المعتصر من المختصر من مشكل الآثار

كتاب النكاح
في نكاح اليتيمة
...
كتاب النكاح
فيه ستة وعشرون حديثا
في نحاك اليتيمة
عن ابن الزبير أنه سأل عائشة عن قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} قالت: يا ابن أختي هي اليتيمة

(1/280)


في حجر وليها تشاركه في ماله فيعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق وأمروا أن ينكحوا من النساء سواهن قال عروة: قالت عائشة: ثم أن الناس سواهن قال عروة قالت عائشة: ثم أن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فأنزل الله عز وجل: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} إلى قوله: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} قالت: والذي ذكر الله أنه يتلى عليهم في الكتاب الآية الأولى التي فيها {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا} قالت عائشة وقول الله في الآية الأخرى {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا فيهن إلا بالقسط من أجل رغبهم عنهن وعن عائشة {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} قالت هذا في اليتيمة تكون عند الرجل لعل أن تكون شريكته في المالوهو أولى بها فيرغب عنها لما لها أن ينكحها غيره1 كراهية أن يشكره في مالها وعن ابن عباس مثل ما عن عائشة ففيما روينا عنهما ما دل على إباحة تزويج اليتامى التي لا آباء لهن قبل بلوغهن للأولياء من أنفسهم وغيرهم لا يقال انهن قد بلغن وسمين يتامى لقربهن منه محتجا في ذلك بما روي أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن اليتيمة تستأمر في نفسها" والاستئمار لا يمكن إلا لمن قد بلغ فصح إطلاق اليتيم على من قد بلغ قبل ذلك لأن القرينة في الآيتين دالة على أن المراد به غير البالغات لأن فيهما أن أولياءهن نهوا أن ينكحوهن إلا أن يبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق ولو كن بالغات لكان أمرهن في صداقهن إليهن قال تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ} الآية وإذا كان لهن أن يطبن به نفسا لأزواجهن بعد وجوبها لهن عليهم كان طيب أنفسهن بما
__________
1 هكذا في الأصل وفي صحيح البخاري "فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلا فيشرك في ماله بما شركته".

(1/281)


يرضين به من الصداق في العقد أجوز فدل منح الله إياهم من ذلك إنهن غير بالغات ويؤيده ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يتم بعد حلم".
فإن قيل فما معنى الاستئذان المأمور به في حديث أبي هريرة إذا لم يكن بالغات قيل له يحتمل أن يكون المراد به المراهقات العارفات ما يصلحهن المائلات إلى الخير والنازعات عن السوء وعسى يكون من مثلها من حسن الاختيار ما لا يكون ممن بلغت وحينئذ ينبغي لا وليئهن أن يستأمروهن إذا أرادوا تزوجيهن قبل البلوغ وثبت بهذا جواز تزوجي الأولياء اليتامى اللاتي لم يبلغن كما قاله من ذهب إليه من أهل العلم ودل عليه ما روى عن يزيد الأزدي قال كنت عند علي بعد العصر إذ أتى برجل فقالوا وجدنا هذا في خربة بواد ومعه جارية مخضب قميصها بالدم فقال له ويحك ما هذا الذي صنعت قال أصلح الله أمير المؤمنين كانت بنت عمي ويتيمة في حجري وهي غنية في المال وأنا رجل قد بكرت وليس لي مال فخشيت أن هي أدركت ما تدرك النساء ترغب عني فتزوجتها وهي تبكي فقال أتزوجته فقائل من القوم عنده يقول لها قولي نعم وقائل يقول لها قولي لا فقالت نعم تزوجته فقال خذ بيد امرأتك فدل ما كان من علي رضي الله عنه على أن تأويل الآيتين كمثل ما تأولهما عليه عائشة وابن عباس وفيه جواز إنكاح الرجل نفسه موليته كما يقوله أبو حنيفة ومالك وأصحابهما بخلاف من يقول لا يجوز أن يكون مزوجا من نفسه كما لا يكون بائعا من نفسه وفيه أيضا أن القول قول من إليه عقد التزويج وهو قول أبي يوسف ومحمد خلافا لأبي حنيفة حيث قال لا يقبل إلا ببينة تقوم عليه

(1/282)


في إنكاح الأولياء
عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها" وروى عنه أنه قال: "ليس للأب مع الثيب أمر والبكر تستأمر وإذنها صماتها" قوله: "الأيم أحق بنفسها من

(1/282)


وليها" يعم الأب وغيره من الأولياء ولهذا صرح في الحديث الثاني بذلك وفيه أن البكر لا يزوجها الأب حتى يستأمرها كما في الثيب فإن زوج الأب بنته البكر قبل استئذانها كان تار كالما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم فيكون غير جائز عليها حتى ترضى وهو قول أبي حفيفة وسفيان وأصحابهما وعن عائشة قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجارية ينكحها أهلها أتستأمر أم لا قال: "نعم, تستأمر" قلت: أنها تستحيي فتسكت قال: "فذلك إذنها إذا هي سكتت"
وعن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح الثيب حتى تستأمر ولا البكر حتى تستأذن" قالوا: وكيف إذنها يا رسول الله؟ قال: "الصمت" وعن عدي بن عدي الكندي عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الثيب تعرب عن نفسها والبكر رضاها صمتها".
ففي هذه الآثار أن الأب بمنزلة غيره من الأولياء في تزويج البكر وتوقفه على رضاها وروي عن ابن عباس أن رجلا زوج ابنته البكر وهي كارهة فأنت النبي صلى الله عليه وسلم فخيرها لا يقال أن سفيان روى هذا الحديث عن أيوب عن عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين رجل وبين امرأته زوجها أبوها وهي كارهة وكانت ثيبا فظهر به فساد متته وإسناده لأن حمل الأحاديث المتضادة ظاهرا على وجه يرفع التضاد أولى فيحمل على أنهما حديثان في حادثتين أحدهما في بكر والآخر ثيب فلا يتنافيان واحتج بعض من ذهب إلى ما اخترناه بما روى جابر بن عبد اله أن رجلا زوج ابنته وهي بكر بغير إذنها فأتت النبي صلى الله عليه وسلم ففرق بينهما ولا يصح الاحتجاج به لأنه موقوف على عطاء بن أبي رباح ثم النظر يوجب ارتفاع ولاية الأب عن البكر ببلوغها في بضعها كما يرتفع أمره في مالها ببلوغها دل عليه قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ} فكما لا اعتراض للأب عليها فيما تطيب به نفسا لزوجها من صداقها فكذلك لا اعتراض له عليها في بعضها بتزويجها من غير أذنها وقوله تعالى:

(1/283)


