المعتصر من المختصر من مشكل الآثار

كتاب الزكاة
في محرم السؤال
...
كتاب الزكاة
فيه ثلاثة عشر حديثا
في محرم السؤال
روى عن سهل بن الحنظلية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سأل الناس عن ظهر غنى فإنما يستكثر من جمر جهنم" قلت: يا رسول الله, وما ظهر غنى؟ قال: "أن يعلم أن عند أهله ما يغديهم وما يعشيهم" وروى عطاء عن رجل من بني أسد أنه قال صلى الله عليه وسلم لرجل يسأله: "من سأل منكم وعنده أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا والأوقية أربعون درهما" وفيما روى عن ابن مسعود أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يسأل عبد مسألة وله ما يغنيه إلا جاءت شينا أو كدوحا أو خدوشا في وجهه يوم القيامة" قلت: يا رسول الله وما غناه؟ قال: "خمسون درهما أو حسابها من الذهب" وروى أنه خطب صلى الله

(1/124)


عليه وسلم فقال: "من استغنى أغناه الله ومن استعفف أعفه الله ومن سأل الناس وله عدل خمس أواق سأل إلحافا".
يحتمل أن أول هذه المقادير المحرمة للسؤال هو المذكور في حديث سهل ثم وثم وثم فالمقدار الذي تناهى تحريم المسألة عند وجوده هو المذكور في الخطبة فصار أولى بالاستعمال وإنما استعملت في هذا للأغلظ فالأغلظ الأخف فالأخف لأن النسخ على وجهين نسخ عقوبة به الأخف بالأثقل قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ} ونسخ رحمة بنسخ به الغليظ بالخفيف قال تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} الآية ومنه قيام الليل ولما لم يكن من المسلمين ذنب يوجب عليهم العقوبة في التغليظ في المسألة بدأنا باستعمال الأغلظ فالأغلظ.
قال القاضي: هذا معنى قوله دون لفظه قلت: نظرت في المطول فوجدت معنى قوله كون هذا من باب نسخ الأغلظ بالأخف لا غير فكان المناسب أن يقول بدأنا باستعمال الأغلظ فالأخف لأن التحريم بمقدار الغداء والعشاء أضيق من التحريم بمقدار الأوقية وهو أضيق من التحريم بمقدار خمسين درهما وهو أضيق من التحريم بخمس أواق فهذا نهاية التخفيف فالترقي من الأغلظ إلى الأخف فالأخف فالأخف وقد صرح الطحاوي بهذا بقوله فإن قال قائل: كيف استعملت في هذا أغلظ المقادير بدء ثم استعملت بعده ما هو أخف منه حتى استعملت كلها كذلك ولم يستعمل الآخر أولا ثم بعد ما هو أغلظ منه حتى يأتي عليها بكلها؟ فكان جوابنا: أن النسخ يكون بمعنيين إلى آخره فهذا صريح في مخالفة القاضي لما قصده الطحاوي فكيف قال هذا معنى لفظه ثم قال القاضي: وفيه نظر لأنه نسخ الخفيف بالثقيل كثير موجود في القرآن وعد الثواب الكثير من غير عقوبة قلت: خفف ثقل ما وجد من هذا النوع في القرآن وعد الثواب الكثير وهو نه قيل في قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} المراد الخيرية أما بالخفة أو بكثرة الثواب فافهمه.

(1/125)


