المعتصر
من المختصر من مشكل الآثار تفسير القرآن
فاتحة الكتاب
عن أبي سعيد بن المعلي أنه كان يصلي قائما في المسجد فدعاه النبي صلى الله
عليه وسلم فلما صلى أتاه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منعك
أن تجيبني؟ أما سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} " الآية ثم قال: "ألا
أعلمك سورة أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد" فمشيت مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم حتى كاد يبلغ باب المسجد فذكرته قال لي رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "فاتحة الكتاب هي السبع المثانى والقرآن العظيم الذي
أوتيته"، وروى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن في
كتاب الله عز وجل سورة ما أنزل مثلها" فسأله أبي عنها فقال: "كيف تقرأ إذا
قمت في صلاتك"؟ قلت: أم الكتاب قال: "والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة
والإنجيل والقرآن -أو قال: الفرقان- مثلها إنها السبع المثانى والقرآن
العظيم الذي أعطيته"، وللحديث طرق ففيه أن الفاتحة هي السبع المثانى
والقرآن العظيم، وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ
سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي
(2/160)
وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} على سعيد بن
جبير. {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} الآية السابعة وقال سعيد
قال ابن عباس قد أخرجها الله لكم وما أخرجها لأحد قبلكم. ففيه أن فاتحة
الكتاب هي السبع المثانى والقرآن العظيم وعن سعيد عن ابن عباس أيضا
{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي} قال فاتحة الكتاب ثم قرأ
ابن عباس بسم الله الرحمن الرحيم وقال هي الآية السابعة وقرأ بها سعيد بن
جبير كما قرأ عليه ابن عباس.
ففيه خلاف ما في الحديث الذي قبله عنه لأن في الذي قبله أنها السبع المثانى
ولم يذكر غير ذلك فاحتمل أن يكون معنى قول ابن عباس: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ
سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي} أن فاتحة الكتاب المرادة بأنها السبع المثانى
وإن معنى {وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} أي وآتيناك القرآن العظيم دليله مجيئه
بالنصب لا بالجر مع أنه روي عنه مجاهد في السبع المثانى أنها السبع الطوال
وعن سعيد عنه أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعا من المثاني الطوال،
وهو أولى وعن علي أنها فاتحة الكتاب، ومعنى حديث أبي سعيد بن المعلي وحديث
أبي هريرة يحتمل أنها القرآن كله في الثواب كما روي أن قل هو الله أحد ثلث
القرآن أي في الثواب، روي عن ابن مسعود قال: "أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث
القرآن كل ليلة"؟ قالوا: ومن يطيق يا رسول الله؟ قال: "قل هو الله أحد"،
وعن أبي هريرة خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أقرا عليكم
ثلث القرآن" فقرأ قل هو الله أحدا حتى ختمها، وعن أنس مرفوعا "جزأ الله
القرآن ثلاثة أجزاء فقال: قل هو الله أحد جزء منه"، ففي هذه الأحاديث أن قل
هو الله أحد ثلث القرآن يعني في الثواب وروي أنها تعدل ثلث القرآن، وإذا
جاز أن يكون قل هو الله أحد ثلث القرآن جاز أن تكون الفاتحة أيضا في الآثار
التي رويت فيها أنها القرآن يعني ثوابها كثواب كل القرآن، وروي عن عائشة
قالت: شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر فأمر بمنبر
فوضع ثم صلى ووعد الناس يخرجون يوما قالت: عائشة وخرج رسول الله صلى الله
عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر فحمد الله ثم قال: أنكم
شكوتم إلي جدب
(2/161)
جنابكم واستئخار المطر عن ابان زمانه عنكم
وقد وعدكم الله أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم قال: الحمد الله رب العالمين
الرحمن الرحيم ملك يوم الدين لا إله إلا الله يفعل ما يريد الحديث فيه
قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ملك لا مالك وعن أم سلمة مثل ذلك تعدها
بأصابع أحدى يديها سبع آيات بسم الله الرحمن الرحيم.
وما روي عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قرآته بسم الله
الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ملك يوم الدين فلا حجة
لأنها نعتت قراءة مفسرة حرفا حرفا فاحتمل أن تكون نعتت قراءته بالحمد لله
رب العالمين فيما سمعته بقراءته غير الحمد لله وعن أم حصين أنها صلت خلف
النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ مالك يوم الدين حتى بلغ ولا الضالين قال:
آمين.
وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ ملك يوم الدين فلما
نظرنا فيه وجدنا حديث أبي هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين إلى قوله: يقول العبد:
ملك يوم الدين يقول الله: مجدني عبدي"، وروي عنه فقال: مالك مكان ملك وعن
الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يقرؤن ملك
والصحيح عنه رواية من رواه عن الزهري عن أبي بكر وعمر ولم يذكر فيه أنسا
وعن أبي هريرة من رواية ذكوان وأبي صالح أنه كان يقرأ مالك.