{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} الآية ففي جواز وصاياهن بعد الموت كالرجال ما قد دل على جوازه منهن قبله وفي جواز ذلك منهن وارتفاع الأيدي عنهن ما قد دل على ارتفاعها عنهن في إبضاعهن وما روى عن ابن عباس من قوله: "لا تنكح المرأة إلا بإذن ولي أو السلطان" ليس بمخالف لحديثه في البكر والثيب لان الذي للمرأة من الحق في عقد نكاحها أن تأذن فيه لوليها وتوليه ذلك فيكون العقد منه عليها بأمرها عقدا منها إياه على نفسها لأن عقود الوكلاء في هذا مضافة إلى آمريهم يقول الرجل أفعلت كذا لما فعل بأمره وحق الولي فيما قاله ابن عباس هو الذي جعلته المرأة إليه مما جعل لها أن تجعله إليه مما ليس له اعتراض فيه عليها وبعض الناس جعل قول ابن عباس هذا أناسخا إذ لا يخالف ما قد أخذه عن النبي إلا إلى ما هو أولى منه مما قد أخذه عنه وليس ذلك كما توهمه وما روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو حرام وجعلت أمرها إلى العباس فأنكحها إياه يحتمل إنكاح العباس إياها لأنه لم يكن أحد من أوليائها حاضرا فعادت ولايتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل ذلك إلى العباس فعقد عليها ويحتمل أن تكون هي وكلت العباس فعقد العباس عليها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي ذلك تجويز العقود للأشياء التي كانت إلى غير من عقدها لإجازة من كانت إليه كما يقوله أبو حنيفة ومالك والثوري وأصحابهم وما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أرسل إلى أم سلمة يخطبها فقالت أم سلمة مرحبا برسول الله أن في خلالا ثلاثا أنا امرأة شديدة الغيرة وأنا امرأة مصبية وأنا امرأة ليس هاهنا أحد من أوليأتي شاهد يزوجني فنضب عمر فأتاها فقال أنت تردين رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا ابن الخطاب في كذا وكذا فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أما ما ذكرت من غيرتك فإني أدعو الله أن يذهبها عنك وأما ما ذكرت من أنه ليس أحد من أوليائك شاهد فيزوجك فإنه ليس أحد من أوليائك شاهد ولا غائب يكرهني" فقلت لابنها زوج

(1/284)


رسول الله فزوجه ليس في ترك الإنكار من رسول الله صلى الله عليه وسلم على قولها ليس من أوليائي أحد يزوجني ما يدل على اشتراط الولي للثيب مخالفا لما صححنا عن ابن عباس في نفي الولي عن الثيب وإنما فيه نفي عقد المرأة على نفسها وإن كانت ثيبا حتى توليه غيرها من الرجال وكان الذي كان من ابنها عمر وليس بولي لها لأنه كان طفلا على معنى ما كان من رسول الله صلى اله عليه وسلم من تزويج ميمونة لأنه عاد أمرها حينئذ إلى رسولالله صلى الله عليه وسلم فجعل لها أن تجعل إلى من رأت فجعتله إلى ابنها ويحتمل أن تكون هي فعلت ذلك ابتداء فكان في قبول رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابنها أمضاء منه له وهذا يدل على أن عقد الصبي بأمر البالغين جائز كما يقوله أبوحنيفة وأصحابه ودل على كونه صغيرا قولها ليس أحد من أوليائي شاهد لأن ابنها لو كان بالغا لكان وليا لها لكونه ابنها وابن ابن عمها لا يقال أن الصبي لا أمر له في نفسه فكيف يكون له أمر في غيره وهو مذهب الشافعي لأن أمور الصبيان ليس كلا أمر مطلقا ألا ترى أن الشافعي يخير الصبي السعي بين أبيه وأمه المطلقة على ما روى حديثا في ذلك ولم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم له الخيار إلا ولاختياره حكم ثم لا خلاف في أن الصبي الغير العاقل إذا كان في يدمن يدعى أنه عبده ثم بلغ فدفع ذلك أنه لا يفيد دفعه وهو عبد ولو كان يعبد عن نفسه إلا أنه غير بالغ وادعى الحرية أن القول قوله: كما لو كان بالغا فقد جعل بقوله حكم وهو غير بالغ ولقد قال مالك في وصية اليفاع المراهق أنها جائزة وروى في ذلك ما رواه ولم يجعل كلا وصية لعدم البلوغ وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بعبد الله بن جعفر وهو يبيع بعض ما يبيع الغلمان فقال: "بارك الله في صفقة يمينك" فيحتمل أنه كان بيعه بإطلاق النبي صلى الله عليه وسلم ذلك له ودل أن له صفقة فدعا له بالبركة فيها وإن لم يبلغ أو بإذن من إليه ذلك فثبت بما ذكرنا جواز عقود الصبيان الذين يعقلون بأمر من إليه الولاية عليهم وجوازا طلاق من له العقد على نفسه إن يعقد عليه وإن القول قول من أجازه لا قول مخالفيه.

(1/285)


في نكاح المحرم
روى عن أبان بن عثمان بن عفان قال: سمعت أبي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب" ذهب بعض العلماء إلى أن عدم الجواز لنفسه لا لغيره لإحرامه الذي هو فيه مما الجماع فيه عليه حرام وهو مذهب الشافعي وكثير من أهل الحجاز ومالك غير أنه قال عنه ابن وهب يفرق بينهما ويكون تطليقة وروى ابن القاسم عنه أنه يفرق بينهما ويكون فسخا ويلزمه إزالة الملك المحترم من مالك البضع بغير ما يزول به من طلاق باختيار وذلك لأن هذا العقد إما أن يوجب ملك البضع أو لا فإن كان فلا معنى لطلاق لا يريده مالكه وإن لم يكن ملك امتنع الطلاق لعدم محله وكذلك الفسخ لأنه يقتضي سابقه انعقاد معتبر وليس فليس وقال بعض محمل النهي هو الكراهة لأنه وسيلة إلى الرفث المحرم في إحرامه ويدل عليه ما روى عن جابر بن زيد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم.
وما روي عن يزيد بن الأصم أنه صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهي خالته وهو حلال لا تعارض روايته رواية ابن عباس ولا تقاربه وقد روى عن عائشة موافقتها لابن عباس من غير اضطراب عنهما في ذلك وكذلك أبو هريرة وافقهما.
فإن قيل: روى عن أبي رافع أن تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة كان وهو حلال قلنا: هذا الحديث رواه مطر الوراق عن ربيعة وقد رواه عن ربيعة من هو أحفظ منه وأثبت وهو مالك بن أنس حدث به عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سليمان بن يسار أن رسول الله صلى الله عيه وسلم بعث أبا رافع ورجلا من الأنصار فزوجاه ميمونة ابنة الحارث وهوبالمدينة قبل أن يخرج فعاد الحديث بذلك موقوفا على سليمان بن يسار بغير تجاوز عنه إلى أبي رافع فخرج من أن يكون حجة لمن يحتج به في هذا الباب.

(1/286)


فإن قيل: فقد روى عن يزيد عن ميمونة أنها قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرف ونحن حلالان بعد أن رجع من مكة فكان من الحجة عليه لمخالفيه فيه أن ابن عباس أخبر أن تزويجه صلى الله عليه وسلم إياها كان قبل ذلك وهو محرم وقد روى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان طلب أن يعرس بها بمكة فأبى عليه ذلك أهلها وقال فيما روى عطاء عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة ابنة الحارث وهو حرام" فأقام بمكة ثلاثا فأتاه حويطب بن عبد العزى في نفر من قريش في اليوم الثالث فقالوا: إنه قد انقضى أجلك فاخرج عنا, قال: "وما عليكم لو تركتموني فعرست بين أظهركم فصنعنا لكم طعاما فحضرتموه" فقالوا: لا حاجة لنا في طعامك فأخرج عنا فخرج نبي الله صلى الله عليه وسلم وخرج بميمونة حتى عرس بها بسرف ففيه أنه تزوجها في غير الوقت الذي ذكر مطر في حديثه أنه كان بالمدينة قبل أن يخرج فإن قيل أفيخفى عن ميمونة وقت تزويجها
قيل له: نعم لما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل أمرها إلى العباس فزوجها إياه فيحتمل أنه ذهب عنها الوقت الذي عقد عليها عندما فوضت إلى العباس أمرها فلم تشعر إلا في الوقت الذي بنى بها فيه وعلمه ابن عباس لحضوره وغيبتها عنه فإن قيل ففي خبر عثمان النهي فكيف يجوز فيما علم منه صلى الله عليه وسلم الإباحة فيه.
قيل أن عثمان لم يذكر في حديثه من أمر ميمونة شيئا وما ذكره فيه عنه يجوز أن يكون سمعه منه قبل ذلك أو بعده فكان مراده به غيره من أمته إذ هو بخلافهم إذ هو صلى الله عليه وسلم كان محفوظا مالكا لا ربه ولم يكن غيره من أمته كذلك فنهاهم عنه لخوفه عليهم ما يخاف عليهم من مثله وفعله صلى الله عليه وسلم إذ لم يخف على نفسه من ذلك ولي فيه أن عقد التزويج إذا وقع كان غير جائز ومما يؤكده البيع بعد النداء يوم الجمعة لم يبطل مع نهي الله عز وجل عنه فالنهي عن نكاح المحرم كذلك ونقول لمالك والشافعي

