المعتصر
من المختصر من مشكل الآثار كتاب الجهاد
في فضل الجهاد
...
كتاب الجهاد
فيه تسعة وخمسون حديثا
في فضل الجهاد
روى أن رجلين من بلى وهو حي من قضاعة قتل أحدهما في سبيل الله وآخر الآخر
بعده سنة ثم مات قال طلحة: فرأيت في المنام الجنة دخل الآخر فيها قبل الأول
فتعجبت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "قد صام بعده رمضان وصلى بعده ستة آلاف
(1/202)
ركعة وكذا وكذا".
وذكره من طرق بألفاظ مختلفة ومعان متفقة منها أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم آخى بين رجلين من أصحابه فقتل أحدهما وعاش بعده الآخر ما شاء الله ثم
مات فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون له وكان منتهى دعائهم
له أن يلحقه الله بأخيه الذي قتل قبله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أيهما تقولون أفضل؟ " قالوا: الذي قتل قبل يا رسول الله قال: "أما تجعلون
لصلاة هذا ولصيامه بعده وصدقته وعمله فضلا؟ لما بينهما أبعد مما بين السماء
والأرض" أشكل على بعض الناس معنى هذا الحديث وقال كيف يجوز أن يفضل من مات
على فراشه من مات شهيدا قد روى "أن من رابط يوما وليلة في سبيل الله كان له
أجر صيام شهر وقيامه ومن مات مرابطا جرى له مثل ذلك من الأجر وأجرى عليه
الرزق وأمن الفتان وإن كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله فإن
عمله لينمو له إلى يوم القيامة ويؤمن من فتنة القبر".
ففيه فضل المرابط الذي مات ومن قتل مرابطا كان فوق من مات مرابطا وليس ذلك
لمن مات غير مرابط لأنه ينقطع عمله بموته إلا من ثلاثة أشياء على ما روى في
ذلك ولكن المعنى بين لان الرجلين المتواخيين هاجرا إلى الله ورسوله معافا
قاما معه مهاجرين باذلين أنفسهما في الجهاد وغيره فاستويا في ذلك وإن كان
قد فضله صاحبه بالشهادة فقد بذل هو نفسه لها ولعله قد تمناها وسألها وقد
روى مرفوعا: "من سأل الله عز وجل الشهادة صادقا من قلبه بلغه الله منازل
الشهداء وإن مات على فراشه" وله من الفضل ما تفرد به من الأعمال الصالحة
بعده فلا ينكر تجاوزه إياه في المنزلة واستحقاق سبقه إلى الجنة والله يؤتي
فضله من يشاء.
قال القاضي: ولا تضاد بين ما روى من نمو عمل المرابط إلى يوم القيامة وبين
ما روى من انقطاع العمل بالموت إلا من ثلاث لأن عمل المرابط بعينه هو الذي
ينمو له بمعنى أنه يتوفر ثوابه له وهو عمل سبق موته لا عمل سواه يلحق به لم
يتقدم موته وإنما كان منه سببه.
(1/203)
في الشهيد
روى عن عمر بن الخطاب أنه قال: وأخرى تقولونها في مغازيكم هذه لمن قتل
أوجرح قتل فلان شهيدا مات فلان شهيدا وعسى أن يكون قد أوقر ردف راحلته أو
عجز راحلته ذهبا أو فضة يبتغي الدنيا فلا تقولوا ذلك ولكن قولوا كما قال
النبي صلى الله عليه وسلم: "من مات في سبيل الله أو قتل في سبيل الله فهو
في الجنة" فيه أن من قتل أو مات في سبيل الله فهو الشهيد الذي يستحق ما
يستحقه الشهيد لا من سواه ممن مراده غير سبيل الله لا يقال قد جعل من سوى
المقتول في سبيل الله شهيدا كما روى أن الغريق شهيد والحريق شهيد وغيرهم
جعلهم الله شهداء بما حل بهم.
وروى جابر بن عتيك قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود عبد الله بن
ثابت فوجده قد غلب, الحديث بطوله إلى أن قال: "والمرأة تموت بجمع شهيد" لأن
المذكورين في الحديث شهداء إنما هو لأجل ثباتهم على الشهادة أو ثباتهم على
الطاعة استحقوا مرتبة الشهداء يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث
المذكور "أن الله قد أوقع أجره على قدر نيته" ولما كان كذلك في عبد الله بن
ثابت كان فيمن سواه كذلك وقد روى عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "خمس من قبض في شيء منهن فهو شهيد المقتول في سبيل الله
شهيد والغريق في سبيل الله شهيد والمبطون في سبيل الله شهيد والمطعون في
سبيل الله شهيد والنفساء في سبيل الله شهيد", وسبيل الله طاعاته فمن كان في
شيء منها فأصابه شيء مما في في هذه الآثار كان من أهل الشهادة ومن لم يكن
قصده المثابرة على الطاعات لم يكن منهم ولا ينال درجتهم يؤيده حديث أبي
موسى الأشعري قال: قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: الرجل يقاتل
للغنيمة وللمغنم والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه فمن في سبيل
الله؟ قال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي
(1/204)
العليا فهو في سبيل الله".
ففيه أن المقاتل لا يستحق الشهادة بقتاله حتى يكون معه من نيته أن تكون
كلمة الله تعالى أعلى كما ذكر في الحديث وقد شد ذلك قوله: "إنما الأعمال
بالنية وإنما لامرئ ما نوى"
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سأل الله عز وجل الشهادة
بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه" ففيه أن الشهادة تكون لمن
يتمناها من قلبه وإن لم يصبه القتل فكذا ما ذكر من الشهداء بغير قتل إنما
هو فيمن كان له نية الشهادة أو بذل الروح في الطاعة لا فيمن سواهم.
(1/205)
في الاشتغال بالحرث
عن الجهاد
روى عن أبي أمامة الباهلي أنه رأى سكة أو شيئا من آلة الحرث فقال سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما دخلت هذه بيت قوم إلا أدخله الله الذل"
يعني من اشتغل بالحرث عن الجهاد عاد مطلوبا بما كان به طالبا لأن ما يطلبه
ولاة المسلمين من العشر والخراج فالمسلمون هم الطالبون فهذا وجه الذل
الداخل على الحارث وقال عليه السلام: "جعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذل
والصغار على من خالفني ومن تشبه بقوم فهو منهم".
(1/205)
في الجهاد في
الأبوين
يروي عمرو بن العاص أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أريد
الجهاد فقال: "أحي أبواك؟ " فقال: نعم, قال: "ففيهما فجاهد" إنما أمره رسول
الله صلى الله عليه وسلم بترك الجهاد ولزوم أبويه مع الوعيد على تركه
بقوله: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} لأنه فرض كفاية
بخلاف الحج فإنه فرض عين وبر الوالدين فرض عين فإذا بر والديه سقط الفرضان
أحدهما بفعله والآخر بفعل غيره ومنه ما روى عن عبد الله بن عمرو بن العاصي
قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني جئت أبايعك على
الهجرة وتركت أبوي يبكيان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أبايعك
حتى ترجع إليهما فتضحكهما كما أبكيتهما" ولا فرق بين الأبوين وبين أحدهما
لما روى أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني جئتك أبايعك
على الهجرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألك أب أو أم؟ " قال: نعم,
قال: "ففيهما فجاهد".
وروى أن رجلا أتاه فقال: إني أردت أن أغزو وقد جئتك استشيرك فقال: "هل لك
من أم؟ " فقال: نعم, فقال صلى الله عليه وسلم: "فالزمها فإن الجنة تحت
رجليها".
(1/205)
في خير الأصحاب
والسرايا والجيوش
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خير الصحابة أربعة وخير السرايا
أربعمائة وخير الجيوش أربعة آلاف ولن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة". المعنى
في ذلك أن الله تعالى كان فرض أن لا يفر واحد من عشرة ثم خفف بأن لا يفر
واحد من اثنين والنسخ عام في قليل الأعداد وكثيرها ثم خص على لسان الرسول
صلى الله عليه وسلم من العموم الاثنا عشر ألفا بما ذكرها به من أنه لا يغلب
من قلة وفرض عليهم أن لا يفروا ممن فوقهم وإن كثرت وهو قول محمد بن الحسن
في سيره الكبير ولم يحك خلافا وعليه حمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
جماعة من أهل العلم منهم ابن شبرمة إلا أنه جعل ذلك مطلقا في قليل الأعداد
وكثيرها وعن مالك ما يدل على أن الإثنى عشر ألفا مخصوصة من ذلك فإنه روى أن
عبد الله العمري العابد جاء إليه فقال قد ترى هذه الأحكام التي نزلت
أفيسعنا التخلف عن مجاهدة من بدلها فقال له مالك إن كان معك اثنا عشر ألفا
مثلك لم يسعك وإن لم يكن معك فأنت في سعة من التخلف وهذا جواب حسن أخذه من
هذا الحديث والله أعلم.
(1/206)
في المسافر بالقرآن
إلى العدو
عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر
(1/206)
بالقرآن إلى أرض العدو "مخافة أن يناله
العدو" وهو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا من كلام الراوي فإنه روى
"فأني أخاف أن يناله العدو".
وقد اختلف أهل العلم في السفر به إلى أرض العدو فأبو حنيفة وصاحباه ذهبوا
إلى ابا حتة وبعضهم إلى كراهته منهم مالك وعن محمد إن كان مأمونا عليه من
العدو فلا باس وإن كان مخوفا عليه فلا ينبغي أن يسافر به إليهم وهذا أحسن
الأقوال وعليه يحمل القول الأول منهم وما روى عن ابن عباس أنه قال أخبرني
أبو سفيان بن حرب من فيه إلى في أن هرقل دعالهم بكتاب رسول الله صلى الله
عيه بوسلم فقرأه فإذا فيه "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى
هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام
أسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عيك إثم الأريسيين و
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ} الآية" ليس بمعارض لنهيه صلى الله عيه وسلم من المسافرة
بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العد ولأن محمل النهي السفر بجملة
القرآن وما في كتابه صلى الله عيه وسلم إنما هو بعضه فالجمع بينهما بإباحة
السفر بالإجزاء التي فيها من القرآن بعضه وبالكراهة في السفر بكليته إليهم
عند خوفهم عليه وقوله: "عليك إثم الأريسيين" أي مثل إثمهم لقوله تعالى:
{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} أي مثل
نصف العذاب الذي يكون عليهن وإلا ريسيون هم الخدم والخولة.
قال أبو عبيد في كتاب الأموال: وقيل عليه إثمهم لصده إياهم عن الإسلام
بملكه لهم ورياسته عليهم كقوله تعالى: {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا
وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} وكما قال سحرة فرعون لما قامت
عليهم الحجة لموسى {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} أي
استعملتنا فيه وأجبرتنا عليه وقيل منسوب إلى قرية يعرف بالأروسية أهلها
يوحدون الله ويقرون برسالة عيسى وعبوديته ويجحدون بما يقوله النصارى سوى
ذلك وقيل أريس اسم رئيس لهم فنسبوا إليه كما يقال يعقوبيون لقوم ينسبون إلى
يعقوب.
(1/207)
في القتال في الأشهر
الحرم
روى عن سعد بن أبي وقاص قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة
جاءته جهينة فقالوا: إنك قد نزلت بين أظهرنا فأوثق لنا حتى نأمنك وتأمنا
فأوثق لهم ولم يسلموا فبعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب وأمرنا
أن نغير على حي من كنانة إلى جنب جهينة فأغرنا عليهم فكانوا كثيرا فلجأنا
إلى جهينة فمنعونا وقالوا: لم تقاتلون في الشهر الحرام؟ فقلنا: إنما نقاتل
من أخرجنا من البلد الحرام في الشهر الحرام فقال بعضنا لبعض: ما ترون؟
قالوا: نأتي نبي الله صلى الله عليه وسلم فنخبره, وقال قوم: لا بل نقيم
ههنا, وقلت أنا في أناس معي: لا بل نأتي عير قريش هذه فنقتطعها فانطلقنا
إلى العير وكان الفئ إذ ذاك من أخذ شيئا فهو له فانطلق أصحابنا إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقام غضبانا محمر الوجه فقال: "ذهبتم جميعا
وجئتم متفرقين إنما أهلك من كان قبلكم الفرقة لأبعثن عليكم رجلا ليس بخيركم
أصبركم على الجوع والعطش" فبعث علينا عبد الله بن جحش الأسدي فكان أول أمير
في الإسلام فيه ما دل أن الجيش لم يكن عليه أمير وذلك قبل قوله صلى الله
عليه وسلم: "إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمروا عليكم أحدكم" وكان منهم ما كان
من الخلاف فكرهه الله تعالى وأجرى أمور نبيه صلى الله عليه وسلم في
المستأنف على خلافه من التأمير ليرجع أمر الجماعة إلى واحد يجب عليهم طاعته
وترك مخالفته يؤيده قوله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ
رِيحُكُمْ} ومنه ما روى عن جابر بن عبد الله قال: لم يكن رسول الله صلى
الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام أحشبه قال: إلا أن يغزى فإذا حضر أقام
حتى ينسلخ ومنه ما روى عبد الله بن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "قفلة
كغزوة" وهو تتمة كلام تقدمه لم يحضره عبد الله يحتمل أن يكون سئل عن قوم
قفلوا لخوفهم من عدو أكثر منهم عدد اليزيد صلى الله عليه وسلم في عددهم
وعددهم ما يقوون به على عدوهم فيكرون عليهم ومثله ما روى عن عائشة في سبب
(1/208)
قوله صلى الله عليه وسلم في الشوم وعن زيد
بن ثابت في سبب النهي عن كراء المزارع كما تقدم والله أعلم1.
وما روى عن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رهطا وبعث عليهم أبا
عبيدة أو عبيدة بن الحارث فلما مضى لينطلق بكى صبابة إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فجلس وبعث عبد الله بن جحش وكتب له كتابا وأمره أن لا يقرأ
الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا وقال: "لا تكرهن أحدا من أصحابك على المسير"
فلما بلغ المكان قرأ الكتاب فاسترجع وقال سمعا وطاعة لله ولرسوله قال فرجع
منهم رجلان ومضى بقيتهم فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه ولم يروا أن ذلك اليوم من
رحب أو من جمادى فقال المشركون: قتلتم في الشهر الحرام فأنزل الله:
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ
كَبِيرٌ} الآية وقال المشركون: إن لم يكن وزر فليس لهم أجر فأنزل الله
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ} الآية.
ما فيه من تحريم القتال في الشهر الحرام منسوخ بما في سورة براءة عن ابن
عباس قال لما نزلت براءة انتقضت العهود وقاتلوا المشركين حيث وجودهم وقعد
والهم كل مرصد حتى دخلوا في الإسلام فدل هذا على االعهود كلها انقطعت وحل
القتال في الزمان كله.
