المعتصر من المختصر من مشكل الآثار

كتاب الرهن
مدخل
...
كتاب الرهن
روى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا" لم يذكر في هذا الحديث من المقصود بالركوب وشرب اللبن المذكورين فيه فقيل: أنه الراهن وهو مذهب الشافعي ومن سواه من أهل العلم حمله على خلافه وقد روى عن أبي هريرة مرفوعا "إذا كان الدابه مرهونة فعلى المرتهن علفها ولبن الدر يشرب وعلى الذي يركب ويشرب نفقتها" فيه دليل على أن المقصود هو المرتهن وهذا عندنا منسوخ لأنهم مأمونون على ما عملوا كما هم مأمونون على ما رووا لأنه لو لم يكن كذلك لسقطت عدالتهم وسقطت روايتهم ومما يدل على أن النسخ قد طرأ على هذا الحديث أن الشعبي قد روى عنه أنه قال: لا ينتفع من الرهن بشيء وعليه مدار هذا الحديث فلم يقل ذلك إلا وقد ثبت عنده نسخه ولما كان الرهن موصوفا بأنه مقبوض بقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} دل ذلك أن يد الراهن زائلة فلا يجوز الانتفاع للراهن والمرتهن وإلى هذا ذهب فقهاء الحجاز والعراق.

(2/41)


في الرقبى
روى عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تعمروا ولا ترقبوا فمن أعمر شيئا او رقبه فهو للوارث إذا مات" وعن ابن عمر مرفوعا: "لاعمرى ولا رقبى فمن أعمر شيئا أو أرقبه فهو له حياته ومماته" وعنه نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقبى وقال: "من أرقب رقبى فهي له". فيه أن الرقبى تكون لمن أرقبها وإن الشرط باطل لا معنى له والمسألة مختلف فيها فقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن: هي قول الرجل للرجل قد جعلت داري هذه رقبى لك إن مت قبلي فهي لي وإن مت قبلك فهي لك وهي كالعارية عندهما وذكر عبد الرحمن بن القاسم جوابا لأسد لما سأله عن قول مالك أن مالكا لم يعرفها ففسرها بالتفسير

(2/41)


المذكور فقال: لا خير فيها والذي ذكرناه عنهما وعن مالك ليس بصحيح عندنا لأنه كان ينبغي لهم أن يجروها مجرى الوصية للمرقب لأن الوصية كذلك تكون وقد حكى القاضي ابو الوليد أن مذهب مالك وأصحابه أنها معتبرة من الثلث وفي "المدونة" على خلاف هذا التفسير لذلك قال: لا خير فيها وقالت طائفة منهم الثوري وأبو يوسف والشافعي هي أن يقول قد ملكتك داري هذه على أن نتراقب فيها فإن مت قبلي رجعت إلي وإن مت قبلك سلمت لك فيكون التراقب حينئذ في الرجوع إلى صاحبها الذي أرقبها لا في نفس التمليك فتكون للمرقب غير راجعة إلى المرقب في حال وهذا أولى القولين عندنا.

(2/42)


في العمرى
عن أبي الزبير قال: أشهد لسمعت جابر بن عبد الله يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أعمر شيئا فهو له حياته ومماته" وعن جابر مرفوعا قال: "العمري لمن وهبت له" وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أعمر عمري فهي له ولعقبه يرثها من يرثه من عقبة" فيها أن العمري لمن أعمرها في حياته وبعد وفاته واختلف في تفسيرها فقال أبو حنيفة والثوري وأصحابهما والشافعي: هي قوله: ملكتك داري هذه أيام حياتك فتكون له بذلك في حياته ولورثته بعد وفاته وقال آخرون: هي التي يقول قد أعمرتك وعقبك داري هذه فيكون له في حياته ولورثته بعد وفاته وإن لم يذكر فيها ولعقبك رجعت لى المعمر بعد موت المعمر منهم ابن شهاب ومالك وكثير من اهل المدينة والأصح أن عند مالك ذكر العقب ليس بشرط فإنه روى عن مالك عن القاسم بن محمد أنه قال: ما أدركت الناس إلا وهم على شروطهم في أموالهم وفيما أعطوا واحتج الآخرون بما روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر قال: إنما العمري التي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول هي لك ولعقبك فأما إذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها

(2/42)


وكان الزهري يفتي بذلك وهذا الحديث عند مخالفيهم من كلام الزهري فغلط فيه عبد الرزاق فجعله عن معمر عن الزهري واستدلوا على ذلك بأن من هو أحفظ من عبد الرزاق وهو ابن المبارك قد رواه عن معمر بخلاف ذلك فقال فيه عنه عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أنه من أعمر رجلا عمري فهي للذي أعمرها ولورثته من بعده.
فإن قيل: قد روى هذا الحديث غير معمر عن الزهري منهم ابن أبي ذئب عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيمن أعمر عمري له ولعقبه فهي له بتة لا يجوز للمعطى فيها شرط قال أبو سلمة: لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث ومنهم مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن جابر مرفوعا قال: إيما رجل أعمر عمري له ولعقبه فإنها للذي يعطاها لا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث ومنهم الليث عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن جابر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أعمر رجلا عمري له ولعقبه فقد قطع قوله حقه فيها وهي لمن أعمرها ولعقبه" قلنا في حديث ابن أبي ذئب: إضافة بعض الكلام إلى أبي سلمة وإخراجه إياه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ودل على ذلك قول قتادة: حدثني النضر عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العمري جائزة" فقال الزهري: أنها لا تكون عمري حتى تجعل له ولعقبه فقال عطاء: حدثني جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العمري جائزة" ففي سكوت الزهري عن الرد عليه دليل على أن العقب ليس في حديث جابر من حديث أبي سلمة كما ليس هو في حديث جابر من حديث عطاء وقد جاء مفسرا من رواية أبي الزبير المكي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عيه وسلم: "من أعمر عمري حياته فهي له وبعد وفاته" فعلم أن العمري المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها لعقب المعمر ذكر وأنها تجري بخلاف ما اشترطه المعمر فيها وأن شرطه فيها كلا شرط وقد دل على ذلك حديث

(2/43)


ابن عمر أيضافي الرقبى والعمرى وإن ابن عمر أفتى بذلك لما سأله رجل وهب ناقة لرجل حياته فنتجت قال: هي له وأولادها قال: فسألته بعد ذلك فقال: هي له حيا وميتا ولأنهم أجمعوا أنه إذا جعلها له ولعقبه فمات المجعول له عن زوجة أنها ترث منها وتباع في دينه وتنفذ فيها وصاياه وكل ذلك دال على أن الشرط غير معتبر إذ لو اعتبر لم تخرج عنه إلى غيره وفي خروجها عنه إلى غيره عقبا كان أو غير عقب دليل على أنها تخرج عنه في الأحوال كلها وقد روى حديث العمري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير واحد من الصحابة كمعاوية وزيد ابن ثابت وعن أبي هريرة مرفوعا قال: "لا عمري فمن أعمر شيئا فهو له" وعن سمرة مرفوعا العمري جائزة وعن جابر مرفوعا: "امسكوا عليكم أموالكم لا تعمروها فمن أعمر شيئا فهو له وروى أمسكوا عليكم أموالكم لا تفسدوها فمن أعمر عمري فهي له حيا وميتا" ولعقبه وعقبه كل من أعقبه في ما له بميراث له عنه أو بوصية منه فقد بأن صحة ما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه والشافعي في العمري وانتفى به ما قال مخالفوهم فيها.

(2/44)


في استلحاق الولد
عن عائشة قالت: كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد إن ابن وليدة زمعة منى فاقبضه إليك قالت: فلما كان عام الفتح أخذه سعد فقال ابن أخي قد كان عهد إلي فيه وقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" وقال لسودة: "احتجبي منه" لما رأى من شبهه بعتبة قالت: فما رآها حتى لقي الله عز وجل، وعنها من طريق آخر أنها قالت: قال عتبة بن أبي وقاص لأخيه سعد وكان عتبة كافرا وسعد مسلما: إني أعهد إليك أن تقبض ابن جارية زمعة إذا لقيته قالت عائشة: فلما كان يوم الفتح لقي سعد بن جارية زمعة فقال: ابن أخي واحتضنه فقال عبد بن زمعة بل هو أخي ولد على فراش أبي من جاريته فاختصما إلى رسول الله