(1/287)


إن بيع الحاضر للبادي منهي عنه وهو جائز إن وجد بلا خلاف فلا يلزم من النهي الفساد فلا ينكر أن يكون النهي عن نكاح المحرم كذلك مع ما ذكرنا عن مالك من تفريقه بطلاق أو فسخ ولا يكون ذلك غلا في عقد قد ثبت لأنه لا يقع في تزويج باطل طلاق ولا فسخ والنظر الصحيح يقتضي تجويز التزويج لإناراينا أسبابا تمنع من الجماع منها الإحرام والصيام ومنها الاعتكاف ولا تمنع من التزويج فكذا الإحرام وإن كان مكروها.
ولا يقال أن القبلة غير ممنوعة في الصيام وممنوعة في الإحرام لأن الحجة بالاعتكاف عليه قائمة فإن قيل روي عن ابن عمر الكراهة وعن عمر وزيد أنهما ردا نكاحي محرمين فإلى قول من خالفت ذلك قيل له ذلك إلى قول عبد الله بن مسعود وابن عباس وأنس بن مالك فقد روى عن جميعهم إجازة ذلك.

(1/288)


في الصداق والوفاء بالشرط
روي عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة انكحت على صداق أو حباء أو عدة قبل عصمة النكاح فهو لها وما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعصمه وأحق ما أكرم عليه الرجل ابنته أو أخته العصمة ههنا العقدة" ومنه {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} أي لا تحبسوهن زوجات لكم واطلقوهن فقوله بعد عصمة النكاح أي بعد عقده فهو لمن أعصمه أي لمن فعل له يقال أعصمت فلانا إذا جعلت له شيئا يعتصم به أي يلجأ إليه ويغني به عن طلب مثله ففيه أن ولي المرأة قد يعطى أو يوعد بشيء ليكون ادعى إلى إجابة التزويج الذي يلتمسه الخاطب فلا يطيب له شيء من ذلك إذ كان إنما قصد إليه بذلك للتزويج الملتمس منه فكانت المرة أولى بذلك منه لأنه الذي يملك بعضها1 فالعوض ينبغي أن لا تملكه إلا المرأة دون من سواها ومثل ذلك ما روي أنه قال صلى الله عليه وسلم لابن
__________
1 كذا.

(1/288)


اللتبية لما رجع من الولاية على الصدقة فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي "أفلا جلس في بيت أبيه أو في بيت أمه ينتظر هل تأتيه هديته" فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم الهدية إليه إلى السبب الذي أهديت إليه من أجله وهي الولاية التي يتولاها وكذا رد الحباء والعدة إلى السبب الذي من أجله كانا وهو البضع فجعلهما للمرأة دون الولي إذ كان الذي يلتمس منه لغيره لأنه وما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعصمه لأنه قد صار له سببا يجب أن يكرم عليه كما قيل في الحديث وأحق ما يكرم عليه الرجل أخته أو ابنته فلما استحق الإكرام كان له ما أكرم به لذلك بخلاف ما قبل النكاح فإنه ليس له سبب يستحق بها الإكرام فلم يطب له ما أكرم به بل يطيب لمن أكرم به لأجله.
وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج" المراد به والله علم من الصداق الواجب بقوله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} وقوله: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} الآية جعل أخذه من حيث لا ينبغي أخذه منهن بهتانا وإثما ثم قال: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} الإقضاء الجماع الذي كان بينهم والميثاق هو العقد الذي كان فيه إحلال الفروج ومن حسن المعاشرة بقوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} والنفقة والكسوة بالسنة قال صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع "وإن من حقهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف" وما أشبه ذلك مما اشترطه الآدميون بعضهم على بعض كله واجب وفاؤه لا سيما في إباحة ما في انتهاكه حرمة الحدود التي في بعضها اتلاف الأنفس وما جعله مع الإباحة سببا للمودة والرحمة.

(1/289)


في مقدار الصداق
روي عن عمر بن الخطاب قال: "ما ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى واحدة من أزواجه ولا بناته أكثر من اثنى عشرا وقية" وروي عنه أنه

(1/289)


قال: "لا تغلوا صداق النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم ما زوج شيئا من بناته ولا تزوج امرأة من نسائه أفضل من اثنى عشر أوقية إلا وإن أحدكم ليغلى بصداق امرأته حتى يبقى لها عداوة في نفسه فيقول: لقد كلفت إليك علق القربة" أو قال عرق القربة أراد عمر بنهيه عن مغالاة الصداق فيمن يستحق من النساء صداق مثله من نسائه على الأزواج أن يكون وسطا لا شططا ومثله ما روي عن ابن أبي حد رد قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله في صداق فقال: "كم أصدقت" فلت مائتي درهم قال: "لو كنتم تغرفون من بطحان لمازدتم" وعن أبي هريرة قال رجل يا رسول الله تزوجت امرأة أو خطبت امرأة وذلك امرأة قال: "انظر إليها فإن في عيون الأنصار شيئا" قال: "كم أصدقتها" قال ثمان أواق قال: "لو كان أحدكم ينحت من الجبل ما زاد" وكانت أصدقة من لم ينكر عليه ما أصدق منها ما روى عن أبي هريرة قال كان صداقنا إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا عشر أواق وطبق بين يديه وذلك أربعمائة وما روى أن عبد الرحمن بن عوف تزوج امرأة على نواة من ذهب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أو لم ولو بشاة" والحق إن الإنكار على من زاد على المقدار الذي يناسب حاله وحالها لأنه من الإسراف المذموم لا عن مطلق الزيادة فإنها مباح وسئلت عائشة عن صداق النبي صلى الله عيه وسلم فقالت: ثنتا عشرة أوقية ونش قالت: والنش نصف أوقية وكان عمر على ما كان عليه مما ذكرناه عنه حتى احتج عليه في إباحة إغلاء إلا صدقة روي عنه أنه خطب الناس فحمد الله واثنى عليه ثم قال: لا تغالوا في صداق النساء فإنه لا يبلغني عن أحد ساق أكثر من شيء ساقه نبي الله صلى اله عيه وسلم أو سيق إليه إلا جعل فضل ذلك في بيت المال ثم نزل فعرضت له امرأة من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين كتاب الله أحق أن يتبع أو قولك قال: بل كتاب الله بم ذلك قالت: أنك نهيت الناس آنفا أن يغالوا في صداق النساء والله يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ

(1/290)


شَيْئاً} فقال عمر: كل أحدا فقه من عمر مرتين أو ثلاثا ثم رجع إلى المنبر فقال إني كنت نهيتكم أن تغالوا في صداق النساء فليفعل رجل في ماله ما شاء ثم تزوج أم كلثوم بنت علي وأصدقها أربعين ألفا وقد روي عن أم حبيبة أنها كانت تحت عبد الله بن جحش وكان رحل إلى النجاشي فمات وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بأرض الحبشة زوجها إياه النجاشي وأمهرها أربعة آلاف من عنده وبعث بها إلى النبي صلى الله عيه وسلم مع شرحبيل ابن حسنة وجهازها كله من عند النجاشي ولم يرسل إليها النبي صلى الله عيه وسلم بشيء وكان مهر أزواج النبي صلى الله عيه وسلم أربعمائة درهم وفي ترك إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي دليل على إباحة كثير إلا صدقة وقليلها.

