المعتصر من المختصر من مشكل الآثار

كتاب الحدود
مدخل
...
كتاب الحدود
قال سعد بن عبادة يا رسول الله أرأيت إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة شهداء فقال: "نعم" إنما أطلق صلى الله عليه وسلم إمهاله له وإن كان تغيير المنكرات على الفور لتقوم الحجة عليهما فيقام عليهما الحد كما يحل النظر عمد للشهود ولا يقدح ذلك في عدالتهم لقصدهم إقامة حد الله على من يستحقه وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه ثم في إطلاق أربعة شهداء سوى الزوج دليل على عدم جواز شهادة زوجها عليها خلافا لمالك والشافعي لأنه لو كانت شهادته في ذلك جائزة لقال صلى الله عليه وسلم جوابا لسؤاله وما حاجتك إلى أربعة يشهدون على ذلك أطلب ثلاثة سواك حتى تكون أنت وهم شهداء على ذلك إذ كان وجود الثلاثة أيسر عليه وأقصر مدة.

(2/131)


في وطء أمة الابن
عن جابر أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أن لي مالا وعيالا وإن لأبي مالا وعيالا وإنه يريد أن يأخذ مالي إلى ما له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" فيه أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين الابن وماله فجعلهما لأبيه ولم يكن جعله لأبيه على معنى تمليكه إياه ولكن على أن لا يخرج عن قول أبيه فكذلك ماله لا ينبغي له أن يخرج عن قول

(2/131)


أبيه فيه وهذا كقول أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم إنما أنا ومالي لك يا رسول الله يعني أن أقوالك وأفعالك نافذة في وفي مالي ويؤكده قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} فلما لم يحل وطء أمة الابن للأب بالإجماع وحل للابن وطء أمة نفسه بالإجماع دل على أن ملك الابن فيها ملك تام صحيح بخلاف ملك الأب وقال تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ} ومحال أن يجب للأم بوفاة ابنها شيء من مال أبيه أو يقضي ديونه من مال أبيه أو تنفذ وصاياه فيه.

(2/132)


في الحدود كفارة
عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أذنب ذنبا في الدنيا فعوقب به فالله عز وجل أكرم من أن يثنى عقوبته على عبده ومن أذنب ذنبا في الدنيا يستره الله عز وجل عليه وعفا عنه"، فالله أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه يعني: الله أكرم من أن يعود إلى شيء قد عفا عنه في الدنيا فيعاقب عليه في الأخرى إذ من الذنوب ما لها عقوبة في الدنيا وعقوبة في الأخرى قال تعالى: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وليس المراد بالعفو العفو المطلق لأنه لا يجوز أن يعاقب عليها حينئذ فلا يكون ترك العقوبة كرما لأن الكرم ترك ما له فعله وفعل ما له تركه فإذا ستر الله تعالى على عبده في الدنيا كان الأمر إليه في الآخرة إن شاء عفا وإن شاء عاقب على ما روي عبادة بن الصامت قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال لنا: "تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا- وقرأ عليهم الآية: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه"، والمرجو من الله الكريم الغفران في الآخرة كما فعل في الدنيا وعن عائشة: لا يستر الله عز وجل على عبد في الدنيا إلا ستر عليه في الآخرة فعلى العباد أن يرجوا مغفرة ما عدا الشرك

(2/132)


فإنه أهل التقوى والمغرفة وقوله: "فعوقب به فهو كفارة" معناه فيما عد الشرك وهذا جائز في اللغة على ما تقدم في غير هذا المقام وفي حديث عبادة قال: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا كما أخذ على النساء "لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا يعضه بعضكم بعضا ولا تعصوني في معروف أمرتكم به فمن أصاب منكم منهن واحدة فعجلت عقوبته فهو كفارته ومن أخرت عقوبته فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له"، العضة الكذب قال الشافعي: من كذب على أخيه فقد عضهه وقيل: هو السحر، وعن ابن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إلا أنبئكم ما العضة هي النميمة القالة بين الناس" وروى- الفارقة بين الناس وعنه قال: كنا نقول في الجاهلية أن العضة السحر والعضة فيكم اليوم القالة، حسب الرجل من الكذب أن يحدث بكل ما سمع، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا: "أتدرون ما العضة"؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: "هو نقل الحديث من بعض الناس إلى بعض ليفسدوا بينهم"، وقال الخليل: العضة الإفك والبهتان وقول الزور والعضة شجر الشوك والمذكور في حديث أنس وابن مسعود إنما هو العضة لا العضة والعضة هو القطع.