(2/44)


صلى الله عليه وسلم فقال سعد: هذا ابن أخي انظر إلى شبهه بأخي عتبة وقال عبد بن زمعة: بل هو يا رسول الله أخي ولد على فراش أبي من جاريته قالت عائشة: فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى شبها لم ير الناس شبها أبين منه بعتبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش واحتجبي منه يا سودة" فلم يرها حتى ماتت ظن بعض الناس أن دعوى سعد لا معنى لها لأنه ادعاها لأخيه من أمة لغيره بغير تزويج بينه وبينها وحاشاه من ذلك ووجه دعواه أن أولاد البغايا في الجاهلية قد كانوا يلحقونهم في الإسلام بمن ادعاهم ويردونهم إليه وقد كان عمر بن الخطاب يحكم بذلك على بعد عهده بالجاهلية فكيف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مع قربه بها فكان يحكم لأخيه الموصى بدعوى سعد لولا معارضة عبد بن زمعة بدعوى توجب عتاقة الولد لأنه كان يملك بعضه بكونه ابن أمة أبيه فلما ادعى أنه أخوة عتق عليه حظه فهذا أبطل دعوى سعد فيه لا لأنها كانت باطلة ولم يكن من سودة تصديق لأخيها عبد على ما ادعاه فالزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أقربه في نفسه وخاطبه بقوله: "الولد للفراش" ولم يجعل ذلك حجة عليها فأمرها بالحجاب منه ولو جعل أخاها لما أمرها بالاحتجاب منه مع الإنكار على عائشة احتجابها من عمها من الرضاعة هذا محمل الحديث والله أعلم ثم لا خلاف أن من مات وبيده عبد فادعى بعض الورثة أنه أخوه لا يثبت به النسب من الميت ويدخل مع المدعى في ميراثه أيضا عند أكثر أهل العلم ولا يدخل عند بعض منهم الشافعي وروى عن عبد الله بن الزبير قال: كانت لزمعة جارية يطأها وكانت تظن برجل يقع عليها فمات زمعة وهي حبلى فولدت غلاما كان يشبه المظنون به فذكرته سودة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أما الميراث فله وأما أنت فاحتجبي منه فإنه ليس بأخ لك" ففيه نفي أخوته لسودة وقوله: "أما الميراث له" أراد به الميراث في حصة عبد بإقراره لا فيما سواه من تركة زمعة قال القاضي أبو الوليد: الحق أن الذي أبطل دعوى سعد علم النبي صلى الله عليه وسلم بالفراش الذي أدعاه عبد

(2/45)


ابن زمعة لأبيه إذ لا يخفى عليه بالصهورة التي كان بينه وبينه يحققه ما في حديث ابن الزبير كانت لزمعة جارية يطأها فحكم بذلك بقوله: "الولد للفراش" وقال: "هو لك يا عبد بن زمعة" أي: على ما تدعيه من أنه أخوك قوله: "هو لك" أي: بيدك عليه تمنع بذلك غيرك كقوله في اللقطة: "هو لك أو لأخيك أو للذئب" ليس على معنى التمليك وجعل الميراث له أي من جميع تركته ولو لم يثبت نسبه من زمعة لثبت نسبه من عتبة بادعاء أخيه سعد ذلك له بعهده إليه به على ما كان الحكم به من إلحاق أولاد البغايا بمن ادعاهم ولما بطل ذلك بالعتق الذي حصل له بادعاء عبد بن زمعة إذ لا تأثير للعتق في إبطال دعوى النسب وأمر النبي صلى الله عليه وسلم سودة بالاحتجاب من باب التورع لأن حكم الحاكم لا ينقل الأمر عما هو عليه في الباطن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم الحن بحجته من بعض- الحديث" فاحتمل أن لا يكون الولد لزمعة لا سيما مع الشبه البين لعتبة إذا لفراش علامة ودليل قد يكون الأمر في الباطن بخلاف الدليل الظاهر فلا يحل لمن علم منه خلاف ما حكم له به ما لا يجوز له على ما علم من باطن الأمر والله أعلم.