(1/291)


في المفوضة
روي أن عبد الله بن مسعود أتى إليه في امرأة توفي عنها زوجها ولم يفرض لها صداقا ولم يدخل بها ترددوا إليه فلم يفتهم فلم يزالوا به حتى قال أني سأقول بريي لها صدقة نسئها لا وكس ولا شطط وعليها الدة ولها الميراث فقام معقل بن سان فشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بينت وأشق بمثل ما قضيت ففرح عبد الله وخرجه من طرق كثيرة في بعضها فقال الجراح وأبو سنان فشهدا أن رسول الله صلى الله عيه وسلم فضى به في بروع الأشجعية وكان زوجها هلال بن مروان وفي بعضها لها صداق مثلها وفي بعضها أنه رددهم شهرا وفيه أنه قال إن يك صوابا فمن الله وإن يك خطأ فمني فيه جواز التزويج بغير تسمية مهر كما يقوله أبو حنيفة والثوري وأصحاب أبي حنيفة والشافعي خلافا لمالك فإنه يفسخ في حال حياتها وكتاب الله حجة لهم قال تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} ولا يقع الطلاق إلا في تمويج صحيح وكذا السنة وكذا دليل الإجماع فإنه لا خلاف

(1/291)


إن الميراث واجب للباقي منهما ولا ميراث إلا في تزويج صحيح وأجمعوا أنه إذا دخل بها لم يفسخ والدخول لا يصلح العقد الفاسد فعلم أن التزويج يقوم بنفسه لا بالصداق ثم وجدنا الصحابة قد أجمعوا على صحة العقد إذا وقع كذلك وعلى وجوب الميراث فيه واختلفوا في وجوب الصداق بعد الموت فقال بعضهم لها الصادق على الزوج إن كان حيا وفي تركته إن كان ميتا منهم ابن مسعود وقال بعضهم لا صداق لها منهم علي وابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت والقياس يوجب لها الصداق لأنه تابع للعدة فلا يجب لها كاملا إلا حيث تجب عليها العدة ألا ترى أنه يجب بعد الدخول سمى أو لم يسم في الموت والطلاق كما تجب العدة ولا يجب قبل الدخول في الطلاق إلا نصفه إن سمى فوجب أن يجب جميعه في الموت قبل الدخول سمى أو لم يسم كما تجب العدة فيه قيل والصحيح عن مالك أن نكاح التفويض جائز إنما خلافه في التزويج على أن لا صداق لها.
ثم ما في الحديث من القضاء لها بصداق نسائها المعقول أنهن نساء عشيرتها ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ} فكان أولائك النساء هن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم ونساء من دعى إلى المباهلة لا من سواهن فكذلك نساء المرأة المرجوع إلى صدقاتهن فيما يجب لها فيه صداق مثلها وهذا معنى قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وقال ابن أبي ليلى هن اللائي من قبل أبيها عماتها من الأب والأم أو من الأب وأخواتها الأعيانية والعلانية توخالاتها وقال مالك أمثلاها في منصبها وحمالها والذي دل عليه الحديث أولى ما قيل في ذلك وإدخال الحالات في ذلك لا معنى له إذ قد تكون المرأة من قريش وخالاتها إماء وقول مالك هو الذي يقع في القلوب قبوله لولا ما روي عن رسول الله صلى الله عيه وسلم مما يخالفه واعتبرناه فوجدنا فيه مراعاة أحوال المرأة التي يرغب فيها من أجلها وهي جمالها وعقلها وكذا ما يرغب فيها لأجله من حسبها وبيتها التي هي منها وآباؤها الذين يرغب فيها من أجلهم وإذا اعتبر في الحيض نساؤها الذي قد تختلف فيه

(1/292)


المرأة وأمها وأختها كان اعتبار ذلك في الصداق أولى وأحرى قال القاضي واعتبار مالك بصداق أخواتها وعماتها إذا كن مثلها في العقل والجمال والمال فإن كان أبو حنيفة والشافعي يخالفانه في ذلك ويوجبان لها صداق مثل نسائها وإن كن على خلاف حالها في العقل والجمال والمال فهو بعيد خارج عن السنة.

(1/293)


في نكاح الموهوبة
روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت: يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك, فقامت قياما طويلا فقام رجل, فقال: يا رسول الله زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة الحديث إلى قوله: "قد زوجتكها بما معك من القرآن" في غير رواية مالك لهذا الحديث زيادة تقتضي التفويض إلى النبي علي الصلاة والسلام في أن يزوجها بمن رأى ولذلك زوجها من السائل دون أن يستأمرها في ذلك وهو ما روي أنها قالت: إني قد وهبت نفسي لك يا رسول الله فر فيها رأيك وفيما خاطبت به هذه المرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم من إطلاقها له وتزويجه إياها من غيره بذلك ما قد استعمله أهل العلم في المضارب الممنوع من دفع المال إلى غيره إلا أن يقول له أعمل فيه برأيك فيحل محله ويعمل فيه ما كان يعمل فيه رب المال ويكون له من ربحه ما يجعله له منه وعن هشام بن عروة عن أبيه قال كان يقال أن خولة ابنة حكيم وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وكانت من المهاجرات الأول قالت عائشة كنت إذا ذكرت قلت: إني لأستحيي امرأة وهبت نفسها لرجل بغير مهر وكانت من غير النساء وفيها نزلت: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} قلت يا رسول الله إن ربك ليسارع في هواك وفيما روى عنه عن عائشة أنها كانت تقول: ما تستحيي امرأة تهب نفسها لرجل حتى أنزل الله {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ} الآيات الثلاثة قلت: إن ربك ليسارع في هواك إذا وهبت المرأة نفسها لرجل وتملكه بضعها وقبل ذلك منها بمحضر من شهود بذلك كان تزويجا فإن سمى لها مهرا كان لها ما سمى وإلا فلها مهر مثلها وإن

(1/293)


طلقها قبل الدخول بها كانت المتعة لها عليه وهو قول أبي حنيفة وسفيان الثوري وسائر أصحاب الإمام وعن بعضهم إذا وهب ابنته الصغيرة لرجل ليحضنها أو ليكفلها على وجه النظر لها كان جائزا وإن وهبها بصداق ذكره كان ذلك نكاحا إذا أراد بالهبة النكاح وممن قال بذلك عبد الرحمن بن القاسم على معاني قول مالك وعن بعض العلماء إن النكاح لا ينعقد إلا بلفظ النكاح والتزويج وهو قول الشافعي فنظرنا فيما اختلفوا فيه فوجدنا قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} الآية فجعل الله تعالى تلك الهبة للنبي عليه الصلاة والسلام نكاحا ثم أعقب ذلك بقوله: {خَالِصَةً لَكَ} فاحتمل أن يكون الخلوص بجعل الهبة نكاحا خاصة ويحتمل أن يكون الخلوص في جعل الهبة له نكاحا بلا صداق كمذهب أبي حنيفة والثوري وابن القاسم على معاني قول مالك والآية على عمومها له ولغيره إلا ما أجمع عليه من التخصيص منها وذلك كون الهبة انكاحا بال صداق وقول الشافعي بأن النكاح لا يكون إلا بما سماه الله تعالى به وهو النكاح والتزويج يقال له بأن الله تعالى ذكر في كتابه الطلاق والسراح والفراق وبالإجماع لا يتخصص الطلاق بهن دون ما سواهن مما هو في معناه كالخلع والبرية والخلية والبائن والبتة والحرام ثم هبة الزوج امرأته لنفسها إذا أراد بذلك الطلاق يقوم مقام الطلاق منه لها فكذا هبتها بضعها له يكون ذلك كالنكاح الذي تعقده له على بضعها فتكون الهبة في كل واحد منهما لصاحبه في حكم التمليك يكون نكاحا يملك به الرجل امرأته ويكون طلاقا تملك به المرأة نفسها وسئل سعيد بن المسيب عن رجل بشر بجارية فقال له رجل من القوم هبها لي فوهبها له فقال سعيد لم تحل الهبة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أصدقها سوطا لحلت له يعني لو سمى لها مهرا في تلك الهبة ولو سوطا حلت له فدل ذلك أن الهبة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اختص بها كانت عنده على الهبة التي لا صداق عليه فيها وإن من سواه في الهبة يكون بها ناكحا بصداق كما يجب عليه في تزويج لو وقع بلا صداق ذكر فيه وفي حديث عائشة إني

