المعتصر من المختصر من مشكل الآثار

كتاب القسمة في المهايأة بالأزمان
فيما روى جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:

(2/53)


جئت لأهب لك نفسي فصعد النظر إليها وصوبه ثم طأطأ رأسه فقام رجل فقال أي رسول الله: إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها فقال: "هل عندك من شيء" قال: لا والله يا رسول الله قال: "انظر ولو خاتما من حديد" فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله ولا خاتما من حديد ولكن هذا إزاري قال سهل: ما له رداء فلها نصفه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تصنع بإزارك أن لبسته لم يكن عليها منه شيء وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء" فجلس الرجل حتى طال مجلسه قال: فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم موليا فأمر به فدعى له فقال: "ما معك من القرآن" قال: سورة كذا وكذا عدها قال: "أتقرأ عن ظهر قلب" قال: نعم قال: "اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن" فيه دليل على أن النكاح لو تم بينهما على نصف الإزار لكان لكل واحد منهما لبسه بكماله في حال ما لحق ملكه في نصفه ولولا ذلك لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول كما لم يقل أن لبسه سواك أو سواها لم يكن عليك ولا عليها فدل على جواز المهايأة في الثياب وفيما سواها مما ينقسم أولا ينقسم فيستعمله كل واحد منهما وقت معلوما حتى يعتدلا في منافعه وإن كان يمكن التجزية يجزي بينهما وهذا يوافق مذهب الذين يقولون في الدار بين الرجلين فيطلب أحدهما سكنى نصيبه منها ويأباه الآخر أن المهاياة تستعمل بينهما وممن ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه ولهم في ذلك مخالفون ممن يقول أنه ليس ذلك لواحد منهما إلا بإطلاق صاحبه والله أعلم.

(2/54)


في الوديعة وفي اقتطاع المرء حقه بنفسه
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" وروى عن عائشة أنها قالت: قالت أم معاوية لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح وأنه لا يعطيني إلا أن آخذ من ماله سرا فقال: "خذي ما يكفيك وبنيك بالمعروف"، حديث عائشة مفسر للحديث الأول لأن إباحة أخذ المرأة من مال زوجها كفايتها دليل على أن من كان له على رجل

(2/54)


دين فأودعه مالا أو قدر على أخذ حقه بطريق آخر له أخذه بالمعروف لأن معنى أد الأمانة إلى آخره خذ حقك بالمعروف ولا تأخذ أكثر فتكون خائنا فلا تعارض بينهما ومن هذا المعنى ما روى مرفوعا ليلة الضيف حق على كل مسلم أصبح بفنائه دين له عليه إن شاء اقتضاه وإن شاء تركه.
وما روى عن عقبة قال: قلنا: يا رسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يأمرون لنا بحق الضيف قال: "إن نزلتم بقوم فلم يأمروا لكم بحق الضيف فخذوه من أموالهم" فجعل حق الضيف في الأول دينا وأباح في الحديث الثاني فوافق ذلك معنى الحديثين الأولين ولكن هذا في البادية وعند الحاجة إذا لم يكن لهم مال ولا وجدوا مندوحة عن قراهم لا مطلقا.

(2/55)


في حكم العارية
استعار النبي صلى الله عليه وسلم من صفوان بن أمية أدرعا من حديد يوم حنين فقال له: يا محمد مضمونة قال: "مضمونة" فضاع بعضها فقال له صلى الله عليه وسلم: "إن شئت غرمناها لك" قال: لا أنا أرغب في الإسلام في الحديث اضطراب الرواة فبعضهم عن امية بن صفوان وبعضهم عن أمية بن صفوان عن أبيه وبعضهم عن ناس من آل صفوان ولم يذكر بعضهم فيه الضمان ومعلوم أنه لو كانت العارية مضمونة لغنى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذكر ضمانها لصفوان ولقال له: هل تكون العاريه إلا مضمونة وكان يومئذ حديث عهد بجاهلية لأن غزوة حنين بعد فتح مكة وكان صفوان قد عهد من الرسول صلى الله عليه وسلم التزامه من الشروط ما لا يلزم في الإسلام كما فعل يوم الحديبية فلذلك سأل ضمان العارية لأن من شريعته وجوب الضمان فيها فأحدث الاشتراط فيها حكما لم يكن قبله يؤيده ما روى مرفوعا إلا أن العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضي والزعيم غارم ففي قوله: "مؤداة" دلالة كونها أمانة {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} وجاء في حديث

