المعتصر من المختصر من مشكل الآثار

كتاب الحمالة والحوالة وما جاء في الحمالة بالمال
مدخل
...
كتاب الحمالة والحوالة وما جاء في الحمالة بالمال
روى عن قبيصة بن المخارق أنه تحمل بحمالة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "نحن نخرجها عنك من إبل الصدقة أو نعم الصدقة يا قبيصة أن المسألة حرمت إلا في ثلاث: رجل تحمل بحمالة فحلت له المسئلة حتى يؤديها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ما له فحلت له المسألة1 حتى يصيب قواما من عيش أو سدادا من عيش ثم يمسك ورجل أصابته حاجة حتى يتكلم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه أن قد حلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو سدادا من عيش ثم يمسك". في إباحة النبي صلى الله عليه وسلم المسألة لقبيصة دليل لزوم الحمالة للحميل ووجوبها عليه دينا وإن كان المتحمل بها عنه مقدورا على مطالبته كما هو مذهب أبي حنيفة وصاحبيه والشافعي وكان عند مالك ثم رجع وقال: لا يطالبه المتحمل له إلا عند تعذر مطالبة المتحمل عنه وفي قوله حتى يتكلم ثلاثة دليل على اشتراط الثلاثة من الشهود كما في الأربعة في الزنا بخلاف الحقوق والحاجة مما يختلف أحوال الناس عندها بخلاف الحاجة التي لم يبق له معها شيء ولهذا رد إلى قول العدد واختلاف الحاجات باختلاف مؤمنهم في قليلها وكثيرها فكان مردودا إلى مقدار الحاجة في نفسها والسؤال أطلق لأهلها حتى يسدها الله بما شاء أن يسدها ولم يذكر مقدار ما يمنع من المسألة بعينه لذلك ولا تخالف
__________
1 كذا في الأصل ولعل هنا ترك جملة فحلت له المسألة وفي صحيح مسلم في هذه الرواية هكذا حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة.

(2/35)


المقادير المذكورة في حديث سهل في كتاب الزكاة لأن ذلك باعتبار الغاية في الحاجة وهذا قد يكون للمحتاج شيء من المال لكن لا يستطيع به سداد الحاجة فما أبيحت المسألة له حتى يسدها ولم يذكر مقدار الباقي الذي أبيحت له المسألة معه لاختلاف أحوال الناس فيه.

(2/36)


في الكفالة عن الميت
روى عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالميت عليه الدين فيسأل ما ترك لدينه من قضاء فإن حدث أنه ترك وفاء صلى عليه وإن قيل: لا قال: "صلوا على صاحبكم" فلما فتح الله عز وجل عليه الفتوح قال: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي وعليه دين فعلى قضاؤه ومن ترك ما لا فلورثته" فيه تسوية من عليه دين وترك وفاء ومن لا دين عليه في جواز صلاته عليه وإن كانت الذمة لا تبرأ بمجرد ترك الوفاء حتى يوفى عنه، وكذلك الكفالة روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعى إلى جنازة رجل من الأنصار فلما وضع السرير وتقدم ليصلي عليه التفت فقال: "أعلى صاحبكم دين؟ " فقالوا: نعم يا رسول الله قال: "صلوا على صاحبكم" فقال أبو قتادة الأنصاري: هو إلي يا نبي الله فصلى عليه ففي هذا جواز صلاته بالكفالة وإن كان الدين لا يسقط بها عنه وما روى عبد الله بن أبي قتادة عن أبي قتادة أنه قال: توفي رجل منا فذهبوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فقال: "هل ترك من شيء" قالوا: لا والله ما ترك شيئا قال: "فهل ترك عليه دينا" قالوا: نعم ثمانية عشر درهما قال: "فهل ترك لها وفاء"؟ قالوا: لا والله ما ترك لها قضاء من شيء قال: " فصلوا على صاحبكم" فقال أبو قتادة: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أنا قضيت عنه أتصلي عليه قال: "نعم إن قضيت عنه صليت عليه" فذهب أبو قتادة فقضى عنه ثم جاء فقال: قد وفيت ما عليه فقال: نعم فدعا به فصلى عليه هو حديث فاسد الإسناد لا تقوم بمثله حجة لأنه قد روى أن عبد الله أنكر سماعه من أبيه وقال: إنما حدثني به من

(2/36)


