصلي عليه وقد نهاك الله عن الصلاة على المنافقين؟ وهو أصح مما روى عنه أنه قال: أتصلي عليه وقد نهاك الله عن الصلاة عليه؟ لأنه محال أن يصلي على ما نهاه عن الصلاة عليه والله أعلم.

(1/105)


في الصلاة على المرجومة
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على الجهينية التي رجمها بإقرارها على نفسها بالزنا ولم يصل على ماعز المرجوم بإقراره أيضا والمعنى فيه أن من سنته الصلاة على المحمودين لا على المذمومين كالغال وقاتل نفسه وما أشبههما والجهنية حمدت لأنها جادت لله بنفسها لإقامة الحد عليها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم وهل وجدت أفضل من أن جادت لله بنفسها" جوابا لعمر أو على حين قال له: أتصلي عليها يا رسول الله وقد زنت؟.
وأما ماعز فلم يجد لله بنفسه وإنما جاءه وهو يرى أنه لا يفعل به ذلك دل عليه قوله لما وجد مس الحجارة صارخا يا قوم ردوني إلى رسول الله فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي أخبروني أن رسول الله غير قاتلي فلم ينزع عنه حتى قتل فهروبه دل على رجوعه عن إقراره أو إعراضه عن إقامة الحد عليه وهو مذموم في الحالين وما روى في حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه هروبه قال له خير أولم يصل عليه فدل أنه كان محمودا عنده معارض بما روى أبو سعيد الخدري فسبقنا إلى الحرة فأتبعناه فقام لنا فرميناه حتى سكت فما استغفر له الرسول صلى الله عليه وسلم ولا سبه ويحتمل أن الحمد له لم يكن إلا بعد أن فات وقت الصلاة لمعنى حدث في أمره من رحمة لحقته من الله وعلم بوحي أوحى إليه أو رؤيا رآها دل عليه ما روى عن بريدة أنهم لبثوا بعد رجم ماعز يومين أو ثلاثة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وهم جلوس فسلم ثم جلس فقال: "استغفروا لماعز" فقالوا: أغفر الله لماعز؟ فقال: "لقد تاب توبة لو قسمت بين مائة أو بين أمة لوسعتهم" وما روى أنه قال موصولا بانصرافهم من رجمه لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحضر رجمه ثم كان هذا القول منه بعد وقوفه على حقيقة ما صار إليه من العفو عنه.

(1/106)


في الصلاة على قاتل نفسه
عن جابر بن سمرة أن رجلا نحر نفسه بمشاقص فلم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم هذه مسألة اختلف أهل العلم فيها فطائفة ذهبوا إلى جواز الصلاة عليه منهم إبراهيم النخعي وأبو حنيفة وأصحابه وطائفة منعوها عليه محتجين بهذا الحديث فوجدنا ترك الصلاة عليه إنما كان من النبي صلى الله عليه وسلم لا من الناس جميعا فيحتمل أن ما كان منه من الامتناع من الصلاة لأن صلاته رحمة على من يصلي عليه وقد كان حيل بينه وبين الجنة بما كان من ذلك المقتول وصلى عليه غيره ممن ليست صلاته في هذا المعنى كصلاته صلى الله عليه وسلم كما فعل بالذي غل بخيبر وبالذي مات وعليه الدين إذ كان من شريعته أن لا يصلي على المذمومين من أمته قال القاضي إنما ترك الصلاة عليهم أدبا لهم وزجرا لمن سواهم عن مثل أحوالهم لا يأسا من قبول رحمة الله لهم.

(1/107)


في الصلاة على النجاشي
روى عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه" قال: ونحن نرى أن الجنازة قد أتت فصففنا فصلينا عليه وإنما مات بالحبشة فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل المدينة فيه أنه حمل إلى المدينة بلطيف قدرة الله تعالى في اليوم الذي مات فيه بناء على ظن الصحابة في أمره فصلوا عليه كما يصلى على من مات بالمدينة عندهم فاندفع به احتجاج من أطلق الصلاة على الميت الغائب وكان هذا من لطيف القدرة كما كان لنبيه صلى الله عليه وسلم في بيت المقدس إذ كذبته قريش حين أخبرهم أنه أسري به إليه روى عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن أمري فسألوني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كربا ما كربت مثله قط فرفعه الله تعالى إلي أنظر إليه فما سألوني عن شيء إلا أنبأتهم به" لا يقال حديث عمران محال لأن

(1/107)


فيه إتيان الحنازة وصلاته عليه كان حين دخل المدينة والجنازة لا اتيان لها والنجاشي لا دخول له لأن هذا ونحوه قد يذكر به الأموات كما يذكر به الأحياء يقال حضرت الجنازة بمعنى احضرت وقال تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا} الآية أضاف الإتيان إلى البأس وقال: {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} الآية وإنما كان إتيان الرزق بإتيان من يأتي به إليها فلا استحالة في الحديث ولا حجة فيه لمن يرى الصلاة على الغائب وأبو حنيفة ومالك وأصحابه ممن لا يرونها على الميت الغائب.

