المعتصر
من المختصر من مشكل الآثار كتاب الهبات
في الرجوع عن الصدقة
روى عن ثمامة القشيري قال: شهدت الدار فأشرف عليهم عثمان فقال: ائتوني
بصاحبيكم هذين اللذين الباكم على فجىء بهما كأنهما جملان أو حماران فأشرف
عليهم عثمان فقال: أنشدكم بالله والإسلام هل تعلمان أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قدم المدينة وليس فيها ماء يستعذب غير بئر رومة فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "من يشتري بئر رومة فيكون دلوه مع دلاء المسلمين بخير
له منها في الجنة" فاشتريتها من صلب مالي وأنتم اليوم تمنعوني أن أشرب منها
حتى أشرب من ماء البحر قالوا: اللهم نعم قال: أنشدكم بالله والإسلام هل
تعلمون المسجد كان ضاق بأهله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يشتري
بقعة آل فلان بخير له منها في الجنة" فاشتريتها من مالي فرددتها في المسجد
وأنتم اليوم تمنعوني أن أصلي فيها ركعتين قالوا: اللهم نعم قال: أنشدكم
بالله والإسلام هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على ثبير
مكة هو وأبو بكر وعمر وأنا فتحرك الجبل حتى سقطت حجارته بالحضيض فركضه
برجله وقال: "اسكن ثبير فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان" قالوا: اللهم نعم
قال: الله أكبر شهدوا لي ورب الكعبة أني شهيد الله أكبر شهدوا لي ورب
الكعبة أني شهيد قالها ثلاثا لا يقال قصد عثمان في كون دلوه مع دلائهم
وصلاته مع صلاتهم يضاد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب عن
اشتراء الفرس المتصدق بها بقوله لا تعد في صدقتك وكذا منع الزبير من
(2/60)
شراء فلو دابة كان تصدق بها لأن المنهي
إعادة عين ما تصدق به إلى ملكه أو نتاج ما تصدق به إلى ملكه وذلك مكروه
وممنوع منه فأما الانتفاع بذلك وصدقته قائمة على حالها مسلمة إلى جهتها
بحيث يكون هو في الانتفاع بها كآحاد الناس فلا لأنه حينئذ لا يكون عائدا في
صدقته ولا راجعا بها إلى ملكه ولهذا يحل شرب ماء ذلك البئر للغني مع كون
الصدقة حراما على الأغنياء لأن ذلك عائد إلى المنافع وهي حينئذ لله لا لمن
سواه من خلقه وفيه نظر لأن الصدقة المحرمة على الأغنياء إنما هي المفروضة
كالزكاة وأيضا ما خص عثمان بالبئر الفقراء بل عم بها المسلمين وشربه كان
بحقه الذي استثناه لنفسه فليس فيه إباحة انتفاع المتصدق بصدقته ولو خص بها
الفقراء لما حل للأغنياء الشرب منها ولا له لو لم يشرط اللهم إلا إذا كان
في الماء فضلة على الفقراء فيحل للأغنياء حينئذ إذ لا يمنع فضل الماء بخلاف
غيره من الأشياء روى عن عمر قال: حملت على فرس في سبيل الله وكنا إذا حملنا
في سبيل الله أتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضعه حيث أراه الله
تعالى فجئت بها فحمل عليها رجلا فوافقته يبيعها فأردت أن أشتريها منه فأتيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: "لا تشترها ولا تعد في
صدقتك" وروى: لا تشتره ولا شيئا من نتاجه وعن الزبير أنه حمل على فرس في
سبيل الله فوجد فرسا تباع من ضئضئها يعني: ولد ولدها فنهى أن يشتريها وعن
أسامة أو زيد بن حارثة أنه حمل على فرس في سبيل الله فأراد أن يشتري ولدها
أو فلوها فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم.
وعن ابن العاص أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أني أعطيت
أمي حديقة وأنها ماتت ولم تترك وارثا غيري فقال: "وجبت صدقتك ورجعت إليك
حديقتك" ففيه إباحة عين الصدقة للمتصدق بالميراث الذي هو من قبل الله تعالى
لا صنع للعبد فيه بخلاف الشراء وما في معناه ثم أعلم أن النهي فيه نهي
كراهة لا تحريم لأنه روى في آخر حديث عمر بن الخطاب فإن العائد في
(2/61)
صدقته كالكلب يقيىء ثم يعود في قيئه والكلب
غير متعبد بتحريم ولا تحليل كبني آدم فعوده فيه إنما هو عود في قذر لا عود
في حرام فكذا المتصدق عائد في قذر لا في حرام تحقيقا للتشبيه وروى العائد
في هبته كالعائد في قيئه من غير تعيين كلب أو غيره يؤيد ما قلنا ما روى عن
عمر قال: من وهب هبة لصلة رحم أو على وجه صدقة فإنه لا يرجع فيها ومن وهب
هبة يرى أنه إنما اراد بها الثواب فهو على هبته يرجع فيها إن لم يرض عنها
وروى عنه من وهب هبة فهو أحق بها حتى يثاب منها بما يرضى وما روى عن علي بن
أبي طالب أنه قال: الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها وعن ابي الدرداء الواهب
ثلاثة رجل وهب من غير أن يستوهب فهي كسبيل الصدقة فليس له أن يرجع فيها
ورجل استوهب فوهب فله الثواب فإن قبل على هبته ثوابا فليس له إلا ذلك وله
أن يرجع ما لم يثب ورجل وهب واشترط الثواب فهو دين على صاحبها في حياته
وبعد موته وروى عن عبد الله بن عامر قال: كنت عند فضالة بن عبيد فجاء رجلان
يختصمان في بازى فقال أحدهما: وهبت له بازيا وأنا أرجو أن يثيبني منه وقال
الآخر: نعم قد وهبني بازيا وما سألته وما تعرضت له فقال فضالة: أردد إليه
هبته فإنما يرجع في الهبات النساء وشرار الأقوام قال الطحاوي: وفيما ذكرنا
عن الصحابة ما قد دل على الواهب الذي أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم
في ذلك من هو وفي حكم رجوعه في هبته ما هو.