(1/294)


لاستحيى امرأة تهب نفسها لرجل بغير مهر لم تقصد بذلك الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم بل عمت به الرجال إذ كان ذلك خرج مخرج النكرة ففيه ما دل على أن الخصوصية إنماكانت في كونها زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم بلا صداق وإن الهبة تكون تزويجا لغير النبي صلى الله عليه وسلم غير أنها تكون لغيره تزويجا بصداق يجب معها وما روى عن ابن عباس لم تكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له ليس فيها ما يعارض ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أتى بالجونية قال لها: "هبى لي نفسك" فقالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة؟ فأهوى بيده إليها فقالت: أعوذ بالله منك فقال: "قد عذت بمعاذ" ثم خرج فقال: "يا أبا أسيد اكسها رازقيتين وألحقها بأهلها" لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن دخوله على تلك المرأة إلا وهي زوجة له قبل ذلك وعلى ذلك جاء أبو أسيد بها وكان قوله لها بعد ذلك "هبي لي نفسك" على معنى ملكيني نفسك لا على استئناف تزويج يعقده عليها وكيف يظن ذلك وفي شرعه حرمة الخلوة بالأجنبية يؤيده أنه صلى الله عليه وسلم خرج عنها على الطلاق منه لها والفراق منه إياها ولا يكون ذلك إلا عن تقدم تزويجه إياها.

(1/295)


في إجابة الدعوة
روي عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شر الطعام طعام الوليمة يدعى إليه الأغنياء ويترك الفقراء ومن لم يأت الدعوة فقد عصى الله ورسوله" الأطعمة أصناف ومنها الوليمة ومنها الخرس وهو إطعام عند الولادة ومنها طعام الأعذار وهو ما يطعم عند الختان ومنها طعام الوكيرة من الوكر وهو ما يطعم إذا بنى دارا أو اشتراها ومنها طعام النقيعة عند القدوم من سفره ومنها طعام الهضيمة وهو طعام المأتم ومنها طعام المأدبة وهو طعام الدعوة والدعوة المرادة في الحديث هي الوليمة فقط بذكر ما وصفت به وإنما افترقت الوليمة من غيرها في وجوب الإتيان إليها لقول رسول الله

(1/295)


صلى الله عليه وسلم لابد للعرس من وليمة وقوله لعبد ارحمن أو لم ولو بشة ولقوله الوليمة حق والثاني معروف والثالث سمعة ورئاء ففي أول يوم محمود عليها أهلها وفي الثاني معروف لأنه قد يصل إليها من عسى أن يكون قد وصل إليها في اليوم الثاني ولم يصل إليها في اليوم الأول وفي الثالث رئاء وسمعة فمن دعى إلى الحق يجب عليه الإجابة ومن دعى إلى المعروف فله أن يجيب ومن دعى إلى الرئاء فعليه أن لا يجيب فعلم أن من الأطعمة التي يدعى إليها ما للمدعوا إليه أن لا يأتيه وما روى عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعا أحدكم أخاه لحق فليأته لدعوة عرس أو نحوه" يحتمل أن يكون قوله: "لدعوة عرس ونحوه" ليس من كلامه صلى الله عليه وسلم يؤيده إن مداره على ابن عمر وليس فيه هذه الزيادة وإنما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجيبوا الدعوة إذا دعيتم لها"
فاحتمل أن تبكون تلك الدعوة المرادة في هذه الآثار هي الوليمة المذكورة فتتفق الآثار كلها ويؤيد ذلك أيضا ما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعى أحدكم إلى الوليمة فليأتها" وحديث جبار مرفوعا: "إذا دعى أحدكم فلجيب فإن شاء أطعم وإن شاء ترك" محتمل أيضا أن يراد به طعام الوليمة لا ما سواه وقد روى أن عثمان بن أبي العاصي دعى إلى ختان فأبى أن يجيب وقال كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نأتي الختان ولا ندعي إليه فدل أن على الطعام الذي كانوا يأتونه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو طعام خاص ولما كان طعام الوليمة مأمورا به كان من دعى إليه مأمورا بإجابته وغيره غير مأمور به فكان من دعى إليه غير مأمور بإتيانه وأما ما روي عبد الرحمن بن زياد المعافري عن أبيه أنه ضمهم وأبا أيوب الأنصاري مرسي في البحر فلما حضر غداؤنا أرسلنا إلى أبي أيوب الأنصاري وإلى أهل مركبه فقال: دعوتموني وأنا صائم فكان من الحق على أن أجيبكم أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1/296)


يقول: "للمسلم على أخيه المسلم ست خصال إذا دعاه أن جيبه وإذا لقيه أن يسلم وإذا عطس شمته وإن عطش يسقيه وإذا مرض أن يعوده وإذا مات أن يحضره وإذا استنصح نصحه" فيحتمل أن يكون في ذلك كما ذكر ويكون إلا حسن بالمدعو أن لا يتخلف عنه ويكون حضور بعضهم مسقطا لما على غيرهم منه كحضور الجنازة ويحتمل أن يكون ذلك على ما يجب على الناس في أسفارهم مع إخوانهم من الزيادة في برهم والانبساط إليهم والجود عليهم أكثر مما في الحضر وما ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون أراد به إجابة دعو الوليمة لا غير فلم يبق لنا في شيء مما روينا وجوب إتيانه من الطعام المدعو إليه غير طعام الوليمة.

(1/297)


في ما يوجب ترك حضورها
روي عن عائشة رضي الله عنها أن جبريل احتبس عن النبي عليه السلام ثم أتاه فقال: "ما حبسك؟ " قال: "جرو في بيتك" فنظر فإذا جرو تحت السرير فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فأخرج وفي غير هذا الديث أن جبريل قد كان تقدم وعده للنبي عليه السلام أن يأتيه في ساعة فاحتبس عنه فيها ثم كان منه الكلام المذكور وروي "أنه صلى الله عليه وسلم لما ذهبت الساعة التي وعده جبريل أن يأتيه فيها خرج فإذا جبريل واقف على الباب فقال: "ما منعك أن تدخل البيت؟ " قال: "إن في البيت كلبا وإنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة" فأمر صلى الله عليه وسلم بالكلب فأخرج ثم أمر بالكلاب أن تقتل ووعد جبريل لا يمكن الخلف فيه وإنما منعت الشريعة إياه عن الدخول" فيه فكان ذلك بالشريعة مستثنى من وعده معنى فمثل ذلك من يعد الرجل بالجلوس عنده في منزله لأمر ويكون في ذلك الوقت في منزله ما تمنعه الشريعة من دخوله من شرب خمر أو ما سواه من المعاصي التي لا تبيح الشريعة حضورها فلا يدخل في تخلفه ذلك في حكم من وعد فأخلف وسئل النخعي عمن يعد رجلا أن ينتظره متى ينتظره

(1/297)


