المعتصر من المختصر من مشكل الآثار

كتاب الذبائح والصيد
مدخل
...
كتاب الذبائح والصيد
روي عن أناس من الصحابة أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أعاريب يأتونا بلحمان مشروحة والجبن والسمن ما ندري ما كنه

(1/265)


إسلامهم قال: "انظروا ما حرم الله عليكم فأمسكوا عنه وما سكت عنه فإنه عفا لكم عنه وما كان ربك نسيا واذكروا اسم الله عز وجل" فيه توسعة من الله تعالى على عباده في الطعام الذي يأكلونه من الذبائح التي لا يعلم حال الذابح ولو شاء لضيق عليهم فلم يبح لهم أكلها حتى يعلموا أن ذابحها ممن تحل ذبيحته كما قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ} وهذا بخلاف الشرائع التي شرعها لهم في دينه وتعبدهم بها حيث أمرهم بطلب مشكلها من محكمها على ما يأتي في البيوع من قوله صلى الله عليه وسلم: "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات".
وروى عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا فبعث الله تعالى نبيه وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو ثم تلا {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} الآية.

(1/266)


في ما قطع من الحي
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة والناس يجبون أسنمة الإبل ويقطعون آليات الغنم فقال: "ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت الضمير" عائد على ما ذكر من أسنام الإبل وآليات الغنم وعلى ما كان بمعناها ما يموت بموتها وتحدث بالموت فيه صفة لم تكن قبل بخلاف الوبر والشعر لأنه لا تحدث فيه بموتها صفة لم تكن قبل وقد جعل الله تعالى لنا الأوبار والأشعار أثاثا ومتاعا فكيف يجوز أن تكون ميتة وقد جعلها لنا متاعا بخلاف الجلد الذي يموت بموت البهيمة ألا ترى أن الموت يحدث فيه صفة لم تكن له قبل من فساده وتغير رائحته فأجاز رسول الله صلى الله عيه وسلم الانتفاع به وقال: "إنما حرم أكلها في الشاة التي مر بها وهي ميتة"

(1/266)


في الذكاة بغير الحديد
عن ابن عمر أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنما لهم فأرادت

(1/266)


شاة منها أن تموت فذبحتها بمروة فسأل كعب النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأمره بأكلها فيه دليل أن ما ذبح بغير إذن مالكه فهو ذكاة بخلاف من قال لا تصير ذكاة محتجا بما روى عن ثعلبة قال: أصبنا يوم خيبر غنما فانتهبناها فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدورهم تغلي فقالوا: لها نهبة, فقال: "اكفئوا القدور وما فيها فإن النهبة لا تحل" فعلم أن ما ذبح على مثل هذا الحال لا يكون ذكيا قلنا: أمره صلى الله لعيه وسلم بأكفاء القدور يحتمل أن تكون ذلك عقوبة للمنتهبين لا لكونه حرم بالنهبة ألا ترى أنه كان في وقت كانت العقوبات على الذنوب بالأموال كما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مانع الزكاة من أعطاها مؤتجر أكان له أجرها ومن لا فا نا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات وبنا ليس لآل محمد منها شيء.

(1/267)


في الذكاة بغير إذن المالك
عن عاصم بن كليب عن أبيه عن رجل من الأنصار أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فلقيه رسول امرأة من قريش تدعوه إلى طعام فجلسنا مجلس الغلمان من آبائهم ففطن آباؤنا للنبي صلى الله عليه وسلم وفي يده أكلة فقال: "إن هذه الشاة تخبرني أنها أخذت بغير حلها" فقامت المرأة فقالت: يا رسول الله لم يزل يعجبني أن تأكل في بيتي وإني أرسلت إلى النقيع فلم توجد فيه شاة وكان أخي اشترى شاة بالأمس فأرسل بها أهله إلي بالثمن فقال: "أطعموها الأسارى" فيه الأمر بإطعام الأسارى وهم ممن تجوز الصدقة عليهم بمثلها ولم يأمر بحبسها للذي ذبحت وهي على ملكه ليأخذها مطبوخة لارتفاع ملكه عنها ووقوع ملك الذابح والطابخ عليها كما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه وفيه أيضا جواز ذكاة الذبح بغير إذن مالكه.