(2/133)


في قطع يد المخزومية
روى أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها فأتى أهلها أسامة فكلموه فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: "يا أسامة ألا أراك تكلمني في حد من حدود الله" ثم قام النبي صلى الله عيه وسلم خطيبا فقال: "إنما هلك من كان قبلكم أنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"، فقطع يد المخزومية، إنما قطع يدها لأنها سرقت ولم يذكر في الحديث سرقتها بل ذكرها بما عرفت به مما كان خلقها وعادتها وقد ذكر ذلك في غير هذا الحديث من ذلك ما روي أن قريشا

(2/133)


أهمهم شأن المخزومية التي سرقت الحديث ومن ذلك ما روي أن امرأة سرقت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح فأتى بها فكلمه فيها أسامة الحديث.

(2/134)


في الصدق على السارق
...
في الصدقة على السارق
قيل لصفوان بن أمية: من لم يهاجر هلك فقدم صفوان بن أمية المدينة فنام في المسجد وتوسد رداءه فجاءه سارق فأخذ رداءه من تحت رأسه فأخذ صفوان السارق فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقطع يده فقال صفوان: أني لم أرد هذا هو عليه صدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهلا قبل أن تاتيني به" هذا حديث صحيح من جهة اشتهاره وإن لم يكن قائم الإسناد كحديث: لا وصية لوارث وإذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا وترادا وما أشبه ذلك من الأحاديث التي استغنى عن طلب الإسناد فيها لصحتها عند العلماء فيه دليل على أنه لو تصدق به قبل أن يأتيه به إلى الإمام لما وجب عليه قطع وهو قول أبي يوسف وذهب مالك إلى أنه يقطع أيضا وقال أبو حنيفة ومحمد: لا يقطع إذا تصدق به عليه قبل أن يصار به إلى الإمام وبعده ولا خلاف أن السارق إذا أقر بسرقة عند الإمام لغائب قطع وكذلك إذا قامت بينة على سرقتها من صاحبها أو ممن يقوم مقامه واختلفوا إذا أقام البينة رجل أجنبي فقال أبو حنيفة والشافعي: لا يقطع لأنه لا يجوز أن يقضى بالسرقة للغائب وإذا لم يقض له بها كانت في الحكم لمن هي في يديه فإذا وجب القطع على السارق بإقراره أو ببينة يقيمها المسروق منه على السرقة أنها ما له كانت هبته إياها لسارقها وصدقته بها عليه لا ترفع القطع عنه فيها كما قال أبو يوسف.

(2/134)


في إقالة الكرام عثراتهم
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "قيلوا ذوي الهيئات عثراتهم"

(2/134)


الحدود مستثناة عن ذلك والمراد بذوي الهيئات أهل المروة والصلاح يبينه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تجافوا عن عقوبة ذوي المروة والصلاح"، والمأمورون بالتجافي عن زلات ذوي الهيئات هم الأئمة الذين إليهم إقامة العقوبات على ذوي الجنايات روي عن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم أنه قضى بذلك في رجل من آل عمر بن الخطاب شج رجلا وضربه فأرسله وقال: أنت من ذوي الهيئات وعن عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم".
ويحتمل أن يكون المأمور هو المجني عليه أو أولياؤه لأن الجنابة لما لم تكن خلقا لهم ولا عادة وإنما كانت منهم هفوة فكان الأحسن بهم الصفح وترك حقوقهم فيها كما في سائر الحقوق الواجبة لهم لا الأئمة فإن الحقوق ليست لهم وكما أن الحقوق المالية لأربابها العفو وفي الدماء المحرمة لأوليائها كذلك في الإعراض العفو لأصحابها لا للأئمة الذين يقيمونها لهم قال صلى الله عليه وسلم: "أن دماءكم وأموالكم وإعراضكم حرام عليكم"، والزلات التي أمرنا بالتجافي عنها هي ما لم يخرج فاعلها من دائرة ذوي المروات فأما من أتى حراما قذفا أو ما سواه مما يوجب الحد فلا يجب التجافي عنه لأنه خرج بذلك عن ذوي الهيئات والصلاح وصار من أهل الفسق فيحد ردعا له ولغيره.

