المعتصر من المختصر من مشكل الآثار

كتاب الشهادات
في تعارض البينتين
عن أبي موسى قال: اختصم رجلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بعير وليس لواحد منهما بينة فقضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما نصفين وروى عنه أن رجلين اختصما في بعير فبعث كل واحد منهما شاهدين فقسم النبي صلى الله عليه وسلم البعير بينهما وفي رواية: أن رجلين ادعيا دابة وجداها عند

(2/23)


رجل فأقام كل واحد منهما شاهدين أنها دابته فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم بينهما نصفين وهذا أولى لأن القضاء لا يكون إلا بالبينات ولا يكون بالأيدي المجردة وهذه مسألة مختلف فيها فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى هذا الحديث وذهبت طائفة منهم إلى الإقراع بين المتداعيين في ذلك محتجين بحديث منقطع عن سعيد بن المسيب قال: اختصم رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر فجاء كل واحد منهما بشاهدي عدل عدة واحدة فأسهم بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "اللهم أنت تقضي بينهما".
وذهبت طائفة منهم إلى أنه يقضي به لصاحب أزكى البينتين وأظهرهما ورعا وهو قول مالك وأهل المدينة ويجيء على قياس قولهم: إذا تكافأت البينتان أن يقضي بينهما وطائفة تقول: يقضي بينهما على عدد شهود كل واحد منهما فإن استووا في العدد يقضي بينهما بنصفين ولما اختلفوا في ذلك نظرنا فيه لنعلم الأولى مما قالوه فيه فوجدنا القرعة قد كانت في أول الإسلام فإن عليا أقرع بين النفر الثلاثة الذين وطئوا المرأة في طهر واحد فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه ثم أنه ترك العمل بها بعد وفاته صلى الله عليه وسلم في رجلين ادعيا ولدا فقضى به بينهما وأنه للباقي منهما ولا يظن بعلي ترك الإقراع الذي حكم به واستحسنه النبي صلى الله عليه وسلم إلا لما هو أولى بالعمل فانتهى القضاء بالقرعة وانتسخ وكذلك وجدنا القضاء بأزكى البينتين مدفوعا بقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} و {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} حيث سوى النص بين العدل ومن فوقه في العدالة فانتفى هذا القول أيضا وكذلك القول بالحكم بعدد الشهود لا معنى له لأن الشاهدين العدلين لما جاز الحكم بهما عقلنا أنهما كأكثر منهما من العدد ولما انتفت هذه إلا قوال الثلثة ثبت القول الرابع ولم يجز الخروج عنه إذ لم يوجد لأهل العلم في ذلك غير هذه الأقوال الأربعة كيف وقد روى عن أبي الدرداء أنه اختصم إليه رجلان في فرس فأقام كل واحد مهما البينة أنه فرسه انتجه لم يبعه ولم يهبه فقال أبو الدرداء: أن أحدكما

(2/24)


كاذب ثم قسمه بينهما نصفين ثم قال: ما أحوجنا إلى سلسلة بني إسرائيل فسئل ما هي قال: كانت تنزل فتأخذ بعنق الظالم فيه ما يدل على فضل علمه وهو قوله أحدكما كاذب ولم يقصد إلى واحدة من البينتين لأن العلم محيط بكذب أحد المدعيين إذ لا يكون مالكا لشيء غيره مالكه وليس البينتان كذلك إذ يحتمل أن يكون الفرس الأم لأحد المدعيين بعلم إحدى البينتين ثم انتقل عن ملكه بغير علمها إلى ملك المدعي الآخر بطريقه الشرعي فنتجت الفرس المدعى فيه عنده فوسع كل واحدة من ألبينتين تشهد أن ذلك النتاج كان في ملك الذي عرفت الفرس التي تنتجه في ملكه فانتفى الحرج عنهما ووجب القضاء بالبينات التي ثبت عدلها وترك استعمال الظنون بها.

