المعتصر
من المختصر من مشكل الآثار كتاب العتق
في فضيلة عتق الرقاب
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها
عضوا منه من النار"، يعني: رقبة مؤمنة على ما روى من أعتق رقبة مسلمة أو
مؤمنة مع المكافي الذكورة إن كان المعتق ذكر فلا تنفك نفسه من النار إلا
بعتق ذكر مسلم أو امرأتين مسلمتين على ما روى عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "أيما رجل مسلم اعتق رجلا مسلما كان فكاكه من النار يجزي بكل عظم من
عظامه عظم من عظامه وإيما رجل مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من
النار يجزي بكل عظمين منهما عظم من عظامه وإيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة
مسلمة كانت فكاكها من النار يجزي بكل عظم منها عظم من عظامها"، وخرج في هذا
الباب آثارا كثيرة وفيما ذكرنا دليل على ما قلنا وعن واثلة بن الأسقع قال:
أتى النبي صلى الله عليه وسلم نفر من بني سليم فقالوا: إن صاحبا لهم قد
أوجب يعني: النار بالقتل قال: "فليعتق رقبة يفدي الله بكل عضو منها عضوا
منه من النار" وفي رواية: مروه فليعتق.
وفي رواية: أعتقوا عنه رقبة إلى آخره فيه أن إعتاقهم إياها عنه بغير أمره
فكاك له من النار ولكن رواية: مروه فليعتق أكثر وأضبط يدل عليه قوله تعالى
في جزاء الصيد: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} فكذلك كفارة كل ذنب إنما يراد
بها ذوق المذنب وبالها وإن صح رواية: اعتقوا عنه ينبغي أن يؤول إلى رواية:
فليعتق لأن القتل إذا وجد من واحد من القبيلة يصح إسناده إلى تلك القبيلة
يقولون: أعتقته خزاعة لعتق رجلا من خزاعة إياه فكان يجوز أن يروي عما كان
قاله مروة بقوله: اعتقوا عنه بأمركم إياه وحثكم له على إعتاق رقبة عن نفسه
يضاف عتاقها إليكم وإليه جميعا فتعود معاني الروايات إلى معنى واحد وهو
عتاق المذنب عن نفسه رقبة كفارة لذنبه وفكاكا له من النار.
(2/69)
في فك الرقبة
روى أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: علمني عملا يدخلني
الجنة قال: "لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة أعتق النسمة وفك
الرقبة" قال: أو ليسا واحدا قال: "لا عتق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك
الرقبة أن تعين في ثمنها والمنحة الركوب والقبض على ذي الرحم الظالم فإن لم
تطق ذلك فاطعم الجائع واسق الظمآن ومر بالمعروف وأنه عن المنكر فإن لم تطق
ذلك فكف لسانك إلا من خير" وروى: والفئ على ذي الرحم الظالم، عتق الرقبة
معروف في الكفارات والنذور والتطوع وفك الرقبة تخليصا مما هي به مأسورة
وفيه محبوسة ومنه فكاك الرهن وهو تخليصه من مرتهنه ومنه قوله صلى الله عليه
وسلم في دعائه "وفك رهاني" أي: خلصني مما أنا به مطلوب ومن ذلك فك العاني
وهو الأسر روى مرفوعا أطعموا الجائع وعودوا المريض وفكوا العاني.
(2/70)
في عتق رقبة من ولد
اسماعيل
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من قال إذا أصبح: "لا إله إلا الله وحده
لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير كتب له عشر حسنات وكفر
عنه عشر سيئات وكانت له عدل رقبة من ولد اسماعيل وكان في حرز من الشيطان
حتى يمسي وإذا قالها إذا أمسى فمثل ذلك".