(1/108)


في الصلاة على القبر
روى عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر بعد ثلاث من مات ولم يصل عليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يصلى على قبره إلى ثلاثة أيام ولا يتجاوز إلى ما هو أكثر منها لأن الميت بعدها يخرج من حال من يصلى عليه لكن الحديث يدفع ذلك1 مع أن قولهم توقيف والتوقيف لا يؤخذ إلا بالتوقيف وقد رأينا غير واحد يخرجون من قبورهم بعد مدة طويلة وهم على حال تجوز الصلاة عليهم وقد وجدنا الغرقى يخرجون بعد الأيام التي تجاوز هذا الوقت فيصلى عليهم فكذا غيرهم ما كانت أبدانهم موجودة غير مفقودة بفنائها أما ببلاء أو بغيره يصلى عليهم.
__________
1 فيه نظر لأن النبي صلي الله عليه وسلم علم بالوحي أنه لم يتغاير والذي قاله أبو حنيفة هو الغالب والحكم الغالب – والله أعلم – ح.

(1/108)


في الدعاء على الميت
روى من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على الميت: "اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا" سؤال الغفران للأصاغر لأجل ما يعملونه في حال الكبر فيغفر لهم ذنوبهم قبل أن يعملوها ومثله في المعنى {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وقوله صلى الله عليه وسلم لعمر في

(1/108)


قصة حاطب وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
وروى عبد الله بن الحارث عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الصلاة: "اللهم اغفر لأحيائنا وأمواتنا وأصلح ذات بيننا وألف بين قلوبنا اللهم عبدك فلان بن فلان ولا نعلم إلا خيرا وأنت أعلم به منا فاغفر لنا وله" فقلت وأنا أصغر القوم: فإن لم نعلم خيرا؟ قال: "فلا تقل إلا ما تعلم", الحارث هذا هو أبو قتادة الأنصاري وقد كشف معنى هذا الحديث بسؤاله وبما أجابه إذ لا يشك أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول: "ولا نعلم إلا خيرا" فيمن يعلم منه غير الخير قال: ميمون بن مهران إذا صليت على من تتهمه فيكفي أن تقول: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} الآية وإذا صليت على من تحب فاجتهد في الدعاء أي من تحب لخيره ولا تتهمه في اعتقاده وهذا إنما هو في أهل الأهواء الذين ما خرجوا بهواهم عن الإسلام وإن كانوا مذمومين وأما من كان على شيء من الأهواء مما يخرج به عن الإسلام فلا يصلى عليه.

(1/109)


في ثواب المصلى عليها
روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى الجنازة عند أهلها فمشى معها حتى يصلى عليها فله قيراط ومن شهدها حتى يدفن فله قيراطان مثل أحد" وروى أيضا: "من جاء جنازة فتبعها من أهلها حتى يصلى عليها فله قيراط وإن مضى معها حتى تدفن فله قيراطان مثل أحد" مع ما روى عنه صلى الله عليه وسلم: "من صلى على جنازة فله قيراط ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان". اختلف في سبب استحقاق القيراط هل هو المشي معها أو الصلاة عليها أو التشييع ولو راكبا ففي الحديث الأول ذكر المشي معها وفي الباقين اغفال من رواتها ومن حفظ شيئا كان حجة على من لم يحفظه ولا شك أن المشيع لها بالركوب معها حتى يصلى عليها ثوابه دون ثواب الماشي معها حتى يصلى عليها

(1/109)


لكن هذا في الراكب اختيارا وأما الراكب لعجزه عن المشي فكالماشي معها فإن قيل فهل جزء القيراط من الشيء الذي هو منه معلوم في شيء من الآثار قيل له ما وجد لذلك ذكر في شيء روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير شيء من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الدينار كنز والدرهم كنز والقيراط كنز" قالوا: يا رسول الله أما الدرهم والدينار فقد عرفناه فما القيراط؟ قال: "نصف درهم نصف درهم" قال الطحاوي: فكان ذلك مقدار القيراط من الشيء الذي هو منه وكان ذلك دليلا على أن الصرف الذي كانوا عليه مما هو عدل الدينار اثنى عشر درهما على مذهب من يجعل الدية اثنى عشر وأما من يجعل من الورق عشرة آلاف درهم فذلك على أن عدل الدينار من الدرهم كان عندهم عشرة دراهم وعلى أن القراريط التي جملتها الدينار كانت عندهم عشرون قيراطا القيراط منها نصف درهم والله أعلم فإن قيل فهل وجدتم للشيء الذي القيراط منه ذكر مقدار في شيء من الآثار قيل له ما وجدنا ذلك والله أعلم وقد يجوز أنه أخفى ذلك حتى يعلمه أهله إذا لقوه فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين قال القاضي أبو الوليد: فإذا علم مقدار القيراط مما هو منه وأنه جزء من عشرين أو من أربعة وعشرين وعلم مقدار القيراط بالنص أنه مثل أحد فقد علم مقدار الشيء الذي القيراط منه فيعلم قدر المثل به الخير في قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} إذ مقدار الذرة ومقدار جبل أحد معلوم عيانا ولا نعلم قدر وزنهما من الثواب إلا يوم الجزاء والحساب هذا من تمثيل المعقول بالمحسوس ليفهم معناه لأن الثواب ليس بجسم يعير بالوزن فعقلنا به أن الله تعالى يتفضل على من شهد جنازة من عند أهلها وصلى عليها باضعاف ما يتفضل به على من عمل أدنى يسير1 من خير عدد ما في جبل أحد ومن مثاقيل الذر.
__________
1 هكذا في الصل ولعله شئ – ح.

