المعتصر من المختصر من مشكل الآثار

كتاب الصيام
في رؤية الهلال
...
كتاب الصيام
فيه عشرون حديثا
في رؤية الهلال
في حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال: "لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له" وفي حديثه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له" وقال الشافعي عن مالك: فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين وأحسن ما قيل في "فاقدروا له" أن الله سبحانه وتعالى قال: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} فأخبر أنه قدره منازل يجري عليها فجعله يجري في كل ليلة حتى يسقط منزلة واحدة وهي ستة أسباع ساعة لأن منازل الليل أربع عشرة منزلة وساعاته اثنتى عشرة ساعة فحذاء كل منزلة ستة أسباع ساعة فيجري كذلك إلى تمام ثمان وعشرين ليلة ثم يستتر فإن كان الشهر ثلاثين استتر ليلتين وإن كان تسعا وعشرين استتر ليلة فكان المأمور به إذا غم علينا ثم طلع في الليلة التي بعدها نظرنا إلى سقوطه في تلك الليلة فإن كان

(1/138)


بمنزلة واحدة علمنا أنه لليلته تلك وإن كان بمنزلتين علمنا أنه لليلتين وعقلنا بذلك أن بينهما يوما وأن علينا قضاءذلك اليوم إن كان من رمضان وهذا الاعتبار مما يخفى على أكثر الناس لذلك رد الأمر إلى ما يتساوون فيه بما روى مما هو ناسخ لذلك وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين" على ما روى عنه ابن عباس وأبو هريرة وجابر وحذيفة وعدي وقيس بن طلق عن أبيه.

(1/139)


في شهادة الواحد به
عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية قال فقدمت إلى الشام فقضيت حاجتها واستهل على شهر رمضان فرأينا الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني ابن عباس قال: متى رأيت الهلال؟ قلت: رأيته ليلة الجمعة, قال: أنت رأيته؟ قلت: نعم, ورآه الناس فصاموا وصام معاوية قال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين يوما أو نراه فقلت: أولا تكتفي برؤية معاوية؟ قال: لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن عكرمة عن ابن عباس قال جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبصرت الهلال الليلة فقال: "أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله؟ " قال: نعم, قال: "يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا" لا تضاد بين الحديثين فحديث عكرمة على قبول شهادة الواحد المسلم على رؤية الهلال وحديث كريب على إخباره ابن عباس في وقت قد فات الصيام بتلك الرؤية ولما فاته ذلك رجع إلى انتظار ما يكون آخر الشهر من الهلال مما يدل على أوله فكان جائزا أن يمضي ثلاثون يوما على ما حكاه له كريب ولا يرى فيظهر بطلان ما حكاه له فيصوم ثلاثين على رؤيته وكان جائز أن يراه بعد مضي تسعة وعشرين يوما فيقضى يوما لاستعماله ما في حديث عكرمة وهذا يوافق ما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه من قبول شهادة الواحد على هلال رمضان دون هلال الفطر ويقولون أن صاموا بشهادة واحد فمضت ثلاثون ولم يروا الهلال أنهم يصوموا يوما آخر بخلاف ما لو شهدت بها بينة مقبولة يجوز الحكم بها في غير ذلك فأمرهم الإمام بالصوم فصاموا ثلاثين ثم لم يروا الهلال أنه يأمرهم بالافطار لأن الصوم بشهادة واحد احتياط وباثنين صوم بحجة تامة كأنهم رأوه جميعا.

(1/139)


في السحور
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر" كان الشرع في أول الإسلام أن الصائم إذا قام من الليل يحرم عليه ما يحرم على الصائم إلى خروجهم من صوم الغد كما كان شريعة أهل الكتاب ثم نسخ الله بما نسخه به من كتابه فجاز لنا أن نأكل في لياليه وذكر عن معاذ بن جبل في حديث طويل أن الصيام كان في أول الإسلام وبعد أن قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة سنة عشر شهرا أو سبعة عشر من كل شهر ثلاثة أيام وصوم عاشوراء إلى أن أنزل الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} فكانوا يمتنعون من الأكل والشرب بعد النوم إلى أن نسخه الله تعالى بقوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} .