(1/267)


في الضفدع
روى عبد الرحمن بن عثمان قال: ذكر طبيب الدواء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الضفدع يكون في الدواء فنهى النبي صلى الله عليه

(1/267)


وسلم عن قتله فيه دليل على أنه لا يؤكل وأنه بخلاف السمك لأنه يقتل ويؤكل وغير السمك مما في البحر ينبغي أن لا يقتل ولا يؤكل لا يقال إنما نهى عن قتله لأنه يسبح لأن السمك مسبح أيضا وإن من شيء إلا يسبح بحمده بل إنما نهى لأنه غير مأكول فيكون قتله عبثا وقيل إنما نهى عن قتله بصفة لا يجوز قتله بها مما فيه تعذيبه لا لأنه لا يؤكل كما ذهب إليه مالك في أكل دواب البحر كلها وفيه بعد.

(1/268)


في لحم الخيل وغيره
عن جابر بن عبد الله قال: "أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الخيل ونهانا عن لحوم الحمر" وفيما روى عنه أنه قال لما كان يوم خيبر أصاب الناس مجاعة فأخذوا الحمر الأهلية فذبحوها وملأوا القدور منها فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرنا فكفأنا يومئذ القدور وقال: "إن الله سيأتيكم برزق هو أحل من هذا وأطيب" فكفأنا يومئذ القدور وهي تغلي فحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الإنسية ولحوم الخيل والبغال وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير وحرم المجثمة والخلسة والنهبة والحديث الثاني يوريه عكرمة عن يحيى بن أبي كثير عن سلمة عن جابر ورواية عكرمة عن يحيى ضعيفة والحديث الأول رواه محمد بن علي بن الحسين وعطاء ابن أبي رباح وأبو الزبير عن جابر وثلاثة أولى بالحفظ من واحد وروى عن أسماء ابنة أبي بكر قالت: انتحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه وفيما روى عن خالد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير والآثار صحيحة في إباحة أكل لحم الخيل ولكن النظر يوجب تحريم لحمها وذلك لأن الأنعام المباح أكلها ذوات أخفاف وإظلاف والحمر والبغال ذوات حوافر وهي محرم أكلها والخيل المختلف فيه أشبه بذوات الحوافر منها بذوات الأظلاف والأخفاف وأبو حنيفة ومالك ذهبا إلى التحريم واحتج مالك بقوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}

(1/268)


وقوله تعالى في الأنعام: {الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} وأما أبو يوسف ومحمد ذهبا إلى إباحة لحومها ومنعا ما احتج به مالك بأن الله تعالى قال: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} ولم يكن مانعا أن يكون خلقهم لغير الاختلاف أيضا غذ قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} فكذلك قوله: {لِتَرْكَبُوهَا} لا يكون مانعا أن يكون مخلوقا للركوب ولما سواه مما قد أباحه بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ومثله في الحديث بينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها التفتت إليه البقرة فقالت إني لم أخلق لهذا إنما خلقت للحرث فقال الناس سبحان الله بقرة تتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أؤمن بهذا وأبو بكر وعمر". ولم يكن ذلك مانعا من أكل لحومها لما أباح الله تعالى ذلك.

(1/269)


في جلد الميتة
عن عبد الله بن عكيم قال: قرئ علينا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بأرض جهينة وأنا غلام شاب "أن لا تنتفعو من الميتة بإهاب ولا عصب" فيه ما يدل على حضوره لذلك وسماعه إياه من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي غيره من الأحاديث جاءنا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتب إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحتمل أن يكون لم يحضره ومعناه كتب إلى قومنا وهذا جائز في كلامهم وله نظائر في الحديث وقد حققه ما روى عنه أنه قال حدثني أشياخ بجهينة قالوا: أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قرئ علينا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره فلم يتم حجة إذ لم يسم الأشياخ حتى يعرف أنهم ممن يجوز الأخذ عنهم أم لا وحديث ابن عباس عن ميمونة في أمره غيابهم بدباغ جلد الشاة التي ماتت لهم وقوله لهم عند ذلك: "إنما حرم أكلها" أولى منه لصحة مجيئه واستقامة طريقه وعدل رواته وروى عنه أن الشاة كانت لسودة وذكر فيه ما يدل أن ذلك القول كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بعد إنزال الله لهم تحريم الميتة وروى عنه أنه قال