(2/46)


في الحكم بالقافة
روى عن عائشة قالت: دخل مجزز المدلجي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أسامة وزيدا وعليهما قطيفة قد غطيا رؤسهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرورا.
قيل: لو لم يكن في القافة إلا هذا الحديث لكان دليلا أن مع أهلها علما قلنا: لا ننكر أن معهم علما ولكن ليس من العلوم القطعية فإنما هي كعلم التجار بالسلع أعني: في معرفة أجناسها وبلدانها يقول أحدهم: هي من عمل فلان فكما لا يجوز أن يحكم بالسلعة المدعاة بشهادة من يشهد أنها من عمل فلان أحد لمن يدعيها بغير حضور منه لوقوفه على عمله إياها فكذلك لا يحكم بقول القافة إنه

(2/46)


من نطفته ويجوز لمن يقع في قلبه مثل ذلك أن يسر به وإن لم يكن مع ذلك وجوب حكم ولا قضاء وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث في طلب العرنيين جماعة وقائفا يقتص آثارهم فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وبالإجماع لا يحكم بقول القائف في قفوا الآثار فكذا في إلحاق النسب.
فإن قيل: أن عمر بن الخطاب قضى بقول القائف بحضرة الصحابة من غير إنكار عليه على ما روى ابن عمر أن رجلين اشتركا في طهر امرأة فولدت فدعا عمر القافة فقالوا: أخذ الشبه منهما جميعا وجعله بينهما، وعن ابن المسيب أن رجلين اشتركا في طهر امرأة فولدت لهما فارتفعا إلى عمر بن الخطاب فدعا لهما ثلاثة من القافة فدعا بتراب فوطئ فيه الرجلان والغلام ثم قال لأحدهم: انظر فنظر فاستقبل واستعرض واستدبر ثم قال: أسر أم أعلن فقال عمر: بل أسر فقال: لقد أخذ الشبه منهما فما أدرى لأيهما هو فأجلسه1 ثم أمر الثالث فنظر كذلك وقال مثل ذلك وكان عمر قائفا فجعله لهما يرثانه ويرثهما فقال سعيد: أتدري من عصبته قلت: لا قال: الباقي منهما.
فالجواب أن عمر ما قضى بقول القافه لأنهم لم يعلموا لأيهما فجعل عمر الولد منهما مخالف لقول إلقافه ولكنه قضى به لمدعييه لكونه في يدهما ومع هذا فالمحتج بحديثي عمر لا يجعل الولد ابن رجلين كما جعله عمر فالحديث عليه لا له.
فإن قيل: قد روى عبد الرحمن بن حاطب أنه أتى رجلان إلى عمر بن الخطاب في غلام من ولادة الجاهلية يدعى كل منهما أنه ابنه فدعا عمر لهما قائفا من بني المصطلق فسأله عن الغلام فنظر إليه وقال لعمر: والذي أكرمك أني لأجدهما قد اشتركا فية فقام إليه عمر يضربه بالدرة حتى أصبح ثم قال: والله لقد ذهب بك النظر إلى غير مذهب ثم دعا أم الغلام فسألها فقالت: أن هذا لأحد الرجلين ثم أن هذا الآخر وقع بي فوالله ما أدري من أيهما هو فقال عمر للغلام: اتبع أيهما شئت فاتبع أحدهما
__________
1 لعله ذكر الثاني سقط عن الكتابة فليحرر.

(2/47)


