المعتصر من المختصر من مشكل الآثار

المجلد الثاني
كتاب الأقضية
ما جاء في كراهية القضاء لمن ضعف عنه
...
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الأقضية
فيه سبعة وعشرون حديثا
ما جاء في كراهية القضاء لمن ضعف عنه
عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "أوصيك بتقوى الله في سر أمرك وعلانيتك فإذا أسأت فأحسن ولا تسألن أحدا وإن سقط سوطك ولا تؤتين أمانة ولا تولين يتيما ولا تقضين بين اثنين".
محمل النهى فيه رؤيته صلى الله عليه وسلم إياه ضعيفا عن القيام بمواجب القضاء وولاية اليتيم والأمانة يبينه ما روى قوله صلى الله عليه وسلم له: "أني أراك ضعيفا فلا تأمرن على اثنين ولا تلين مال يتيم" وما روى أنه قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تستعملني فضرب بيده على منكبي ثم قال: "يا أبا ذر إنك ضعيف وأنها أمانة وأنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها" وسؤاله ذلك مكروه له روى عن عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك أن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها.

(2/2)


في قضاء الغضبان
عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحكم أحدكم بين اثنين وهو غضبان" ولا يعارضه ما روى عن

(2/2)


النبي صلى الله عليه وسلم من الحكم في وقت غضبه بين الزبير وخصمه الأنصاري لما احفظه بقوله: أن كان ابن عمتك لأنه صلى الله عليه وسلم معصوم محفوظ عليه أمره فخلقه العدل في الغضب والرضا بخلاف غيره وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشار على الزبير برأي فيه السعة له وللأنصاري فلما أحفظه الأنصاري استوعب للزبير حقه في صريح الحكم وقال للزبير: اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ إلى الجدر قال الزبير: ما احسب هذه الآية نزلت الا في ذلك {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية قال ابن وهب الجدر الأصل وليس هذا بخلاف لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في مهزوروادى بني قريظة أن الماء إلى الكعبين ثم يرسل الأعلى على الأسفل إذ قد يحتمل أن يكون هذا وما يبلغ إلى الكعبين من الماء مثل الذي يبلغ الجدر منه فلما استويا جميعا ذكره مرة بهذا ومرة بهذا وهذا أولى ما حمل عليه دفعا للتضاد والتنافي.

(2/3)


في عقوبة الإمام بانتهاك ماله
روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في النفر الذين قتلوا الراعي واستاقوا اللقاح إلى أرض الشرك1: "عطش من عطش آل محمد في هذه الليلة" ثم بعث في طلبهم فأخذوا فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم فيه دليل على أن اللقاح المستاقة كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا من الصدقة لأن الصدقة كانت حراما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى سائر بني هاشم وآله الذين دعا الله عز وجل أن يعطش من عطشهم بنابه2 وإقامة العقوبة على من جنى على مال الحاكم من خواصه صلى الله عليه وسلم بخلاف غيره من الأئمة والحكام لا يجوز لهم أن يقيموا عقوبة على من فعل في أموالهم ما يوجب تلك العقوبة بالبينات إذ ليس لهم أن يحكموا بتلك الأموال لأنفسهم ولهم أن يحكموا بالإقرار على منتهكي ذلك من أموالهم فيقوموا بها العقوبات ويتملكون بها الأموال لأنفسهم وذلك لأن ما كان يفعله صلى الله
__________
1 لعله سقط من هنا "اللهم".
2 كذا-.

(2/3)


عليه وسلم يفعله وحيا من الله تعالى فالحاكم هو الله والقائم به بأمره هو رسوله فإليه أن يفعل ذلك بالبينات والإقرارات جميعا ومثله ما كان من أبي بكر رضي الله عنه في الأطلس الذي كان منه في بيت أسماء زوجته ما كان فقطعه باعترافه إذ لو كان بالبينة لما قطعه كما لو كان المسروق له لأن متاعها كمتاعه دل عليه قول عمر رضي الله عنه لعبد الله بن عمر ولما جاءه بغلامه فقال: أن هذا سرق شيئا لامرأته لا قطع عليه خادمكم سرق متاعكم ولهذا لا تجوز شهادته لزوجته.

(2/4)


في حكمه صلى الله عليه وسلم في القصعة المكسورة
عن أم سلمة أنها جاءت بطعام في صحفة لها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فجاءت عائشة متزرة بكساء ومعها فهر ففلقت به الصحفة فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين فلقتي الصحفة قال: "كلوا غارت أمكم" مرتين ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم صحفة عائشة فبعث بها إلى أم سلمة وأعطى صحفة أم سلمة لعائشة.
وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بقصعة فيها طعام فضربت يد الخادم فسقطت القصعة فانفلقت فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم فضم الكسرتين وجعل يجمع فيها الطعام ويقول "غارت أمكم" وقال للقوم: "كلوا" وحبس الرسول حتى جاءت الأخرى بقصعتها فدفع القصعة الصحيحة إلى رسول التي كسرت قصعتها وترك المنكسرة للتي كسرت.
وروى أنه سئلت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: أما تقرأ القرآن قلنا: على ذلك حدثينا عن خلقه قالت: كان عنده أصحابه فصنعت له حفصة طعاما فسبقتني حفصة فأرسلت مع جاريتها

(2/4)