(1/140)


في بيان وقته
روى عن العرباض بن سارية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى السحور في شهر رمضان فقال: "هلموا إلى الغداء المبارك" وعن المقدام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عليك بهذا السحور فإنه الغداء المبارك" تسمية السحور غداء وإن كان خلافه لمجاورته إياه من تسمية الشيء باسم ما قرب منه ويحتمل أن يكون ذلك حين كان الصيام من طلوع الشمس إلى غروبها عن حذيفة قال: أكلت وشربت بعد الصبح مع الرسول صلى الله عليه وسلم غير أن الشمس لم تطلع فكان غداء على حقيقته وقال القاضي: الأشبه أنه إنما سمي غداء لأن للصائم مكان الغداء لغيره إذ كان عند العرب في حن الغداء أكلتان في اليوم قال الله تعالى في مخاطبته إياهم بما يعتادون: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} فتحولت أكلة الغداة للصائم إلى قرب السحر فسميت سحورا وسميت غداء لأنها بدل منها عند عدم القدرة عليها بتحريم الأكل والشرب في ذلك الوقت كما سمى التيمم طهارة لأنه بدل منها عند العجز.

(1/140)


في صوم الجنب
روى أبو هريرة عن الفضل بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أصبح جنبا أفطر ذلك اليوم" وأنه كان يفتى به وحكت عائشة وأم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصبح جنبا ويصوم ذلك اليوم لما علم استواء النبي صلى الله عليه وسلم مع أمته بغضبه على السائل الذي سأله عن ذلك لما قال له: إنك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر, وقوله: "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقى" لم يمكنا استعمال الأثرين ووجب أن نحملهما على كون أحدهما منسوخا بالآخر فجعلنا حديث عائشة وأم سلمة ناسخا للأول لأنه أخف مع أن قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} إلى قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} يوجب ذلك لأنه إذا كان له أن يطأ حتى يطلع الفجر لم يكن الغسل إلا بعده وهذا بين ومع أنه روى عن أبي هريرة أنه رجع عن فتواه وقال: عائشة أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم مني.

(1/141)


في تناول الصائم البرد
روى عن أنس أنه قال: مطرت السماء بردا فقال لنا أبو طلحة: ناولوني من هذا البرد فجعل يأكل وهو صائم في رمضان فقلت: أتأكل البرد وأنت صائم؟ فقال: إنما هو برد نزل من السماء نطهر به بطوننا وإنه ليس بطعام ولا شراب فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فقال: "خذها عن عمك" لا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن الذي رواه عن أنس مرفوعا ليس من أهل الثبت وإنما هو موقوف على أبي طلحة فيحتمل أن ذلك قبل نزول قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} إلى قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} ولعل ذلك من فعله لم يقف النبي عليه السلام عليه فلا يكون شيئا يتمسك به كفتوى زيد بعدم الغسل من الجنابة بايلاج وبلوغ خبره إلى عمر وإنكاره عليه فقال سمعت من أعمامي شيئا فقلت به فقال: من أي أعمامك فقال من أبي وأبي أيوب ورفاعة فالتفت إلى رفاعة فقال: إنا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا نغتسل, قال أفسألتم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك قال: لا, ثم قال عمر: لئن أخبرت بأحد يفعله ثم لا يغتسل لأنهكنه عقوبة.

(1/141)


في قيئ الصائم
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قاء فأفطر معناه أنه قاء فضعف فافطر فسكت عن ذلك لعلم السامع به مثل قوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم قال: "من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه شيء ومن استقاء فليقض" ولا خلاف بين أهل العلم فيمن ذرعه القيء إنه لا قضاء عليه.

(1/142)


في الافطار متعمدا
عن أبي هريرة أن رجلا قال يا رسول الله إني وقعت على أهلي في رمضان قال: "اعتق رقبة" قال: ما أجدها يا رسول الله, قال: "فصم شهرين متتابعين" قال: "ما أستطيع" قال: "فأطعم ستين مسكينا" قال: ما أجده يا رسول الله فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بمكتل فيه خمسة عشر صاعا من تمر قال: "خذ هذا فتصدق به" قال: على أحوج مني وأهل بيتي؟ قال: "فكله أنت وأهل بيتك وصم يوما مكانه" لا يعارض هذا ما روى عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أفطر يوما من رمضان من غير رخصة ولا مرض لم يقض عنه صيام الدهر وإن صامه" لأنه مأمور بالقضاء وإن كان لا يدرك ما فاته من فضيلة اليوم الذي أفطر فيه بعينه وإن صام الدهر كما إذا ترك صلاة يجب عليه قضاؤها وإن كان لا يدرك فضيلة الأداء في وقته.