فالجواب أن ما في حديث ابن عمر وابن المسيب في صبى يعبر عن نفسه فرد الأمر في ذلك إلى ما يقوله الغلام المدعي فيه وهكذا نقول في الذي يعبر عن نفسه والذي لا يعبر عن نفسه فكنا نحن المتمسكين بما روى عن عمر في الأخبار كلها وعادت الحجة عليه لنا ولو كان الحكم عند عمر بقول القافة لكان أولى من إقرار الولد بأحد مدعييه كولدا دعاه رجلان فصدق الولد أحدهما وأقام الآخر البينة أنه ابنه كانت البينة أولى من إقرار الولد اتفاقا ومن الدليل على أن مذهب عمر رضي الله عنه عدم الحكم بقول القافة في نسب ولا غيره ما روى أنه أرسل إلى شيخ من بني زهرة فسأله عن ولاد الجاهلية قال: كانت المرأة إذا فارقها زوجها بموت أو طلاق نكحت بغير عدة فقال الرجل: أما النطفة فمن فلان وأما الولد فعلى فراش فلان فقال عمر: صدقت ولكن قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالولد للفراش فما التفت عمر إلى قول المسؤول ورد الحكم إلى ما يخالفه ومما يؤكده أن المسلمين لم يختلفوا فيمن نفى ولد زوجته وقالت: هو منه أنه يلاعن بينهما وينفي منه ولو جاءت أمه بجماعة القافة يصدقونها لا ينفعها والولد منفى على حاله وإنما كان اعتبار قول القافة في الجاهلية وألغي قولهم إلى ما عليه أهل الإسلام روى عن عائشة أن نكاح الجاهلية كان على أربعة أنحاء نكاح كمثل الأنكحة في شرعنا ونكاح كان يقول الزوج: إذا طهرت من الحيض أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتز لها زوجها حتى يتبين حملها منه رغبة في نجابة الولد ونكاح يجتمع الرهط دون العشرة على إصابتها فإذا حملت ووضعت أرسلت إليهم فلا يستطيع أحد يمتنع فيجتمعون عندها فتقول لهم: قد ولدت منك يا فلان فتعين من أجبت منهم فتلحق به ولدها البتة ونكاح يجتمع جماعة فيدخلون على المرأة فلا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا فإذا حملت ووضعت دعوا لها القافة فألحقوا ولدها بالذي يرون منه لا يمتنع من ذلك فلما ظهر الإسلام هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح أهل الإسلام اليوم فانتفى قول القافة ورد أحكام الأنساب إلى الفراش وأهل العلم مختلفون فيه فأما

(2/48)


أبو حنيفة والثوري وسائر أهل الكوفة لا يلتفتون إلى قول القافة في شيء وأما مالك يستعمله في الإماء دون الحرائر ولا فرق في الواقع وأما الشافعي فيستعمله في الحرائر والإماء جميعا وفيما ذكرناه ما وضح به نفيه في الأشياء كلها.

(2/49)


في الغصب في دار الحرب
عن وائل بن حجر قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه رجلان يختصمان في أرض فقال أحدهما: يا رسول الله إن هذا انتزى علي أرضي في الجاهلية وهو امرؤ القيس بن عابس الكندي وخصمه ربيعة بن عيدان فقال: "بينتك" قال: ليس لي بينة قال: "يمينه" قال: إذا يذهب بها قال: "ليس لك إلا ذلك" فلما قام ليحلف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتطع أرضا ظالما لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان" فيه أنه لو أقام بينة لحكم له بها وذلك دليل على أن الغاصب لم يملكه بغصبه في الجاهلية فمثل ذلك الحربى يغصب الحربى في دار الحرب أرضا ثم يسلمان فيحكم فيه كما كان يحكم في مثله بين المسلمين في دار الإسلام وهو قول محمد إلا أنه لو سبقت خصومتهم إلى ملكهم فجعله لغاصبه ثم خوصم إلى أمام المسلمين أمضى ذلك ولم يرده إلى المغصوب منه وإن لم تسبق لهم خصومة حكم بينهما بحكم الإسلام ويحتج له فيه بقوله صلى الله عليه وسلم: "كل ميراث قسم في الجاهلية فهو على قسمة الجاهلية وكل ميراث أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام" فإذا كان الحكم في الميراث ذلك يكون في الغصب كذلك.

(2/49)


في غصب الأرض
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من ظلم شبرا من الأرض طوقه من سبع أرضين" يحتمل أن يكون الطوق جعله الله تعالى ذاروح ثم يطوقه ذلك الظالم عذابا له كما يفعل كذلك بمانعي الزكاة على ما روى عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من رجل لا يؤدي زكاة

(2/49)


ماله إلا يجعل يوم القيامة شجاعا أقرع يفر منه ويتبعه حتى يطوق به عنقه" ثم قرأ علينا: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فيعيد الله ما ظلم من الأرض في الآخرة إلى مثل ما يعيد إليه المال الممنوع زكاته حتى يطوق ذلك من ظلمه وعن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أخذ شبرا من الأرض خسف به إلى سبع أرضين" وعن يعلي مرفوعا: "من ظلم شبرا من الأرض جاء يحمله يوم القيامة" وعنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أخذ أرضا بغير حقها كلف أن ينقل ترابها إلى المحشر" ليس بين الأحاديث مضادة لأنها كلها عقوبات متنوعة لمن ظلم شبرا من الأرض والحق أن كل حديث منها ليس على ظاهره من العموم بل المراد به بعض الغصاب دون بعض.