(2/25)


في شهادة خزيمة
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسا من أعرابي فاستتبعه ليقضيه ثمن فرسه فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم بالمشي وأبطأ الأعرابي فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس لا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه به النبي صلى الله عليه وسلم فنادى الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن كنت مبتاعا لهذا الفرس فابتعه وإلا بعته فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي فقال: "أو ليس قد ابتعته منك"؟ فقال الأعرابي: لا والله ما بعتك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بلى قد ابتعته منك" فطفق الناس يلوذون بالنبي صلى الله عليه وسلم والأعرابي وهما يتراجعان وطفق الأعرابي يقول هلم شهيدا يشهد أني قد بايعتك فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي: ويلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا حقا حتى جاء خزيمة فاستمع لمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم ومراجعة الأعرابي وهو يقول1: أنا أشهد أنك قد بايعته فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال: "ثم تشهد" قال: بتصديقك يا رسول الله فجعل رسول
__________
1 كذا ولعل هنا سقطا.

(2/25)


الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة شهادة رجلين في شهادة خزيمة على الأعرابي بقوله: أنا أشهد أنك قد بايعته واستحقاقه بها الشرف والكرامة التي خصه الله بهما دون أن يقول أن أشهد بشهادة الله على بيعه إياه دليل على أن الشهادة على الحقوق عند الحكام كذلك خلافا لسوار ويزيد بن أبي مسلم فإنهما يقولان: أشهد بشهادة الله وهو منهى عنه لأن الله تعالى يعلم حقائق الأشياء التي لا يعلمها خلقه فقد يشهد الرجل على وجوب حق لزيد ثم ببرأ إليه منه ويعلم الله ذلك منه ويخفى على المخلوقين فيسع لمن كان يعلم وجوب الحق في البدئ أن يشهد بوجوبه المدعيه والله يشهد فيه بخلاف ذلك مما قد أخفاه عن خلقه وفيما ذكرنا ما قد دل على ما وصفنا.
واختلف أهل العلم في كيفية تأدية الشهادة في معرفة استصحاب حال الأصل الذي شهد الشاهد بمعرفته فمنهم من لا يجيز إلا على البت ويراها راجعة إلى العلم ومنهم من لا يجيزها على البت ويراها غموسا ومنهم من لا يراها على البت ويحكم بها إذا وقعت بما يعلمه الشاهد يقينا ويقول أشهد بشهادة الله وإن كان لا يعلمه إلا بغالب ظنه لا يجوز له أن يقول أشهد بعلم الله أو بشهادة الله سواء كان في معرفة استصحاب الحال أو في معرفة الأصل كالشهادة على الملك خلافا لأهل العراق.

(2/26)


في من لا تقبل شهادته
روى عن عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ومجلود ولا ذي غمر لأخيه ولا مجرب عليه شهادة زور ولا القانع مع أهل البيت لهم ولا الظنين في ولاء ولا قرابة" فيه أن المجلود حدا مطلقا لا تجوز شهادته ولهذا عم المجلود في الخمر أيضا عند الأوزاعي ولم يوافقه على ذلك غير الحسن بن صالح وخالفهما فقهاء الأمصار ولما قبل شهادة المقطوع في السرقة إذا تاب والزاني البكر المجلود إذا تاب فليكن غيرهما كذلك إلا

(2/26)


ما استثنى في كتاب الله وهو المحدود في القذف فألزمه الفسق الذي اتصف به بخلاف سائر أنواع الفسق ثم أعقب ذلك بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} الآية واختلف أهل العلم في قبول شهادتهم بعد التوبة فقبله بعضهم لزوال الفسق وهو مذهب مالك والشافعي وأهل الحجاز ولم يقبله أبو حنيفة وأصحابه والثوري وإن زال الفسق بالتوبة احتج القابل بما روى عن ابن المسيب عن عمرانه قال لأبي بكرة: إن تبت قبلت شهادتك أو تب تقبل شهادتك وعنه أن عمر جلد الثلاثة لما نكل الرابع وهو زياد وكانوا شهدوا على المغيرة فاستتابهم فتاب إثنان وأبي أبو بكرة فكان تقبل شهادتهما ولا تقبل شهادة أبي بكرة لأنه أبي أن يتوب وكان مثل النضو من العبادة.
وجوابه أن ابن المسيب لم يأخذه عن عمر إلا بلاغا لأنه لم يصح سماع عنه وروى عن ابن المسيب أنه كان يذهب إلى خلافه روى قتادة عنه وعن الحسن أنهما قالا القاذف إذا تاب فيما بينه وبين ربه لا تقبل شهادته ويستحيل أن يصح عنده عن عمر القبول ثم يتركه إلى خلافه وكذا روى عن شريح قبول التوبة وعدم قبول الشهادة.
قال الطحاوي: ولما كانت شهادته بعد القذف قبل الحد مقبولة وبعد الحد الذي هو طهارة له إن كان كاذبا مردودة وكانت التوبة بعد ذلك أنما هي من القذف الذي لم ترد شهادته به وإنما ردت بغيره وهو الجلد. وجب أن تكون شهادته مردودة بعد الحد تاب أو لم يتب لأن التوبة لا تأثير لها في الحد الذي هو علة عدم القبول لأنه من فعل غيره لا من فعله والتوبة إنما تكون من أقواله وأفعاله واثر التوبة إنما هو في القذف الذي ليس بعلة ففي هذا دليل واضح على صحة قول من ذهب إلى رد الشهادة بعد التوبة والله أعلم.