(1/142)


في الصيام عن الميت
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة ركبت البحر فنذرت أن الله عز وجل نجاها منه أن تصوم شهرا فماتت قبل أن تصوم فسألت خالتها أو بعض قرابتها النبي صلى الله عليه وسلم فأمر أن يصام عنها وروى عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه".
وإنما لم نأخذ بهذين الحديثين لأن ابن عباس وعائشة تركا ما رويا من ذلك وقالا بخلافه وهما العدلان فيما قالا فعلمنا أنهما يتركا ما سمعا إلا إلى من هو أولى منه مما قد نسخه كما قال محمد بن سيرين في متعة الحج هم يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حضورها وهم نهوا عنها فما في مذهبهم ما يتهم ولا في رأيهم ما يستقصر والذي رجع إليه ابن عباس هو ما روى عنه لا يصلي أحد عن أحد ويفتدى الكبير إذا لم يطق الصيام وروى عن عائشة أنها سألت عن امرأة ماتت وعليها صوم شهر فقال: أطعموا عنها.

(1/143)


في الفدية
روى عن عطاء ومجاهد أنهما سمعا ابن عباس يقول: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ليست بمنسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا وفي رواية مجاهد عنه: نصف صاع عن كل يوم وروى سعيد بن جبير عنه في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} قال الذين يتجشمونه ولا يطيقونه يعنى إلا بالجهد الحبلى والمريض والكبير وصاحب العطاش فاختلفت الروايات عنه في يطيقونه ويطوقونه

(1/143)


واتفقت على إعادة البدل من الصيام إلى الإطعام لا إلى الصيام وروى عن سلمة بن الأكوع أنها منسوخة نسخها قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} الآية وقد كان الناس يخيرون بين الصيام والاطعام قال الطحاوي فكأن الله رد البدل من الصوم إلى الفدية بالاطعام لا إلى ما سواه من صيام عمن وجب عليه ثم نسخ ذلك بما في الآية الثانية وبقي ما في الآية الأولى مما يفعله من عجز عن الصيام وهو الفدية بالطعام لا بصيام غيره عنه ويحتمل أن يكون ما في الآثار من الصيام عن الموتى كان قبل نزول الآية المذكورة في الحديث فلما نزلت استعمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الاطعام في ذلك الصيام مكانه منهم أنس بن مالك وقيس بن السائب كانا قد كبرا فكانا يفطران ويطعمان

(1/144)


في صيامها بغير إذن زوجها
عن أبي سعيد الخدري أنه قال: جاءت امرأة صفوان بن المعطل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن صفوان يضربني إذا صليت ويفطرني إذا صمت, ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس وصفوان عنده, فقال صفوان: يا رسول الله أما قولها يضربني إذا صليت, فإنها تقوم بسورتي التي أقرأ بها فتقرأ بها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كانت سورة واحدة لكفت الناس" وأما قولها: يفطرني إذا صمت فإنها تنطلق تصوم وأنا رجل شاب, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يومئذ لا تصومن امرأة إلأ بإذن زوجها" وأما قولها: لا يصلي حتى تطلع الشمس فأنا أهل بيت قد عرف لنا ذلك لا نستيقظ حتى تطلع الشمس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا استيقظت فصل" كانت تقرأ في صلاتها السورة التي قرأها زوجها في صلاته فظن أنه لا يحصل لهما إلا ثواب واحد فأعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحصل لهما بها ثوابان ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصوم لمنعها نفسها من الزوج فإذا لم يكن به حاجة إليها إما لغيبته أو لاستغنائه عنها بغيرها فلا بأس بالصوم

(1/144)