قال: إلى أن يحضر وقت صلاة فهذا مثل ما ذهبنا إليه ومثله من الفقه من يدعى إلى الوليمة فيأتيها فيجد فيها لهوا لو وجده في غيرها لم يصح له الجلوس فيها قال بعضهم: لا يضره الجلوس لأنه جلوس لما قد أمر به وإن كان علم قبل الحضور لا يمنتنع من الحضور إذ كانت مما أمر به وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف وعن محمد خلاف ذلك وهو الأولى لأن المأمور به إتباع السنة والسنة تنهى عن مثل هذا فالنهي الذي فيها مستثنى من الأمر الذي أمر به فيها معنى واحتج لهما بما روي عن نافع قال: كنت مع ابن عمر فسمع صوت زمارة راع فوضع أصبعيه في أذنيه وعدل عن الطريق ثم قال هل تسمع شيئا فقلت ما أسمع شيئا ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا فكما امتنع صلى الله عليه وسلم أن يدخل إذنه شيء من الصوت المكروه وإن كان في طريق له الاختيار في سلوكها فكذلك القعود مباح طرأ عليه فيه أمر مكروه فلا يمنعه من القعود عند سماع ما نهى عن سماعه ولقائل أن يقول بينهما فرق لأن المرور بالطريق ليس بفرض عليه بل يفعله اختيارا والاختيار لا يخالطه نهي وهنا الحضور فرض عليه فاحتمل أن يكون الطارئ لا يدفع فرضه فكان الذي دل على رفض فرضه عنه هو ما في الحديث الذي ذكرناه اما في هذا الحديث.

(1/298)


في من لا يجوز الجمع بينهم
عن ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يجمع بين العمة والخالة وبين الخالتين وبين العمتين" ما في هذا الحديث من النهي عن الجمع موافق لما روي عنه من نهيه عن الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها لأن كل واحدة منهما لو كانت رجلا لم يحل له التزوج بالأخرى فلم يصلح أن يجمع بينهما بتزويج وذهب بعض إلى أن معنى الجمع بين العمتين وبين الخالتين إنما كان لأن إحداهما سميت باسم الأخرى بالمجاورة كما قيل العمران لأبي بكر وعمر ولا يحمل الكلام على هذا إلا عند الضرورة إليه ولا ضرورة وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه نهى أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها ونهى أن تنكح على ابنة أخيها أو ابنة أختها نهي أن تنكح الكبرى على الصغرى أو الصغرى على الكبرى" ومعنى ذلك عندنا والله أعلم على الكبرى وعلى الصغرى في النسب كما قيل في الولاء الولاء للكبر يراد بذلك الكبر في النسب.

(1/298)


في القسم بين الزوجات
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله عند قسمه بين أزواجه بالعدل بينهن: "اللهم إن هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" هذا على جهة الإشفاق والرهبة مما يسبق إلى قلبه مما قد يستطيع رده عنه مع قربه من غلبته عليه من ميله إلى بعضهن أكثر من غيرهن كما علم حصينا الخزاعي أن يدعو به الله أن يغفر له ما أخطأ وما تعمد مع أن الخطأ غير مأخوذ به لما خاف عليه أن يكون لقربه مما تعمده وكفى مما يلزمه في العدل بين نسائه ما في تاب الله من وقله تعالى ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء الآية وروى مرفوعا من كانت له زوجتان فمال مع إحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل أو قال: ساقط.

(1/299)


في ما أحل له من النساء
روى عن عائشة وأم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى أحل له من النساء ما شاء بقوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} إن الله تعالى قصره على أزواجه اللائي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة وحرم عليه أن يتزوج سواهن ثم أباح بقوله تعالى: {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} ليشكر له قصر نفسه عليهن اختيار إلى أن مات بعد أن كان واجبا عليه بقوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} الآية وبطل قول من قال أن المحرمات ذوات المحارم لذكرها عقيب المحللات له من بنات عمه وعماته وخاله وخالاته وإن ل أن يتزوج سواهن من شاء لأنه يرده قول عائشة

(1/299)


وأم سلمة لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له من النساء ما شاء إذ لا يصح أن يحل له ذوات المحارم وكذلك بطل قول من قال أن المحرمات عليه اليهوديات والنصرانيات استدلالا بنعت المحللات له بالهجرة والإيمان لأنه لو حل الكتابيات له لعدن أمهات المؤمنين وقيل المحرمات عليه بالآية المذكورة من ليس منهن من ذوات رحمه استدلالا بقوله: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} وهو فاسد لأنه لو كان كذلك لم يكن من أزواجه من يخرج عن هذه الصفة وقد خرج عنها زينب وجويرية وميمونة لأنهن غير قرشيات وليس لهن منه صلى الله عليه وسلم أرحام من قبل أمهاته وصفية لأنها ليست من قريش ولا من العرب وإنما هي من أهل الكتاب وعن عطاء قال: شهدت جنازة ميمونة مع ابن عباس فقال هذه زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع وكان يقسم اسقاط لثمان ولا يقسم لواحدة والتي لا يقسم لها صفية الحق أن المرأة التي لم يقسم لها سودة لا صفية يدل عليه ما روي عن ابن عباس قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده تسع نسوة يقسم لهن إلا سودة فإنها وهبت يومها وليلتها لعائشة وكان ذلك بطيب نفسها إذ كان من سنته العدل بين نسائه وتحذيره أمته خلاف ذلك.

(1/300)


في العزل
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من كراهيته عزل الماء عن محله في العشرة الأشياء التي كان يكرهها على ما جاء في حديث ابن مسعود وفيما روت عائشة عن جذامة قالت: ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم العزل فقال: "ذلك الوأد الخفي" حذامة بالذال لامعجمة وقيل بالمهملة وروي عن أبي سعيد الخدري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل فقال: يا رسول الله إن عندي جارية وأنا أعزل عنها وأنا أكره أن نحمل وأشتهي ما يشتهي الرجال وأن اليهود يقولون: هي الموؤدة الصغرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(1/300)


"كذبت يهود لو أن الله أراد أن يخلقه لم تستطع أن تصرفه".
وذكره من طرق في بعضها لما أصبنا سبى خيبر سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل فقال: "ليس من كل الماء يكون الولد وإذا أراد الله عز وجل أن يخلق شيئا لم يمنعه شيء" يحتمل أن يكون المذكور في رواية جذامة على ما كان عليه من الاقتداء بشرائع من قبلنا ما لم يحدث لذلك ناسخ ولعله قد كاشفهم عن ذلك كشفا هو في كتابهم فكذبوا كما فعلوا في آية الرجم ثم أعلمه الله تعالى بكذبهم فأعلم بذلك أمته وأباح العزل على ما في حديث أبي سعيد ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله أن يخلق شيئا لم يمنعه شيء" يعني أن الله تعالى بلطيف قدرته إذا شاء خلق الولد يوصل إلى الرحم من النطفة مع العزل ما يكون منه ولد وإن لم يشأ لم يكن ولد وإن وصل الماء كله إلى الرحم فالولد مخلوق بالقدرة عزل أو لم يعزل وذهب قوم إلى أن في النطفة روحا فكان العزل إتلافا للروح فجعله وأدا ولكن الله تعالى قد أوضح الوقت الذي يكون فيه الحياة في المخلوق من النطفة بقوله: {ثمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} فقبل ذلك ما ثمة فيها روح لأنه ميت كسائر الأشياء التي لا حياة لها يؤيده أنه لما اختلف الصحابة فيه فقال عمر: قد اختلفتم وأنتم أهل بدر الأخيار فكيف بالناس بعدكم فتناجى رجلان فقال ما هذه المناجاة فقال أن اليهود تزعم أنها المؤودة الصغرى فقال على أنها لا تكون مؤودة حتى تمر بالتارات السبع في {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} الآية فعجب عمر من قوله وقال: جزاك الله خيرا وروى هذا عن ابن عباس أيضا.