__________
1 هكذا في الأصل ولاتظهر مناسبته للباب وستجئ هذه العبارة بعينها في باب
الفرار من الزحف.
(1/209)
في تولية الأمراء
روى عن عبد الله بن جعفر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا وأمر
عليهم زيد بن حارثة وقال: "إن أصيب زيد قتل أو استشهد فأميركم جعفر فإن قتل
أو استشهد فأمبركم عبد الله بن رواحة" فأخذ الراية زيد فقاتل حتى قتل ثم
أخذها جعفر فقاتل حتى قتل ثم أخذها عبد الله فقاتل ولم يذكر أنه قتل وأرى
ذلك سقط عن بعض رواته ثم أخذها خالد ففتح الله عليه فأتى خبرهم النبي صلى
الله عليه وسلم فخرج إلى الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن
(1/209)
إخوانكم لقوا العدو وإن زيدا أخذ الراية
فقاتل حتى قتل أو استشهد ثم أخذ الراية بعده جعفر بن أبي طالب فقاتل حتى
قتل أو استشهد ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل أو استشهد ثم
أخذ الراية بعده سيف من سيوف الله خالد بن الوليد ففتح الله عز وجل عليه",
ثم أمهل آل جعفر لم يأتهم ثم أتاهم فقال: "لا تبكوا على أخي بعد اليوم ادع
لي بني أخي" فجئ بنا كأننا أفراخ فقال: "ادعوا لي الحلاق" فجئ بالحلاق فحلق
رؤسنا ثم قال: "أما محمد فشبه عمى أبي طالب وأما عون 1 فشبه خلقى وخلقى" ثم
قال: "اللهم أخلف جعفرا في أهله وبارك لعبد الله في صفقة يمينه" ثلاث مرات
فجاءت أمنا فذكرت يتمنا فقال: "العيلة تخافين عليهم فأنا وليهم في الدنيا
والأخرى" ففيه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل بعض الأمراء واليا بعد
قتل غيره فدل على جواز تعليق الإمارة بخطر فيجوز تعليق الوكالة أيضا لأنه
مثله كما بقوله أو حنيفة وأصحابه خلافا لبعض وفيه جواز الأمارة بغير تولية
إذا احتيج إليها كما كان من خالد فإنه لما وجد من نفسه قوة القيام على
مصالجهم والذب عنهم وجب عليه ذلك ووجب على الناس الطاعة له وكذلك فعل علي
رضي الله عنه لما حصر عثمان في صلاة العيد صلاها وخطب لما خاف أن لا يكون
للناس يومئذ صلاة عبد ولذلك قال محمد إذا شغل السلطان عن إقامة الجمعة ولم
يحضر أحد من قبله نائبا أن من قدر على القيام بها قام بها وعلى الناس
اتباعه فيها كما لو أمره السلطان الذي إليه القيام خلا فالأبى حنيفة وابي
يوسف رضي الله عنهما والمختار ما قال لا ما قالا ومما يدل عليه حديث أنس
قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذ
الراية جعفر فأصيب ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب ثم أخذها خالد بن
الوليد من غير أمرة ففتح الله عليه وإن عينيه لتذرفان قال: وما يسرني أنهم
عندنا". أو قال: "ما يسرهم أنهم عندنا" شك الراوي
__________
1 في مسند أحمد "1/204" "وأما عبد الله".
(1/210)
في تخريب العامر
عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني
(1/210)
النضير وطع وهي البويرة ولها يقول حسان.
وهان علي سراة بني لوي ... حريق بالبويرة مستطير
فأنزل الله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا
قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} الآية لا يقال: إنزال الله
الآية لأن تتعبد بها الأمة معنى يستعملونه فيما تعبدهم به فأي فائدة في
نزولها بعد القطع والتحريق لأن سبب نزولها على ما روى ابن عباس هو أنه لما
ساتنزلوهم من حصونهم وأمروا بقطع النخل قال المسلمون قد قطعنا بعضا وتركنا
بعضا فلنسئلن رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لنا فيما فطعنا من اجرو ما
علينا فيما تركنا من وزر فأنزل الله: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ
تَرَكْتُمُوهَا} الآية فعلم المسلمون أن الذي كان من قطعهم لما قطعوا من
النخيل وتحريقها مباح لهم لا إثم عليهم فيه ولا في ترك ما تركوه منها فلم
يقطعوه فبان موضع الفائدة في نزولها فإن قيل قد نهى أبو بكر الصديق أمراء
الأجناد لما بعثهم إلى الشام عن القطع والتحريق بمحضر من الصحابة من غير
نكير وهو مخالف لما ذكر عن ابن عمر وابن عباس قلنا: أن أبا بكر كان على علم
من عود الشام إلى أيديهم ومن فتحهم لها وغلبتهم الروم عليها بما كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم أعلمهم إياه من ذلك ما روى عن سفيان بن أبي زهير1
قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يفتح اليمن فيأتي قوم يبسون
فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ويفتح الشام
فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا
يعلمون" الحديث فكان النهي من أبي بكر لهذا ولما قد خصهم عليه من الصلاة
بإيلياء ومن شد المطايا إليها ولما قد روى عنه من قوله: "ومنعت الشام مدها
ودينارها" أي أنها ستمنع المد والدينار الواجبين في أراضيها وذلك لا يكون
إلا بعد افتتاحهم وغلبتهم عليها وقد عرف ذلك في موضعه.
__________
1 كان في الصل عن سفيان مولي ابن أزهر والتصحيح من مشكاة المصابيح.
(1/211)
في قتل النساء
والصغار
روى عن ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال:
"أخرجوا بسم الله تقاتلون من كفر بالله لا تغدروا ولا تمثلوا ولا تغلوا ولا
تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع".
لا يعلم نهى قتل أصحاب الصوامع في غير هذا الحديث ومداره على إبراهيم بن
إسمعيل بن أبي حبيبة إلا سلمى رواه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس
وروى عن أبي بكر أنه أوصى به أمراء جيوشه إلى الشام لا تقاتلوا الولدان ولا
الشيوخ ولا النساء.
وعن حنظلة الكاتب قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بامرأة لها
خلق وقد اجتمعوا عليها فلما جاء افرجوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما كانت هذه تقاتل" ثم اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم خالدا: "أن لا
تقتل ذرية ولا عسيفا" ففي قوله: "ما كانت هذه تقاتل" أنه لا يقتل في دار
الحرب إلا من يقاتل فمن كان مقاتلا حل قتله من رجل أو امرأة فالقتال هو علة
القتل والله أعلم.
(1/212)
في الفرار من الزحف
عن صفوان بن عسال قال رجل من اليهود لآخر: اذهب بنا إلى هذا النبي فقال له
الآخر: لا تقل هذا النبي فإنه إن سمعها كانت له أربعة أعين فانطلقا إليه
فسألاه عن تسع آيات فقال: "تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ولا تقتلوا
النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تفروا من الزحف
ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا أو لا تمشوا ببرئ إلى سلطان وعليكم يهود ألا
تعدو في السبت" فقالوا: نشهد أنك رسول الله وفي بعض الآثار فقبلوا يديه
ورجليه وقالوا: انشهد أنك نبي؟ قال: "فما يمنعكم أن تتبعوني" قالوا: إن
داود دعا أن لا يزال من ذريته نبي وإنا نخاف أن اتبعناكم أن تقتلنا يهود.
(1/212)
ففيه: أن التسع الآيات التي آتاها الله
لموسى عبادات لا تخويفات وفيه أن الفرار من الزحف حرام تعبد الله به موسى
ولم ينسخ في شريعة نبينا فظهر به فساد قول من قال أنه كان في يوم بدر خاصة
لقوله: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} الآية وكذا أعلم به ضعف
ما روى عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال في تفسير تسع آيات هي اليد والعصا
والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والسنين ونقص الثمرات إذ لا حجة
لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنه ما روى عن ابن عمر قال: كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه
وسلم فحاص النسا حيصة فكنت فيمن حاص فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف
وبؤنا بالغضب؟ فقلنا: لو دخلنا المدينة فبتنا فيها ثم قلنا: لو عرضنا
أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا
فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج فقال: "من القوم؟ " فقلنا: نحن الفرارون قال:
"بل أنتم العكارون إن فئتكم أو إنا مئة المسلمين" فأتيناه حتى قبلنا يديه.
العكارون: هم الكرارون يعني لما كروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
ليرجعوا إلى ما يأمرهم كان ذلك عودة إلى ما كانوا من بذل النفس في سبيل
الله استحقوا بذلك الاسم وفيه رد القول بالتخصيص بأهل بدر لأن ابن عمر إنما
لحق بالمقاتلة يوم الخندق بعد أن رده النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك فدل
على أن حكم الفرار من الزحف باق إلى يوم القيامة وداخل في الكبائر ونزول
الآية في أهل بدر ليس بمانع ثبوت حكمها في غيرهم.
ومنه ما روى عن عبد الله بن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "قفلة كغزوة"
وهو تتمة كلام تقدمه لم يحضره عبد الله فيحتمل أن يكون سئل عن قوم قفلوا
لخوفهم من عدو أكثر منهم عددا أو عدد اليزيد صلى الله عليه وسلم في عددهم
وعددهم ما يقوون به على عدوهم فيكرون عليهم ومثله ما روى عن عائشة في الشؤم
وعن زيد في كراء المزارع والله أعلم.
(1/213)
في حمل واحد على جيش
روى عن أسلم أبي عمران قال كنا بالقسطنطينية وعلى أهل مصر عقبة ابن عامر
وعلى أهل الشام رجل فخرج من الروم صف عظيم فصففنا لهم فحمل مسلم منا على
الروم حتى دخل فيهم ثم خرج إلينا فصحيح إليه سبحان الله القى بيديه إلى
التهلكة فقال أبو أيوب الأنصاري رد عالهم أيها الناس إن الآية قد أنزلت
فينا معشر الناس1 فإن الدين لما أعزه الله وكثرنا صروه قلنا: فيما بيننا
سرا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أموالنا قد ضاعت فلو أقمنا فيها
فأصلحنا ما ضاع فأنزل الله تعالى هذه الآية يرد علينا ما هممنا به
{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ} فكانت التهلكة الإقامة التي أردناها فأمرنا بالغزو وفما زال
أبو أيوب غازيا حتى قبضه الله تعالى فيه أن التهلكة في الآية التهلكة في
الدين وهي والهلكة واحد قاله أبو عبيد يعني أن ترك الغزو والإنفاق في سبيل
الله هلاك ومثله قوله صلى الله عيه وسلم: "إذا سمعت الرجل يقول هلك الناس
فهو أهلكهم" يعني في الدين وقال البراء: ألا إنما التهلكة أن يذنب الرجل
الذنب ثم يلقى بيديه ويقول: لا يغفر لي وعن ابن عباس في تفسيرها انفقوا ولا
تمسكوا في سبيل الله فتهلكوا.
وقال: ينفق في سبيل الله وإن لم يكن له إلا مشقص يريد التحذير من الإمساك
في قليل المال وكثيره مخافة أن يدخل في الوعيد وعنه ولا يقولن أحدكم: إني
هالك لا أجد شيئا إن لم يجد إلا مشقصا فليجا هدبه في سبيل الله.
فعلم أن التهلكة في الآية ليست في لقاء العدو الذي يخشى عليه وانه في فعله
ذلك غير مذموم وما روى أن في محاصرة دمشق أسرع رجل إلى العدو فعاب المسلمون
عليه ورفعوه إلى عمرو بن العاص وهو على جند من الأجناد فأرسل إليه عمرو
فرده وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ
صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ
إِلَى التَّهْلُكَةِ} لا يعارض ما قال أبو أيوب: لأنه أخبر بسبب نزولها
توقيفا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن تأويل عمرو
__________
1 المعروف "معشرالنصار".
(1/214)
لا يكافئ ذلك ويحتمل الخفاء عليه ولو وقف
على ما وقف عليه أبو أيوب لردتا وتأويلها إليه وقد روى عن جعفر بن أبي طالب
حين زاحمه القتال يوم موته اقتحم عن فرس شقراء له ثم عرقبها وقاتل حتى قتل
فكان أول عاقر في سبيل الله.
وكان ذلك بمحضر من أكابر الصحابة مثل عبد الله بن رواحة وخالد وغيرهما فلم
ينكر وه عليه وبلغ أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكره عليه ولم
ينه عن مثله فدل على أنه من أجل الأفعال وأعظمها في الثواب وأن تأويلها ما
روينا عن أبي أيوب لا غيره مما يخالفه.
(1/215)
في قتل الكافر بعد
قول لا إله إلا الله
روى أن المقداد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت أن لقيت رجلا من
الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمت
لله أقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن يقول
كلمته التي قال" يعني يعود بإسلامه مثلك مسلما وتصير أنت من أهل النار كما
كان هو قبل أن يسلم من أهلها ومنه ما روى عن أسامة قال: بعثنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم في جيش إلى الحرقات من جهينة فلما هز مناهم ابتدرت أنا
ورجل من الأنصار رجلا منهم بالسيف فقال: لا إله إلا الله فكف عنه الأنصاري
وظننت أنه يقوله تعوذا من القتل فقتلته فرجع الأنصاري إلى النبي صلى الله
عليه وسلم فحدثه الحديث فقال صلى الله عليه وسلم: "يا أسامة قتلت رجلا بعد
أن قال لا إله إلا الله فكيف تصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة؟ " فما زال
يقول ذلك حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ.
إنما بقيت أحوال أسامة عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما وجد منه ما وجد
على ما كانت لأنه اجتهد في إسلام الكافر بعد أن حاق به القتل جزاء على كفره
فأدى اجتهاده إلى عدم صحته كإيمان فرعون لما أدركه الغرق وقال تعالى:
{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} الآية وبين النبي
صلى الله عليه وسلم
(1/215)
خطاءه في اجتهاده بالفرق بين مجئ الباس من
الله ومجيئه من قبل عباده وعذره على ذلك قال عليه الصلاة والسلام في
القاضي: "إذا اجتهد فأخطأ أن له أجرا".
ثم فيما كان من أسامة دليل على جواز استعمال الرأي عند نزول الحوادث وردها
إلى مثلها من الأحكام وإن وقع خطأ فمجتهده غير ملوم ومنه ما روى عن عبد
الله بن عمر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد ابن الوليد إلى
بني حذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فجعلوا يقولون:
صبأنا صبأنا وجعل يقتل ويأسر ودفع إلى كل واحد منا أسيره حتى إذا كان ذات
يوم أمر خالد كل رجل منا أن يقتل أسيره فقلت: لا والله لا أتقل أسيري ولا
يقتل أحد من أصحابي أسيره فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم ذكرنا
صنيع خالد فرفع يديه ثم قال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" مرتين.