(2/27)


في التحذير من الدين
روى عن عقبة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: "لا تخيفوا أنفسكم أو قال: "ألانفس" قيل: يا رسول الله بم نخيف أنفسنا؟ قال: "بالدين"

(2/27)


يعني الدين الغالب عليه منه فإنه المخيف والمذموم المترتب عليه سوء المطالبة في الدنيا وسوء العاقبة في الأخرى عن ابن عمرو بن العاص قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الغفلة في ثلاث: الغفلة عن ذكر الله ومن لدن أن يصلي صلاة الصبح حتى تطلع الشمس وأن يغفل الرجل عن نفسه في الدين حتى يركبه" وذم عمر أسفع بقوله: إلا أن اسيفع اسيفع جهينة رضي من دينه وأمانته أن يقال: سبق الحاج فأدان معرضا فأصبح قدرهن1 به فمن كان له عليه دين فليحضر بيع ما له أو قسمة ما له أن الدين أو له هم وآخره حرب يعني فاستدان من كل من أمكنه الاستدانة منه واعترضهم بذلك قوله وقد رهن أي"1" وقع فيما لا يمكنه الخروج منه ولا طاقة له به وأما الدين الذي يمكن الإنسان الخروج منه بالإيفاء فليس بمذموم بل يرجى له الثواب والعون من الله تعالى عليه فقد روى أن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم استدانت فقيل لها: تستدينين وليس عندك وفاء قالت: أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من أخذ دينار هو يريد أن يؤديه أعانه الله عز وجل" وعن عائشة مثل ذلك وأنها قالت: وإنما التمس ذلك العون وكان عمر إذا صلى الصبح يمر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فرأى يوما رجلا على باب عائشة جالسا فقال: مالي أراك فقال: دينا أطلب به أم المؤمنين فبعث إليها عمرا مالك في سبعة آلاف درهم أبعث بها إليك كل سنة كفاية؟ فقالت: بلى ولكن علينا فيها حقوق وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من أدان دينا ينوي قضاءه كان معه من الله عز وجل حارس فأنا أحب أن يكون معي حارس" والعون والحرسة لا تكون إلا لمن له حالة محمودة ومما يستدل به على إباحته مع نية الوفاء ما روى من قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: "ما أحب أن لي أحدا ذهبا تأتي علي ليلة وعندي منه دينار
__________
1 كذا والمعروف "أين" وذكر في النهاية هذا الأثر قال "أصبح قدرين به" أي أحاط الدين بماله يقال رين بالرجل رينا إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه"- ح.

(2/28)


إلا دينارا رصده لدين" فدل على جواز الاستدانة قطعا واستدانته من اليهودي ورهنه درعه عنده أشهر من أن يخفى.

(2/29)


في مطل الغنى
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم لي الواحد يحل عرضه وعقوبته اللي المطل وهو مصدر لويته ليا كشويته شيا وروى مطل الغنى ظلم فيجوز تسميته ظالما ويخاطب بذلك بقوله يا ظالم أو أنت ظالم فهذا الذي يحل من عرضه وما قيل هو: التقاضي فليس بشيء لأن التقاضي سبب اللي فهو غير التقاضي والعقوبة المستحقة هي الحبس وقيل: هي الملازمة وهي حبس الملزوم عن تصرفه في أموره والأول أولى لأن في ملازمة رب الدين المديون تشاغل عن أسباب نفسه واكتسابه وبالإجماع أنه يحبسه الحاكم عند سؤال المستحق بطريقه فكانت العقوبة بالحبس أولى منها بالملازمة.

