المعتصر من المختصر من مشكل الآثار

كتاب الحراب
مدخل
...
كتاب الحراب
عن ابن عباس: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية نزلت في المشركين فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يكن عليه سبيل وليست تحرر هذه الآية المسلم من الحد إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله ثم لحق بالكفار ثم تاب قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك عن إقامة الحد الذي أصابه وروي عن أنس أنها نزلت في العرنيين الذين قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم فعلى هذا تكون الآية في المرتدين والحق أنها تعم كل محارب ساع بالفساد مسلما كان أو مرتدا أو معاهدا أو غيره لأن سبب العقوبة قد يكون من المسلم وغيره وهي المحاربة التي هي العداوة لله عز وجل بالأفعال التي لا يرضى يدل عليه ما روى عن معاذ بن جبل وهو يبكي عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر عمر وقال: ما يبكيك؟ فقال: شيء سمعته من صاحب هذا القبر قال: وما هو؟ قال: سمعته يقول: "أن يسيرا من الرياء شرك ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة" الحديث ومما يدل عليه ما روي عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل قتل امرء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: زان بعد حصانه أو رجل قتل فقتل به أو رجل خرج محاربا لله ورسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض".
وروي عنها: لا يحل دم امرء مسلم إلا بإحدى ثلاث: زان محصن يرجم أو رجل قتل متعمدا فيقتل أو رجل خرج من الإسلام فحارب الله ورسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض والرواية الأولى أولى لأنه لما قال:

(2/146)


"لا يحل دم امرء مسلم" دل أن هذه الخصال لا تكون إلا مع الإسلام ويحتمل أنه أراد بقوله: خرج من الإسلام أي خرج عن جملة أهل الإسلام إلى الخروج عليهم بسيفه فيكون ذلك موافقا للرواية الأولى وإنما تركنا ما فيه من تخيير الإمام في عقوبات المحارب لقول ابن عباس إذا خرج الرجل محاربا فأخاف السبيل وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف وإن هو قتل ولم يأخذ المال قتل وإن هو أخاف السبيل ولم يأخذ المال نفى وإليه ذهب أبو يوسف ومحمد فأما أبو حنيفة يقول: إذا أخذ المال وقتل كان الإمام بالخيار إن شاء قطع يده ورجله من خلاف ثم قتله وإن شاء قتله فقط وحكى التخيير عن جماعة من السلف وهو مذهب مالك وفيه نظر لأنه يستعمل التخيير ما لم يقتل أو يطل مكثه في المحاربة فإذا كان كذلك كان حكمه أن يقتله فقد عاد قوله بذلك إلى قول من يجعل الآية على المراتب لا على التخيير وإنما لم يجز أن يقتل بالمحاربة إذا لم يوجد منهم قتل لما روي عن عثمان قال وهو محصور في الدار سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل دم امرء مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه أو زنى بعد احصانه أو قتل نفسا بغير نفس، فوالله ما زينب في جاهلية ولا إسلام ولا تمنيت بديني بدلا منذ هداني الله عز وجل ولا قتلت نفسا فبم تقتلونني"؟ فثبت بهذا أنه لا يحل دم من خرج من المسلمين بخروجه حتى يكون في ذلك القتل وعن أنس في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} قال: هم قوم من عكل قطع النبي صلى الله عليه وسلم أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم.
وروى عنه أيضا قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حي من أحياء العرب فأسلموا وبايعوه فوقع الموم وهو البرسام فقالوا: يا رسول الله هذا الوجع قد وقع فلو أذنت لنا فخرجنا إلى الإبل فكنا فيها قال: "نعم أخرجوا فكونوا فيها" فخرجوا فقتلوا أحد الراعيين وذهبوا بالإبل قال: وجاء الآخر وقد جرح فقال:

(2/147)