(1/110)


في عدد من يشفع في الميت
روى عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من رجل يموت فيصلى عليه أمة من المسلمين يبلغون أن يكونوا مائة فيشفعون له إلا شفعوا له" ومن رواية أبي هريرة أنه قال: "من صلى عليه مائة من المسلمين غفر له" مع ما روى عنه من حديث ابن عباس أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله عز وجل فيه" ليس هذا باختلاف وتعارض لأنه يحتمل أن الله تعالى قد جاد بالغفران لمن صلى عليه مائة من المسلمين بشفاعتهم له ثم جاد بالغفران بشفاعة أربعين فحديث ابن عباس متأخر عن حديث عائشة وأبي هريرة لأن الله تعالى لا يرجع فيما يجود به.

(1/111)


في الصلاة على الشهيد
عن عقبة بن عامر الجهني قال آخر ما خطب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى على شهداء أحد ثم رقى على المنبر فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: "إني لكم فرط وأنا عليكم شهيد" فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد بعد مقتلهم بثمان سنين, فاحتمل أن يكون ذلك لأنه لم يكن سنة الشهداء قبل ذلك الصلاة عليهم ثم صار سنة فصلى عليهم لذلك وما روى عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم كان يوضع بين يديه يوم أحد عشرة فيصلي عليهم وحمزة موضوع ثم يوضع عشرة فيصلي عليهم وعلى حمزة معهم.
وما روى عنه أيضا قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بالقتلى فجعل يصلي عليهم فيوضع تسعة وحمزة فيكبر عليهم سبع تكبيرات ثم يرفعون ويترك حمزة ثم يجاء بتسعة فيكبر عليهم سبعا حتى فرغ منهم قد خالفه جابر بن عبد الله وأنس فروى عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بدفن

(1/111)


قتلى أحد بدمائهم ولم يصل عليهم ولم يغسلوا وعن أنس أن شهداء أحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ولم يصل عليهم ويجوز أن يكون لم يصل عليهم وقد صلى عليهم غيره بأمره.

(1/112)


في الصلاة على حمزة رضي الله عنه
...
في الصلاة على حمزة
روى عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد مر بحمزة وقد جدع ومثل به فقال: "لولا أن تجزع صفية لتركته حتى يحشره الله من بطون الطير والسباع" فكفنه في نمرة إذا خمر رأسه بدت رجلاه وإذا خمر رجليه بدا رأسه فخمر رأسه ولم يصل على أحد من الشهداء غيره وقال: "أنا شهيد عليكم اليوم" ففيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل على أحد من الشهداء يوم أحد غير حمزة ويجوز أن يكون ما فعل من الصلاة على حمزة ومن تركه الصلاة على غيره بما شغله يومئذ مما نزل به في وجهه ومن هشم البيضة على رأسه قال سهل: كسرت البيضة على رأسه وكسرت رباعيته وجرح وجهه فكانت فاطمة تغسله وعلي يسكب الماء بالمجن فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة حصير فأحرقتها وألصقتها على جرحه فاستمسك الدم وقال صلى الله عليه وسلم: "كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله" فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} فاحتمل أن يكون ترك الصلاة لما شغله عنهم غير حمزة فإنه اختصه بالصلاة عليه لمكانه منه ولا يقال لم يرو أنس الصلاة على حمزة لأن زيادة الثقة حجة ولا يدفع ما في حديث عقبة من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد ما ذكرنا قبل هذا أن الميت إذا فنى بلاء حتى صار معدوما لا يصلى على قبره لأن شهداء أحد قد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لم يفنوا بما أنزل الله عليه فيهم: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً} الآية فصلى عليهم بذلك وقد روى في بقائهم على حالهم بعد مدد جابر بن عبد الله قال: لما أراد معاوية أن يجري العين التي عند قبور الشهداء بالمدينة أمر مناديا فنادى من كان له ميت فليأته قال جابر فذهبت إلى أبي فأخرجناهم رطبا فأصابت المسحاة أصبع رجل منهم فانقطرت دما فهكذا نقول من علم بقاء بدنه بعد مدة وإن طالت في قبره جاز أن يصلى على قبره إذ لم يكن صلى عليه قبل دفنه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك واتباعا له.

