المعتصر من المختصر من مشكل الآثار

كتاب الحج
في رفع الصوت
...
كتاب الحج
فيه ثمانية وثلاثون حديثا
في رفع الصوت
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أتاني جبرئيل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالاهلال" وخرج ذلك من طرق كثيرة وألفاظ متقاربة ومعان متفقة لا يعارضه ما روى عن أبي موسى الأشعري لما دنونا المدينة أقبل الناس يرفعون أصواتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إن الذي تدعون بينكم وبين أعناق أكتافكم" ثم قال: "يا أبا موسى ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة" قلت: بلى قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله" وفي حديث آخر فرفع الناس أصواتهم بالتكبير فقال: "يا أيها الناس اربعوا عن أنفسكم", الحديث لأن التلبية من شعار الحج فسبيله رفع الصوت بها, روى عن أبي بكر الصديق قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الحج أفضل؟ قال: "العج والثج" فالعج: رفع الصوت بالتلبية والثج: نحر البدن فشعار الحج رفع الصوت بالتلبية فبان الحج بذلك كما بان به في سوى التلبية من حلق الرأس عند الاحلال ومن اجتناب المحظورات ولم يكن رفع الصوت بالتكبير في حديث أبي موسى من شعار دخول المدينة فلم يكن له معنى فظهر الفرق واندفع التعارض.

(1/156)


في دخول الكعبة
عن عائشة قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حزينا فقلت: مالك يا رسول الله حزينا؟ فقال: "إني دخلت الكعبة وددت أن لا أكون دخلتها أخشى أن أكون أتعب أمتي" خاف النبي صلى الله عليه وسلم ظن الأمة بعدم تمام الحج إلا بالدخول فيها إذ هو قربة كسائر القرب التي فعلها صلى الله عليه وسلم ليقتدى به فيها وهذا نحو قوله لبني عبد المطلب: "فلولا أن يغلبكم الناس على سقياكم لنزعت معكم" فناولوه دلوا فشرب فكان تركه لذلك خوف اقتداء الناس به فيحصل مشقة لأهلها على ما إليهم أمرها1 دون من سواهم ومثله في ترك التراويح قوله: "خشيت أن تكتب عليكم".
__________
1 كذا ولعله مالهم من أمرها – ح.

(1/157)


في ما يرخص للمحرم
روى عن عثمان بن عفان أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص إذا اشتكى المحرم عينه أن يضمدها بالصبر الصبر ليس بطيب ولكن في التضميد تغطية بعض الوجه إذ لو لم يكن كذلك لقيل له زمام لا ضماد ولا يعارضه ما روى أن عثمان غطى وجهه وهو محرم لأنه يحتمل أنه فعله لضرورة دعته وكفر مع ذلك كما روى عن ابن عباس أنه قال لمولاه زر على طيلساني فقال له: كيف تنهى عن هذا؟ فقال: أريد أن أفتدي فلعل عثمان فعله ليفتدي وفيما ذكرنا ما علم به أن تغطية الوجه في الاحرام حرام على المحرم وعن ابن عمر ما فوق الذقن من الرأس لا يخمره المحرم وهو القياس لأن المرأة في الاحرام لا تغطي وجهها مع سعة الأمر عليها في احرامها في تغطية الرأس ولبس المخيط فالرجل بذلك أحرى وهو قول أبي حنيفة ومالك.

(1/157)


في الثوب المعصفر
روى عن أم عطية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحد المرأة فوق ثلاثة أيام إلا على زوج فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا ولا تلبس ثوبا معصفرا إلا ثوب عصب ولا تكتحل ولا تمس طيبا إلا نبذات من قسط اظفار" فيه أن المعصفر من الطيب لأنه إنما نهيت عنه لأجله ولو كان لأجل الزينة لنهيت عن العصب لأنه فوق المعصفر في الزينة وفي هذا ما يؤيد مذهب أبي حنيفة وأصحابه في العصفر أنه ممنوع في الاحرام.

(1/158)


في لبس الخفين
روى عن عامر قال: سمع عمر مع عبد الرحمن بن عوف الغناء فأتاه في بعض الليل فلما أصبح رأى عليه خفين قال: والخفان مع الغناء؟ قال: لقد لبستهما مع من هو خير منك يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل لا حجة فيه إذ لم يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان وقف على ذلك منه فأمضاه له قلنا: روى عن عبد الرحمن ما يدل على وقوف رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك منه وتركه النكير عليه فيه وهو ما روى عن عامر قال: خرجت مع عمر إلى مكة ورجل معنا يرتجز فلما أن طلع الفجر قال له: هيه اذكر الله طلع الفجر ثم التفت فرأى على عبد الرحمن خفين وهو محرم فقال: وخف أيضا وأنت محرم؟ قال: فعلته مع من هو خير منك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعبه علي ففيه ما دل على جواز لباس الخف في الاحرام عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(1/158)


وعن أبي الشعثاء قال: أخبرنا ابن عباس سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفة يقول من لم يجد إزار لبس سراويل ومن لم يجد نعلين لبس خفين قلت: ولم يقل يقطعهما قال: لا وخرجه من طرق عن ابن عباس وجابر بن عبد الله وحدث مالك عن نافع عن ابن عمر أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما نلبس من الثياب إذا حرمنا فقال: "لا تلبسوا السراويلات ولا العمائم ولا البرانس ولا الخفاف إلا أن يكون أحد ليست له نعلان فليلبس خفين أسفل من الكعبين" فكان في هذه الآثار لمن لم يجد النعلين من المحرمين من الرجال أن يلبس الخفين بعد أن يقطعهما أسفل من الكعبين لا يقال هذه معان متضادة لاختلاف أوقاتها فإنه كان لباس الخفاف في الاحرام مباحا حالة الاختبار كما في حديث عبد الرحمن ثم نسخ ذلك بما في حديث ابن عباس وجابر بإباحة لبسها عند انعدام النعال من غير قطع ثم نسخ ذلك بما في حديث ابن عمر بالإباحة بعد أن يقطع أسفل من الكعبين وهذا باب من الفقه اختلف فيه أهله بعد الاجماع على نسخ الاباحة مطلقا فقال بعض بالإباحة عند العجز وهو مذهب الشافعي والثوري في قول وقال بعض بالإباحة بشرط القطع من أسفل الكعبين وهو أبو حنيفة وأصحابه ومالك وأصحابه ووجه ذلك في النظر أن الأشياء المحظورات كلبس الثياب وحلق الشعر تدفع الضرورة إليها الإثم في استباحتها ولا تدفع الكفارة فكذلك إذا احتيج إلى لبس الخفين لعدم النعلين يرتفع الإثم دون الكفارة الواجبة عليه في ذلك مع وجود النعلين.

(1/159)


في صيد المحرم
روى عن عبد الرحمن بن أبي عمار أنه سأل جابر بن عبد الله عن الضبع فقال: آكلها؟ قال: نعم - أصيد هي؟ قال: نعم, قلت: وسمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم, قد أنكر يحيى بن سعيد القطان على عبد الرحمن بن أبي عمار فقال كان يحدث به عن جابر عن عمر ثم صيره عن جابر عن

(1/159)


النبي صلى الله عليه وسلم وقد خالف إبراهيم الصائغ فيما روى عن عطاء عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الضبع فقال: هي من الصيد وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشا مسنا وتؤكل منصور بن زاذان وعبد الكريم بن مالك فرويا عن عطاء عن جابر أنه قال في الضبع إذا أصابها المحرم كبش واثنان أولى بالحفظ من واحد فوجب بما ذكرناه رد الحديث إلى من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس أنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير وروى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أكل كل ذي ناب من السباع حرام" وكانت هذه السنة قائمة ظاهرة في أيدي العلماء وكان أئمة الأمصار الذين تدور عليهم الفتوى متمسكين بتحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ذي ناب من السباع غير مختلفين فيه فوجب دخول الضبع في ذلك لأنها ذو ناب ولم يجز إخراجها منه.
قال القاضي - وفيه نظر لأن مالكا لا يحرم أكل كل ذي ناب من السباع وإنما ذلك عنده مكروه قال الطحاوي وما روى عن ابن عباس أنه سئل عن أكل لحوم الحمر الأهلية فلم ينه عن ذلك وتلا قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} الآية محمول على أنه ما كان عالما بالتحريم حتى وقف على تحريم الله تعالى على لسان رسوله الله صلى الله عليه وسلم ما حرمه من ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير ثم علم أنه مستثنى مما أمح بهذه الآية ولاحق بما حرم بها وهذا كما قال من دونه هو الزهري أنه لم يسمع بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع حتى دخل الشام أي فسمعه وأخذ به وقد كان معه علم ذلك بالمدينة فسقط عنه فاستثنى كل واحد من العلماء من الآية ما بلغ إليه تحريمه عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان في ذلك محمودا لتمسكه بكتاب الله تعالى ولماا أعلمه به رسول الله صلى الله عليه وسلم مما استثناه من مجمل الكتاب.

(1/160)


في صيد البر
ذهب الشافعي إلى أن المحرم من صيد البر ما يحل له أكله في حال الإحلال وكان ابن عمر أن يحكي عن أصحابه الذي حرم منه ما كانوا يصيدونه ليأكلوه وليطعموا لجوارحهم مما يأكلونه كالذئاب وذوي الناب من السباع وذوي المخالب من الطيور وهذا القول أولى لأن الله تعالى عم الصيد المأكول منه وغيره بقوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} لكن استدلاله بقوله لما أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحرم قتل الخمس الدواب دل على أن سواها غير مباح له قتلها فاسد إذ لا يمتنع أن يكون غير الخمس لاحقة بالخمس لعدم النص بمنع الالحاق مثل ما روى أنه قال صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم الذي لا يعطي شيئا إلا منه والمسبل إزاره والمنفق سلعته بالحلف الفاجر" فلم ينتف بذلك أن يكون غيرهم يلحق بهم إذ قد روى ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر وفي حديث آخر رجل على فضل ماء بالطريق يمنعه من ابن السبيل ورجل حلف على سلعته بعد العصر لقد أخذها بكذا وكذا فصدقه الذي باعه منه فأخذها وهو كاذب ورجل بايع إمامه لا يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه وفى وإن لم يعطه لم يف فإن قال كل من الثلاثة الحق بنصوص ولم يوجد نص في الحاق ما سوى الخمس بها قيل له فكيف ينفي بها غيرها مما لم يعلم أنها قد نفته فالحجة الصحيحة أن الله تعالى عم الصيد بقوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} فلم يصح أن يخرج من ذلك شيء إلا بآية مسطورة أو سنة مأثورة أو اجماع وأخرجنا الخمس الدواب من ذلك بالسنة المأثورة ولا ما سواها والله أعلم.

(1/161)


في العمرة في أشهر الحج
روى عن ابن عباس قال: كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور وكانوا يسمون المحرم صفر وكانوا يقولون: إذا برأ الدبر وعفى الأثر ودخل صفر حلت العمرة لمن اعتمر فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة وهم ملبون بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة فيه أن أمره صلى الله عليه وسلم الناس بترك الحج بعد إحرامهم به وإقامة العمرة مكانه لنقض ما كانت العرب عليه من تحريم العمرة في أشهر الحج وما روى عن ابن عباس قال: والله ما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر الجاهلية فإن هذا الحي من قريش ومن دان بدينهم كانوا يقولون إذا عفا الوبر وبرأ الدبر ودخل صفر فقد حلت العمرة لمن اعتمر فكانوا يحرمون العمرة حتى ينسلخ ذو الحجة والمحرم فهو مستحيل لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أمر الناس أن يفتتحوا لإحرامهم1 بالحج ويحرموا مكانه بعمرة وفيهم عائشة روى عنها قالت: خرجنا مع رسول اله صلى الله عليه وسلم ولا نذكر إلا الحج فلما جئنا سرف طمثت فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقال: "ما يبكيك؟ ", فقلت له: لوددت إني لم أحج العام أو لم أخرج العام, قال: "لعلك نفست" فقلت: نعم قال: "هذا أمر كتبه الله تعالى على بنات آدم فافعلي ما يفعل الحاج غير أن تطوفي بالبيت", قالت: فلما جئنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "اجعلوها عمرة" فحل الناس إلا من كان معه هدي فكان الهدي معه ومع أبي بكر وعمر وذي اليسارة ثم أهلوا بالحج فلما كان يوم النحر طهرت فأرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفضت فأتى بلحم بقر فقلت: ما هذا؟ فقالوا: أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه البقر حتى إذا كانت ليلة الحصبة قلت: يا رسول الله يرجع الناس بحجة وعمرة وأرجع بحجة فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر فأردفني خلفه فأنا لا أذكر أني كنت أنعس
__________
1 كذا ولعله "أن يفسخوا إحرامهم".