(2/62)
في الهبة للولد
عن طاوس عن ابن عمرو ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا
يحل أن يرجع في هبته إلا الوالد لولده" شك بعض الرواة في: لا يحل وأوقفه
بعضهم على طاوس وزاد بعض الرواة: ومثل الذي يعطى عطية ثم يرجع فيها كمثل
الكلب أكل حتى إذا شبع قاء ثم عاد في قيئه وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يرجع أحد
(2/62)
في هبته إلا والد من ولده والعائد في هبته
كالعائد في قيئه" فلو كان لفظ لا يحل ثابتا غير منكور لما وجب منع الواهب
من الرجوع لأنه يحتمل أن يكون معناه لا يحل لرجل أن يقذر نفسه فيصير كالكلب
يقئ ثم يأكل قيئه كما نهى عن كسب الحجام لا أنه حرام واستثنى الوالد على
أنه في مال ولده بخلافه في مال غيره إذ قال للذي ذكر له أن أباه يريد أن
يجتاح ماله: "أنت ومالك لأبيك" فجعل دخوله في مال ولده من هذه الجهة بخلاف
دخوله بها في مال غيره ويحتمل أنه إنما أباح له من ذلك على حال من الأحوال
التي يجوز بها الدخول في مال ولده فلا يكون لولده أن يمنعه من بسط يده في
ماله فيكون الاستثناء على هذا منفصلا مع أن ابن عمر سمع من عمر قال فيمن
وهب هبة: أنه أحق بها حتى يثاب منها بما يرضى فاستحال أن يكون ابن عمر مع
جلالة قدره يسمع من أبيه شيئا قد سمع من النبي صلى الله عليه وسلم خلافه
فلا يذكر له ذلك ويحدث بذلك الناس بعده ليستعملوه فعاد الحديث بانتفائه عن
ابن عمر منقطعا لا يحتج بمثله كرواية من أوقفه على طاوس.
(2/63)
في التسوية بين
الأولاد
روي عن النعمان بن بشير أن أباه أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أكل ولدك نحلته مثل هذا" فقال: لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"فارجعه". فيه أمر الوالد بأن يرجع فيما أعطي لابنه الصغير وكان أبوه قابضا
له من نفسه ما تحله إياه فخرج من ملكه إلى ملك ولده ولكن الحق أنه لم يكن
قبل العطية له وإنما أتاه مسترشدا له في ذلك يدل عليه رواية جابر قال: قالت
امرأة بشير لبشير: انحل ابني غلامك وأشهد لي رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ان ابنة فلان
سألتني أن انحل ابنها غلاما وقالت: أشهد رسول الله فقال: "أله أخوة" قال:
نعم قال: "فكلهم أعطيتهم" قال: لا قال: "فإن هذا لا يصلح وإني لا أشهد إلا
على حق"، وروايته أولى لموضعه من السبق
(2/63)
والعلم وجلالة القدر ونعمان كان يومئذ
صغيرا ليس معه ضبط مع أنه روى عن النعمان قال: نحلني أبي غلاما ثم مشى بي
حتى أدخلني على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني نحلت ابني
غلاما فإن أذنت لي أن أجيزه أجزته فدل أنه لم يكن نحلا بل منتظرا فيه ما
يقوله صلى الله عليه وسلم وجاز اطلاق نحل لما لم يكن حقيقة ولكن لقرب كونها
على عادة العرب وعليه قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ
فَاسْتَعِذْ} ومنه تسميتهم المأمور بالذبح ذبيحا كابن إبراهيم عليه السلام
لقربه من ذلك وخرج حديث النعمان هذا من طرق في بعضها: "أكل ولدك نحلته مثل
هذا" قال: لا قال: "أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء" قال: بلى قال: "فاشهد
على هذا غيري" وهذا وعيد ظاهره أمر وباطنه زجر كقوله تعالى: {اعْمَلُوا}
وفي بعضها قال: "لا أشهد إلا على حق" يعني: أن الداعي إلى التقصير في حق
الأب ضد للحق الذي ينبغي أن يجري عليه الأمور وفي بعضها: "فلا تشهدني إذا
فإني لا أشهد على جور" وهذا يدل على أن قوله: "أشهد على هذا غيري" ليس على
الإباحة بل هو تقريع وأهل العلم مختلفون في العدل بين الأولاد فقال بعضهم:
على التسوية بين الذكر والأنثى منهم أبو يوسف وبعضهم يجريه مجرى الإرث منهم
محمد بن الحسن والأول أولى لأن البر المطلوب من الأولاد إلى الأب على
التسوية بين الذكر والأنثى فكذا البر من الأب يكون بمقابلته على السوية قال
الطحاوي: ولم يتفق في شيء من هذه الآثار أن للوالد إذا وهب هبة لولده تمت
منه له أن يرجع فيها ولا أن يبطلها وإن كان قد خالف فيها ما أمر به من
المساواة بين أولاده وبالله التوفيق.
(2/64)
|