المعتصر من المختصر من مشكل الآثار

كتاب البيوع
مدخل
...
كتاب البيوع
وفيه ثلاثة وثلاثون حديثا
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات" في بعض الروايات "لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه إلا وإن لكل ملك حمى الا وإن حمى الله محارمه" لما جعل الله تعالى بعض الشرائع في كتابه وعلى لسان رسوله بينة لم يختلف أهل العلم فيها وبعضها متشابهة اختلف فيها كان الورع ترك المتشابه فمن المتشابه في الكتاب قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} وما أشبه ذلك مما اختلف أهل العلم فيه كالجمع بين الأختين بملك اليمين وفي السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" وافطر الحاجم والمحجوم ولا ينبغي للحكام فيما هذا سبيله من الإحكام التوقف عن الحكم فيه بل المفترض إمضاء ما رأوه بعد الاجتهاد فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد ويرجع المحكوم لهم فيها إلى المعنى الذي كانوا عليه قبل الحكم من التورع عن الدخول فيها والإقدام عليها مثال ذلك قول الرجل لامرأته أنت علي حرام فقالت طائفة: هي ثلاث تطليقات ومنهم من قال أنها يمين وهو مول وقيل أنه ظهار وقيل أنها تطليقة بائنة إلا إذا عنى ثلاثا وقيل أنها رجعية إلا إذا نوى ثلاثا فمن بلى بمثل هذا ممن يرى الحرمة بقول من هذه الأقوال ثم خوصم إلى حاكم لا يرى حرمتها عليه ويرى بقاءها عليه فقضى له بذلك ففيه اختلاف فمنهم من يقول له استعمال ذلك وترك رأيه وهو قول محمد ابن الحسن ومنهم من يقول يأخذ برأيه ويترك ذلك الحكم إذ كان الحكم له لا عليه وهو قول أبي يوسف أيضا وهو أولى القولين بالحق.

(1/333)


في التجار
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن التجار هم الفجار" فقيل: يا رسول الله أليس الله قد أحل البيع وحرم الربا؟ قال: "بلى ولكنهم يحلفون ويأثمون ويحلفون فيكذبون" إطلاق القول بأنهم فجار لما كان الغالب عليهم ذلك فلم يكن العموم مرادا والعرب قد تطلق على الجماعة مدحا أو ذما والمراد به بعضهم قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} وقال: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} وخاطبهم صلى الله عليه وسلم على لغتهم يدل عليه ما روي عن قيس بن أبي غرزة خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالسوق نبيع ونحن نسمى السماسرة فسمانا رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم أحسن مما سمينا به أنفسنا فقال: "يا معشر التجار يخالط بيعكم حلف ولغو فشوبوه بصدقة أو بشيء من صدقة" وبين المقصود بالفجار من التجار في حديث رفاعة بن رافع قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النقيع فقال: "يا معشر التجار" حتى اشرأبوا له1 فقال: "أن التجار يحشرون يوم القيامة فجارا الا من اتقى الله وصدق وبر".
__________
1 في القاموس – اشرأب إليه – مد عنقه لينظر.

(1/334)


في المكيال والميزان
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الوزن وزن أهل مكة والمكيال مكيال أهل المدينة" ومكة أرض متجر ليس فيها زرع ولا ثمر تباع الأمتعة فيها بالأثمان ألا ترى إلى قول إبراهيم بواد غير ذي زرع بخلاف المدينة فإنها دار نخل وزرع فكانت جل تجارتهم في المكيل فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الأمصار كلها إتباعا لهذين المصرين فيما يحتاجون إليه من الكيل والوزن ولما كانت السنة منعت من إسلام الموزون في الموزون والمكيل في المكيل وأجازت عكسهما ومنعت من بيع الموزون بالموزون إلا مثلا بمثل كان الأصل في الموزون ما كان يوزن حينئذ بمكة وفي المكيل ما كان يكال حينئذ بالمدينة لا يتغير عن ذلك بمغير ومن هذا أخذ أبو حنيفة أن ما لزمه اسم مختوم أو اسم قفيز أو مكوك أو مدا وصاع فهو كيلي تجري فيه أحكام الكيل في جميع ما وصفنا وما لزمه اسم الرطل والوقية فهو وزني كذلك.

(1/334)


في اقتضاء النقدين
عن ابن عمر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في حجرة حفصة فقلت: يا رسول الله رويدك اسئلك, أني أبيع الإبل بالنقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان ذلك من صرف يومكما وافترقتما وليس بينكما شيء فلا بأس به" وقال بعض الرواة: "لا بأس إذا أخذت بسعر يومك" قوله: "بصرف يومكما أو بسعر يومكما" ليس بشرط في صحة البيع يعني المصارفة وإنما أمر بها لهضم صاحبه في ذلك إذ لا خلاف أن البيع يجوز بسعر يومهما وبأكثر وبأقل فالأمر ندب لا وجوب.

(1/335)


في ما يدخل فيه الربا
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر فجاءه بتمر جنيب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكل تمر خيبر هكذا؟ " فقال: لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوه فلا تفعل بع الجميع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا" وقال في الميزان مثل ذلك ففيه رد رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم الميزان في دخول الربا في الأشياء الموزونة كدخولها في الأكيال ولم يقصد في ذلك إلى مأكول ومشروب دون ما سواهما مما لا يؤكل ولا يشرب فكان ظاهر ذلك يوجب صحة قول من قال لا يجوز بيع الحديد بالحديد إلا مثلا بمثل وزنا بوزن لأنها موزونة كالذهب والفضة في دخول الربا إياهما وكالمكيلات من التمر والحنطة والشعير في دخول الربا

(1/335)


إياهما كما يقوله أبو حنيفة وأصحابه بخلاف من قال أن ذلك يقتصر على المطعوم وهم أهل المدينة محتجين بقول سعيد بن المسيب لا ربا إلا في ذهب أو فضة أو فيما يكال وبوزن مما يؤكل أو يشرب ومخالفه ترك قوله معتمدا على قول عمار بن ياسر لأن قوله أعلى من قول سعيد وهو قوله العبد خير من العبدين والأمة خير من الأمتين والبعير خير من البعيرين الثور خير من الثورين فما كان يدا بيد فلا بأس به إنما الربا في النسئ إلا فيما كيل أو وزن ولما كان أوكد الأشياء في دخول الربا عليها الذهب والفضة وليسا بمأكولين وليسا بمشروبين عقلنا بذلك أن العلة التي بها دخول الربا هي الوزن فيما يوزن والكيل فيما يكال مطعوما ما كان أو لم يكن ومنه ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التمر بالتمر والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والملح بالملح مثلا بمثل فمن زاد أو ازداد فهو ربا إلا ما اختلف ألوانه" يعني أنواعه من الأجناس المختلفات لأنه لا خلاف أن الأسود من التمر وغيره منه جنس واحد لا يباع باللون لآخر منه إلا مماثلة دل عليه قول ابن عمر ما اختلفت ألوانه من الطعام فلا بأس به يدا بيد التمر بالبر والزبيب بالشعير وكرهه نسيئة وعلى ذلك كلام الناس جاء فلان بألوان من الطعام يعني بأنواع منه وكلمنا فلان بألوان من الكلام أي بأنواع منه.

(1/336)


في بيع الرطب بالتمر
روي عن مالك بن أنس وأسامة بن زيد عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان أن زيدا أبا عياش أخبره أنه سأل سعدا عن السلت بالبيضاء فقال سعد شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسئل عن الرطب بالتمر فقال: "أينقص الرطب إذا جف؟ " فقالوا: نعم, قال: "فلا إذا" وكرهه لم يختلف على مالك في هذا الحديث إلا ما قاله أحد الرواة عنه في أبي عياش أنه مولى سعد بن أبي وقاص وأما أسامة بن زيد فاختلف عنه فروي عنه عن عبد الله بن يزيد عن أبي

(1/336)


سلمة بن عبد الرحمن عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه أسامة عن عبد الله بن يزيد عن أبي عياش الزرقي عن سعد وهذا محال لأن أبا عياش الزرقي من جلة الأصحاب لم يدركه عبد الله بن يزيد وإنما يروى عن أبي سلمة وأمثاله وقد روي أيضا عن عبد الله بن يزيد عن زيد مولى عياش عن سعد بن مالك وزيد مولى عياش هذا لا يعرف وقد روى أيضا عن عبد الله بن يزيد عن زيد أبي عياش عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الرطب بالتمر نسيئة وقد روى أيضا عن مولى لبني مخزوم أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن الرجل يسلف الرجل الرطب بالتمر إلى أجل فقال سعد: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا فبان فساد هذا الحديث في إسناده ومتنه وأنه لا حجة على من خالفه من أبي حنيفة ومن تابعه على خلافه فيه وكان القياس أيضا يوجبه لأن السنة قد أجازت بيع الرطب بالرطب مثلا بمثل ولم ينظر إلى حالة الجفاف فكذلك الرطب بالتمر لا ينظر إلى حالة الجفاف من النقصان عن التمر المبيع به وأجازت السنة بيع التمر بالتمر والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير مثلا بمثل وهذه الأشياء مما تتغير بالجفاف والنقصان أيضا فلم ينظر إلى ذلك وينظر إلى أحوالها التي تكون عليها يوم البيع فمثله الرطب بالتمر مع أن في فساد الأصل الذي تعلق به من ذهب إليه ما يقطع حجتهم به ولكنا وكدناه بما ذكرنا من القياس.