(1/112)


في اللحد والشق
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اللحد لنا والشق لغيرنا" أو لأهل الكتاب على ما روى عنه يحتمل تخصيص اللحد بنا كون العرب لا تعرف غيره والشق لأهل الكتاب لأنه الذي كانوا يستعملونه وكان أنبياؤهم على ذلك في أيامهم وقد أمر نبينا صلى الله عليه وسلم وعليهم بالاقتداء بهم إلا فيما ورد نسخه ولم يرد ناسخ للشق فبقي اللحد والشق جميعا من سنن المسلمين غير أن اللحد أولاهما لأنه للمختار للمختار صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومما يدل على إباحة الشق ما روى عن أنس لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالمدينة رجل يلحد ورجل يضرح فقالوا: نستخير ربنا عز وجل ونرسل إليهما فأيهما سبق تركناه فأرسل إليهما فسبق صاحب اللحد فلحدوا الرسول صلى الله عليه وسلم وما ورد من قوله: "الحدوا ولا تشقوا" ليس النهي للكراهة بل لترك الأفضل والأخذ بما دونه.

(1/113)


في إلحاد المرأة
روى عن أنس قال: ماتت إحدى بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل القبر أحد قارف أهله الليلة" فلم يدخل زوجها هي أم كلثوم توفيت في سنة تسع من الهجرة والمقارفة قد تكون من المقاولة المذمومة وقد تكون من غيرها من الإصابة واستحال الثاني لأن إصابة الرجل أهله غير مذمومة فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم علم ممن كان يصح له دخول قبرها من ذوي محارمها أنه جرى بينه وبين زوجته في تلك الليلة مقارفة من القول مذمومة فكره أن يتولى إدخال بنته في قبرها وما أراد أن يواجهه

(1/113)


بذلك إذ كان دأبه أن لا يواجه أحد إنما يكره بما كان يقول تعريضا جريا على مقتضى الاخلاق الكريمة التي جبل عليها وشرفه الله سبحانه بها وخصه بأعلى مراتبها كما قال صلى الله عليه وسلم: "ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله تعالى وما بال رجال يقول أحدهم قد طلقتك قد راجعتك" وهذا أحسن محامله وأما ما فيه من قول الراوي فلم يدخل زوجها يعني قبرها فإن ذلك حمله قوم على أنه يحتمل أنه كان بينه وبينها قبل وفاتها في تلك الليلة هذه المقارفة وهم الذين يذهبون إلى أن للزوج غسل زوجته بعد وفاتها وإدخالها قبرها ومذهبنا أنه لا يغسلها لانقطاع ما كان بينهما في حياتها بوفاتها.
وروى أنس قال شهدنا بنت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس على قبرها فرأيت عينيه تدمعان فقال: "هل منكم أحد لم يقارف أهله الليلة؟ " فقال أبو طلحة: أنا, قال: "فانزل في قبرها" وهذا مما يبعد لأن أبا طلحة لم يكن محارمها اللهم إلا أن يكون لم يحضر قبرها حينئذ من ذوي محارمها غير رسول الله صلى الله عليه وسلام فاحتاج إلى معونته فاتسع له ما يتسع للأجنبي من أن ييمم الميتة من وراء ثيابها مكان غسلها عند الضرورة وزوجها كان عثمان بن عفان.

(1/114)


إقبار زينب أم المؤمنين
روى أن عمر بن الخطاب صلى على زينب رضي الله عنها بالمدينة فكبر عليها أربعا ثم أرسل إلى أزواج النبي صلى الله عليه وعليهن وسلم من يأمرن أن يدخل في قبرها قال: وكان يعجبه أن يكون هو الذي يلي ذلك فأرسلن إليه انظر من كان يراها في حياتها فليكن هو الذي يدخلها القبر فقال عمر: صدقتن وإنما كان أعجبه ظنا منه أن ذلك جائز له إذ كانت اماله ثم استظهر بما عندهن إذ حكمهن حكمها وأشكل عليه إذ ليست أم نسب ولا أم رضاع ولهذا ألا تجوز رؤيتها ويجوز نكاح بنتها منه فأعلمنه في ذلك بخلاف ما كان الأمر عنده عليه فرجع إليه ورآه الصواب ومن جعل أم حبيبة مكان زينب فقد أخطأ لأن أم حبيبة بقيت بعد عمر دهرا طويلا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه أولكن لحوقا بي أطولكن يدا وكانت زينب امرأة قصيرة فلما توفيت أولهن علمن أنه إنما أراد طول يدها بالصدقة لأنها كانت تصنع بيدها ما تعين به في سبيل الله.