(1/162)


فيضرب وجهي مؤخرة الرحل حتى جئنا التنعيم فأهللت بعمرة حذاء عمرة الناس التي اعتمروها.
ففي هذا الحديث أن عائشة كانت أحرمت بالحج كما أحرم الناس ثم عاد إحرامها إلى العمرة كعود إحرام الناس إلى مثلها فأمروا أن يجعلوها عمرة ثم أدركها الحيض فيها فأمرت برفضها والاحرام بالحج مكانها.
وقد روى عن عائشة ما دل على ما قلنا من أنها كانت أحرمت بالحج ثم عادت إلى العمرة بسبب الحيض إلى الحج1 وروى عنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نهل بالحج ومن شاء فليهل بالعمرة قالت: فكنت ممن أهل بعمرة فحضت فدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم فأمرني أن أنقض رأسي وأمتشطه وأدع عمرتي فبينت في هذا الحديث أنها إنما خرجت من عمرتها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم إياها بنقض راسها وامتشاطها وتركها إياها ففي هذا كله ما قد دل على أن نقض النبي صلى الله عليه وسلم لما كان عليه المشركون مما ذكرنا إنما كان بفسخهم الحج واحرامهم بالعمرة لا بعمرة عائشة التي كانت ليلة الحصبة لأنها كانت قضاء لعمرتها التي كانت فيها كسائر الناس فخرجت عنها بالحيض الطارئ قبل طوافها لعمرتها ومما يدل على ما ذكرناه ما روى أن سراقة بن جعثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أصحابه أن يحلوا من الحج ويجعلوها عمرة: يا رسول الله أرأيت عمرتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد؟ قال: فشبك النبي صلى الله عليه وسلم أصابعه في الأخرى فقال: "دخلت العمرة هكذا في الحج" وقوله في حديث ابن عباس الثاني "أنهم كانوا يحرمون بالعمرة في المحرم" والمحرم ليس من شهور الحج وهم من رواية لأن المستفيض عند الناس من تحريم العرب العمرة إنما كان في شهور الحج لا فيما سواها وكذلك نص عليه في حديث ابن عباس الأول لأنه قال فيه أنهم كانوا يسمون المحرم صفرا فدل أنهم كانوا يريدون بقولهم ودخل صفر أي دخل محرم الذي كانوا يسمونه صفرا وقد روى هذا
__________
1 هكذا ولعله – ثم عادت إلي الحج – ح.

(1/163)


الحديث عن طاووس من أوقفه عليه ولم يرفعه إلى ابن عباس فقال فيه: قدموا بالحج خالصا لا يخالطه شيء يعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور وكان يعجبهم من أمر الإسلام ما كان في الجاهلية وكانوا يقولون إذا برأ الدبر وعفا الوبر وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر وهو أيضا وهم وإنما هو ودخل صفر يريدون به المحرم الذي كانوا يسمونه صفرا إذ ليس المحرم ولا صفر من أشهر الحج وروايته من روى عن جابر بن عبد الله قال لما قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في حجة الوداع سأل الناس بماذا أحرمتم قال: أناس أهللنا بالحج وقال آخرون: قدمنا متمتعين وقال آخرون: أهللنا بإهلالك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان قدم ولم يسق هديا فليحلل فإني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم اسق الهي حتى أكون حلالا" فقال سراقة بن مالك بن جعثم: يا رسول الله عمرتنا هذه لعامنا أم للأبد؟ فقال: "لا بل لأبد الأبد" مستبعدة لأنهم لم يكونوا يعرفون العمرة في أشهر الحج فكيف يتمتعون التمتع الذي لا يكون إلا بعمرة وهو وهم من رواية ورواية من ذكر أنهم كانوا أحرموا بالحج هي الصواب والله أعلم وكذلك ما روى عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الحج والعمرة فلما قدمنا مكة أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلوا فلما كان يوم التروية أهلوا بالحج.
مما يبعد كانوا لا يعرفون العمرة وكانوا يرونها في أشهر الحج من أفجر الفجور وكيف يجوز أن يؤمروا بالاحلال من الاحرام الذي كانوا فيه وفيه عمرة إلى عمرة وقد كان ابن عمر انكر على أنس بن مالك وأخبر أن احرامهم إنما كان بالحج لا عمرة معه وما روى عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس: "من شاء أن يهل بالحج فليهل ومن شاء أن يهل بالعمرة فليهل" هو عندنا والله أعلم على قول كان منه لهم بعد أن فسخوا الحج الذي كانوا احرموا به وقدموا مكة عليه فقال لهم: من شاء فليهل بالعمرة حتى يكون بها

(1/164)


متمتعا ومن شاء أن يهل بالحج بلا عمرة معه لأنه قد قامت الحجة بإحلالهم من الحج قبل ذلك فعقل عنهم أن ذلك لم يكن إلا بسبب أن يريد إباحة الإحرام لهم حينئذ لأنها كانت محرمة عليهم ولأنه لا يصلح إدخال العمرة على الحج ويصلح إدخال الحج على العمرة فأمرهم بالخروج من الحج لذلك ليتسع لهم الإحرام بالعمرة لمن شاء أن يحرم بها واستئناف حجة لمن شاء أن يحرم بها بلا عمرة معها.
فيرجع بحجة ولا عمرة معها روى عن عطاء عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "إذا رجعت إلى مكة فإن طوافك لحجك يكفيك لحجك وعمرتك" وقد روى عن عائشة هذا الحديث بخلاف هذه الألفاظ من ذلك ما روى عنها من رواية عطاء أيضا أنها قالت: قلت: يا رسول الله أكل أهلك يرجع بحجة وعمرة غيري قال: "انفري فإنه يكفيك" قال حجاج في حديثه عن عطاء فألظت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تخرج إلى التنعيم فتهل منه بعمرة وبعث معها أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر فأهلت منه بعمرة ثم قدمت وطافت وسعت وذبح عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عبد الله عن عطاء بقرة.
ومنه ما روى عن جابر بن عبد الله أن عائشة حاضت فنسكت المناسك كلها غير أنها لم تطف بالبيت فلما طهرت وأفاضت قالت: يا رسول الله أينطلقون بحجة وعمرة وانطلق بالحج؟ فأمر عبد الرحمن أن يخرج معها إلى التنعيم فاعتمرت بعد الحج في ذي الحجة ففي الحديث الأول ما يدل على أنها قد كانت بقيت في حرمة العمرة التي كانت أحرمت بها حتى حلت منها ومن الحجة التي كانت أحرمت بها في وقت واحد بطواف واحد كما يكون الطواف القارن في حجته وعمرته لهما غير أن قوله فيه: "طوافك لحجك يكفيك لحجك وعمرتك" يبعد في القلوب أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم لأن الطواف إن كان للحج فهو له دون العمرة وإن كان الطواف لهما جميعا لم يجز أن يضاف إلى أحدهما دون الآخر وقولها في الحديث أكل أهلك يرجع بحجة وعمرة غيري

(1/165)


يدل أنها لم تكن حينئذ في عمرة وإنما كانت في حجة لا عمرة معها إذ لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من قولها غذ لو كانت في عمرة وحج لكانت هي وغيرها سواء وما فضلوها بشيء ولتا احتاجت إلى عمرة بعد الحج وبعد العمرة اللذين كانا منها فاستحال أن يكون الطواف الذي كان منهال يجزئها لعمرة لم تكن فيها وحديث جابر عن عائشة يدل على ذلك أيضا ويخالف الحديث الأول وقد روى عن جابر أيضا ما شد الحديث الأول أن خروجها كان من حجها وعمرتها معا وهو ما روى أبو الزبير عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وهي تبكي فقال: "ما شأنك؟ " قالت: شأني أني حضت وقد حل الناس ولم أحل ولم أطف بالبيت والناس يذهبون إلى الحج الآن, قال: "فإن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاغتسلي ثم أهلي بالحج" ففعلت ووقفت المواقف حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وبالصفا والمروة ثم قال: "قد حللت من حجك وعمرتك جميعا" فقالت: يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت, قال: "ما دمت بها يا عبد الرحمن فاعمرها من التنعيم" وذلك ليلة الحصبة.
قال الطحاوي ولما اختلفت الرواة عن عطاء وجابر في حديث عائشة هذا الاختلاف نظرنا إلى رواية غيرهم عنها فوجدنا الأسود بن يزيد قد روى عنها قالت خرجنا ولا نرى إلا أنه الحج فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة طاف بالبيت ولم يحل وكان معه الهدي فحاضت هي قالت: فقضينا مناسكنا من حجنا فلما كانت ليلة الحصبة ليلة النفر قالت: يا رسول الله أيرجع أصحابك كلهم بحجة وعمرة وأرجع بالحج؟ قال: "أما كنت تطوفين 1 بالبيت ليالي قدمنا" قالت: لا, قال: "فانطلقي مع أخيك إلى التنعيم فأهلي بعمرة ثم موعدك كذا وكذا" قال: ففي سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عائشة طوافها دليل على أنها لو كانت طافت ليالي قدموا لكانت العمرة قد تمت لها فلما لم تطف لم تتم عمرتها وأمرها بالاعتمار من التنعيم ليكون لها عمرة مع الحجة
__________
1 هكذا وفي النسائي في رواية السود – أم كنت طفت.

(1/166)


التي صارت لها ويدل على أنها قد كانت خرجت من العمرة قبل ذلك أنه لا يجوز عند أهل العلم جميعا أن يدخل عمرة على عمرة ويختلفون فيما على من فعل ذلك فمنهم من يقول لا تلزمه وهو في حكم من لم يحرم بها وهو قول محمد بن الحسن والشافعي وروى ذلك عن عطاء ومنهم من يقول قد لزمته فإذا عمل في الأول صار رافضا لهذه التي أحرم بها وكان عليه لرفضها دم عمرة مكانها وهو قول أبي حنيفة ومنهم من يقول لما أحرم بها لزمته وكان حينئذ رافضا لها وعليه دم لرفضها وعمرة مكانها وهو قول ابي يوسف وروى مثله عن محمد بن الحسن أيضا فلما كان إدخال العمرة على العمرة غير محمود عند جميع العلماء استحال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة بذلك ودل على أنه لم يأمرها بالعمرة وإلا وقد كانت خرجت من عمرتها التي لم تطف لها ليالي قدموا إما بتوجهها إلى عرفة مريدة للحج كما تقول طائفة من أهل العلم منهم أبو حنيفة في أحد قوليه أن من أحرم بعمرة وهو في حجة أو كان في عمرة وحجة فتوجه إلى عرفة ولم يطف لعمرته أنه بذلك رافض لعمرته وعليه لرفضها دم وعمرة مكانها وأما بوقوفها بعرفة لحجها كما تقول طائفة أنه لا يكون رافضا حتى يقف بعرفة بعد الزوال فيكون حينئذ رافضا لها ويكون عليه دم لرفضها وعمرة مكانها وهو قول أبي حنيفة الآخر والله أعلم بأي ذلك كان واستحال بذلك أن تكون قارنة وثبت أنها كانت مفردة بحجة لا عمرة إذ كانت قد خرجت من عمرتها قبل ذلك بما خرجت به منها.
ولا حجة لمن استدل على أنها كانت قارنة بما في حديث جابر من أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر عنها بقرة لأنه يحتمل أن يكون نحر عنها لرفضها للعمرة وخروجها منها قبل تمامها كما يقول من ذكرنا عنه من أهل العلم ووجدنا عروة بن الزبير قد روى عنها ما يوجب أيضا خروجها من عمرتها تلك قبل توجهها إلى عرفة وقبل إحرامها بالحج وذلك رواية عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال رسول الله