(1/337)


في بيع قلادة فيها ذهب
عن فضالة بن عبيد قال اشتريت يوم خيبر قلادة فيها ذهب وخرز بإثنى عشر دينارا ففصلتها فإذا الذهب أكثر من إثنى عشر دينار أفذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تباع حتى تفصل" محمل النهي عدم العلم بمقدار الذهب التي فيها قبل التفصيل فلو كان معلوما قبل التفصيل ينبغي أن يجوز وفي الحديث ما يدل عليه وهو أن القلادة كانت من المغانم وهي إنما تقسم بين أهلها على ما يجوز عليه لأعلى ما لا يجوز والحديث مضطرب فيه فروى

(1/337)


عن فضالة قال: أصبت يوم خيبر قلادة فيها ذهب وخرز فأردت أن أبيعها فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: "افصل بعضها من بعض ثم بعها كيف شئت".
وروي عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر بقلادة فيها خرز معلقة بذهب ابتاعها رجل بسبع أو تسع فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: "لا حتى تميز ما بينهما" فقال: إنما أردت الحجارة فقال: "لا حتى تميز ما بينهما" فرده وروى عنه أنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بقلادة فيها ذهب وخرز وهي من المغانم تباع فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب وزنا بوزن" وهذا الحديث ليس مما قبله من الأحاديث في شيء لأن التي قبله في بعضها أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تباع حتى تفصل وفي بعضها أنه رد البيع بعد وقوعه مع ما في جميعها من الدليل على جواز القسمة التي حكمها حكم البيع من غير تفصيل والذي في هذا الحديث تفصيل من غير بيع تقدم فيها وإعلام بأن الذهب وزنا بوزن وقد روي عن حنش أنه قال كنا مع فضالة في غزوة فصارت لي ولأصحابي قلادة فيها ذهب وورق وجوهر فأردت أن أشتريها فقام فضالة فقال: انزع ذهبها فاجعله في الكفة واجعل ذهبا في الكفة ثم لا تأخذن إلا مثلا بمثل فإني سمعت رسو الله صلى الله عليه وسلم يقول من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذن إلا مثلا بمثل فذكر عن فضالة ما هو مذكور فيما قبله من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ولما وقع فيه اضطراب كان المعنى المقصود منه هو ما اختلف فيه العلماء من بيع الذهب وغيره في صفقة واحدة فقال طائفة منهم إن كان ذلك الذهب الثمن أكثر من الذهب الذي في القلادة صح البيع وكان الذهب بمثله والزائد بمقابلة الخرز والورق وإن كان الذهب الثمن مثل ما في القلادة أو أقل أو لا يدري ما وزنه فالبيع فاسد وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه وطائفة منهم تقول لا يجوز ذلك

(1/338)


البيع أصلا لأن الذهب الثمن يكون مقسوما على الذهب والخرز اللذين في القلادة على قدر قيمتهما فيكون الذهب المبيع في تلك الصفقة مبيعا بما أصابه على قسمة الثمن من الذهب المبتاع به فلا يجوز وممن يقول به الشافعي وجعل أهل هذا القول الذهب والشيء المبيع معه كالعرضين اللذين من غير الذهب إذا بيعا بذهب صفقة واحدة أنه يكون كل واحد منهما مبيعا بما أصابه من القسمة على قيمته وعلى قيمة الشيء المبيع معه وكان الآخرون يذهبون إلى أن القسمة على القيم لا تستعمل في هذا وإنما تستعمل في غير الذهب المبيعة بالذهب وفي غير الفضة المبيعة بالفضة في غير الأشياء الميكلات المبيعات بأجناسها وفي غير الأشياء الموزونات المبيعات بأمثالها فيستعمولن في ذلك الأمثال المستعملة فيها ولا يستعملون في ذلك القيم التي ذكرنا محتجين في ذلك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مما دلهم على ذلك من تحريم التفاضل في بيع الذهب بالذهب والورق بالورق والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر والملح بالملح وخرج الآثار بذلك بأسانيدها ففي هذه الآثار إباحة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيع الذهب بالذهب مثلا بمثل وقد يكون الذهب بتفاضل فيكون دينار أن أحدهما أعلى من الآخر يباعان بدينارين مستويين فظاهر آثار النبي صلى الله عليه وسلم التي ذكرنا تطلق ذلك لأن ذلك لو كان مما يختلف لاختلاف الدينارين ليس ذلك للناس حتى يعلموا أنه أراد بما أطلق غيرهما ولا سبيل لأحد أن يأتي إلى ما أجمله رسول الله صلى اله عليه وسلم بحكم واحد فيستعمل فيه تفريق الأحكام وضرب الأمثل وكذلك التمر فقد أباح بعضه ببعض مثلا بمثل يدا بيد ولم يخالف في ذلك بين تمرين متفاضلين بيعا بتمر مساو وقد وجدنا التمر في نفسه موجودا فيه ولا تمنع منه السنة لتباينه في اسقاط نفسه ولاختلافه في قيمته كان ذلك لا يراعى بقسمة الثمن عليه إذا يع بجنسه وكان البيع فيه جائزا دل ذلك

(1/339)


أنه قد خولف في ذلك بين الأشياء المكيلات وبين الأشياء الموزونات المبيعات بأمثالها فلم تستعمل فيها القيم واستعمل فيها التساوي فيما هي عليه من كيل أو وزن فأجيز مع ذلك وأبطل إذا كان خلاف ذلك وقد روي عن ابن عباس قال: بيع التمر في رؤس النخل إذا كان فيه غيره دراهم أو دنانير لا بأس به ووجه ذلك أنه جعل التمر المبيع في رؤس النخل مبيعا بمثله من التمر الذي بيع به ولو راعى في ذلك استعمال قسمة الثمن على القيم لما جوز هذا البيع وفي تجويزه إياه ما قد دل على أنه لم يستعمل قسمة الثمن على القيم كما يستعملها في بيع العرضين اللذين بخلاف ذلك وإذا كان كذلك فيما ذكرنا كان مثله في المذهبين المتفاضلين المبيعين بذهب مساو لا يراعي فيه قسمة الثمن على القيم ولكن يراعى فيه التساوي في الوزن لا ما سواه.
لا يقال ما ذكر عن ابن عباس مستحيل لأنه يجيز الفاضل بين الفضتين يد أبيد محتجا بما روي عن أسامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الربا في النسيئة" لأنا نقول أن ابن عباس أرأيت الذي تقول الدينار أن بالدينار والد رهمان بالدرهم أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما" فقال ابن عباس: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: نعم قال: أني لم اسمع هذا إنما أخبرنيه أسامة قال أبو سعيد نزع عنه ابن عباس.
فإن قلت: كيف ساغ لابن عباس ترك ما حدثه أسامة وموضعه من الإسلام موضعه إلى ما حدثه غيره مما يجوز أن يكون ما حدثه أسامة ناسخا له؟ قلت: الربا الذي حرمه القرآن وجاء فيه الوعيد عليه هو الربا في النسيئة وهو ما كانوا يبتاعون من الآجال في الأموال بالأموال وكان ذلك ربا النسيئة في الميكلات والموزونات فوقف ابن عباس على أن الذي حدثه أبو سعيد كان في ربا غير ربا النسيئة بل في الربا الفضل فسار إليه وترك ما كان عليه قبل ذلك.

(1/340)


في الربا مع أهل الحرب
روى عن أنس بن مالك أن الحجاج بن علاط السملي قال: يا رسول الله إن لي بمكة أهلا ومالا وقد أردت إتيانهم فإن أذنت لي أن أقول فيك فعلت فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ما شاء: فلما قدم مكة قال لامرأته: إن أصحاب محمد قد استبيحوا وإنما جئت لآخذ ما لي فأشتري من غنائهم وفشا ذلك في أهل مكة فبلغ ذلك العباس يعني ابن عبد المطلب بعرفة فاختفى من كان فيها من المسلمين وأظهر المشركون الفرح بذلك فكان العباس لا يمر بمجلس من مجالسهم إلا قالوا: أيا أبا الفضل لا يسؤك الله قال: فبعث غلاما له إلى الحجاج بن علاط فقال: ويلك وما الذي جئت به فالذي وعد الله ورسوله خير مما جئت به, فقال الحجاج لغلام: هـ اقرأ على أبي الفضل السلام وقل له ليخل بي في بعض بيوته فإن الخبر ما يسره فلما أتاه الغلام فأخبره به قام إليه فقبل ما بين عينيه وأعتقه ثم أتاه الحجاج وقال له: أن الله عزو جل قد فتح لرسوله خيبر وجرت فيها سهام المسلمين واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية لنفسه وإني استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول فيه ما شئت وإن لي بمكة ما لا آخذه فاذن لي أن أقول فيه ما شئت فاكتم علي ثلاثا ثم قل ما بدالك ثم أتى الحجاج أهله فأخذ ماله ثم انشمر إلى المدينة قال: ثم أن العباس أتى منزل الحجاج إلى امرأته فكان العباس يمر بمجالس قريش فيقولون له يا أبا الفضل لا يسوءك الله فيقول لا يسؤني الله قد فتح الله على رسوله خيبر وجرت فيها سهام المسلمين واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية لنفسه أخبرني الحجاج بذلك وسألني أن أكتم عليه ثلاثا حتى يأخذ ما له عند أهله قال ثم أتى امرأته فقال لها إن كان لك إلى زوجك حاجة فألحقي به وأخبرها بالذي أخبره به الحجاج بفتح خيبر فقالت امرأته أظنك صادقا قال فرجع ما كان بالمسلمين من كآبة على المشركين وظهر من كان اختفى من المسلمين من المواضع التي كانوا فيها ففيه أن العباس كان مسلما يومئذ لا قراره بالرسالة فيه للنبي صلى الله عليه