وما روى مرفوعا قال: "من كانت عليه رقبة من ولد إسماعيل فلا يعتق من حمير
أحدا" قيل لابن أبي خالد ما شأن حمير قال: هو أكبر من إسماعيل وورد آثار
كثيرة توجب فضل عتق الرقاب من ولد إسماعيل فيه تثبيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم وقوع الملك على العرب كما يقع على من سواهم وتصحيح ما قاله
الجماعة إن ولد الأمة من زوجها العربي رقيق لسيدها خلافا للأوزاعي
(2/70)
في جعله حرابا لقيمة لمولاها والحق أن ولد
العربي من الأمة لا يخلوا ما أن يكون مملوكا لمولاها فوجب أن لا يزول عنه
ملكه إلا برضاه أو لا يكون مملوكا فيكون كسائر الأحرار لا تجب قيمته على
أبيه فالقول بأنه حر وعلى أبيه القيمة خارج عن القياس والله أعلم.
(2/71)
في عتق ولد الزنا
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن عتق ولد الزنا فقال: "لا خير
فيه نعلان أجاهد فيهما أحب إلي من عتق ولد الزنا" هذا في المتحقق بالزنا
حتى صار منسوبا إليه ومجعولا ولدا له ومثله ما روى عن أبي هريرة: لأن أحمل
بسوط في سبيل الله أحب إلي من أن أعتق فرخ زنا وكذا روى مرفوعا: فرخ الزنا
شر الثلاثة وقيل لابن عمر: يقولون ولد الزنا شر الثلاثة فقال: بل هو خير
الثلاثة وقد أعتق عمر عبيدا من أولاد الزنا فالحق أنه صلى الله عليه وسلم
قصد بذلك إلى رجل معين لمعنى كان فيه لا لأنه ولد زنا لقوله تعالى: {وَلا
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وبين ذلك ما روى عن عائشة أنه بلغها حديث
أبي هريرة: ولد الزنا شر الثلاثة فقالت: يرحم الله أبا هريرة أساء سمعا
فأساء جابة إنما كان هذا في رجل يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال
صلى الله عليه وسلم: "أما أنه مع به ولد زنا هو شر الثلاثة".
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة ولد زنية" يعني:
من تحقق بالزنا وكثر منه حتى صار غالبا عليه فاستحق بذلك كونه منسوبا إليه
كما ينسب المتحققون بالدنيا إليها يقال لهم: بنو الدنيا لعملهم لها وتركهم
لم سواها وكما قيل للمسافر: ابن سبيل وهو المسافر المنقطع به فاحتمل أن
يكون معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ولد الزنا شر الثلاثة" أي: من
كثر منه الزنا وغلب عليه وروى مرفوعا قال: "لا تزال هذه الأمة على شريعة ما
لم يظهر منهم ثلاث ما لم يقبض منهم العلم ويكثر فيهم ولد الخبث ويظهر فيهم
الصقارون" قالوا: وما الصقارون يا رسول الله قال: "نشو يكونون في آخر الزمن
تحيتهم بينهم إذا
(2/71)
التقوا التلاعن سمى الصقارون لما يكون منهم
من القول القبيح وولد الخبث مراده صلى الله عليه وسلم فيه نسبته إياهم إلى
الخبث وأنهم أولاد له للمعنى الذي ذكرنا من تسمية المتحقق بالشيء الذي يغلب
عليه أنه ولد له كما يجوز أن يقال: أنه ابن له.
(2/72)
في عتق القريب
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لن يجزي ولد والده إلا أن يجده
مملوكا فيشتريه فيعتقه"، أي: عتق بمجرد شرائه من غير أن يستأنف عتقه كما
يقوله جماهير أهل العلم ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على
الفطرة فابواه يهودانه أو ينصرانه أو يشركانه" ليس المراد استئناف التنصير
والتهويد بل يحصل ذلك بلا سبب منهما يوجب ذلك فيه.
قال الطحاوي: معنى فيعتقه أي فيعتقه بشرائه إياه الذي هو سبب لعتقه لا أنه
يكون ملكا له بعد الشراء حتى يعتقه كما لا يجوز أن يملك الأب ابنه قال
تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً} إلى قوله: {إِنْ كُلُّ
مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً}
يعني: لو كان له ولد لم يكن له عبدا لأن الولد لا يقع ملك أبيه عليه
فبالطريق الأولى أن لا يقع ملك الابن على الأب يؤيده ما روى عن ابن عمر قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ملك ذا رحم محرم عتق".