(1/301)


في إتيان دبر النساء
روى عن ابن عمر أن رجلا أتى امرأة في دبرها فوجد من ذلك في نفسه وجدا شديدا فأنزل الله {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} وعن ابي سعيد أن رجلا أصاب امرأته في دبرها فأنكر الناس ذلك عليه

(1/301)


فأنزل الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} الآية استدل قوم بهذا على الإباحة ولكن تأملنا ما روي عن جابر بن عبد الله أن اليهود قالوا من أتى امرأة في فرجها من دبرها خرج الولد أحول فأنزل الله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} وعنه أن اليهود قالت إذا نكح الرجل امرأة مجبية خرج ولدها أحول فأنزلت إلى قوله: {أَنَّى شِئْتُمْ} إن شئت مجبية وإن شئت غير مجبية إذا كان ذلك في صمام واحد وروي عنه أن اليهود قالوا للمسلمين من أتى امرأته وهي مدبرة جاء ولده أحول فأنزل الله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} مقبلة ومدبرة ما كان في الفرج فكان في هذه الآثار توقيف رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ما في هذه الآية مما أطلق للناس هو الفرج لا غير وصار الوطء في الدبر محظورا وقيل في سبب نزولها غير ما ذكر على ما روى عن ابن عباس أنه قال جاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هلكت قال: "وما أهلكك؟ " قال: حولت رحلي البارحة فلم يرد عليه شيئا فأوحى الله إليه هذه الآية {أَنَّى شِئْتُمْ} "أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة".
وعن ابن عباس أن ناسا من حمير أتوا النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه عن النساء فانزل الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيتها مقبلة ومدبرة إذا كان في الفرج" وعن ابن عباس أنه حمل الآية على خلاف ما ذكرنا على ما روى زائدة قال: سألت ابن عباس عن العزل فقال: قد أكثرتم فإن كان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيئا فهو كما قال وإن لم يكن قال فيه فأنا أقول: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} الآية فإن شئتم فاعزلوا وإن شئتم فلا تعزلوا أي ذلك شئتم فعلتم فلا بأس.
وقيل لنافع قد كثر القول عنك أنك تقول عن ابن عمر أنه أفتى أن تؤتى النساء في أدبارهن فقال نافع كذبوا علي ولكن ابن عمر عرض المصحف وأنا عنده حتى بلغ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} الآية فقال: يا نافع هل تعلم منها شيئا قلت: لا قال: إنا كنا معشر قريش نجبي النساء فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء

(1/302)


الأنصار أردنا منهن مثل الذي كنا نريد فإذا هن قد كرهن ذلك وأعظمنه فأنزل الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} الآية وما روى أن سعيد بن يسار سأل ابن عمر عن ذلك فقال: لا بأس لا يكاد يصح لأنه روى أن سعيدا قال لابن عم: ر ما تقل في الجواري أيحمض لهن قال: وما التحميض فذكر الدبر فقال: وهي يفعل ذلك أحد من المسلمين؟
وروي عن عبد الله بن حسن أنه سأل سالم بن عبد الله أن يحدثه بحديث نافع عن ابن عمر أنه كان لا يرى بأسا بإيان النساء في أدبارهن فقال سالم كذب العبد أو أخطأ إنما قال لا بأس أن يؤتين فروجهن من أدبارهن وروي مرفوعا: "من أتى امرأة حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد" وروى "لا ينظر الله عز وجل إلى رجل وطئ امرأة في دبرها" وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هي اللواطة الصغرى" يعني وطء النساء في أدبارهن ثم رجعنا إلى تأويل قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} فوجدنا الحرث يطلب به النسل ولا يكون ذلك إلا بالوطء في الفرج فالذي أبيح فيها هو ما يكون عنه النسل لا غير.

(1/303)


في تأديب الزوجة
روي عن عاصم بن لقيط بن صبرة قال قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وصاحب لي فذكر صاحبي بذاءة امرأته وطول لسانها, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طلقها" فقال: إنها ذات صحبة وولد, فقال: "قل لها فإن يكن فيها خير فستقبل ولا تضرب ظعينتك ضربك أمتك" يحتمل أنه أراد به يضربها ضربا دون ذلك لأن الضرب مباح بالآية وعن ابن عباس أن رجالا استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضرب نسائهم فأذن لهم, فسمع صوتا فقال: "ما هذا؟ " فقالوا: أذنت للرجال في النساء, فقال: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" وعن عمر أنه أراد أن يضرب امرأته في بعض الليالي فقام الأشعث وكان ضيفه فحجز بينهما فرجع ثم قال: يا أشعث احفظ عني شيئا سمعته من

(1/303)


رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسأل رجلا فيما يضرب امرأته وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "اهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح" فعلم أن الضرب المنهي هو الضرب المبرح لا غير.

(1/304)


في وطء المسبية المشركة
روي عن إياس بن سلمة عن أبيه قال: أمر علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فغزونا فزارة فلما دنونا من الماء أمرنا أبو بكر فعرسنا فصلى بنا الغداة ثم أمر فشننا الغارة فوردنا الماء فقتلنا من قتلنا به ثم انصرف عنق من الناس فيهم النساء والذراري قد كادوا أن يسبقونا إلى الجبل فطردت بسهم بينهم وبين الجبل وعدوت فوقفوا حتى حلت بينهم وبين الجبل وجئت بهم أسوقهم وفيهم امرأة من بني فزارة عليها نسع من أدم معها بنت لها من أحسن العرب فسقتهم إلى أبي بكر فنفلني أبو بكر ابنتها فلم أكشف لها ثوبا حتى قدمت المدينة فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: "يا سلمة هب لي المرأة" فقلت: يا نبي الله لقد أعجبتين وما كشفت لها ثوبا فسكت عني حتى كان من الغد لقيني فقال لي: "يا سلمة هب لي المرأة لله أبوك" فقلت: والله ما كشفت لها ثوبا وهي لك يا رسول الله قال: فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فدى بها أسرى من المسلمين كانوا في أيدي المشركين في قوله: لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوبا, ما يدل على أن وطأها كان حينئذ يحل له لأنه لم ينكر عليه ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن منها إسلام بدليل رد النبي صلى الله عليه وسلم إياها للمشركين في المفاداة يؤيده أحاديث أبي سعيد في سبايا أوطاس لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل فقال: "لا عليكم أن لا تفعلوا فإن الله قد كتب من هو خالق إلى يوم القيامة"
وقيل كان في غزوة بني المصطلق قبل أوطاس بسنتين في ست من الهجرة وكان هذا قبل نزول تحريم المشركات بقوله: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} وكن حلالا للمؤمنين مع ما هن عليه من عبادة الأوثان وإنما

(1/304)