(1/341)


وسلم وكان الربا يومئذ حراما بدليل حديث فضالة الذي تقدم بخيبر مع بقاء العباس يمكة إلى الفتح يعمل بالربا دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة يوم عرفة في حجة الوداع "وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب" فعلم إن الربا بين المسلمين والمشركين في دار الحرب جائز على ما يقوله أبو حنيفة والثوري وإبراهيم النخعي قبلهما لأن قوله صلى الله عليه وسلم "ربا الجاهلية موضوع" دليل على أنه كان قائما إلى أن ذهبت الجاهلية بفتح مكة وقوله: "وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب" قد دل على أن ربا كان قائما إلى ذلك الوقت أعني وقت فتح مكة لأنه لا يضع إلا ما كان قائما لا ما قد كان سقط وقد كان أسلم قبل ذلك على ما دل عليه حديث الحجاج أنه كان مسلما حين فتح خيبر في سنة سبع من الهجرة وفتح مكة في السنة الثامنة منها وحجة الوداع في التاسعة منها وهذا استدلال صحيح لأن العباس أسلم قبل الفتح بمدة فلو كان الربا حراما عليه بمكة لأمر بالرد إلى أربابها قال تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} الآية ويؤيده ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كل قسم قس في الجاهلية فهو على قسم الجاهلية وكل قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام لأن فيه ما يوجب أن القسمة بمكة لميراث لو وقعت تمضي على حكم الجاهلية وإن كانت مخالفة لقسم الإسلام فكذلك حكم الربا الذي كان بين المشركين والمسلمين جائزا عندهم غير جائز عند المسلمين ومما يدل على أن حكم الربا لم يتعد إلى دار الحرب أنه لو تعدى إليها لوجب أن يكون موضوعا على كل حال كان أصله قبل تحريم الربا أو بعده كما يكون موضوعا في دار الإسلام كان أصله قبل تحريم الربا أو بعده لأنه وإن كان أصله قبل تحريم الربا بطل بتحريمه وإن كان بعده فهو أبطل فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه وضعه يوم الفتح دل على أنه لم يكن موضوعا قبل وإن التحريم لم يلحقه ولا تعدى إليه.
فإن قيل قد أخذ الفداء من عباس يوم بدر فكيف كان مسلما قلنا

(1/342)


إن يوم بدر قبل يوم خيبر وإنما أسلم بعده ومما يدل عليه حديث أنس عن الحجاج بن علاط وحكى محمد بن إسحاق أن العباس اعتذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما أمره أن يفدي نفسه بأنه كان مسلما وأنه إنما خرج لقتاله مكرها فقال صلى الله عليه وسلم: " أما ظاهر أمرك فقد كان علينا فافد نفسك" ففدى نفسه وبقي بعد ذلك بمكة فعلى هذا يكون مسلما قبل بدر وعلى حديث الحجاج تقدم إسلامه خيبر وكلا القولين يوجب إقامته بمكة وهي دار حرب مسلما وله بها ربا قائم وهو محرم بين المسلمين في دار الهجرة.

(1/343)


في الوضيعة على تعجيل الحق
روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بإخراج بني النضير جاءه أناس منهم فقالوا: يا نبي الله أنك أمرت بإخراجنا ولنا على الناس ديون لم تحل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضعوا وتجلوا" بنو النضير هم إشراف اليهود وكانوا ينزلون المدينة ونساء الأنصار في الجاهلية إذا أردن تهويد أبنائهم هودنهم فيهم كما روي عن ابن عباس في قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قال: كانت المرأة تحلف لئن عاش لها ولد لتهودنه فلما أجليت بنو النضير إذا فيهم ناس من أبناء الانصار فقالت الأنصار: يا رسول الله أبناؤنا فأنزل الله {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} الآية يعني فمن شاء لحق بهم ومن شاء دخل في الإسلام وهم خلاف يهود خيبر الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عاملهم عليها بشطر ما يخرج نخلها وأرضها وأقاموا على ذلك حتى أجلاهم عمر.
فاختلف أهل العلم في إطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع بعض الديون الآجلة وتعجيل بعضها فعند ابن عباس وزفر وأحد قولي الشافعي جاز ذلك وكرهه بعضهم منهم عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأبي يوسف ومحمد لأنه يجوز أن يكون ذلك قبل تحريم الربا فلما حرم الربا حرمت أسبابه ثم الوضع إن كان بشرط التعجيل فواضح أنه كالربا المحرم إذ في الجاهلية كان من عليه الدين العاجل يدفع إلى رب الدين من ماله على أن يؤخره إلى أجل يذكرونه فمثل ذلك في المعنى وضع البعض لتعجيل الباقي وإن لم يكن التعجيل مشروطا ولكنه على وضع مرجوله التعجيل فهو مكروه غير محكوم بإبطاله كما يكره القرض الذي يجر منفعة ولا يحكم بإبطاله.

(1/343)


في النهي عن الثنيا وبيع الغرر والحصا
وروى أبو الزبير وسعيد بنمينا عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة" قال أحدهما: والمعاومة وقال الآخر: عن السنين ونهى عن الثنيا قال: ورخص في العرايا معنى النهي عن بيع الثنيا يريد الثنيا المجهولة بدليل ما روي عن عطاء عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثنيا حتى يعلم وروي عن أبي هريرة قال نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر وعن بيع الحصاة بيع الحصاة كان من بيوع الجاهلية التي يتعاقدونها فكان أحدهم إذا أراد يملك ثوب صاحبه بعوض ألقى عليه حصاة أو حجرا فاستحقه بذلك عليه ولم يستطع رب الثوب منعه من ذلك فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ورد البيع إلى اختيار المتبايعين عند نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} فرد الأمر إلى رضا أصحابها في بيعها وإمساكها وإن خلافه أكل المال بالباطل.

(1/344)


في بيع الطعام قبل قبضه
روي عن عبد الله بن عمر قال رأيت الناس يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا الطعام جزافا أن يبيعوه حتى يؤووه إلى رحالهم ما حولوه إليه من الأماكن رحال للذين حولوه إليها يبين ذلك ما روي عنه أنه قال: كنا نتلقى الركبان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشتري منهم الطعام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوه حتى تستوفوه وتنقلوه" وما روي عنه أنه قال: كنا نتلقى الركبان فنشتري منهم الطعام جزافا فنهانا رسول الله

(1/344)


صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى نحوله من مكانه وننقله وماروي عنه أنه قال: كانوا يشترون الطعام من الركبان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه حتى يبلغوه حيث يبيعون الطعام قد يحتمل أن يكون المواضع التي كانوا يحولونها إليها مواطن لبيع الطعام يبين ذلك ما روي عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث رجالا يمنعون أصحاب الطعام أن يبيعوه حيث يشترونه حتى ينقلوه إلى مكان آخر وما روي عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تشتري حتى يجوزها الذي اشتراها إلى رحله وإن كان ليبعث رجالا فيضربوننا على ذلك.
وروي عن ابن عمر ما ظاهره خلاف هذا وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه" أي حتى يستوفى كيله إن كان مكيلا أو وزنه إن كان موزونا أو عدده إن كان معدودا وهو في ذلك محول له من موضع إلى موضع مثل ما اشترى جزافا أريد فيه تحويله من موضع إلى موضع حتى يحل بيعه بعد ذلك فليس بخلاف لما تقدم وقد روي عن عبد الله بن عمر أنه قال: ابتعت زيتا بالسوق فقام إلي رجل فأربحني حتى رضيت فلما أخذت بيده لأضرب عليها أخذ بذراعي رجل من خلفي وأمسك بيدي فالتفت فإذا زيد بن ثابت فقال: لا تبعه حتى تحوزه إلى بيتك فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا أن نبتاع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم وثبت بتصحيح هذه الآثار أن لا يباع ما ابتيع مجازفة حتى يحول من المكان الذي ابتيع فيه إلى مكان سواه وهكذا كان الشافعي يذهب إليه في هذا المعنى وفيما ذكرنا من ذلك ما قد دل على أن ما لا يحتمل النقل من مكان إلى مكان كالدور والأرضين يجوز بعيها بعد ابتياعها بغير قبض لها لأنها لا يتهيأ فيها المعنى الذي يتهيأ في غيرها من النقل الذي يقوم مقام الكيل فيما يكال وهكذا كان مذهب أبي حنيفة في الدور والأرضين المبتاعة قبل قبضها من باعتها