في محرم الأخذ
روى عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالصدقة فقال رجل: يا رسول الله عندي دينار قال: "انفقه على نفسك" قال: عندي آخر قال: "أنفقه على زوجك" قال: فعندي آخر قال: "أنفقه على ولدك" قال: فعندي آخر قال: "أنفقه على خادمك" قال: عندي آخر, قال: "أنت أبصر" وفي حديث آخر "أنت أعلم" ذهب أبو عبيد القاسم بن سلام وغيره إلى أن من ملك أربعة دنانير فهو غني تحرم عليه الصدقة كما يقوله أهل المدينة فيمن ملك أربعين درهما قالوا لأنه لم يؤمر فيما وراء الأربعة بشيء ورد الأمر إليه فيه ولا حجة لهم في ذلك لأنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم إنما أمره في كل دينار من دنانيره الأربعة بما هو أولى به في ذلك ورد الأمر في الخامس إليه لأنه لم يعلم له سببا يأمره بصرفه فيه فرد الأمر فيه إليه إذ هو أعلم بما يحتاج إليه من أمر نفسه لا لثبوت غناه عنده بالأربعة دنانير إذ لو كان كذلك لما أمر في الرابع بشيء ولصرف الأمر فيه إليه كما فعل بالخامس فثبت بذلك ما صححناه في حديث الخطبة من قوله: "ومن سأل الناس وله عدل خمس أواق سأل إلحافا" يدل عليه أمره صلى الله عليه وسلم معاذا حين بعثه إلى اليمن على الصدقة أن يأخذها من أغنيائهم فيضعها في فقرائهم فالغني من يؤخذ منه والفقير من لا يؤخذ منه يعني جبرا كما لك الأربعين درهما ولا برد ما قلنا حديث أبي هريرة هذا إذ قد يحض على الصدقة الغني والفقير الذي له فضل على قوته لما روى عن أبي مسعود قال لما أمرنا بالصدقة كنا نحامل نتصدق حتى تصدق بعض الفقراء بصاع فاستهزأ به المنافقون وقالوا إن الله لغني عن صدقة هذا فأنزل الله عز وجل: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية.

(1/126)


في من يحل له أخذها
روى عن عبيد الله بن عدي بن الخيار قال: حدثني رجلان من قومي أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم الصدقة فسألاه منها فرفع البصر

(1/126)


وخفضه فرآهما جلدين فقال: "إن شئتما فعلت ولا حق فيها لغني ولا قوي مكتسب" المعنى في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما لم يعلم حقيقة أمرهما في الغنى والفقر أعلمهما بأنه لا حق فيهما لغني ليعملا بما سمعا وقوله: "ولا القوي مكتسب" المراد به نفي الحق الذي هو في أعلى مراتبه لأن الصدقة قد تجل للفقير القوي كما يقال فلان عالم حقا إذا كان في أعلى مراتبه ولا يقال لمن هو دونه وإن كان عالما ومثله قوله صلى الله عليه وسلم لأهل نجران عند سؤالهم رجلا أمينا يبعث إليهم: "لأبعثن إليكم رجلا أمينا حق أمين" يعني أبا عبيدة بن الجراح وإن كان من دونه من أهل الأمانة أيضا.

(1/127)


في إعطائها لمن لا تحل له
روى عن معن بن يزيد قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأبي وجدي وخطب علي وأنكحني وكان أبي أخرج دنانير يتصدق بها فوضعها عند رجل فأخذتها فأتيته بها فقال: والله ما إياك أردت بها فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لك ما نويت لأبي ولك يا معن ما أخذت" كان يزيد أخرج دنانير يتصدق بها ووكل الرجل ليصرفها مصارفها فأعطاها الوكيل لابنه إذ لم يعلم نيته في ذلك فجازت لابنه معن لأنه قبضها ممن له ذلك وليزيد ثواب صدقته على غير ابنه بما نواه لقوله عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات" واحتج به محمد فيمن تصدق بزكاته على رجل ظنه أجنبيا وهو ابنه أو أبوه فإنه يجزيه ولا حجة له فيه لأنها زكاة مال أبيه أو ابنه فلا تحل لقابضها وإذا لم تحل له كانت غير جائزة عن المعطى وكذلك لو أعطى إلى من ظنه فقيرا فكان غنيا لأنها حرام على الغني فلا تكون مجزية عن معطيها وهذا قول أبي يوسف وهو الأولى ومذهب أشهب من أصحاب مالك فيه الجواز بهذا الحديث.