(1/114)


في فتنة القبر
روت عائشة وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن للقبر لضغطة لو كان أحدا ناجيا منها نجا منها سعد بن معاذ" زاد في حديث ابن عمر ثم قال بأصابعه الثلاث يجمعها كأنه يقلله ثم قال: "لقد ضغط ثم عوفي" ولا يعارضه ما روى ربيعة بن سيف عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا برئ من فتنة القبر" لأنه منقطع الإسناد فإن ربيعة لم يلق عبد الله وبينهما رجلان أحدهما مجهول وعن علي رضي الله عنه قال كنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} فيه اثبات عذاب القبر ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم آثار متواترة باستعاذته منه روى مصعب بن سعد أنه كان يحدث عن أبيه قال كان يأمرنا بهذا الدعاء مرفوعا: "اللهم إني أعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وأعوذ بك من عذاب القبر" وروى عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من خمس: "من الجبن والبخل وسوء العمر وفتنة القبر وعذاب القبر" وخرج في هذا المعنى آثار كثيرة من رواية أبي هريرة وأبي بن كعب وغيرهم وروى عن ابن عباس قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: "إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير أما هذا فكان لا يستتر من بوله وأما هذا فكان يمشي بالنميمة" ثم دعا بعسيب رطب فشقه بائنين فغرز على هذا واحدا وعلى هذا واحدا ثم قال لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا خص البول من النجاسات لتهاون الناس به إذ لا يظهر على الثياب منه أثر بخلاف الغائط

(1/115)


والقيح والدم فيتحاماها الناس لقذرهم إياها ومعنى لا يستتر من بوله أي لا يتوقى منه ومنه دعاء الناس سترك الله من النار أي وقاك منها ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "أكثر عذاب القبر بالبول" أي أكثر عذاب القبر من أجل البول بما شاء الله أن يعذب به من أصناف عذابه يؤيده ما روى عن ابن عباس مرفوعا: "أن عامة عذاب القبر من البول فتنزهوا من البول" وقيل: أن الناس يعذبون في قبورهم بالبول كما يعذب به في الدنيا لأنه من غليظ عذاب الدنيا والله أعلم.

(1/116)


في عذاب القبر
روت عمرة عن عائشة أن يهودية جاءت تسألها, فقالت: أعاذك الله من عذاب القبر فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيعذب الناس في قبورهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عائذا بالله من ذلك" ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة مركبا خسفت الشمس فرجع ضحى فمر بين ظهراني الحجر فقام يصلي فذكرت صلاة الكسوف وكيف صلاها فقالت: ثم انصرف فقال ما شاء الله أن يقول ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم قول اليهودية كان قبل أن يوحى إليه بذلك وأمرنا بالتعوذ من عذاب القبر بعد الوحي إليه بذلك لا يقال: كيف دفع خبر اليهودية وقد قال عليه الصلاة والسلام: "ما حدثكم به أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله فإن كان حقا لم تكذبوهم وإن كان باطلا لم تصدقوهم" لأنه يحتمل أن يكون دفع قولها وردها قبل أن يؤمر بالالتفات إلى ما حدثه به أهل الكتاب ثم أمر بعد ذلك بالوقوف عنده وترك التصديق به والتكذيب له فكان له دفع ما حدثوه به كما للرجل أن يدفع ما لم يعلمه وإن كان في الحقيقة حقا فإن المدعي عليه إذا لم يعلم صحة دعوى المدعي كان في سعة من انكاره إياه ومن حلفه له عليه وإن كان يجوز أن يكون عليه حق فذهبت عنه معرفته فكان صلى الله عليه

(1/116)