بقصعة فقلت لجاريتي: أن أدركتها قبل أن تهدي بها فأرمي بها فأدركتها وقد اهتدت بها فرمت بها على النطع فانكسرت القصعة وتبدد الطعام فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الطعام فأكلوه ثم وضعت جاريتي القصعة بالطعام فقال لجارية حفصة: "خذي هذا الطعام فكلوا واقبضوا الجفنة مكان ظرفكم" قالت: ولم أروجهه ولم يعاقبني قال الطحاوي: قد عدنا بعض الناس راغبين عن هذه الأحاديث تاركين لها إلى ضدها في قولنا: أنه يقضي ما عدا المكيل والموزون بقيمته وليس ذلك كما توهم لأن الصحفتين جميعا كانتا له في بيته وزوجتاه من عياله فحول الصحفة الصحيحة إلى بيت التي كسرت صحفتها والمكسورة إلى بيت الكاسرة فلا تكون حجة علينا بل الحجة لنا بإجماع أهل العلم على أن من اعتق عبدا مشتركا وهو موسر عليه قيمة نصيب شريكه لا نصف عبد مثله وكذا إلا حجة علينا في إيجاب الإبل في قتل الخطأ والغرة في الجنين إذ ليس شيء من ذلك مثلا للمتلف وإنما ذلك تعبدي لزم الانقياد إليه وما روى من إجازة القرض في الحيوان كان قبل تحريم الربا فهو منسوخ ومن لم يره منسوخا يلزمه منع استقراض الإماء مع حملهم الحديث على عمومه بقياسهم على البعير المذكور في الحديث جميع الحيوان فيجوز حينئذ القرض في الإماء ويحل للمستقرض الوطء لأن الأمة تخرج بالاستقراض من ملك المقرض إلى ملك المبتاع فيجوز له الوطء فيها واستقالة بايعها منها فإن قيل: قد أجزتم النكاح على أمة وسط فيلزمكم جواز بيع الدار بأمة وسط قلنا لما جعلوا في جنين الحرة الذي ليس بمال غرة وفي جنين الأمة الذي هو مال قيمة وإن اختلفوا فيها فعند مالك والشافعي نصف عشر قيمة أمه وقال أبو يوسف: ما نقص أمه كجنين البهيمة إذا ضرب بطنها فالقته ميتا وقال أبو حنيفة ومحمد: إن كان أنثى ففيه عشر قيمته لو كان حيا وإن كان ذكرا فنصف عشر قيمته لو كان حيا عقلنا بذلك إن ما هو مال لا يجوز استعمال الحيوان فيه وما ليس بمال جاز استعماله فيه فلذلك جوزنا التزويج على الحيوان ومنعنا الابتياع به إذا كان في الذمة وإن قلنا: أن القصاع

(2/5)


كانت لأمهات المؤمنين بظاهر إضافتها إليهن فالأحاديث حجة لمالك فيما روى عنه من القضاء بالمثل فيما قل من العروض ولا حجة فيه لمن جوز حكم الحاكم لإحدى زوجتيه على الأخرى لأنه صلى الله عليه وسلم ليس كغيره ممن تلحقه التهم.

(2/6)


في الاجتعال على القضاء
عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه أن عمر قال: لا نأخذ على شيء من حكومة المسلمين أجرا وروى عن عمر ما يخالفه عن ابن الساعدي قال: استعملني عمر على الصدقة فلما أديتها إليه أعطاني عمالتي فقلت: أنما عملت لله وأجري على الله فقال: خذ ما أعطيتك فإني عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعملني فقلت مثل قولك فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أعطيتك شيئا من غير أن تسأل فخذ وتصدق" وخرج في هذا المعنى آثار كثيرة والأولى إباحة الاجتعال استدلال بقوله تعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} لقيامهم بتحصيلها لأهلها وإن كانوا أغنياء ومثله الإجتعال على ولاية أثغار المسلمين لحفظها ودفع من حاول البغي عليهم فإنه أطلق للولاة عليها من بيت المال ومثله الجعل لجندهم التي لا تقوم ولاتهم لها إلا بهم وكذلك ولاة خراج المسلمين في جمعه وحفظه على الوجوه التي يجب صرفه فيها وإذا كان الأمر كذلك فيما ذكرنا كان من يتولى حكومات المسلمين وفصل خصوماتهم ويخلص حقوق بعضهم من بعضهم ويمنع الظالم من مظلومهم يجوز له الاجتعال على ذلك من أموال المسلمين أيضا.

(2/6)


في الرشوة
عن ثوبان قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش وروى عنه والرائش الذي يمشي بينهما أخذ ذلك الريش التي تتخذ للسهام التي لا تقوم إلا بها وذلك في الحكم يبينه حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي في الحكم ولا يدخل

(2/6)


في ذلك من رشى ليصل إلى حقه الممنوع عنه وأما المرتشي منه ليوصله إلى حقه داخل في اللعن ومما يدل عليه ما روى عن جابر بن زيد ما وجدنا في أيام ابن زياد وفي أيام زياد شيئا هو أنفع من الرشا أي أنهم كانوا يفعلون ذلك استدفاعا للشر عنهم.

(2/7)


في استحلاف المطلوب
روى عن ابن عباس أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الطالب البينة فلم يكن له بينة فاستحلف المطلوب بالله الذي لا إله إلا هو فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنك قد فعلت ادفع حقه وسيكفر عنك لا إله إلا الله ما صنعت" لا يعارضه حديث: "من اقتطع مال امرىء مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب عليه النار" لأن هذا فيمن حلف والأمر عنده على ما حلف عليه لأنه ذهب عنه ما كان تقدم منه فيه ثم أعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد كان منه غير ما حلف عليه وأمره أن يدفع حق غريمه ثم أعلمه أن يكفر عنه ما كان منه من الحلف بتوحيد الله.
لا يقال فعلى هذا فيه للكفارة موضع إذ لم يكن عاصيا لأن الكفارة قد تكون فيما لا إثم فيه كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها" وفي حديث آخر: "لا كفارة لها إلا ذلك" وكما في قتل الخطأ قال القاضي: ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أمره أن يتوب ويستغفر الله ويدفع إلى الخصم حقه ويكفر عنه الذنب الاستغفار والتوبة الذي لا يصح إلا من مؤمن يقر بأن الله لا إله إلا هو وفيما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "يمينك على ما صدقك عليه صاحبك أو يمينك على ما صدقك فيها صاحبك" وهذا في دعوى يسع المدعي دعواه إياها على من يسعه جحوده إياها كمثل رجل ينقلب على مال رجل في نومه فيتلفه غير عالم لذلك من معاينة صاحب المال ذلك منه في ماله فيكون في سعة من دعواه الواجب له في ذلك والمدعى