(1/269)


قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" وفي ذلك ما يوجب إباحة جلود الميتة إذا دبغت ويحتمل أن النهي عن الانتفاع بالإهاب والعصب قبل الدباغ يؤيده قول ابن عباس إذا دبغ الإهاب فقد طهر أي طهر للانتفاع به.
وعن علي بن أبي طالب أنه أتى ببغلة عليها سرج خز فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخز عن ركوب عليه وعن جلوس عليه وعن جلود النمور وعن جلوس عليها وعن ركوب عليها.
وعن عبد الله بن عمر أنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الميثرة وهي جلود السباع وعن معاوية أنه دعا نفرا من الأنصار في الكعبة فقال: أنشدكم بالله ألم تسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صفف النمور فقالوا: اللهم نعم, قال: وأنا أشهد وعن المقدام بن معد يكرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الركوب على جلود السباع.
لا خفاء أن عموم قوله صلى الله عليه "أيما إهاب دبغ" يتناول جلود السباع وغيرها لا يصح إخراجها منالعموم إلا بآية مسطورة أو سنة مأثورة أو إجماع معتبر علم إن النهي لم يكن لأنها غير طاهرة بالدباغ ولكن لمعنى سواه وهو ركوب العجم عليها يؤيده النهي عن الركوب على الخز والجلوس عليه دون لباسه لأنه قد لبس الخز من الصحابة والتابعين جماعة وجرى النسا على ذلك إلى يومنا وإذا كان اللبس مباحا والركوب عليه مكروها دل ذلك أنه للتشبه بالعجم لا للنجاسة ومثله نهيه صلى الله عليه وسلم أن يجعل الرجل أسفل ثيابه حريرا مثل الأعاجم أو يجعل على منكبه حريرا كالأعاجم مع إباحته أعلام الحرير في الثياب أكثر من مقدار الحرير في هذين المعنيين ومما يدل عليه ما روى أن عمر بن الخطاب رأى رجلا وعليه قلنسوة بطانتها من جلود الثعالب فألقاها عن رأسه وقال: ما يدريك لعله ليس بذكي وفيه أنه لو علم أنه ذكي لم يكرهه وروى عن جابر بن عبد الله أنه كان لا يرى بجلود السباع بأسا إذا دبغت.

(1/270)


وعن مطرف بن عبد الله أنه دخل على عمار وإذا خياط يخيط بردا له على قطيفة ثعالب وعن أبي أيوب الأنصاري أنه أتى بدابة بسرج نمور فنزع الصفة فقلت له الجدبتان نمور فقال إنما ينهى عن الصفة لاستعمال العجم إياها.
ولا يعلم عن أحد من الصحابة في ذلك غير ما وفنا أنهم كانوا يكرهون التشبه بالعجم في استعمالها وقد وجدنا عن التابعين ما قد دل على إباحتها والكراهة لأجل التشبه وهو ما روى عن عروة بن الزبير أنه كان له سرج نمور وعن يحيى بن عتيق أنه قال رأيت الحسن البصري على سرج نمور ورأيت محمد بن سيرين على سرج منمر.

(1/271)


في أكل ما بات من الصيد
روى أبو ثعلبة الخشنى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رميت الصيد فأدركته بعد ثلاثة وسهمك فيه فكله ما لم ينتن" ليس هذا بخلاف لما روى أنس قال: جعل المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق ثم يؤتون بملء كف من الشعير فيصنع لهم با هالة سنخة فيوضع بين يدي القوم الجياع وهي بشعة في الحلق ولها ريح منكر لان اللحم الذكي يعود بالنتن إلى حال الجيف فيصير من لخبائث فيصير حراما وأما الإهالة فليست من الأشياء التي حلت بالذكاة كالسمن واللبن فحدوث السنخ فيه يتغير طعمه لا فساد في ذاته كفساد اللحم فصار كتغير الدهن والزيت فلا يحرمها وكتغير الماء يشرب ويتطهر به لان ذلك عارض فيه لا انقلاب إلى نوع آخر كانقلاب اللحم إلى حد يصير كالأشياء المذمومة من الجيفة وغيرها.