وإن لم يأذن لها الزوج يؤيده حديث أبي هريرة مرفوعا لا تصوم امرأة وزوجها شاهد إلا بإذنه وقوله: "إذا استيقظت فصل" لا حجة فيه لمن يقول بجواز الصلاة المكتوبة عند الطلوع لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما نام وأصحابه حتى طلعت الشمس لم يصل الصبح عند ذلك حتى خرج وقتها إلى انتشار الشمس وبياضها فمعنى قوله: "فصل" أي كما يجب أن يصلى في الأوقات التي يصلى فيها ألا ترى أنه لم يطلق له أن يصلي كما يستيقظ من غير وضوء ولا ستر عورة وإنما أطلق له أن يصلي كما ينبغي أن يصلي متلبسا بشرائطها وآدابها محترزا عن مكروهاتها ومنقصاتها وإنما خاطب صلى الله عليه وسلم صفوان بذلك لعلمه صلى الله عليه وسلم بمعرفته ما ينبغي إذ هو كان صحابيا فقيها وعساه قد كان معه في سفره ليلة التعريس فاكتفى به عن اعادته.

(1/145)


في ستة من شوال
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية أبي أيوب الأنصاري أنه قال: "من صام رمضان وأتبعه بستة من شوال فكأنما صام السنة" وعن ثوبان مولى رسول الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "جعل الله الحسنة بعشر" فشهر بعشرة أشهر وستة أيام بعد الفطر تمام السنة ولا يقال فيه تسوية بين صوم رمضان وغيره ولا خلاف في فضله على غيره لأن الله تعالى كما كفى عن صائم رمضان ما يكون منه في بقية عشرة أشهر من سنته على ما روى: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" وروى: "من قام رمضان" الحديث وروى: "من صام رمضان وقامه إيمانا واحتسابا" الحديث لصيامه الفرض وقيامه المسنون كذلك تفضل بصوم ستة أيام من شوال فيكون الحسنة بعشر أمثالها فيكون ذلك مع ما جاد به لصائم رمضان كفارة للسنة كلها.

(1/145)


في عاشوراء
روى عن قيس بن سعد أنه قال: كنا نعطي صدقة الفطر قبل أن تنزل

(1/145)


الزكاة ونصوم عاشوراء قبل أن ينزل رمضان فلما نزل رمضان ونزلت الزكاة لم نؤمر به ولم ننه عنه وكنا نفعله وخرج من طرق وذكر مثله في يوم عاشوراء عن ابن مسعود وعائشة وجابر وروى عن ابن عباس أنه كان يصام بخلاف ذلك قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود والنصارى يصومون يوم عاشوراء فسألهم فقالوا: هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون, فقال: "أنتم أولى بموسى منهم فصوموه". ففيه أنهم كانوا يصومون للشكر لا للفرض ويحتمل أنه كان للشكر ثم فرض عليهم فكانوا يصومونه للفرض ويدل عليه ما روى قتادة عن عبد الرحمن بن سلمة الخزاعي عن عمه قال: غدونا على رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة يوم عاشوراء وقد تغدينا فقال: "أصمتم هذا اليوم؟ " فقلنا: قد تغدينا قال: "فأتموا بقية يومكم".
وما روى عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم عاشوراء فعظم فيه أمره ثم قال لمن حوله: "من كان لم يطعم منكم فليصم يومه هذا ومن كان قد طعم فليصم بقية يومه" فدل هذا أنه كان حينئذ كشهر رمضان وإنما أمر يومئذ بالإمساك عن الأكل بقية اليوم ولم يؤمر بقضائه لأن الفرض كان لحقهم في يوم عاشوراء بعد ما دخلوا فيه وكان دخولهم فيه وهو غير مفروض عليهم دل عليه ما في حديث أبي سعيد الذي ذكرناه من تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ومن أمره من كان حوله بصومه فكانوا كمن بلغ في رمضان أو أسلم فيه فيؤمر بصوم بقية يومه وإن كانوا قد أكلوا ولا يؤمرون بقضائه وأما ما في حديث قيس مما ذكرناه في زكاة الفطر فقد روى عن ابن عمر ما يخالفه قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر عن كل صغير وكبير وحر وعبد صاعا من شعير أو صاعا من تمر قال: فعدله الناس بمدين من حنطة وذكره من طرق في بعضها مكان أمر فرض بغير تعديل وفي بعضها ذكر التعديل وذلك لا يكون إلا مع بقاء فرضها فهو مخالف لما قاله قيس غير أنه يحتمل أنه كان فرضا واجبا كوجوب الصلوات الخمس وكوجوب زكاة المال في تكفير الجاحد فلما فرضت زكاة الأموال انتقل الفرض إليها وجعل الفرض في زكاة الفطر دونه حتى لو جحده لا يكفر كما كان قبل.