وعن سمرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ملك ذا رحم محرم فهو حر"،
وروى: من ملك ذا رحم محرم فهو حر، ويمكن التوفيق بحيث يرجع معناهما إلى ملك
ذا رحم محرم فهو حر وروى عن مستورد أن رجلا زوج ابن أخيه مملوكته فولدت له
أولاد فأراد استرقاقهم فأتى ابن أخيه عبد الله بن مسعود فقال: إن عمي زوجني
وليدته فولدت لي أولاد فأراد استرقاقهم فقال عبد الله: كذب ليس له ذلك ولا
نعلم لهما مخالفا من الصحابة وهذا مذهب أبي حنيفة والثوري وأكثر أهل العراق
وأما مالك يقول بعتق الأخ ولا يقول بعتق ابن الأخ على عمه وأما الشافعي فلا
يوجب العتاق إلا في قرابة الولاد أعلى وأسفل خابصة.
(2/72)
في عتق المقر بالإسلام وإن لم يصل
عن أبي هريرة أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية عجماء لا
تفصح فقال: أن على رقبة مؤمنة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين
الله"؟ فأشارت إلى السماء فقال لها: "من أنا". فأشارت إلى السماء فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "أعتقها"، وزاد بعضهم: فإنها مؤمنة، فيه جواز
إعتاق من لم يصل ولم يصم ممن عليه رقبة مؤمنة وكذا من استحق الإيمان تبعا
لأبويه خلافا للحسن في شرط الصوم والصلاة في الرقبة المؤمنة وفي غيرها أجزأ
فيه الصغير وخلافا لإبراهيم في قوله: لا يجزئ في كفارة القتل إلا من صام
وصلى ويجزئ في اليمين والظهار من لم يصل ولم يصم.
(2/73)
في عتق العبد
المشترك
روى عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان العبد
بين إثنين فأعتق أحدهما نصيبه فإن كان موسرا فإنه يقوم عليه بأعلى القيمة"
وروى: قيمة لاوكس ولا شطط، فيه بيان حكم المعتق الموسر لا غير وعن سالم عن
ابن عمر مرفوعا من أعتق شركا له في عبدا قيم ما بقي من ماله إذا كان له مال
يبلغ ثمن العبد قوله: إذا كان له مال من كلام الزهري فيه أيضا بيان حكمه
إذا كان موسرا ولا خلاف فيه لأحد فأما إذا كان معسرا ففيه الاختلاف وفي هذا
الحديث لا حجة لبعضهم على بعض وعن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "من أعتق شركا في مملوك فقد عتق كله فإن كان للذي أعتق من
المال ما يبلغ ثمنه فعليه عتقه كله".
وفيما روى عنه أيضا مرفوعا قال: من كان له شرك في عبد فاعتقه فقد عتق كله
فإن كان له مال قوم عليه قيمة عدل في ماله وإن لم يكن له مال فقد عتق منه
ما عتق فيه إن العبد قد عتق كله بعتق الذي أعتق ما يملك منه وضمان
(2/73)
قيمة شريكه في يساره زائد على ذلك منفصل
منه وليس فيه إذا كان المعتق المالك معسرا كيف هو فذهب بعض إلى أنه كالموسر
في ضمان قيمة شريكه لأنه لا فرق في ضمان الجنايات بين اليسار والإعسار إلا
في الأنظار ولقوله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق شقصاله في مملوك ضمن
لشركائه حصصهم".
وفيه نظر لأنه يحتمل أن يكون هذا في الموسر وأما ما روي عن ابن عمر قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق شركا له في مملوك فعليه عتقه كله
إن كان له مال يبلغ ثمنه فإن لم يكن له مال قوم قيمة عدل على المعتق وعتق
منه ما عتق"، فيحتمل أن يكون راوية قصر في حفظ باقية وقد روى نافع عن ابن
عمر مرفوعا من أعتق نصيبا له في مملوك وشركا له في مملوك فكان له من المال
ما يبلغ قيمته بقيمة العدل فهو عتيق قال نافع: وإلا فقد عتق منه ما عتق قال
أيوب: ولا أدري أشيء قاله نافع أو في الحديث وأكثر ظني أنه قول نافع ففيه
أن الضمان إنما يجب على المعتق إذا كان له مال لا مطلقا يؤيده ما روى عن
ابن عمر مرفوعا من أعتق شركا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم
عليه قيمة العدل فأعطى شركاؤه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق عليه ما
عتق ففيه أيضا بيان الحكم إذا كان موسرا فقط فإن قيل: قوله: فقد عتق عليه
ما عتق يدل أنه لا يعتق منه إذا كان معسر إلا مقدار ما أعتقه منه.