(2/29)


في أنظار المعسر
عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أنظر معسرا فله بكل يوم صدقة" ثم سمعته يقول "بكل يوم مثله صدقة" قال: فقلت له: أني سمعتك تقول: "فله بكل يوم صدقة" ثم قلت الآن: " فله بكل يوم مثله صدقة" فقال: أنه متى لم يحل له الدين فله بكل يوم صدقة فإذا حل الدين فأنظره فله بكل يوم مثله المسؤول هو الرسول صلى الله عليه وسلم لا الراوي وهذا في القروض لا ثمن البياعات وغيرها سوى القروض لأنها إبدال من أشياء سواها لأحمد فيها لأهلها يثابون عليها إلا إذا أخر بعد حلولها فيثاب عليه كالقرض قال الطحاوي: أموال القروض يتبرع مالكها بإقراضها المحتاجين ليتصرفوا بها في منافع أنفسهم فيثاب عليه في قرضه إياها إلى المدة ما يثيبه الله عز وجل على ذلك سواء قلنا بلزوم المدة كما قاله مالك أولا كما قاله أبو حنيفة وأصحابه والشافعي لأنه وإن لم يجب حكما يجب للوفاء بالوعد فإذا انقضت المدة وحل

(2/29)


الدين فأنظره كان ثوابه فوق ثواب الأول يكون له كل يوم مثله صدقة ثم الحديث يصلح حجة لأبي حنيفة وأصحابه والشافعي فيمن أسلف رجلا إلى أجل فله أن يأخذه منه قبل محل الأجل إن شاء فمعنى الحديث أن من أسلف فاحتاج إليه قبل الأجل فلم يأخذه منه وانظره به إلى الأجل فله بكل يوم صدقة وإذا انظره بعد الأجل فله بكل يوم مثله صدقة لأنه أعظم أجرا من الأول لأنه أنظار بما لا يكره له أخذه منه والأول أنظار بما يكره له أخذه منه لأجل خلف الوعد وروى أن الأسود كان يستقرض تاجرا فإذا خرج عطاؤه قضاه وأنه خرج عطاؤه فقال الأسود: إن شئت أخرت عنا فإنه قد كانت علينا حقوق في هذا العطاء فقال له التاجر: لست فاعلا فنقده الأسود خمسمائة حتى إذا قبضها قال له التاجر: دونك فخذها قال له الأسود: قد سألتك فأبيت قال له التاجر: إني سمعتك تحدث عن ابن مسعود أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول "من أقرض قرضين كان له مثل أجر أحدهما لو تصدق به" ليس هذا بمخالف لحديث ابن بريدة لأن حديثه على ثواب الأنظار به بعد ما يجب للمقرض على المستقرض دينا له عليه وحديث ابن مسعود في الثواب على نفس القرض لكن لو كان التاجر علم حديث ابن بريدة لما كلفه الأداء ولطرح عنه مؤنته بالانظار لأن أجره بذلك لو فعله كان أكثر وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم "من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" يحتمل أن يكون الظل من الأشياء التي يتأذى بها بنو آدم كالشمس في الدنيا ويحتمل أن يكون بمعنى الكنف والستر ومن كان في كنف الله تعالى وقى من الأشياء المكروهة يقال فلان في ظل فلان أي في كنفه فلا يصيبه نصب ولا تعب والمعسر المراد هنا هو الذي يجد ما يعطى ولكن يتضرر به فاستحق المنظر ثواب الإيثار على نفسه وأما المعسر العديم الذي لا شيء عنده فلا ثواب له في أنظاره إذ هو مغلوب على ذلك لا يقدر على سواه فالمعسر المقل هو المراد بالحديث لا المعدم والإعسار أعم من الإعدام

(2/30)