(1/167)


صلى الله عليه وسلم: "من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منها جميعا" قالت: فقدمت مكة وأنا حائض فلم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة" ففعلت فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن فاعتمرت فقال: "هذه مكان عمرتك" قالت: فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا.
ووجدنا القاسم بن محمد قد روى عنها ما يوجب ذلك غير أنه خالف الأسود وعروة في شيء من حديثه إذا وقف عليه تبين معناه ثم وافقهما في بقية التي يوجب ما ذكرناه وذلك حديثه عنها أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نذكر إلا الحج فلما جئنا سرف طمثت فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقال: "ما يبكيك؟ " فقلت لوددت أني لم أحج العام قال: "لعلك نفست؟ " قلت: نعم قال: "فإن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت " فلما جئنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "اجعلوها عمرة" فحل الناس إلا من كان معه الهدي فكان معه ومع أبي بكر وعمر وذي اليسارة ثم أهلوا بالحج فلما كان يوم النحر طهرت فأرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفضت حتى إذا كانت ليلة الحصبة قلت: يا رسول الله أيرجع الناس بحجة وعمرة وأرجع بحجة؟ فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر فأردفني خلفه حتى جئنا التنعيم فأهللت بعمرة جزاء عمرة الناس التي اعتمروها ففي هذا الأثر أيضا ما قد حمل1 على خروجها من العمرة الأولى التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في حجتهم التي كانوا فيها وهي منهم أن يجعلوها عمرة فلم تكن في وقت طوافها في عمرة مع الحجة ووافقهم على روايتهم عنها ابن أبي مليكة فيما ذكرناه ما يدفع حديث عطاء الذي ذكرناه أولا لأن النبي
__________
1 كذا ولعله "دل".

(1/168)


صلى الله عليه وسلم لم يأمرها أن تنقض شعرها وهي في حرمة عمرة لأن في ذلك ما يسقط به شعرها ولا يأمرها أن تمتشط والأغلب في الامتشاط أنه يكون بالطيب أو بما يمنع منه الإحرام سواه وفيه ما هو أدل من هذا وهو قوله هذه مكان عمرتك أو هذه قضاء من عمرتك إذ لا يكون الشيء مكان الشيء ولا قضاء منه إلا وذلك الشيء مفقود قبله.
قال الطحاوي: ثم رجعنا إلى طلب الحكم في ذلك من غير حديث عائشة أو في غير قصتها التي ذكرنا فوجدنا ما روى عن نافع أن عبد الله بن عمر أراد الحج عام نزل الحجاج بابن الزبير فقيل له إن الناس كائن بينهم قتال وإنا نخاف أن يصدوك فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} إذا أصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أشهدكم أني قد أوجبت عمرة ثم خرج حتى إذا كان بظهر البيداء قال: ما شان العمرة والحج إلا واحد إني أشهدكم أني قد أوجبت حجا مع عمرتي, وأهدي هديا اشتراه بقديد فانطلق يهل بهما جميعا حتى قدم مكة فطاف بالبيت وبين الصفا والمروة ولم يزد على ذلك ولم ينحر ولم يقصر ولم يحل من شيء حرم عليه حتى كان يوم النحر فنحر وحلق ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم زاد في حديث آخر قال: وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدل ذلك على اتصاله لأن قوله في الحديث الأول: وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون من كلام نافع.
فإن قيل: ففيه ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما طاف لعمرته وحجه طوافا واحدا قلنا: أن سالما قد روى عن ابن عمر ما يخبر به أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في حجته تلك متمتعا لا قارنا روى عنه أنه قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى وساق الهدي من ذي الحليفة وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج فهذا يخبر أن

(1/169)


طواف العمرة قد كان قبل طواف الحجة لأن المتمتع هكذا يفعل ولأن إحرام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجة إنما كان بعد ما طاف للحجة التي تحولت عمره كما في حديث جابر بن عبد الله روى جعفر بن محمد عن أبيه قال دخلنا على جابر فسأله عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج ثم اذن في الناس بالعاشرة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجنا حتى إذا أتينا ذي الحليفة أهل بالتوحيد وأهل الناس بهذا الذي يهلون به ولم يزد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئا ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته قال جابر لسنا ننوي إلا الحج لسنا نعرف العمرة حتى إذا كان آخر طواف على المروة قال: "إني لو أستقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي وجعلتها عمرة فمن كان ليس معه الهدي فليحلل وليجعلها عمرة" فحل الناس وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان أهدى.
قال الطحاوي: ففيه ما دل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد طاف لها حينئذ وعقلنا بذلك أن الطواف الذي طافه بعد أن رجع إلى منى كان طوافا لحجته لا لعمرته لأن المتمتع يطوف لعمرته قبل خروجه إلى منى أو لعمرته ولحجته على ما يختلف في ذلك لا طواف لعمرته غير ذلك الطواف ثم يكون الطواف الذي يطوفه بعد أن يرجع من منى إلى مكة إنما هو لحجته لا لعمرته فاستحال أن يكون ابن عمر يريد بقوله وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي طاف طوافا واحدا لعمرته ولحجته لأن ذلك الطواف الذي كان منه إنما كان منه لحجته لأن عمرته قد طاف لها مرة وإنما للعمرة طواف واحد والحج له طوافان طواف عند القدوم إلى مكة وطواف بعد الرجوع من منى فإن قيل فقد روى عن عائشة في الحديث المتقدم بطوله إلى قوله: "وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا" فهذه عائشة تخبر في هذا الحديث أن الذين جمعوا الحج والعمرة إنما طافوا طوافا واحدا – قلنا

(1/170)


قد روى عن عائشة من رواية عروة عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم تمتع في حجة الوداع وتمتع الناس معه وإذا كان فيها متمتعا كان طوافه لعمرته إنما يكون عند قدومه وطوافه الذي يكون منه بعد أن يرجع من منى إنما يكون لحجته دون عمرته واحتمل بذلك أن يكون قول عائشة: فإنما طافوا لهما طوافا واحدا أي طوافا واحدا للإحرام الذي كانوا فيه فكان ذلك الطواف للحج لا للعمرة ومما حقق أن الطواف للقارن طوافان أن علي بن أبي طالب قد كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومذهبه في طواف القارن أنه طوافان وروى عن أبي نصر قال: أهللت بالحج فأدركت عليا فقلت له إني أهللت بالحج أفأستطيع أن أضيف إليه عمرة قال لا لو كنت أهللت بالعمرة ثم أردت أن تضيف إليها الحج ضممته قال قلت كيف أصنع إذا أردت ذلك قال تصب عليك أداوة من ماء ثم تحرم بهما جميعا وتطوف لكل واحدة منهما طوافا قال منصور بن إبراهيم راوي الحديث عن أبي نصر فذكرت ذلك لمجاهد فقال ما كنت أفتي الناس إلا بطواف واحد فأما الآن فلا.
قال الطحاوي: فاستحال أن يكون علي رضي الله عنه يأمره بخلاف ما فعلوه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روى ذلك أيضا عن ابن مسعود أنه قال القارن يطوف طوافان ويسعى سعيين وهو ممن قد كان مع النبي صلى الله عليه وسلم - في حجته وإذا كان لا طواف للعمرة إلا طواف القدوم وطواف القدوم للحجة ليس يغني عن الطواف لها بعد الرجوع من منى لأن الطواف لها بعد الرجوع من منى هو الفرض والطواف للعمرة الذي هو الفرض فيها هو الطوف عند القدوم فكان موضعهما مختلفا عقلنا بذلك أن أن من جمع الحج والعمرة فقد جمع إحرامين الطواف لكل واحد منهما في وقت غير الوقت الذي يكون فيه الطواف الاخر منهما فعقلنا بذلك أنهما طوافان لا طواف واحد وروى عن جابر بن عبد الله قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج معنا النساء والولدان فلما قدمن مكة طفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقال لنا

(1/171)


رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يكن معه هدي فليحل" قلنا: أي الحل؟ قال: "الحل كله" فأتينا النساء ولبسنا الثياب ومسسنا الطيب فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج وكفانا الطواف الأول بين الصفا والمروة هذا مشكل لأن السعي بين الصفا والمروة.
مما لا بد منه في الحج في قول أهل العلم جميعا فلا يجزي فيه الطواف بينهما قبل الدخول في الحج الذي كان منهم قبل أن يتحول ما كانوا فيه إلى العمرة وقد خالف ذلك ما في حديث عائشة الذي ذكرناه فيما تقدم من قولها فيه فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم هو على طواف كالطواف الأول الذي كانوا طافوه للعمرة وفيه الطواف بين الصفا والمروة وهو أولى من حديث جابر لما قد بيناه قبل هذا من وجوب السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة وروى عنه أيضا خرجنا مع رسول الله صلى اله عليه وسلم في حجة الوداع لسنا ننوي إلا الحج حتى إذا كان آخر الطواف على المروة قال إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة فمن كان ليس معه هدي فليحلل إنما افترق من ساق الهدي ممن لم يسقه في الاحلال بعد تمام العمرة التي رجعوا إليها بعد أن كان إحرامهم بالحج من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن تمتع بالعمرة إلى الحج إذا لم يسق الهدي أنه يحل بعد فراغه من عمرته كما يحل المعتمر الذي لا يريد التمتع وأنه ذا ساق هديا لتمتعه لم يحل بين عمرته وحجته حتى يكون إحلاله منهما معا على ما روى عنه صلى الله عليه وسلم من رواية حفصة قالت: قلت يا رسول الله ما شان الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك؟ قال: "إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أحل من الحج" وعلى ما روى عنه صلى الله عليه وسلم من رواية ابن عباس أنه قال: "هذه عمرة استمتعنا بها فمن لم يكن عنده هدي فليحل الحل كله فقد دخلت العمرة في الحج".
ومن رواية عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لو استقبلت من أمري

(1/172)


ما استدبرت ما سقت الهدي ولحللت مع الناس حين حلوا من العمرة", وهكذا كان أبو حنيفة وأصحابه والثوري يقولون في المتمتع بالعمرة إلى الحج أنه لا يحل بينهما إذا ساق الهدي حتى يحل منهما جميعا والحجازيون يخالفونهم في ذلك ولا يجعلون لسياقة الهدي في هذا المعنى ويقولون أن المتمتع بعد فراغه من عمرته يحل منهما سواء كان ساق هديا أو لم يسقه وليس لأحد أن يخرج عما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل بغير خصوصية في ذلك لأحد دون أحد وروى عنه أيضا أن عليا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن ومعه هدي فقال له: "ماذا قلت حين فرضت الحج؟ " قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك قال: "فلا تحلل فإن معي هديا" وفيما روى عن أبي موسى قال قدمت على رسول الله صلى الله عليه وهو منيخ بالبطحاء فقال لي: "بما أهللت؟ " قلت: إهلالا كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قد أحسنت طف بالبيت وبين الصفا والمروة ثم أحل" إنما افترق أمرهما في الإحلال مع استوائهما في الإهلال لأن عليا كان معه هدي ولم يكن مع أبي موسى هدي والإهلال لا يوجب اللبث بين العمرة والحج حتى يكون الإحلال منهما معا إنما الذي يوجب ذلك الهدي الذي ساق لهما لا ما سواه وفي إهلال كل واحد منهما بمثل إهلال النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يعلم إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أحرم ولا بما به أحرم دليل على أن من أحرم كإحرام فلان دون أن يدري ما هو أنه يكون محرما كإحرامه ولا يضره جهله بذلك وأن من دخل في شيء قبل علمه بدخول وقته أو قبل علمه أن ما كان دخل فيه له قد كان أنه يرد إلى حقيقة ذلك الشيء فيجعل من دخل فيه على جهله كمن دخل فيه على علمه من ذلك من دخل في صلاة الظهر ولا يعلم أن الشمس قد زالت ثم علم أنها قد كانت زالت أن صلاته تجزئه كما تجزئه لو كان دخل فيها بعد علمه بدخول وقتها ومثل ذلك من دخل في صوم يوم على أنه يصومه من رمضان ولم يعلم أن الهلال قد رئى قبل ذلك أن الصوم يجزئه من رمضان كما كان أبو حنيفة وأصحابه يقولون في ذلك وبخلاف ما كان يقول مخالفهم فيه من أنه لا يجزئه حتى يعلم وجوب فرضه عليه قبل دخوله فيها وبالله التوفيق.