(1/271)


في الطافي
عن جابر بن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما حسر عنه البحر فكل وما ألفى فكل وما وجدته ميتا طافيا فوق الماء فلا تأكل" وقد ذهب

(1/271)


قوم إلى كراهة أكل الطافي من السمك وجعلوا حكمه حكم اللحم المنتن وعن علي أنه قال كل ما قذف البحر وما طفا فلا تأكله لأن ما يطفو من السمك فإنما يطفو لفساده وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه وأباحه قوم منهم مالك والشافعي محتجين بحديث أبي هريرة أنه قال صلى الله عليه وسلم في البحر: "هو الطهور ماؤه والحل ميتته" لكن الحديث مضطرب في إسناده اضطربا لا يصلح الاحتجاج بمثله ولو صححنا لم يكن فيه مخالفة لحديث جابر لأن المراد بالميتة في الحديثين واحد ويكون الحديثان صحيحين ولكن تحريم الطافي الذي في حديث جابر زيادة على ما في الحديث الآخر وزيادة العدل مقبولة ويرتفع التضاد حينئذ فإن قيل عن ابن عباس أنه قال أشهد على أبي بكر أنه قال السمكة الطفاية حلال أكلها لمن أراد أكلها وعن أبي بكر ليس في البحر شيء إلا قد ذبحه الله وروى أن أصحاب أبي طلحة وجدوا سمكة طافية فسألوا أبا طلحة عنها فقال أهدوها غلي وفيه ما يدل على إباحته قلنا خالفهما علي بن أبي طالب وجابر والأولى مما اختلف فيه الصحابة ما وفاق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو النهي لا الإباحة ولقد روي أن راعيا أتى ابن عباس فقال إني آتي البحر فأجده قد جعل سمكا ميتا فقال لا تأكل الميتة ومعناه الجعول الذي معه الطفاء على الماء لا ما سواه مما يقذفه ومما يجز عنه فقد عاد قول ابن عباس إلى كراهة أكل كل طاف من السمك.

(1/272)


في الفارة تقع في السمن
عن ابن زياد1 عن معمر عن ابن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن فارة تقع في سمن قال: "إن كان جامدا فخذوها وما حولها فألفوه وإن كان ذابا أو مائعا فاستصبحوا به أو فاستنفعوا به" فيه إباحة الانتفاع بالسمن النجس فإن قيل هذا الحديث رواه عن معمر محمد بن
__________
1 هكذا في الأصل وهو عبد الواحد بن زياد كما سيأتي.

(1/272)


دينار فقال فيه إن كان مائعا اهريق وإن كان جامدا أخذت وما حولها وأكل الآخر فالجواب أن عبد الواحد بن زياد ممن لو انفرد يقبل منه فكذا إذا انفرد بزيادة تقبل منه فإن قيل فقد روى مالك وابن عيينة عن الزهري فخالفا معمرا في إسناده ومتنه قيل له فيحتمل أن يكون عند الزهري في هذا الباب عن سعيد ما رواه عنه معمر وعن غيره ما رواه عنه مالك وابن عيينة فلا تكون إحدى الروايتين دافعة للأخرى فيعمل بما فيهما ولا يعارض إباحة الاستصباح والانتفاع بالسمن النجس ما روي عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح قام فقال: "إن الله عز وجل قد حرم بيع الخمر والأصنام والميتة والخنزير" فقال له بعض المسلمين: كيف ترى في شحوم الميتة يدهن به السفن والجلود ويستصبح به الناس؟ قال: "هو حارم قاتل الله اليهود لما حرمت عليهم الشحوم جملوها فباعوها فأكلوا ثمنها" لان حديث جابر في شحوم الميتة التي هي في نفسها حرام وشحومها كذلك فلا يحل الانتفاع بالحرام وحدث معمر إنما هو في السمن النجس والأشياء النجسة يحل الانتفاع بها كالثياب النجسة لا تمنع نجاستها من لبسها والنوم فيها إذا كانت يابسة فكذلك يجوز الانتفاع بالسمن النجس إذا كان ليس بميتة في نفسه وإن كان الذي نجسه هو الميتة فيصح الحديثان على المعنيين وقد روى جواز الاستصباح والانتفاع بالمويت النجس والسمن النجس عن جماعة من الصحابة منهم عليه بن أبي طالب وابن مسعود وابن عمر وعن ابن سيرين أنهم لتوا سويقا فوجدوا فيه زوغة ميتة فقال أبو موسى لا تأكلوه وبيعوه ولا تبيعوه من المسلمين وبينوا لمن تبيعونه منه وبجواز بيعه نقول لا هـ لما جاز الانتفاع به جاز بيعه كما جاز بيع الثوب النجس فإن قيل الثوب يغسل فيعود طاهرا قلنا قبل أن يغسل كالسمن في نجاسته وقد وجدنا الدور لا تخلو من المخارج النجسة مما لا يستطاع تطهيرها ولم يكن ذلك بمانع من بيعها فالسمن كهي فيما وصفنا وإلى جواز بيعه ذهب القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله إذا بين ذلك وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وبه نأخذ

