المعتصر من المختصر من مشكل الآثار

كتاب المكاتب
في القادر على الوفاء
عن نبهان مولى أم سلمة أنه بينا هو يسير مع أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في طريق مكة وقد بقي من كتابته ألفا درهم فقالت وهي

(2/82)


تسير ماذا بقي عليك من كتابتك يا نبهان قلت: ألفا درهم قالت: فهما عندك قلت: نعم قالت: ادفع ما بقي عليك إلى محمد بن المنكدر فإني قد أعنته بها في نكاحه وعليك السلام ثم ألقت الحجاب فبكيت وقلت: والله لا أعطيه أبدا قالت: إنك والله يا بني لن تراني أبدا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا إذا كان عند مكاتب أحداكن وفاء بما بقي من كتابته فأضربوا دونه الحجاب.
وذلك إن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم فإذا كان عنده وفاء بها فلا يحل أن يمسكها ليسقط عن نفسه الحقوق كالزكاة من ماله وصلاتها بغير قناع وسفرها بغير محرم وعدتها نصف عدة الحرة وما أشبه ذلك من نظره إلى سيدته لأنه يمنع الواجب ليبقى له ما يحرم عليه فهذا وجه قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان لأحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤديه فلتحتجب منه".

(2/83)


في الوضع عن المكاتب وبيعه
روى عن عائشة قالت: جاءت بريرة فقالت: يا عائشة إني قد كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فاعتقيني ولم تكن قضت من كتابتها شيئا فقالت لها عائشة: ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أعطيهم ذلك جميعا ويكون ولاؤك لي فعلت فذهبت إلى أهلها فعرضت ذلك عليهم فأبوا وقالوا: إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون ولاؤك لنا فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا يمنعك ذلك منها ابتعاعي واعتقي فإنما الولاء لمن أعتق" وقام في الناس خطيبا الحديث.
في وقوف النبي صلى الله عليه وسلم على عدم قضاء بريرة من كتابتها شيئا وفي قول عائشة: فإن أحبوا أن أعطيهم ذلك جميعا وتركه صلى الله عليه وسلم الإنكار عليها دليل على عدم وجوب إسقاط بعض البدل عن المكاتب لأنه لو كان الوضع واجبا على المولى لبينه لعائشة وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والثوري وزفروا وأبي يوسف ومحمد خلافا لمن سواهم منهم الشافعي استدلالا بقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} .

(2/83)


فإنه للوجوب لا للندب وكذا روى عن عائشة لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق وقعت جويرية ابنة الحارث في سهم ثابت بن قيس أو لابن عم له فكاتبت على نفسها وكانت امرأة حلوة ملاحة لا يكاد يراها أحد إلا أخذت بنفسه فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب الحجرة فكرهتها وعرفت أنه سيرى منها مثل الذي رأيت فقالت: يا رسول الله إني جويرية ابنة الحارث سيد قومه وقد أصابني من الأمر ما لم يخف عليك فوقعت في سهم لثابت فكاتبته فجئت رسول الله أستعينه على كتابتي، فقال: "فهل لك في خير من ذلك"؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: "أقضي عنك كتابتك وأتزوجك"، قالت: نعم، قال: "قد فعلت" وخرج الخبر إلى الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج جويرية فقالوا: صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا ما في أيديهم فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق فلا تعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها.
في قوله صلى الله عليه وسلم: "أقضي عنك كتابتك" دليل على وجوب جميع الكتابة دون حطيطة تجب لها منها ومن الدليل على ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسلمان: "كاتب" فلم يزل بأهله حتى كاتبوه على أربعين أوقية من ورق وإن يحيى لهم ثلاثمائة نخلة فأعانه صلى الله عليه وسلم وقال لأصحابه: "أعينوا أخاكم" فأعانوه بالنخل وفي تفقير فقرها وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا فقرت لها فلا تضعها حتى أكون أنا الذي أضعها بيدي" فوضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تمت منها واحدة ولم يأخذ صلى الله عليه وسلم مولى سلمان بحط شيء من كتابته فدل ذلك على وجوب جميع الكتابة واختلفت الصحابة في تأويل قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ} روي عن علي أنه الربع ورفعه ابن جريج عن عطاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحديثه عنه كان في حال الاختلاط لأنه كان خلط بآخره.