وسلم لما سئل عن ما لا علم له به كان في سعة من نفيه وإن كان في الحقيقة حقا ثم أمر أن يقابل قولهم بالتوقف وإن كان الدفع واسعاله مع أنا تأملنا حديث عائشة فوجدنا رواته خالفوا عمرة فيه منهم مسروق عن عائشة أنها قالت أتتني عجوز يهودية فقالت يعذب أهل القبور فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "صدقت يعذب أهل القبور عذابا يسمعه البهائم" وروى عنها أنها دخلت عجوزان من عجائز يهود المدينة فقالتا لي: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم فكذبتهما فخرجتا ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن عجوزين دخلتا علي فزعمتا أن أهل القبور يعذبون في قبورهم؟ فقال: "صدقتا إنهم ليعذبون عذابا تسمعه البهائم كلها" قالت عائشة: فما رأيته بعد ذلك في صلاة إلا يتعوذ من عذاب القبر وروى عن ذكوان عنها, قالت: استطعمت يهودية فقالت: اطعموني أعاذكم الله من فتنة الدجال ومن فتنة عذاب القبر, فقلت: يا رسول الله ما تقول هذه اليهودية؟ قال: "وما قالت؟ " فقلت: إنها قالت: أعاذكم الله من فتنة الدجال ومن فتنة عذاب القبر, فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع يديه مدا يستعيذ بالله من فتنة الدجال وعذاب القبر وروى عروة عن عائشة أن يهودية دخلت عليها وعندها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أشعرت أنكم تفتنون في القبور فارتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "إنما تفتن يهود" قالت عائشة: فلبثنا ليالي ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما شعرت أنه أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور؟ ", ثم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ من عذاب القبر فوافقت رواية عروة رواية عمرة فالصواب أنه تقدم دفعه صلى الله عليه وسلم ثم اثباته إياه بعد ذلك والذي عند مسروق وذكوان هو الأمر الثاني والذي عند عروة وعمرة الأمر الأول والثاني فكان بذلك أولى إذ حفظا من ذلك ما قصر مسروق وذكوان عن حفظه.

(1/117)


في سماع عذاب القبر
روى عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة شهباء فمر على حائط لبني النجار فإذا قبر يعذب صاحبه فحاصت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر" فيه إن البهائم تسمعه وابن آدم لا يسمعه وقد روى عن أبي أيوب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حين غابت الشمس فقال: "هذه أصوات يهود تعذب في قبورها" ففيه أن ابن آدم قد سمعوا أصوات يهود الذين كانوا يعذبون في قبورهم فالوجه فيه أن ذلك كان بعد دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يسمعهم إياها ويحتمل أن يكون المسموع أصوات اليهود ولم يسمعوا أصوات المسلمين المعذبين في قبورهم فلا تضاد بينهما وعن عبد الرحمن بن حسنة قال: انطلقت أنا وعمرو بن العاص فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه درقة أو شبه الدرقة فجلس فاستتر بها قال: فقلت أنا وصاحبي: انظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبول كما تبول المرأة وهو جالس, فأتانا فقال: "أوما علمتم ما لقي صاحب بني إسرائيل كان إذا أصاب أحدهم شيء من البول قرضه بالمقراض فنهاهم عن ذلك فعذب في قبره" يحتمل أنه كان من شريعة بني إسرائيل قرض الأبدان إذا أصابها بول بالمقراض فنهاهم ذلك الرجل عن ذلك آمرا لهم بترك شريعتهم فعوقب على ذلك في قبره لعظم عصيانه.

(1/118)


في زيارة القبور
روى عن ابن عباس قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور ويحتمل أن يكون أراد الجمع بين الزيارة واتخاذ اسقاط المساجد والسرج فيكون مجرد الزيارة مباحة بل هي الأولى لأنه قد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن فيه عبرة" وفي رواية وليزدكم زيارتها خيرا وكذلك روى مرفوعا في لعنة اليهود والنصارى لاتخاذهم ذلك على قبور أنبيائهم قالت عائشة وابن عباس لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصته على وجهه فإذا اغتم كشفها عن وجهه قال وهو كذلك لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا والتحذير باللعن الذي في الحديث الأول لمن هذا سبيله لا لما سواه من زائري القبور وهذا القول إنما كان عند وفاته ولا ناسخ له.

(1/118)


في عذاب الميت
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كسر عظم المسلم ميتا مثل كسره حيا" لا يقال فليجب في كسر عظم الميت قصاص أو دية لأن عظم الميت له حرمة مثل حرمة عظم الحي ولكن لا حياة فيه فكان كاسره في انتهاك الحرمة ككاسر عظم الحي وعدم القصاص والارش لانعدام المعنى الذي يوجبه من الحياة كالصحيح يقطع اليد الشلاء لا قصاص عليه ولا دية وإنما فيه الحكومة بقدر ما نقص ولا قيمة لذلك من الميت يشير إليه قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} بطريق الإيماء فلا يجب القصاص إلا بإزالة الحياة.

(1/119)


في ثناء الناس على الميت
روى عن أنس قال مر على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة فأثنى عليها خير فقال صلى الله عليه وسلم: "وجبت وجبت وجبت" ومر بجنازة فأثنى عليها شر فقال: "وجبت وجبت وجبت" فقال عمر: فداك أبي وأمي مر بجنازة فأثنى عليها خير فقلت وجبت وجبت وجبت ومر بجنازة فأثى عليها شر فقلت وجبت وجبت وجبت فقال صلى الله عليه وسلم: "من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض" وعن عمر مثل ذلك فيمن أثنى عليه بخير وفيمن أثنى عليه بشر فقال له أبو الأسود: بما قلت وجبت؟ قال: قلت: كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة" فقلنا

(1/119)


أو ثلاثة فقال: "أو ثلاثة" فقلنا: أو اثنان, قال: "واثنان" ثم لم نسأله عن الواحد ووجه ذلك أن الشهادة بالخير لمن شهد له ستر من الله سبحانه عليه في الدنيا ومن ستر الله عليه في الدنيا لم يرفع عنه ستره في الآخرة ومن لم يرفع الله عنه ستره في الآخرة أدخله الله الجنة والشهادة بالشر في الدنيا هو رفع الستر عن المشهود عليه وهو في ذلك ضد من اثنى عليه خير في الدنيا فكذلك هو في الأخرى فيستحق النار وهذا من أدق استنباط وأحسنه.