(2/135)


في التعزيز والتاديب
...
في التعزير والتأديب
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله" قال به الليث مرة وتركه أخرى وقال: العشر على قدر الجرم فإن كان غليظا غلظ في العشر وإن كان خفيفا خفف فيها وخالفه الفقهاء فقالوا: للإمام أن يتجاوز العشر في التعزير واختلفوا في الحد الذي لا يتجاوزه فيه فمنهم من قال: لا يتجاوز به خمسة وسبعين سوطا وهو قول ابن أبي ليلى وقيل: لا يتجاوز تسعة وسبعين سوطا وهو قول أبي يوسف مرة ومنهم من قال: له أن يتجاوز به أكثر الحدود على قدر الجرم وهو قول مالك بن أنس وأبي يوسف مرة وقال

(2/135)


مرة ثالثة بقول أبي حنيفة وإنما وسع لهم خلاف هذا الحديث لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر أربعين ولم يكن ذلك حدا منه في الخمر أربعين وإنما قصده إلى جلد لا توقيت فيه بدليل ما روي عن علي أنه قال: من شرب الخمر فجلدناه فمات وديناه لأنه شيء صنعناه وأنه قال: ما حددت حدا فمات فيه فوجدت في نفسي إلا الخمر فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبين فيها وقد جلد أبو بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم في الخمر أربعين وجلد عمر فيه باستشارة الصحابة ثمانين ولو كانت الأربعون فيها حدا لما تجاوزه عمر وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بسكران فأمر من كان عنده فضربوه بما كان في أيديهم ثم حثا عليه التراب ثم أتى أبو بكر بسكران فتوخى إلى معهوده فضربه أربعين ثم أتى عمر بسكران فضربه أربعين.
وكان ضرب أبي بكر وعمر على التحري لضرب النبي صلى الله عليه وسلم لا لأن ذلك الضرب كان مقصودا به إلى عدد معلوم وإذا كان الذي كان من النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن حدا كان فيه تجاوز العشرة الأسواط في التعزيز فعارض ذلك ما روي فيها فلما تعارضا ولم يعلم الناسخ من المنسوخ وسع النظر للمخالفين في ذلك ووجب طلب الأولى فكان ما ثبت في عقوبة شارب الخمر أولى مما روي عنه في العشر جلدات لعمل الصحابة من بعده وروي أن علي بن أبي طالب أتى بالنجاشي قد شرب الخمر في رمضان فضربه ثمانين ثم أمر به إلى السجن ثم أخرجه من الغد فضربه عشرين ثم قال: إنما جلدتك هذه العشرين لإفطارك في رمضان وجرأتك على الله عز وجل.
وروي عن عمر بن الخطاب قال: كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة فاطلع الله عز وجل نبيه فبعث عليا والزبير في إثر الكتاب فأدركا امرأة فاستخرجاه من قرن من قرونها فأتيا به النبي صلى الله عليه وسلم فقرىء عليه فأرسل إلى حاطب فقال: "يا حاطب أنت كتبت هذا الكتاب" قال: نعم

(2/136)


يا رسول الله قال: "فما حملك على ذلك" قال: يا رسول الله أما والله إني لناصح لله ولرسوله ولكني كنت غريبا في أهل مكة وكان أهلي بين أظهرهم فخشيت عليهم فكتبت كتابا لا يضر الله ورسوله وعسى أن تكون فيه منفعة لأهلي قال عمر: فاخترطت سيفي ثم قلت: يا رسول الله مكني من حاطب فإنه قد كفر فاضرب عنقه فقال صلى الله عليه وسلم: "يا ابن الخطاب ما يدريك لعل الله عز وجل اطلع على أهل هذه العصابة من أهل بدر فقال: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
وفيما روي عن ابن عباس من أن الشراب كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأيدي والنعال والعصا حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا في خلافة أبي بكر أكثر منهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: لو فرضنا لهم حدا نتوخى نحوا مما كانوا يضربون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أبو بكر يجلدهم أربعين حتى توفي ثم كان عمر من بعده يجلدهم كذلك أربعين حتى أتى برجل من المهاجرين الأولين وقد شرب فأمر به أن يجلد فقال: لم تجلدني؟ بيني وبينك كتاب الله فقال عمر: وأي كتاب الله تجد أن لا أجلدك قال: أن الله يقول في كتابه: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وأحدا والخندق والمشاهد فقال عمر: ألا تردون عليه قوله فقال ابن عباس: إن هؤلاء الآيات أنزلن عذرا للماضين وحجة على الباقين فعذر الماضون بأنهم لقوا الله عز وجل قبل أن تحرم عليهم الخمر وحجة على الباقين لأن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ} ثم قرأ حتى أتم الآية الأخرى فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا فإن الله تعالى قد نهى أن يشرب الخمر قال عمر: صدقت قال عمر: فماذا ترون؟ قال على: نرى إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى

(2/137)


وعلى المفترى ثمانون جلدة فأمر به عمر فجلد ثمانين والمعني فيما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في رفعه العقوبة عن حاطب لأنه كان من أهل بدر وعدم رفع عمر العقوبة عن قدامة وهو من أهل بدر هو أن من السنة إقالة ذوي الهيئات عثراتهم إلا في حد من حدود الله وكان الذي من حاطب لا يوجب حدا فتجافى له رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه لأنه من ذوي الهيئات لشهوده بدرا ولما كان عليه من الأمور المحمودة وكان الذي من قدامة فيه حد فلم يرفعه عمر عنه ولا الصحابة فارتفع التضاد عن هذه الروايات بحمد الله.

(2/138)


في من افترى على جماعة.
روي أن هلال بن أمية قذف امرأته في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة أو حد في ظهرك" فقال: إذا وجد أحدنا رجلا مع امرأته التمس البينة قال فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "البينة وإلا حد في ظهرك" فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله في أمري ما يبرئ ظهري من الحد فنزلت آية اللعان.
في قوله صلى الله عليه وسلم: "البينة وإلا حد في ظهرك" دليل على أن الذي وجب عليه حد واحد وهو بقذفه إياها بشريك قاذف لهما جميعا كما يقول أبو حنيفة ومالك وأصحابهما خلافا لغيرهما ممن يرى عليه لكل واحد منهما حدا وهو موافق لما كان في قذف عائشة رضي الله عنها قالت: لما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج فجلس على المنبر فتلا على الناس ما أنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ} الآية قالت: ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر برجلين وامرأة فضربوا أحدهم ثمانين ثمانين وهم الذين تولوا كبر ذلك حسان ومسطح وحمنة قال الطحاوي: ولا نعلم عن أحد من الصحابة ولا عن التابعين خلاف هذا.

(2/138)


في زنا الأمة
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال:

(2/138)


"إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير" قال ابن شهاب: لا أدري بعد الثالثة أم الرابعة والضفير الحبل قيل: في قوله: ولم تحصن دليل على أنها إذا زنت وقد أحصنت فحكمها بخلاف ذلك وإلا لم يبق لذكر الإحصان فائدة، وما روى عثمان بن الأسود أنه قال: ليس على العبيد حدود يعارض قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} قرأ بعضهم بالفتح وهو قرأة عبد الله بن مسعود روي أن معقل بن مقرن سأله فقال: أمتي زنت قال: أجلدها خمسين قال: إنها لم تحصن قال: أليست مسلمة؟ قال: بلى قال: فإسلامها إحصانها وقرأ بعضهم بالضم وهو قرأة ابن عباس يعني إذا أحصن بالأزواج وفيه إنها إذا زنت قبل التزويج لا يجب عليها حد وما ورد في جلد الأمة إذا زنت ولم تحصن يكون على الأدب لأعلى الحد ولهذا لم يذكر فيه حدا بل ذكر جلدا لكن ذكر التوقيت يدل على أنه حدا إن الأدب لا توقيت فيه وإنما هو على مقادير الإجرام روي أبو هريرة قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: "جاريتي زنت فتبين زناها" قال: إجلدها خمسين ثم أتاه فقال: عادت فتبين زناها قال: بعها ولو بحبل شعر أسود.
وروى عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا زنت أمة أحدكم فيجلدها الحد ولا يثرب عليها" قال ثلاث مرات ثم قال في الثالثة أو الرابعة ثم يبيعها ولو بضفير قال سفيان: التثريب التعيير فعلمنا أنه الحد لا الأدب يؤكده ما روى عن علي بن أبي طالب قال: زنت جارية للنبي صلى الله عليه وسلم فأمرني أن أقيم عليها الحد فإذا هي لم تجف من دمها ولم تطهر فقلت للنبي صلى الله عليه وسلم: أنها لم تجف من دمها ولم تطهر قال: "فإذا طهرت فأقم عليها الحد" وقال: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم من غير شرط إحصان" ويحتمل أن الله تعالى كان أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بحد الإماء إذا زنين قبل الإحصان أنه خمسون فاعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الناس وكان المنتظر فيهن بعد التزويج ما هو أغلظ من ذلك إذ كان هو المعهود في الحرائر ثم أبان الله أن حكمهن بعد الإحصان