(2/84)


وروى أن عمر بن الخطاب كاتب غلاما له فلم يجد ما يعطيه فأرسل إلى حفصة فطلب منها دراهم فأرسلت إليه بمائتي درهم فقال: خذها بارك الله لك فيها قال: فبارك الله لي فيها قد اعتقت غير واحد منها فاستأذنته أن أخرج إلى العراق فقال: أما إذا كاتبتك فاذهب حيث شئت فأراد موال لبني عفان أن يصحبوني فقالوا: كلم أمير المؤمنين أن يكتب لنا كتابا نكرم به قال: وقد علمت أن سيكره ذلك فكلمته فانتهرني وما انتهرني قبلها فقال: أتريد أن تظلم الناس أنت أسوة المؤمنين فخرجت فلما قدمنا جئت معي بنمط وطنفسة فقلت: يا أمير المؤمنين هذا مني هدية فنظر إليهما فأعجبتاه ثم ردهما علي وقال: أنه قد بقيت من كتابتك بقية فاستعن بهما في كتابتك.
فدل أن عمر لم يضع من كتابته شيئا وروى أن عثمان بن عفان كاتب غلاما له على مائة ألف وقال: والله لا أعطيك منها درهما فشفع له الزبير فقال: والله لا عطيه منها درهما فغضب الزبير وقال: طلبت إليك حاجة حلت دونها بيمين فأعطاه الزبير مائة ألف وقال: أطلب فيها من فضل الله فإن غلبك أمر فأد إلى عثمان ما له منها فطلب فيها من فضل الله فأدى إلى عثمان ما له وإلى الزبير ما له وفضلت في يديه ثمانون ألفا ففيه دليل على أن الآية لم تكن على وجوب الوضع من الكتاب عندهما وهو الحق ولا يقال كيف قيل لعائشة: ابتاعي وأعتقي وبيع المكاتب لا يجوز لأن المنع من بيع المكاتب لحقه فإذا أذن المكاتب جاز بيعه وصار تعجيز أو فسخا للكتابة كبيع العبد المرهون أو المستأجر بإذن من له الرهن والإجارة وقد أجاز أبو يوسف بيع المكاتب بإذنه قبل عجزه خلافا لمحمد لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز بيع بريرة لما ذكرنا.

(2/85)


في بيع الأمة طلاقها
روى عن عائشة أنها اشترت بريرة واشترط الذين باعوها الولاء

(2/85)


فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الولاء لمن اشترى" فأعتقها وخيرها وكان زوجها حرا فاختارت نفسها ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما اختلفت الصحابة في بيع الأمة ذات الزوج فقال بعضهم: هو طلاق وبعضهم: ليس بطلاق لها منهم عمر بن الخطاب وعلي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف روى عنه أنه ابتاع جارية ولها زوج ولم يعلم به فلما علم به ردها.
ممن روى عنه أنه طلاق عبد الله بن عباس وأبي بن كعب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك وهذا كاختلافهم في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فعند بعضهم: هن المسبيات ذوات الأزواج في دار الحرب وعند بعضهم: هن كل مبيعة ذات زوج والقول الأول أولى لما روينا عن أبي سعيد الخدري في سبب نزول الآية وللذي كان من إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة على نكاحها بعد ابتياع عائشة أياها بدليل تخييرها في فراق زوجها وقد روى ابن عباس تخيير بريرة بعد عتقها في المقام مع زوجها ومذهبه أن بيع الأمة طلاقها فيحتمل أن يكون عدم الطلاق في بريرة لكون مشتريها ممن لا يحل لها التزويج بخلاف المشتري إذا كان رجلا يحل له.
قال الطحاوي: ولما وقعت الفرقة بين المسبيات وبين أزواجهن بوقوع الرق عليهن بالسبي ولم يحللن لرجال بأعيانهم حتى يخمسن ويقسمن وكانت بريرة عند ابن عباس لم تحرم على زوجها بابتياع عائشة إياها دل على صحة تأويل مخالفيه لهذه الآية على أن المراد المسبيات دون المبيعات.