قد قتلوا صاحبي وذهبوا بالإبل وعنده شباب من الأنصار قريب من عشرين فأرسل إليهم وبعث معهم قائفا يقص آثارهم فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم زاد بعض الرواة ثم نبذهم في الشمس حتى ماتوا
وروي أن الحجاج سأله عن أعظم عقوبة عاقب بها النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه بالذين قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ولم يحسمهم وألقاهم بالحرة ولم يسقهم حتى ماتوا، استدل بعض الناس بذلك لما ذهب إليه أبو حنيفة في المحاربين إذا أخذوا المال وقتلوا أن الإمام فيه بالخيار إن شاء جمع بين القطع والقتل وإن شاء اقتصر على القتل خلافا لأبي يوسف فإنه قال: لا يجوز إلا القتل المجرد وقوله: أولى لأنه لما جاز ترك قطع الأيدي والأرجل والاكتفاء بالقتل علمنا أن القطع ليس بحد إذا لو كان حدا لما جاز تركه والقطع الذي أقيم على أولئك القوم كان قبل النهي عن المثلة فكان له حيئذ أن يقتل من حل قتله بقطع الأيدي والأرجل وترك حسمها ومنع أهلها من الطعام والشراب حتى يموتوا بذلك لا لأنه كان حدا عليهم قطع الأيدي والأرجل ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم سمل أعينهم أراد منه به قتلهم لا ما سوى ذلك من حد عليهم ثم منع من ذلك بنهيه صلى الله عليه وسلم عن المثلة لأنه لا خلاف فيما لو قطعوا الآذان والأرجل والأيدي أنه لا يفعل بهم مثلة وأنه يقتصر على المنزل في آية المحاربة وقيل أنما سمل أعينهم لأنهم سملوا عين الراعي وهو ممنوع وفيما روي عن ابن مسعود مرفوعا: أن اعف للناس قتلة أهل الإيمان وعنه أنه قال: يقال: اعف الناس قتلة أهل الإيمان ولم يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروي عن إبراهيم النخعي أنه كان مع علقمة في المسجد فرأى الناس يعدون نحو باب القصر فقال: ما لهم فقيل: أن زيادا مثل بابن لكعة قال: كان يقال أحسن الناس قتلة المسلم.

(2/148)


لا يقال هذا يدفع ما رويتموه فيما فعل بالعرنيين ويدفعه أيضا ما روي عن شداد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليعد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" فإذا أبيح قتل ابن آدم صار كسائر الحيوانات بل أولى لأن الذي كان من الرسول صلى الله عليه وسلم في العرنيين هو الحكم يومئذ قبل نزول آية المحاربة ثم نسخ ألا ترى أن رجم في ذلك المدة حتى يموت بذلك وإن هرب اتبع حتى يؤتى على نفسه قد يتسع الزاني المحصن بالنسبة إلى القتل بالسيف ومع هذا مشروع اليوم فالحاصل أنه لا يخرج عن عقوبات الله تعالى إلى ما سواها مما هو أكثر منها.

(2/149)


في المرتد
روي أن علي بن أبي طالب أتى بقوم زنادقة ارتدوا عن الإسلام ووجدوا معهم كتب فأمر بنار فأججت فألقاهم فيها وكتبهم فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو أني كنت لقتلتهم لقوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" ولم أحرقهم لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تعذبوا بعذاب الله" ذهب بعض إلى أن المرتد عن الإسلام يجب قتله تاب أو لم يتب وجعل الارتداد موجبا للقتل جزاء لما كان منه كالسارق والزاني لا يسقط الحد عنهما بتوبتهما والحجة لمن خالفهم أن اسم الزنا والسرقة لا يفارقهما وإن تاب بخلاف المرتد إذا عاد إلى الإسلام لم يجز أن يسمى كافرا لأنه مسلم فاستحال أن يسمى كافرا مسلما في حال واحد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا} فأثبت منهم الإيمان بعد كفرهم فعقلنا أن من لزمه اسم معنى ولم يزل ذلك الاسم عنه فهو من أهله تقام عيه عقوبته وإن زال ذلك الاسم عنه زالت العقوبة عنه وروي أن رجلا من الأنصار ارتد فلحق بمكة ثم ندم فأرسل إلى قومه سلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة؟ فأنزل الله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} فكتبوا بها إليه

(2/149)