في بيع المديون
عن زيد بن أسلم أنه قال: لقيت رجلا بالإسكندرية يقال له: سرق فقلت له ما هذا الاسم؟ فقال: سمانيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت المدينة فأخبرتهم أنه يقدم لي مال فبايعوني واستهلكت أموالهم فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أنه سرق" فباعني بأربعة أبعرة فقال له غرماؤه: ما تصنع به؟ قال: أعتقه قالوا: ما نحن بأزهد في الأجر منك فاعتقوني وفي رواية أن سرقا هذا قال: لقيت رجلا من أهل البادية ببعيرين له يبيعهما فابتعتهما منه وقلت له: انطلق معي حتى أعطيك فدخلت بيتي وخرجت من خلف لي وقضيت بثمن البعيرين حاجتي وتغيبت حتى ظننت أن الأعرابي قد خرج فخرجت والأعرابي مقيم فأخذني فقدمني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته الخبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما حملك على ما صنعت" قلت: قضيت بثمنهما حاجتي يا رسول الله قال: "فأقضه" قلت: ليس عندي قال: "أنت سرق" اذهب يا أعرابي فبعه حتى تستوفي حقك فجعل الناس يسومونه في ويلتفت إليهم فيقول ما تريدون فيقولون: نريد أن نبتاعه منك فنعتقه قال: فوالله إن منكم أحد أحوج إليه مني إذهب فقد اعتقتك.
كان هذا الحكم في أول الإسلام عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان من شريعة من قبله كذا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من أن الخضر عليه السلام ملك نفسه لمن استرقها إذ كان ذلك من الشريعة المتقدمة روى أن سائلا سأله بوجه الله العظيم لما يصدق عليه فلم يكن عنده ما يعطيه فقال: لقد سألت بعظيم وما أجد إلا أن تأخذني فتبيعني فقدمه إلى السوق فباعه بأربع مائة درهم فعمل للمشتري من العمل ما استطاعه فأخرق به العادة فقال له: أسألك بوجه الله ما حسبك وما أمرك قال: سألتني بوجه الله ووجهه أوقعني في العبودية فأخبره قصته وقال: أخبرك أنه من سئل بوجه الله فرد سائله وهو يقدر وقف يوم القيامة وليس لوجهه جلد ولا لحم ولا دم إلا عظم يتقعقع قال: آمنت بذلك

(2/31)


شققت عليك يا رسول الله أحكم في أهلي ومالي بما أراد الله عز وجل أو أخيرك فأخلى سبيلك قال: أحب أن تخلي سبيلي يا عبد الله خلى سبيله فقال الخضر: الحمد لله الذي أوقعني في العبودية ونجاني منها في حديث طويل هذا معناه.
قال الطحاوي: فلما كان من شريعة من قبلنا إرفاق النفوس تقربا إلى ربهم كان استرقاقهم بالديون التي عليهم أولى فلذلك عمل به النبي صلى الله عليه وسلم اتباعا لشرائعهم ما لم يحدث الله عز وجل ناسخا لذلك وهو قوله: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} فعاد الحكم إلى أخذ الديون ممن هي عليه إن كان موسرا وإمهاله إن كان معسرا معدما وبين الله أيضا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيام ومن كنت خصمه خصمته رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل استأجرا أجيرا ولم يوفه أجره" وكذلك لا يؤجر المديون فيما عليه من الدين لما روى عن أبي سعيد الخدري أنه قال: أصيب رجل في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تصدقوا عليه" فتصدق عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك" وما أعلم أحد اذهب إلى إجارة المدين المعدم غير الزهري والله أعلم.

(2/32)


في قضاء جابر دين أبيه
روى عن جابر بن عبد الله أن أباه قتل يوم أحد شهيدا وعليه دين فاشتد الغرماء في حقوقهم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فسألهم أن يقبلوا تمر حائطي ويحللوا أبى فأبوا فلم يعطهم حائطي ولم يكسره لهم ولكنه قال: "سأغدو عليك" فغدا على حين أصبح فطاف في النخل ودعا في تمرها بالبركة فجذ ذناها وقضيتهم حقوقهم وبقي لنا من ثمرها بقية فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر وهو جالس: "اسمع يا عمر" فقال عمر: ألا يكون قد علمنا أنك رسول الله فوالله أنك لرسول الله،

(2/32)