(2/7)


عليه النائم في سعة من دفعه عن نفسه لأنه لا يعلم وجوب ذلك عليه وفي سعة من حلفه على ذلك غير أن الفرض عليه في ذلك أن تكون يمينه في الظاهر كهي في الباطن لا تدريك فيها منه وكان ذلك بخلاف ما يدعى عليه مما يعلم في الحقيقة أنه مظلوم فيما يدعى عليه من ذلك ويكون في سعة من تدريك يمينه على ذلك إلى ما لا يكون عليه في حلفه على ذلك إثم كمثل ما روى عن سويد بن حنظلة مما كان منه في وائل ابن حجر في حلفه أنه أخوه لما طلبه عدوه ليقتله ومن تناهى ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصديقه سويدا على ذلك روى عنه أنه قال: خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا وائل بن حجر فأخذه عدو له فتحرج الناس أن يحلفوا له وحلفت أنه أخي فخلا عنه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدقت المسلم أخو المسلم" وحمده على ذلك ووسع له أن يحلف على ما يدفع به عن وائل بن حجر فكان تصحيح الحديثين على هذا دفعا للتضاد.

(2/8)


في اقتطاع الحق باليمين
قال ابن أبي مليكة: كنت عاملا لابن الزبير على الطائف فكتبت إلى ابن عباس أن امرأتين كانتا تخرزان في بيت حرير لهما فأصابت أحداهما يد صاحبتها بالأشفى فخرجت وهي تدمى وفي الحجرة إحداث فقالت: أصابتني فأنكرت ذلك الأخرى فكتب إلى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن اليمين على المدعي عليه ولو أن الناس أعطوا بدعواهم لادعى ناس دماء ناس وأموالهم فادعها فاقرأ عليها هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} فقرأت عليها الآية فاعترفت فبلغ ذلك ابن عباس فسره وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين يقتطع بها مال مسلم لقي الله وهو عليه غضبان قال الأشعث بن قيس: في نزلت {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} الآية كان بيني وبين رجل مداراة في أرض فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "بينتك" فقلت: ليس لي بينة قال: "فيحلف" قلت: إذن يذهب بها فنزلت هذه الآية.

(2/8)


وروى عن عدي أنه قال: أتى رجلان يختصمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أرض فقال أحدهما: هي لي وقال الآخر: هي لي حزتها وقبضتها فقال: "فيها اليمين للذي بيده الأرض" فلما تفوه ليحلف قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه من حلف على مال امرئ مسلم لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان" قال: فمن تركها؟ قال: "كان له الجنة".
وفي حديث مخاصمة الكندي والحضرمي في الأرض التي زعم الحضرمي أن أبا الكندي غصبها منه وقوله صلى الله عليه وسلم للحضرمي: "هل لك بينة"؟ قال: لا ولكن يحلف يا رسول الله بالله الذي لا إله إلا هو ما يعلم أنها أرضي اغتصبتها فتهيأ الكندي لليمين فقال صلى الله عليه وسلم: "أنه لا يقطع رجل مالا بيمينه إلا لقي الله عز وجل يوم يلقاه وهو أجذم" فردها الكندي وفي مخاصمة وائل بن حجر امرأ القيس بن عابس وربيعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقوله للطالب منهما: "بينتك" وقوله لما قال في يمين المطلوب: "إذن يذهب بها ليس لك إلا ذلك" ففي هذا كله قيام الحجة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجوب البينة على المدعي وبوجوب اليمين على المدعى عليه وروى عنه صلى الله عليه وسلم قال: "إيما رجل حلف على مال كاذبا فاقتطعه بيمينه فقد برئت منه الجنة ووجبت له النار" قيل: وإن كان قليلا قال: فقلب مسواكا بين أصابعه فقال: "وإن كان مسواكا من أراك وإن كان عودا من أراك" الاقتطاع هو أن يغصب شيئا وكان للمغصوب أن يطالب به غاصبه وكان على الحكم أن لا يحول بين المدعي والمدعى عليه حتى يعينه على الذي يدعى عليه ويحلف وإذا حلفه خلى بين المطلوب وبين ذلك الشيء حتى يتصرف فيه كيف يشاء ويكون بذلك مقتطعا وإن نكل يستحقه المقضي له على المقضي عليه بذلك وهو قول أبي حنيفة والثوري ومن تبعهما وقال بعض يحلف المدعى ثم يقضي به عليه وكان قبل النكول لا يستحقه وإنما استحقه بذلك بعد نكون الغاصب عن اليمين فقد أجمعوا على أن النكول عن اليمين حجة للمدعي على المدعى عليه إذ ثبت كونه حجة كان

(2/9)


المعقول أن لا يسأل معها حجة أخرى مع الإقرار والبينة فالحق أن يقضي بالنكول الذي هو حجة ولا يكلف إقامة أخرى سواها كما لا يكلف إقامة حجة مع الإقرار ومع البينة يؤيده قضاء عثمان في امرأة أمرت وليدة لها أن تضطجع عند زوجها فحسب أنها جاريته فوقع عليها وهو لا يشعر فقال عثمان: احلفوه لما شعر فإن أبى أن يحلف فارجموه وإن حلف فاجلدوه مائة جلدة واجلدوا امرأته مائة جلدة واجلدوا الوليدة الحد فحكم عثمان في هذا الحديث للنكول بحكم الإقرار ولا نعلم له مخالفا من الصحابة ولا منكرا عليه منهم إياه وفي ذلك ما قد شد ما وصفناه.