أهلي من لا أتهم وفيه إلزام رسول الله صلى الله عليه وسلم الكفيل الكفالة بغير أمر المكفول عنه وفيه إلزامه بغير قبول المكفول له كما قاله أبو يوسف ومحمد خلافا لأبي حنيفة وفيه إلزام الكفالة بالدين الذي على الميت المفلس كما قالا خلافا للإمام لأن بالموت خربت الذمة فسقط الدين ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المتبع والمقتدى روي عن جابر بن عبد الله أن رجلا مات وعليه دين فلم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال أبو اليسر أو غيره هو إلي فصلى عليه فجاءه من الغد يتقاضاه فقال: إنما كان ذلك أمس ثم أتاه من بعد الغد فأعطاه فقال الآن بردت عليه جلدته ففيه إلزام الكفيل عن الميت المفلس وفيه أن الذي عليه لم يبرأ بوجوبه على الكفيل الأبعد القضاء وفيه دليل على صحة ما كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعيون يذهبون إليه في المال المكفول به أن للغريم مطالبة الكفيل والمكفول عنه أيهما شاء خلافا لما قاله مالك بأنه لا يطالب الكفيل إلا عند عجزه عن مطالبة الأصيل لأن الميت المكفول عنه ما ترك وفاء فلذلك لزم الكفيل ولأن المكفول عنه إذا كان حاضرا قادرا فإن أخذ من الكفيل يؤخذ في حينه من الأصيل فأخذه من الأصيل أقل عناء فهو أولى قال الطحاوي في قوله: الآن بردت عليه جلدته دليل على صحة ما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه فيمن قضى دينا عن رجل بغير أمره ليس له أن يرجع عليه لأنه لو بقي على الميت لما بردت جلدته ولكن قول مالك في الحي وفي الميت الذي له وفاء والحديث في الميت المفلس ثم كيف يحتج لأبي حنيفة بالحديث وهو لا يقول بجواز الكفالة عن الميت المفلس اللهم إلا أن يقال: أن عنده يجوز ولكن يلزم وهو الأصح.

(2/37)


في الحمالة بالنفس
روى عن عمران بن حصين قال: أسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2/37)


رجلا من بني عامر بن صعصعة فمر به على النبي صلى الله عليه وسلم وهو موثق فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "على ما أحبس" قال: بجريرة حلفائك قال: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداه أيضا فأقبل إليه فقال له الأسير: إني مسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح" ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداه أيضا فأقبل إليه فقال: إني جائع فأطعمني فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذه حاجتك" ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم فداه بالرجلين اللذين كانت ثقيف أسرتهما وفيما روى عنه قال: كانت العضباء لرجل من عقيل أسر فأخذت العضباء منه فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد على م تأخذونني وتأخذون سابقة الحاج وقد أسلمت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آخذك بجريرة حلفائك" وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار عليه قطيفة فقال: يا محمد إني جائع فأطعمني وظمآن فاسقني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذه حاجتك" ثم أن الرجل فدى بالرجلين وحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء لرحله في احتباس الراحلة لرحله دليل على أنه لم يكن بينه وبين قوم الأسير أمان ولا موادعة ولم يسقط الإسلام الحبس بجريرة حلفائه ولا أوجب له رده إليهم دون أن يردوا الرجلين الإسيرين لأن الإسلام لا يسقط عن الأسير إلا القتل لا ما سواه من الواجبات عليه كالاسترقاق لو كان كتابيا ولما كان مأخوذا بذلك وإن لم يوجبه على نفسه لا يجاب الشريعة إياه عليه كان لو أوجب على نفسه مثل ذلك من تخليص من أسر من المسلمين عليه أوجب وفي الحكم به ألزم فتكون الكفالات بالأنفس إذا وجبها بعض لبعض لازمة كما يقوله الكوفيون والمدنيون وكان الشافعي يذهب إلى هذا غير أنه ضعفها مرة ولم يبطلها وكيف يضعف ما قد دل عليه ما جئنا به من هذا ومثله تولية النقباء على الأنصار وهم الأمناء عليهم في رفع

(2/38)