(1/127)


في المعادن
روى عن ابن عباس أن رجلا لزم غريما له بعشرة دنانير فقال: والله

(1/127)


ما عندي شيء أقضيكه اليوم فقال: والله لا أفارقك حتى تعطيني أو تأتيني بحميل ليحمل عنك فقال: والله ما عندي قضاء وما أجد أحدا يتحمل عني قال: فجره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن هذا ألزمني واستنظرته شهرا واحدا فأبى حتى أقضيه أو آتيه بحميل فقلت: والله ما عندي حميل ولا أجد قضاء اليوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تستنظره إلا شهرا واحدا؟ " قال: لا ,قال: "أنا أتحمل بها عنه", فحمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فذهب الرجل فأتاه بقدر ما وعده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أين أصبت هذه الذهب" فقال: من معدن, قال: "لا حاجة لنا بها ليس فيها خير" فقضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه أنكر بعض صحة هذا الحديث قال: وهل عند أحد ذهب إلا من المعادن ويحتج بما روى جابر قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيضة من ذهب أصابها في بعض المعادن قال: خذها يا رسول الله والله ما أصبحت أملك غيرها فأعرض عنه ثم أتاه عن شماله فقال مثل ذلك فأعرض عنه ثم أتاه من بين يديه فقال مثل ذلك فقال: "هاتها" مغضبا فأخذها فحذفه بها حذفة لو أصابه بها لشجه أو عقره ثم قال: "يأتي أحدكم بماله كله فيتصدق به ثم يجلس يتكفف الناس إنه لا صدقة إلا عن ظهر غنى" وبما روى ابن عباس في حديث مكاتبه سلمان الفارسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع النخل التي كاتبه عليها أهلها في فقرها وسوى عليها التراب بيده حتى فرغ منها قال: "فلا والذي نفسي بيده ما بقيت منها واحدة" وبقيت دراهم فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم في أصحابه إذ أتاه رجل من أصحابه بمثل البيضة من ذهب أصابها من بعض المعادن فتصدق بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما فعل الفارسي المسكين المكاتب ادعوه لي؟ " فدعيت له فجئت فقال: "اذهب فأدها عنك مما عليك من المال" قلت: وأين يقع هذا مما علي يا رسول الله فقال: "إن الله سيؤديها عنك" والجواب عن ذلك أنه يحتمل أن يكون إنما قال ذلك القول قبل

(1/128)


أن تحل المعادن للناس لأنها عند قوم من أهل العلم منهم أبو حنيفة وأصحابه من الغنائم وفيها الخمس وقد كانت الغنائم محرمة على من قبلنا وعلى أوائل هذه الأمة أيضا حتى أحلها الله عز وجل رحمة وتخفيفا منه عليهم فكان لا خير فيها وعند قوم آخرين من أموال الصدقات وهم أهل الحجاز فاحتمل أن يكون ذلك قبل فرض الزكاة على العباد في أموالهم فلم يكن ما وجد فيها ما لا لهم فيه خير ثم فرض الله الزكاة فعادت إلى خلاف ما كانت عليه وصارت مما فيه الخير ويحتمل وجها آخر وهو أن الذي كان على الأصل الذي تكفل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دنانير مضروبة فلما جاء ذلك الرجل بما جاءه به مما وجده في المعدن وهو ذهب غير مضروبة وهو دون الحق الذي وجب كره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقضيها صاحب الحق وهو أدنى من حقه فإن خيار الناس أحسنهم قضاء فلذلك قال: "لا حاجة لنا فيها لا خير فيها" وأدى دنانير لا نقص فيها وهذا تأويل حسن فانتفى بما تأولنا التضادين بين الآثار وروى عن أبي سعيد الخدري قال: بعث علي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهبية في تربتها من اليمن فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أربعة الأقرع بن حابس وعلقمة بن علاثة وعيينة بن بدر وزيد الخيل قال: فغضبت قريش والأنصار وقالوا: أيعطي صناديد نجد ويدعنا؟ فقال: "إني أتألفهم" قيل في صرف الذهب الموجودة في المعدن إلى المؤلفة دليل على أنه من أموال الزكاة التي يعطى منها للمؤلفة ولا حجة فيه إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألفهم من غير الزكاة أيضا روى عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى من غنائم حنين مائة من الإبل عيينة بن بدر والأقرع بن حابس مائة من الإبل فلا يبقى دليلا على ما توهم هذا القائل أن فيه دليلا.