(2/10)


في التحلل من الدعاوى
روى أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض قد هلك أهلها وذهب من يعملها فقال صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر ولم ينزل على فيه شيء ولعل بعضكم أن يكون الحن بحجته من بعض فمن أقطع له قطعة من مال أخيه ظلما جاء يوم القيامة اسطاما من نار في وجهه" فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما يا رسول الله: حقي له فقال صلى الله عليه وسلم: "اذهبا فأقتسما وتوخيا الحق ثم استهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه" المراد من التحلل هنا هو التحلل في الانتفاع لا في تمليك رقبة الأرض ألا ترى أن رجلا لو قال: احللتك من دارى التي في يدك أو من عبدي لم يملك المحلل له بذلك شيئا من رقبة العبد والدار وكذا لا يمكن التحليل بطريق البيع لجهلهما بمقدار المبيع فلذلك أمرا بما يقدران عليه من التحلل بالانتفاع الذي ينتقلان به من حال التحريم إلى حال التحليل وروى عن أبي هريرة أن رجلين ادعيا دابة ولم يكن لواحد منهما بينة فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستهما على اليمين.
وروى عنه أنه اختصم قوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن

(2/10)


يحلفوا فأسرع الفريقان في اليمين فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرع بينهم أيهم يحلف لما كان كل واحد من الخصمين عاد مدعيا على صاحبه دعوى توجب عليه اليمين استويا فلم يقدم واحد منهما في اليمين كراهية الميل إلى أحدهما لأن من سنته صلى الله عليه وسلم التعديل والتسوية بينهما فلذلك رد أمرهما إلى الإقراع ليقدم من خرج سهمه كما أقرع بين نسائه عند السفر وهكذا ينبغي للحكام أن يفعلوه إذا تشاح الخصوم في التقدم إليه.

(2/11)


في الحكم بالاجتهاد
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيما يأمر به الرجل إذا ولاه على السرية: إن أنت حاصرت أهل حصن فأرادوا أن تنزلهم على حكم الله عز وجل فلا تنزلهم على حكم الله فإنك لا تدري أتصيب حكم الله أم لا ولكن أنزلهم على حكمك فيه أن الاجتهاد في محل لا يكون نص أو إجماع سائغ وإن كنا لا ندري حكم الله تعالى فيه في الواقع وأنه مفروض علينا العمل به لاحتمال الصواب إذ لا يكلفنا الله بما لا نطيق لذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإنزال على حكم الله إذ لا يدري أيصيبه أم لا وأمرنا أن ننزلهم على حكم الاجتهاد أصاب الحق أم أخطأ ومثله ما كان من أمر بني قريظة الذين نزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم فيهم أن يقتل رجالهم وتسبى نساءهم وذراريهم وتقسم أموالهم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت فيهم يحكم الله عز وجل ورسوله".
فإن سعدا حكم فيهم باجتهاده قبل أن يعمل ما حكم الله فيهم فحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منه.
وإذا كان واسعا في الدماء والفروج فهو في الأموال أوسع قيل: كل مجتهد مصيب لقوله صلى الله عليه وسلم جوابا بمعاذ لما قال: اجتهد رأيي: الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضى رسوله وما أرضى رسوله فقد أرضى الله

(2/11)


ويستحيل أن يرضى بالخطأ وهذه مسألة أصولية لا يصح الاحتجاج فيها بأخبار الآحاد ولا بالظواهر المحتملة.

(2/12)


القضاة ثلاثة
روى عنه صلى الله عليه وسلم قوله: "القضاة ثلاثة فقاضيان في النار وقاض في الجنة فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة ورجل عرف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في النار ورجل لم يعرف الحق فيقضي بين الناس على جهل فهو في النار" لا يقال القاضي بالحق هو الذي وقف على الحكم عند الله فلا يجوز استعمال اجتهاده لأنه قد يصيب الحق به وقد يخطئ لأنا نقول في قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد فأخطأ فله أجر" دليل على أن له أن يجتهد فيما لا نص فيه ولا إجماع وأن اخطأ الحق فعلمنا به أن الحق الذي عناه بقوله عرف الحق فقضى به هو الحق الذي أدى إليه اجتهاده أصاب الحق في الواقع أم لا لأن الله تعالى لا يكلفنا مالا نطيق وقد كلفنا بالقضاء بالاجتهاد الذي فيه إصابة الحق عند الله وقد يكون معه التقصير عنه يؤيده قصة داود وسليمان إذ يحكمان في الحرث وقوله تعالى: {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} وكذا حديث معاذ حين بعثه إلى اليمن مع ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سليمان سأل ربه أن يؤتيه حكما يصادف حكمه فأعطاه إياه إذ لو كان مصيبا له على كل حال لما سأل ربه وكذا روى عن عمر أنه كتب بقضية إلى عامل له فكتب هذا ما أرى الله عمر فقال: امحه واكتب هذا ما رأى عمر فإن يك صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمن عمر وروى عن ابن مسعود في رجل مات عن امرأة لم يسم لها صداقا ولم يدخل بها قال: أقول فيها برأيي فإن يك خطأ فمن قبلي وإن يك صوابا فمن الله وفيما روى عن عمر بن الخطاب أنه قال: اتهموا الرأى على الدين.
وعن أبي وائل سمعت سهل بن حنيف يوم الجمل ويوم صفين يقول اتهموا رأيكم فقد رأيتني يوم أبي جندل ولو استطعت أن أرد أمر رسول الله

(2/12)


صلى الله عليه وسلم لرددته دليل على أن الرأي قد يصاب به الحق حقيقة وقد يكون فيه التقصير عنه وإن كان مجتهده محمودا في الاجتهاد لأنه استفرغ جهده في طلب الحق يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا حكم الحاكم فأصاب فله أجران وإذا حكم فأخطأ فله أجر" وهذا قول محققي الفقهاء فأما من دخل في الغلو حتى قال: إذا حكم بالاجتهاد ومعه الآلة التي بها تتم أهلية الاجتهاد فقد حكم بالحق الذي لو نزل القرآن ما نزل إلا به فنعوذ بالله من قائله وهو محجوج بما لا يستطيع دفعه منهم إبراهيم بن اسماعيل ابن علية قال أبو جعفر بن العباس: لما بلغني هذا القول عنه أتيته في يومي فذكرت ذلك لآخذ عليه أنه قد قاله فقال لي: قد قلته فقلت له: هل استعملت رأيك في مسألة من الفقه واجتهدت فيها غاية الاجتهاد الذي عليك فيها ثم تبين بعد ذلك أن الصواب في غير ما قلت فقال: نعم نحن في هذا أكثر نهارنا قال: فقلت له: فأي القولين الذي لو نزل القرآن ما نزل إلا به؟ في تلك الحادثة؟ الأولى أو الثانية قال فانقطع والله في يدي أقبح انقطاع وما رد على حرفا وقد أجاد أبو جعفر في ذلك وأقام لله حجة من حججه على من خرج عنها وغلا الغلو الذي كان فيه مذموما.