(1/345)


ويحتمل أن يكون ابن عمر إما أراد أن يبيع الزيت قبل ان يحوزه بالربح الذي أربح فيه لأنه تأول أن الزيت ليس من الطعام إذ حكمه حكم الائتدام به لا الأكل له وكان مذهبه إجازة بيع ما اشتري قبل قبضه من غير الطعام فلم ير ببيعه لذلك قبل قبضه إياه بأسا حتي حدثه زيد بن ثابت بما حدثه به فعلم أنه كالطعام المأكول المشترى لا كالأشياء المبيعة سوى ذلك فانتهى إلى ما حدثه زيد فيه.
ومنه ما روي عن أبي هريرة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان فيكون لصاحبه الزيادة وعليه النقصان لم نجد في هذا سوى أن من ابتاع طعاما كيلا لم يحل له ذلك البيع حتى يكتاله على بائعه منه وقد كان البائع له منه إذ اشتراه قد اكتاله على من باعه منه قبل بيعه إياه هذا البيع الثاني فيكون البيع لا يحل لهذا المبتاع الثاني فيما ابتاعه من البائع الذي كان قد ابتاعه أيضا كيلا إلا بعد أن يتقدمه الاكتيالان جميعا وذكر ذلك بالصاع الذي يكال به الطعام وخرج الحديث على من باع طعاما كيلا قد ابتاعه كيلا لأنهم كانوا تجارا يشترون ويبيعون فيكون للمبتاع الأول إذا كاله على المبتاع الثاني ما كان بين الكيلين من الزيادة والنقصان وفي ذلك ما يدل على أن ما يجر بين الناس مما يستعملون فيه الكيل قد يقع بينهم فيه الاختلاف فيزيد بعضهم فيه على بعض وينقص منه عما كان غيرهم يتجاوز فيه وإن كان ذلك لا يمنع من استعماله إذ كان رأيا كما يستعمل الآراء في الحوادث من أمور الدين مما لا توقيف فيها ولا يمنع من ذلك وقوع الاختلاف بين أهلها وما قيل تثنية الصاع في قوله حتى يجري فيه الصاعان من باب التأكيد والمراد به النهي عن بيع الطعام المشتري كيلا قبل أن يستوفى بالكيل الذي يدل عليه جرى الصاع فيه مثله في قوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} وفي قول الحجاج يا حرسي أضربا عنقه تأويل فاسد لأنه روى مفسرا بصاع البائع وصاع المشتري قوله فيكون لصاحبه ازيادة وعله النقصان لأنه إذا ابتاع الطعام فكاله قبل أن يبيعه كان له زيادة الكيل ونقصانه أن باعه كيلا فاكتاله المبتاع عليه ولو اشترى

(1/346)


مكيلا كيلا فباعه قبل أن يكتاله لاستوفاه الذي ابتاعه منه من البائع الأول ولم تكن له في ذلك زيادة ولا عليه فيه نقصان وهو المعنى المنهي عنه في الحديث.

(1/347)


في البيع والشرط
عن جابر بن عبد الله قال: أتى علي نبي الله صلى الله عليه وسلم وأنا على بعير أعجف فأخذ بخطامه وبيده عود فنخسه ودعا أو قال: دعا ونخسه وقال: "اركبه" فركبته فكنت أحبسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسمع حديثه فأتى علي فقال: "أتبيعني جملك يا جابر؟ " قلت: نعم يا رسول الله ولي ظهره قال: "ولك ظهره" فاشتراه مني بخمس أواق فلما قدمت المدينة أتيته فأعطاني الأواقي وزادني وذكر في بعضها قال فبعته منه بأوقية واستثنيت حملانه حتى أقدم أهلي فلما قدمت أتيته بالبعير فأمر لي بالأوقية وقال انطلق ببعيرك وفي بعضها فبعته إياه بسبع أواق أو تسع أواق ولى ظهره حتى أقدم فلما قدمت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعبير فدفعته إليه فنقدني فلما خرجت إذا رسوله قد دعاني من خلفي فقلت في نفسي أراد أن أقيله فلما دخلت عليه قال: "أظننت أني استقيلك" ثم قال: "لك البعير انطلق به" وفي بعضها كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من هذا؟ " فقلت: جابر فقال: "مالك؟ " فقلت: إني على حمل ثقال فقال: "معك قضيب؟ " قلت: نعم يا رسول الله قال: "أعطنيه" فأعطيته فضربه ونخسه وزجره فكان من ذلك المكان من أول القوم قال: "أتبيعنيه؟ " قلت: هو لك يا رسول الله, قال: "بل بعنيه قد أخذته بأربعة دنانير ولك ظهره حتى تأتي المدينة" احتج بعض بهذه الآثار على صحة البيع على مثل هذا الشرط وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: "يا جابر تبيعني ناضحك هذا إذا قدمنا المدينة بدينار والله يغفر لك" قلت: يا رسول الله إذا قدمنا المدينة فهو ناضحك, قال: "فبعنيه بدينارين والله يغفر لك" فمازال يزيدني ويقول مع كل دينار والله يغفر لك حتى بلغ عشرين دينارا فلما بلغنا المدينة جئت بالناضح أقوده إلى رسول الله صلى الله

(1/347)


عليه وسلم فقلت هذا ناضحك يا رسول الله فقال يا بلال أعطه عشرين دينارا.
وروي عنه أيضا قال: أقبلنا من مكة إلى المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث إلى قوله: "بعنى جملك هذا" قلت: لا بل هو لك قال: "بل بعنيه" قلت: لا بل هو لك يا رسول الله, قال: "بل بعنيه" قلت: فإن لرجل علي وقية من ذهب فهو لك بها قال: "قد أخذته" قال: "فتبلغ عليه إلى المدينة" فلما قدمت المدينة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال: "أعطه أوقية من ذهب وزده" فأعطاني أوقية من ذهب وزادني قيراطا قلت: لا تفارقني زيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدا قال: فكان في كيس لي فأخذه أهل الشام يوم الحرة ففي هذين الحديثين غير ما في الأحاديث الأول لأن في الأول منها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجابر: "أتبيعني ناضحك هذا إذا قدمنا المدينة".
وفي الثاني مهما ابتاعه منه بلا شرط وإن النبي صلى الله عليه وسلم قال له بعد البيع: "تبلغ عليه إلى المدينة" تفضلا منه عليه وليس رواتهما بدون رواة الحديث الأول في المقدار في العلم ولا في الضبط وإذا تكافأت الروايات في ذلك ارتفعت ولم يكن بعضها أولى من بعض وسقط في هذا الحديث الاحتجاج بجواز البيع بالشرط ووافق ما حكينا عن عمرو ابن مسعود وابن عمرو زينب امرأة ابن مسعود في النهي عن البيع بالشرط فيه ما ليس منه وقد وافق ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من النهي عن بيع وسلف وعن شرطين في بيعة فدل ذلك على أن هذه الأشياء التي ليست من البياعات إذا كانت فيها أفسدتها.

(1/348)


في الصفقة تجمع حلالا وحراما
روي عن سليمان بن أبي مسلم الخولاني قال: سألت أبا المنهال عن الصرف فقال: اشتريت أنا وشريك لي شيئا يدا بيد وشيئا بنسيئة فذكرنا ذلك للبراء بن عازب فقال: فعلته أنا وشريكي زيد بن أرقم فذكرنا ذلك لرسول الله

(1/348)


صلى الله عليه وسلم فقال: "ما كان يدا بيد فخذوه وما كان بنسيئة فردوه".
هذا الحديث يحتج به في مسئلة فقهية مختلف فيها وهي أن الصفقة إذا جمعت ما يجوز وما لا يجوز بيعه هل يجوز من ذلك ما يجوز ويبطل ما لا يجوز أو يبطلان جميعا ففي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكشف سائليه المذكورين فيه عن ذينك الشيئين اللذين سألاه عنهما فأجاز البيع في أحدهما ولم يجزه في الآخر هل كان شراؤهما في صفقة واحدة أوفى صفقتين مختلفتين فعقلنا بذلك أن الحكم في ذلك سواء وإن الشراء يجوز فيما كان من ذلك يدا بيد ويبطل فيما كان نسيئة ولا يعطى لكل واحد حكم الشيء الآخر المضموم معه في الصفقة إذ لو افترق الحكم في ذلك لسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف وقع البيع حتى يكون جوابه على ما يخبرانه به من ذلك وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه وعبد الرحمن بن القاسم فيما أجاب أسد بن الفرات عن قول مالك خلافا للشافعي فإنه أبطلهما ببطلان أحدهما1 ولما نظرنا فيه رأينا البيع قد يقع على شقص من دار تجب فيه الشفعة للشريك فيها وعلى ما وساه من عرض وعبد ثم الشفعة تجب في الشقص بحصته من الثمن ولا تجب فيما سواه من العرض المضموم إليه ويعود ما سواه بيعا بالحصة مع أنه لا يجوز استئناف البيع عليه بذلك فعقلنا أن كل واحد من العرض والشقص اللذين جمعتهما الصفقة مضمن حكم نفسه لا حكم صاحبه وكذلك رأيناهم في العرضين إذا بيعا صفقة واحدة بثمن واحد فهلكا في يد البائع قبل القبض أن البيع ينتقض في ذلك كصبرتين أحدهما حنطة والأخرى شعير وقع البيع عليهما بكيل مشروط في كل واحدة منهما ولو ضاعت إحداهما في يد بائعها قبل القبض تضيع بحصتها من الثمن وتبقى الأخرى مبيعة بحصتها من الثمن وهذا مما لا يجوز استئناف البيع وحده كذلك عقلنا بذلك أن الصفقة إذا جمعت شيئين مختلفين أن لكل واحد منهما فيها حكمه لو كان مبيعا وحده دون صاحبه فدل هذا على صحة ما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه.
__________
1 للشافعي قول آخر بالصحة في التصحيح والبطلان في الباطل وهو الراجح في مذهنبه – ح.