(1/146)


في صيام العشر
عن عائشة: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما في العشر قط, وروى مرفوعا من رواية ابن عباس وابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وجابر واللفظ لابن عباس أنه قال: "ما من عمل أزكى عند الله ولا أعظم منزلة من خير عمل في العشر من الأضحى" قيل: يا رسول الله ولا من جاهد في سبيل الله بنفسه وماله؟ قال: "ولا من جاهد في سبيل الله بنفسه وماله إلا من لم يرجع بنفسه وماله" فيجوز أن يكون تخلفه صلى الله عليه وسلم عن صيام العشر مع ماله من الفضيلة لاشتغاله بما هو أعظم منزلة من الصوم كالصلاة وذكر الله وقراءة القرآن وكان الصوم يضعفه كما روى عن ابن مسعود أنه كان لا يكاد يصوم فإذا صام صام ثلاثة أيام من كل شهر ويقول إني إذا صمت ضعفت عن الصلاة والصلاة أحب إلي من الصوم ومن قدر على جمع الصوم مع غيره فقد يميل إليه إحرازا لفضيلته وللناس فيما يعشقون مذاهب.

(1/147)


في "الصوم لي"
روى عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل عمل ابن آدم فهو له إلا الصيام هو لي وأنا أجزي به", كأنه يحكيه عن الله "والذي نفس محمد بيده لخلفة فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" قيل: الصوم ليس بعمل لأنه ترك الأشياء ولكن الله تعالى يثيب على تركها كما يثيب على الأعمال الصالحة فيكون "إلا الصيام" بمعنى لكن كقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ} وعلامته أن يكون بعد إلا خبر تام وإذا لم يكن بعد إلا خبر تام فهو استثناء كقوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} قال القاضي: احتياج الصوم إلى النية دال على أنه عمل لكنه من أعمال القلوب.
قلت: في الصوم اتعاب البدن وليس له نظير في أعمال القلوب

(1/147)


واحتياجه إلى النية ليصير عبادة لا ليصير عملا والوجه في تخصيص الصوم بأنه لله كون الصوم غير ظاهر فلا يعلمه من صاحبه غير الله تعالى فلا يمكن أن يراد به سواه وسائر العبادات صلاة وصدقة وحجا وغيرها تظهر من فاعلها فيمكن أن يراد بها غير الله تعالى فلما كان الصيام مما ينفرد الله بمعرفته ان أخفاه ولا يقصد به سوى الله أضيف إليه بخلاف سائر العبادات والله أعلم.

(1/148)


في أي الصيام أفضل
عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحب الصيام إلى الله صوم داود كان يفطر يوما ويصوم يوما وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه" مع ما روى عن أبي هريرة أنه قال: أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي الصلاة بعد المكتوبة أفضل؟ قال: "صلاة في جوف الليل" قال: وأي الصيام أفضل؟ قال: "شهر الله الذي يدعونه المحرم" لا تضاد في الأفضل من الصيامين لأن المعنى أن المحرم أفضل الأوقات لمن أراد أن يصوم صوما خاصا وصيام داود أفضل لمن أراد أن يصوم دائما ففي المحرم فضل الوقت وفي صوم داود فضل الدوام ومنه ما روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله مرني بصيام قال: "صم يوما ولك تسعة أيام" قال: قلت يا رسول الله إني أجد قوة فزدني قال: "صم يومين ولك ثمانية أيام" قال: قلت: يا رسول الله إني أجد قوة, قال: "صم ثلاثة أيام ولك سبعة أيام" فما زال يحط به حتى قال: "إن أفضل الصوم صوم أخي داود صوم يوم وافطار يوم" فقال عبد الله لما ضعف: ليتني قبلت ما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيما روى عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "صم يوما ولك عشرة أيام" قال: زدني يا رسول الله فإن لي قوة قال: "صم يومين ولك تسعة أيام" قال: زدني فإن لي قوة, قال: "صم ثلاثة أيام ولك ثمانية أيام" قال ثابت

(1/148)