(2/13)


في التحكيم
عن عمر قال: إذا كان في سفر ثلاثة فليؤمروا أحدهم فذلك أمير أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيما روى عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان ثلاثة فليؤمروا أحدهم" قال نافع: فقلت لأبي سلمة: فأنت أميرنا في هذين الحديثين أن الأمير المؤمر من جهة الناس كالأمراء من جهة ولي الأمر في وجوب السمع منهم والطاعة لهم وإذا كان ذلك في الأمرة فالقضاء مثله كما إذا حكم المتنازعات حكما بينهما كان حكمه عليهما كحكم الحاكم الذي جعله الإمام حاكما وهذه مسألة متنازع فيها فمذهب فقهاء المدينة وابن أبي ليلى والشافعي في قول أنه ليس للحاكم المرفوع إليه

(2/13)


حكم الحكم أن يبطله إلا أن يكون خارجا من أقوال أهل العلم جميعا ويمضيه كما يمضي حكم من قبله من القضاة ومذهب أبي حنيفة وأصحابه أن للقاضي المرفوع إليه حكم الحكم أن يرده إذا لم يوافق رأيه وإن وافق رأيه أمضاه والحق هو القول الأول لإجماعهم أن ليس لواحد من الخصمين الرجوع عما حكم به الحكم بينهما قبل أن يرتفعا إلى القاضي وإذا كان لزمهما قبل ارتفاعهما إلى القاضي أن يمضيه وينقضه إلا بما ينقض به أحكام القضاة إذ سبيل الحكام فيما تناهى إليهم مما قد لزم من الأحكام سد إبطاله.

(2/14)


في القضاء على الغائب
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إذا خاصم الرجل الآخر فدعا أحدهما صاحبه إلى الرسول ليقضي بينهما فأبى أن يجئ فلاحق له"، حكى عن هلال في معناه أن من حق الرجل إذا ادعى عليه وهو غائب أن يبعث إليه حتى يسمع منه إقراره أو حجته ثم يفعل فإن دعى ولم يجب ذهب ذلك الحق منه ووجب أن يقيم الحاكم له وكيلا مقامه ثم يسمع بينة المدعى ويقضي بها بعد التعديل كما يقضي بها في حضوره غير أنه يجعله على حجته وهذه مسئلة فقهية مختلف فيها فإقامة الوكيل في غيبته والحكم بطريقه مذهب أبي يوسف وأكثر البصريين وعدم الحكم حتى يحضر المدعى عليه مذهب الإمام أبي حنيفة ومحمد ومنهم من قال: يسمع البينة في كل شيء سوى العقار فلا يسمعها فيه حتى يحضر وهو مذهب مالك ومنهم من قال: يسمع البينة في كل شيء ويقضي عليه ويجعله على حجته وهو مذهب الشافعي ولما اختلفوا وجدناهم مجمعين أن لو كان حاضرا فامتنع من الجواب أن الحاكم لا يخلي بينه وبين ذلك ويلزمه بالجواب عما ادعى عليه خصمه ولا يسمع بينة عليه وإن أحضرها خصمه لتشهد له على دعواه عليه حتى يكون منه الجواب الذي يحتاج من بعده إلى بينة وإذا كان ذلك في حضوره وجب أن يكون كذلك في مغيبه

(2/14)


في وجوب طاعة الإمام إذا أمر بإقامة الحد
عن أبي برزة الأسلمي قال: كنا عند أبي بكر الصديق في عمله فغضب على رجل من المسلمين فاشتد غضبه عليه جدا قال: فلما رأيت ذلك قلت يا خليفة رسول الله أضرب عنقه فلما ذكرت القتل انصرف عن ذلك الحديث أجمع فلما تفرقنا ارسل إلي بعد ذلك فقال: يا أبا برزة وما قلت ونسيت الذي قلت قلت ذكرنيه قال: أما تذكر يوم قلت كذا وكذا أكنت فاعلا ذلك قلت نعم والله إن أمرتني فعلت قال: ويحك أن تلك والله ما هي لأحد بعد محمد صلى الله عليه وسلم يعني ليس لأحد من الولاة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤتمر له في أمره بالقتل حتى يعلم الأمور استحقاق المأمور بقتله ذلك وروى عنه أن رجلا سب أبا بكر فقلت ألا أضرب عنقه يا خليفة رسول الله فقال: ليست هذه لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى هذا يكون المراد ليس لأحد أن يأمر بالقتل لسب سبه سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن من سبه يكفر ويحل دمه ومن سب من سواه من ولاة الأمور بعده فالذي يستحقه على ذلك الأدب لا يخرجه ذلك عن الإسلام إلى الكفر وقد اختلف العلماء في أمر الحاكم بالقتل هل يسع امتثاله إذا كان الحاكم عدلا أم لا فكان أبو حنيفة وأصحابه يقولون أنه يسعه غير أن محمد رجع عنه وقال: لا يسعه حتى يشهد عنده ثلاثة عدول وهذا لا معنى له إذ ليس المأمور بحاكم فيشهد عنده فتعين القول الأول إذ ليس في الباب غير هذين القولين يؤيده ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل علقمة بن مجزز المدلجي على جيش فبعث سرية واستعمل عليهم عبد الله بن حذافة السهمي وكان رجلا فيه دعابة وبين أيديهم نار قد أججت فقال لأصحابه: أليست طاعتي عليكم واجبة فقالوا: بلى قال: فاقتحموا هذه النار فقام رجل فاحتجز حتى يدخلها فضحك وقال: إنما كنت ألعب فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال: "أو قد فعلوا هذا فلا تطيعوهم