(2/86)


في الأمة تحت الحر إذا أعتقت
عن عائشة أن زوج بريرة كان حرا وروي عنها أنه كان عبدا واحتج من رجح كونه عبد أنما روى عن عائشة أنه كان لها غلام وجارية زوجان فقالت: يا رسول الله أني أريد أن أعتقهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ابدئي بالرجل قبل المرأة" ففيه أن الأمة لا خيار لها إذا أعتقت وزوجها حر

(2/86)


ولكن لا شك أن الزوجين كأنا غير بريرة وزوجها ومحال أن يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فيه الحياطة لأحد الزوجين وإبطال حق الآخر وهو خيار العتق الثابت لها في شرعه فالمعنى في ذلك هو أن عائشة لما استشارته أمرها بعتق أعظمهما ثوابا وهو إعتاق الذكر وإرجاء أمر الجارية لترى فيها بين حبسها وبين الصلة بها لأرحامها كما في حديث مرة بن كعب وكما روى عن ميمونة أنها أعتقت وليدة علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك" وعن ابن عباس أنه كان عبدا ولم يختلف عنه في ذلك كما اختلف عن عائشة والتوفيق أن الحرية تكون بعد العبودية غير عكس فجعل عبدا ثم جعل حرا بعد ذلك في الحال التي خيرت الزوجة بين المقام عنده وبين الفراق دفعا للتعارض وما روي عن جرير عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: كان زوج بريرة عبدا ولو كان حرا لما خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرد ما ذكرناه إذا لا نعلم من المتكلم من رواة هذا الحديث هل هو عائشة أو من دونها ولم لم نعلم فنجعله قول صحابي لا مخالف له قال القاضي: ويعارضه ما روي عنها أنه كان حرا.
واحتمل أن يكون قول تابعي رواه عنها أو من دونه فيقابل قوله بقول طاوس أن لها الخيار وإن كان زوجها رجلا من قريش ثم نظرنا فوجدنا مولى الأمة له أن يزوجها حرا كان أو عبدا كالأب يزوج الصغيرة من شاء ثم لا يكون لها بعد البلوغ خيار سواء كان الزوج حرا أو عبدا ينبغي أن يستوي الحالان في الأمة ولا خلاف في أن لها الخيار إذا كان عبدا فكذا إذا كان حرا ومن فرق بينهما قال: إنما جعل لها الخيار إذا كان عبدا لأنه لا يستطيع تزويج بناتها ولا تحصينها والحق أن العلة هو ملكها نفسها بخلاف الصغيرة لأن بالبلوغ لا تملك نفسها وقيل: العلة إنما هي نقصان قرينة الزوج عن مرتبتها بالحرية الحاصلة لها والله أعلم.

(2/87)


في مسقط الخيار
روي مرفوعا إذا عتقت الأمة وهي تحت العبد فأمرها بيدها فإن هو قرب حتى وطأها فهي امرأته لا تستطيع فراقه وعن عائشة إن بريرة عتقت فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها: "إن قربك فلا خيار لك" فيه أن الخيار لا يبطل بالقيام من مجلس العلم حتى يكون منها تمكين من نفسها بالوطء بعده خلافا للكوفيين بأنها إذا قامت أو أخذت في عمل آخر بطل خيارها ومثل الوطء التمكين من التقبيل والمس في أن ذلك دليل الرضا بالزوج وإبطال الخيار كالتصريح باللسان ومثل ذلك الطلاق المبهم لامرأتيه والعتاق المبهم لأمتيه فإنه إذا جامع إحداهما مختارا تعينت الأخرى للطلاق والعتاق كما لو صرح بلسانه ومثل ذلك الأمة المبيعة المعينة إذا صدر من المشتري إليها ما لا يحل له منها إلا بملكه لها يكون قاطعا للرد نازلا منزلة قوله رضيت صريحا ويؤيد عدم اشتراط المجلس ما روي عن ابن عباس أنها لما خيرت كان زوجها يتبعها في سكك المدينة ودموعه تسيل على لحيته وكذا قوله صلى الله عليه وسلم لها بعد إعلامها بثبوت الخيار لها: "هو زوجك وأبو ولدك" فقالت: أتامرني به يا رسول الله قال: "لا إنما أنا شافع" فقالت: أن كنت شافعا فلا حاجة لي فيه فقد انتقلت عنه من مكان إلى مكان واختارت نفسها وعن حفصة قالت لبريرة: أن أمرك بيدك ما لم يمسك زوجك وهو قول ابن عمر وعطاء.