(1/129)


في تحليف المزكى
روى عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ

(1/129)


فَامْتَحِنُوهُنَّ} قال: كانت المرأة إذا أتت النبي صلى الله عليه وسلم لتسلم حلفها بالله ما خرجت من بغض زوج وبالله ما خرجت رغبة بأرض عن أرض وبالله ما خرجت إلا حبا لله ولرسوله فيه حجة لمن ذهب إلى استحلاف العاشر من يمر عليه إذا قال أديت زكاته إلى مستحقيها أو أديتها إلى عاشر آخر قبلك ان أتهم التاجر على ما قاله وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه والشافعي خلافا لمالك والثوري فإنهما قالا يصدق من غير تحليف لأنها عبادة وهو مؤتمن عليها ولا يسوغ أن يظن بهم المعصية لكن استحلاف الرسول صلى الله عليه وسلم المهاجرات حياطة للإسلام نظير استحلاف من يتولى الصدقات المتهمين بمنعها فيحتاط فيه استيفاء لحقوق أهله عمن وجبت عليهم والله أعلم.

(1/130)


في السن المأخوذ في الصدقة
روى ثمامة عن أنس أن الكتاب الذي كتبه أبو بكر الصديق في الصدقة أنها صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي افترضها الله سبحانه على خلقه فمن سئل فوقها فلا يعطه أن لا يؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس إلا أن يشاء المصدق بالكسر قال أبو عبيد وأنا أراه بالفتح يعني رب المال وهو الصواب لأن التيس إن كان مجاوز للسن الواجبة على رب المال كان حراما على المصدق أخذه لما فيه من الزيادة وإن كان دونه كان حراما على المصدق أخذه من ربه لأنه أقل من حقه وإن كان مثله في القيمة فهو خلاف النوع الذي أمر بأخذه فحرام بغير طيب نفس ربه فدل ذلك أن المراد بما ذكر فيه رب المال لا المصدق فيكون الخيار إليه في أن يعطى فوق ما عليه أو مثل ما عليه من خلاف نوع ما هو عليه ويكون للمصدق قبول ذلك منه إن رأى ذلك حظا لما يتولاه من الصدقة - والله أعلم.

(1/130)


في ذكر العناق والعقال
روى عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت

(1/130)


أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" فلما كان زمن الردة حدثت بهذا الحديث أبا بكر فقال: لو منعوني عقالا لقاتلتهم عليه وفيما روى عنه أنه قال لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف أبو بكر وارتد من ارتد من العرب قال: فبعث أبو بكر لقتال من ارتد عن الإسلام فقال له عمر: يا أبا بكر ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" فقال: ألا أقاتل أقواما فرقوا بين الصلاة والزكاة والله لو منعوني عناقا مما كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليها قال: فلما رأيت الله شرح صدر أبي بكر لقتال القوم علمت أنه الحق وخرجه من طرق كثيرة في بعضها عقالا وفي بعضها عناقا وعلى أن الاختلاف في هاتين الكلمتين من رواة الحديث لا من أبي بكر والأكثر على عناقا واختلف في معنى العقال فقيل المراد به الحبل الذي يعقل به الفريضة المؤداة حكى ذلك أبو عبيد عن الواقدي وهو فاسد قياسا لأنه لو كان على مؤدى الفريضة من المواشي عقال يحفظ به لكان على المؤدى الدراهم كيس يحفظ فيه وعلى من وجبت عليه في نخلة الصدقة قواصر حتى يجعل فيها وذلك مما لا يقوله أحد وقيل العقال هو صدقة عام واحتج بما روى أن معاوية استعمل ابن أخيه عمرو بن عتبة على صدقات كليب فاعتدى عليهم فقال عمرو الكلبي.
سعى عقالا فلم يترك لنا سيدا ... فكيف لو قد سعى عمرو عقالين
لأصبح الحي أوبادا ولم يجدوا ... عند التفرق في الهيجا جمالين
وهذا أيضا فاسد لأن أبا بكر إنما قال على أنهم لو منعوه قليلا مما كانوا يؤدونه من الصدقة لقاتلهم عليه كما يقاتلهم لو منعوها كلها الأشبه أن يكون المراد عين الواجب.
عن ابن الأعرابي المصدق إذا أخذ من الصدقة عين ما فيها قبل