فحدثت بذلك مطرفا فقال: ما أراه إلا يزاد في العمل وينقص من الأجر ففيه أنه جعل لعبد الله بن عمرو في صوم اليوم الأول عشرة أيام يعني ثوابها ثم جعل له باليوم الثاني الذي زاده تسعة أيام يعني ثواب صيامها وباليوم الذي زاده بعد ذلك ثمانية أيام يعني ثواب صيامها فكل ما كثر عمله قل أجره1 ووجهه أن بصوم اليوم الأول قوته على قراءة القرآن والصلاة باقية من غير نقص فله الأجر كاملا بعشرة كاملة فأمره صلى الله عليه وسلم بالصيام الذي يبقي معه قوته ليصل إلى الأعمال التي نفعها أفضل من الصيام فلما قال له: زدني زاده يوما يكون ضعفه أكثر مما يكون عليه بصيام يوم فينقص بذلك حظه من هذه الأعمال التي نفعها أفضل فرد ثوابه على اليومين اللذين يصومهما مع تقصيره عن الأعمال إلى دون ثوابه على صوم اليوم الأول وكذلك رده في صيام الثلاثة الأيام من الثواب إلى ما دون ثوابه على صيام يومين لهذا المعنى2 ومنه ما روى عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أحب الصيام
__________
1 بحاشية الأصل – قلت: في توجيهه نظر لأنه يلزم أن يكون صوم يوم وافطار يوم أقل درجة من صوم يوم عشرة وقوله: "أحب الصيام إلي الله صوم داود" ينافيه والحديث يحتمل أنه صلي الله عليه وسلم أجاب عن قوله: مرني بصيام, بقوله: "صم يوما في عشرة أيام واصرف السبع الباقية" إلي الحظوظ المباحة
بدليل قوله صلي الله عليه وسلم: "إن لنفسك عليك حقا، ولزوجك عليك حقا"، فلما استزاده قال: "يومين ولك ثمانية" وكذا "صم ثلاثة ولك سبعة" وكذا قال له: "صم أربعة ولك ستة" بدليل قوله: فما زال يحط به حتي قال "إن أفضل الصوم صوم أخي داود" هو أن يصوم خمسة أيام ويكون له خمسة وجعل هذا أفضل الصيام فكلما كثر الصوم كثر الثواب لا كلما كثر ما فهم.
2 بحاشية الصل – قال القاضي: تابع الطحاوي مطرفا علي خطأ في تأويله إذ يلزم منه أن الحسنات لا يهبن السيئات وهو خلاف النص والحامل لهما علي
هذا التأويل البغيد ما روي بطريق آخر "صم يوما ولك أجر عشرة أيام" – "صم.. =

(1/149)


إلى الله عز وجل صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما".
لا يقال فيه أن صيام داود أفضل وفيه الزيادة على الصيام المذكور في الحديث الذي قبل هذا فدل على أن صوم ثلاثة أيام أحب من صوم يومين وصوم يومين أحب من صوم يوم وهذا خلاف ما ذكرنا آنفا لأنا نقول لا مخالفة بينهما لأن هذا إخبار عن صوم داود عليه السلام وحال الأنبياء في صيامهم ليس كغيرهم ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى الناس عن الوصال وواصل هو فقال إني لست كهيئتكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني فكذلك داود يكون صومه أحب إلى الله بخلاف غيره ومما يدل على أن قلة
__________
= يومين ولك أجر تسعة أيام – وصم ثلاثة أيام ولك أجر ثمانية أيام" – ولكن إذا ثبت هذا فتأويله أنه أراد صم يوما من كل أحد عشر يوما ولك أجر التي تفطر منهن وثلاثة أيام منها ولك أجر فطر ثمانية أيام فاعلمه صلي الله عليه وسلم أن له في غطر ما يفطر بها أجرا لأنه يتقوي به علي العمال الصالحة فندبه من صوم يوم ويومين إلي يوم ويوم مترقيا من الدني إلي العلي وسكت عن أجر الصوم لأنه معلوم مققر بخلاف أجر الفطر ألا تري أن صوم يوم عرفة لغير الحاج أفضل وفطره للحاج أفضل ويؤجر علي ترك صومه لحاجته إلي التقوي علي الأعمال والدعاء انتهي بمعناه دون لفظه – قلت ماذهب إليه الطحاوي من اضمار ثوب صيامها أظهر من اضمار أجر فطرها لأن الكلام سبق لثواب الصيام لا لثواب الفطر وكل منهما محتمل والتأويل من المجتهد الذي يخطئ ويصيب والله أعلم بمراد قائله الذي لا ينطق عن الهوي صلي الله وسلم فإن الصوم كف عن الشهوات والفطر إقدام عليها فكيف يكون عبادة مع موافقة النفس لها والفطر كما يصلح سببا للأعمال الصالحة يصلح لضدها أيضا فنفس الفطر ليس بعبادة إنما العبادة ما يؤتي بعده فأذن الجر للأعمال الحسنة لا للفطر ما فهم.