(2/88)


معاني حديث بريرة
عن عائشة أنها قالت: كان في بريرة ثلاث سنن: فكانت عتقت فخيرت في زوجها وقال صلى الله عليه وسلم: "الولاء فيمن اعتق" ودخل صلى الله عليه وسلم والبرمة تفور بلحم فقرب إليه خبز وأدم من أدم البيت فقال صلى الله عليه وسلم: "ألم أر برمة فيها لحم"؟ قالوا: بلى يا رسول الله ولكن ذلك لحم تصدق به على بريرة وأنت لا تأكل الصدقة فقال صلى الله عليه وسلم: "هو صدقه عليها وهو

(2/88)


لنا منها هدية". ووجهه أن الصدقة خرجت من ملك المتصدق على بريرة فجاز خروجها من ملكها إلى من تحرم عليه الصدقة بالهدية وبهذا استدل قوم على إباحة الصدقة للهاشمي بطريق العمالة لأنه لا يأخذ منها ما يأخذه إلا بعمله عليها لا بصدقة أهلها به عليه وهو قول أبي يوسف قياسا على الغنى وكرهه غيره لأن الصدقة تخرج من ملك ربها إلى مستحقها وفيهم العاملون علها ولا يحل لهم أن يأخذوها جعلا على عملهم وأنا تركنا القيام في ذلك للسنة روى عن علي قال: قلت للعباس: سل النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعملك على الصدقة فسأله فقال: "ما كنت لأستعملك على غسالة ذنوب الناس" فعلم بذلك إنما كره استعماله رفعا لرتبته أن يكون عاملا على الغسالة لا لحرمتها عليه كما روى ابن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم بعث رجلا من بني مخزوم على الصدقة فقال لأبي رافع: أصحبني كما تصيب منها فقال: حتى اسأل النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: "أن آل محمد لا تحل لهم الصدقة وإن مولى القوم من أنفسهم" وذلك على التنزه منه لبني هاشم ولمواليهم لا على أنهم لو عملوا لحرم عليهم ما يأخذونه منها كما لا يحرم على الغني العام إذ لم يرد أبو رافع أن يصيب من الصدقة إلا ما تكون عمالته منها وقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: "خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق" لا يجوز أن يبيح لعائشة أن تشترط خلاف ما في شريعته ولكن لم يوجد اشتراط الولاء في حديث عائشة إلا من رواية مالك عن هشام فأما من سواه وهو الليث ابن سعد وعمرو بن الحارث فقد رويا عن هشام أن السؤال لولاء بريرة إنما كان من عائشة لأهلها بأداء مكاتبتها إليهم فقال صلى الله عليه وسلم: "لا يمنعك ذلك منها ابتاعي وأعتقي فإنما الولاء لمن أعتق" وهذا خلاف ما رواه مالك عن هشام خذيها واشترطي فإنما الولاء لمن أعتق مع أنه يحتمل أن يكون معنى اشترطي أظهري لأن الاشتراط في كلام العرب هو الإظهار ومنه قول أوس بن حجر.

(2/89)