(1/120)


في الاستغفار للمشرك
عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت: تستغفر لأبويك وهما مشركان؟ قال: أولم يستغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} وفي رواية: فنزلت {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} لم يبين في الحديث أن أبويه حيين كانا أو ميتين والظاهر أنهما كانا ميتين لجواز الاستغفار للمشرك ما دام حيا لرجاء الإيمان منه يدل عليه قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} إلى قوله: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} ولا يتبين ذلك إلا بموتهم وعن ابن عباس لم يزل إبراهيم عليه السلام يستغفر لأبيه حتى مات فتبين له أنه عدو لله فتبرأ منه وقيل في سبب نزول قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل على عمه أبي طالب فقال له: "قل لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله" فقال له أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فكان آخر ما كلمهم أنا على ملة عبد المطلب فقال: "أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} الآية وأنزل في أبي طالب {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} الآية وقيل سبب نزولها استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في الاستغفار لأمه آمنة فلم يأذن له والله

(1/120)


أعلم بالسبب غير أنه يحتمل من هذه الأشياء أن يكون سببا فتنزل الآية جوابا عن جميعها ومما يدل على جواز الاستغفار للمشرك مادام حيا قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"

(1/121)


في الأطفال
روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة" ثم يقول: "اقرؤوا {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الآية وعن الأسود بن سريع أنه قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع غزوات فتناول أصحابه الذرية بعد ما قتلوا المقاتلة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتد ذلك عليه فقال: "ألا ما بال أقوام قتلوا المقاتلة ثم تناولوا الذرية؟ " فقال رجل: أليسوا أبناء المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن خياركم أبناء المشركين ألا إنه ليست تولد نسمة إلا ولدت على الفطرة فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها فأبواها يهودانها أو ينصرانها". عن أبي عبيد القاسم بن سلام قال: سألت محمد بن الحسن عن تفسير حديث أبي هريرة فقال: كان ذلك في أول الإسلام قبل أن تنزل الفرائض ويؤذن بالجهاد يعني لو كان يولد على الفطرة ثم مات قبل أن يهوداه أبواه أو ينصراه ما ورثاه لأنه مسلم وهما كافران ولما جاز أن يسبى ولكن جرت السنة بخلاف ذلك فعلم أنه مولود على دين أبيه وسئل عبد الله بن المبارك عن تأويله فقال تأويله قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن أطفال المشركين: "الله أعلم بما كانوا عاملين" يعني أنهم يولدون على ما يصيرون إليه من إسلام وكفر فمن كان في علم الله أنه سيسلم فقد ولد على الفطرة وكان في علم الله أنه يصير كافرا يولد كافرا.
قال الطحاوي تفسير محمد يدفعه ما في حديث الأسود من قوله أنه كان في غزوة وهي جهاد لما اختلفوا في معناه جعلنا كله حديثا واحدا وأثبتنا فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "فما يزال عليها حتى يعبر عنه لسانه والفطرة

(1/121)


فطرتان فطرة يراد بها الخلقة التي لا تعبد معها وفطرة معها التعبد المستحق بفعله ثوابا وبتركه عقابا وكان قوله: "كل مولود يولد على الفطرة" يريد به الفطرة الثانية فكان أهلها الذين هم كذلك ما كانوا غير بالغين ممن خلق للعبادة كما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} وإن كانوا قبل بلوغهم مرفوعا عنهم الثواب والعقاب غير أنهم إذا عبرت عنهم السنتهم بشيء من إيمان وكفر كانوا من أهله كما قال صلى الله عليه وسلم: "فما يزال عليها حتى يعبر عنه لسانه" ولذلك قبل صلى الله عليه وسلم إسلام من لم يبلغ وفي ذلك ما يوجب خروج من كان من المسلمين بالردة في تلك الحال من الإسلام حتى يستحق المنع من ميراث أبويه المسلمين ثم قال: "فأبواه يهودانه أو ينصرانه" أي بتهويدهما وتنصيرهما فيكون مسببا إن كان أبواه حربيين ومأخوذا بعد بلوغه عاقلا بالجزية إن كانا ذميين.