(1/173)


في الطواف
عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله تعالى أحل لكم فيه المنطق فمن نطق فلا ينطق إلا بخير" فيه دليل على أن الطائف ينبغي أن يكون حاله كحال من يصلي في الطهارة وستر العورة والخشوع والحضور وأن لا يخرج إلى ما يمنع من مثله المصلي إلا إلى ما أبيح له مما يكون به طائفا وهذا مثل ما قلنا في بيان النهي عن تشبيك الأصابع في التوجه إلى المسجد وروى عن طاوس عن رجل أدرك النبي صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما الطواف صلاة فإذا طفتم فأقلوا الكلام" فقد يكون ذلك الرجل أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره فلا تقوم به الحجة على مذاهب أصحاب الإسناد واختلف الفقهاء فيمن طاف الطواف الواجب جنبا فقال بعضهم أن عليه أن يعيده فإن لم يفعل حتى رجع إلى أهله عليه بدنة ويجزئه وإن كان طافه وهو على غير وضوء ولم يرجع إلى أهله ولم يعده كان عليه دم ويجزئه ذلك عن الطواف وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وقال غيرهم من أهل الحجاز ومن سواهم: لا يجزئه وهو عندهم كمن لم يطف والأولى بنا إذا لم نجد فيه شيئا من كتاب ولا سنة أن نرجع إلى النظر الصحيح ونقول فيه بالجواز قياسا على الإهلال بالحج والعمرة لأنهم قد أمروا ألا يفعلوه إلا مع الطهارة كما أمروا ألا يطوفوا إلا وهم طاهرون فلما كان عدم الطهارة لا يمنع صحة الإحرام كان مثله الطواف.

(1/174)


في السعي
عن الزهري عن عروة قال: سألت عائشة فقلت: أرأيت قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية فقلت: والله ما على أحد جناح

(1/174)


ألا يطوف بين الصفا والمروة فقالت عائشة: بئس ما قلت يا ابن أختي, إن هذه الآية لو كانت على ما تأولتها عليه كانت "فلا جناح عليه أن يطوف بهما" وإنها إنما أنزلت في الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدون عند المشلل وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك أنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ثم قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما قال الزهري: فأخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن بالذي حدثني عروة عن عائشة فقال أبو بكر: إن هذا العلم ما كنت سمعته ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يزعمون أن الناس إلا من ذكرت عائشة ممن كان يهلل لمناة الطاغية كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة فلما ذكر الله عز وجل الطواف بالبيت ولم يذكر الطواف بالصفا والمروة قالوا هل علينا يا رسول الله أن نطوف بالصفا والمروة فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} قال أبو بكر فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما في الذين كانوا يتحرجون في الجاهلية أن يطوفوا بالصفا والمروة والذين كانوا يطوفون في الجاهلية بين الصفا والمروة ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام من أجل أن الله أمر بالطواف بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة مع الطواف بالبيت حين ذكره وقد روى عن عائشة أنها قالت: ما تمت حجة أحد ولا عمرته ما لم يطف بين الصفا والمروة لا يقال رأيا فإن قيل فقد كان ابن عباس يقرؤها فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما قلنا: يحمل لا على الصلة كقوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} بمعنى ليعلم وكقوله: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} بمعنى أن تسجد فيكون معناه أن يطوف حينئذ على ما عليه القراءة الثابتة في الصحف التي قامت بها الحجة وقد روى عن أنس مثل حديث عائشة بزيادة قوله: وهما

(1/175)


تطوع" وذلك رأي منه إذ لم يذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد خالفته عائشة في ذلك وروت أنه سن الطواف بهما في الحج والعمرة جميعا وقالت هي ما تمت حجة أحد ولا عمرته ما لم يطف بين الصفا والمروة فكان هذا عندنا أولى من قول أنس لاسيما وفقهاء الأمصار لا يختلفون فيه ولم يقولوا ذلك كابرا عن كابر إلا بما وجب أن يقولوه به فلا معنى لخلاف ذلك ولا يصلح القول به والله أعلم.

(1/176)


في عرفة والمزدلفة
عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عرفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرفة والمزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن محسر وشعاب منى كلها منحر" يحتاج إلى الوقوف على سبب الارتفاع عن بطن عرفة لكون عرنة ليس من عرفة أم لغير ذلك فوجدنا ما روى عن علي بن أبي طالب قال وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فقال: "هذه عرفة وهذا الموقف وعرفة كلها موقف وجمع كلها موقف".
وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل عرفة موقف وكل المزدلفة موقف" يدل على أنه من عرفة قطعا لكن ما روى عن شرحبيل قال: سمعت عمرو بن معد يكرب يقول: كنا عشية عرفة ببطن عرنة نتخوف أن يتخطفنا الجن فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجيزوا إليهم فإنهم أسلموا إخوانكم" كذا روى والأصح "فإنهم إذا أسلموا إخوانكم" أي إذا صاروا مسلمين فيه أنهم كانوا يقفون عشية عرفة ببطن عرنة خوفا منهم على أنفسهم أن يتخطفهم الجن وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يجيزوا إليهم أي إلى ما سوى بطن عرنة من عرفة وهي المواضع التي كانت الجن فيها قبل ذلك وكانوا يخافون من غواتهم فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم انهم إخوانهم إذ قد اسلموا فكان هذا الأمر بعد إسلام الجن.
فإن قيل فهل كان الجن يحجون قبل إسلامهم قلنا وما يمنع من ذلك

(1/176)


كما كان كفار بني آدم يحجون حتى نسخ بقوله تعالى: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} فأنذروا في الحجة التي حجها أبو بكر وأما أمره صلى الله عليه وسلم بالارتفاع عن محسر وهو من المزدلفة فذلم بمعنى آخر يحتمل أن يكون لخروجه من مشاعر إبراهيم فأمر الناس بالرفع عنه وبالرجوع إلى مشاعر إبراهيم والله أعلم بمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1/177)


في الإفاضة من عرفات
روى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى الصبح يوم عرفة بمنى مكث قليلا حتى طلعت الشمس فركب وأمر بقبة من شعر فنصبت له بنمرة فسار ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية فأجاز حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فركب حتى أتى بطن الوادي فخطب الناس فيه أن قريشا كان موقفهم يوم عرفة خلاف الموقف الذي يقف فيه الناس اليوم وذلك لأن عرفة ليست من الحرام وقريش لا تجاوز الحرم ولا تقف لحجها في يوم عرفة إلا في موضع الحرم وكان ذلك هو المزدلفة وروى عن محمد بن جبير عن أبيه قال ذهبت اطلب بعير إلى يوم عرفة فخرجت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة مع الناس فقلت إن هذا من الحمس فما له خرج من الحرم وكانت قريش تقف بالمزدلفة.
وروى عن عائشة كانت قريش تقف بالمزدلفة ويسمون الحمس وسائر العرب تقف بعرفة فأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقف بعرفة ثم يدفع منها وأنزل عليه {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} ففيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان في الجاهلية لتوفيق الله إياه يقف يوم عرفة حيث يقف الناس سوى قريش وفي الآية دليل على أن الإفاضة من ذلك المكان وقد كان منهم قبلها وقوف فيه وقد روى عن يزيد بن سنان

(1/177)


قال: أتانى ابن مربع الأنصاري بعرفة ونحن في مكان الموقف فقال: أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم يقول لكم: كونوا على مشاعركم هذه فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم عليه السلام فيه دليل على أن عرفة قد كان من مواقف إبراهيم في الحج حيث يقف الناس اليوم لحجهم.

(1/178)


في الإفاضة من جمع
روى عن الشعبي عن عروة بن مضرس قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله احفيت وانقبت, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك جمعا والإمام واقف ووقف مع الإمام ثم أفاض مع الناس فقد أدرك الحج ومن لم يدرك فلا حج له" فوت الحج بفوات الوقوف بجمع لم ينقله أحد عن الشعبي غير مطرف بن طريف فأما الجماعة من أصحابه فلا يذكرونه فيه وإنما يروون عنه عن عروة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بجمع فقلت: يا رسول الله هل لي من حج وقد أنضيت راحلتي, فقال: "من صلى معنا هذه الصلاة وقد وقف معنا" قبل ذلك وأفاض من عرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه وزاد بعضهم من شهد معنا هذه الصلاة ووقف معنا حتى نفيض وقد كان وقف قبل ذلك بعرفة من ليل أو نهار فقد تم حجه وقضى تفثه وزاد بعضهم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين برق الفجر ثم ذكر الحديث وقال بعضهم: جئت من جبلي طيء وقد أتعبت نفسي وانضيت راحلتي ولم يبق جبل من جبال عرفة إلا قد وقفت به فهل لي من حج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من صلى معنا صلاتنا هذه" الحديث فتأملنا زيادة مطرف عن الشعبي على أصحابه بعد وقوفنا على اتفاق فقهاء الأمصار على أن من فاته الوقوف بجمع وقد كان وقف بعرفة قبل ذلك لا يفوته الحج بل هو مدرك له ويجيز ما فاته منه بالدم غير شرذمة ذهبت إلى فوات حجه إن فاته الوقوف بجمع بعد طلوع الفجر كفوت الوقوف بعرفة حتى يطلع الفجر ولا نعلم أحدا ممن تقدم نقل هذا عنه غير علقمة بن قيس مع أنه يحتمل أنه أراد به التغليظ

(1/178)


في التخلف عن المزدلفة كمثل ما روى "لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له" فكذلك قوله: "لا حج له" يريد كحج من أدرك الصلاة معنا بالمزدلفة ووقف بها ويؤيده النظر الصحيح وذلك أنا قد وجدنا الوقوف بعرفة من صلب الحج لا يجزئ الحج إلا به كان له عذر أو لم يكن وجمع ليس كذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لسودة أن تفيض منها قبل أن تقف قالت عائشة: كانت سودة ثبطة ثقيلة فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن تفيض من جمع قبل أن تقف فأذن لها ولوددت أني كنت استأذنته فأذن لي.
وكذا قدم ضعفه أهله من جمع بليل ويرتفع بعذر فليس من صلب الحج ألا ترى أن طواف الإفاضة فرض لا يرتفع بعذر وطواف الصدر بخلافه فإن الحائض عذرت في تركه.

(1/179)


في من أدرك جمعا
روى عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا بعرفات فأقبل ناس من أهل نجد فسألوه عن الحج فقال: "الحج يوم عرفة ومن أدرك جمعا قبل صلاة الصبح فقد أدرك الحج" أيام منى ثلاثة أيام أيام التشريق {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} ثم أردف خلفه رجلا ينادي بذلك معنى قوله: "فقد أدرك الحج" أي لم يفته كما فات من لم يدرك الوقوف بعرفة لا أنه كمن أكمل حجه حتى لا يحتاج إلى عمل ما بقي منه عليه ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" ليس يعني أنه كمن صلاها ولكنه بمعنى أنه قد أدرك من ثوابها ما أدركه من دخل فيها من أولها ومعنى {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} أي في تركه الترخيص برخصة التعجيل في يومين غذ لا يقال لا إثم عليك إلا لمن قصر فيما رخص له فيه ومن لم يتعجل في يومين فلم يقصر في شيء فإنما رفع الحرج عنه في ترك الأخذ بالرخصة كما لا يقال لمن صلى في أول وقتها لا إثم عليك.