وله طرق في بعضها أو في غريم أبيه اليهودي ثلاثين وسقا وفضلت له سبعة وعشرون وسقا وفي بعضها أنه قضى الرجل حقه وفضل منه مثل تمر النخل في كل عام وفي بعضها فأعطينا الرجل كل شيء كان له وبقي لنا خرص نخلنا كما هو وفي بعضها أنه قال: أصيب أبي وله حديقتان وليهودي عليه تمر يستنفد ما في الحديقتين فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه أن يكلمه في أن يؤخر عنا بعضه فكلمه فأبى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هلم إلى تمرك فخذه" فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل إلى إحدى الحديقتين وهي أصغرهما فقال لنا: "جذوا" فجعلنا نجذ ونأتيه بالمكتل فيدعو فيه فلما فرغنا قال لليهودي: "اكتل" فأوفاه حقه من أصغر الحديقتين وبقيت لنا الحديقة الأخرى، في سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم غرماء عبد الله بن حرام أن يقبلوا تمر حائطه الذي لم يقفوا على مقدار كيله وأن يحللوه من البقية مع جهل مقدارها دليل على تجويز البراءة من الديون المجهولة عند المبرئ بها كما يقوله أبو حنيفة وأصحابه ومالك خلافا للشافعي في شرطه العلم للمبرئ والمبرأ وقت البراءة منه وهو مبني على الاختلاف في جواز هبة المجهول وفيه دليل على جواز الصلح من الحقوق على مقدار ينقص عنها من جنسها مع جهل المتصالحين مقدارها فأجاز ذلك من أجاز البراءة من الديون المجهولة ومنع ذلك من لم يجزها وفيه معنى آخر يقضي بين المختلفين من أهل العلم في صلح الوارث غرماء أبيه المتوفى من دينهم الذي لهم عليه على بعضه فكل أهل العلم أجاز إلا الأوزاعي فإنه منع الوارث منه لأن غرماء أبيه أولى بمال أبيه منه حتى يستوفوا ديونهم، والحديث حجة على الأوزاعي وفي بعض الآثار إضافة الحائط إلى جابر وفي بعضها إضافتها إلى أبيه عبد الله وإنما إضافة إلى جابر كما يضيف الناس أسباب من هم منهم إليهم لا على الحقائق من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة لما قضى بينه وبين علي وجعفر في ابنة حمزة وأما أنت يا زيد فمولاي ومولاها وإنما كان ولاؤه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا لها.

(2/33)


في المديون إذا أفلس
روى عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إيما رجل أفلس فأدرك رجل ما له بعينه فهو أحق من غيره". يمكن دفعه بأن المراد به الودائع والعواري بخلاف المبيعات التي ليس لواجدها فيها ملك حينئذ وكذلك يمكن دفع حديث مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا فوجده بعينه فهو أحق به وإن مات المشتري فصاحب المتاع إسوة الغرماء" لانقطاعه وكنا ندفع أيضا حديث اسماعيل بن عياش عن موسى ابن عقبة عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إيما رجل باع سلعة فأدرك سلعته بعينها عند رجل قد أفلس ولم يقبض من ثمنها شيئا فهي له وإن كان قضاه من ثمنها شيئا فما بقي فهو إسوة الغرماء" ولا نرى فيه علينا حجة لفساد رواية اسماعيل عن غير الشاميين ولكن حديث مالك مسندا من رواية عبد الرزاق عنه عن ابن شهاب عن أبي بكر عن أبي هريرة وكذا حديث اسماعيل بن عياش عن الشاميين الذي لا كلام في حديثه عنهم لا يمكن دفعه والقول فيه ما قال مالك ولو اتصل عند من خالفه هذا الاتصال لما خالفه ولرجع إليه فالمخالف معذور في خلافه وأما الشافعي فقد كان يقول إذا أفلس بعد ما قضى بعض الثمن أنه يكون في حصة ما قضاه إسوة الغرماء ويكون أحق بالباقي منهم والحديث يدفع ذلك وهو الحجة وكذلك كان يسوي بين حكم إفلاسه وبين حكم موته فيجعل صاحب السلعة فيهما أحق من الغرماء والحال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق بينهما في الحكم وكان يحتج بحديث أبي المغيرة ابن عمرو ابن نافع عن ابن خلدة الزرقي وكان قاضيا أنه قال: جئنا أبا هريرة في صاحب لنا أفلس فقال: إيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه وأبو المغيرة مجهول مع أنه لو كان ثابتا لكان حديث الزهري عن أبي بكر عن أبي هريرة أولى منه لأنه قد روته

(2/34)


الأئمة الذين تقوم الحجة برواياتهم مع أن فيه أو التشكيك فيعود الحديث إلى أن لا يعلم ما فيه هل هو في التفليس أو في الموت وقال الطحاوي: وما وجدنا أحدا من أهل العلم أجد تكلما في هذا الحديث غير مالك بن أنس فأما من سواه فقد ذكرنا أقوالهم.

(2/35)