فالجواب أنه يحتمل أن يكون الذي عتق عليه هو جميع العبد وكذلك قال في
الحديث الأول: فقد عتق كله ثم أعقب ذلك بقوله: فإن كان للذي أعتق نصيبه من
المال ما يبلغ ثمنه فعليه عتقه كله ففيه كون العبد عتيقا كله بالعتق من أحد
مالكيه دون هذا الحكم المذكور بعد ذلك وقد أيد ما ذكرناه من أن المقصود
إليه بالضمان هو الموسر لا غير حديث سالم عن ابن عمر المذكور قبل هذا فإن
قيل: روى عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في العبد يكون
بين الشريكين: "فيعتق أحدهما يقوم عليه في ماله قيمة عدل فيعتق عليه وإن لم
يكن في ماله ما يخرج حرا يعتق منه ما عتق ويرق ما رق" وهذا يدل على أن
(2/74)
المعتق إذا كان معسرا يبقى حق الشريك على
ما كان رقيقا.
فالجواب أن هذه الزيادة لم نجدها فيه إلا عن اسماعيل بن مرزوق وليس ممن
يقطع بروايته ثم وجدنا عن ابن عمر أن رجلين بينهما مملوك فأعتق أحدهما
نصيبه قال: إن كان عنده مال عتق نصف1 العبد وكان الولاء له وإن لم يكن له
مال سعى العبد في بقية القيمة وكانوا شركاء في الولاء وهذا الحديث لا خلاف
في صحة إسناده فالمعول عليه عن ابن عمر هو عتاق العبد كله بعتق أحد مالكيه
موسر أكان أو معسر أو ضمان نصيب الشريط إن كان موسر أو سعاية العبد إن كان
معسرا ويؤيده ما روى عن أبي المليح يعني أسامة الهذلي عن أبيه أن رجلا أعتق
شقصا له في مملوك فأعتقه النبي صلى الله عليه وسلم كله عليه وقال: ليس لله
شريك ففيه أن العبد إذا صار بعضه لله بعتاق من أعتق نصيبه منه ينتفي الرق
عن سائر الأنصباء ويكمل لله تعالى ثم الكلام في أهل العلم واختلافهم حال
إعسار معتقه قال بعضهم صار كله حرا وعلى العبد السعاية منهم محمد بن ابي
ليلى وسفيان الثوري وأبو يوسف ومحمد في جماعة من أهل الكوفة وبعضهم يقول:
عتق ما عتق بإعتاق أحد مالكيه والآخر مخير إن شاء أعتقه فيكون ولاؤه بينهما
وإن شاء استسعى العبد في قيمة نصيبه منه حتى يؤديه إليه وهو قول أبي حنيفة
محتجا بما روى عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كان لنا غلام قد شهد القادسية
فأنكى فيها وكان بيني وبين أمي وأخي الأسود فأرادوا وأعتقه وكنت يومئذ
صغيرا فذكر ذلك الأسود لعمر بن الخطاب فقال: اعتقوا أنتم فإذا بلغ عبد
الرحمن فإن رغب فيما رغبتم أعتق وإلا ضمنكم.
وهو صحيح الإسناد مكشوف المعنى غير أن ما روى عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم مما يخالفه أولى منه وكان بعضهم يقول: قد عتق نصيب من أعتقه منه وبقي
نصيب من لم يعتقه مملوكا له كما كان وهو قول مالك والشافعي
__________
1 كذا في الأصل والظاهر "عتق العبد" نصف زائد.