(1/180)


في الجمار
عن ابن عباس قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعفة أهله ليلا من جمع وقال لهم: "لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس" وخرجه من طرق كثيرة في بعضها: "لا ترموا الجمرة إلا مصبحين" وتصحيح ذلك مع غيرها من الأحاديث على المنع من جمرة العقبة يوم النحر حتى تطلع الشمس وإذا كان هذا حكم المترخص بالتعجيل من هناك كان من لا رخصة الأحاديث على المنع من جمرة العقبة يوم النحر حتى تطلع الشمس وإذا كان هذا حكم المترخص بالتعجيل من هناك كان من لا رخصة له في ذلك بالنهي أولى وبهذا احتج الأوزاعي والثوري على إعادة الرمي إن رمى جمرة العقبة قبل طلوع الشمس وهو القول عندنا إذ لا خروج عما قاله صلى الله عليه وسلم.
وعن أبي مجلز سألت ابن عباس عن رمي الجمار فقال: والله ما أدري بكم رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بست أو بسبع.
وروي عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: لا أدري بكم رمى النبي عليه الصلاة والسلام وعن ابن عباس عن الفضل بن عباس قال كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم فرمى جمرة العقبة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منهن فدل ذلك على أنه إنما أخبر في الحديث الأول عن رؤية نفسه ثم أخبر في الحديث الثاني بحقيقة عدد ما رماها به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه سبع حصيات ومثل هذا يتأول على جابر بن عبد الله فيما روى عنه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة مثل حصى الحذف رمى من بطن الوادي ثم انصرف.
وقد تعلق قوم بما روى عن ابن عباس وجابر في هذا من قولهما فأباحوا بذلك للحاج أن يرمي الجمرة بما شاء من الحصى بغير عدد يقصد إليه قصر عن السبعة تجاوزها وذكروا في ذلك ما روى عن أبي حية الأنصاري أنه قال: لا بأس بما رمى به الإنسان الجمرة من الحصى يقول من عددها فبلغ قوله ذلك ابن عمر فقال: صدق أو حية رجل من أهل بدر وما روى عن سعد بن أبي وقاص قال قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم في حجته منا من رمى بسبع وأكثر وأقل فلم يعب

(1/180)


ذلك علينا.
وما روى عنه أيضا قال رجعنا في الحجة مع النبي صلى الله عليه وسلم وبعضنا يقول: رميت بسبع وبعضنا يقول: رميت بست فلم يعب بعضهم على بعض ولكن قد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "رمى الجمرة بسبع سبع" من رواية عبد الله بن عمر وعائشة وسليمان بن عمرو بن الأحوص عن أمه فكان الرمي بعدد معلوم كما كان منه الطواف بالبيت والسعي بعدد معلوم أولى أن يؤخذ به مع أنه قال صلى الله عليه وسلم: "لتأخذ أمتي مناسكها فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا" ليتبع في أفعاله فكما وجب أن يتبع في عدد الأشواط ولا يخرج عنها بزيادة ولا نقصان فكذلك يجب أن يتبع في عدد الحصى ولا يخالف ولا يعصى.
وروى عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافى الضحى معه بمكة يوم النحر1 لا حجة للشافعي فيه على تجوزيه رمي جمرة العقبة قبل الفجر ليلة النحر بعد مضي نصف الليل إذ لا يمكنها الموافاة بمكة ضحى إلا وقد دفعت من جمع قبل طلوع الفجر لبعد المسافة بينهما فلابد من رميها جمرة العقبة قبل طلوع الفجر لأن مداره على أبي معاوية محمد بن خازم الضرير واضطرب فيه فرواه مرة عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب عن أم سلمة ورواه مرة عنها بالسند أن رسول الله صى ل الله عليه وسلم أمرها يوم النحر أن توافى معه صلاة الصبح بمكة وهذا خلاف ما في الحديث الأول لأن فيه أمرها يوم النحر بهذا عن اليوم الذي بعده وذكر أحمد بن حنبل الحديث الأول وقال أنه خطأ ولم يسنده غير أبي معاوية وقال وروى عن عروة مرسلا أنه أمرها أن توافيه صلاة الصبح يوم النحر بمكة وهو أيضا عجب وما يصنع النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بمكة ينكر ذلك وسألت عن ذلك يحيى بن
__________
1 بهامش الصل – قال القاضي كذا وقع في الأم وأراه أن توافي الصبحفهو الذي يدل عليه ما بعده من الأحاديث ويستقيم التعلق به للشافعي رحمه الله تعالي.

(1/181)


سعيد فقال إنما الحديث أن توافي ليس أن توافيه.
قال الطحاوي: وهذا كلام صحيح يجب به فساد الحديث وقد روى عن هشام بن عروة عن أبيه أن يوم أم سلمة دار إلى يوم النحر فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة جمع أن تفيض فرمت جمرة العقبة وصلت الفجر بمكة ويحتمل أن يكون رميها كان بغير أمره إياها ويكون الذي أراده صلى الله عليه وسلم منها ما أراده من غيرها من ضعفة هلها أن يرموها بعد طلوع الشمس على ما قد ذكرناه وقد روى مسندا عن هشام عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أم سلمة أن توافيه يوم النفر بمكة زاد غيره من الرواة وكان يومها فأحب أن توافيه.
وقد روى أن أفاضة النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة إنما كان في آخر يوم النحر وروى عنه أنه أخر طواف الزيارة إلى الليل ففي هذا دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن به حاجة إلى موافاة أم سلمة إياه يوم النحر بمكة وفيه ما دل على فساد حديث أبي معاوية المبدي بذكره قال القاضي: ويحتمل أن يأول على أن فيه تقديما وتأخيرا تقديره أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها يوم النحر أن توافى معه الضحى بمكة على ما في الحديث الذي بعده فيستقيم معناه ولا يكون الإنكار من أنكره وجه ويسقط احتجاج الشافعي لمذهبه الذي قد شذ فيه وخرج به عن الجمهور.

(1/182)


في المبيت بمنى
روى أن العباس استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل السقاية فأذن له فيه أن من سوى العباس ممن لا سقاية له لا يرخص في المبيت عن منى ليالي منى وما روى أنه صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت كل ليلة من ليالي منى لا يضاده لأنه يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم يزوره ويرجع قبل نصف الليل فيبيت في ليلته تلك بمنى بل فيه دليل على أنه لا يلزم أن لا يبرح الحاج عن منى لياليها وإنما عليه أن لا يبيت إلا بها ولهذا يجوز أن يأتوا

(1/182)


مكة بليل فيكوفوا طواف الزيارة ثم يرجعون إليها للمبيت ألا ترى أن من حلف أن لا يبيت في هذا المنزل الليلة فأقام فيه قبل نصفها لا يحنث ولو أقام أكثر من نصفها ثم خرج عنه إلى غيره فأقام فيه بقيتها يحنث لأنه بات فيه يحققه أنك إذا لقيت رجلا قبل نصف الليل حسن أن تسأله أين يبيت وإذا لقيته بعد نصف الليل حسن أن تسأله أين بات.

(1/183)


في الحلق والتقصير
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم ارحم المحلقين" قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: "اللهم ارحم المحلقين" قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: "والمقصرين" سبب تكرار الدعاء للمحلقين هو ما روى أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالترحم؟ قال: "إنهم لم يشكوا" وذلك أن يوم الحديبية لما حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق معه كثير من الصحابة وأمسك آخرون فقالوا: والله ما طفنا بالبيت فقصروا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم ارحم المحلقين" الحديث فلما توقفوا وبادر المحلقون إلى الاقتداء به فضلوا عليهم لا لفضل في نفس الحلق لأن الله تعالى أباحهما فقال: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ} ولكن لأن السبق إلى المعرفة يوجب الفضيلة للسابقين إليها كما وجبت الفضيلة لأبي بكر بسبقه إلى التصدييق في إخباره صلى الله عليه وسلم بإتيان بيت المقدس من مكة ورجوعه منه إلى منزله في ليلته وكما وجبت الفضيلة لخزيمة بشهادته لرسول صلى الله عليه وسلم على الأعرابي حتى سمى ذا الشهادتين لما سبقعم إلى معرفة جواز أداء الشهادة بدعواه صلى الله عليه وسلم وإن لم يشاهد الحال فكذا المحلقون فضلوا على المقصرين بسبقهم إلى الطاعة وانتفاء الشك عن قلوبهم وعلمهم أن ما عاينوا منه أولى بهم مما قدمت معرفتهم به وروى أن المقصرين إنما كانوا رجلين أحدهما من قريش والآخر من الأنصار قال القاضي: ويمكن أن يقال الحلق أفضل لكونه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ولكونه أبلغ في قضاء التفث أشق والأجر على قدر التعب

(1/183)


والإجماع على أن فضيلة الحلق لا تختص بأهل الحديبية بل هي باقية إلى يوم القيامة فالعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.

(1/184)


في نفي الحرج عمن قدم أو أخر
روى عن أسامة بن شريك قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم حاجا فكان ناس يأتونه فمن قائل يقول له: يا رسول الله سعيت قبل أن أطوف: وأخرت شيئا, وقدمت شيئا فكان يقول: "لا حرج لا حرج إلا رجل اقترض عرض رجل مسلم وهو ظالم له فذلك الذي حرج وهلك".
أكثر الفقهاء على أن من سعى قبل الطواف لا يجزئه وهو كمن لم يسع ولا نعلم لأهل الحجاز والعراق مخالفا غير الأوزاعي فإنه قال: يجزئه ولا يعبده بعد لطواف وروى عن عطاء مثله ولكنهم اختلفوا في القارن إذا حلق قبل أن يذبح هديه قال أبو حنيفة ومالك وزفر: أن عليه الفدية لأنه حلق قبل أوانه وأكثرهم كأبي يوسف ومحمد والشافعي يقولون: لا شيء عليه في ذلك ويحتجون بما روى عن علي قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله إني أفضت قبل أن أحلق, قال: "فاحلق ولا حرج" وجاءه آخر فقال إني ذبحت قبل أن أرمي قال: "ارم ولا حرج".
وبما روى عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عمن حلق قبل أن يذبح أو ذبح قبل أن يحلق قال: "لا حرج لا حرج" قال القاضي: صوابه ذبح قبل أن يرمى لأن الذبح حقه أن يكون قبل الحلق وبما روى عن ابن عباس أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له يوم النحر وهو بمنى في النحر والحق والرمي والتقديم والتأخير فقال: " لا حرج" وبما روى عن عبد الله بن عمرو أنه قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع للناس يسألونه فجاءه رجل فقال: يا رسول الله لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح, فقال: "اذبح ولا حرج" فجاءه آخر فقال: يا رسول الله لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي فقال: "ارم ولا حرج" فما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: "افعل ولا حرج".

(1/184)


ولا حجة لهم في هذه الآثار على عدم وجوب الفدية على القارن لأنه يحتمل أن يكون السائل غير قارن فيكون الذبح عليه غير واجب فيكون ما فعل من ذلك قد فعله ولا شيء يمنعه منه وإن كان قارنا فنفى الحرج والإثم عنه إذا لم يشعر لا يستلزم نفي الفدية كما لم يستلزم نفي الحرج في حديث أسامة نفي إعادة السعي الواقع قبل الطواف ويؤديه قول ابن عباس فيما روى مجاهد عنه من قدم شيئا من حجه أو أخر فليرق دما وهو أحد من روى ذلك فدل أنه لا منافاة بين وجوب الفدية ورفع الحرج.