(1/349)


في الزيادة عند القضاء
روي عن طارق المحاربي قال: لما ظهر الإسلام خرجنا في ركب ومعنا ظعينة لنا حتى نزلنا قريبا من المدينة فبينا نحن قعود إذ أتانا رجل عليه ثوبان أبيضان فسلم ثم قال: من أين أتى القوم؟ قلنا: من الربذة ومعنا جمل أحمر فقال: أتبيعوني الجمل قلنا: نعم, قال: فبكم؟ قلنا: بكذا وكذا صاعا من تمر فأخذه ولم يستنقصنا شيئا قال: قد أخذته فأخذ برأس الجمل حتى توارى بحيطان المدينة فتلاومنا فيما بيننا قلنا: أعطيتم جملكم رجلا لا تعرفونه؟ فقالت الظعينة: لا تلاوموا لقد رأيت وجه رجل ما كان ليخفركم ما رأيت شيئا أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه فلما كان العشاء أتانا رجل فقال: السلام عليكم أنا رسول الله إليكم وهو يأمركم أن تأكلوا حتى تشبعوا وأن تكتالوا حتى تستوفوا فأكلنا حتى شبعنا واكتلنا حتى استوفينا.
وفيما روى أن زيد بن سعنة وكان من أحبار اليهود أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه فحبذ ثوبه عن منكبه الأيمن ثم قال: إنكم يا بني عبد المطلب أصحاب مطل وإني بكم لعارف فانتهره عمر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك أن تأمرني بحسن القضاء وتأمره بحسن التقاضي انطلق يا عمر إلى حائط بني فلان فأنوفه حقه" أما أنه قد بقي من أجله ثلاثة أيام فزده ثلاثين صاعا لتداريك عليه قد قال قائل كيف يقبل هذا وقد روى عنه نهيه أن يؤكل بالأشياء منها أن يؤكل بالقرآن كما روي عن عبد الرحمن ابن سهل قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اقرؤا القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به" وما روي عن عبادة بن نسي عن عبادة بن الصامت قال: كنت أعلم ناسا من أهل الصفة القرآن فأهدى إلى

(1/350)


رجل منهم فرسا على أن أقلها في سبيل الله فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن أردت أن يطوقك الله بها طوقا من نار فأقبلها" فإذا كان حراما أن يأكل بالقرآن كان حراما أن يأكل بما له لما فيه من شبهة الربا قيل له يحتمل أن يكون ذلك قبل تحريم الربا ثم حرم الربا ثم حرم الربا فحرمت أسبابه يدل عليه ما روي عن سعيد بن أبي بردة1 قال بعثني أبي إلى المدينة إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأتعلم2 فقال مرحبا بابن أخي فقلت له: إنما مشيت معك لتعلمني شيئا فقال: ما أنا بمعلمك شيئا حتى تنطلق معي إلى البيت فانطلقت معه فقرب لي سويقا وتمرا فأكلت ثم قال: يا ابن أخي أنك بأرض الربا بها كثير غامض فإذا أسلفت رجلا من أهل الذمة ورقا إلى أجل فأتاك بها وأتاك معها بحملة من قت أو علف فلا تسمها فإن ذلك من أعظم أبواب الربا.
وروي عن أبي بن كعب أنه استسلف من عمر عشرة آلاف فأهدى له من ثمرة أرضه فردها فأتاه أبي فقال أترد على ثمرتي وقد علمت أني من أطيب أهل المدينة ثمرة لا حاجة لنا فيما رد علينا هديتنا فأعطاه العشرة آلاف زاد بعض الرواة وقبل عمر الهدبة لما رد عليه أبي المال.
وروي عن أبي بن كعب قال إذا أقرضت قرضا فجاءك صاحبك بقرضك يحمله ومعه هدية فخذ منه قرضك واردد عليه هديته وعن أنس قال: إذا أقرضت رجلا قرضا فلا تركب دابته ولا تقبل هديته إلا أن يكون قد جرت بينك وبينه مخالطة قبل ومهاداة أبي لعمر من هذا لأنه كان بينهما مخالطة وكان لعبد الله بن عمر صديق يسلفه وكان يهدي له لا لأجل القرض بل كان له به مخالطة من قبل وفيما ذكرنا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد دل
__________
1 سقط من هنا شئ فإن الحديث في صحيح البخاري وغيره من رواية سعيد بن أبي بردة عن أبيه.
2 سقط من هنا شئ أيضا وفي الصحيح أن أبا بردة لقي عبد الله بن سلام هو القائل "مرحبا ... ".

(1/351)


على أن الأشياء المأخوذة بأسباب غيرها ترجع إلى ما أخذت بأسبابه في كراهيتها حتى تكون كالمعقودة عليه وسيأتي بعد هذا إيضاحه.

(1/352)


في ما يهدي إلى العمال
عن أبي حميد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل ابن اللتبية على صدقات بني سليم وأنه جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما حاسبه قال: هذا لكم وهذه هدية أهديت إلي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم له: "ألا جلست في بيت أبيك أو أمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا" ثم قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد فإني استعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول: هذا لكم وهذه هدية أهديت لي أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه إلا لقي الله عز وجل يحمل بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تثغو" ثم رفع يديه حتى أني لأنظر إلى بياض ما تحت منكبيه ثم قال: "ألا هل بلغت؟ " مرتين. قال أبو حميد بصرت عيناي وسمعت إذ ناي سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم وخرجه من طرق كثيرة بمعنى واحد فيه ما قد دل على أن الكسب بالولاية من الهدايا وما أشبهها واجب على الوالي أن يرده إلى المال الذي ولى عليه وأهدى له ما أهدى له لولايته عليه وقد كان أبو يوسف ومحمد اختلفا فكان أبو يوسف يقول ما أهدى أهل الحرب إلى إمام المسلمين كان له خاصة وقال محمد يرده إلى فيء المسلمين ويخرج خمسه ويرد بقيته إلى المال الذي أهدي له من أجله وهذا أولى القولين نظرا إلى الحديث وعن علي أنه كان يفعل ذلك فيما أهدى إليه وهو متول من أمور المسلمين ما كان يتولاه وروي أن عظيما من عظمائه بعث إليه بأترج كثير فبعث إلى رجال فقوموه قالت أم كلثوم لقد رأيت بعض صبياننا أتاه فأخذا ترجة فذهب لينزعها منه فبكى فأراد أن يأخذها فأبى فانتزعها منه وتركه يبكى حتى قومها ثم أعطاه

(1/352)


إياها وذلك لأن مهديها قصد بها الوصول إلى حلفه رجاء أن يقره بمكانه بخلاف ما أهدى أبي بن كعب لعمر فقبله منه لما رد الدين ليه بعد أن كان رده عليه قبل ذلك للدين الذي كان عليه ما إذا قصد المهدي ترك المطالبة من المهدي إليه بالدين الذي له عليه كان داخلا في أبواب الربا التي يقع فيها فاعلوها من حيث لا يعلمون وقد روي عن خالد بن مسعود قال أهدي رأس الجالوت إلى أبي مسعود مائة ألف درهم فلما جاء أبو مسعود قالت امرأته: يا بردها على الكبد قال: وما ذاك؟ قالت: رأس الجالوت أهدي لبناتي فقال أبو مسعود: يا حرها على الكبد فذكر ذلك لعلي وأخبره بما قالت امرأته: فقال علي: فما قلت؟ قال: قلت: يا حرها على الكبد قال: أجل والله يا حرها على الكبد متى كان رأس الجالوت يهدي لبناتك أحملها فأجعلها في بيت مال المسلمين فهذا دليل على أن هدايا الأمراء مردودة إلى بيت مال المسلمين.