فأشرط فيها نفسه وهو معصم ... فألقى باسياف له وتوكلا
أي: أظهر نفسه أي أظهري الولاء الذي يوجبه عتاقك أنه لمن يكون ذلك العتاق منه دون من سواه وقال بعض أن معنى: اشترطي لهم أي: عليهم كقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} وقال محمد بن شجاع: هو على الوعيد الذي ظاهره الأمر وباطنه النهي كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} وكقوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ} الآية ألا تراه صلى الله عليه وسلم صعد المبر وخطب فقال: "ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله عز وجل" إلى آخره، وإذا انفرد مالك عن هشام وخالفه عمرو بن الحارث والليث بن سعد كانا أولى بالحفظ من واحد وحديث عائشة ذكر من وجوه بألفاظ شديدة الاختلاف غير أنه لا شيء فيه من إطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل بريرة ما كان منهم من اشتراطهم الولاء لإطلاق عائشة ذلك لهم وممن روى عن عائشة ابن عمر والأسود بن يزيد والقاسم بن محمد وعمرة ابنة عبد الرحمن وعن ابن أيمن حدثني أبي قال: دخلت على عائشة فقالت: دخلت على بريرة فقالت: اشتريني وأعتقيني؟ فقلت: نعم فقالت: إن أهلي لا يبيعوني حتى يشترطوا ولائي فقلت لها: لا حاجة لنا بذلك فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اشتريها فاعتقيها" واشترط أهلها الولاء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الولاء لمن أعتق وإن اشترط مائة شرط".
وكان في حديث أيمن ودعيهم فليشترطوا ما شاؤوا على الوعيد ورواه ربيعة عن القاسم بمعنى الوعيد قال: كان في بريرة ثلاث سنن: أرادت عائشة أن تشتريها وتعتقها فقال أهلها: ولنا الولاء فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لو شئت شرطته لهم فإنما الولاء لمن أعتق" ثم قام قبل الظهر أو بعدها فقال: "ما بال رجال يشترطون" الحديث، فقوله: "لو شئت شرطته" على الوعيد لا على إطلاق ذلك لها أن تشترطه لهم وعن الأسود عن عائشة أنها اشترت بريرة فأعتقتها واشترطت لأهلها الولاء فذكرت ذلك للنبي صلى الله

(2/90)


عليه وسلم فقال: "إنما الولاء لمن أعتق" وعن منصور أنها اشترت بريرة لتعتقها فاشترط أهلها الولاء فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني اشتريت بريرة لأعتقها واشترط أهلها ولاءها فقال: "الولاء لمن أعتق" فكان قوله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كله ثم أعلم أن بعض الناس استدل بقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: "اشتريها واعتقيها" على أن ابتياع عائشة كان بأمر النبي صلى الله عليه وسلم على أن تعتقها يجوز ابتياع المماليك بشرط الإعتاق بخلاف باقي الشرائط ولا دليل له في ذلك لأن ذلك كان مشورة بذلك علها أن تفعله ابتداء وليس فيه اشتراط أهلها ذلك عليها في بيعهم إياها منها وفي بعض الآثار أن عائشة هي التي سألت أن تشتريها على أن يكون الولاء لها وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة بعد إباء موالي بريرة ذلك: "ابتاعي فاعتقي فإنما الولاء لمن أعتق" فكان فيه الأمر بابتياعها وعتقها ابتداء وليس فيه اشتراط من أهلها أن تعتقها عائشة أنما فيه اشتراطهم ولائها عليه في إعتاق عائشة بعد ابتياعها إياها ومقول أنها إذا كانت تعتقها عن نفسها لم يكن باشتراط من بائع بريرة عليها وفي الحديث دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم موالي بريرة عن ذلك حيث أنكر عليهم وأعلمهم بوعيده إياهم أنه خارج من شريعته بقوله: "كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل وإن كان مائة شرط" ولو كان ما صدر منهم من الشرط جائزا لما أنكره عليهم ولا تواعدهم عليه ولا ذمهم وفيما ذكرنا دليل على أن الذي كان منهم اشتراط ولائها في عتاق عائشة لا اشتراط أن تعتقها عن نفسها عتاقا واجبا عليها شرطهم في بيعهم إياها منها وقال ابن عمر: لا يحل فرج إلا فرج إن شاء صاحبه وهبه وإن شاء أمسكه لا شرط عليه فيه
والمبيعة على أن يعتقها مشتريها ليس كذلك لأنه لزمه اعتاقها ولم يكن له إمساكها وفي ذلك نفى ما ظنه المتأولون من تجويز البيع بالشرط وقول عمر لابن مسعود في الجارية التي ابتاعها من أمرأته واشترطت عليه خدمتها لا تقريها ولا حد فيها مثنوية يؤكد ما قلنا أيضا.