فرجع وأسلم.
ولا يعارض بقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} لأن المراد به الشرك حتى يموت عليه كما قال: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} الآية روي عن ابن عباس في قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قال: كانت الأنصارية لا يعيش لها ولد فتحلف إن عاش لها ولد لتهودنه فلما أجليت بنو النضير إذا فيهم ناس من أبناء الأنصار فقالوا: يا رسول الله أبناءنا وأخواننا فيهم فنزل: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} يعني: من شاء لحق بهم ومن شاء دخل في الإسلام لا خلاف فيمن أسلم وله ولد صغير أنه يصير مسلما بإسلام أبيه وإن اختلف في إسلام الأم فيجعله أبو حنيفة وأصحابه والشافعي كإسلام الأب خلافا لمالك وهذه مسألة مختلف فيها فقال طائفة: من انتحل دين اليهودية من العرب صار منهم وله حكمهم في حل الذبيحة والنكاح عن ابن عباس: كلوا من ذبائح بني تغلب وتزوجوا من نسائهم قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ولا فرق بين دخولهم في الجاهلية أو في الإسلام وخالفهم طائفة فقالوا: لا تحل ذبائحهم ونساؤهم وهو قول ابن مسعود وعلي بن أبي طالب روي عن عبد الله كان ينهى عن ذبائح اليهود ونصارى العرب وإن ذكروا اسم الله عز وجل وعن عكرمة سألت عليا عن ذبائح نصارى العرب قال: لا تحل ذبائحهم فإنهم لم يتعلقوا من دينهم إلا بشرب الخمر.
وفيه أنهم لو تعلقوا بشرائع دينهم كلها لكانوا مثلهم وقال آخرون منهم الشافعي: إن كان ذلك منهم قبل نزول الفرقان خلى بينهم وبين ذلك وإن كان بعده منعوا وليس هذا بشيء لأنه لو كان يفترق لكشف صلى الله عليه وسلم من خلى بينه وبين اليهودية من أبناء الأنصار هل كان ذلك بعد نزول القرآن أو قبله لأن الفرقان كان أنزل عليه بمكة والمدينة بعد أن قدمها مهاجرا تسع سنين إلى أن أجلى بني النضير حتى يعلم حقيقة الأمر في ذلك وكيف يؤخذ كافر دخل في الكفر برجوع إلى كفر آخر إنما يؤخذ الناس بالرجوع الإسلام لا غيره.

(2/150)


في الداخل بيت غيره بغير إذنه
روي عن علي بن أبي طالب قال: كان الناس قد كثروا على مارية في قبطى كان يختلف إليها فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انطلق فإن وجدته عندها فاقتله" فقلت: يا رسول الله أكون في أمرك كالسكة المحماة وأمضي لما أمرتني لا يثنيني شيء أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب قال الشاهد: يرى ما لا يرى الغائب فتوشحت سيفي ثم انطلقت فوجدته خارجا من عندها على عنقه جرة فلما رأيته اخترطت سيفي فلما رأني إياه أريد ألقي الجرة وانطلق هاربا فرقى نخلة فلما كان في نصفها وقع مستلقيا على قفاه وانكشف ثوبه عنه فإذا أنا به أجب أمسح ليس له شيء مما خلق الله للرجال فأغمدت سيفي وقلت: هه قال: حه أنا رجل من القبط وهي امرأة من القبط زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم احتطب لها واستعذب لها فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: "الحمد لله الذي يصرف عنا السوء أهل البيت"، فيه حل قتل من دخل بيت غيره بغير إذنه كما حل فقء عين من اطلع في بيت غيره على ما روينا من غير قصاص ولا دية ويكون هذا مضافا إلى قوله: "لا يحل دم امرء مسلم إلا بإحدى ثلاث" لأن الأحكام لم تبق على ما كانت عليه يوم قال صلى الله عليه وسلم ذلك القول ألا ترى أن من شهر سيفه على رجل ليقتله فقد حل له قتله ومن أريد ماله فكذلك فكما لحقت هذه الأشياء بالثلاث فكذلك يلحق هذا، وقال القاضي: فيه نظر لأنه إنما يصح هذا لو ثبت تقدم قوله: "لا يحل دم امرء مسلم" على هذا الحديث فأما إذا لم يثبت واحتمل أن يكون بعده يكون قوله: "لا يحل دم امرء مسلم" ناسخا له حينئذ ويجب أن لا يستباح مه إلا بإجماع الذي تقوم به الحجة كما قامت في الشاهر سيفه ليقتل أو يأخذ مالا على سبيل الحرابة قلت ولولا ثبت عنده التقدم لما قال بحله فإنه أعلى كعبا من أن يقول ما لم يحط به علما سيما في حل الدم فأفهم والله أعلم.

(2/151)