(1/353)


في الزيادة على الثمن وغيره
روي أن جابر بن عبد الله باع من النبي صلى الله عليه وسلم جمله في بعض أسفاره فلما قدم المدينة أمر بلالا أن يدفع إليه ثمنه ويزيده قيراطا فقال: لا تفارقني زيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبد فكانت في كيسي حتى أخذها أهل الشام يوم الحرة فيه دليل على أن الزيادة التحقت بأصل العقد وكان محالا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون ملك جابرا ما ملكه بمعنى لا يملكه به ويملكه بغيره كما يقول من يقول أن الزيادة في الثمن هبة من الذي يزيدها وهو زفر ومالك والشافعي لأن الأشياء إنما نملك من حيث ملكت لا مما سواها وقد روي سلمة بن الأكوع أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل شارط امرأة فعشرتهما ثلاث ليال فإن أحبا أن يتناقصا قصاوان أحبا أن يزدادا في الأجل زادا" قال سلمة: لا أدري كانت لنا رخصة أم للناس عامة هذا في وقت كانت المتعة فيه حلالا فكانت الزيادة في مدتها لاحقة بها وكان لها حكمها فمثل ذلك البيع أيضا إذا وقع على شيء بعينه بثمن مسمى ثم زاد أحد المتبايعين صاحبه فيما

(1/353)


ملكه إياه زيادة أن تلك الزيادة لاحقة به وداخلة في حكمه وقد روي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في استعمالهم في الزيادات في البياعات بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوافق هذا المعنى وروي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: وددنا لو أن عثمان وعبد الرحمن تبايعا حتى ينظر أيهما أعظم جدا في التجارة فاشترى عبد الرحمن من عثمان فرسا بأرض له أخرى باربعين ألف درهم إن أدركتها الصفقة وهي سالمة ثم أن عبد الرحمن زاد عثمان ستة آلاف على أنها أن تبقى حية حتى يقبضها رسوله فوجدها رسول عبد الرحمن قد ماتت فخرج منها بالشرط الآخر وكان موت الفرس من مال عثمان ولو أمضى البيع على العقد الأول لكان موت الفرس من مال عبد الرحمن فدل ذلك على إلحاق الزيادات بالعقود وكان ذلك بحضرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تمنوا أن يتبايعا ليقفوا على أيهما أعظم جدا في التجارة فلم ينكروا ما كان منهما في ذلك فدل على جوازه ومثله ما روي ان عمار بن ياسر خرج من القصر فاشترى قتا بدرهم فاستزاد صاحب القت حبلا فنازعه حتى أخذ هذا قطعة منه وهذا قطعة ثم احتمله على عاتقه حتى دخل القصر.
وكان عمار أميرا إذ لا يسكن القصر إلا وهو أمير والأمير لا يصلح له قبول الهدية فإنما استزاده لأن الزيادة تلحق بالمبيع فتكون بحصتها من الثمن كما لو وقع البيع عليه مع ما وقع عليه سواه وفي ذلك ما قد دل على ما اخترناه وهذه الزيادات عندنا إنما تلحق بالأصل بعد أن يكون الذي زيدت فيه في الحال التي لو استؤنف البيع فيه عليها جاز فأما لو وجد ماننع كموت المبيع أو عتق المشتري إياه إن كان عبدا أو أمة أو خروجه من ملكه إلى ملك سواه فإن الزيادات فيه لا تلحق بذلك العقد الذي زيدت فيه وروي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا جهم بن حذيفة مصدقا فلا حاه رجل في صدقته فأخذه فضربه فشجه أبو جهم فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: القود يا رسول الله فقال

(1/354)


النبي صلى الله عليه وسلم: "لكم كذا وكذا" فلم يرضوا فقال: "لكم كذا وكذا" فرضوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني خاطب العشية على الناس ومخبرهم برضاكم", قال: "أرضيتم؟ " قالوا: لا, قال: فهم بهم المهاجرون فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يكفوا عنهم ثم دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم فزادهم فقال: "أرضيتم؟ " قالوا: نعم قال: "فإني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم", قالوا: نعم فخطب الناس فقال: "أرضيتم؟ " قالوا: نعم, فيه معنى لطيف من الفقه يجب أن يوقف عليه ويوقف به على أن الزيادة في هذا المعنى بحلاف الزيادة في المعنيين اللذين ذكرناهما في الحديث الذي قبل هذا وذلك إن الزيادة فيهما زيادة فيما يجوز نقصه واستئناف العقد فيه فجازت الزيادة في ذلك وكان الصلح على أبي جهم مما لا يجوز أن يتناقضه رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين صالحهم عنه لأن رجلا لو شج رجلا شجة أو جنى عليه جناية فصالحه منها على شيء أو صولح منها عنه على شيء ثم أرادعا قدا ذلك الصلح أن يتناقضاه بينهما ليمكن لهما ذلك وما هذا سبيله فالزيادة فيه غير لاحقة بأصله ومختلف فيها فبعضهم قال: أنها باطلة وأنها راجعة إلى الذي زادها وهو أبو حنيفة وأبو يوسف وبعضهم قال: أنها هبة من الذي زادها فإن قبضها جاز وأن منعه منها لم يجبر على تسليمها إليه وهو زفر ومحمد وقول عن مالك ونحن نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدفع إلى أولئك القوم ما لا يحل لهم أخذه لان شريعته تحريم الربا وإطعامه فدل ذلك على طيبه وأنه صار هبة منه كما قال من قاله وفعله صلى الله عليه وسلم الحجة على الناس جميعا وقيل يجبر على التسليم عند مالك كما هو مذهبه في الهبة.

(1/355)


في اختلاف المتبايعين
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البيعان إذا اختلفا وليس بينهما شاهد فالقول ما قال البائع أو يترددان" قال الطحاوي: ذكرت هذا لأحمد بن شعيب وقلت: هل عندك فيه شيء يتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم فذكر من رواية عبد الرحمن بن الأشعث عن أبيه عن جده قال: قال عبد الله: سمعت

(1/355)


رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا اختلف المتبايعان وليست بينهما بينة فهو ما يقول رب السلعة أو يتتاركان" وقد ذكرت هذا الباب قبل هذا لأحمد ابن أبي عمران وقلت: له هل عندك فيه شيء يتصل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال لي: أما إن أجده منصوصا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ولكن الحجة قد قامت به من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اليمين على المدعى عليه" لأن المتبايعين إذا اختلفا في ثمن المبيع فقد ادعى كل واحد منهما بيعا بثمن غير البيع الذي ادعاه صاحبه بالثمن الذي ادعاه به فكانا بذلك متداعيين فوجب التحالف لينفي كل واحد منهما دعوى صاحبه ويكون المبيع بحاله بيد البائع بغير حجة قامت لأحدهما على صاحبه.
فإن قيل قد اتفقا على أن المبيع ملك المبتاع وإنما الاختلاف في الثمن فوجب أن يكون المبيع له ويلزم المشتري ما أقربه ويحلف على ما ينكره كرجل ادعى على رجل مالا فصدقه في بعضه وأنكر البعض.
قلنا: ليس الأمر كما ذكر لأن الاختلاف في الثمن موجب لاختلاف العقد الاترى إذا ادعى على آخر ألف درهم وخمسمائة فأنكر المدعى عليه فأقام شاهدا بألف وآخر بألف وخمسمائة يقضي بالألف التي اتفق الشاهد أن عليه ولو ادعى البيع بألف وخمسمائة فشهد أحدهما بألف والآخر بألف وخمسمائة لا يقضي بشيء فعقلنا بذلك افتراق الحكم في المسئلتين كما ذكرنا فغنينا بهذا عن طلب الإسناد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدعيين في الثمن المختلفين فيه وهو قول محمد بن الحسن وقد كان أبو حنيفة وأبو يوسف يذهبان إلى ما قال هذا القائل الذي احتججنا عليه وكانا يقولان إذا اختلفا في ثمن المبيع تحالفا وترادا إذا كان قائما وإذا كان فائتا فالقول قول المشتري لأن الذي يوجبه القياس أن يكون القول قول المشترى ولكنه ترك في القائم لمكان الحديث المروي وفي الفائت لم يوجد نص فأجرى على القياس قال ابن أبي عمران ولو لم يكن نص كان القياس يوجب ما قد روى عنه صلى الله عليه وسلم وإذا كان ذلك كذلك

(1/356)


وجب استعماله في الباقي والفائت لأن الذي يوجب رده إذا كان باقيا هو الذي يوجب رد قيمته إذا كان فائتا وهذا استخراج لطيف ومعنى حسن والله أعلم.