(1/185)


في المحصر
عن عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأسلمي قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من كسرا وعرج فقد حل وعليه حجة أخرى" قال فحدثت بذلك ابن عباس وأبا هريرة فقالا: صدق قوله: "فقد حل" أي له أن يحل بما يحل به مما هو فيه من الإحرام كما يقال للمطلقة بعد انقضاء عدتها حلت للأزواج أي بتزويج يستأنف عليهابطريقه حتى تصير حلالا وكذا قوله تعالى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ} فإنها بنكاح الزوج الثاني لا تعود حلالا للأول ولكنها تعود إلى حال يحل استئناف النكاح عليها بطريقه فمن كسر أو عرج لم يخرج عن إحرامه ولكنه سبب حل له به أن يفعل فعلا يخرج به من إحرامه بأن يبعث هديا إلى مكة فإذا نحر الهدى حل على ما روى أن رجلا من النخع أهل بعمرة فلدغ فبينما هو صريع في الطريق إذ طلع عليهم ركب فيهم ابن مسعود فسألوه فقال: ابعثوا بالهدى واجعلوا بينكم وبينه إمارة فإذا كان ذلك فليحل فقد عاد بما ذكرنا هذا الحديث إلى أن لا استحالة فيه.
وروى عن ابن عباس قال: جاءت ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني امرأة ثقيلة وإني أريد الحج فكيف تأمرني أن أهل؟ قال: "أهلي واشترطي أن محلي حيث حبستني" فأدركت الحج، وخرجه من طرق كثيرة قد ذكرنا فيما تقدم أن قوله: فقد حل له أن يحل من غير

(1/185)


دليل ويوجب هذا التأويل ويمنع غيره ثم ظهر لنا بحديث ضباعة أن المراد بالحل الخروج من الإحرام حقيقة للحادثة التي منعته من النفوذ في حجه ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديثين بهدى فعقلنا بذلك أن الحكم كان كذلك أو لا ثم جعل الهدى بعد ذلك لمن يصير محصرا لا يخرج عن إحرامه إلا بنحر الهدى بقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وهي آية محكمة.
ثم روى عن علقمة في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} الآية قال: إذا احصر الرجل بعث بالهدى ولا يحلق رأسه حتى يبلغ الهدى محله فمن كان به مرض أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك صيام ثلاثة أيام أو يتصدق على ستة مساكين كل مسكين نصف صاع والنسك صيام ثلاثة أيام أو يتصدق على ستة مساكين كل مسكين نصف صاع والنسك شاة فإذا أمن مما كان فيه فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فإن مضى من وجهه ذلك فعليه حجة وإن أخر العمرة إلى قابل فعليه حجة وعمرة {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} آخرها يوم عرفة {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ} وذكر ذلك لسعيد بن جبير فقال هذا قول ابن عباس وعقد ثلاثين فعقلنا بمنع ابن عباس في رواية سعيد عنه من الإحلال مع الكسر والعرج حتى ينحر الهدى أنه قد رجع إلى ذلك عن تصديق الحجاج وحديث ضباعة عن مثل ما كان عليه حديث الحجاج وإن النسخ قد لحقهما جميعا بما في هذه الآية من منع المحصر أن يحل حتى ينحر عنه وقد كان ابن عمر ينكر الاشتراط في الحج ويقول حسبكم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم أنه لم يشترط فإن حبس أحدكم حابس فإذا وصل إلى البيت طاف وسعى ثم يحلق أو يقصر ثم يحل وعليه الحج من قابل ومحال أن يكون ابن عمر أنكر ذلك إلا بعد أن بلغه ما روى في ذلك لأن علمه وورعه يمنعه أن يدفع شيئا روى له إلا بما يجب له دفعه من نسخ وغيره.
لا يقال: إن كان ابن عمر دفعه فغيره عمل به روى أن عثمان كان واقفا بعرفة إذ جاء رجل فقال أما اشترطت وهلا اشترطت لأنه منقطع لا يحتج بمثله

(1/186)


وما روى عن عروة أن عائشة أمرته أن يشترط إذا حج ويقول: اللهم الحج أردت وإليه عمدت فإن تيسر لي فإنه الحج وإن حبست فإنها عمرة يدل على نسخ حديث ضباعة لأن الذي في حديثها اشترطاها إحلالا يخرج به من الحج لا إلى عمرة والذي أمرت به عائشة إنما هو على خروجه أن حبس من حج إلى عمرة وهي العمرة التي تجب على من يفوته الحج حتى يحل بها من ذلك الحج.
وما روى عن إبراهيم أنه قال: كانوا يشترطون عند الإحرام يحتمل أن يكون كاشتراط ضباعة أو كاشتراط عروة وقد روى عنه قال: كانوا يقولون اللهم إني أردت الحج أن تيسر لي وإلا فعمرة أن تيسرت وإلا فلا حرج فعلم أنه كان على ما أمرت به عائشة عروة فيكون مؤكد النسخ حديث ضباعة ومعنى قوله فلا حرج أي على أن لم آت بما أحرمت به على ما يوجبه إحرامي علي لأن ذلك ليس باختياري واتفاق فقهاء الأمصار كأبي حنيفة وأصحابه وغيرهم على خلاف ما في حديث ضباعة دال على نسخه إذ لا تجتمع الأمة على خطأ.

(1/187)


في الهداية
ورى عن علي بن أبي طالب قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه وإن أقسم جلودها وجلالها وأمرني أن لا أعطي الجاز ومنها شيئا وقال: "نحن نعطيه من عندنا" وخرج الحديث من طرق في بعضها "ولا نعطي في جزارتها منها شيئا" وفي بعضها: "أنه كانت مائة فيها جمل لأبي جهل مزموم ببرة فضة وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر منها بيده ستين وأعطى عليا أربعين" فيه فوائد من الفقه منها جواز تولية النحر لغيره وقيام نحر المأمور مع نيته مقام نحر الآمر ونيته ومنها أمره صلى الله عليه وسلم بتصدق أجلة بدنه وخطمها كما يتصدق بلحمها وإجزائها إعطاء للجلال والخطام حكمها ومنها تجويز الاستئجار على نحرها بأجرة في ذمة الآمر أو المأمور من غير تعيين وجاز في ذلك ملك عمل بغير عينه على الجزار بأجرة بغير عينها يملكها على جزارته

(1/187)


مخالفا للعقود في البياعات على الأشياء التي ليست بأعيان بالإبدال التي ليست بأعيان لإفضائها إلى الكالي بالكالي المنهى عنه ومنها جواز الأكل من لحومها لمن نحر من ملاكها ومنها جواز الشركة في الهدايا لما روى أنه صلى الله عليه وسلم أشرك عليا في هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر وطبخت فكلا من لحمها وشربا من مرقها الحديث ومنها وجوب الأجرة على الوكيل فيما يستأجره لغيره لأن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب عليا أن لا يعطيه عن أجرته من لحوم البدن شيئا ولو لم يكن لعلي ذلك لاستغنى عن النهي لأنه غير مطلوب به لأن الأجرة ليست عليه ومنها استعمال الفضة في البرة للهدايا بخلاف استعمالها في الأكل والشرب.

(1/188)


في البدنة عن سبعة
وبوى عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أنهما قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت لا يريد قتالا وساق معه الهدى وكان الهدى سبعين بدنة وكان الناس سبعمائة رجل فكان كل بدنة عن عشرة انفرد محمد بن إسحاق برواية هذا الحديث عن ابن شهاب وخالفه سواه عنه فيه فقالوا: إن عدد القوم الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ كانوا بضع عشرة مائة وهو الصواب لأن الجماعة أولى بالحفظ من الواحد ولأن جابرا والبراء شهدا القصة قالا إن عددهم كان ألفا وأربعمائة وروى عن جابر أيضا كانوا ألفا وخمسمائة والبدن يحتمل أن تكون سبعين أو غير ذلك إلا أنا وقفنا على أنه إنما نحرت كل بدنة منها عن سبعة كذا روى عن جبار من وجوه كثيرة ففيه أن السبعين لم تنحر إلا عن خاص من القوم الذين عددهم ألف وأربعمائة وما روى عن ابن عباس أنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فضحينا البعير عن عشرة ففيه موافقة جابر في السبعة وزيادة عليها فصارت السبعة إجماعا والزيادة مقبولة إلا أنه قد عارضها ما روى عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الجزور عن سبعة" فكان أولى لأن فيه من التوقيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على السبعة ما يمنع أن يجزئ عما هو أكثر من ذلك وقد احتج بعض الناس للسبعة بما روى ابن عباس قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: على ناقة وقد عذبت على؟ 1 فقال: "اشتر سبعا من الغنم" وهو حديث فاسد الإسناد لا يوبه به.
__________
1 كذا في الصل.

(1/188)


في الفرق بين البقر والبدنة
وروى عن ابن عباس قال: قلت: البدن فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبقر ليس فيه أنه أمر بالبقر لأنها بدن فيحتمل أنه أمر بها لأنها تجزئ مما تجزئ عنه البدن بدليل حديث المهجر إلى الجمعة أنه كالمهدى بدنه ثم الذي يليه كالمهدى بقرة ثم الذي يليه كالمهدى شاة الحديث ففرق بين البدن والبقر في الاسم والثواب والذي يروى عن جابر من إدخال البقر في البدن لا يعارض ما تقدم لأنه موقوف على جابر من قوله.

(1/189)


في نهبة لحم الهدايا
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النهبة وأنه قال: "أن النهبة لا تحل" وأنه قال: "من انتهب فليس منا" المراد به انتهاب ما لم يؤذن في انتهابه بدليل ما روى عن عبد الله بن قرط أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحب الأيام إلى الله يوم النحر ثم يوم القر" فقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنات خمسا أو ستا فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ فلما وجبت جنوبها قال: كلمة خفية لم أفقهها فقلت للذي كان إلى جنبي: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال قال: "من شاء اقتطع" وما روى أن صاحب هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله كيف أصنع بما عطب من الهدى؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انحرها ثم الق قلائدها في دمها ثم خل بين الناس وبينها يأكلونها" لأنه صلى الله عليه وسلم أباح في هذين الحديثين للناس الذين يحل لهم ذلك الهدى أخذ ما يجوز لهم أخذه منه بغير قصد منه إلى ناس بأعيانهم وإلى مقدار من الهدى لمن يأخذه منهم فتبين بذلك ما قلنا.

(1/189)


في الحج عن الغير
عن علي بن أبي طالب قال: استقبلت رسول الله صلى الله عليه وسلم جارية شابة من خثعم فقالت: إن أبي شيخ كبير وقد أدركته فريضة الله تعالى في الحج أفيجزيني أن أحج عنه؟ قال: "حجي عن أبيك" ولوي عنق الفضل, فقال له العباس: لويت عنق ابن عمك, فقال: "إني رأيت شابا وشابة فلم آمن الشيطان عليهما" وروى عن ابن عباس أن رجلا قال: يا رسول الله إن أمي عجوزة كبيرة إن أنا حملتها لم تستمسك وإن ربطتها خشيت أن أقتلها؟ قال: "أرأيت لو كان على أبيك أو علي أمك دين أكنت تقضيه؟ " قال: نعم, قال: "فاحجج عن أبيك أو عن أمك" وخرج الآثار بذلك من طرق بألفاظ مختلفة ومعان متفقة لا يقال فيه دليل على أن الحج يسلك به مسالك الديون حتى يكون ما يحج به عنه من المال دينا عليه في تركته وإن لم يوص بذلك لأنه لو كان دينا لما شبه بالدين إذ الشيء لا يشبه بنفسه وإنما هو حق في بدن من هو عليه حتى يخرج إلى الله تعالى منه عنه كالدين في ذمة من هو عليه حتى يخرج صاحبها منه أو يخرج إليه منه غيره عنه فلا دليل في هذه الآثار على وجوب قضائه من جميع المال ولا من ثلثه وفيه أن من قضى دين غيره بغير أمره لم يكن له به عليه رجوع وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي خلافا لمالك ومن يتابعه عليه.