(1/131)


اخذ عقالا وإذا أخذ به ثمنا قيل أخذا نقد أو أنشد.
أتانا أبو الخطاب يضرب طبله ... فرد ولم يأخذ عقالا ولا نقدا
ثم الأولى بهذا الحديث العناق وفي ذلك باب من الفقه يجب الوقوف عليه وذلك أن السوائم إذا كانت لا مسنة فيها فطائفة تقول فيها واحد منها وطائفة تقوله فيها مسنة كما لو كانت مسان كلها وطائفة تقول لا شيء فيها والأقوال كلها عن أبي حنيفة رجع من بعضها إلى بعض رواها عنه أبو يوسف واختار القول الأول وهو الأولى لموافقة قول أبي بكر غليها: "لو منفوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليها" فدل أنهم كانوا يؤدون العناق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقة وذلك لا يكون إر فيما لا مسنة فيها وفي ثبوت ذلك ثبوت ما قاله واختاره وقال زفر بقوله الثاني ومحمد بالأخير.

(1/132)


في لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين مفترق
روى أن أب بكر لما استهلف وجه أنس بن مالك إلى البحرين فكتب له هذه فرضية الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين التي أمر الله تعالى بها رسوله فمن سئلها من المؤمنين على وجهها فليعطها ومن سئل فوقها فلا يعطه.
في كتابه ذلك لا يجمع بني مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشبة الصدقة وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية وخرجه من طرق.
تنازع أهل العلم في المراد بهذا الحديث تنازعا شديدا.
حكى المزني عن الشافعي أن الشريكين اللذين لم يقسما الماشية خليطان وقد يكونان خليطين بتخالط ماشيتهما من غير شركة لكن لا يكونان خليطين حتى يريحا ويسرحا ويحلبا ويسقيا معا ويكون فحولهما مختلطة فإذا كانا

(1/132)