إنما لم يؤاخذ صلى الله عليه وسلم خالدا بما وجب لهم عليه بسبب قتله إياهم
بعد إسلامهم لأن قولهم: صبأنا ما كان صريحا في إسلامهم لأنه قد يكون على
الدخول في دين الصابئين لأنه زوال عن شيء إلى شيء وتعنيفه إذ لم يستثبت في
أمرهم حتى يقف على قصدهم بقولهم: صبأنا ولذاتيبر إلى الله من عجلته ولم
يأخذه لهم بما لم يعلم يقينا وجوبه عليه ومنه ما روى خالد قال: بعثني رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنا وعمارا في سرية فأضفنا أهل بيت قد كانوا وحدوا
فقال عمار: إن هؤلاء قد احتجزوا منا بتوحيدهم فسفهته ولم أحفل بقوله فلما
رجعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم شكاني إليه فلما رأى النبي صلى الله
عليه وسلم لا ينتصر له مني أدبر وعيناه تدمعان فقال صلى الله عليه وسلم:
"يا خالد لا تسب عمارا فإنه من يسب عمارا يسبه الله عز وجل ومن تسفه عمارا
تسفهه الله تعالى" قال: قلت: والله يا رسول الله ما من ذنوبي شيء أخوف على
منهن فاستغفر لي قال: فاستغفر لي النبي صلى الله عليه وسلم.
فعل خالد في أهل ذلك البيت كفعل أسامة في قتيله بعد توحيده
(1/216)
فأصاب عمار حقيقة حكم الله فثيهم وأخطأه
خالد فحمد في اجتهاده كأسامة ولكن عمارا أصاب الحق الحقيقي ومنه ما روى عن
خالد أنه صلى الله عليه وسلم بعثه إلى ناس من خثعم فاسعصموا بالسجود فقتلهم
فوداهم النبي صلى الله عليه وسلم بنصف الدية ثم قال: "أنا برئ من كل مسلم
مع مشرك لا ترا" أي نارما السجود في احتماله الإسلام وغيره كقولهم: صبأنا
وكان على خالد التثبت في أمرهم فقصر في ذلك ولأجله وداهم النبي صلى الله
عليه وسلم بما وداهم به تطوعا منه وتفضلا وأما قوله: "لا ترا" أي نارا هما
يعني لا يحل لمسلم أن يسكن بلاد المشركين فيكون معهم بقدر ما يرى كل واحد
منهما نار صاحبه قال الكسائي العرب تقول داري تنظر إلى دار فلان ودورنا
تتناظر وقيل المراد بذلك نار الحرب {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ
أَطْفَأَهَا اللَّهُ} وعلى هذا نارا هما مختلفان هذه تدعوا إلى الله وهذه
تدعوا إلى الشيطان فكيف يتفق أهلهما في بلاد واحدة.
ومنه ما روى عن عمر أن بن حصين قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في
سرية فحمل رجل من ورائي على رجل من المشركين فلما غشيه بالرمح قال: إني
مسلم فقتله ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد
أذنبت فاستغفر لي قال: "وما ذاك؟ ", فقال قصته وقال: ظننت أنه متعوذ فقتلته
قال: "أفلا شققت عن قلبه حتى يستبين لك" وقال: ليتبين لي قال: "قد قال لك
بلسانه فلم تصدقه على ما في قلبه" فلم يلبث الرجل إن مات فدفن فأصبح على
وجه الأرض فقلنا: عد ونبشه فأمرنا عبيدنا وموالينا فحرسوه فأصبح على وجه
الأرض فقلنا: فلعلهم غفلوا فحرسنا فأصبح على وجه الأرض فأتينا النبي صلى
الله عليه وسلم فأخبرناه فقال: "إن الأرض لتقبل من هو شر منه ولكن الله أحب
أن يخبركم بعظم الذنب" ثم قال: انهوا به إلى سفح هذا الجبل فاقصدوا عليه من
الحجارة ففعلنا.
فيه أن القاتل وهو الخزاعي علم حرمة قتل من قتله ولهذا قال: أذنبت فاستغفر
لي وقوله: ظننت أنه متعوذ زيادة منه في الاعتذار في قتله لأن قتل المتعوذ
أيسر من قتل من قاله صادقا من قلبه فلم يكن ظنه ذلك دافعا عنه عقوبة ذنبه
فعاقبه الله تعالى من أجل ذلك بما عاقبه والله أعلم بحقيقة الأمر.
(1/217)
في الوصية بالقبط
روى أبو ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم ستفتحون أرضا يذكر
فيها القيراط فاستوصوا بأهلها فإن لهم ذمة ورحما فإذا رأيتم رجلان يقتتلان
في موضع لبنة فأخرج منها" قال: فمر بربيعة وعبد الرحمن ابني شرحبيل ابن
حسنة يتنازعان في موضع لبنة فخرج منها ليس المراد قيراط الدرهم والمثقال
المعروف في كلام الناس ولا الذي ورد في الحديث في أجر المصلي على الجنازة
المشيع لها وفي وزر مقتنى الكلاب وإنما المراد به السب من قولهم أعطيت
فلانا قرارا يطه إذا سمع منه ما يكره وأجابه بما يكرهه ويحذر بعضهم بعضا
فيقول اذهب عني لا أعطيك قرار يطك يعني سبابك وأسماعك المكروه ولا يعرف هذا
أهل مدينة سوى أهل مصر فكان الإخبار بهذا علما من أعلام النبوة والمراد
بأهلها القبط يوضحه ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن فتحتم
مصرفا ستوصوا بالقبط خيرا فإن لهم ذمة ورحما" لأن هاجر أم اسمعيل كانت منهم
فهذه الرحم وأما الذمة مع أنها كانوا أهل حرب وليس لهم ذمة فإن المراد بذلك
الحق الذي لهم برحمهم فكان ذلك ذماما لهم يجب رعايته كقوله تعالى: {إِلّاً
وَلا ذِمَّةً} فإنها هي التذمم.
(1/218)
في فتح مكة وقتل من
أمر بقتله
روى مصعب بن سعد عن أبيه قال: لما كان يوم الفتح فتح مكة آمن رسول الله صلى
الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين وقال: "اقتلوهم وإن وجدتموهم
متعلقين بأستار الكعبة" عكرمة بن أبي جهل وعبد الله بن خطل ومقيس بن صبابة
وعبد الله بن سعد بن أبي سرح فأما عبد الله بن خطل فأتى وهو متعلق باستار
الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا وكان أشد
الرجلين فقتله.
(1/218)
وأما مقيس بن صبابة فأدركه الناس في السوق
فقتلوه وأما عكرمة فركب البحر فأصابتهم ريح عاصف فقال أصحاب السفينة لأهل
السفينة أخلصوا فإن آلهتكم لا تغنى عنكم شيئا ههنا وقال عكرمة والله لئن لم
ينجني في البحر إلا الإخلاص لا ينجني في البر غيره اللهم أن لك علي عهدا أن
أنجيتني مما أنا فيه أن آتي محمدا اضع يدي في يده فلأجد له عفوا كريما فنجا
فأسلم وأما عبد الله بن أبي سرح فإنه اختبى عند عثمان فلما دعا رسول الله
صلى الله عليه وسلم الناس للبيعة جاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه
وسلم فقال يا رسول الله بايع عبد الله فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا كل ذلك
يأبى فبايعه بعد ثلاث مرات ثم أقبل على أصحابه فقال: "أما كان فيكم رجل
يقوم إلى هذا حين رآني قد كففت يدي عن مبايعته فيقتله" فقالوا: ما درينا يا
رسول الله فهلا أومأت إلينا بعينك؟ فقال: "إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له
خائنة أعين" فيه أنه صلى الله عليه وسلم أمر في الأربعة بقتلهم مطلقا ثم
خرج من ذلك عكرمة وعبد الله بإسلامهما فحقن دمهما وقتل الآخران بالكفر الذي
ثبتا عليه وخروجهما بطريق الاستثناء الشرعي دون اللساني فكذلك تكون أمور
الأئمة بالعقوبات مستثنى منها بما يدفع العقوبات بالشريعة وإن لم يستثنوا
ذلك بألسنتهم.
ومنه ما روى مطيع بن الأسود وكان اسمه العاصي فسماه رسول الله صلى الله
عليه وسلم مطيعا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمر بقتل
هؤلاء الرهط بمكه يقول: "لا تغزي مكة بعد هذا العام أبدا ولا يقتل رجل من
قريش صبرا بعد اليوم" لم يذكر الراوي لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم معربا
وذلك مما يقع فيه الأشكال لأنه إن كان لا يقتل بالجزم كان ذلك على الأمر
وفيه خلاف حكم الله لان حكم الله أن القرشي يقتل قودا ويرجم إذا زنى محصنا
وحاشا أن يكون لفظ رسول الله صلى الله عيه وسلم مخرجا له عن هذه الأحكام
فتأويله والله أعلم لا يقتل مرفوعا على الخبرية كقوله: "لا يلدغ المؤمن من
جحر مرتين" وسيأتي بيانه.
(1/219)
فإن قيل: قد قتل كثير من قريش صبرا بعد
الإسلام قلنا: إن المراد هو أنه لا يقتل قرشي بعد ذلك العام صبرا على ما
أباحه صلى الله عليه وسلم من قتل الأربعة عامئذ فإنه كان قتلا على حراب
الكفر ولم يكن بحمد الله عاد قرشي كافرا محاربا لله ورسوله في دار الكفر
إلى يومنا هذا ولا يكون إلى يوم القيامة لأن الله تعالى لا يخلف وعد رسوله
يؤيده ما روى عن الحارث ابن البرصاء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول يوم فتح مكة: "لا تغزى مكة بعد هذا اليوم أبدا" قال سفيان: يعنى
أنهم لا يكفرون فلا يغزون على الكفر فكذلك معنى لا يقتل قرشي لا يعودون
كفارا يغزون حتى يقتلوا على الكفر كما لا تعود مكة دار كفر أبدا تغزي عليه.
(1/220)
في قتل على أهل
الأهواء
روى عن علي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لما افتتح مكة
وأتاه أناس من قريش فقالوا: يا محمد إنا حلفاؤك وقومك وإنه قد لحق بك
أبناؤنا وأرقاؤنا وليس بهم رغبة في الإسلام إنما فروا من العمل فارددهم
علينا فشاور أبا بكر في أمرهم فقال: صدقوا يا رسول الله فتغير وجهه, فقال:
"يا عمر ما ترى؟ " فقال مثل قول أبي بكر فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "ليبعثن الله عليكم 1 رجلا امتحن الله قلبه بالإيمان يضرب رقابكم على
الدين" قال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله قال: "لا ولكنه خاصف النعل في
المسجد" قال: وكان قد ألقى إلى علي نعله يخصفها وقال على أما أني سمعته
يقول: "لا تكذبوا علي فإنه من يكذب علي يلج النار" الفتح المذكور هو فتح
الحديبية السابق على فتح مكة وفيه نزلت {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً
مُبِيناً} والصحابة يخالطون الحزن والكآبة لما حيل بينهم وبين نسكهم ونحروا
بالحديبية فقال صلى الله عليه وسلم: "لقد نزلت علي آية هي أحب إلي من
الدنيا جميعا" فقرأها فقال: رجل هنيئا مريئا يا نبي الله
__________
1 كذا في الصل وفي سنن الترمذي في هذه القصة "لتنتهن او ليبعثن الله
عليكم".
(1/220)
قد بين ما يفعل بك فماذا يفعل بنا فأنزل
الله ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات الآية وأضيف الفتح إلى مكة لأنه جعل
سببا لفتحها والوعيد الذي كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم للذين جاؤه
من قريش فسألوه أن لم ينتهوا لا يكون إلا وهم على الكفر وإلا ومكة دار حرب
ثم كفاه الله ذلك منهم وفتح عليه مكة ودخلوا بذلك في الإسلام على ما دخلوا
به فيه من طوع ومن كره ومنه ما روي عن أبي سعيد الخدري قال كنا جلوسا ننتظر
رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إلينا من حجرة عائشة فانقطعت نعله فرمى
بها إلى على ثم جلس فقال: "إن منكم لمن يقاتل على تأويل القرآن كما قتلت
على تنزيله", فقال أبو بكر: أنا قال: "لا", قال عمر: أنا قال: "لا ولكنه
خاصف النعل في الحجرة" قال رجاء الزبيدي فأتى رجل عليا في الرحبة فقال" يا
أمير المؤمنين هل كان في حديث النعل شيء قال: اللهم إنك لتشهد أنه مما كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يسره إلي فيه وعد لعلي بن أبي طالب بأنه
يقاتل على تأويل القرآن كما قاتل هو صلى الله عليه وسلم على تنزيله ولابد
من إنجازه بخلاف الحديث الأول فإنه وعيد لأهل مكة من أجل سؤالهم والوعيد قد
ينجز وقد لا ينجز روى عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من
وعده الله على عمل ثوابا فهو منجزه له ومن أوعده على عمل عقابا فهو
بالخيار" وسئل أبو عمرو بن العلاء أيجوز أن يعد الله على عمل ثوابا ثم لا
ينجزه؟ فقال: لا فقيل وإذا أوعد على عمل عقابا فلا بد أن ينجزه فقال أبو
عمرو لسائله: ومن قبل العجمة اتيت أن العرب كانت إذا وعدت فشرفها أن تفي
وإذا أوعدت فشرفها أن لا تفي.
ولا يرهب ابن العم والجار صولتي ... ولا اختشى من خشية المتهدد
وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لأخلف إيعادي وأنجز موعدي
وما في الحديثين من خصف النعل فيجوز أن يكون في يومين وذلك أولى ما حملت
عليه لئلا ومما حقق الوعد ما كان من قتال على للخوارج
(1/221)
وقتله غياهم ووجودهم على الصفة التي وصفهم
عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهذا من الخصائص التي اختص الخلفاء بها
فاختص أبا بكر بقتال أهل الردة وعمر بقتال العجم حتى فتح الله على يديه
وأظهر به الدين وعلى بن أبي طالب بقتال الخوارج المقاتلين على تأويل القرآن
وعثمان بن عفان بجمع القرآن على حرف واحد فقامت به الحجة وأبان به أن من
خالف حرفا منه كان كافرا وأعاذنا به أن نكون كأهل الكتابين قبلنا الذين
اختلفوا في كتابهم حتى تهيأ منهم تبديله فرضوا الله على خلفاء رسوله جزاهم
الله عنا أفضل ما جازى به أحدا من خلفاء أنبيائه على طاعتهم إياه ونحمد
الله على ما عرفنا به من أماكنهم وفضائلهم وخصائصهم ولم يجعل في قلوبنا
غلالا لأحد منهم ولا لمن سواهم من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أنه
أرحم الراحمين.
