المعتصر من المختصر من مشكل الآثار

كتاب الرضاع
مدخل
...
كتاب الرضاع
روي عن الحجاج أنه قال: قلت: يا رسول الله ما يذهب عني مذمة الرضاع؟ قال: "الغرة العبد أو الأمة" لما كانت المرضعة كالأم في وجوب الحق عليه وحق الأب وهو دون حق الأم لا يجزي إلا أن يجد مملوكا فيشتريه فيعتقه والمرضعة لما كانت حرة لا يقدر على عتقها أمر أن يعوضها من ذلك بمن يقدر على عتقه فيكون فداء لها من النار ولم تجعل تلك النسمة كغيرها من النسم وجعلت من غررها أي أرفعها فقد روى عن أبي عمرو أنه قال لا يقبل في الدية عبد أسود ولا أمة سوداء لقول رسول الله صلى الله وسلم في الجنين "غرة عبد أو أمة" فلولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد ذلك لقال في الجنين: عبد أو أمة فلولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد ذلك لقال في الجنين عبد أو أمة وفيما ذكرناه ما قد دل على أن المرضع أن قدر على عتاق من أرضعه من الرق كان جازيا له وذهب عنه مذمة الرضاع به.

(1/320)


في الرضاع المحرم
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تحرم المصتان من الرضاع ولا المصتان مداره على عروة بن الزبير فمن رواته من رواه عنه عن عائشة ومنهم من رواه عنه عن عبد الله بن الزبير عن أبيه ولما كان الأمر على هذا ووجدنا عروة قد خالف ذلك فقال: مثل ما قال سعيد بن المسيب ما كان في لين وإن كان قطرة واحدة فهو يحرم وما كان بعد الحولين فهو طعام يأكله فعلم أنه مع شدة تمسكه بالحديث وكمال ورعه لم يترك ما روي عن عائشة

(1/320)


إلى خلافه إلا وقد ثبت نسخ ذلك عنده ويحتمل أن يكون نسخه عنده ما روى عن عائشة قالت: كان فيما أنزل من القرآن ثم سقط لا يرحم من الرضاع إلا عشر رضعات ثم نزل بعد أو خمس رضعات فثبت عنده سقوط ذلك من الأحكام بسقوطه من القرآن فإن قيل فقد روى عن غير عائشة وابن الزبير ما يوافق روايتهما وهو حديث أم الفضل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحرم إلا ملاجة ولا إلا ملاجتان" قلنا: إن من علم شيئا أولى ممن قصر عنه فما وقف عليه عروة مما أوجب نسخ هذا الحديث حجة على رواته.
فإن قيل: فقد روي عن عائشة أن الخمس رضعات توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ من القرآن فالجواب أن هذا مما رواه عبد الله بن أبي بكر وقد خالفه في ذلك القاسم ويحيى وهما أولى بالحفظ منه لو استوى معهما فكيف وهما أعلى مرتبة في العلم والحفظ مع أنه محال لأنه يلزم أن يكون بقي من القرآن ما لم يجمعه الراشدون المهديون ولو جاز ذلك لاحتمل أن يكون ما أثبتوه فيه منسوخا وما قصروا عنه ناسخا فيرتفع فرض العمل به ونعوذ بالله من هذا القول وقائليه مع أن جلة الصحابة على التحريم بقليل الرضاع وكثيره منهم علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وروى أن ابن عمر سئل عن المصة والمصتين فقال: لا تصلح فقيل له إن ابن الزبير لا يرى بها بأسا فقال يقول الله تعالى: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} قضاء الله أحق من قضاء ابن الزبير ثم فقهاء الأمصار جميعا على هذا القول من أهل المدينة وأهل الكوفة إلا قليلا منهم وروى عن عقبة بن الحارث قال تزوجت بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فزعمت أنها أرضعتني وإياها فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عني ثم سألته فأعرض عني ثم سألته فأعرض عني ثم قال: "كيف بك وقد قيل ذلك" ونهاني عنها فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الكشف عن كمية إعداد الرضاع دليل على استواء القليل والكثير في الحرمة إذ لو كان المصة والمصتان لا تحرم لما نهاه حتى يعلم أن ذلك الرضاع يقع به التحريم أم لا.