(2/139)


كحكمهن قبله تخفيفا ورحمة بقوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} وكان إسقاط الاشتراط من قوله: ولم تحصن تخفيفا كإسقاط الاشتراط في قصر الصلاة من قوله: {إِنْ خِفْتُمْ} فإن القصر رفع الله تعالى الجناح فيه مع الخوف ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم رفعه مع الأمن بقوله: "صدقة تصدق الله بها عليكم فأقبلوا صدقته" وساوى بين الخوف والأمن لا يقال لما ردهن إلى نصف ما على المحصنات وهو الرجم الذي لا ينقسم كان عليهن بكليته قياسا على القطع في السرقة لأن الإجماع منع من ذلك إذ لا خلاف أنها إذا زنت لا رجم عليها ففي إجماعهم دليل على أن المراد به نصف الجلدالذي على المحصنات بالحرية لا نصف الرجم الذي على المحصنات بالتزويج.

(2/140)


في إقامة الحد في الحرم
روي عن عبد الله بن عمرو قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلوا بقبر أبي رغال فقال: "هذا قبر أبي رغال وهو أبو ثقيف وكان امرأ من ثمود وكان منزله بالحرم فلما أهلك الله عز وجل قومه بما أهلكهم به منعه لمكانه من الحرم وأنه خرج حتى إذا بلغ ههنا إصابته النقمة بهذا المكان ودفن فيه وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه معه فابتدره الناس فاستخرجوا منه الغصن"، فيه إن الحرم يمنع في الجاهلية من العقوبات ألتي معها إتلاف الأنفس فكان في الإسلام مثل ذلك أمنع ويؤكده ما روي عن ابن عباس من اصاب حدا في الحرم أقيم عليه وإن أصابه خارج الحرم ثم دخل الحرم لم يكلم ولم يجالس ولم يبايع حتى يخرج من الحرم فيقام عليه الحد وعن ابن عمر: لو وجدت قاتل عمر في الحرم ما هجته، وقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} لا يجوز تخصيصه بالصيد فإنه جهل باللغة لأن من لا يكون إلا لبني آدم ويكون لمن سواهم ما قال تعالى: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ

(2/140)


إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} ونظائره كثيرة وقد تستعمل ما بمعنى من كما في قوله تعالى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} وأما من فلا تستعمل مكان ما في حال وما روي عن ابن عباس وابن عمر قال به أبو حنيفة وأصحابه ولا نعلم لأحد من الصحابة خلافا لهما والقرآن نزل بلغتهم وهم العالمون بما خوطبوا به فيه والله أعلم.

(2/141)


في وطء البهيمة
روي عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وجدتموه على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة معه". فقيل لابن عباس: ما شأن البهيمة؟ فقال: ما سمعت في ذلك شيئا ولكني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم كره أن يؤكل لحمها أو ينتفع بها وقد عمل بها ذلك العمل وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوها"، قال الطحاوي: الحديثان مردودان إلى ابن عباس وقد وجدنا من وجوه صحاح ما يدفع ذلك روي عنه بطريق صحيح أنه قال: ليس على من أتى بهيمة حد فإن كان الحديثان غير صحيحين كفينا مؤنتهما وإن كانا صحيحين فابن عباس لم يقل بعد النبي صلى الله عليه وسلم ما يخالفه إلا بعد ثبوت نسخه عنده وفي ذلك ما دل على سقوط الحديثين ووجوب تركهما ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرء مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير نفس" وفيه ما يدفع القتل بما سواها إلا ان تقوم الحجة بإلحاق رسول الله صلى الله عليه وسلم بها غيرها ولم نجد ذلك.

(2/141)


في وطء المحارم
عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من وقع على ذات محرم فاقتلوه" ومداره على إبراهيم بن اسماعيل وهو متروك الحديث

(2/141)


وقوله: "لا يحل دم امرئ مسلم" - الحديث، يوجب رد من أتى ذات محرم منه إلى الحد الذي ذكره الله في كتابه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزنا.