(2/75)
في كثير من أهل الحجاز والذي صححنا عليه
حديث ابن عمر على ما ذكرناه أولى وأما ذكر الولاء في حديث ابن عمر للمعتق
إذا كان موسر أو لمن يسعى له فإن جميع من ذكرنا يأبى ذلك ويجعله لمن أعتقه
خاصة غير أبي حنيفة فإنه يجعله بينهما والدليل يساعد قول مخالفيه لأن العبد
يعتق بإعتاق مالكه إياه لا بالسعاية لا سيما وحديث ابن عمر يدل على أنه حر
بعتاق من أعتقه من مالكيه فانتفى عنه الرق ولم يقع عليه عتاق بعد ذلك ومن
قال: أنه يبقى نصيب من لم يعتق رقيقا إذا كان المعتق معسرا يكون له ما
يكتسبه في يوم من أيامه لنفسه بحق العتاق الذي ناله ويكون ما يكتسبه في يوم
سواه لمن يملك بقيته وهذا غير معقول لأن العبد في اليوم الذي يعمل لنفسه
إنما يعمل بكليته مما بعضه مملوك وبعضه ليس كذلك فوجب أن لا ينفرد شيء
بكسبه دون من له فيه الرق ألا ترى أنه لو جنى عليه جناية في الأيام التي
يعمل فيها لنفسه لم ينفرد بارش ذلك ولو كانت أمة فتزوجت في أيامها لم تنفرد
بصداقها وقد كان ابن أبي ليلى وابن شبرمة يقولان جميعا في العبد الذي يعتق
نصيبه منه صاحبه وهو معسر: أنه يسعى في قيمة أنصباء الذين لم يعتقوه ويرجع
بما يسعى على المعتق وفيما روينا ما يدفع ذلك إذا كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم إنما جعل الضمان على المعتق إذا كان له مال يبلغ قيمة أنصباء
شركائه لا غير وليس لأحد أن يتعدى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء
إلى ما لم يرو عنه وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من
أعتق نصيبا أو شركا له في مملوك فعليه خلاصة كله في ما له فإن لم يكن له
مال استسعى العبد غير مشقوق عليه" وفيه إيجاب ما صححنا عليه حديث ابن عمر
قبل هذا ومن روى هذا الحديث فلم يذكر فيه السعاية فقد قصر في الحفظ وكان من
حفظ شيئا أولى ممن قصر عنه.
(2/76)
في العتق بالمثلة
عن ابن عباس قال: جاءت جارية إلى عمر بن الخطاب فقالت: أن سيدي
(2/76)
اتهمني فأقعدني على النار حتى احترق فرجى
فقال عمر: علي به فلما رأى عمر الرجل قال له: تعذب بعذاب الله، قال: يا
أمير المؤمنين اتهمتها في نفسها قال: رأيت ذلك عليها؟ قال الرجل: لا قال:
فاعترفت لك به؟ قال: لا قال: والذي نفسي بيده لو لم أسمع رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: "لا يقاد مملوك من مالكه ولا والد من ولده1" لأقدتها
منك فجرده وضربه مائة سوط وقال: اذهبي فأنت حرة لوجه الله تعالى وأنت مولاة
الله عز وجل ورسوله أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من حرق
مملوكه بالنار أو مثل به مثلة فهو حر وهو مولى الله عز وجل ورسوله".