(1/321)


في وطء المرضعة
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: "لا تقتلوا أولادكم سرا فإن الغيل يدرك الفارس فيدعثره عن ظهر فرسه" حذر أمته إشفاقا على أولادهم من غير تحريم على ما كانت العرب تقوله وإن لم تنزل عليه في ذلك أمر ما يدل عليه ما روى عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره عشرا الصفرة وتغيير الشيب والتختم بالذهب وجر الإزار والتبرج بالزنية لغير محلها والضرب بالكعاب وعزل الماء عن محله وفساد الصبي غير محرمة وعقد التمائم والرقي إلا المعوذات فقوله: فساد الصبي يريد به الغيل وهو أن يجامع امرأته وهي ترضع وعن ابن عباس مرفوعا: نهى عن الاغتيال ثم قال: أنه لو ضر أحدا لضر فارس والروم فالنهي تنزيه كالشرب قائما لما خاف من ضرره على شاربه يؤيده ما روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لقد هممت أن أنهي عن الغيلة حتى ذكرت الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم" فأطلق لأمته ما كان حذرهم إياه لما وقف على أن ذلك لا يضر وقد كان بقيت بقية منه في قلوب العرب روي عن عطية بن جبير عن أبيه قال: مات ذو قرابة لي وترك له غبنا فأرضعته امرأتي فحلفت أن لا أقربها حتى يفطم الصبي فلما مضت لي أربعة أشهر قيل لي قد بانت امرأتك فسألت عليها فقال: إن كنت حلفت على تضرة فقد بانت منك وإلا فهي امرأتك وإليه ذهب مالك بن أنس سئل عمن ترك امرأته وهي ترضع حتى تفطم فأبت ذلك عليه وطلبت منه وطئه إياها فقال: لا أرى لها في ذلك حجة ولا يقضي عليه بالوطء كانت فيه يمين أولا وخالف ذلك جماعة منهم أبو حنيفة وأصحابه فجعلوا موليا إن حلف أن لا يقربها حتى تفطم إذا كان بينه وبين تمام الحولين أربعة أشهر فصاعدا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرم الجماع في الرضاع وإنما كرهه إشفاقا ثم أطلقه وزعم الليث بن سعد أن قوما يقولون: الغيل هو جماع الحامل لا جماع المرضع والحق

(1/322)


خلافه لأن العرب قد ذكرته في اشعارها ففخرت به نساؤها والعرب تقول ما حملته أمه وضعا ولا أرضعته غيلا ولا وضعته تيما ولا أباتته ميقا.
ومنهم من يقول: ماحملته أمه تضعا يعني ما حملته على حيض ولا أرضعت غيلا يعنون أن وطئت وهي ترضع ولا وضعته تينا يعني أن يخرج رجلاه قبل يديه في الولادة يقال منه مؤتن للمرأة التي ولدته كذلك وللولد موتن قوله: ولا أباتته ميقا يريدون شدة البكاء وقد روى في إباحة وطء المرضع أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعزل عن امرأتي, فقال: "لم؟ " قال: شفقا على الولد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن كان كذلك فلا ما كان ضارا فارس والروم" قوله: "أنه ليدرك الفارس فيدعثره" يقول: يهدمه ويطحطحه بعد ما صار رجلا قد ركب الخيل.

(1/323)


في الإيلاء
روى ابو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من استلجج بيمين على أهله فهو أعظم إثما" يعني أعظم إثما ممن سواه من الحالفين أو أعظم إثما من حنثه فاكتفى صلى الله عليه وسلم لعلمه أنهم قد فهموا ذلك عنه مما خطبهم به لأنهم قوم عرب خاطبهم بلسانهم كمثل ما جاء في القرآن ولولا فضل الله عليكم ورحمته {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} واكتفى بذلك عن الجواب لفهمه من فحوى الكلام لأن من حلف على زوجته أن لا يقر بها فقد منعها منحقها فهو في استلجاجه في ذلك وتماديه عليه آثم فيجب عليه الرجوع عن يمينه بالفئ عليها قال تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ذكر الرحمة والغفران لرجوع الفائي عن منعه الحق الذي هو عليه ولم يذكر ذلك في عزم الطلاق لأنه في عزمه متماد في استلجاجه في منع الحق الذي عليه ويقرب من هذا ما روي مرفوعا قال: "من حلف على قطيعة رحم أو معصية فحنث" فذلك كفارة يريد أن حنثه كفارة من الذنب وعليه كفارة اليمني وكذلك معنى الحديث أن الواجب عليه أن يكفر عن يمينه ولا يستلج في التمادي على الامتناع والله أعلم.