(2/55)


صفوان فقال له: أمؤداة يا رسول الله العارية فقال: "نعم".
وقد اختلفت الصحابة في وجوب ضمانها فعن ابن عباس أنها تضمن وعن عمرو على أنها لا تضمن ولما اختلفوا رجعنا فيه إلى ما يوجبه النظر فوجدنا العارية مأخوذة بطيب نفسه من غير عوض على ما أباح ووجدنا المستأجرات مقبوضة بأعواض فلما كانت المستأجرات غير مضمونة مع وجوب الأعواض في استعمالها كانت العارية مع عدم العوض في استعمالها أحرى أن لا تكون مضمونة وهو مذهب أبي حنيفة والثوري وأصحابهما وعند أهل المدينة ما ضاع ظاهرا أضاع على الأمانة وما كان يخفي ضياعه تضيع مضمونة ولا فرق بينهما كما لا فرق في الغصوب المضمونات والودائع الغير المضمونة فيما يظهر وفيما يحفى وقال الليث: الذي أدركنا عليه شيوخنا أنه ليس في العارية ضمان إلا أن يتعدى المستعير فيها فيضمن قال ابن شهاب: على ذلك أدركنا الناس حتى اتهم الولاة الناس فضمنوهم ففيه أن المتقدمين على عدم التضمين ما لم يتعد فيها ولو كانت مضمونة لغرم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يرد المشيئة إلى صفوان إذ الواجب أن من عليه دين يؤديه عند المطالبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم أولى الناس بذلك وأحسنهم قضاء وفي قول صفوان أن في قلبي من الإيمان ما لم يكن دليل على أن اشتراطه الضمان كان على غير حكم الإسلام وكان لقرب عهده بأمر الجاهلية.

(2/56)


في عارية المتاع
عن ابن مسعود كل معروف صدقة كنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم القدر والدلو والرشاء وأشباه ذلك وعن ابن عباس في تأويل الآية هو عارية المتاع وقالت أم شرحبيل: قالت لي أم عطية: اذهبي إلى فلانة فاقرئيها السلام وقولي: أم عطية توصيك بتقوى الله العظيم فلا تمنعي الماعون قالت: يا سيدتي ما الماعون قالت: اهبلت هي المهنة يتقاضاها الناس بينهم،

(2/56)


وروى عن علي في تأويلها يراؤون بصلاتهم ويمنعون زكاة أموالهم وعن ابن عمر أنه هو الزكاة فتأملنا الآية فوجدناهم توعدوا بالويل كما توعد في قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً} فتحققنا أنهم أيضا من أهل النار المتواعدين في هذه الآيات يؤيده وصفهم بالسهو عن صلاتهم كالمنافق الداخل في الصلاة متساهيا عنها والمنافق في الدرك الأسفل من النار ومن كان كذلك لا يلتمس منه الزكاة لأنها مطهرة قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} والمنافق لا تطهره الزكاة وقال تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} فكان صلى الله عليه وسلم إذا جاءه المؤمن بزكاته يصلي عليه كما قال: "اللهم صل على آل أبي أوفي" ولا تجوز الصلاة على المنافقين فثبت أن تأويل الآية ما قال له ابن مسعود وابن عباس وهو أولى مما سواه وعن أبي عبيدة الماعون في الجاهلية كل منفعة وعطية وفي الإسلام الطاعة والزكاة وعن الفراء الماعون هو الماء ولكن الحق ما ذكرناه أولا.

(2/57)