(2/15)


في معصية الله عز وجل" فلما أخرج من ذلك طاعتهم في المعصية دل على أن طاعتهم فيما ليست بمعصية واجبة عليهم فدل ذلك على صحة القول الأول وعلى صحة ما تأولنا عليه قول أبي بكر لأبي برزة رضي الله عنهما ليس ذلك لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

(2/16)


في منع الجار من غرز الخشبة
روى عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبة على جداره" وروى عنه مرفوعا من ابتنى فليدعم جذوعه على حائط جاره وعن أبي هريرة مرفوعا لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره أو خشبه في جداره وروى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سأله جاره أن يضع في جداره خشبة فلا يمنعه" وفيه ما يدل على أنه ليس له إلا بعد سؤاله إياه عند حاجته وإن الأمر في ذلك على الاختيار لا على الوجوب كقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} وكقوله عليه السلام: "إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها" ليس على الإيجاب ولكنه على الندب إذا رأى أزواجهن فيهن خيرا وفي رواحهن مصلحة وما روى عن أبي هريرة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمنع الرجل جاره أن يضع خشبته على جداره أو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرئ مسلم أن يمنع جاره خشباته يضعها على جداره" ثم يقول أبو هريرة: لا ضر بن بها بين أعينكم وإن كرهتم غير مخالف لما قلنا أما الأول فعلى المنع مما لا يضر وأما الثاني فعلى وزان قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحل الصدقة لذي مرة سوى" لم يعن بذلك أنها تكون عليه حرا ما عند حاجته إليها كحرمتها على الأغنياء ولكن لا تحل للعاجز عن الاكتساب إذ لا ضرر عليه في تركها والاكتساب بقوته ما يغنيه عنها فكذا هنا لأنه قد يستطيع أن يبيحه ذلك فيرجع بعد ذلك إلى الإضرار عليه فلا يكون فيما أباحه إياه كما لا ضرر عليه فيه لو لم يبحه إياه ومثله ما روى عن أنس قال

(2/16)


استشهد منا غلام يوم أحد فجعلت أمه تمسح التراب عن وجهه وتقول أبشر هنيئا بالجنة فقال صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ويمنع ما لا يضره".

(2/17)


في حجر البالغين
روى عن ابن عمر أن رجلا ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع فقال صلى الله عليه وسلم: "إذا بايعت فقل لا خلابة" فكان الرجل إذا باع يقول لا خلابة قيل: فيه دليل على أن الحجر على البالغ غير المجنون لا يجوز إذ لم يحجر عليه صلى الله عليه وسلم وقد شكى إليه أنه يخدع في البيوع وهو مذهب أبي حنيفة وتقدمه فيه محمد بن سيرين وليس كذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لم يطلق له البيع إلا باشتراطه فيه عدم الخلابة بخلاف غيره ممن لا يخدع كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" ففيه دليل على الحجر لأنه جعل بيعه إلى من يتولى أمره فإن كانت فيه خلابة أبطله وإن لم تكن فيه خلابة أمضاه ويؤيده ما روى عن ابن عمر أن حبان بن منقذ كان شج في رأسه ما مومة فثقل لسانه فكان يخدع في البيع فجعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ابتاع من شيء فهو فيه بالخيار ثلاثا وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل لا خلابة" قال ابن عمر: فسمعته يقول لا خدابة لا خدابة ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل له الخيار فيما يبتاعه ثلاثة أيام ليعتبر بيعه فيمضي أو يرد وذلك حجر عليه في ما له لا اطلاق له فيه وروى عن أنس أن رجلا كان في عقله ضعف وكان يبتاع وأن أهله أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبي الله احجر عليه فدعاه نبي الله صلى الله عليه وسلم ونهاه فقال: يا نبي الله أنى لا أصبر عن البيع فقال: "إذا بايعت فقل: لا خلابة" ففيه ما دل على الحجر إذ لم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهله ما سألوه من الحجر عليه وأمره بمثل ما في حديث ابن عمر في قصته وقد كان الخلفاء الراشدون ومن سواهم على إثبات الحجر فيمن يستحقه فمن ذلك ما روى أن عبد الله بن جعفر

(2/17)


أتى الزبير فقال: أني ابتعت بيعا وإن عليا يريد أن يحجر علي فقال الزبير: فأنا شريكك في البيع فأتى على عثمان فسأله أن يحجر على عبد الله بن جعفر فقال الزبير: أنا شريكك في هذا البيع فقال عثمان: كيف أحجر على رجل شاركه الزبير في بيعه ففيه أنه لو لم يشاركه الزبير لحجر عليه وكان ذلك بمحضر من الصحابة فلم ينكر ذلك أحد فدل على متابعتهم إياه عليه وروى عن ابن عباس أنه كتب إلى نجدة جوابا لسؤاله متى ينقضي يتم اليتيم لعمري أن الرجل لتنبت لحيته وأنه لضعيف الأخذ لنفسه ضعيف الإعطاء منها فإذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس فقد انقطع اليتم عنه وروى عن ابن شهاب عن عروة أن عائشة بلغها أن ابن الزبير بلغه أنها تبيع بعض عقاراتها فقال: لتنتهين أو لأحجرن عليها فقالت لله على ألا أكلمه أبدا ففي هذا من ابن الزبير وترك عائشة الإنكار بأن تقول وكيف يكون أحد محجورا عليه أن يفعل في ما له مثل الذي بلغ ابن الزبير أني أفعله دليل على جواز الحجر وقد احتج من ذهب إلى نفي الحجر بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} ثم قال: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً} فذكر المداينة أولا ثم ذكر آخرا أنه قد يكون سفيها أو ضعيفا فدل ذلك على جواز بيعه في حال سفهه والجواب أن السفه قد يكون في تضييع المال وقد يكون فيما لا تضييع معه للمال يقال: سفه فلان في دينه {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} قال أبو عبيد: سفه نفسه أهلكها وأوبقها وقد يكون حاز ما في ماله ضابطا له من غير صلاح في دينه قال الكسائي: السفيه الذي يعرف الحق وينحرف عنه عنادا قال تعالى: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} لأنهم عرفوا الحق وعندوا عنه فالسفه في الآية ليس على سفه الفساد في المال بل على ما سواه من وجوه السفه واحتج الشافعي في إثبات الحجر بهذه الآية أيضا استدلالا بقوله: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} وليس بصحيح لأن ما في أول الآية من مداينة من وصف في آخرها بالسفه يدفع ما قال والمراد