(1/323)


في الحضانة
عن علي بن أبي طالب قال: لما أصيب حمزة خرج زيد بن حارثة حتى أقدم ابنة حمزة وقال: أنا أحق بها تكون عندي تجشمت السفر وهي ابنة أخي وقال علي: أنا أحق بها فإنها ابنة عمي وعندي ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال جعفر بن أبي طالب: أنا أحق بها في مثل قرابتك وعندي خالتها والخالة والدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أقضي بينكم في ذلك وفي غيره" قال علي: فتخوفت أن يكون قد نزل فينا قرآن لرفعنا أصواتنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أنت يا زيد فمولاي ومولاها" فقال: رضيت رسول الله "وأما أنت يا علي فصفيي وأميني وأنت مني وأنا منك" "وأما أنت يا جعفر فأشبهت خلقي وخلقي وأنت من شجرتي التي أنا منها وقد قضيت بالجارية تكون مع خالتها" قالوا: رضينا يا رسول الله.
ظن بعض الناس أن أهل العلم تركوا هذا الحديث الصحيح في قولهم: أن الحاضنة إذا كان لها زوج غير ذي محرم من المحضون لم تكن لها حضانة وليس كذلك بل استعملوه من حيث لم يشعر لأن المحضون إذا لم تكن له من النساء مستحقة تعود الحضانة إلى العصبات فلما عادت حضانة ابنة حمزة إلى عصبتها وجعفر منهم كانت خالتها حق بها لان الحضانة إن لم تكن لها رجعت إلى زوجها فصارت الخالة في هذه الحالة بمنزلة من كان زوجها محرما من المضحون فكانت أحق بها منه.
ومنه ما روي عن أبي هريرة أنه أتى في غلام بين أبوين فقال: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم أتى بغلام بين أبوين فقال: "يا غلام هذه أمك وهذا أبوك اختر" احتج به من قال بالتخيير وهو مذهب أهل الحجاز إلا أن في الحديث زيادة في غير هذه الرواية قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:

(1/324)


إن زوجي يريد أن يحول بيني وبين ابني وكان قد طلقها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسهما عليه" فقال الرجل: من يحول بيني وبين ابني فخير رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلام بين أبيه وأمه فاختار أمه فذهبت به ففيه أنه لم يخير ذلك الغلام حتى دعا أبويه إلى الإسهام عليه قبل ذلك فالتخيير بلا دعاء ترك لهذا الحديث كالقول بعدم التخيير أصلا ومن قال بعدم التخيير أكثرالكوفيين واحتجوا بحديث ابنة حمزة حيث لم تخير بين عصبتها لتختار أيهم شاءت وروى أن رجلا أسلم ولم تسلم امرأته فاختصما في ولدهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لهما إن شئتما خيرتماه" فأجلس الأب ناحية والأم ناحية ثم خير الغلام فانطلق نحو أمه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اهده فرجع الغلام إلى أبيه" ففيه أن تخيير النبي صلى اله عليه وسلم إنما كان بعد اختيار أبويه أن يخير بنيهما فوجب بتصحيح ما ذكرنا أن لا يخرج عن شيء منه ولا يتركه وأن يكون المستعمل في مثل هذا دعاء الأبوين إلى الاستهام فإن أجابا أسهم بينهما وإن أبيا ثم سألا أن يخير الصبي بينهما فيختار أحدهما فيكون أحق به من الآخر وإن لم يكن منهما اختيار وجب أن يرجع إلى ما في حديث ابنة حمزة فيستعلم فيه ويقضي لمن يراه الحاكم فيه أولى وروي عن أبي كر أنه قضى في مثله بين عمر بن الخطاب وبين أم عاصم التي كان طلقها في ولدها فجعله لها بغير تخيير بينهما فيه إلا أنه يحتمل أن يكون أريد به التخيير في الحال مستأنفه وهو ما روي أن عمر خاصم امرأته التي طلق إلى أبي بكر في ولدها فقال أبو بكر: هي أحق به ما لم تتزوج أو يشب الصبي وقال: هي أحنى وأعطف وألطف وأرأف وأرحم وقوله أو يشب الصبي لا يريد به حالا يخير فيها ولكن يريد به حالا يخرج بها من لحضانة ويتسغنى عنها فيكون لأبيه دون أمه وروي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليصيبن قوما سفع من النار عقوبة بذنوب عملوها" الحديث وسيجئ بتمامه في باب جواز نسبة الرجل إلى الموضع أنه من أهله باستيطانه إياه.

(1/325)