(1/222)
في الهجرة بعد الفتح
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم الفتح: "لا هجرة بعد الفتح
ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا" وفيما روى عن مجاشع بن مسعود أنه
قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح بأخي معبد ليبايعه فقلت:
يا رسول الله جئتك بأخي معبد لتبايعه على الهجرة, فقال: "ذهب أهل الهجرة
بما فيها" فقلت: على أي شيء تبايعه؟ فقال: "على الإيمان أو على الإسلام
والجهاد" زاد في حديث آخر: "فإنه لا هجرة بعد الفتح ويكون من التابعين
بإحسان" وروى عن صفوان أنه قال: لما فتحت مكة جاء بابنه فقال: يا رسول الله
اجعل لي نصيبا من الهجرة فقال: "لا هجرة اليوم" فدخل على العباس فخرج
العباس في قميص ليس عليه رداء فقال: يا رسول الله قد عرفت فلانا والذي كان
بيني وبنيه وأنه جاء بابنه فما يمنعه قال: "لا هجرة" فقال العباس: يا رسول
الله أقسمت فمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ومسح عليه وأدخل يديه
وقال: "أبررت عمي ولا هجرة" وروي عن عائشة أنه قيل لها: يا أم المؤمنين هل
من هجرة اليوم قالت: لا ولكن جهاد ونية إنما كانت الهجرة قبل فتح مكة
والنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة
(1/222)
يفر الرجل بدينه إلى النبي صلى الله عليه
وسلم ففيها أن الهجرة قد انقطعت بفتح مكة وفي حديث عائشة بيان السبب ودل
على ذلك أيضا ما كان من الإطلاق لصفوان بالرجوع إلى مكة لما قدم عليه
بالمدينة حين قيل له قبل ذلك لا دين لمن لم يهاجر إذ لو كان الحكم على ما
كان عليه لما أباح له الرجوع إلى الدار التي هاجر منها كما لم يطلق ذلك
للمهاجرين إليه قبل الفتح حتى جعل لهم إذا قدموها لحجهم إقامة ثلاثة أيام
بعد الصدر لا زيادة عليها وكان المهاجرون يشفقون من إدراك الموت إياهم بها
ويعظمون ذلك ويخشونه كما في حديث سعد بن أبي وقاص في مرضه عام الفتح بمكة
وإشفاقه أن يموت بمكة وقوله اخلف عن هجرتي قال صلى الله عليه وسلم: "إنك لن
تخلف بعدي فتعمل عملا تريد به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة ولعلك إن
تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضربك آخرون اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم
على أعقابهم" لكن البائس سعد بن خولة يرثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم
إن مات بمكة فلا دليل أدل على انقطاع الهجرة بعد فتح مكة من الآثار التي
ذكرنا.
وروى عن ثلاثة من الصحابة ما يؤكده عن أبي سعيد الخدري قال لما نزلت {إِذَا
جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} قرأها الرسول صلى الله عليه وسلم حتى
ختمها ثم قال: "أنا وأصحابي خير لا هجرة بعد الفتح" قال فحدثت بذلك مروان
وكان على المدينة فما صدقني وعنده رافع بن خديج وزيد بن ثابت فقلت أما هذين
لو شاءا حدثاك ولكن زيد يخاف أن تعزله عن الصدقة ورافع يخالف أن تعزله عن
عرافة قومه قال فنبذ على بدرته فلما رأيا ذلك قالا صدق ولا يخالف هذا ما
روى عن جنادة إن رجلا حدثه إن رجالا من الصحابة قالوا: إن الهجرة انقطعت
واختلفوا في ذلك قال فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرضت القصة
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة ما كان الجهاد".
وما روى عن عبد الله بن السعدي قال وفدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
في نفر من بني سعد فقلت: يا رسول الله أخبرني عن حاجتي فقال:
(1/223)
"وما حاجتك؟ " فقلت: انقطعت الهجرة فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت خيرهم حاجة لا تنقطع الهجرة ما قوتل
الكفار" إذ يحتمل أن يكون المراد به كفار مكة الذين يقاتلون على فتح مكة
حتى فتحت بما فتح الله عز وجل عليهم به وكذلك لا يخالف ما روى عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة وحتى تطلع
الشمس من مغربها" قال: ذلك ثلاث مرات لأن هذه الهجرة هجرة السوء التي يهجر
بها ما كان قبلها مما قطعته التوبة ليست لامهاجرة من بلد إلى آخر يدل عليه
ما روى عن صالح بن بشير بن فديك قال خرج فديك إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال يا رسول الله إنهم يزعمون أن من لم يهاجر هلك فقال: "يا فديك أقم
الصلاة وآت الزكاة واهجر السوء وأسكن من أرض قومك حيث شئت تكن مهاجرا" فبين
أن الهجرة بعد فتح مكة هي هجرة السوء وإنها لا تمنع السكنى بغير المدينة.
وفيما ذكرنا من هذا بيان لما وصفنا وقد وجدنا ما هو أدل على ما ذكرنا من
هذا قول الله تعالى {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} الآية لأن السابقين
من المهاجرين من هاجر من مكة وغيرها من بلاد الكفر إلى النبي صلى الله عليه
وسلم بالمدينة والذين اتبعوهم بإحسان هم الذين دخلوا في الإسلام بعد أن
صارت مكة دار الإسلام يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم لمجاشع لما أتاه بأخيه
بعد الفتح ليبايعه على الهجرة: "لا بل نبايع على الإسلام فإنه لا هجرة بعد
الفتح" ويكون من التابعين بإحسان.
(1/224)
في قدوم مسيلمة
الكذاب
روى عن ابن عباس قال: قدم مسيلمة الكذاب على عهد النبي صلى الله عليه وسلم
المدينة فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته وقدمها في خلق كثير
من قومه فأقبل إليه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس وفي يده صلى
الله عيه وسلم قطعة جريد حتى وقف على مسيلمة في أصحابه فقال: "لو
(1/224)
سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها ولن تعدو
أمر الله فيك ولئن أدبرت ليعقرنك الله وإني لا أراك إلا الذي رأيت فيه ما
رأيت وهذا ثابت يجيبك عني" ثم انصرف قال ابن عباس: فسألت عن قول النبي صلى
الله عليه وسلم: "رأيت فيه ما رأيت" فأخبرني أبو هريرة أنه صلى الله عليه
وسلم قال: "بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب فهمني شأنهما فأوحى
الله إلى في المنام أن أنفخهما فنفختهما فطارا فأولتهما كذا بين يخرجان
بعدي فكان أحدهما العنسى صاحب صنعاء والآخر مسيلمة صاحب اليمامة".
فإن قيل كيف لم يقتل مسيلمة بأبائه الدخول في الإسلام قلت يحتمل أنه جاء
على جوار ليخاطبه بما يجيبه إليه أو يمتنع عليه قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} الآية فلم يقتله لذلك.
(1/225)
في تأمين رسل الكفار
روى سلمة بن نعيم عن أبيه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه
رسل مسيلمة بكتابه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهما: "وأنتما
تقولان مثل ما يقول" فقالا: نعم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا
أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما".
وروى عن حارثة بن مضرب أنه أتى عبد الله بن مسعود فقال: ما بيني وبين أحد
من العرب حنة وإني مررت بمسجد بني حنيفة فإذا هم يؤمنون بمسيلمة فأرسل
إليهم عبد الله فجئ بهم فاستتابهم غير ابن النواحة فقال له ما سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لولا أنك رسول لضربت عنقك" فاليوم أنت لست
برسول فأمر قرظة بن كعب فضرب عنقه في السوق ثم قال: من أراد أن ينظر إلى
ابن النواحة قتيلا بالسوق فلينظر.
إنما لم يقتل الرسل وإن كان منهم مثل ما كان من ابن النواحة وصاحبه مما
يوجب قتلهما لو لم يكونا رسولين لقوله تعالى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ
كَلامَ اللَّهِ} أي فيتبعه فيجب عليه المقام حيث يقيم المسلمون أو لا يتبعه
فيبلغه
(1/225)
مأمنه إذ في تركه إتباعه بقاؤه على كفره
الذي يوجب سفك دمه لو لم يأته طالبا لاستماع كلام الله تعالى فكما حرم سفك
دمه حتى يخرج من ذلك الطلب فكذلك سفك دم الرسول حتى يخرج من تلك الرسالة
بالرجوع إلى مرسله فيقبل ما جاء به فيؤمن أو لا فيبقى حربيا ويحل سفك دمه.
(1/226)
في قبول هدايا أهل
الحرب
روى عن عياش بن حمار كان حرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية
أنه أهدى له هدية فردها وقال: "إنا لا نقبل زبد المشركين" والعرب تسمى
الهدية زبد أو الحرمى يكون من أهل الحرم ويكون الصديق أيضا وروى أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم بعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب
الإسكندرية يعني بكتابه معه إليه فقبل كتابه وأكرم حاطبا وأحسن نزله ثم
سرحه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهدى له مع حاطب كسوة وبغلة بسرجها
وجاريتين إحداهما أم إبراهيم والأخرى وهبها لجهم بن قيس هي أم زكريا بن جهم
الذي كان خليفة لعمرو بن العاصي على مصر وروى أنه أعطاها حسان بن ثابت.
رد هدية عياض وقبول هدية المقوقس مع أنهما كانا كافرين لافتراق كفرهما فإن
عياض بن حمار من المشركين كالمجوس من العجم لا يؤمنون بالبعث لا تؤكل
ذبائحهم ولا تنحح نساؤهم والمقوقس أهل كتاب يؤمن بالبعث وتقبل منهم الجزية
وتؤكل ذبائحهم وتنكح نساؤهم فكل مشرك كافر من غير عكس وقد أمرنا أن لا
نجادل أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن وقبول هديتهم أحسن من ردها والمشركون
في ذلك بخلافهم لأنا أمرنا بمنابذتهم وقتالهم حتى يكون الدين كله لله وقد
فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما في خطبته روى عن أبي أمامة الباهلي
قال: شهدت الخطبة يوما في حجة الوداع فقال صلى الله عليه وسلم قولا كثيرا
حسنا جميلا وفيها: "من أسلم من أهل الكتاب فله أجره مرتين وله مثل الذي لنا
وعليه مثل الذي علينا ومن أسلم من المشركين
(1/226)
فله أجره وله مثل الذي لنا وعليه مثل الذي
علينا" قال القاضي: هذا خاص بالنصارى على دين عيسى من غير تبديل كما سيجئ.
ومنه عن علي بن أبي طالب قال: أهدى كسرى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقبل منه وأهدت إليه الملوك فقبل منهم، وعن ابن عباس قال: أهدى المقوقس
صاحب مصر إلى رسول الله صلى الله عيه وسلم قدحا من زجاج فكان يشرب فيه وعن
أنس أن ملك ذي يزن أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حلة بثلاثين
قلوصا وبثلاثين بعيرا وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه أن صاحب الحشة أهدى
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خفين ساذجين فلبسهما ومسح عليهما وعن عبد
الرحمن القارئ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث حاطبا إلى المقوقس
فأكرمه وأهدى معه بغلة بسرجها وجاريتين الحديث وكان عبد الرحمن حج مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم لذلك ادخل حديثه في المسند وعن عبد الرحمن ابن
يزيد عن أبيه قال: أهدى أمير القبط لرسول الله صلى الله عليه وسلم جاريتين
أختين قبطيتين وبغلة فأما البغلة فكان يركبها واحدى الجاريتين تسراها فولدت
له إبراهيم وأما الأخرى فأعطاها حسان بن ثابت.
إنما خالف أمر الأمة في الهدايا أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأن الله
تعال اختصه في أموال أهل الحر بخاصة خالف بها غيره من أمته فقال: {وَمَا
أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ
مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} الآية.
من ذلك أموال بني النضير كانت له خالصة فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة
ويجعل الباقي في الخيل والكراع في سبيل الله.
ومن ذلك الهدايا لأنه لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب والذي يروي من رده هدايا
المشركين بقوله: "إنا لا نقبل زبد المشكرين" كان قبل أن تنزل عليه هذه
الآية فلما نزلت أباحت له من أموالهم ما صار إليه بغير إيجاف خيل عليه ولا
ركاب.
(1/227)
في قسم ما أفاء الله
عليه
روى عن مسور بن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت عليه أقبية
فبلغ ذل أباه مخرمة فقال: يا بني أنه قد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قدمت عليه أقبية فهو يقسمها فاذهب بنا إليه فذهبنا فوجدناه في منزله
فقال: أي بني ادع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المسور: فأعظمت ذلك
وقلت: ادعو لك رسول الله؟ فقال: أي بني أنه ليس بجبار فدعوت رسول الله صلى
الله عليه وسلم فخرج وعليه قباء من ديباج مزرر بذهب فقال: "يا مخرمة هذا
خبأته لك فأعطاه إياه".
وفي رواية أخرى" فكأني أنظر إليه يرى محاسن القباء ويقول: "خبأت هذا لك
خبأت هذا لك" وفي حديث آخر: فقال: رضي مخرمة ولبعض رواته إنما فعل ذلك
بمخرمة اتقاء من لسانه وكان ذلك قبل تحريم لبس الحرير ولذلك لبس الرسول صلى
الله عليه وسلم القباء وكأن مما أوجف عليه بغير خيل ولا ركاب وكان خالصا له
فلم يستأثر بالأقبية لنفسه وردها في إعزاز الإسلام وإصلاح قلب من يخاف
فساده عليه طلبا للألفة بين الأمة ودفعا للمكروه الذي يخاف من بعضها على
بقيتها وانطلق له لباسه لأنه غير مشترك بينه وبين أمته ولا وجب لمخرمة إلا
بتسليمة إياه إليه ولو كانت الأقبية من الصنف الذي قال الله تعالى فيه:
{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} الآية لما لبس
صلى الله عليه وسلم منها شيئا.
(1/228)
في الاستعانة
بالمشرك
روى عن عائشة قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر فلما كان
بحرة الوبرة أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجده ففرح
(1/228)
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
رأوه فلما أدركه قال: يا رسول الله جئت لأتبعك وأصيب معك, فقال له رسول اله
صلى الله عليه وسلم: "أتؤمن بالله عز وجل؟ " قال: لا, قال: "فارجع فلن
نستعين بمشرك" الحديث بطوله إلى قوله: "أتؤمن بالله ورسوله", فقال: نعم,
فقال رسول اله صلى الله عليه وسلم: "فانطلق".