(1/273)


في العتيرة
روي عن محمد بن الحسن في إملائه قال في الجاهلية كانوا يذبحون في رجب شاة وهي الرجية كان أهل البيت يذبحونها فيأكلون ويطبخون ويطعمون والعتيرة كان الرجل إذا ولدت الناقة والشاة ذبح أول ولد تلده فأكل وأطعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسئل عن التعيرة فقال: "إن تدعه حتى يصير زخزبا خير له من أن تنحره فيملق لحمه بوبره وتكفأ إناءك وتوله ناقتك" الزخزب الذي قد غلظ جسمه واشتد لحمه فوجه الحديث أنه كره ذبحه صغير الثلاثة أوجه أحدها أنه لا ينتفع بلحمه لأنه ساعة يولد كالغراء يختلط لحمه بوبره الثاني أنه تفجع بذلك أمه الثالث أنه ينقطع لبنها بفقدها إياه صغيرا وعن المزنى عن المشافعي العتيرة هي الرجبية وهي ذبيحة كانوا يتبررون بها يذبحونها في رجب ولما اختلفا في هذا أطلبنا حقيقة ذلك فوجدنا عن مخنف بن سليم قال ونحن وقوف مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة فقال: "يا أيها الناس إن على أهل كل بيت في كل عام أضحاة وعتيرة هل تدرون مال اعتيرة؟ " قال: فلا أدري ما كان من ردهم عليه قال: "هي التي يقول الناس الرجبية" فعقلنا بهذا أن العتيرة هي الرجبية وأنها كانت واجبة كالأضحية وعن وكيع أنه سأل النبي عليه السلام فقال: إنا كنا نذبح ذبائح في رجب فنكعم من جاءنا فقال صلى الله عليه وسلم: "لا بأس" قال وكيع: لا أتركاها أبدا وكان محمد ابن سيرين يعتر وكان ابن عون يعتر وروى عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا فرعة ولا عتيرة" قال الزهري الفرعة ول النتاج والعتيرة شاة يذبحونها في رجب وروى لا عتيرة ولا فرع يحتمل نسخ ما كان واجبا وبقي جائزا وعن نبيشة سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية فماذا تأمرنا فقال: "اذبحوا لله في شهر ما كان وبروا لله وأطعموا" وعن الحارث أنه لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قال: فقلت:

(1/274)


يا رسول الله الفرائع والعتائر؟ قال: "من شاء افرع ومن شاء لم يفرع ومن شاء عتر ومن شاء لم يعتر في الغنم أضحيتها" فكشف هذه الآثار أن الوجوب قد انستخ وأنه برمن أخذ به فقد أحسن ومن تركه لم يخرج وعن الشافعي أن الفرع هو شيء كان أهل الجاهلية يطلبون به البركة في أموالهم وكان أحدهم يذبح بكزه فيه أو شاته ولا يعدوه رجاء البركة فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "افرعوا إن شئتم" أي اذبحوا إن شئتم وكانوا يسألونه عما كانوا يصنعونه في الجاهلية خوفا أن يكره في الإسلام فأعلمهم أنه لا مكروه عليهم فيه وأنه مباح.

(1/275)