حالهم روى أنه صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: "إني أولي عليكم نقباء يكونون عليكم كفلاء كنقباء بني إسرائيل كفلاء".
وفي ذلك ما قد حقق الكفالة بالأنفس لا سيما عند من يحتج بالمغازي وقد جاء عن الصحابة ما يوجب ثبوتها مثل ما روى أن عمر بن الخطاب بعث حمزة بن عمر والأسلمي مصدقا على سعد هذيم فأتى بمال ليصدقه فإذا رجل يقول لامرأته: أدى صدقة مال مولاك وإذا المرأة تقول له: بل أنت فأد صدقة مال ابنك فسأل حمزة عن أمرهما وقولهما فأخبر أن ذلك الرجل وقع على جارية زوجته فولدت له ولدا فأعتقته امرأته قالوا: فهذا المال لابنه من جاريتها فقال حمزة: لأرجمنك بأحجارك فقيل له: أصلحك الله إن أمره رفع إلى عمر فجلده مائة ولم ير عليه الرجم فأخذ حمزة بالرجل كفيلا حتى قدم على عمر فسأله عما ذكر له عنه فصدق ذلك وقال: إنما درأ عنه الرجم أنه عذر بالجهالة.
ومن ذلك ما روى عن حارثة بن مضرب قال: صليت الغداة مع ابن مسعود في المسجد فلما سلم قام رجل فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فوالله لقد بت هذه الليلة وما في نفسي على أحد من الناس حنة وإني كنت استطرقت رجلا من بني حنيفة لفرسي فأمرني أن آتيه بغلس وأني أتيته فلما انتهيت إلى مسجد بني حنيفة مسجد عبد الله بن النواحة سمعت مؤذنهم يقول وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن مسيلمة رسول الله فاتهمت سمعي وكففت الفرس حتى سمعت أهل المسجد أنيطوا على ذلك فما كذبه عبد الله وقال: من ههنا فقام رجال فقال: على بعبد الله بن النواحة وأصحابه قال حارثة: فجيء بهم وأنا جالس قال عبد الله لابن النواحة: ويلك أين ما تقرأ من القرآن قال: كنت أتعبكم به قال له: تب فأبى فأمر به عبد الله بن مسعود قرظة بن كعب الأنصاري فأخرجه إلى السوق فجاءه برأسه قال حارثة: فسمعت عبد الله بن مسعود يقول من سره أن ينظر إلى عبد الله بن النواحة قتيلا بالسوق فليخرج فلينظر إليه قال حارثة: فكنت فيمن خرج ينظر إليه ثم أن عبد الله استشار أصحاب محمد صلى الله

(2/39)


عليه وسلم في بقية النفر فقام عدي بن حاتم الطائي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فثؤلول من الكفر اطلع رأسه فأحسمه فلا يكون بعده شيء وقام الأشعث بن قيس وجرير بن عبد الله فقالا: لا بل استتبهم وكفلهم عشائرهم فاستتابهم فتابوا وكفلهم عشائرهم ونفاهم إلى الشام ففي الحديثين استعمال عبد الله الكفالة بالأنفس بمشورة من اشار عليه بها وبحضور من حضرها فلم ينكر ذلك عليه ولم يخالفه فيه فدل ذلك على متابعتهم إياه عليه وما جاء هذا المجيء كان بالقوة أولى وبنفي الضعف عنه أحرى.

(2/40)


في الحوالة
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مطل الغنى ظلم ومن أتبع على ملى فليتبع" أي: من أحيل على ملى فليتبع وكذلك رواه ابن عمرو أن أحلت على ملى فأتبع وقال زيد بن الهذيل والقاسم بن معن: الحوالة كالكفالة وللمحتال أن يطالب كل واحد من المحيل ومن المحال عليه وقوله: من أحيل على ملى فليتبع يدفع ذلك مع أنه يصح أن يقال لي: على فلان كذا وفلان كفيل به أو ضمين أو حميل وفيه ذكر بقاء الحق على الذي كان عليه كما كان قبل الضمان ولا يقال لي: على فلان كذا وفلان لي به حويل أو أحالني به على فلان لأن الحوالة معها تحويل المال عمن كان عليه إلى المحال عليه ثم ظاهر الحديث يدل على صحة الحوالة وإن لم يكن للمحيل على المحال عليه مثل المال كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه والشافعي خلافا لمالك فلو أحيل على فقير على ظن أنه ملى فقال مالك: له أن يرجع بما له على المحيل وتبطل الحوالة وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يرجع وقال أبو يوسف ومحمد: إذا قضى القاضي بتفليسه عاد وإذا مات المحال عليه معد ما يرجع المحيل خلافا لمالك والشافعي وقول الإمام أولى لأن الحوالة في معنى بيع ذمة بذمة كمن أخذ بالدين عبدا فمات قبل قبضه يرجع بدينه كذا هذا وإن كان مالك لا يقوله في العبد فهو يقوله في الطعام المبيع كيلا ولا فرق بين هذا وما قبله.

(2/40)