(1/122)


في إسلام الصغير
روى أن عمر رضي الله عنه انطلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ابن صياد حتى وجده يلعب مع الصبيان وقد قارب الحلم فلم يشعر حتى ضرب صلى الله عليه وسلم ظهره بيده ثم قال لابن صياد: "أتشهد أني رسول الله؟ " فنظر إليه ابن صياد فقال: "أتشهد أني رسول الله؟ " قال: فرصه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "آمنت بالله وبرسله" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ماذا ترى؟ " قال ابن صياد: يأتيني صادق وكاذب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلط عليك الأمر" ثم قال له رسول الله: "إني قد خبأت لك خبيئا" فقال ابن صياد: هو الدخ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اخسأ فلن تعد وقدرك" فقال له عمر: ائذن لي فيه يا رسول الله أضرب عنقه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن يكنه فلم تسلط عليه وإن لم يكنه فلا خير لك في قتله" في كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن صياد ولم يبلغ الحلم عن شهادته له بالرسالة ما قد دل على أنه لو شهد بها لصار مؤمنا ولولا أن ذلك كذلك لما كشفه رسول الله صلى الله عليه وسلام عن ذلك وفي دليل على أن إسلام مثله من الصبيان يكون إسلاما.

(1/122)


فيمن رضي بإحراق نفسه
روى عن أبي بكر الصديق أنه قال: أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر حديثا طويلا من حديث يوم القيامة ثم ذكر شفاعة الشهداء قال: "ثم يقول الله عز وجل: أنا أرحم الراحمين انظروا في النار هل فيها من أحد عمل خيرا قط؟ فيجدون في النار رجلا فيقال له: هل عملت خيرا قط فيقول: لا غير أني كنت أمرت ولدي إذا مت فأحرقوني بالنار ثم اطحنوني حتى إذا كنت مثل الكحل فاذهبوا بي إلى البحر فاذروني في البحر فوالله لا يقدر على رب العالمين أبدا فيعاقبني إذا عاقبت نفسي في الدنيا عليه, قال الله له: لم فعلت ذلك؟ قال: من مخافتك, فيقول: انظروا أعظم ملك فإن لك مثله وعشرة أمثاله", يحتمل أن يكون الوصية بالاحراق من شريعة ذلك القرن الذي كان الموصي منه خوفا من الله ورجاء رحمته كما يوصي في أمتنا بوضع الخد على تراب اللحد رجاء للعفو والمغفرة وليس قوله: "لا يقدر على رب العالمين" على نفي القدرة إذ لو كان معتقدا لذلك كان كافرا ولما غفر له ولا أدخل الجنة وإنما هو على التضييق كقوله: {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} أي ضيق عليه رزقه وقوله: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} إذ لا يظن يونس غير ذلك يعني لا يضيق الله على أبدا فيعاقبني بما قد فعلته بنفسي رجاء رحمته وطلب غفرانه وذكر الحديث من طرق بألفاظ مختلفة في بعضها: "أن الله لا يقدر علي يعذبني" وفي بعضها: "فإن الله يقدر على لم يغفر لي" والمعنى في ذلك كله سواء وأما ما روى في بعض الآثار مكان "لا يقدر الله علي" "لعلي أضل الله" فإنه حديث لم يروه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا رجل واحد وهو معاوية ابن حيدة جد بهز بن حكيم وخالفه في ذلك أبو بكر الصديق وحذيفة وأبو مسعود وأبو سعيد الخدري وسلمان وأبو هريرة رضي الله عنهم وستة أولى بالحفظ من واحد وتأويل قوله: "أضل الله" على تقدير صحته أنه كان مؤمنا بالله خائفا من عقوبته لكنه كان جاهلا بلطيف قدرته فجعلوه بخشية عقوبته مؤمنا وبطمعه أن يضله جاهلا فالغفران لإيمانه لأنه لم يخرج بجهله من إيمانه إلى الكفر بالله ويحتمل أم معاوية فهم من لا يقدر الله على نفي القدرة فجاء به على المعنى والستة نقلوه بلفظه كما سمعوه والله أعلم.

(1/123)


في عجب الذنب
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل ابن آدم تأكله الأرض إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب" هذا حديث صحيح رواه أهل الضبط المؤتمنون على الرواية ولا استحالة فيه كما قاله أهل الجهل والعناد بأنه يرده العيان لأن الميت قد يحرق وقد يكشف بعد مدة لحده فلا يوجد منه شيء لكنه لا ينكر في لطيف قدرة الله تعالى حفظ ذلك المقدار الذي أخبر من لا ينطق عن الهوى ببقائه فلا يأكله التراب ولا تحرقه النار وإن لم ندركه بحواسنا وقد وقى الله خليله من نار نمرود وأخبر عن لقمان قوله: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} فإن الله تعالى حافظ ذلك المقدار من الفناء حتى يعيده بشرا سويا ويركب فيه خلقا جديدا وبالله التوفيق.

(1/124)