(1/150)


الصيام مع الملابسة بالأعمال المتقرب بها إلى الله أفضل ما روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألم أنبأ أنك تصوم الدهر وتقوم الليل" قلت: إني أقوى, قال: "إنك إذا فعلت ذلك نفهت له النفس وهجمت له العين" إلى أن قال: "فصم صوم أخي داود كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى" فأخبر أن داود مع صيامه هذا كان لا يفر إذا لاقى لبقاء قوته ولم يخرجه الصوم عما كان عليه من القوة بخلاف غيره لما يدخل على نفسه من الضعف في بدنه الذي يقطعه عن ذلك كما روى عن أنس قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا في يوم شديد الحر فمنا الصائم ومنا المفطر وأكثرنا ظلالا صاحب الكساء ومنا من يستتر من الشمس بيده فسقط الصوام وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذهب المفطرون بالأجر اليوم" وفي هذا كشف للمعاني الذي ذكرناها فيما تقدم.

(1/151)


في "شهرا عيد لا ينقصان"
عن خلد الحذاء عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة" يعني العبادة فيهما كاملة تامة في الصوم والحج وإن كانا ناقصين في العدد كما لها فيهما لو كانا ثلاثين ثلاثين ولا يصح حمله على نقصان العدد لوجود النقصان فيهما عددا وفي أحدهما دون الآخر مع أن قوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته" الحديث يحقق النقصان في بعض السنين وروى هذا الحديث عبد الرحمن بن إسحاق عن عبد الرحمن بن أبي بكرة على خلافه فقال فيه كل شهر حرام ثلاثون يوما وثلاثون ليلة وليس بشيء لأن عبد الرحمن ابن إسحاق لا يقاوم خالد الحذاء ولأن العيان يدفعه قال القاضي ولو صح لكان معناه في الأجر والثواب ويحتمل أن يكون شهرا عيد لا ينقصان كان في عام بعينه ويحتمل أن يكون على الأعم الأغلب لأنهما لا يجتمعان ناقصين في عام واحد إلا نادرا والله أعلم.

(1/151)


في صوم يوم عرفة
روى عقبة بن عامر الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أيام الأضحى وأيام التشريق ويوم عرفة عيدنا أهل الإسلام أيام أكل وشرب" هذه الأيام سوى يوم عرفة مخصوصات بمعنى يتقرب به إلى الله تعالى فيها من صلاة ونحر وتكبير عقيب المكتوبات فصارت بذلك أعيادا في جميع المواضع ووجدنا يوم عرفة مخصوصا بمعنى يتقرب به وهو الوقوف بعرفة لأهل الحج دون غيرهم من الناس فصار لهم بذلك عيدا فلم يصلح لهم صومه بخلاف غيرهم ممن ليس له بعيد يؤيده ما روى عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يوم عرفة بعرفة فصيام يوم عرفة فيما عدا عرفة جائز من حوله روى أبو قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن صيام يوم عرفة فقال: "يكفر السنة الماضية والباقية" لا يقال إن صام من عليه واجب يوم عرفة بعرفة عنه أجزأه بخلاف من صام يوما من تلك الأيام عن واجب عليه لا يجزيه فكيف افترقت أحكامها وهي مجموعة بمعنى واحد لأن الأشياء قد تجتمع في شيء واحد وأحكامها في أنفسها مختلفة من ذلك قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} فجمع الله هذه الأشياء في نهي واحد وأحكامها مختلفة لأن الرفث هو الجماع يفسد الحج وما سواه لا يفسد الحج فكذلك ما جمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهي عن صومه من الأيام المذكورة مع المخالفة بين أحكامها.

(1/152)