وروى ابن شهاب أن صفوان بن أمية سار مع رسول الله صلى اله عليه وسلم فشهد
حنينا والطائف وهو كافر وهو يسند من رواية جابر بن عبد الله قال: لما انهزم
الناس يوم حنين جعل أبو سفيان بن حرب يقول: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر
وصرخ كلدة بن الحنبل وهو مع أخيه لأمه صفوان ألا بطل السحر اليوم فقال له
صفوان: أسكت فض الله فاك فوالله لأن يربني رجل من قريش أحب إلى من يربني
رجل من هوازن لا مخالفة بين حديث صفوان وبين قوله: "لا نستعين بمشرك", لأن
صفوان قتاله كان باختياره دون أن يستعين به النبي صلى الله عليه وسلم في
ذلك والإستعانة بالمشرك غير جائزة لكن تخليتهم للقتال جائة لقوله تعالى:
{لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} والاستعانة اتخاذ منه لهم بطانة
فأما قتالهم معه دون استعانة فبخلاف ذلك وكذلك دعاء النبي صلى الله عليه
وسلم اليهود لما بلغه جمع أبي سفيان ليخرج إليه يوم أحد فانطلق إلى اليهود
الذين كانوا في النضير فوجد منهم نفرا عند منزلهم فرحبوا به فقال: "إنا
جئناكم نخبر أنا أهل كتاب وأنتم أهل كتاب وإن لأهل الكتاب على أهل الكتاب
النصر فإما قاتلتم معنا وإما أعرتمونا سلاحا" ليس بخلاف لأن الممتنع
الاستعانة بالمشرك واليهود الذين دعاهم إلى قتال أبي سفيان معه أهل كتاب
ليسوا من المشركين فلما أجتمع أهل الكتاب معنا في الإيمان بالكتب الذي
أنزلها الله على من أنزل من أنبيائه وفي الإيمان بالبعث بعد الموت كانت
أيدينا واحدة في قتال عبدة الأوثان والغلبة لنا لأننا الأعلون وهم اتباع
لنافي ذلك وهكذا حكمهم إلى الآن عند أبي حنيفة وأصحابه إذا كان حكمنا هو
الغالب بخلاف ما إذا لم يكن حكمنا غالبا نعوذ بالله وليس هذا بخلاف أيضا
لما روى أن رسول الله صلى الله
(1/229)
عليه وسلم خرج يوم أحد حتى إذا خلف ثنية
الوداع إذا هو بكتيبة حسناء فقال: "من هؤلاء؟ " قالوا: بنو قينقاع وهم رهط
عبد الله بن سلام وقوم عبد الله ابن سلول فقال: "أسلموا" فأبوا قال: "قل
لهم فليرجعوا فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين" ومعنى قوله: "وهم قوم
عبد الله بن أبي" ليس المراد أن عبد الله منهم لأنه ليس من اليهود لأنه من
الرهط الذين يرجع الأنصار إليهم بأنسباهم ولكنه خذل بنفاقه فأما نسبه فيهم
فقائم وقيل لهم قومه بمحالفته لا بما سوى ذلك وإن كان فيه تسمية اليهود
مشركين ومنعهم من القتال معه لأن بني قينقاع بمحالفتهم عبد الله صاروا
كالمرتين عما كانوا عليه إلى ما هو عليه لأن المعالفة هي الموافقة بين
المتحالفين فخر جوابه عن حكم أهل الكتاب فصاروا كمن ارتد عن الإسلام إلى
اليهودية أو النصرانية لا يكون بذلك يهوديا ولا نصرانيا في أكل ذبائحهم وحل
نسائهم فكذا هؤلاء لما حالفوا المنافق صاروا كالمشركين فكان لهم حكمهم
فلذلك منعوا وسموا مشركين.
(1/230)
في إسهام من لم يشهد
الحرب
روى عن أبي هريرة قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبان بن سعيد على سرية
من المدينة قبل نجد فقدم أبان وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر
بعد ما فتحنا وإن حزم خيلهم لليف فقال أبان: أقسم لنا يا رسول الله قال أبو
هريرة: لا تقسم لهم شيئا يا نبي الله فقال أبان: أنت بهذا يعني يا وبر نجد
قال صلى الله عليه وسلم: "اجلس يا أبان فلم يقسم لهم شيئا".
فيه أن السائل هو أبان وروى أن السائل كان أبا هريرة فإنه روى عنه قال قدمت
على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر بعد ما فتحوها فسألت رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن يسهم لي من الغنيمة فقال بعض بني سعيد ابن العاصي: لا
تسهم لهم يا رسول الله فقلت: يا رسول الله هذا قاتل ابن قوقل فقال ابن
سعيد: واعجبا لوبر تدلى علينا من قدوم ضان ينعى علي قتل رجل مسلم أكرمه
الله على يدي ولم يهنى على يديه.
(1/230)
قال سفيان: لا أدري أسهم أو لم يسهم له
فالله أعلم من السائل منهما وروى أن أبا هريرة قدم المدينة هو ونفر من قومه
وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر واستخلف على المدينة رجلا
من بني غفار يقال له سباع بن عرفطة قال: فأتيناه فزودنا على رسول الله صلى
الله عليه وسلم وقد افتتح خيبر فكلم المسلمين فأشركونا في سهامهم.
ففيه دليل على أن السائل في هذه القصة هو أبو هريرة وأبان بن سعيد وقد
اختلف العلماء في هذا المعنى من الفقه فطائفة منهم توجب لمن كانت حاله حال
أبي هريرة وأبان الدخول في الغنيمة المغنومة قبل قدومه لأن الإمام لا يأمن
من العدو ما دام في بلدهم فحاجته إلى المدد قائمة وهو قول أبي حنيفة
وأصحابه وطائفة منهم لا يشركونهم وهم الشافعي ومالك واختلف في ذلك عمار ابن
ياسر وعمر بن الخطاب فلو أمن الإمام عود العدو إليه ثم لحقه المدد فلاحق
لهم اتفاقا فيما غنموه قبل قدومهم ومنع رسول الله صلى الله عليه سلم أبان
وأبا هريرة من تلك الغنيمة يحتمل أن خيبر قبل قدومهما عليه صارت دار إسلام
استغنى عن المدد ويحتمل أن يكون لاختصاص خيبر بأهل الحديبية بقوله:
{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} يريد أهل
الحديبية {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} يعني خيبر وعن أبي هريرة ما شهدت لرسول
الله صلى الله عليه وسلم مغنما إلا قسم لي الأخير فإنها كانت لأهل الحديبية
خاصة وفي سؤال أبان أو أبي هريرة وهو فقيه صحابي وترك رسول الله صلى الله
عليه وسلم إنكار ذلك السؤال عليه دليل على أن ما سألاه ما كان محالا إذ لو
كان لبينه وما روى أنه أشرك أبا هريرة في تلك الغنيمة فكان بعد مسامحة أهل
الحديبية لأبي هريرة وإيثارهم له ذلك بإشارة الرسول صلى اله عليه وسلم كما
روى عن أبي موسى أنه قال قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح
خيبر بثلاث فقسم لنا وما قسم لأحد لم يشهد الفتح غيرنا وكان ذلك بمسامحتهم
أيضا وسماحتهم بعد مشاورته صلى الله عليه وسلم معهم على ذلك.
(1/231)
في ما للعبيد من
المغنم
عن عمير مولى أبي اللحم قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح
خيبر فقمت فقلت: يا رسول الله سهمي, قال: "خذ هذا السيف فتقلده" قال:
فتقلدته فخطت نعله في الأرض قال: فأمر لي من الخرنى وروى عنه في حديث آخر
قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر وعنده الغنائم وأنا عبد
مملوك فقلت: يا رسول الله أعطني, قال: "تقلد هذا السيف" فتقلدته فوقع
بالأرض فإعطاني من خرثى المتاع فعلمنا بذلك على أنه كان عبد أو أمره صلى
الله عليه وسلم بتقلد السيف ليعلم قدر غنائه في القتال ليعطى له ما يعطى
مثله دون أن يضرب له بسهم كالإحرار الذين ساوى الله بين قويهم وضعيفهم في
ذلك.
روى أن نجدة بن عامر كتب إلى ابن عباس يسئله عن المرأة والعبد إذا حضرا
البأس هل يسهم لهما فكتب إليه ابن عباس لم يكن يسهم لهما إلا أن يحذيا من
غنائم القوم وإنما أعطى صلى الله عليه وسلم عميرا بقتاله وإنما الذي يجب له
في ذلك لمن يملكه روى عنه قال: شهدت خيبر مع ساداتي فكلموا في رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأخروه أني مملوك فأمرني فتقلدت السيف فإذا أنا أجره
فأمر لي بشيء من خرثى المتاع.
(1/232)
في الغنائم والأسرى
روى عن ابن عباس قال: لما أسروا الأسارى في يوم بدر قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "يا أبا بكر ويا عمر ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ " قال أبو بكر:
يا نبي الله هم بنو العم والعشيرة أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على
الكفار فعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما ترى يا ابن الخطاب؟ " قال عمر: والله ما أرى الذي رأى أبو بكر يا نبي
الله ولكن أرى إن تمكنا منهم فنضرب أعناقهم وتمكن عليا من عقيل
(1/232)
فيضرب عنقه وتمكنى من فلان نسيب لعمر فأضرب
عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفار وصناديدها وقادتها فهوى رسول الله صلى الله
عليه وسلم ما قاله أبو بكر ولم يهو ما قلت: فلما كان الغد جئت إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم وهو وأبو بكر قاعدان يبكيان قلت: يا رسول الله
أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك, فإن وجدت بكاء بكيت ببكائكما فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "أبكي لذي عرض على من الفداء لقد عرض علي عذابكم
أدنى من هذه الشجرة" لشجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم فأنزل
الله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي
الْأَرْضِ} إلى قوله: {حَلالاً طَيِّباً} فأحل الله الغنيمة لهم.
وروى عن أبي هريرة قال لما كان يوم بدر تعجل ناس من المسلمين فأصابوا من
الغنائم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم تحل الغنائم لقوم سود
الرؤس قبلكم" كان النبي إذا غنم هو وأصحابه جمعوا غنائمهم فتنزل نار من
السماء فتأكلها فأنزل الله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ
لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ
حَلالاً طَيِّباً} هذا أشبه بالآية من حديث ابن عباس لأنه أثبت فيها أخذا
متقدما كان الوعيد عليه بقوله: {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ
عَظِيمٌ} وهو أخذهم ما أخذوا من الغنائم قبل أن تحل لهم وليس في حديث ابن
عباس أنهم أخذوا شيئا إنما فيه أن أبا بكر أشار على رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن يأخذ منهم الفداء لا غير فيه معنى يجب الوقوف عليه والحذر من
الله في التقدم لأمره لأن هذا الوعيد لما لحق أهل بدر وقيل فيهم "اعملوا ما
شئتم فقد غفرت لكم" كان لمن سواهم ممن هو دون رتبتهم ألحق واختلف في المراد
بالآية قال ابن عباس سبقت لهم من الله الرحمة قبل أن يعملوا بالمعصية وقال
الحسن سبق أن الله مطعم هذه الأمة الغنيمة ففعلوا الذي فعلوا قبل أن تحل
لهم الغنيمة وروى عنه قال: سبق من الله أنه كان مطعما هذه الأمة الغنائم
وأنهم أخذوا الفداء من القوم يوم بدر قبل أن يؤمروا بذلك فتاب الله عليهم
وعابه عليهم ثم أحله لهم وجعله غنيمة وروى عنه أنه قال: سبق من الله أن لا
يعذب قوما إلا بعد تقدمه
(1/233)
ولم يكن تقدم إليهم فيها وروى عنه قال سبق
من الله الغفران لأهل بدر وهذه التأويلات كلها محتملة للآية والله أعلم
بمراده فيها.
ومنه ما روى عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو
كان مطعم بن عدي حيا فكلمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له" يعني أسارى بدر
وكانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم يد إن الله تعالى خير النبي صلى
الله عليه وسلم بين أن يطلق منا منه ويأخذ الفداء ممن يفتدى به من القتل
الواجب عليه بقوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية
فلا وجه لإنكار من أنكر ذلك وقد من على غير أسارى بدر وهم سبى هو أزن لما
كلموه فيهم وخيرهم بين المال والسبي فاختاروا السبي فطلقهم لهم على ما روى
أنه قال صلى الله عليه وسلم: "أما بعد فإن أخوانكم هؤلاء قد جاؤا تائبين
وإني قد رأيت إن أرد إليهم سبيهم فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فعل ومن أحب
منكم أن يكون على حقه حتى نعطيه إياه من أول ما يفئ الله تعالى علينا
فليفعل" فقال الناس قد طيبنالك يا رسول الله ولهم فقال: "إنا لا ندري من
أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم" فرجع
الناس فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه
أنهم قد طيبوا وأذنوا.
إنما استأذن صلى الله عليه وسلم في سبى هوازن الناس وقال في أسارى بدر: "لو
أن مطعم بن عي كلمني فيهم لتركتهم" لأن في أسارى بدر ما كانوا ليملكوا وكان
السبيل فيهم أما القتل أو المن أو الفداء منهم فما كان حاجة إلى استئذان
أحد بخلاف سبي هوازن فإنهن قسمن وملكن فلا يجوز إخراجهن عن ملك الغزاة بغير
رضاهم يؤيده ما روى أن رسول الله صلى الله عله وسلم أعطى عمر بن الخطاب
جارية من سبى هوازن فوهبها لعبد الله ابنه فبعث بها إلى أخواله من بني جمح
ليصلحوا له منها حتى يطوف بالبيت وهو يريد أن يصيبها إذا ارجع إليها فخرج
من المسجد حين فرغ فإذا الناس يشتدون فقال:
(1/234)
ما شأنكم فقالوا: أرد علينا رسول الله صلى
الله عليه وسلم نساءنا وأبناءنا قال: قلت: تيكم صاحبتكم في نبي جمح فاذهبوا
فخذوها فذهبوا فأخذوها.
في إطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم السبى إلى قومهم بمجرد نقل العرفاء
أنهم أذنوا دليل لمن يقول يقبل إقرار الوكيل على موكله فيما وكله به عند
الحاكم لأن العرفاء مقام الوكلاء وهو أبو حنيفة ومحمد بن الحسن وهو احتجاج
صحيح خلافا لمن يقول لا يقبل إقرار الوكيل على موكله وينعزل به وهو زفر
وأبو يوسف وغيرهما وروى عن عطاء أنه كان يكره قتل الأسير صبرا ويتلو هذه
الآية {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ
أَوْزَارَهَا} وقال ابن خديج: فنسخها قوله تعالى: {فَخُذُوهُمْ
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} قال الطحاوي: دل قوله تعالى: {مَا
كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}
على أن القتل فيهم أولى من الأسر وقوله: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا
فِدَاءً} كان نزولها بعد إحلال الله تعالى لهم الغنائم ألا ترى إلى قوله:
{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} أي منافعها بالأسر الذي فعلتموه حتى تأخذوا
الفداء ممن أسرتموه ثم أتبع ذلك بقوله: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ
سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} والأخذ هو الأسر الذي يكون سببا
لذلك الأخذ ومما يدل على قتل الأسرى ما روى أن الضحاك بن قيس أراد أن
يستعمل مسروقا فقال له عمارة بن عقبة أتستعمل رجلا من بقايا قتلة عثمان
فقال له مسروق: حدثنا عبد الله بن مسعود أن أباك لما أتى به النبي صلى الله
عليه وسلم أمر بقتله فقال: من للصبية يا محمد؟ قال: "النار فقد رضيت لك ما
رضى لك رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وما روى عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خيلا قبل نجد
فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة فربطوه بسارية المسجد فخرج إليه
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما عندك يا ثمامة؟ " قال: عندي يا
محمد خير إن تقتل تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكرو إن ترد المال فسل
(1/235)
تعط منه ما شئت الحديث فعدم رد الرسول صلى
الله عليه وسلم قوله: إن تقتل تقتل ذا دم, دل على أن قتله كان جائزا له وإن
كان أسيرا وما روى عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام
الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه قيل له هذا ابن خطل متعلق بأستار الكعبة
فقال: "اقتلوه" وابن خطل حينئذ كان في حكم الأسير وما روى أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم آمن الناس يوم الفتح إلا أربعة نفر وامرأتين وقال: "اقتلوهم
وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة" فقتل منهم عبد الله بن خطل ومقيس بن
صبابة وركب عكرمة بن أبي جهل البحر فأصابتهم ريح عاصف فعاهد الله ليأتين
رسول الله صلى الله أن نجا فنجا وأسلم وأما عبد الله بن أبي سرح فإنه اختبى
عند عثمان بن عفان فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس للبيعة جاء
به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله بايع عبد
الله فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يأبى أن يبايعه فبايعه بعد ثلاث ثم
أقبل على أصحابه فقال: "أما كان فيكم رجل يقوم إلى هذا حين كففت يدي عن
بيعته فيقتله" قالوا: ما درينا يا رسول الله ما في نفسك فهلا أومأت إلينا
بعينك؟ فقال: "إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الأعين"
أفلا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك وعبد الله أسيره إذ ذاك
ومثل ذلك حديث أنس في الذي كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعته ليفي
بنذره الذي كان نذر أن يقتله لما رأى شدته على المسلمين ويدل عليه أيضا
قوله صلى الله عليه وسلم لابن النواحة وصاحبه الوافدين عليه من عند مسيلمة
إذ قال لهما: "أتشهدان أني رسول الل هـ1" فقالا له: أتشهد أنت أن مسيلمة
رسول الله؟ "لو كنت قاتلا وفدا لقتلتكما" وكانا كالأسيرين ففيما ذكرنا ما
دل على إباحة قتل الأسرى.
وما روى عن عبد الله بن مغفل قال: أصبت جرابا من شحم يوم خيبر
__________
1 كذا لعله سقط.
(1/236)
فألتزمته فقلت: لا أعطي أحدا اليوم من هذا
شيئا فألتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم.
قد عارضه بعض بما روى عبد الله بن شقيق عن رجل من بلقين قال: أتيت النبي
صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى فقلت: يا رسول الله لمن المغنم؟ قال:
"لله عز وجل سهم ولهؤلاء أربعة أسهم", قلت: فهل أحد أحق بشيء من المغنم من
أحد؟ قال: "لا حتى السهم يأخذه أحدكم من جنبه فليس بأحق به من أخيه" وهذا
جهل من معارضه لأنه حديث لا يحتج بمثله لأن روايته تعود لى مجهول ولأن عبد
الله بن مغفل إنما أخذ من طعام كان محتاجا إليه وقد كانت الصحابة في
المغازي يصيبون العنب والعسل والطعام وتينا ولونه من غير أن يرفعوا منه
شيئا فإذا كان واسعا لهم أخذ ما تقدمت غنيمة المسلمين إياه حتى يستأثرون به
لحاجتهم دون من ليس له حاجة به إليه كان ما كان منابن مغفل مما لم ينكره
رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخذه بيده وقوله بلسانه أوسع بخلاف حديث
البلقيني فإنه لا حاجة بالمرمى إليه حتى لو احتاج أن يرمى به من رماه أو
سواه من عدوه يحبسه لذلك فبان أن لا تضاد بينهما.
ومنه ما روى عن عائشة قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت
رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء زوجها أبي العاصي بقلادة لها كانت
خديجة أدخلتها بها على أبي العاصي حين بنى عليها فلما رأى رسول الله صلى
الله عليه وسلم القلادة رق لها رقة شديدة حتى دمعت عيناه وقال: "إن رأيتم
أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها فافعلوا" فقالوا: يا رسول الله
بآبائنا أنت وأمهاتنا فأطلقوه وردوا عليها الذي لها.
لا يقال: كان المن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لا إليهم حتى قال في
مطعم "لو كلمني فيهم لأطلقتهم له" فأي حاجة كانت في مشاورتهم لأن قوله في
مطعم كان في الوقت الذي كان له قتلهم فكان إليه المن عليهم وقوله: في
القلادة كان بعد ان حقنن فداؤهم دماءهم وعاد الفداء في حكم الغنيمة
المشتركة فلم يصلح منها أن يطلق إلا ما طابت به أنفسهم.
(1/237)
في الغلول
روى أن مسلمة بن عبد الملك دخل أرض الروم فغل رجل فبعث مسلمة إلى سالم بن
عبد الله فقال: حدثني أبي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"من أخذتموه قد غل فاضربوا عنقه وأحرقوا متاعه" فكان في متاعه أراه قال:
مصحفا فسأل سالما فقال: بيعوه وتصدقوا بثمنه.
وفي رواية حدثني أبي عن عمر فاضربوه مكان فاضربوا عنقه والأولى أصح وأكثر
ضرب عنق الغال وحرق رحله لم يسمع في غير هذا الحديث ولا قال به من الفقهاء
غير مكحول فإنه قال يحرق متاعه وكتاب الله يخالف ذلك قال الله تعالى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا
كَسَبَا} فإذا لم يكن في سرقة مال ليس للسارق فيه شركة سوى قطع يد لا جزاء
له غير ذلك فأجرى أن لا يجب عليه في غلول مال له فيه حظ إحراق رحله وأما
انتفاء القتل فبقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى
ثلاث" الحديث ولم يثبت بالحجة أن الحكم في الغال كان من النبي صلى الله
عليه وسلم بعدما في هذا الحديث المقبول فيلحقه بها واحتمل أن يكون قبله
فيكون هذا الأثر ناسخا له فوجب أن يكون الحظر على حاله حتى تقوم الحجة
بإطلاق شيء مما في ذلك الحظر فيطلقه.
(1/238)
في السلب
روى عن سلمة بن الأكوع قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن
فبينما نحن نتضحى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على جمل أحمر
فأناخه ثم انتزع طلقا من حقبه فقيد به الجمل ثم تقدم فتغدى مع الناس وجعل
ينظر إليه1 وفينا ضعفة ورقة في الظهر وبعضنا مشاة فخرج مشتدا
__________
1 كذا في الأصل والظاهر ينظر إلينا.
(1/238)
فأتى جمله فأطلق قيده ثم أناخه فقعد عليه
فأثاره واشتد به الجمل وأتبعه رجل على ناقة ورقاء فرأس الناقة عند ورك
الجمل قال سلمة: وخرجت أشتد حتى كنت عند ورك الجمل ثم تقدمت حتى أخذت بخطام
الجمل فأنخته فلما وضع ركبتيه في الأرض اخترطت سيفي فضربت رأس الرجل فندر
فجئت بالجمل أقوده وعليه رحله وسلاحه فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه
وسلم والناس معه فقال: "من قتل الرجل؟ " قالوا: ابن الأكوع قال: "له سلبه
أجمع".
وفي رواية أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عين من المشركين وهو في سفر
فجلس فتحدث عند أصحابه ثم انسل فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "اطلبوه
فاقتلوه" فسبقتهم إليه فقتلته وأخذت سلبه فنفلنيإياه فيه غشارة إلى أن من
دخل من العدو في دار الإسلام بغير أمان فقتله أحد أو أسره يكون سلبه له دون
الذين كانوا معه ولم يقتلوه ولم يأسروه وهو مذهب أبي يوسف ومحمد قالا مرة
لا خمس فيه وقالا مرة فيه الخمس خلافا لأبي حنيفة فإن سلبه لجميع المسلمين
لأنه مغنوم بقوة دار الإسلام والحجة لهما ما قد ثبت عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم في الركاز الموجود في أرض الأسلام أنه لواجده خاصة غير الخمس فيه
فإنه لأهله وذلك لأن الواجد هو الغانم له فاستحقه على الخصوص بعد الخمس وقد
يحتمل حديث سلمة أن يكون كذلك فيه الخمس لأهله ولكن تركه رسول اله صلى الله
عليه وسلم لسلمة لانه من أهله كما قال عمر بن الخطاب لأبي طجلحة في سلب
الرابء بم مالك لما قتل مرز بان إنا كنا لا نخمس الإسلاب وإن سلب البراء قد
بلغ مالا عظيما ولا أرانا إلا خامسه قال: فخمسه.
وقول سلمة في الحديث فنفلني إياه إخبار من سلمة لا يصح أن يكون معارضا
لقوله صلى الله عليه وسلم: "له سلبه أجمع" لأن ذلك يوجب أن يكون له
باستحقاقه إياه بقتله دون أن ينفله إياه.
ومنه ما روى عن أبي قتادة بن ربعى أنه قال: خرجنا مع رسول الله
(1/239)
صلى الله عليه وسلم عام حنين فلما التقينا
كانت للمسلمين جولة قال: فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين
فاستدرت له حتى أتيته من ورائه فضربته بالسيف على حبل عاتقه ضربة قطعت بها
الدرع فأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ثم أدركه الموت فأرسلني
فلقيت عمر بن الخطاب فقلت: ما بال الناس؟ فقال: أمر الله ثم أن الناس رجعوا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلا له عليه وبينة فله سلبه"
فقمت فقلت: من يشهد لي ثم جلست, ثم قال: ذلك الثانية ثم قال: ذلك الثالثة
فقمت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مالك يا أبا قتادة؟ " فاقتصصت
عليه القصة فقال: رجل من القوم صدق يا رسول الله وسلب ذلك القتيل عندي
فأرضه منه يا رسول الله فقال أبو بكر: لا ها الله إذا لا يعمد إلى أسد من
أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "صدق فأعطه إياه" قال أبو قتادة: فأعطانيه فبعت الدرع فابتعت به
مخرفا في بني سلمة فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام قيل فيه أن القاتل
يستحق السلب قال الإمام ذلك أو لم يقل لأن قوله صلى اله عليه وسلم يدل على
قتل متقدم لذلك القول ولا دليل فيه إذ قد يجوز أن يكون قال صلى الله عليه
وسلم يدل على قتل متقدم لذلك القول ولا دليل فيه إذ قد يجوز أن يكون قال
صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلا فله سلبه" قبل ذلك القتل فكان ما قاله
في هذا الحديث ليعلم من القاتلون فيدفع إليهم إسلاب قتلاهم وروى عن أنس ما
يدل على ذلك قال لما كان يوم حنين جاءت هوازن تكر على رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالإبل والغنم والنساء والصبيان فانهزم المسلمون يومئذ فجعل رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول يا معشر المهاجرين أنا عبد الله ورسوله يا
معشر الأنصار أنا عبد الله ورسوله فهزم الله المشركين من غير أن يطعن برمح
أو يضرب بسيف وقال رسول الله صلى اله عليه وسلم يومئذ "من قتل مشركا فله
سلبه" فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين فأخذ إسلابهم وقال أبو قتادة: يا رسول
الله إني ضربت رجلا على حبل العاتق فاجهضت عنه وعليه درع فانظر من أخذ
الدرع فقام رجل فقال: يا رسول الله إني أخذتها فأعطينها وأرضه منها وكان
رسول الله صلى الله
(1/240)
عليه وسلم لا يسئل إلا أعطاه أو يسكت فقام
عمر بن الخطاب فقال ولا والله لا يفيئها الله عز وجل على أسد من أسد الله
ثم يعطيكها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق عمر" فدل هذا الحديث
إن هذا القول من رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان منه عند انهزام
الناس عنه وتفرقهم وعند حاجته إلى رجوعهم إليه فكان ذلك تحريضا لهم على
القتال وعلى الرجوع غليه فدل ذلك إن قوله الثاني الذي كان في حديث أبي
قتادة إنما كان لقوله الأول الذي كان في حديث نس وفي ذلك ما قد دل على أن
من قتل قتيلا في الحرب لا يستحق سلبه إذا لم يكن قال الإمام قبل ذلك من قتل
قتيلا فله سلبه كما يقوله أبو حنيفة وأصحابه ومالك وأصحابه لا كما يقول من
خالفهم فيه وفي قول لمالك لا يجوز أن ينفل الإمام القاتل بالسلب إلا من
الخمس.
ومنه ما روى عن جبير بن نفير عن عوف أن مدديا وافقهم في غزوة موته وإن
روميا كان يشد على المسلمين فتلطف له المددى فقعد له تحت صخرة فلما مربه
عرقب فرس وخر الرومي لقفاه وعلاه بالسيف فقتله فأقبل بفرسه بسرجه ولجامه
وسيفه ومنطقته وسلاحه مذهب بالذهب والجوهر إلى خالد بن الوليد فأخذ خالد
طائفة ونفله بقيته فقلت: يا خالد ما هذا أما تعلم أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم سلب القاتل السلب كله؟ قال: بلى ولكني استكثرته فقلت: إيم الله
لأعرفنكها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدمنا على رسول الله صلى
الله عليه وسلم أخبرته خبره فدعاه وأمره أن يدفع إلى المددى بقية سلبه فولى
خالد ليفعل فقلت: كيف رأيت يا خالد أو لم أوف لك بما وعدتك فغضب رسول الله
صلى الله عليه وسلم وقال يا خالد لا تعطه واقبل على فقال: "هل أنتم تاركون
امرائي لكم صفوة أمرهم وعليهم كدره" عوف هذا هو عوف بن مالك بن أبي عوف
الأجشعي أول مشاهده خيبر مات سنة ثلاث وسبعين في خلافة عبد الملك بن مروان
ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسامح القاتلين بالأسلاب من
غير أن تجب لهم يدل عليه ما روى أن البراء بن مالك أخا أنس
(1/241)
ابن مالك بارز مرزبان الزأرة فطعنه طعنة
فكسر القربوس وخلصت إليه فقتله فقوم سلبه ثلاثين ألفا فلما صلينا الغداة
غدا علينا عمر فقال لأبي طلحة: إنا كنا لا نخمس الأسلاب وإن صلب البراء قد
بلغ ما لا ولا أرانا إلا خامسيه فقومناه ثلاثين ألفا فدفعنا إليه ستة آلاف
وهذا مع حضور عمرو أبي طلحة وأنس ابن مالك ما كان من رسول الله صلى الله
عليه وسلم يوم حنين من قوله: "من قتل قتيلا فله سلبه".