(2/142)


في اللواطة
روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الذي يعمل عمل قوم لوط فارجموا الأعلى والأسفل ارجموهما جميعا". وعن ابن عباس مرفوعا قال: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به". والمراد بالقتل: هو الرجم إذا القتل بما سوى الثلاثة الأشياء المذكورة لا يجوز ثم الحديث مطلق عن قيد الإحصاء فيحتمل أن يكون هذا الفعل خص بذلك سماعا واحتمل أن يكون قاله رأيا وعن الحسن وعطاء حد اللوطي حد الزاني وعطاء من أصحاب ابن عباس قال الطحاوي: إذا وجب أن يرد حد المحصن في ذلك إلى حد الزاني وجب أن يرد حد البكر فيه إلى حد الزاني وقد وجدناهم لا يختلفون في وجوب الغسل منه وإن لم ينزل كما في الفرج فيجب الفرق بين المحصن وغيره كما في الفرج أيضا فإن قيل إذا وطئها بشبهة في دبرها لا يجب مهر بخلاف قبلها فليكن في الحد كذلك قلنا: قياس الحد على الغسل وهما حق الله أولى من قياسه على المهر الذي هو حق الآدمي وهذا قول أبي يوسف ومحمد جميعا.

(2/142)


في زنا أهل الذمة وشهادتهم
روى جابر قال: زنى رجل من أهل فدك فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن يسألوا محمدا عن ذلك فإن أمركم بالجلد فحدوه وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه فسألوه عن ذلك فقال: "أرسلوا إلي أعلم رجلين فيكم" فجاؤه برجل أعور يقال له: ابن صوريا وآخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنتما أعلم من قبلكما" فقالا: قد نحلنا ذلك قومنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أليس عندكما التوراة فيها حكم الله"؟ فقال: بلى فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "نشدتكما بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة على موسى وأنزل المن والسلوى وظلل عليكم الغمام

(2/142)


وأنجاكم من آل فرعون ما تجدون في التوارة في شأن الرجم"؟ فقال أحدهما للآخر: ما نشدت بمثله قط ثم قالا: نجد أن النظر زنية والاعتناق زنية والقبلة زنية فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يبدئى ويعيد كما يدخل الميل في المكحله فقد وجب الرجم فقال صلى الله عليه وسلم: "هو ذاك" فأمر به فرجم ونزلت {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} الآية، قيل: أنها محكمة غير منسوخة والنبي صلى الله عليه وسلم إنما رجم اليهودي باختياره أن يرجمه وكان له أن لا يرجمه لقوله: {أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي: فلا تحكم عليهم وخالفهم آخرون فقالوا: هي منسوخة لقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} .
روي عن ابن عباس قال: نسخت من المائدة آيتان: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} فردهم إلى أحكامهم فنزلت: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم على كتبانا وحكم من بعده صلى الله عليه وسلم في ذلك كحكم النبي صلى الله عليه وسلم فإن قلنا: بأنها منسوخة فالحكم بينهم مفترض واجب وإن لم نقل بذلك فالحكم بينهم هو الأولى من الإعراض عنهم لأنه إذا حكم بينهم فقد سلم على القولين لأنه فعل الواجب أو الجائز وإن لم يحكم بينهم فقد ترك فرضا واجبا عليه في أحد القولين فالأولى به أن يفعل وقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} يحتمل معناه أن تحاكموا إليك ويحتمل إن وقفت على ما يوجب لك الحكم عليهم وإن لم يتحاكموا إليك وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر عليه بيهودي قد حمم وجهه وقد ضرب يطاف به فقال صلى الله عليه وسلم: "ما شأن هذا"؟ فقالوا: زنى قال: "فما تجدون في كتابكم"؟ قال: يحمم وجهه ويعزر ويطاف به فقال: "أنشدكم بالله ما تجدون حده في كتابكم"؟ فأشاروا إلى رجل منهم فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الرجل نجد في التوراة الرجم ولكنه كثر في إشرافنا فكرهنا أن نقيم الحد على سفلتنا وندع أشرافنا فصطلحنا على شيء فوضعنا هذا فرجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "أنا أولى بإحياء ما أماتوا من أمر الله

(2/143)