(2/18)


بالولي ولي الدين للذي عليه الدين بدليل قوله تعالى: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} لأن الذي يتولى عليه لا يجر إلى نفسه ببخسه شيئا غير أن المذهب في الحجر استعماله والحكم به حفظا للمال على من يملكه ولهذا قال أبو حنيفة: أني أمنعه بعد بلوغه من ماله إلى خمس وعشرين سنة ولا أرى دافعا له ثم من يستحق الحجر عليه أن تصرف فهو جائز عند أبي يوسف خلافا لمحمد لأن الحجر لمعنى من أجله يحجر الحاكم عليه تحقيقا لذلك الموجود قبل الحجر وروى عن مالك مثل قول أبي يوسف في نفاذ التصرف قبل الحكم بالحجر.

(2/19)


في نفقة البهائم
عن عبد الله بن جعفر قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خلفه وأسر إلي حديثا لا أحدث به أحدا من الناس وكان أحب ما أستتر به لحاجته هدفا أو حائش نخل فدخل حائط رجل من الأنصار فإذا جمل فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن وذرفت عيناه فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح سرواته وذفراه فسكن فقال: "من رب هذا الجمل" فجاء فتى من الأنصار فقال: هو لي يا رسول الله قال: "أفلا تتقي الله في البهيمة التي ملكك الله عز وجل إياها فإنه شكى إلي أنك تجيعه وتدئبه" 1 ذفرا البعير هو ما بين أذنيه وسرو البعير أعلى ما فيه وأضاف إليه بقوله سرواته أي مسح بيده على ذفراه وعلى سرى ما فيه ليكون ذلك سببا سكونه وقال صلى الله عليه وسلم لصاحبه ما قاله ولم يحكم عليه بأعلافه جبرا كما يفعل بمالكي بني آدم إذا يجيعونهم وهذه مسألة اختلف فيها فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يؤمر بالأعلاف فتوى لا جبرا وطائفة تقول بالجبر ولا حبس فيه منهم أبو يوسف قياسا على جبر مالكي بني آدم إجماعا ولكن بنو آدم تجب عليهم الحقوق لجناياتهم فتجب لهم والبهائم لا تجب عليها لجنايتها فلا تجب لها على مالكيها ولكنهم ومن سواهم من الناس يؤمرون فيهم بتقوى الله وترك التضييع لها وإن كان ما على مالكيها في التجاوز ما على غير مالكيها فيه
__________
1 دأب في العمل- إذا جد وتعب- مجمع.

(2/19)


في الحكم على قائل قوله على ما بين كذا إلى كذا
روى عن أبي سعيد قال: قال عمر: يا رسول الله سمعت فلانا يثني عليك خيرا ويقول خيرا زعم أنك أعطيته دينارين قال: "لكن فلانا ما يقول ذلك لقد أصاب مني ما بين مائة إلى عشرة ثم قال: "أن أحدكم ليخرج من عندي بمسألته يتأبطها أو نحوه وما هي إلا له نارا" فقال عمر: يا رسول الله فلم تعطيه؟ قال: "فما أصنع تسألوني ويأبى الله لي البخل" فيه ما يدل على صحة ما ذهب إليه أبو يوسف ومحمد في مسألة له على ما بين درهم إلى عشرة فإن عند أبي حنيفة يلزمه تسعة وعند زفر ثمانية وعندهما عشرة وعند بعض لا شيء عليه لأنه لما أقر له بما بين الدرهم الواحد وبين العشرة كلها ولا شيء بينهما ولكن هذا الحديث يدفع هذا القول لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أنه قد كان أعطى ذلك الرجل عطية يستحق بها الشكر منه فلم يشكرها وهو أفصح الناس وكلام العرب موافق لما قلنا يقولون: لهذا عشرون ناقة فجملا يريدون ما بين ناقة وجمل والعدد عشرون وحكى الكسائي أنه سمع أعرابيا رأى الهلال فقال: الحمد لله ما أهلالك وجمل والعدد عشرون وحكى الكسائي أنه سمع أعرابيا رأى الهلال فقال: الحمد لله ما أهلالك إلى سرارك يريد ما بين أهلالك إلى سرارك فالإهلال والسرار داخلان فيما ذكر فمثل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لقد أعطيته ما بين مائة إلى عشرة" تدخل المائة مع دخول العشرة التي هي منها فيها.
فإن قيل: لا خلاف في قوله لفلان ما بين هذا الحائط إلى هذا الحائط أن له ما بينهما وليس له من الحائطين شيء قلنا الحائطان معينان أقر بما بينهما فدخل ما بينهما وفي إقراره بما بين الواحد والعشرة غير معين إنما هو إقرار بشيء لم يعتمد المقر فيه عند إقراره إلى شيء بعينه فيحمل إقراره على ما بين ذلك

(2/20)


الشيئين وإنما أقربين شيئين مرسلين وفي مثلهما ما قد رويناه مرفوعا ثم ذكرناه من كلام العرب والغايات للأشياء المذكورة مما ليست بأعيان قد وجدناها لا تدخل في الأشياء المذكورة نحو قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فالليل غير داخل وقد يدخل كآية المرافق والكعبين ففيه ما يدل على أن بعض الغايات يدخل فيما جعلوه غاية له وقد لا يدخل ولهذا قال أبو حنيفة: أن الدرهم العاشر لما احتمل الدخول وعدمه لا يدخل بالشكل وقال مع ذلك في رجل باع على أنه بالخيار إلى غد أنه بالخيار حتى يمضي غد لأنه قد يحتمل دخول غد وعدمه فلم يوجب البيع حتى يتحقق وجوبه فأما ما ذكرنا من القول في المسألة الأولى فالذي جاء به الحديث قد أغنانا عن الكلام في شيء من ذلك.