وفي ذلك ما ينفي أن يكون فيه خمس وقد طلب عمر الخمس من سلب البراء فدل أنهم
كانوا يتركون أخماس الأسلاب مسامحة لا وجوبا عليهم تركها إذا كان كذلك في
أخماس الأسلاب كان كذلك في بقيتها فإنما أمضى خالد ما كان له أن يسمح به
ومنع ما كان له أن يمنعه وأمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قول عوف
وبعده ما أمضى لما قد كان له أن يمضيه عليه وفي ما دل على أن إسلاب القتلى
لا تستحق إلا بقول متقدم من الإمام من قتل قتيلا فله سلبه فذلك الذي لا
يجوز أن يمنع منه بحال.
قال الطحاوي: وقال محمد بن الحسن لو أن عسكرا من المسلمين دخل أرض الحرب
وعليهم أمير فقال الأمير من قتل قتيلا فله سلبه فضرب رجل من المسلمين رجلا
من المشركين فصرعه واحتز آخر رأسه فالسلف للذي صرعه وإن كان لم يقتله وإن
كان صرعه وضربه ضربا يقدر على التحامل معه فالسلب للذي احتز رأسه قال:
وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: "من قتل قتيلا فله سلبه"
فضرب ابن عفراء أبا جهل فأثخنه وقتله ابن مسعود فجعل النبي صلى الله عليه
وسلم سلبه لابن مسعود وكذلك إن كان الذي صرعه ضربه ضربا لا يعاش من مثله
ويعلم أن آخره إلى الموت إلا أنه ربما عاش اليوم واليومين والثلاثة أو أكثر
إلا أن آخر احتز رأسه فالسلب للذي احتز رأسه وإن كان الأول ضربه فنثر ما في
بطنه فألقاه أو قطع أو داجه إلا أن فيه شيئا من الروح ثم إن الآخر احتز
رأسه فالسلف للذي صرعه لأن هذا إنما بقى منه مثل الذي
(1/242)
يكون من الحركة عند الموت فالفقه ما قاله
محمد ولكنه وهم في أمر أبي جهل فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلم
منه أنه قال من قتل قتيلا فله سلبه إلا يوم حنين فقط وإنما كانتالأمور تجري
في الإسلاب على ما قد ذكرنا ولا يحتج لمحمد بن الحسن بما روى عن عبد الله
أن النبي صلى الله عليه وسلم نفله يوم بدر سيف أبي جهل لأن الحدة عليه لا
له لأنه لو كان صلى الله عليه وسلم قد قال قولا يوجب السلب للقاتل لدفع سلب
أبي جهل كله إلى قاتله.
ة وقد روى عن عبد الرحمن بن عوف قال: إني لقائم يوم بر بين غلامين حد يثة
سنانهما تمنيت لو أني بين اضلع منهما فغمزني أحدهما وقال: يا عم أتعرف أبا
جهل؟ فقلت: وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى
الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت
الاعجل منا, فعجبت لذلك وغمزني الآخر فقال مثلها فلم انشب أن نظرت إلى أبي
جهل يرفل في الناس فقلت: ألا تريان صاحبكما الذي تسألاه عنه فاتدراه فضرباه
بسيفيهما حتى قتلاه ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه فقال:
"أيكما قتله؟ " قال كل واحد منهما: أنا قتلته, فقال: "أمسحتما سيفيكما؟ "
قالا: لا فنظر في السفين فقال: "كلاكما قتله" وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن
الجموح والرجلان معاذ بن عمر بن الجموح وماذبن عفراء ففي قضاء رسول الله
صلى الله عليه وسلم بسلبه لأحد الرجلين اللذين أخبرا أنهما قتلاه جميعا بعد
أن نفل منه بعضه لعبد الله بن مسعود دليل على أنه لم يتقدم منه القول بأن
السلب للقاتل كما قال محمد مما وهم فيه وإن السلب إلى ما يراه الإمام وإن
ذلك كان مما يسمح به للقاتل في الأغلب من غير وجوب والله أعلم.
(1/243)
في حكم من خرج إلينا
من عبيدهم
روى عن ابن عباس قال: كان من خرج من عبيد الطائف إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم يوم الطائف اعتقه فكان منهم أبو بكرة فهو مولى رسول الله صلى
الله عليه وسلم يوم الطائف فكان ممن أعتق يومئذ أبو بكرة
(1/243)
وغيره فكانوا موالي رسول الله صلى الله
عليه وسلم يعنى اعتقه بخروجه إليهم لا باستئناف إعتاقهم بعد خروجهم إليه
وليس المراد بقوله: فهو مولى رسول الله, الولاء الذي موجبه الاعتاق بل
المراد به الولاء الذي موجبه الولاية التي منها "من كنت مولاه فعلي مولاه"
ألا ترى إلى اتباعه بقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم وال من والاه وعاد من
عاداه" يؤيد ما ذكرنا ما روى العشبي عن رجل من ثقيف قال: سألنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم أني رد إلينا أبا بكرة فأبى وقال: "هو طليق الله وطليق
رسوله" وكان أبو بكرة خرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين حاصر الطائف.
ولأن الأصل المتفق عليه أن من خرج من عبيدهم إلى المسلمين مسلما مراغما
لمولاه كان حرا لخروجه غانما لنفسه لا ولاء لأحد عليه وقد كان خروج أبي
بكرة مسلما بدليل ما روى عن أبي عثمان النهدي قال سمعت سعد بن مالك وأبا
بكرة يقولان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ادعى إلى غير أبيه وهو
يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام" قال: فقلت له: لقد حدثك رجلان وأي
رجلين فقال: وما يمنعهما من ذلك أما أحدهما فأول رجل رمى بسهم في سبيل الله
وأما الآخر فأول رجل نزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلولا أنه خرج
مسلما لما كان محمودا على ذلك وإن من خرج إلينا من عبيدهم على كفره عاد
غنيمة لكلنا باحر ازديارنا إياه كما قال أبو حنيفة أو لمن سبقت يده منا كما
قالا من غير تخميس أو بعد إخراج الخمس في رواية عنهما وكان أبو بكرة لحقه
الرق لما كان في الجاهلية من استرقاق أولاد إمائهم منهم ومن غيرهم.
(1/244)
في نقل راس الكافر
ورى عن علي بن أبي طالب قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم برأس مرحب
وروى عن البراء قال: قال لقيت خالي معه الراية فقلت: أين تذهب؟ فقال:
أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة
(1/244)
أبيه من بعد أبيه أن آتيه برأسه.
وعن عبد الله الديلمي عن أبيه قال أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم برأس
الأسود العنسي الكذاب فقلت: يا رسول الله قد عرفت من نحن فإلى من نحن, قال:
"إلى الله عز وجل وإلى رسوله", وكان إتيانهم به من اليمن ليقف صلى الله
عليه وسلم على نصر الله وعلى كفايته المسلمين شأنه.
وفيه إجازة نقل الرؤوس نكالا من بلد إلى بلد ليقف الناس على النكال الذي
نزل بهم ومن هذا الجنس قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وقوله في آية المحاربين: {يُقَتَّلُوا أَوْ
يُصَلَّبُوا} ليشتهر في الناس أمرهم وإنكار أبي بكر على عمرو بن العاص
وشرحبيل بن حسنة حين بعثا رأسا إليه اجتهاد منه لما ظهر إليه من الاستغناء
عنه ألا ترى أن أمراء الأجناد منهم يزيد بن أبي سفيان وعقبة بن عامر بحضرة
من كان معهم لم ينكروا ذلك لما رأوا فيه من إعزاز دين الله وغلبة هله
الكفار فالمرجع في مثله إلى أراء الأئمة يفعلون من ذلك ما يرونه صوابا
مناسبا لوقتهم ويتركونه إذا استغنوا عنه وقد أتى عبد الله بن الزبير برأس
المختار فلم ينكر ذلك روى أن البريد لما وضعه بين يديه قال: ما حدثني كعب
بحديث إلا وجدته كما حدثني إلا هذا فإنه حدثني أنه يقتلني رجل من ثقيف وها
هو قد قتلته قال الأعمش ولا يعلم أن أبا محمد يعني الحجاج مرصد له بالطريق.
(1/245)
في قتل كعب بن
الأشرف
بعث رسول الله صل الله عليه وسلم محمد بن مسلمة لقتل كعب بن الأشرف وأذن له
أن يقول ما شاء وأنه لما ناداه فخرج إليه وريح الطيب تنضخ استأذنه أن يشم
رأسه فأذن له فوضع يده على رأسه فشمه ثم استعاده ذلك فأذن له فأعاد فلما
استمكن من رأسه قال دونكم لثلاثة نفرا وأربعة كانوا معه فضربوه حتى قتلوه.
(1/245)
لا يقال فيه ختر بالأمان وإنه منهى عنه على
ما روى السدى عن رفاعة قال: دخلت على المختار فإذا وسادتان مطروحتان فقال:
يا جارية هلمي لفلان وسادة فقلت: ما بال هاتين؟ فقال: قام عن أحداهما جبريل
وعن الأخرى ميكائيل فما منعني أن أقتله إلا حديث عمرو بن الحمق قلت: وما
حدثك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أمنه رجل على نفسه
فقتله فأنا منه برئ وإن كان المقتول كافرا".
وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أمنه رجل على نفسه فقتله أعطى
لواء غدر يوم القيامة" لأنا نقول معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "من آمن
رجلا 1 على نفسه" إنما هو فيمن هو آمن أما بالإسلام وأما بدمه وأما بأمان
بإعطاء المسلمين إياه ذلك حتى صار به آمنا على نفسه وصار دمه حراما وكان ما
كان من ائتمان كعب محمد بن مسلمة على نفسه كلا ائتمان وأنه كان بعده في حل
دمه كما كان قبله.
__________
1 كذا.
(1/246)
في كتابه صلى الله
عليه وسلم لأهل أيلة ببحرهم
روى عن أبي حميد قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام تبوك حتى إذا
جئنا وادي القرى جاء ملك أيلة فأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة
بيضاء فكساه رسول الله صلى الله عليه وسلم بردا وكتب له رسول الله صلى الله
عليه وسلم ببحرهم يحتمل أن يكون المراد ببحر إيلة هو السعة التي يدخل فيها
عن الماء وما سواه كذلك يقول أهل اللغة: في البحر سميت بحرا لسعتها
وانبساطها ومنه استبحر فلان في العلم إذا اتسع فيه واستبحر المكان إذا دخل
فيه الماء وانبسط عليه وبحرت الناقة إذا اشققت أذنها طولا ومنه البحيرة
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في فرس أبي طلحة: "إنه بحر وإنا وجدناه
بحرا".
وكان كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما روى عن عروة
(1/246)
ابن الزبير: "بسم الله الرحمن الرحيم وهذه
أمنة من الله عز وجل ومحمد النبي صلى الله عليه وسلم لمنجية بن روبة وأهل
أيلة لسيارتهم ولبحرهم ولبرهم ذمة الله عز وجل وذمة محمد النبي صلى الله
عليه وسلم ولمن كان معهم من كل مار من الناس من أهل الشام واليمن وأهل
البحر فمن أحدث حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه وإنه طيب لمن أخذه من
الناس ولا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يريدونها مؤبدا" ونحو هذا
كتاب جهيم بن الصلت والمعنى فيه هو أن أهل اليمن والشام على كفرهم كانوا
وحكمهم أن يغنموا لدخولهم بلا أمان في بلادنا فجعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم بما كتب لهم آمنين على أنفسهم وأموالهم إذا دخلوا تلك المواضع وكان لم
في ذلك أعظم المنافع لأنهم يميرونهم ويحملون إليهم الأطعمة التي يعيشون بها
وغير ذلك مما ينتفع بها لا سيما وايلة لا زرع فيها فيحتمل أن يكونوا يعشرون
كتجار أهل الحرب إذا دخلوا دارنا بأمان ويحتمل أن يكون ذلك مما رفعه رسول
الله صلى الله عليه وسلم ليرغبوا بذلك في الحمل إلى ذلك المكان كما خفف عمر
بن الخطاب عمن كان يقدم المدينة من ناحية الشام بالتجارات فردهم إلى نصف
العشر وما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يوجب ذلك مذكور في
موضعه.
(1/247)
في عطاء المحررين
روى عن عبد الله بن عمر قال: لمعاوية أمسكت عطاء المحررين ولم أر رسول الله
صلى اله عليه وسلم بدأ بشيء أول منهم حين وجد وقال له لما قدم المدينة عام
حج: ابدأ بالمحررين فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم قسما فبدأ
بهم فبدأ معاوية فأعطى المحررين قبل الناس وأحسن ما قيل فيه أن المحررين
وهم المعتقون كانوا أعداء المسلمين يقاتلونهم وكان المسلمون في قتالهم
إياهم مع عداوتهم محسنين إليهم إذ هو سبب لدخولهم الجنة وإليه
(1/247)
يشير قوله صلى الله عليه وسلم جوابا للذي
سأله عن ضحكه الذي كان منه فقال: "رأيت قوما يجرون إلى الجنة في السلاسل
بخلاف الكفار فإنهم يسيئون إلى من يأسرون من المسلمين" ثم للمسلمين إحسان
آخر إليهم باعتقاهم بعد الإسلام وإلحاقهم بالأحرار ابتغاء مرضاة الله تعالى
فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتصل الإحسان إليهم فلا يفارقهم ما
كانوا في الدنيا والله أعلم.
(1/248)
في كسرى وقيصر
روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا
هلك قيصر فلا قيصر بعده والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله
تعالى" حكى عن الشافعي أن قريشا كانت تتجر بالشام والعراق كثيرا فلما دخلت
في الإسلام خافت من انقطاع معاشهم من الشام والعراق لمعاداة ملكيهما لأهل
الإسلام فقال صلى الله لعيه وسلم: "إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده" فلم يكن
بأرض العراق كسرى ثبت له أمر بعده وكذا لم يكن بأرض الشام قيصر عن الشام
وثبت لقيصر ملك ببلاد الروم وقيل أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا
هلك" أي سيهلك ولا يكون بعده كسرى إلى يوم القيامة وكذا إذا هلك قيصر لكنه
لم يهلك إلى الآن ولكنه هالك قبل يوم القيامة واختلاف هلاكيهما تعجيلا
وتأخيرا لاختلاف ما كان منهما عند ورود كتاب رسول الله صلى اله عليه وسلم
عليهما وذلك لأن كسرى مزقه فدعا صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق
وقيصر لما قرأ كتابه وسأل أبا سفيان عما سأله عنه قال إن يكن ما قلت حقا
فيوشك أن يملك موضع قدمي هاتين ولو أرجو أن أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت
عنده لغسلت قدميه الحديث وهذا أشبه لان قيصر لم يهلك وإنما تحول من الشام
إلى الروم يحققه قوله: "لتنفقن كنوزهما"
(1/248)
في سبيل الله" وقد أنفق كنز كسرى ولم ينفق
كنز قيصر في مثله إلى الآن وسينفق على ما روى جابر بن سمرة عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال: "ستغزون جزيرة العرب وتفتح عليكم وتغزون فالرسا
فتفتح عليكم وتغزون الروم فتفتح عليكم ثم الدجال" قال جابر: ولا يخرج
الدجال حتى تفتح الروم فأخبر أن فتح الروم المقترن بفتح كسرى لم يكن وأنه
كائن البتة وإذا يكون كفتح كسرى الذي قد كان وقد روى معاذ عن النبي صلى
الله عليه وسلم أن عمران بيت المقدس خراب يثرب وخراب يثرب خروج الملحمة
وخروج الملحمة فتح القسطنطينية وفتح القسطنطينية خروج الدجال ثم ضرب على
فخذي أو فخذ الذي بجنبه أو منكبه ثم قال أما أنه لحق كما أنك هاهنا ففيه أن
هلاك قيصر إذا هلك لا يكون بعده قيصر إلى يوم القيامة كما لا يكون بعد كسرى
إلى يوم القيامة وتخلو الأرض من كل منهما وتصرف كنوزهما إلى ما أخبر صلى
الله عليه وسلم أنها منفقة فيه.