(1/357)


في خيار المجلس
عن نافع عن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المتبايعين بالخيار في بيعهما ما لم يتفرقا إلا أن يكون البيع خيارا" قال نافع: فكان عبد الله إذا اشترى شيئا يعجبه فارق صاحبه.
وفيما روي عنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المتبايعان لا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار".
هذا الحديث الثاني غير مخالف للحديث الأول لأن معنى لا بيع بينهما حتى يتفرقا لا بيع بينهما لا خيرا فيه يعني أن بينهما بيعا فيه الخيار حتى يتفرقا كما في الحديث الأول فإذا اتفرقا قطع ذلك التفرق خيارهما إلا بيع الخيار يعني فإن بيع الخيار مبقى لصاحبه بعد ذلك إلى المدة المشترط له الخيار فيها وتنازع العلماء في تاويل التفرق فقالت طائفة: هو قول البائع للمبتاع قد بعتك وقول المبتاع قد قبلت ذلك منك فيكون للبائع الرجوع عما قال قبل قبول المبتاع ويكون للمتباع القبول ما لم يفراق البائع ببدنه فإن فارقه ببدنه لم يكن له القبول بعد ذلك قالوا: ولو كان له الخيار بعد المفارقة بالبدن لكان له الخيار بعد المدة الطويلة وممن يذهب إلى هذا أبو يوسف وعيسى بن أبان وقال محمد أن يقول البائع للمبتاع قد بعتك وقول المبتاع له قد قبلت منك يكونان متفرقين كقوله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ} .
فإذا كان الزوجان متفرقين يقول الزوج طلقتك على كذا وقولها قبلت ذلك وإن لم يتفرقا بالبدن وجب مثله في البيع وقالت طائفة: الفرقة المقصودة هنا هي الفرقة بالأبدان لأنهما قبل تعاقدهما البيع متساومان وليسا بمتبايعين وإنما جعل لهما الخيار بعد كونهما متبايعين إلى أن يتفرقا وممن يذهب

(1/357)


إليه الشافعي ولا حجة له في ذلك لأن العرب قد تسمى الشيء باسم ما قرب منه كما حكى المزني عنه في تأويل قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} الآية إن العرب تقول دخل فلان بلد كذا لقربه منها ولقصده إلى دخولها وإن لم يكن في الحقيقة دخلها وإذا كان ذلك كذلك احتمل الحديث مثله والله أعلم وقد روي عن عبد الله بن عمر أنه قال: ما أدركت الصفقة حيا فهو من المبتاع ولا يكون منه إلا ما قد وقع ملكه بالصفقة عليه فيحتمل أن يكون التفرق الذي حكى نافع عنه استعماله إياه إنما كان يستعمله احتياطا من قول غيره لاحتمال الحديث له مخافة أن يلحقه فيه من غيره خلاف ما يريده في بيعه كمثل الذي لحقه في البيع الذي باعه بالبراءة من عيوبه فحكم عليه عثمان بخلاف ما كان يراه في ذلك وروي أيضا نافع عن ابن عمر بغير هذه الألفاظ من ذلك قوله: "كل بيعين بالخيار ما لم يتفرقا أو يكون بيع خيرا" وقوله: "كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا أو يكون خيارا".
وقوله: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا" إلا أن يكون البيع كان عن خيار فإن كان البيع عن خير فقد وجب البيع وقوله: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" أو يقول أحدهما لصاحبه اختر وربما قال أو يكون بيع خيار.
وذلك كله سواء معناه معنى الحديثين المذكورين أولا غير أن فيه أو يقول أحدهما لصاحبه اختر فإنه يحتمل أن يكون ذلك على قول يقوله بعد البيع فيكون قد أوجب به خيارا لم يكن له قبله ويحتمل أن يكون على خيار يشترطان في البيع لأحدهما وهذا أولى لأنه يرجع إلى إيجاب ما لم يكن للمقول له قبل ذلك ويؤيده رواية الليث عنه عن ابن عمر قال صلى الله عليه وسلم: "إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا" وكانا جميعا أو يخير أحدهما الآخر فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع فدل هذا على أن معنى قوله: أو يخير أحدهما الآخر إنما هو على تخيير يتعاقد متبايعان البيع عليه على ما في الحديث لأعلى ما سوى

(1/358)


ذلك مما قد حمله بعض الناس عليه وكيف يجوز أن يخير من له خيار بعقد البيع هذا يبعد في القلوب وإنما يكون التخيير لإيجاب ما لم يكن واجبا قبله على ما في رواية الليث من تعاقدهما البيع عليه وفي ذلك ما قد دل على أن البيع يجب بالتعاقد وإنه لا خيار لأحدهما فيه بعد عقده إلا أن يكون وقع على أن لأحدهما خيارا إلى مدة فيكون له الخيار إلى انقضاء تلك المدة وقد وجدنا الذي قال بالتفرق بالأبدان يقول إذا خير أحدهما صاحبه فالخيار الذي يجب له بذلك التخيير هو الذي كان واجبا له قبله فيكون كلام النبي صلى الله عليه وسلم على هذا لا فائدة فيه وحاضا لله أن يكون كذلك ولكنه عندنا على ما بينه الليث من انعقاد البيع عليه وإذا كان الخيار المشروط في البيع لا يمنع من له الخيار أن يكون مالكا قبل انقطاع خياره بعد الافتراق بالبدن كانا قبل الافتراق بذلك كذلك أيضا وكان الخيار المذكور في الحديث وجوبه وإن لم يشترط على خلاف ذلك وهو الخيار بين العقد وبين القبول على ما ذكرناه عن قائليه والنظر يوجب أن يكون تمليك الأموال بالبياعات يلزم بتمام البيع قبل الافتراق قياسا على تمليك المنافع بالإجارات وتمليك الإبضاع بالتزويجات والمخالعات وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن يكون صفقة خيرا فلا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله".
يعني لا يحل للذي عليه الخيار أن يغيب عن الذي له الخيار خشية أن يريد رده عليه بما وجب له من الخيار فلا يجده ويكون هذا التفرق خلاف التفرق الأول المختلف في تأويله ويجوز في اللغة أن يقول ما فارقت فلانا منذ كذا سنة وأن كان فراقه ببده في بعض المدة غير أنه لازمه الملامة المعقولة من مثله وهذا يؤيد ما ذهب إليه أبو حنيفة ومحمد من عدم جواز الفسخ بالخيار إلا بحضرة صاحبه وروي عن حكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المتبايعان بالخيار حتى يتفرقا أو ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما

(1/359)


وإن كذبا وكتمامحقت بركة بيعهما" قوله: "فإن صدقا" إلى آخره يريد بعض الباعة لأكلهم إذ قد يتبايعان على العرض بالعرض فيكون على كل واحد منهما أن يبين ما في عرضه ولا يكتم شيئا من عيوبه وكذا يجب بيان ثمنه إن كان البيع مرابحة وقد يبيع أحدهما صاحبه عرضا بثمن إلى أجل فلا يكون على المبتاع أن يبين شيئا لأن الصمن في ذمته وإنما يكون ذلك على البائع قال القاضي وقد تكون ذمة خربة لا تفي بالثمن عند الأجل فعليه أن يبين حال ذمته فحمله على العموم أولى قلت أن مال الله غاد ورائح فمن أين يعلم عدم القدرة على الوفاء عند الأجل.
قال الطحاوي: روي عن جميل بن مرة عن أبي الوضي قال: نزلنا منزلا فباع صاحب لنا من رجل فرسا فأقمنا في منزلنا يومنا وليلتنا فلما كان الغد قام الرجل يسرج فرسه فقال له صاحبه: إنك قد بعتني فاختصما إلى أبي برزة فقال: إن شئتما قضيت بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "البيعان بالخيرا ما لم يتفرقا وما أراكما تفرقتما" لا يصح الاحتجاج في إثبات الخيار بعد عقد البيع بهذا ولا بقول أبي برزة وما أراكما تفرقتما لأنهما قد أقاما بعد البيع مدة يتحقق تفرقهما بدن ولو إلي حاجة الإنسان أو إلى صلاة مما لو رقع مثله في صرف تصارفاه قبل القبض لفسد الصرف فكذلك لو كان الخيرا واجبا بعد عقد البيع لقطعه هذه الأشياء فدل أن التفرق عند أبي برزة لم يكن التفرق بالأبدان وروي أنهم اختصموا إلى أبي برزة في رجل باع جارية فنام معها البائع فلما أصبح قال لا أرضى فقال أبو برزة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" وكانا في خباء شعر.
فاختلف الحديث بالروايتين عن أبي برزة كما ذكرنا ولم تكن إحداهما أولى من الأخرى فلم يكن لأحد أن يحتج بأحدها إلا احتج عليه مخالفه بالآخر وليس في واحد منهما ما يوجب أن التفرق المذكور في الحديث هو التفرق بالأبدان وروي عن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البيعان

(1/360)


بالخيار ما لم يتفرقا ويأخذ كل واحد منهما ما رضي من البيع".
قوله ويأخذ كل واحد منهما ما رضي من البيع يدل على أن الخيار الذي للمتبايعين إنما هو قبل إنعقاد البيع في الحال الذي يكون لكل واحد منهما أن يأخذ ما رضي من البيع ويترك بعضه وذل قبل عقد البيع فيكون البيع ينعقد بينه وبين صاحبه فيما يرضاه منه لا فيما سواه إذ لا خلاف بين القائلين في هذا الباب بأن الافتراق المذكور في الحديث هو بعد البيع بالأبدان أنه ليس للمبتاع أن يأخذ ما رضي به وإنما له أن يأخذ كله أو يدعه وروي عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أنه قال: اشترى النبي صلى الله عليه وسلم من أعرابي قال: حسبت إن أبا الزبير قال: من عاصم بن صعصعة حمل قرظ أو حمل خبط فلما وجب له قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اختر" قال الأعرابي: إن رأيت مثل اليوم قط بيعا خير بائعه ممن أنت قال من قريش.
في قوله: "اختر" دليل على وجوب البيع قبل التخيير وقد يحتج به من قال بالخيار حتى يتفرقا بدنا وقد ذكرنا وجهه واستدللنا عليه بحديث الليث وإنما خير النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الأعرابي ليكون له ثواب من أقال نادما بيعته وروي أن ذلك كان قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وقبل النبوة وروي عن ابن طاوس عن أبيه قال: ابتاع النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة من أعرابي بعيرا أو غيره فقال له النبي صلى الله عليه وسلم بعد البيع "اختر" فنظر الأعرابي إليه فقال: لعمر الله ممن أنت فلما كان الإسلام جعل النبي صلى الله عليه وسلم بعد البيع الخيار. وهذا على الاختيار لا على الوجوب والله أعلم.

