المعتصر من المختصر من مشكل الآثار

كتاب القسامة
في وجوب القسامة
...
كتاب القسامة فيه أربعة أحاديث، في وجوب القسامة
روي أن عبد الله بن سهل ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم فأتى محيصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قتل وطرح في فقيرا أو عين فأتى يهود فقال: أنتم والله قتلتموه فقالوا: والله ما قتلناه فأقبل حتى قدم على قومه فذكر لهم ذلك ثم أقبل هو وأخوه حويضة وهو أكبر منه وعبد الرحمن فذهب محيصة ليتكلم وهو الذي كان بخيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحيصة: "كبر كبر" يريد السن فتكلم حويصة قبل ثم تكلم محيصة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحيصة: "أما أن يدوا صاحبكم وأما أن يؤذنوا بحرب" فكتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتبوا أنا والله ما قتلناه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن: "أتحلفون وتستحقون دية صاحبكم" قالوا: لا قال: "فيحلف لكم يهود" قالوا: ليسوا بمسلمين فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده فبعث إليهم بمائة ناقة حتى أدخلت عليهم الدار فيه إيجاب الدية قبل أن يحلف الأولياء على ما ادعوا بمجرد وجود القتيل بين ظهرانيهم وهذا باب متنازع فيه فطائفة أوجبوا الدية وإن لم يقسم أولياء القتيل على ذلك القوم منهم أبو حنيفة وابن أبي ليلى والثوري، وطائفة تقول: أن القسامة الواجب بها العقل بأحد أمرين: أما أن يقول الرجل دمي عند فلان ثم يموت أو يدعي أولياء الرجل على رجل أنه قتل رجلا ويأتون بلوث من بينة وإن لم تكن قاطعة منهم مالك بن أنس وطائفة تقول: أن القسامة لا تجب ولا يجب بها عقل قتيل بوجوده بين قوم حتى يكون مثل السبب الذي قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسامة فيه وهو أن خيبر دار يهود لا يخالطهم غيرهم وكانت العداوة بينهم وبين الأنصار ظاهرة وخرج عبد الله بعد العصر فوجد قتيلا قبل

(2/121)


الليل فغالب الظن أن اليهود قتلته وكذلك القوم بينهم الحرب فلا يفترقون إلا وقتيل بينهم أو يأتي ببينة من المشركين من نواح لم يجتمعوا فيها فيثبت كل واحد منهم على الانفراد على رجل أنه قتله فتتواطأ شهادتهم ولم يسمع بعضهم شهادة بعض وإن لم يكونوا ممن يعدل أو يشهد عدل أنه قتله لأن كل سبب من هؤلاء يغلب على عقل الحاكم أنه كما ادعى الولي فللولي أن يقسم على الواحد أو الجماعة ممن أمكن أن يكون في جملتهم ولا تكون القسامة عنده ولا وجوب الدية إلا بما ذكرنا وممن كان يذهب إلى ذلك الشافعي ولما اختلفوا وجب الكشف عما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثله فوجدنا في ذلك ما روي عن الأنصار أن القسامة كانت في الجاهلية قسامة الدم فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كانت عيه في الجاهلية.
وروي عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليهود- بدأبهم "يحلف منكم خمسون" فأبوا فقال للأنصار: فقالوا: نحلف على الغيب يا رسول الله فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته على يهود لأنه وجد بين أظهرهم فوقفنا بذلك على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل دية القتيل الموجود بين ظهراني يهود قبل أن يقسم أولياؤه على اليهود أنهم قتلوه وكذلك الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلوا ديات القتلى الموجودين بين قوم على القوم الذي وجد القتلى بين ظهراينهم وإن لم تكن في ذلك قسامة كما روي أن رجلا أصيب عند البيت فسأل عمر عليا فقال له: ده من بيت المال.
وهذا مما ليس فيه قسامة على عمر ولا رآها فيه عمر وكان ذلك بحضرة الصحابة من غير نكير ومثله ما روي أن شيخا زحم في المسجد على عهد علي بن أبي طالب فمات فرفع ذلك إليه فواده من بيت المال وكذا حكم عمر على أهل الذمة أن قتل رجل من المسلمين بأرضكم فعليكم الدية وقد كان وجد قتيل بين وداعة وحي آخر والقتيل إلى وداعة أقرب فقال عمر لوداعة: يحلف منكم خمسون رجلا بالله ما قتلناه ولا نعلم قاتلا ثم تغرمون فقال له الحارث:

(2/122)