هكذا صدقا صدقة الواحد بكل حال ولا يكونان خليطين حتى يحول الحول عليهما من يوم اختلطا ويكونان مسلمين وإن تفرقا في شيء مما ذكرنا قبل أن يحول الحول فليسا بخليطين ويصدقان صدقة الاثنين ومعنى قوله لا يفرق إلى آخره لا يفرق بين ثلاثة خلطاء في عشرين ومائة وإنما عليهم شاة لأنها إذا فرقت كانت فيها ثلاث.
ولا يجمع بين مفترق رجل له مائة وشاة ورجل له مائة شاة فإذا زكيتا مفترقين ففيها شاتان وإذا جمعتا ففيها ثلاث شياه فالخشية خشية الساعي أن تقل الصدقة وخشية رب المال أن تكثر الصدقة قال الشافعي ولم أعلم مخالفا فيما إذا كان ثلاثة خلطاء لو كانت لهم مائة وعشرون شاة أخذت منهم واحدة وصدقوا صدقة الواحد فنقصوا المساكين شاتين من مال الخلطاء الثلاثة الذين لو يفرق مالهم كان فيه ثلاث شياه لم يجز إلا أن يقولوا لو كانت أربعون بين ثلاثة كانت عليهم شاة لأنهم صدقوا الخلطاء صدقة الواحد وهكذا القول في الماشية كلها والزروع والحائط وأبو حنيفة وأصحابه يقولون في قوله لا يفرق بين مجتمع هو أن يكون للرجل مائة وعشرون شاة فيكون فيها شاة واحدة فإن فرقها المصدق فجعلها أربعين أربعين كان فيها ثلاث شياه ولا يجمع بين مفترق هو رجلان يكون بينهما أربعون شاة فإن جمعها كان فيها شاة وإن فرقها عشرين عشرين لم يكن فيها شيء.
قلت فلو كانا متفاوضين لم يجمع بين أغنامها قال: نعم لا يجمع بينهما وهو قول سفيان الثوري فالذي ذكر عن أبي حنيفة والثوري دل على أنهما لم يراعيا الاختلاط ولكنهما يراعيان الأملاك فدل هذا على أن ما ذكره الشافعي من أنه لا يعلم مخالفا إذا كان ثلاثة خلطاء إلى آخره قد كان فيه من المخالفين لذلك القول من ذكرناه فاندفع ما احتج به لمذهبه ثم إن الله تعالى ذكر الزكاة مثل ما ذكر الصلاة والصيام والحج فقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} و {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} وكل ما افترض من هذه

(1/133)


الأشياء يبين به كل مكلف عمن سواه من غير اختلاط فكذا الزكاة ودل على أن الحكم للملك قوله تعالى: خذ من أموالهم الآية فإن أحد الا يطهر من مال غيره بل من مال نفسه.
فإن قيل فما معنى قوله عليه السلام: "وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان؟ "
قلنا: يكون رجلان لهما مائة وعشرون شاة لأحدهما ثلثاها وللآخر ثلثها فيحضر المصدق فيطالبهما بصدقتهما ولا يكون عليه انتظار قسمتها بينهما فيأخذ منها شاتين فيعلم أنه قد أخذ من حصة صاحب الثمانين شاة وثلث شاة والذي كان عليه شاة واحدة وأخذ من حصة صاحب الأربعين ثلثي شاة والذي كان عليه من الصدقة شاة واحدة فالباقي من حصة صاحب الثمانين ثمان وسبعون شاة وثلثا شاة والباقي من حصة صاحب الأربعين في غنمه تسع وثلاثون شاة وثلث شاة فيرجع صاحب الأربعين بثلث الشاة التي أخذت من غنمه عن الزكاة التي كانت على صاحبه حتى يرجع حصة صاحب الثمانين إلى تسع وسبعين وحصة صاحب الأربعين إلى تسع وثلاثين وهذا أولى من التأويل الذي ذكرناه قبل.
أما مالك فمذهبه في ذلك أن تفسير قول عمر: لا يفرق بين مجتمع, أن الخليطين يكون لكل واحد منهما مائة شاة وشاة فيكون عليهما في ذلك ثلاث شياه فإذا أظلهما المصدق فرقا غنمهما فلم يكن على كل واحد منهما إلا شاة واحدة فنهى عن ذلك قال مالك في الخليطين إذا كان الراعي واحدا والمراح واحدا والدلو واحدا فالرجلان خليطان ولا تجب الصدقة على الخليطين حتى يكون لكل واحد منهما ما تجب فيه الصدقة وتفسير ذلك أنه إذا كان لأحد الخليطين أربعون شاة وللآخر أقل من أربعين شاة لم يكن على الذي له أقل من أربعين شاة صدقة وكانت الصدقة على الذي له أربعون وإن كان لكل واحد منهما من الغنم ما تجب فيه الصدقة جميعا فكان لأحدهما ألف شاة أو أكثر أو أقل مما تجب فيه الصدقة وللآخر أربعون شاة أو أكثر فهما خليطان يترادان بينهما بالسوية

(1/134)