(2/50)


في الإشهاد على اللقطة
روى عن عياض بن حمار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من التقط لقطة فليشهد ذا عدل أو ذوي عدل ثم لا يكتم ولا يغير فإن جاء صاحبها فهو أحق بها وإلا فمال الله يؤتيه من يشاء"، الشك من بعض رواته لا على التخيير من الشارع وقد روى من غير شك فليشهد ذوي عدل وفائدة الإشهاد دفع التهمة عن نفسه لئلا يظن به التقاطها لنفسه لا للحفظ على صاحبه لأن اليد محمولة على الملك حتى يعرف خلافه فواجب على الملتقط إقامة الحجة على نفسه لئلا تصرف بعد وفاته في مصارف أمواله حتى كل من وقع في يده يمتثل الواجب فيها لتصل إلى يد صاحبها وقال بعضهم: أنه ليس بشك وإن الشارع أراد بذلك الحجة لما لك اللقطة إن دفعه عنها الملتقط وأطاع شيطانه يقيم الشاهدين بدون يمين أو الشاهد الواحد مع يمينه وعلى هذا يمكن أن يستدل به من رأى القضاء بشاهد ويمين وذلك فاسد لما فيه من نسبة التقصير إلى الشارع فيما قصده من وصول حق المستحق إليه فإن المالك قد يكون صغيرا أو مكاتبا فلا يمكنه الحلف فصح أن الحديث أشهد ذوي عدل لا غير واختلف فيمن ترك الإشهاد

(2/50)


حين الالتقاط فعند الإمام أنه ضامن أن تلفت وعندهما أنها أمانة أشهدا أولم يشهد وقولهما أزكى لأن ما يأخذه الملتقط لا يمكن معرفته إلا من قبله فيمكن أن يأخذها ليذهب بها ويشهد بخلاف ذلك مما يسقط عنه ضمانها فلا يكون لمراعاة الإشهاد معنى وقد ندب الشارع إلى الالتقاط حفظا على صاحبها فالملتقط محمود حتى يعلم خيانته يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: "أعرف عقاصها ووكاءها ثم عرفها سنة فإن لم تعرف فاستمتع بها وليكن وديعة عندك فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه" وكذا جوابه للسائل عن ضالة الغنم: احبس على أخيك ضالته فإذا كان مأذونا بالأخذ لا يكون ضامنا.

(2/51)


في حكم اللقطة بعد التعريف
روى أن سفيان بن عبد الله وجد عيبة فأتى بها عمر رضي الله عنه فقال: عرفها سنة فإن عرفت فذاك وإلا فهي لك فلم تعرف فلقيه من العام المقبل في الموسم فذكرها له فقال: هي لك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك قال: لا حاجة لي بها فقبضها عمر فجعلها في بيت المال قوله: "فهي لك" ليس على جهة التمليك ولكن هي لك تصرفها فيها تحب صرفها فيه يؤيده ما روى عن علي رضي الله عنه أنه وجد دينارا فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله وجدت هذا قال: "عرفه" فذهب ما شاء الله ثم قال: قد عرفته فلم أجد أحدا يعرفه قال: "فشأنك" فرهنه في ثلاثة دراهم في طعام وودك فبينما هو كذلك إذا جاء صاحبه عنده فعرفه فجاء علي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا صاحب الدينار قال: "أده إليه" فأداه علي إليه بعدما أكلوا منه لا يصلح هذا حجة للشافعي في تحليل اللقطة بعد الحول للغنى أيضا لأنها لو رجعت إلى الصدقة لما حلت لعلي لأن الصدقة عليه حرام لأنه حديث منقطع رواه شريط عن عطاء بن يسار وهو متكلم فيه والصحيح عن علي في اللقطة بعد الحول ما روى عاصم بن ضمرة قال: جاء رجل إلى علي فقال: إني وجدت صرة من دراهم فلم أجد أحدا يعرفها فقال: تصدق بها فإن جاء صاحبها ورضي كان له الأجر وإلا غرمتها له وكان لك الأجر.