(2/91)


المدبر
روى عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل قد دبر غلاما له فاحتاج فقال صلى الله عليه وسلم: "إنما الصدقة عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول".
وروى عنه أن رجلا اعتق عبدا عن دبر منه فاحتاج مولاه فأمره ببيعه فباعه بثمانمائة درهم فقال: أنفقها على عيالك فإنما الصدقة عن ظهر غنى وأبدأ بمن تعول فيه الا طلاق في بيع المدبر وروى عن جابر أن رجلا من الأنصار أعتق غلاما له عن دبر منه فاحتاج فقال صلى الله عليه وسلم: "من يشتريه مني" فاشتراه نعيم بن عبد الله بثمانمائة فدفعها إليه وذكره من طرق بألفاظ متقاربة ففي هذه الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تولى بيع ذلك المدبر فاحتمل أن يكون ذلك لمعنى كان في الرجل الذي باعه عليه مما يقصر به يده عن التبسط في عبده بالتدبير وغيره كما روى عن جابر أن رجلا من الأنصار يقال له: أبو فاطمة أعتق غلاما له عن دبر منه فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هل له من مال غيره" فقالوا: لا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من يشتريه مني" فاشتراه نعيم بن النحام ختن عمر بن الخطاب بثمانمائة درهم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أنفقها على نفسك فإن كان فضل فعلى أهلك فإن كان فضل فعلى أقاربك فإن كان فضل فاقسم ها هنا وها هنا يمينا وشمالا"، ففيه من كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم من له ما يدل على أن تدبيره عبده إذا كان له مال غيره خلاف تدبيره وليس له مال غيره وقد روى عن عطاء أنه سئل عن رجل أعتق جاريته عن دبر أيطؤها؟ قال: نعم قيل: أيبيعها؟ قال: لا إلا أن يحتاج إلى ثمنها فمن يطلق بيعه من غير حاجة منه إلى ثمنه كان الحديث حجة عليه وقد روي عن جابر أن البيع من ذلك المدبر أنها هو خدمته لا رقبته روى عنه عطاء أن

(2/92)


النبي صلى الله عليه وسلم أمر ببيع خدمة المدبر فقد يجوز أن يذكر البيع ويراد منه الإجارة ومثله ما روى عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
وما روى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان له فضل ماء أو فضل أرض فليزرعها أو يزرعها ولا تبيعوها" فقلت له: يعني الكراء؟ قال: "نعم".
وقد كشفنا عن حديث جابر فوجدناه لم يأخذه إلا عن رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم ممن لا يعلم له صحبة1 وفي ذلك ما يمنع الاحتجاج به روى شعبة عن عمر وقال: سمعت جابرا يقول عن رجل من قومه أنه أعتق مملوكا له عن دبر فباعه صلى الله عليه وسلم.
وروى أن ذلك كان من النبي صلى الله عليه وسلم في مدبر قد كان مات مولاه روي عن أبي الزبير وغيره عن جابر أن رجلا دبر مملوكا له ثم مات وعليه دين فباعه النبي صلى الله عليه وسلم في دينه وهو مذهب جماعة من أهل المدينة منهم مالك أنه يباع بعد موت مولاه في دينه وهم يمنعون من بيعه في حياته وهذا اضطراب شديد قد وقع في هذا الحديث وقد رد من احتج به بعض الأحاديث بأقل من هذا الاضطراب قال: في حديث بروع قد اضطرب فيه لأن بعضهم يقول: معقل بن سنان وبعضهم يقول: معقل بن يسار فإذا وسعه الترك في حديث بروع فالأمر لنا أوسع في رد حديث جابر والمنع من إطلاق بيع المدبر في حياة سيده وقد كان من مذهب جابر أن لا يباع روى عن أبي الزبير نقول في أولاد المدبرة إذا مات مولاها لا نراهم إلا أحرار أو ولدها منها كأنه عضو منها فجعل للتدبير عملا في حياة مولاه ليس للوصية بالعتق ذلك العمل ويؤكده قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الصدقة عن ظهر غنى".
وعن عثمان بن عفان أنه قضى أن ما ولدت المدبرة قبل التدبير عبيد وبعد التدبير يعتقون بعتقها وعن ابن عمر أنه قال: ولد المدبرة بمنزلتها وهذا منهما كمذهب جابر وهذا القول في المنع من بيع المدبر قال به من فقهاء الأمصار أبو حنيفة وابن أبي ليلى والثوري وأئمة الحجاز كمالك وذويه والله أعلم.
__________
1 تأمل.

(2/93)