قال الليث: هذا أمر معمول به وروى أنه كان عبد لزنباع بن سلامة فعتب عليه
فخصاه وجدعه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغلظ لزنباع القول واعتقه
منه مذهب مالك والليث اعتاق المملوك على مولاه بتمثيله محتجين بالحديثين
وبما روى عن أبي يزيد القداح قال: رأيت عمر بن الخطاب وجاءته أمة سوداء قد
شويت بالنار فاسترجع عمر حين رآها وقال: من شواك قالت: فلان فأتى به فقال:
عذبتها بعذاب الله والله لولا لأقدتها منك فأعتقها وأمر به فجلد غير أن
مالكا يجعل ولاءه لمولاه قال الطحاوي: وجدت الحديث الأول يرجع إلى عمر بن
عيسى القرشي الأموي رواية عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس وهو ليس بمعروف
والحديث الثاني ليس مما يقطع به أيضا والحديث الثالث وإن كان طريقه حسنا
ليس فيه حجة لأنه قد يجوز أن يكون عمر فعله عقوبة لفاعله إذ كان مذهبه
العقوبات على الذنوب بالأموال كما فعل مع حاطب في عبيدة الذين كان يجيعهم
حتى حملهم ذلك على سرقة ناقة لرجل من مزينة قيمتها أربعمائة فغرم حاطبا
لذلك ثمانمائة درهم والمحتجون به لا يقولون بذلك وإذا اتسع لهم خلاف عمر في
هذا فالذي كان عليه عمر من هذا كان الحكم في أول الإسلام من ذلك ما روى عن
النبي صلى الله عليه وسلم في الزكاة من أعطاها مؤتجرا قبلناها منه وإلا
فإنا آخذوها منه وشطر ما له
__________
1 كذا في الأصل- لعله ولا ولد من والده.
(2/77)
عزمة من عزمات ربنا ومن ذلك ما روى عنه في
حريسة الجبل أن فيها غرامة مثلها.
ومن ذلك ما روى فيمن وقع على جارية امرأته مستكرها لها أو غير مستكره لها
كما ذكرنا في موضعه من هذا الكتاب وإذا أوجب نسخ ذلك كان مثله أيضا
العقوبات في الأموال بالمثلات وغيرها ثم رجعنا إلى ما يروى عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم مما يدخل في هذا الباب فوجدنا من ذلك ما روى عن عمر بن
الحكم أنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن
لي جارية كانت ترعى غنما لي فجاء ذئب فعقر شاة من الغنم فسألتها عنها
فقالت: أكلها الذئب فأسفت عليها وكنت من بني آدم فلطمت وجهها وعلي رقبة
أفأعتقها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين الله"؟ فقالت: في السماء
قال: "من أنا"؟ قالت: أنت رسول الله قال: "اعتقها".
وفي حديث آخر مكان فلطمت وجهها فصككتها صكة ولا يخالف ذلك ما في الحديث
الأول لأن اللطمة قد تسمى صكة ومنه قوله عز وجل: {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا}
فلما كانت اللطمة قد يكون عنها الشين بالوجه الذي قد يكون تمثيلا بالملطوم
وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الكشف عن ذلك عقلنا به أن تمثيله لا
يوجب عتاقها عليه يقول ذلك من يقوله ممن ذكرناه وعن محمد بن المنكدر قال:
حدثنا أبو شعبة قال: لطم رجل وجه خادم له عند سويد بن مقرن فقال له سويد:
ألم تعلم أن الصورة محرمة لقد رأيتني وأنا سابع سبعة مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم وما لنا إلا خادم واحد فلطم أحدنا وجهه فأمره رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن يعتقه وفي أمره صلى الله عليه وسلم إياه بالأعتاق دليل على
أنه ما عتق باللطمة التي فيها أحداث المثلة في وجهه وفيه نظر لأن الغالب أن
اللطمة لا تكون عنها مثلة ومما يدل على انتفاء العتق ما روى أن ابن عمر
أعتق مملوكا له فأخذ عودا من الأرض وقال: مالي فيه من الأجر ما يساوي هذا
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من لطم مملوكه أو ضربه حدا لم
يأته فكفارته
(2/78)
أن يعتقه" ولا شك أن ضرب الخد من أمثل
المثلات ومع هذا لم يصر سببا للعتق بدليل قوله: "فكفارته إن يعتقه" إذ هو
عبد قبل الإعتاق فثبت نفي العتاق بالمثلة التي وصفنا والله أعلم.