على الألف بحصتها وعلى الأربعين بحصتها يعنى من الزكاة التي تجب فيها لو كانت لواحدة وهذا مما إشكال فيه لأنه لا يخلو من أحد وجهين إما أن تكون الخلطة لها معنى ويرجع الخليطان فيها إلى أن يكونا كالرجل الواحد فيكون القول في ذلك ما ذهب إليه الشافعي فيه أو تكون الخلطة لا معنى لها ويكون الخليطان بعدهما كما كانا قبلهما فيكون على كل واحد منهما في غنمه ما يكون عليه فيها لو لم يكن بينه وبين غيره فيها خلطة فيكون الأمر في ذلك كما قاله أبو حنيفة والثوري فيه ثم يرجع إلى ما قد ذكره الشافعي في الخليطين أنهما وإن عرف كل واحد منهما ماله بعينه أن تكون فحولهما واحدة ومسرحهما واحد وسقيهما واحد إنهما يكونان بذلك خليطين فكان هذا مما لا نعقله وكيف يكونان خليطين وكل واحد منهما بائن بماله من مال صاحبه فإن قيل في الخلطة في الفحول وفي المراح وفي الأشياء التي ذكرناها قيل له وهل الزكاة في تلك الأشياء إنما الزكاة في المواشي انفسها وليسا خليطين فيها وقد تقدمك وتقدمنا من أهل العلم من خالف ما ذهبت إليه فيه من ذلك ما روى عن طاووس قال: إذا كان الخليطان يعرفان أموالهما فلا يجمع بينهما في الصدقة فأخبر بذلك عطاء فقال: ما أراه إلا حقا فلم يراعيا في ذلك حلبا ولا فحلا ولا سقيا ولا مراحا ولا دلوا ولا يقال ينبغي إذا لم يعرفا مالهما أن يجمع بينهما في الصدقة لأنه يحتمل أن يجمع بينهما حتى يؤخذا أخذا واحدا ثم يتراجعا بينهما في المأخوذ منهما وبه نقول.

(1/135)


في صدقة الفطر
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة" وزاد بعضهم إلا صدقة الفطر في الرقيق وهي زيادة مقبولة تخصص عموم الحديث قال الطحاوي: وعندنا على الرقيق مسلمهم وكافرهم لاطلاق النص وتقدمنا في ذلك أبو هريرة ومن التابعين عطاء وعمر بن عبد العزيز وقوله من المسلمين في حديث ابن عمر "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين"

(1/135)


إنما يعود على من يخرجها عن ملكه زكاة له وتطهيرا وهم المسلمون القادرون عليها إلا العبيد العاجزون عنها قال الله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} وقال بعض: هي واجبة على العبد يؤديها من كسبه متمسكا بقوله عليه الصلاة والسلام: "من باع عبد أوله مال ويرده" بقية الحديث وهو قوله: "فماله للبائع" وإضافة المال إليه كإضافة التمر إلى النخل في قوله: "من باع نخلا له تمر قد أبره" وإضافة البيت إلى العنكبوت والمراد بقوله: "ليس على المسلم في فرسه صدقة" الخيل التي ليست للتجارة إذ في خيل التجارة تجب الزكاة اجماعا وأما زيادة بعض الرواة إلا أن في الرقيق زكاة الفطر هذا عند أبي حنيفة إذا لم يكن الرقيق للتجارة فإن كانوا للتجارة لم تجب فيهم صدقة الفطر ومالك والحجازيون يوجبون فيهم زكاة الفطر ولا نجد في كتاب ولا سنة اجتماع الزكاة والفطر والاجماع على أن الماشية لا تجتمع فيها زكاة السائمة وزكاة التجارة وإنما تجب فيها احداهما فكذلك عبيد التجارة.