أنحلف ونغرم؟ قال نعم.
وأما القتيل الموجود في موضع لا أهل له ولا يعلم من قتله فيه الدية لا غير وهكذا كان أبو حنيفة وأصحابه يقولون فيه وقد شد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم للأنصار في اليهود: "أما أن يدوا صاحبكم وأما أن يؤذنوا بحرب من الله" قبل أن يكون من الأنصار في ذلك قسامة إذ لا يكون إيذانهم بحرب إلا في منع واجب عليهم وما في حديث أبي سلمة وسليمان من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استحقوا" فقالوا: أنحلف على الغيب يحتمل أن يكون أراد به استحقوا ببينة تقيمونها على قتل صاحبكم بعينه فنقتله لكم به وما في حديث أبي ليلى من قر له صلى الله عليه وسلم للأنصار: "أتحلفون" لا يدل على أنهم لا يستحقون ما ادعوه إلا بعد إيمانهم إذ قدم ما دل على وجوب الدية لهم بمجرد وجود القتيل بينهم وقد أنكر عبد الرحمن ابن بجيد أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال: احلفوا على ما لا علم لكم به ولكنه كتب إلى يهود خيبر حين كلمته الأنصار أنه قد وجد قتيل بين أبياتكم فدوه فكتبوا إليه يحلفون بالله ما قتلوه ولا يعلمون له قاتلا فوداه صلى الله عليه وسلم من عنده وهذا هو الأولى من أن يأمر أحدا بالحلف على ما لا علم له به ولأن ابن بجيد من قوم المقتول فهو أعنى بالأمر ممن ليس منهم والحق أن قوله صلى الله عليه وسلم للأنصار: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم" ليس بأمر لهم بالحلف على مالا يعلمون بل قال ذلك على التقرير لهم أن ذلك لا يصح كما قال الله تعالى: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} ويحتمل أنه صرف الأمر إليهم ليحلفوا على ذلك أن تيقنوه وعلموه بما قد يقع لهم به العلم من الأسباب الموجبة له من غير المشاهدة أو يترفعوا عنه إن لم يتحققوا فترفعوا عن الإيمان إذ لم يكن عندهم علم بدعواهم إلا غالب ظنهم وعن سهل بن أبي حثمة قال: وجد عبد الله بن سهل قتيلا في قليب من قلب خيبر فجاء أخوه عبد الرحمن بن سهل وعماه حويصة ومحيصة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب محيصة ليتكلم فقال صلى الله عليه وسلم: "الكبر الكبر" فتكلم أحد عميه الكبير منهما قال: يا رسول الله

(2/123)


إنا وجدنا عبد الله بن سهل قتيلا في قليب من قلب خيبر وذكر عداوة يهود لهم قال: "أفتبرئك يهود بخمسين يمينا أنهم لم يقتلوه" قال: كيف نرضى بإيمانهم وهم مشركون قال: "فيقسم منكم خمسون أنهم قتلوه" قالوا: كيف نقسم على ما لم نره فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده.
فيه تبدئة رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود في الإيمان وهذا خلاف ما في حديث مالك وهو أن يبدأ فيها أولياء الدم وهذا أولى لجلالة رواته وأكد ذلك ما رويناه من قضاء عمر على الحارث بن الأزمع وقومه مما لا يسع خلافه وقد وهم أبو يوسف في احتجاجه بهذا الحديث على أبي حنيفة في أن القسامة والدية إنما تكون على مالكي الموضع الذي وجد القتيل فيه لا على سكانه فقال بهذا الحديث أقول: إذا كانت دار لها سكان لا يملكونها ولها ما لكون بعداء عنها فالقسامة والدية على سكانها لأن خيبر كانت للمسلمين وكان اليهود عمالهم فيها لأنها كانت يومئذ صلحا وقد شد ذلك ما في حديث سهل أما أن يدوا صاحبكم وإما أن يأذنوا بحرب من الله وروى بعض الرواة في حديث سهل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: "أتحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم قتيلكم أو صاحبكم" فيه أن الدم يستحق بالقسامة ولكن لمخالفيه أن هذا الحديث روي بالشك بأن ما يستحقونه هو الدية والقود والله أعلم غير أن في حديث مالك عن أبي ليلى عن سهل قال: "أما أن يدوا صاحبكم وأما أن يأذنوا بحرب" فالواجب أن يرد الحديث الذي وقع فيه الشك إلى الحديث الذي لا يشك فيه وفيما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل دية الأنصاري الذي قتل بخيبر على اليهود لأنه وجد بين ظهرهم وفيما روي عنه أنه أداها من عنده.
وروي أنه ودى القتيل من ابل الصدقة يحتمل أن يكون قول من قال: أنه وداه من عنده أي مما يده عليه وإن لم يكن ملكا له دفعا للتضاد ويحتمل أن يكون غرمها من عنده وقد جعلها على غيره فغرمها من حيث لا يجب

(2/124)


عليه غرمها ولم يدفع أن يكون قد تقدم قضاؤه بها على من قضى بها عليه ويحتمل أن يكون أداؤه لذلك من إبل الصدقة لا غرما عن اليهود لأنهم ليسوا من أهل الصدقة وفي ذلك ما قد دل على أن من غرم عن رجل دينا كان عليه لمن هو له لم يملك الذي كان عليه الدين شيئا مما غرمه عنه وهكذا كان يقول محمد فيمن تزوج إمرأة على مائة فأدى إليها رجل عنه تلك المائة ثم طلقها قبل الدخول فالنصف مردود إلى المؤدي لا إلى الزوج وهو الحق لأن الدراهم خرجت من ملك المؤدي إلى الزوجة لا إلى ملك الزوج خلافا لما قاله مالك فيمن أدى عن رجل دينا بغير أمره إلى من هو له أنه يرجع بذلك على المديون لأنه ملكه بأدائه إياه عنه وقد علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدفع من إبل الصدقة ما دفع ليرجع إليه مثله وما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يصلي على من ترك دينا لم يترك له وفاء وإن ابا قتادة لما ضمن عن المتوفى الدين صلى عليه دليل على ما قلنا وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن ابن محيصة الأصغر أصبح قتيلا على أبواب خيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقم شاهدين على قتله ادفعه إليك برمته" فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أين أصيب شاهدين وإنما أصبح قتيلا على أبوابهم قال: "فتحلف خمسين يمينا" قال: يا رسول الله وكيف أحلف على ما لا أعلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فتستحلف منهم خمسين" فقال: يا رسول الله وكيف تستحلفهم وهم كفار وهم مشركون فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته عليهم وأعانهم بنصفها ففيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم ديته على اليهود بغير حلف كان في الدعوى عليهم وفي ذلك ما قد دل على أن الدية لزمتهم بوجود القتيل بين أظهرهم وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاونهم بنصف الدية وذلك عندما كان منه عونا للأنصار لا عن اليهود لأن الذي غرمه في ذلك إنما كان من الأموال التي تحل لليهود1.
__________
1 كذا.

(2/125)