حرمن عليهم عام الحديبية حين جاءت أم كلثوم ابنة عقبة بن أبي معيط مع نسوة مؤمنات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} حتى بلغ {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} فطلق عمر امرأتين مشركتين كانتا له فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية فبقاء عمر على المشركين حتى أنزل التحريم دليل على حل نكاح الوثنيات يومئذ فكما كان تزويجهن حلالا كان وطؤهن بالملك أيضا حلالا إلى أن حرم وطء المسبيات منهن ثم أنزل الله تعالى ما أحل من الكافرات وهو قوله: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الآية وبقي ما عداهن على التحريم.
ومنه ما روي عن أبي سعيد الخدري قال أصبنا يوم أوطاس سبيا ولهن أزواج فكرهنا أن نقع عليهن فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنزلت: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فاستحللناهن اختلفت الصحابة في المراد بهذه المحصنات فروى عن علي أنه المشركات إذا سبين حللن به.
وقال ابن مسعود المشركات والمسلمات فتأول علي رضي الله عنه في المستثنى من المحصنات أنهنن المسبيات المملوكات بالسبي وتأول ابن مسعود أنهن المملوكات بالسبي وبما سواه ومن أجله كان يقول بيع الأمة طلاقها تابعة جماعة من الصحابة وعن ابن عباس في تأويل هذه الآية قال: "لا يحل لمسلم أن يتزوج فوق أربع فإن فعل فهي عليه حرام مثل أخته وأمه" فالمحصنات على تأويله هذا هن الأربع اللائي يحللن للرجل دون من سواهن وعنه أنه قال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} هن ذوات الأزواج.
فاحتمل أن يكون موافقا لعلي وأن يكون موافقا لابن مسعود ومعنى الحديث أن النساء اللاتي نزلت فيهن هذه الآية هن اللاتي سبين دون أزواجهن فأما المبيات مع أزواجهن فإنهن عندنا لا يبن بالسبي كذلك كان يقول

(1/305)


أبو حنيفة وأصحابه وإنما التفريق بتباين الدار وتباين لا بالسبي لأنهم لو خرجوا إلينا بأمان لكانوا على نكاحهم ولوخرجوا بذمة مراغمين لأهلهم متمسكين بأديانهم كانوا على نكاحهم وإن ملكناهم بوقوع أيدينا عليهم بذلك ولو جاءنا أحدهما كذلك وخلف صاحبه في دار الحرب انقطع النكاح الذي بينهما بذلك فالسبي لهما أو لأحدهما في الحمكم كذلك ولا عدة عليهن إذا سبين دون أزواجهن فوقعت الفرقة بينهن وبين أزواجهن وإنما على مالكيهن استبراؤهن على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في السبايا من قوله: "لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير حامل حتى تحيض".
وفيهن ذوات الأزواج وغيرهن وتلقته العلماء بالقبول اتفاقا وما روى في حديث أبي سعيد هذا من رواية أبي علقمة الهاشمي عنه أنه قال مكان فاستحللناهن أي هن لكم حلال إذا مضت عددهن يحتمل أن يكون من قول بعض رواته فكان ما أجمع عليه العلماء أولى من ذلك.

(1/306)


في نكاح العبد بغير إذن سيده
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: "أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر" سمي عاهرا بالتزويج لأنه سبب لدخول الذي به يصير زانيا وإن كان لا يحد للشبهة ولهذا تجب العدة ويثبت النسب وهذا كما روى أنه سمى الأشياء التي يوصل بها إلى الزنا بالزنا فقال العينان تزنيان واليدان تزنيان والرجلان تزنيان والفرج يزني وفي بعض الآثار ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه ونحوه ما روي أيما امرأة استعطرت ومرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية وكل عين زانية والله أعلم.

(1/306)


في كراهة التزوج على فاطمة
عن المسور بن مخرمة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أن بني هشام بن المغيرة استأذنوا في أن يكحوا إبنتهم علي بن أبي طالب

(1/306)


فلا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن إلا أن يريد علي بن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم فإنما هي بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها" وروي عنه أن عليا خطب بنت أبي جهل فأتت فاطمة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن قومك يتحدثون أنك لا تغضب لبناتك وإن عليا خطب ابنة أبي جهل فقال صلى الله عليه وسلم: "إنما فاطمة بضعة مني وإني أكره أن يسؤها" وذكر أبا العاص ابن الربيع فأحسن عليه الثناء وقال: "لا يجمع بين بنت نبي الله وبين ابنة عدو الله".
وفي حديث آخر ثم ذكر صهرا من بني عبد شمس فأثنى عليه في مصاهرته إياه قال: "حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي وإني لست أحرم حلالا ولا أحل حراما ولكن والله لا يجمع ابنة رسول الله وابنة عدو الله مكان واحد أبدا" فاحتمل أن يكون علي رضي الله عنه ظن عدم تأثر خاطر الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك فلما تبين له كراهيته أضرب عنه وترك مرضاة نفسه لمرضاة الرسول صلى الله عليه وسلم فحمد عليه أكثر من أبي العاصي لأنه ترك ما مالت إليه نفسه إيثارا وأبو العاصي ترك ذلك دون أن تميل إليه نفسه فكان حاله في ذلك دون حال علي وإنما لم يذكر عثمان مكان أبي العاصي لأنه كان نظير العلي لما لكل واحد منهما من السوابق التي ليست لأبي العاصي فذكره ليستوفي بذلك الحجة وهذا من أعلى مراتب الحكمة فيما خطب به مما أراد إسماع علي إياه ثم لما ترك علي ما هم به كان كأن لم يكن منه في ذلك شيء بل ازداد في رتبته وتمسكه برسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إيثاره إياه على نفسه وكيف يظن به غير ذلك وقد تقدم وعد الله عز وجل فيه بما أنزله في كتابه {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} من إدخاله الجنة مع من ذكر معه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ} الآية وهو مما لا يلحقه نسخ إذ هو لا يلحق الأخبار بل الأحكام التي تحول من تحليل إلى تحريم وضده ثم كان منه صلى الله عليه وسلم في غدير خم من قوله: "من كنت مولاه فعلى مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره" واخذل من خذله وذكر من فضائله كثيرا والله أعلم.

(1/307)


في الكحل للمتوفي في عنهاز وجها
روي عن أم سلمة أن امرأة توفي عنها زوجها ورمدت وخشوا على عينيها فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في الكحل وذكروا أنهم يخشون على عينها فقال له قد كانت إحداكن تمكث في شربيتها في إخلاسها أو في إحلاسها في شربيتها فإذا كان حول مركلب فرمت ببعرة فلا أربعة أشهر وعشرة
وفيما روى عنها أن ابنة النحام توفي عنها زوجها فأتت أمها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن ابنتي تشتكي عينها أفأكحلها فإني أخشى أن تنفقئ عينها, قال: "وإن انفقأت قد كانت إحداكن تمكث بعد وفاة زوجها حولا ثم ترمي من خلفها ببعرة" ففيه منع المعتدة من التكحيل مع خوف التلف وقد أباحه جميع أهل العلم للضرورة وفي اتفاثهم دليل على نسخ هذا الحكم إذ لا خفاء في عدم الخفاء على جميعهم ولا شك في عدم مخالفتهم الحديث الثابت فدل على أنهم اطلعوا على ناسخ بسببه تركوه إلى ما هو أولى منه ووجدنا في الآثار ما يدل على شيء من ذلك وهو ما روي عن أم حكيم ابنة أسيد عن أمها أن زوجها توفي وكانت تشتكي عينها فتكتحل بكحل الحلاء فأرسلت مولاة لها إلى أم سلمة فسألتها عن كحل الحلاء فقالت لا تكتحل إلا من أمر لابد منه فتكتحل بالليل وتمسحه بالنهار ثم قالت عند ذلك أم سلمة دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي أبو سلمة وقد جعلت على عيني صبرا فقال: "ما هذا يا أم سلمة؟ " قلت: يا رسول الله إنما هو صبر ليس فيه طيب فقال: "إنه يشب الوجه فلا تجعليه إلا بالليل وتنزعيه بالنهار ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب" قلت: بأي شيء امتشط يا رسول الله؟ قال: "بالسدر تغسلين به رأسك" 1 ففيه تجويز من أم سلمة تكحيلها عند الضرورة وهي قد سمعت ما يخالف ذلك فاستحال أن يكون إذنها إلا وقد علمت بنسخه من قبله صلى الله عليه وسلم لأنها مأمونة على ما قالت كما كانت مأمونة على ما روت.
__________
1 هكذا في الأصل وفي سنن النسائي وتغلفين به رأسك.

(1/308)