(1/361)


في بيع الثمار
عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا طلع النجم رفعت العاهة عن أهل كل بلد" المقصود رفع العاهة عن ثمار النخل والنجم هو الثريا وأراد بقوله: طلع طلوعه صباحا يكون الفجر معه يؤيده ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة قال: "ما طلع النجم صباحا قط ويقوم عاهة إلا رفعت عنهم أو خفت" وطلوعها في اليوم التاسع عشر من أيار.

(1/361)


في التجاوز في النقد
روي أن حذيفة وابن مسعود تذاكرا فقال أحدهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "حوسب رجل فلم يوجد له شيء من الخير فنظر في حسناته قيل: ما عملت خيرا؟ قال: لا إلا أني كنت أداين الناس فكنت آمر فتياني يسرون على الموسر وينظرون المعسر, فقال الله عز وجل: أنا أحق من ييسر قال: فادخل الجنة".
وعن حذيفة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم فقالوا: كنت تعمل من الخير شيئا؟ قال: لا قالوا: تذكر قال: كنت أداين الناس فآمر فتياني أن ينظر والمعسر ويتجاوزوا عهن الموسر قال الله تعالى: فتجاوزوا عنه" المراد بالتجاوز هو في النقد على ما روي حذيفة مرفوعا: "مات رجل فقيل له اذكر فأما ذكروا ما ذكر قال: كنت أبايع الناس فانظر المعسروا تجاوز في النقد والسكة فغفر له" ففيه تجويز إنفاق الزائف من الدراهم مع تبيان عيبه لا على ما سوى ذلك مما يستعمله بعض الناس مع تدليس عيبه.

(1/362)


في شراء الشيء بأقل من قيمته
روي عن عمر بن الخطاب قال: حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده فأردت إن ابتاعه منه وظننت أنه بائعه برخص فسألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم واحد فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه"
فيه ما يدل على أنه لو لم يكن صدقة منه لجاز له أن يشتريه بالدرهم الذي نهاه عنه وهذا قول فقهاء الأمصار من أهل الحجاز ومن أهل العراق

(1/362)


وغيرهم خلافا لبعض المتأخرين فإنه ذهب إلى أن ما وقع كذلك لم يكن بيعا وكان معقولا إن من كان له تمليك شيء بلا بدل كان له تمليكه بقليل البدل.

(1/363)


في ثمن الكلب
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من نهيه عن ثمن الكلب ومن قوله: "ثمن الكلب حرام" ومن قوله: "ثلاث من السحت ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن" ومن قوله: "ثمن الكلب خبيث" ومن نهيه عن ثمن الكلب والسنور ومن قوله: "لا يحل ثمن الكلب" يحتمل أن يكون التحريم كتحريم الأشياء المحرمة بالشرع ويحتمل أن يكون تحريمه لأجل الدناءة يدل عليه ما روي عن رفاعة بن رافع أو رافع بن رفاعة أنه جاء إلى مجلس الأنصار فقال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام وأمرنا أن نطعمه ناضحنا وروي مثله محيصة مرفوعا: أنه قال: "أعلفه ناضحك وأطعمه رقيقك" فلو كان حراما لما أباح له ذلك لكنه نهاهم لما فيه من الدناءة وإن كان في بعض الآثار أنه سحت على ما روي من السحت كسب الحجام.
ولذلك روي في كسب الحجام أنه خبيث ولما نهى عن ثمن الكلب والسنور ولا خلاف أن ثمن السنور ليس بحرام ولكنه دنى كان ثمن الكلب المقرون معه في الحديث مثله واحتمل أن يكون النهي عن ثمن الكلب إذ كان الأمر فيه بقتل الكلاب على اروي عن أبي رافع قال: أمرني النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب فخرجت أقتلها لا أرى كلبا إلا قتلته حتى آتى موضع كذا وسماه فإذا فيه كلب يدور ببيت فذهبت أقتله فناداني إنسان من جوف البيت يا عبد الله ما تريد أن تصنع قلت: إني أريد أن أقتل هذا الكلب قالت: إني امرأة بدار مضيعة وإن هذا يطرد عني السباع ويؤذنني بالجائي فأت النبي صلى الله عليه وسلم فاذكر ذلك له فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فأمرني بقتله ثم أباح صلى الله عليه وسلم أثمان بعضها روي أنه صلى الله عليه وسلم

(1/363)


"نهى عن ثمن السنور والكلب إلا كلب صيد".
وقال: "من اقتنى كلبا إلا كلبا ضاريا بالصيد أو كلب ماشية فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان" وقال: "من اقتنى كلبا لا يغني عنه في زرع ولا ضرع نقص من عمله كل يوم قيراطان" وروي: "قيراط" ورخص النبي صلى الله عليه وسلم في ترك قتل ما أباح منها روي عنه أنه أمر بقتل الكلاب ثم قال "ما لي وللكلاب" ثم رخص في كلب الصيد وفي كلب آخر نسيه الراوي وروى عن عبد الله بن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعا صوته بأمر قتل الكلاب قال: فكانت الكلاب تقتل إلا كلب صيد أو ماشية.
ولما وقفنا على اختلاف أحوال الكلاب في زمانه صلى الله عليه وسلم في حال لكها مقتولة وفي حال بعضها وجب أن يحمل ما روي من نهيه في أثمانها على الحالة التي أبيح قتل كلها فيها لا قتل بعضها مع أنه روي استثناء ثمن كلب الصيد وفي معناه الكلاب التي يباح اتخاذها وقد اختلف أهل العلم فيه فطائفه ذهبت إلى تحريم أثمان الكلاب كلها وممن ذهب إلى ذلك مالك والشافعي وطائفة ذهبت إلى تحريم أثمان ما لا يحل الانتفاع به منها وإباحة أثمان غيرها وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه وهو أولى القولين بالقياس لأن الكلب المأذون في الانتفاع به كالحمار الأهلي في جواز الانتفاع به وتحريم أكل لحمه فوجب أن يكون مثله في جواز بيعه.

(1/364)


في العهدة
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من اكتتابه في العهدة التي اكتتبها للعداء بن خالد بن هوذة في بيعه إياه عبدا أو أمة بيع المسلم المسلم لا داء ولا غائلة ولا خبثة إلا دواء الأمراض والغوائل الأشياء التي يغتال بها المملوكون مالكيهم كالأياق والسرقة ومنه قتل الغيلة وقوله صلى الله عليه وسلم: "لقد هممت أن أنهي عن الغيلة" فسمي ما يطرأ على أولادهم من وطء أمهاتهم غيلا لأنه يأتيهم ذلك من

(1/364)


حيث لا يعلمون وأما الخبثة فقيل الشيء المذموم وهو سبي أهل العهد الذن لا يحل استرقاقهم وقيل هي الأشياء الخبيثة من قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} وقوله: {وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً} وكل مذموم خبيث وعلى العكس والأول أظهر لكونها أكثر فائدة لأن كل غائلة خبيثة وليس كل خبيثة غائلة وروي عن عقبة قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدة الرقيق ثلاثة أيام وروي لا عهدة بعد أربع وليس بالقوى ثم العهدة مأخوذة من العهد وهي الأشياء المتقدم فيها المطلوب ممن تقدم إليه فيها الوفاء بها منه قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ} {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً} فالأولى بما روينا الحمل على العقد المشروط في البياعات من الخيارات المشترطات فيها فتكون مدته ثلاثة أيام لا فوقها كما يقول أبو حنيفة وزفر والشافعي وأما قول أهل المدينة بأن العهدة موت المبيع وما ظهر في بدنه في ثلاثة أيام أوفى ستة فقد كان عطاء وطاؤس ينكران ذلك وقال شريح عهدة المسلم لأداء ولا غائلة ولا شين ولما لم نجد في الحديث غير ما ذكرنا التمسنا حكمها من طريق النظر فوجدنا الرجل إذا باع العبد أو الجارية وسلمها إليه فأراد أن يمنع البائع من ثمنها لم يكن له ذلك بإجماع فكان ذلك دليلا أنه لم يبق له شيء مما يوجبه البيع عليه إذ لو بقي شيء من خيار أو من غيره لكان له منعه إياه وفي إجماعهم على عدم المنع دليل على أنه لم يبق عليه حق بحكم البيع الذي تعاقداه من عهده ولا غيرها.

(1/365)