(2/21)


الحكم في ما أفسدت الماشية
عن الزهري عن حرام بن محيصة أن البراء بن عازب أخبره أنه كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطا فأفسدت فيه فكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى فيها أن حفظ الحوائط على أهلها بالنهار وحفظ المواشي على أهلها بالليل وأن على أهل الماشية ما أصابت بالليل كذا روى الإثبات لا دليل فيه على أخذ حرام عن البراء لأن إن على الانقطاع حتى يعلم ما سواه1 وقد روى عن الزهري عن حرام عن البراء أن ناقة لآل البراء أفسدت شيئا فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حفظ الثمار على أهلها بالنهار وضمن أهل الماشية ما أفسدت ماشيتهم بالليل فدل ذلك على اتصاله لأن عن على الاتصال والسماع حتى يعلم غيره والرواية الأولى أصح ثم في تعميم ما أفسدت ماشيتهم دليل على أن عليهم ضمان كل ما تلف من الزرع ومن بني آدم غيرهم لأن ما كان عليه حفظه كان عليه ضمانه إذا ترك الحفظ واتفاق أهل العلم على عدم تضمين ما تلف من بني آدم مخالف لظاهر الحديث فعلمنا أنه منسوخ بقوله عليه الصلاة والسلام: "جرح العجماء جبار" أي هدر وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه خلافا للحجازيين في الزرع والحق أن قوله صلى الله عليه وسلم: "جرح العجماء جبار" مخصص لعموم الحديث ومبين لمعناه لا ناسخ.
__________
1 تأمل.

(2/21)


في حريم النخلة وسعة الطريق
عن أبي السعيد أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حريم نخلة أو لقط نخلة فقطع منها جريدة ثم ذرعها فإذا هي خمس أذرع قال أبو طوالة أحد رواة الحديث: أو سبع أذرع فجعلها حريمها المراد به النخلة التي تغرس في الموات فيتملكه بأمر الإمام كما هو مذهب الإمام أو يتملكه من غير إذن بمجرد الإحياء كما هو مذهب الشافعي ومالك وغيرهما فيستحق بذلك ما لا تقوم النخلة غلا به وهو الحريم الذي جعل لها في الحديث كما يكون للآبار من الحريم في الموات بقدر ما تقوم به فللعطن أربعون ذراعا من كل جانب ولبئر الناضح ستون ذراعا من كل جانب قال محمد: إلا أن يكون الحبل الذي يستقى به منها ويجره البعير يتجاوز به المقدار المذكور فيكون حريمها إلى ما يتناهى إليه حبلها ومثل ذلك حريم النخلة التي تحتاج إليه ليكون مشربا لها فيها ثمرتها وليبقى لها جريدها وروى عبادة بن الصامت قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرايا النخل إذا كان نخلة أو نخلتان أو ثلاث بين النخل فيختلفون في حقوق ذلك فقضى أن لكل نخلة مبلغ جريدها حريمها وكانت تسمى العرايا وذلك إذا اختلف هو وصاحب النخل في حقوقها فيكون لصاحب العرايا ما لا يقوم نخله التي أعريها إلا به.
وعن ابن عباس مرفوعا إذا اختلفتم في طريق فاجعلوها سبعة أذرع وعن أبي هريرة قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا اختلف الناس في طرقهم أنها سبعة أذرع الطرق المبتدأة إذا اختلف في مقدارها الذي يرفعونه لها من المواضع التي يحاولون اتخذاها فيها كالقوم يفتتحون مدينة من المدائن فيريد الإمام قسمتها ويريد مع ذلك أن يجعل فيها طريقا لمن يحتاج أن يسلكها من الناس إلى ما سواها من البلدان يجعل سبعة أذرع كل طريق منها على ما في هذه الآثار ومثله الأرض الموات يقطعها الإمام رجلا ويجعل

(2/22)


إليه إحياءها ووضع طريق منها لاجتياز الناس فيه منها إلى ما سواها فيكون ذ لك سبعة أذرع ولا محمل أحسن من هذا لهذا الحديث والله أعلم.

(2/23)


في الانتفاع بالطرقات
روى عن عمر بن الخطاب قال: أتى علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن جلوس على الطريق فقال:
"إياكم والجلوس على هذه الطرقات فإنها مجالس الشيطان فإن كنتم فاعلين لا محالة فأدوا حق الطريق" فقلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أدواحق الطريق" ولم أسأله ما هو فلحقته فقلت: يا رسول الله أنك قلت كذا وكذا فما حق الطريق؟ قال: "حق الطريق أن ترد السلام وتغض البصر وتكف الأذى وتهدي الضال وتغيث الملهوف" في ذلك آثار في بعضها: إفشاء السلام وطيب الكلام وفي بعضها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قال: فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على الطريق ثم رخص فيه على الشرائط المذكورة ففيه دليل على إباحة الانتفاع من الطريق العامة بما لا يضر على أحد من أهلها وإذا كان الجلوس فيها مما يضيق على المارين فلا يباح على ما في حديث معاذ الجهنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر مناديا في بعض غزواته لما ضيق الناس في المنازل وقطعوا الطرقات أن من ضيق منزلا أو قطع طريقا فلا جهاد له.

(2/23)