(2/79)
في القرعة بين
المعتقين
روى أن رجلا من الأنصار أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له غيرهم مال
فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فغضب من ذلك وقال: "لقد هممت أن لا أصلي
عليه" ثم دعا مماليكه فجزأهم ثلاثة أجزاء فأقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق
أربعة إنما غضب وهم أن لا يصلي لأن المريض لا يجوز أن يتصرف إلا في ثلث
ماله فيجب على كل مريض أن لا ينبسط في ماله بسط الأصحاء لاحتمال موته منه
فلا يحل له ذلك فيحتاط لنفسه ولورثته لئلا يكون مذموما فإن من سنته صلى
الله عليه وسلم ترك الصلاة على المذمومين ثم القرعة في مثل هذا مختلف فيها
فعند أهل الحجاز والشافعي يجوز استعمالها في مثله وعند أبي حنيفة وأصحابه
هي منسوخة والواجب السعاية في ثلثي قيمتهم لورثة معتقهم استدلالا بالإجماع
على ترك القرعة فيما هو في معنى العتق مثل هبة المريض ستمائة لستة رجال
وتقبيضه إياها وكذا في دعوى النسب من ثلاثة نفرا دعوا ولد أمة وطئوها في
طهر واحد روى أن عليا رضي الله عنه حكم في مثل هذه القضية بالقرعة ودفع
الولد بها وبلغ صلى الله عليه وسلم حكمه فضحك حتى بدت نواجذه ففيه رضاه به
منه ثم وجدنا عن علي أنه حكم في مثل هذه القضية بخلاف هذا الحكم فإنه أتاه
رجلان وقعا على امرأة في طهر فقال: الولد بينكما.
قال الطحاوي: فاستحال بأن يكون علي يقضي بخلاف ما كان قضى به في زمن الرسول
صلى الله عليه وسلم ولم ينكره إلا وقد اطلع على نسخ القرعة التي قضى بها
أولا فما رجع إلا عن منسوخ قد كان عليه إلى ناسخ هذا فيما طريقه الأحكام
وأما ما طريقه نفى الظنون وتطييب النفوس كإقراع النبي صلى الله عليه وسلم
بين نسائه في السفر وكإقراع القاسم على السهام بعد تعديلها فهي مستحسنة غير
منسوخة وغير واجبة والله أعلم.
(2/79)
في أول عبدا وآخر
عبدا ملكه فهو حر
روى عن عمر بن الخطاب سأل ابن عباس أرأيت قوله تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ
تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} هل كانت جاهلية غير واحدة فقال ابن
عباس: ما سمعت أولى إلا ولها آخرة فقال عمر: هات من كتاب الله تعالى ما
يصدق ذلك فقال ابن عباس أن الله تعالى يقول وجاهدوا في الله حق جهاده كما
جاهدتم أول مرة فقال عمر: من أمرنا الله أن نجاهده فقال ابن عباس: مخزوم
وعبد شمس هذا المتلوكان من القرآن ثم أسقط فيما أسقط وروى أن عمر قال لعبد
الرحمن بن عوف: ألم تجد فيما أنزل علينا أن جاهدتم أول مرة فأنا لا نجدها
قال: أسقطت فيما أسقط من القرآن فقال عمر: أتخشى أن يرجع الناس كفارا قال:
ما شاء الله قال: أن يرجع الناس كفارا ليكونن أمراؤهم بني فلان ووزارؤهم
بني فلان.
وفي حديث آخر فقال عمر: إن كان ذلك لا يكون إلا وبنو مخزوم من الأمر بسبيل
وفي رواية ليكونن امراؤهم بنوا أمية ووزراؤهم بنوا المغيرة فلم يكن عمر ولا
ابن عباس علما سقوط ذلك من كتاب الله حتى أعلمهما بذلك عبد الرحمن بن عوف
فعلم أنه قد يكون أول لما لا يكون له آخر ومثله قول العلماء في رجل قال:
أول عبدا ملكه فهو حر فملك عبدا يعتق عليه وإن لم يملك عبدا آخر بخلاف ما
لو قال آخر: عبدا ملكه فهو حر فلك عبدا ولم يملك عبدا سواه حتى مات لا يعتق
لأنه لا يكون آخرا إلا وقد كان أولا وروى في تأويلها عن ابن عباس {وَلا
تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} هي الجاهلية كانت بين
عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم وعن الفراء كان ذلك في الزمن الذي ولد فيه
إبراهيم عليه السلام كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ غير مخيط الجانبين
وكانت تلبس الثياب من المال لا يواري جسدها فأمرن أن لا يفعلن ذلك
(2/80)
وقد احتج محتج على أنه يكون أولى وإن لم
يكن أخرى بقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى} فقد
كانت نشأة أولى ولم تكن بعدها نشأة أخرى ولكن جوابه أن ذلك إنما أنزل بعد
أن كانت نشأة ومنه {كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ}
فكان ذلك مما تقدم نزول الآية التي ذكرنا أنها تدل على ما قال.