(1/136)


في مقدارها
روى عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه فرض زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين" والعبد لا فرض عليه في نفسه إذ لا مال له فيرجع قوله: "من المسلمين" إلى الموالي لا إلى العبيد ولا حجة فيه لمن يقول أن المسلم لا تجب عليه صدقة فطر عبده الكافر وقد روى الوجوب عن جماعة من السلف منهم أبو هريرة قال كنا نخرج زكاة الفطر عن كل إنسان نعول من صغير أو كبير أو حر أو عبد وإن كان نصرانيا مدين من قمح أو صاعا من تمر ومنهم عطاء قال إذا كان لك عبيد نصارى لا يرادون للتجارة فزك عنهم يوم الفطر ومنهم عمر بن عبد العزيز قال يعطي الرجل عن مملوكه وإن كان نصرانيا زكاة الفطر ولأنه كما يجب على المسلم الزكاة في عبده الكافر للتجارة لإسلامه ولا يسقط عن لكفرهم وجب أن يؤدى عنهم زكاة الفطر لإسلامه ولا يمنع عن ذلك كفرهم وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه.

(1/136)


في الاكتفاء بنصف صاع من الحنطة
عن عبد الله بن عمر قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر عن كل صغير وكبير وحر وعبد صاعا من شعير أو صاعا من تمر قال: فعدله الناس بمدين من الحنطة وخرجه من طرق كثيرة في بعضها قال ابن عمر: فجاء الناس بنصف صاع من بر أو قال: فعدل الناس نصف صاع من بر بصاع من شعير فجاؤا به فقبل منهم وليس في بعضها ذكر التعديل فجعل من ذكره حجة على من سكت عنه وضعف رواية من زاد عنه أو صاعا من بر قال: ثم عدل الناس نصف صاع من بر بصاع مما سواه بمخالفة أكثر الرواة له وبما فيه من ذكر التعديل إذ لا يصح أن يعدل صنف مفروض ببعضه وإنما يجوز أن يعدل المفروض بما سواه وذكر في حديث أبي سعيد الخدري كنا نخرج زكاة الفطر من رمضان صاعا من طعام أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من أقط وله طرق كثيرة في بعضها صاعا من طعام وليس ذلك في بعضها فلما كثر الطعام في زمن معاوية جعلوه مدين من حنطة قال فاحتمل قوله في بعض الآثار صاعا من طعام إن كان المراد به الحنطة أن يكون ذلك على الأداء بالتطوع منهم دون أن يكون ذلك مفروضا عليهم فلا يكون الحديث على هذا مخالفا لحديث ابن عمر وفي بعض الآثار أن رجلا قال لأبي سعيد لما قال: لا اخراج إلا ما كنت أخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من تمر أو صاعا من زبيب أو صاعا من اقط فقال له: أو مدين من قمح فقال: لا تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا آخذ بها ففيه أنه لم ينكر القيمة وإنما انكر المقوم ولمعاوية الصحبة ومعه الفقه وقوله حجة مع أنه روى عن أبي سعيد أنه يجزئ فيها نصف صاع من بر وروى مرفوعا من رواية عقيل بن خالد عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء قالت: كنا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1/137)


مدين من حنطة أو صاعا من تمر ومن رواية ثعلبة بن أبي صغير عن أبيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أدوا صدقة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو نصف صاع من بر" وقال: "وقمح عن كل إنسان صغير أو كبير أو ذكر أو أنثى حر أو مملوك غني أو فقير" ومن روى ولم يذكر فيه القمح فقد قصر عما زاده عليه من هو أولى منه ففيه دليل على أن ما كانوا يخرجون صاعا من البر حينئذ كان على التبرع وقد أخبر سعيد بن المسيب وأبو سلمة وعبيد الله بن عبد الله والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله كلهم من التابعين ان الفرض كان في عهد رسول الله صلى اله عليه وسلم في زكاة الفطر مدين من الحنطة فدل أن نصف الصاع منها أصل من الأصول يستغنى به عن التقويم وقد روى عن الصديق وعمر وعثمان وعبد الله أنهم قبلوا مدين من حنطة في صدقة الفطر وأمروا بذلك وروى كذلك عن عمر بن عبد العزيز ومجاهد وغيرهم.

(1/138)