(1/190)


في حج الصرورة
روى عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: لبيك عن شبرمة, قال: "ومن شبرمة؟ " قال: أخ أو قريب لي قال: "هل حججت قط؟ " قال: لا, قال: "اجعل هذه عن نفسك ثم احجج عن شبرمة" استدل بعض بهذا أن من حج عن غيره قيل أن يحج عن نفسه فهو عن نفسه ثم قاسوا عليه أنه لو حج عن نفسه

(1/190)


تطوعا قبل حجة الإسلام أن حجه يكون عن الفرض ثم ناقضوا في صوم رمضان فقالوا من صام في رمضان تطوعا لا يجزيه من الفرض ولا من التطوع وكان الواجب عليهم على قياس الحج أن يجعلوه من رمضان لا من التطوع بالطريق الأولى لأن رمضان وقت للفرض ومعيار له لا يسعه غيره بخلاف وقت الحج ثم هذا الحديث معلول والصحيح أنه موقوف على ابن عباس غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وروى أنه قال: "فابدأ أنت فحج عن نفسك ثم حج عن شبرمة" والذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى من رواية ابن عباس أنه سئل عن رجل لم يحج أيحج عن غيره قال: "دين الله أحق أن تقضيه" وليس فيه أنه لو أحرم عن غيره كان ذلك الإحرام عن نفسه والذي يدل على جواز الحج عن غيره وإن لم يحج عن نفسه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأله الذي عن غيره أطلق له ذلك ولم يسأله أحججت عن نفسك حجة الإسلام أم لا والذي يدل على أن حج التطوع ممن لم يحج حجة الإسلام جائز ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن كان أكملها كتبت كاملة وإن لم يكن أكملها قال الله تعالى انظروا هل تجدون لعبدي من تطوع فاكملوا به ما ضيع من فريضته والزكاة مثل ذلك" ثم تؤخذ الأعمال على حساب ذلك فدلنا ما في هذا أن الرجل قد يكون منه حج تطوع وإن لم يكن له حج فرض وكما أن من لم يصل الفرض بعد دخول وقته وصلى تطوعا ثم صلى بعد ذلك الفرض كان كذلك من دخل عليه وقت الحج ووجب عليه فرضه له أن يحج تطوعا عن نفسه أو فرضا عن غيره ثم يحج الفرض لنفسه1.
__________
1 قال القاضي وهذا الاختلاف عند جار علي اختلافهم في الحج هل هو علي الفور او علي التراخي، قلت لو يجري علي ذلك الاحتلاف، لكان الحكم
بالعكس لأن عند الشافعي وجوب الحج موسع لا مضيق وليس علي الفور وعنده فافهم. فوائد جمالية. هكذا وجد في هامش الأصل.

(1/191)


في حج الصغير
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر بامرأة وهي في محفتها فقيل لها هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بعضض صبي معها فقالت: ألهذا حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم ولك أجر" اختلف أهل العلم فيما يفعله الصبي من المحظورات فقال بعضهم: لا شيء فيه عليه ولا على غيره وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه وقال بعضهم الكفارة على من أدخله فيه وقال بعضهم: كفارته على الصبي ولا وجه للقولين الأخيرين لأن الإحرام المجنى عليه لم يكن للذي أدخل الصبي فيه حتى يجب عليه ما يجب فلا يكون عليه تخليص الصبي مما وجب عليه والإجماع منعقد على أن كفارة اليمين وسائر الكفارات لا تجب على الصبي لأنه رفع القلم عنه وكفارات الحج عقوبات ونكال قال تعالى في جزاء الصيد {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} والعقوبات مرتفعة عن الصبي فلم يبق إلا القول الأول وهو الأولى ودخوله في الإحرام لا يلزمه ما يلزم البالغين كدخوله في الصلاة لا يجب عليه فيها ما يجب على البالغين وأصله ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "علموا الصبي الصلاة ابن سبع سنين واضربوه عليها ابن عشر" وضربه لأن يعتادها ليكون خلقا له بعد بلوغه.

(1/192)


في بعث أبي بكر ثم علي رضي الله عنهما بسورة براءة
...
في بعث أبي بكر ثم على بسورة براءة
ورى عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ببراءة إلى مكة مع أبي بكر الصديق ثم أتبعه بعلي فقال: "له خذ الكتاب وامض به إلى أهل مكة" فلحقته فأخذت الكتاب منه فانصرف أبو بكر وهو كئيب فقال: يا رسول الله أنزل في شيء قال: "لا إلا أني أمرت أن أبلغه أنا أو رجل من أهل بيتي".
وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات ثم أتبعه عليا فبينا أبو بكر في بعض الطريق

(1/192)


إذ سمع رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصواء فخرج أبو بكر وظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا علي فدفع إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره على الموسم وأمر عليا أن ينادي بهؤلاء الكلمات فانطلقا فقام على أيام التشريق فقال: "ذمة الله ورسوله بريئة من كل مشرك فسيحوا في في الأرض أربعة أشهر ولا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا مؤمن" فكان علي ينادي بها فإذا بح قال1 أبو هريرة: فنادى بها وخرج الآثار في ذلك أكملها حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عيه وسلم حين رجع من عمرة الجعرانة بعث أبا بكر على الحج حتى إذا كنا بالعرج ثوب بالصبح ثم استوى ليكبر فسمع الرغوة خلف ظهره فوقف علن التكبير فقال: هذه رغوة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد بداله في الحج فلعله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصلي معه فإذا على عليها فقال له أبو بكر: أمير أو رسول قال لا بل رسول أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة أقرأها على الناس في موقف الحج فقد منا مكة فلما كان قبل التروية بيوم قام أبو بكر فخطب الناس فحمد الله وحدثهم عن مناسكهم حتى إذا فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها ثم خرجنا معه حتى إذ كان يوم عرفة قام أوبكر فخطب حتى إذا فرغ قام على فقرأ على الناس براءة حتى ختمها فلما كان يوم النحر فأفضيا2 فلما رجع أبو بكر خطب الناس فحدثهم عن أفاضتهم وعن نحرهم وعن مناسكهم فلما فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها فلما كان يوم النفر الأول قام أبو بكر فخطب الناس وحدثهم كيف ينفرون وكيف يرمون فعلمهم مناسكهم فلما فرغ قام على فقرأ على الناس براءة حتى ختمها
ولا يعارض هذا قول أبي هريرة بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان فإن الأمرة كانت لأبي بكر في تلك الحجة فكانت الطاعة في الأمر والنهي له فأبو هريرة من جملة المؤذنين الذين ندبهم أبو بكر ليمتثلوا ما يأمرهم به علي فيما بعثه رسول الله
__________
1 كذا والمحفوظ "قام" في الأصل.
2 كذا بل الصواب "فأقضنا" – ح.

(1/193)


صلى الله عليه وسلم فكان نداء أبي هريرة بما كان يلقيه عليه علي رضي الله عنه وكان مصيره إلى علي بأمر أبي بكر وفيما ذكرنا علو المرتبة لأبي بكر في إمرته وفيه علو مرتبة علي أيضا في اختصاصه بما اختصه به رسول الله صلى الله عليه وسلم من التبليغ عنه وما روى أن أبا بكر لم يقرب الكعبة ولكنه انشمر إلى ذي المجاز يخبر الناس بمناسكهم ويبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة من قبل ذي المجاز وذلك لأنهم لم يكونوا تمتعوا بالعمرة إلى الحج لا استبعاد فيه لأن الذي فعله أبو بكر كان لمعنى وذلك لأن سوق ذي المجاز آخر الأسواق التي تجتمع العرب فيها للتبايع ومنهم من ينصرف إلى داره بلا حج فأراد رضي الله عنه بانشماره إلى ذي المجاز إسماع جميع من وافى الموسم ما يقرأ هناك مما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعسى أن يكون مأمورا بذلك من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم صار إلى عرفة بالناس فوقف بها وهي الركن الأعظم الذي لابد منه ثم رجع إلى مكة بعد أن صار إلى المزدلفة بعد أن رمى وحلق حتى طاف طواف الزيارة التي لا يتم الحج إلا به ورمل في الأشواط الثلاثة وسعى بين الصفا والمروة لأنه لم يتقدم له طواف القدوم والسعي أو لا ولم يهمل رضي الله عنه الخطبة التي قبل يوم التروية بمكة لأن عتاب بن أسيد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس مكانه بمكة في ذلك العام ثم وافى بهم أبا بكر بعرفة حتى قضى بهم بقية حجهم ولا يظن بأبي بكر أن ينقص شيئا مما يجب أن يفعله أمير الحاج في حجه بالناس وهي حجة لم يكن قبلها في الإسلام إلا حجة واحدة حجها بالناس عتاب بن أسيد في سنة ثمان وقيل أنها كانت في غير ذي الحجة لأن الزمان إنما استدار إلى ذي الحجة في الحجة التي حجها أبو بكر بالناس وأقر الحج فيه وحج رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة التي بعدها في ذي الحجة وجرى الأمر على ذلك إلى يوم القيامة.

(1/194)


في الحج الأكبر
عن ابن عباس قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع

(1/194)


فقال: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وإن السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة ولاء ذو القعدة وذو الحجة والمحرم والآخر رجب الذي بين جمادي وشعبان".
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: كانت العرب يجعلون عاما شهرا وعاما شهرين فلا يصيبون الحج في أيام الحج إلا في كل خمس وعشرين سنة وهو النسئ الذي ذكر في القرآن فلما حج أبو بكر بالناس وافق ذلك العالم الحج فسماه الله الحج الأكبر وحج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العام المقبل فاستقبل الناس الأهلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض" ففيه ما دل على استدارة الزمان حتى صار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وفيه المعنى المراد بقوله تعالى: {يوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} أن الأكبر نعت للحج لا لما سواه مما قال بعضهم أنه يوم النحر متشبثا بما روى عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: لما كان ذلك اليوم خطب صلى الله عليه وسلم وفيها "أي يوم يومكم هذا؟ " قال: فسكتنا حتى رأينا أن يسميه بغير اسمه ثم قال: "أليس يوم النحر الأكبر؟ ".
وبما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته يومئذ قال: "إن يوم الحج الأكبر يوم النحر" لكن معنى الحديثين هو معنى حديث عبد الله ابن العاص ويوم الحج الأكبر نعت للحج لا لليوم حتى يتفق معا في هذه الآثار وقال بعضهم: يوم الحج الأكبر يوم عرفة متمسكا فيه بقول ابن أبي أوفى
فإن قيل قد قال أبو هريرة: بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ويوم الحج الأكبر يوم النحر والحج الأكبر الحج وإنما قيل الحج إلا كبر من أجل قول الناس الحج الأصغر وقد رويتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك.
قلنا: أما قوله صلى الله عليه وسلم: "أن يوم الحج الأكبر يوم النحر" يحتمل أن يكون لا كبر فيه نعتا للحج لا لليوم ويكون موافقا لحديث ابن العاص وأما

(1/195)


قوله: قيل: الحج الأكبر من أجل قول الناس فلا يدري ما هو ولا عمن حكى ذلك ويحتمل أن يكون من كلام الزهري فإنه كان يخلط كلامه بالحديث ولذلك قال له موسى بن عقبة أفصل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلامك.
وإذا كان يحتمل ما ذكرنا كان ما رواه ابن العاص من حقيقة المعنى في ذلك أولى منه وهو المعقول إذ قد كان الحج بعد استدارة الزمان رجع إلى شهر بعينه يجري عليه حج الناس فكان ذلك أما ما لهم لأن الأكبر من الحج هو الذي يرجع إليه غيره من الحج الذي يكون بعده إلى يوم القيامة في قدوة أهله بما فيه.