(2/81)
في قوله: اعتق أي عبيدي شئت
روى عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا فقال: "اللهم أنما أنا
بشر فإيما رجل سببته أو آذيته فلا تعذبني به" وعنها تقول: جاء رجلان إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه فلم يعطهما شيئا ثم سألاه فلم يعطيهما
شيئا ثم سألاه فلم يعطهما شيئا فسبهما ولعنهما فدخل ووجهه محمر يتبين فيه
الغضب فقلت: لقد خاب الرجلان وهلكا لم يصبهما منك شيء ولعنتهما فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "أما علمت أني عهدت إلى ربي عهدا أفقلت يا رب إني
بشر أغضب كما يغضب البشر فأي المؤمنين سببت أو لعنت فلا تعاقبه بها ولا
تعذبه واجعلها له زكاة وأجرا".
وفي رواية أنس أني اشترطت على ربي عز وجل فقلت إنما أنا بشر أرضى كما يرضى
البشر وأغضب كما يغضب البشر فإيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها
بأهل أن تجعلها له طهورا وزكاة وقربة تقربه منك يوم القيامة وعن أبي السوار
عن حمالة1 قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي والناس يتبعونه
فأتبعته معهم فاتقى القوم بي فأتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربني
أما قال: بعسيب أو بقضيب أو سواك أو شيء كان معه فوالله ما أوجعني وبت ليلة
وقلت: ما ضربني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لشيء علمه الله عز وجل في
فحدثت نفسي أن آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبحت فنزل جبريل على
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنك راع
__________
1 كذا في الأصل ولم يوجد في أسماء الصحابة لعله جمانة.
(2/81)
ولا تكسر قرون رعيتك فلما صلى الغداة أو
قال: أصبحنا قال: "إن ناسا يبتعوني وإني لا يعجبني أن يتبعوني اللهم فمن
ضربت أو سببت فاجعلها له كفارة وأجرا" أو قال: "مغفرة" قد كان أبو يوسف
يستدل بهذه الآثار على تعميم العتق في قوله: أعتق أي عبيدي شئت لأن أي قد
يكون على جميعهم كما في هذه الآثار وكان محمد يخالفه في ذلك ويقول: يعتقوا
حدا من العبيد لا غير واحتج بقوله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ
بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى
طَعَاماً} فكان ذلك على واحد من الطعام لا على كل الطعام ومن ذلك قوله
تعالى: {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ} بمعنى أي
الأجلين لأن ما صلة فكان ذلك على واحد من الأجلين لا عليهما جميعا وبما روى
عن أنس بن مالك قال: لما قدم عبد الرحمن المدينة مهاجرا آخي رسول الله صلى
الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع فبات عنده فلما أصبح قال له سعد:
إني من أحسن الأنصار امرأتين وأفضلهم حائطين فانظر إلى امرأتي فأيتهما كانت
أحلى في عينيك فارقتها ثم تزوجتها فإن قومها لا يخالفوني الحديث فقال له:
عبد الرحمن بارك الله لك في أهلك ومالك إلى آخر الحديث فكان قول سعد أي
زوجتي هويت نزلت لك عنه لم يكن عليهما جميعا وإنما كان على أحدهما فمثله
قوله: أعتق أي عبيدي شئت يكون على واحد منهم لا على جميعهم والحق أن الآثار
المتقدمة فيما لا يحصى عدده ولا يتهيأ استعمالها في جملته فكون أي على ما
استعملت فيه على من قبلت له وفيما يحصي عدده ويوقف على مقداره تكون على
واحد من الجنس المذكور فيه لا على أكثر من ذلك كما قال محمد ابن الحسن.
(2/82)
|