عز وجل"، ففيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم ذلك اليهودي من غير أن يتحاكم إليه اليهود في ذلك فكان أولى الاحتمالين ما وافق الحديث ومن ذهب إلى ترك الرجم في أهل الذمة وهم أبو حنيفة والثورى وزفر وأبو يوسف ومحمد قال: إن الحكم في التوراة الرجم احصن أو لم يحصن على ما يدل عليه ظاهر الاثار من غير اشتراط الاحصان وكان ذلك قبل ان ينزل الله تعالى في كتابه في حد الزنا ما انزل من الإمساك في البيوت والإيذاء ثم نسخه بما في سورة النور وبقوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر تجلد وتنفى والثيب تجلد وترجم" فبين حد كل صنف وقال عبد الله بن عمر: من أشرك بالله فليس بمحصن بعدان علم برجم رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان رجمه من اليهود وإذا لم يكونوا محصنين لم يكونوا مرجومين وذكر عن مالك أن النصراني إذا اسلم ثم زنى وهو متزوج في النصرانية لا يكون محصنا حتى يطأ زوجته بعد الإسلام وإذا لم كان كذلك دل على ان من أسباب الإحصان التي يجب بها الرجم في الزنا الإسلام وفي حديث ابن عمر ان اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم فذكر وله ان رجلا منهم وامرأة زنيا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تجدون في التوراة في شان الرجم"؟، الحديث، مجيء اليهود بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على أنهما لم يأتياه باختيارهما وعدم طلب الشهود الأربعة من المسلمين يدل قبول شهادة اليهود عليهما وقد جاء في حديث جابر قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي ويهودية قد زنيا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود: "ما يمنعكم أن تقيموا عليها الحد"؟ فقالوا: كنا نفعل إذ كان الملك لنا وفينا فأما إذ ذهب ملكنا فلا نجترئ على القتل فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ائتوني بأعلم رجلين منكم" فأتوه بابن صوريا وآخر فقال لهما: "أتتما علما من وراء كما" قالا: كذلك يقولون فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأنشدكما بالذي أنزل التوراة على موسى كيف تجدون حدهما في التوراة"؟ فقالا: نجد أن الرجل

(2/144)


يقبل المرأة زنية وفيه عقوبة والرجل يوجد على بطن المرأة زنية وفيه عقوبة فإذا شهد أربعة نفر أنهم رأوه يدخله في فرجها كما يدخل الميل في المكحلة رجما فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ائتوني بشهود" فشهد أربعة منهم على ذلك فرجمهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعلى ذلك وجدنا المتقدمين من أئمة الأمصار في الفقه يجيزون شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض وإن اختلفت مللهم ففيه خلاف منهم شريح وهو قاضي الخلفاء الراشدين عمر وعثمان وعلي والشعبي كان يجيز شهادة بعضهم على بعض ومنهم عمر بن عبد العزيز كان يجيز شهادة أهل الملل بعضهم على بعض ومنهم ابن شهاب ويحيى بن سعيد وربيعة والليث إذا اتفقت مللهم كالنصراني على النصراني واليهودي على اليهودي قال ابن وهب: خلف مالك معلميه كابن شهاب ويحيى بن سعيد وربيعة في رده شهادة النصاري بعضهم على بعض وعن يحيى بن أكثم جمعت قوم مائة فقيه من المتقدمين في قبول شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض إلا عن ربيعة فإنه وجدت عنه قبولها وردها وإنما جاز شهادتهم دون الفساق منا لأن الكفر لم يخرجهم عن ولاية بعضهم على بعض في تزويج بناتهم والبيع على صغارهم كما أخرج أهل الفسق فسقهم عن ذلك ولأنه يجوز تقرير الكافر على كفره ولا يجوز تقرير الفاسق على فسقه وهو قول أبي حنيفة وأبي ليلى والوري وسائر الكوفيين إلا أن أبا ليلى يعتبر اتفاق الملة للقبول وعن ابن عمر أن اليهود ذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلا وامرأة منهم زنيا فقال: "ما تجدون في التوراة"؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون فقال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها الرجم فنشروا التوراة فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقال عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرفع فإذا فيها آية الرجم فقالوا: صدق محمد فأمر بهما فرجما إنما أمرهم بالرجوع إلى التوراة التي أعلمه الله أن أعلها بدلوها لإعلام الله عز وجل إياه أن الرجم في التوراة وإنما أخفاه اليهود

(2/145)


فأمرهم بالإتيان بها لإقامة الحجة عليهم دل عليه ما روي عن ابن عباس من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} الآية.

(2/146)