(1/196)


في حرم مكة المشرفة
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: "أن هذا البلد حرمه الله يوم خلق الله السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وأنه لم يحل فيه القتال لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلي خلاه" فقال العباس: يا رسول الله إلا ذخر فإنه لقينهم ولقبورهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إلا الأذخر".
وخرج من طرق كثيرة لا وجه لإنكار مثل هذا من العباس لأن علمه بحاجة أهل مكة إلى الأذخر دعاه إلى طلبه من رسول الله صلى الله عليه وسلم مراجعة ربه في ذلك كما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم التخفيف عن أمته في حديث المعراج مرة بعد أخرى حتى ردها إلى خمس صلوات وكما راجع أمر القراءة على حرف مرة بعد مرة حتى رد إلى سبعة أحرف واكتفى بقوله: "إلا الأذخر" إيجاز لعلمة بفهم النبي صلى الله عليه وسلم مراده من ذلك والإيجاز من محاسن كلام العرب من ذلك قولهم كفى بالسيف شا أي شاهدا وفي التنزيل: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ

(1/196)


أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} ثم قطع بقية الكلام حتى قيل هو لكفروا به وقيل هو لكان هذا القرآن ومثله {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} الآية ومثله في القرآن كثير ثم جوابه صلى الله عليه وسلم على فوره لمجئ الوحي إليه على فوره وإن كنا لا نعقل ولا ينكر مثله من لطيف قدرة الله تعالى إلا زنديق ويحتمل ن يكون جبريل معه حينئذ فألقى ذلك إليه كما قال للذي سأله في حديث أبي قتادة أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر أيكفر الله عني خطاياي فقال: "نعم", فلما ولى قال له: "إلا أن يكون عليك دين كذلك قال لي جبريل" فدل ذلك على حضور جبريل جوابه الأول وإذا كان جبريل مع حسان بن ثابت على ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله أهجهم وجبريل معك فكونه مع الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبته التي يخبر فيها عن الله شوائع دينهم أولى.
قلت كان للطحاوي مندوحة عن التأويل الثاني وإن كان محتملا أيضا بقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} وبقوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} .
فإن طريق الوحي ليس بمنحصر في وساطة الملك قد يكون بإلهام خفي وينفث روعي وحضوره صلى الله لعيه وسلم مع الله تعالى على حد معرفته وعلمه بالله لا يسعه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل فلا يستبعد الوحي إليه في كل لحظة ولمحة أراد الله سبحانه أن يوحى إليه ولا يحتاج إلى معية جبريل معه فإنها محتملة ومعية الله تعالى معه محققة دائما فاندفع بذلك ما اعترض عليه القاضي أبو الوليد وقال لا معنى لقوله يحتمل أن يكون جبريل معه لأن جبريل لا يلقي ذلك إليه إلا بأمر ربه ونزوله عليه من عند ربه في الحين نفسه أيسر عليه من صعوده إليه من عنده ثم رجوعه إليه في ذلك الحين وإن كان ذلك كله سواء في قدرة الله ثم قال وغير هذا التأويل أشبه عندي وهو أن الخلا لفظ عام أريد به الخصوص وكان المراد ما عدا الأذخر المحتاج إليه فلما كان ظاهره العموم قال له العباس: إلا الأذخر فوافق بذلك مراده صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا يختلي خلاها" فقال له إلا

(1/197)


الإذخر اعلاما منه أنه هو الذي كان المراد ولا لا أنه رجع إلى رأي العباس باجتهاد أو وحي إذ لا يصح الرجوع عن الوحي باجتهاد ولا دلالة في الحديث على أنه كان بوحي1 وكذلك قوله في حديث أبي قتادة: "نعم" عام أريد به الخصوص فلما أدبر الرجل خشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمل قوله على العموم في جميع لخطايا فبين له أن الشهادة لا تكفر الدين لأنه من حقوق الناس وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن جبريل قال لي ذلك" يعني فيما تقدم لا أنه طرأ عليه العلم بذلك حينئذ ولأن قوله: "نعم" لو كان عاما لكان قوله بعد ذلك "إلا الدين" ناسخا له لكن الفضائل لا تنسخ فإن الكريم إذا تفضل على عباده بالتجاوز لا يقطعه عنهم ولا ينقص منه بل يزيدهم من فضله.
قلت: ما ذكره القاضي أبو الوليد وولد خاطره في غاية الحسن ولكن قوله لا معنى له أي تأويل الطحاوي ليس بإنصاف منه والحق أن ما تأولاه في حيزا الجواز والله أعلم بالصواب.
__________
1 فيه نظر لأنه إذا حصر الأمربين اجتهاد ووحي وانتفي الاجتهاد تعين الوحي وقوله ولا دلالة في الحديث علي أنه لا يلزم من عدم دلالته فيه أن لا يكون علي الوحي دليل آخر وهو حاله صلي الله عليه وسلم فإن أقواله لا تخلو عن أحد الوجهين أما الاجتهاد أو الوحي لا ثالث لهما وانتفي الاجتهاد لأنه شرطه عند من جوزه مضي مدة انتظار الوحي يجتهد والكلام هنا علي الفور من غير لبث كما تقدم فتعين الوحي وهو غير منحصر بأنه يكون بواسطة الملك فإن له انواعا أخر كما عرف، انتهي. جمالبة.

(1/198)


في حشيش الحرم
اختلف أهل العلم فيما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصده وإعلافه على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها لا ترعى ولا تحتش وهو قول أبي حنيفة والثاني: أباحتهما وهو قول ابن أبي ليلى.

(1/198)


والثالث: قول عطاء أنهاترعى ولا تحتش واختاره أبو يوسف والأول أولى لما روى أن عمر رأى رجلا يقطع من شجر الحرم ويعلف بعيرا له فقال على به فأتى به فقال: يا عبد الله أما علمت أن مكة حرام لا يعضد عضاهها ولا ينفر صيدها ولا يحل لقطتها إلا لمعرف فقال: والله ما حملني على ذلك إلا أن معي نضوا لي فخشيت أن لا يبلغني أهلي وما معي من زاد ولا نفقة فرق عليه عمر بعد ما هم به وأمر له ببعير من إبل الصدقة موقر طحينا فأعطاه إياه وقال لا تعد أن تقطع من شجر الحرم شيئا.
وفي الحديث الذي تقدم منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من اختلاء خلا مكة فذهب قوم إلى أن الاختلاء ما أخذ باليد دون ما سواه من إعلافه الإبل على ما اختاره أبو يوسف وقد روى في حرم المدينة حديث في المنع من الاختلاء من خلاها إلا أن يعلف رجل بعيره فاستدلوا بذلك على مثلها من شجر مكة وخلاها وهو حديث منقطع الإسناد وبعد ثبوته لا يجوز قياس خلا مكة على خلا المدينة لأن أحكامهما في هذه قد تفترق كما افترقت في وجوب جزاء الصيد لحرم مكة دون المدينة وفي المنع من دخول مكة إلا بالإحرام بخلاف المدينة.

(1/199)


في حرم المدينة
روي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض والشمس والقمر ووضعها بين هذين الأخشبين لم تحل لأحد قبلي ولم تحل لي إلا ساعة من نهار ولا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ولا يرفع لقطتها إلا منشد" فقال العباس: ألا الإذخر فإنه لا غناء لأهل مكة عنه لبيوتهم وقبورهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إلا الإذخر".
وروى عن أبي شريح الخزاعي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(1/199)


"أن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسفكن فيها دما ولا يعضدن فيها شجرا فإن ترخص مترخص فقال: قد حلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله عز وجل أحلها لي ولم يحلها للناس وإنما أحلها لي ساعة من نهار".
وروى عن أبي هريرة قال: لما فتح الله تعالى على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فقتلت هذيل رجلا من بني بكر بقتيل كان لهم في الجاهلية فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أن الله حبس عن أهل مكة الفيل وسلط عليهم رسوله والمؤمنين وأنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار وأنها ساعتي هذه حرام لا يعضد شجرها ولا يختلى شوكها ولا يلتقط لقطتها إلا منشد" ففي هذه الآثار إن الله حرم مكة وأنها لم تحل لأحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم وكان الواجب على من انتهك حرمة صيدها الواجب على قاتل الصيد في الإحرام كما ذكر تعالى في كتابه بقوله: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} الآية إلا ما إختلف أهل العلم فيه من الصوم في ذلك فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا يجزي في ذلك صوم وذهب غيرهم إلى أن الصوم يجزي في ذلك كما يجزي في القتل في الإحرام وهو القول عندنا وما أنبأنا الله به من قول إبراهيم {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً} .
ليس من التحريم الذي كان من الله في شيء كما لم يكن الربا1 الذي حرمه الله في كتابه في شيء لأن الربا الذي في كتابه في النسية والذي حرمه الرسول صلى الله عليه وسلم في التفاضل فالذي دعا به إبراهيم لأهل مكة هو الأمان دل عليه {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} وكان ذلك استجابة لدعوة إبراهيم وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إن إبراهيم حرم مكة ودعا لهم وأني حرمت المدينة ودعوت لهم بمثل ما دعا به إبراهيم لأهل مكة أن يبارك لهم في صاعهم ومدهم" ففيه أن الذي كان من النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة مثل الذي كان من إبراهيم في مكة في أمان
__________
1 يظهر أن هنا سقطا كما يدل علي السياق – ح.

(1/200)


أهلها بما يتميزون به عن سائر البلدان وما روى جابر بن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن إبراهيم حرم بيت الله وآمنه وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها لا يعضد عضاهه ولا يصاد صيدها".
يحتمل أن يكون هذا زيادة زادها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدينته على ما كان من إبراهيم في مكة ببركة دعائه وإجابة الله تعالى إياه فيه ولكن حكم منتهك حرمة الصيد ولاعضاه بين اللابتين غير حكم المنتهك في حرم مكة على ما روى عن سعد بن أبي وقاص أنه أخذ عبدا صاد في حرم المدينة فسلبه ثيابه فجاء مواليه إلى سعد فكلموه فقال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم هذا الحرم وقال: "من أخذ من يصيد فيه شيئا فلمن أخذه سلبه" فلم أكن لأرد عليكم طعمة أطعمينها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن إن شئتم أعطيتكم ثمنه.
والواجب في جزاء صيد مكة ما ذكر الله تعالى في كتابه ليس كذلك ووجدنا فقهاء الأمصار أجميعين مجمعين على ترك أخذ سلب منتهك حرمة الصيد والعضاه بالمدينة فعقلنا بذلك أن أجماعهم على ترك ما روى إنما كان لوقوفهم على نسخه لا يظن بهم خلاف السنة بلا خلاف لأنهم المأمونون على ما رووا وعلى ما قالوا سيما فيما أجمعوا فحاشا لله أن يتركوا ذلك إلا لما هو أولى منه وذلك مثل تركهم ما روى في مانعي الزكاة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا آخذوها منه وشطر ما له عزمة من عزمات ربنا".
وما روى في حريسة الجبل "إن فيها غرامة مثلها وجلدات نكال" وما روي فيمن وقع على جارية امرأته مستكرها لها أنها تعتق عليه ويكون عليه مثلها وإن كانت طائعة كانت له وعليه مثلها لزوجته فمن ذلك والله أعلم ما روى عن السلب فيما ذكرنا يحتمل أنه كان ثم نسخ بنسخ أشكاله التي ذكرناها.

(1/201)


في لا صرورة في الإسلام
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا صرورة في الإسلام" قيل معناه نفى ما كان في الجاهلية على ما روى عن ابن عباس قال: كان الرجل في الجاهلية يلطم وجه الرجل ويقول أنه صرورة فاحتمل أن يكون المظلوم هو الصرورة لأنه لم يحج ولم يعتمر ويحتمل أن يكون اللاطم فيعذر لجهله وهذا أولى لأنه روى عن عكرمة أنه قال كان الرجل يلطم وجه الرجل في الجاهلية ويقول أنا صرورة فيقال دعوا الصرورة لجهله وإن رمى بحجره في رجله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صرورة في الإسلام"
وقيل معناه لا يبقى أحد في الإسلام حتى يحج وهذا بعيد لأنه من عجز عن الحج لزمانة أو قلة يكون مذموما ولكن لا يلحق من كانت هذه صفته ذم في ترك الحج وقيل معناه النهي عن تسمية أحد في الإسلام بالصرورة وهو الأظهر لأنه روى عن عبد الله أنه قال: لا يقولن أحدكم أني صرورة فإن المسلم ليس بصرورة ولأن الصرورة في اللغة الصر على الشيء ومنه قوله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} فمن كان تخلفه عن الحج ليس لا صراره على تركه بل لعجزه أو نحوه مما يسقط به الفرض فليس صاحبه بمصر الإصرار المذموم فلا يكون صرورة وقد كان عطاء بن أبي رباح يقال له الصرورة فلا ينكره وما ذكره من كراهية هذا القول أولى لأنه وصفه بحال مذمومة.

(1/202)