(2/51)


ولا يقال: كان أبي من أيسر أهل المدينة وقد قال صلى الله عليه وسلم له في لقطة مائة دينار وقد عرفها ثلاثة أعوام: "أعلم عددها ووكاءها ثم استنفع بها" لأن يساره إنما كان بعده صلى الله عليه وسلم وكان قبل ذلك فقيرا يؤيده جعل أبي طلحة الأرض التي جعلها لله تعالى وقال صلى الله عليه وسلم له: "اجعلها في فقراء قرابتك" فجعلها لحسان وأبي قال أنس راوي الحديث: وكانا أقرب إليه مني وروى عن عبد الله بن عباس وأبي هريرة وابن عمر في اللقطة بعد الحول مثل ما ذكرناه عن عمر وعلي في الصدقة بها وتخيير صاحبها إن جاء بين الأجر والتغريم ولا يسع لأحد خلاف هؤلاء الأعلام ولكراهية الأكل بعد الحول للغنى مذهب أبي حنيفة وأصحابه أجمعين.

(2/52)


في لقطة الحاج
عن عبد الرحمن بن عثمان1 نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لقطة الحاج محمل النهى والله أعلم أن الحج يجمع أهل البلدان أن المتفرقة فأخذ اللقطة عسى لا يلتقي صاحبه وهو الغالب فيبقى في ضمانة حتى يلقى ربه تعالى بخلاف اللقطة التي يرجو لقاء صاحبها فيدفعها ويخلص من تبعتها.
__________
1 لعله عبد الرحمن بن عبيد الله بن عثمان أخو طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرة كما ذكره الذهبي في تجريد أسد الغابة.

(2/52)


في لقطة مكة
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في مكة: "ولا يرفع لقطتها إلا منشدها" وروى: ولا يلتقط ضالتها إلا منشد قيل: معناهما مختلف فالأول معناه ينبغي للملتقط بمكة أن يرفعها ثم يقول لمن هذه منكم أيها الناس ومعنى الثاني الذي يرى لقطتها لا يأخذها إلى أن يسمع رجلا يقول من وجد كذا وكذا مما يوافق ما رآه فيرفعها ثم يقول أهي هذه وما قاله صحيح يؤيده ما روى من اجتناب لقطة الحاج بخلاف اللقطة التي يرجو لقاء ربها.

(2/52)


في الضوال
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يأوى الضالة الإضال" وروى ضالة المسلم حرق النار يعني إذا أخذها غير قاصد للتعريف يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: "من أوى ضالة فهو ضال ما لم يعرفها"، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضالة الغنم فقال: "طعام مأكول لك أو لأخيك أوللذئب أحبس على أخيك ضالته"، وسئل عن ضالة الإبل فقال: "مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها ولا يخاف عليها الذئب تأكل الكلأ وترد الماء حتى يأتي طالبها"، ففرق بين الضالتين بالأخذ في الغنم وماعدا الإبل وبالترك في الإبل لارتفاع الخوف عليها فإن خيف عليها الأيدي الخائنة يجوز أخذها ليردها على صاحبها على ما في حديث زيد بن خالد ولم يفرق بينها وبين غيرها روى أن ثابت بن الضحاك وجد بعيرا فذكره لعمر بن الخطاب فأمره أن يعرفه فقال: عرفته قال له: أرسله حيث أخذته وثابت من الصحابة أخذ البعير الضال وأعلم عمر على ذلك فلم ينكره فدل على ما قلنا وأحكام الضالة عندنا كأحكام اللقطة سواء وفرق قوم بينهما بأن الضال ما ضل بنفسه واللقطة بخلافه فأباح أخذ اللقطة ومنع من أخذ الضال وكتاب الله عز وجل يدفعه بقوله تعالى: {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا} فجعل فقدهم إياهم ضلالا لهم عنهم وما روى مرفوعا في فقد عائشة قلادتها إن أمكم ضلت قلادتها فابتغوها فدل أن الفقد لما له روح ولما ليس له روح قد يطلق عليه أنه ضال ودل على أنهما سواء وهو مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه.

(2/53)