في المسابقة
روى عن عائشة أنها قالت سابقت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته فلما
حملت اللحم سابقته فسبقني فقال: "هذه بتلك" وفيما روى عنها أنها قالت خرجت
مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر الآخرة حتى إذا كنا بالأثيل
انصرفت لبعض حاجتي فنكبت عن الطريق فبينما أنا كذلك إذا راكب يضرب فإذا
رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرغت من حاجتي ثم جئت فقال: "أسابقك فأرمي
بدرعي خلف ظهري ثم أجعل طرفه في حجري ثم خططت خطا برجلي ثم قلت: تعال فقم
على هذا الخط" فنظر في وجهي وكأنه عجب فقمنا على ذلك الخط قالت: فقلت: اذهب
قال: اذهبي فخرجنا فسبقني وخرج بين يدي فقال: "هذه بيوم ذي المجاز" فتذكرت
ما يوم ذي المجاز فذكرت أنه جاء وأنا جارية وكان في يدي شيء فسألنيه فمنعته
فذهب يتعاطاه ففررت فخرج في أثري فسبقته ودخلنا البيت, وفيما روى عن سلمة
بن الأكوع أنه قال: قدمنا من
(1/249)
الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأردفني راجعين إلى المدينة على ناقته العضباء فلما كان بيننا وبين المدينة
وكرة وفينا رجل من الأنصار لا يسبق عدوا فقال: هل من مسابق إلى المدينة؟
قالها مرارا وأنا سكات فقلت: ما تكرم كريما ولا تهاب شريفا قال: لا إلا أن
يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله ائذن لي فلأسابقنه
فقال: "إن شئت فعلت" فقلت: اذهب إليك فخرج يشتد وانطفق1 عن الناقة ثم أعدو
فربطت على شرفا أو شرفين فسألته ما ربطت قال استبقيت نفسي ثم أني عدوت حتى
ألحقه فأصك بين كتفيه وقل: ت سبقتك والله قال: فنظر إلي فضحك.
ففي هذه الآثار إباحة السبق على الإقدام وبه كان يقول محمد بن الحسن خلافا
لمن قال أنه لا مسابقة إلا في خف أو حافر احتجاجا بما روى عن النبي صلى
الله عليه وسلم من قوله: "لا سبق إلا في خف أو حافر" ذهب آخرون إلى خلاف
ذلك أيضا فقالوا: "لا سبق إلا في نصل أو حافرا وخف".
فهذه أقوال ثلاثة احتج قائلوها بروايات تدل على مدعاهم ولأهل المقالة
الأولى عليهم أن ذلك إنما يكون كذلك لو وقفنا على أن ما في الآثار التي
احتجوا بها مما ينفي السبق على الأقدام كان بعد ما روته عائشة في ذلك ولكن
يحتمل أن مروى عائشة كان بعدها فيكون مبيحا للسبق على الأقدام ناسخا لحظره
السابق ولا ينبغي رفع ما ثبت يقينا وهو إباحة السبق بالإقدام إلا بيقين
مثله وليس فليس.
وفيما روى عنه صلى الله عليه والله وسلم: "لا جلب ولا جنب" المراد بالنهي
عن هذين المعنيين هو في السبق بما يجوز السبق بمثله سئل مالك هل سمعت أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا جلب ولا جنب" وما تفسيرهما فقال: لم
يبلغني ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وتفسيره أن يجلب وراء الفرس حين
يدبر ويحرك وراءه الشيء يستحث به فيسبق فذلك الجلب والجنب أن يجنب مع الفرس
الذي يسابق به فرس آخر حتى إذا أدنى من الغاية تحول صاحبه على الفرس
__________
1 كذا لعله "وأطفره".
(1/250)
المجنوبة. وروى عن الليث قال في تفسير لا
جلب أن يجلب وراء الفرس في السباق والجنب أن يكون إلى جنبه تخفيف به للسباق
ولا يعلم في ذلك قول غير هذين القولين فالواجب في ذلك استعمال التأويلين
حتى يحيط مستعملهما علما أنه لم يدخل فيما نهاه عنه رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
وفيما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة أنه قال: "من
أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يؤمن أن يسبق فلا بأس ومن أدخل فرسا بين فرسين
وهو يؤمن أن يسبق فذلكم القمار" يعني أن الرجلين إذا سابقا بفرسين يدخلان
بينهما دخيلا بجعل فالعرب تسمى الدخيل محللا فيضع الأولان رهنين ولا يضع
المحلل شيئا ويرسلون الأفراس الثلاثة فإن سبق أحد الأولين أخذ رهن صاحبه
فكان طيبا له مع رهنه وإن سبق المحلل ولم يسبق واحد من الأولين أخذ الرهنين
وكانا له طيبين وإن سبق هو لم يكن عليه للاولين شيء ولا خلاف أن المراد
بقوله: "وهو يؤمن أن يسبق أنه المبطئ من الخيل الذي يؤمن منه أن يسبق" قال
الطحاوي وجعل الدخيل في هذا في حكم المتسابقين أنفسهما بلا دخيل بينهما
برهن يجعله أحدهما أن سبق الذي هو من عنده سلم له ولم يكن له على المسبوق
شيء وإن سبق الذي ليس هو له أخذ ذلك الرهن فكان طيبا حلالا له وإن كان
الرهان وقع بينهما على أنه لمن سبق غرم شيئا لصاحبه سميا ذلك الشيء كان ذلك
قمارا ولم يحل فيسلك بالمحلل الدخيل بينهما هذا المعنى إن سبق أخذ الرهنين
جميعا وإن سبق لم يكن عليه شيء لصاحبيه ولا لواحد منهما.
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد لا نعلمه روى عنه في الرهان
غيره روى عن أبي لبيد أرسلت الخيل زمن الحجاج والحكم ابن أيوب أمير على
البصرة قال: فلما انصرفنا من الرهان قلنا: لو ملنا إلى أنس ابن مالك
فسألناه هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراهن على الخيل؟ قال: فسئل
أنس عن ذلك فقال: نعم, والله لقد راهن على فرس يقال له: سبحة فسبقت الناس
فبهش لذلك وأعجبه.
(1/251)
فأما السبق بغير ذكر رهان كان فيه فقد رويت
فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم آثار صحاح منها حديث عبد الله بن عمر
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي قد أضمرت من الحفياء
وكان أمدها ثنية الوداع وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسدد
بني زريق وإن عبد الله ابن عمر فيمن سابق بها.
وروى عن أنس أنه قال: كافت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم العضباء لا تسبق
فجاء أعرابي على قعود له فسابقها فسبقها فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حقيق على الله عز وجل
أن لا يرتفع شيء من الدنيا الأوضعة".
(1/252)
في الجزية
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: "ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم
حكما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية". وفي رواية: "ولتذهبن
الشحناء والتباغض وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد وليتركن القلائص فلا
يسعى عليها" يعني يعود الناس كلهم أغنياء ولا يوجد للزكاة أهل توضع فيه
فيسقط فرضها لعدم محلها وكذلك الجزية إذا لم يوجد ما تصرف فيه من قتال أو
مما سواه سقط فرضها.
وروى أن رجلا قام فقال: يا عجبا لعلي يأخذ الجزية من المحبوس وقد أمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم بالقتال وأن لا يؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب
فأخذه المستورد التميمي وذهب به إلى علي رضي الله عنه فقال: أن المجوس
كانوا أهل كتاب فانطلق ملك منهم فوقع على أخته وهو نشوان فلما أفاق قالت له
أخته: أي شيء صنعت وقعت علي وقد رأك الناس والآن يرجمونك قال: أفلا حجزتني؟
قالت: واستطعت جئت مثل الشيطان ولقدراك الناس وليرجمنك غدا إلا أن تطيعني,
قال: وكيف أصنع؟ قالت: ترضى أهل الطمع
(1/252)
ثم تدعوا الناس فتقول: أن آدم كان يزوج
ابنه أخته أو قالت: ابنته ابنه قال: وجاءه القراء فقالوا: قم يا عدو الله
قال: هو هذا قد جاؤوا فقام إليهم أولئك فداسوهم حتى ماتوا فمن يومئذ كانت
المجوسية وقد أخذ رسول الله صلى اله عليه وسلم الجزية من مجوس هجر.
يحتمل أن يكون المجوس أهل كتاب ونسخ كتابهم فلم يبق كتاب الله كما نسخ بعض
القرآن فعاد غير قرآن كقوله الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة بما
قضيا من اللذة وقوله: لو كان لابن آدم واديان من مال لا بتغى إليهما ثالثا
إلى غير ذلك مما نسخ وخرج من أن يكون قرآنا ويكونو كاليهود والنصارى من أهل
الكتاب في أكل ذبائحهم واستحلال نسائهم وإنما أخذت الجزية منهم لأخذ رسول
الله صلى الله عليه وسلم إياها منهم على ما في حديث على وعبد الرحمن على ما
روى أن عمر لم يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد له عبد الرحمن بن عوف أن
النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر وروى أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قبل من مجوس أهل البحرين الجزية وأقرهم على مجويتهم وعامل رسول
الله صلى الله عليه وسلم يومئذ على البحرين العلاء بن الحضرمي وليس الأخذ
منهم لأنهم أهل كتاب بل لما كانت الجزية تؤخذ من اهل الكتابين مع إنا نؤمن
بكتابهما لا قرارانا إياهم في دار الإسلام آمنين وهم إلينا أقرب من المجوس
الذين لا كتاب لهم فمن المجوس ولى لمشاركتهم في المعنى الموجب للأخذ وهو
القرار في دارنا آمنين فلا يلزم به حل نسائهم وذبائحهم وكذلك امتثل فيهم
الخلفاء الراشدون منهم عمرو على وعثمان على ما روى عنه أنه أخذها من بربر.
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتى عمه يعوده وعند رأسه مقعد رجل
فقام أبو جهل فقعد فيه فقال: ما بال ابن أخيك يذكر آلهتنا؟ قال: ما بال
قومك يشكونك؟ قال: "يا عماه أريدهم على كلمة تدين لهم العرب وتؤدي إليهم
العجم الجزية" قال: ما هي؟ قال: "لا إله إلا الله" فقال: اجعل الآلهة إلها
واحدا؟ فأنزل الله
(1/253)
تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} إلى
قوله: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} فيه ما دل على دخول المجوس فيمن تؤخذ
منهم الجزية.
وقد روى محمد ابن الحنفية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى مجوس
البحرين يدعوهم إلى الإسلام فمن أسلم منهم قبل منه ومن أبى ضربت عليه
الجزية ولا يؤكل لهم ذبيحة ولا تنكح لهم امرأة وما روى عن حذيفة ابن اليمان
أنه قال: لولا أني رأيت أصحابي أخذوا من المجوس يعني الجزية ما أخذت منهم.
وتلا قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الآية
فذلك لأنه لم يقف على ما وقف عليه الخلفاء من أمر رسول الله صلى الله عليه
وسلم ومن فعله فاستدل بفعل الخلفاء لعلمه أنهم لم يفعلوا إلا ما ينبغي لهم
أن يفعلوه.
(1/254)
في الجعائل
ورى شفى الأصبحي عن عبد الله بن عمرو بن العاصي عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: "للغازي أجره وللجاعل أجره" وأجر الغازي وشفى بضم الشين من أصبح
وأما الهيثم بن شفى فهو بالفتح وثمامة بن شفى بالفتح أيضا اختلف أهل العلم
في الجعائل في الغزو فأعلى ما وجد فيه ما روى أن معاوية كتب إلى جرير بن
عبد الله البجلي في بعث ضربه أما بعد فقد رفعنا عنك وعن ولدك الجعل فكتب
إليه جرير إني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأمسك رسول
الله صلى الله عليه وسلم بيدي فاشترط على والنصح لكل مسلم فإن انشط في هذا
البعث نخرج وغلا أعطينا من أموالنا ما ينطلق المنطلق قال المسعودي: هذا
أحسن ما سمعنا في الجعائل ومذهب أبي حنيفة كراهة الجعل إذا كان للمسلمين فئ
فإن لم يكن فئ فلا بأس أن يقوى بعضهم بعضا رواه محمد ولم يحك خلافا بينه
وبين أبي يوسف فيكون ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مما ظاهره أباحة
الجعائل مخصوصا بحالة الحاجة وما روى عن جرير مما لم ينكر معاوية عليه
محمول على الحاجة لأن المسلمين إذا كان لهم فئ كان الأولى بهم التنزه عن
الصدقة وعما
(1/254)
هو في حكمها أعنى الجعائل إذ الاستغناء
بالفئ عما هو غسالة الذنوب أولى فإن لم يكن أباحت الحاجة قبول الجعل
للضرورة إليه.
ومنه ما روى أن أبا أيوب الأنصاري كتب إلى ابن أخيه يقول سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: "ستفتح عليكم الأمصار وتضرب عليكم بعوث يكرهها
الرجل منكم يريد أن يتخلص منها فيأتي القبائل يعرض نفسه عليهم ويقول من
أكفيه بعث كذا وكذا ألا فذلكم الأجير إلى اقصى قطرة من دمه" في هذا ما يوجب
أن الثواب في ذلك الغزو للجاعل وقد ذكرنا في حديث شفى الاصبحي أن للجاعل
أجرا لجاعل وقد ذكرنا في حديث شفى الأصبحي أن للجاعل أجرا لجاعل وأجر
الغازي وفي ذلك ما قد ينفي أن يكون للغازي على ذلك أجر إذ كان إنما غزا
بمال قد أخذه عوضا على غزوه فإذا قتل في ذلك فقد قتل أجيرا فيما لا ثواب له
فيه من ربه إذ كان ثوابه في الجعل الذي أخذه ممن يغزو عنه.
(1/255)
|