وعن عمر كذلك مالك وعن الأعمش كذلك وقراءته ترجع إلى عبد الله بن مسعود وهي
قراءة عاصم وترجع قراءته إلى علي بن أبي طالب ووجدنا عن حمزة قراءة ملك
وقراءته ترجع إلى علي وابن مسعود وكذلك يقرأها نافع واختار أبو عبيدة قراءة
ملك على مالك لأن في ملك ما ليس في مالك لأنه لا يكون ملكا إلا مالكا وقد
يكون مالكا غير ملك
(2/162)
واحتج عاصم على من قرأ مالك فقال: يلزمه أن
يقرأ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مالك الناس} فقال أبو بكر: نعم
لموافقته عاصما أولا يقرؤن {فَتَعَالَى اللَّهُ المالك الحق} واحتج بقوله:
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} والأولى أن يرد هذا الحزب المختلف في
قراءته إلى ما سمى به نفسه في كتابه {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ
النَّاسِ} {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ
الْقُدُّوسُ} {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ} .
(2/163)
سورة البقرة قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ
مِنْ آيَةٍ}
النسخ على وجهين نسخ العمل مع بقاء التلاوة ونسخهما والأول كثير والثاني قد
يخرج من قلوب المؤمنين كافة مثل ما حدث أبو أمامة بن سهل لابن شهاب في مجلس
سعيد بن المسيب أن رجلا كانت معه سورة فقام من الليل ليقرأها فلم يقدر
عليها وقام الآخر فقرأها فلم يقدر وقام آخر كذلك فأصبحوا فأتوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم قمت البارحة أقرأ سورة كذا وكذا فلم أقدر
عليها وقال الآخر: ما جئت إلا لذلك وقال الآخر: وأنا يا رسول الله فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنها نسخت البارحة". وهذا حديث مسند لأن
أبا أمامة ولد في حياته صلى الله عليه وسلم وسماه رسول الله صلى الله عليه
وسلم أسعد وقد يخرج من القرآن ويبقى في الصدور مثل ما روي عن أبي موسى
الأشعري أنه قال: نزلت سورة فرفعت وحفظ منها لو أن لابن آدم واديان من مال
لابتغى لهما ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب
وعنه كنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيناها غير أني حفظت منها يا
أيها الذين آمنوا لا تقولوا ما لا تفعلون فتكتب شهادة في اعناقكم فلتسئلن
عنها يوم القيامة وعنه أنه قال: نزلت سورة براءة ثم رفعت فحفظ منها أن الله
يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم ولو أن لابن آدم واديين، الحديث. وعن
أبي هريرة لما نزلت: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} الآية جثوا على الركب فقالوا: لا
نطيق لا نستطيع كلفنا من العمل ما لا نطيق
(2/163)
ولا نستطيع فأنزل الله عز وجل: {آمَنَ
الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} ،
{وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ
الْمَصِيرُ} فأنزل الله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}
الآية فيه أن الصحابة فهموا مؤاخذتهم بالخواطر التي لا يقدر الإنسان على
دفعها من نفسه فبين الله تعالى بقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً
إِلَّا وُسْعَهَا} أي لا يكلف الله ما لا يملكه أن المراد بالإبداء
والإخفاء المحاسب عليهما هو الإبداء الذي يقدر صاحبه على إخفائه والإخفاء
الذي يقدر صاحبه على إظهاره لا الخواطر التي لا يملكونها ولا يستطيعون فيها
إبداء ولا إخفاء وعن ابن عباس: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو
تُخْفُوهُ} من الشهادة وفيه نظر لأن كتمان الشهادة غير مغفور لأنه حق
المشهود له ويرده قوله: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ
يَشَاءُ} ومعنى {إِنْ نَسِينَا} أن تركنا من قوله: {نَسُوا اللَّهَ
فَنَسِيَهُمْ} لا النسيان الذي هو ضد الذكر لأنه غير مؤاخذ به وكذا قوله:
{أَوْ أَخْطَأْنَا} ليس من الخطأ الذي هو ضد العمد لأنه غير مأخوذ به قال
تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} بل هو من
الخطاء الذي عمله قصدا في الخطيئة وله اختيار فيه ومنه قيل خطئت في كذا
مهموز فبان أنهم سألوا في موضعه وأنه تعالى غفر لهم فيما كان له أخذهم بهما
وعقوبتهم عليهما وهو المحمود على فضله ورحمته.
(2/164)
سورة آل عمران
عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتموهم فاحذروهم"
ثم قرأ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا
تَشَابَهَ} إلى قوله: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} ثم قال الراسخون في العلم
هم الذين آمنوا بمتشابهه وعملوا بمحكمه، وعنها قالت: قرأ رسول الله صلى
الله عليه وسلم {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ
مُحْكَمَاتٌ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعت الذين يجادلون
فهم الذين عني الله عز وجل". المحكمات هي المتفق على تأويلها والمعقول
معناها والمتشابهات هي المختلف في تأويلها والزيغ الجور عن الاستقامة
والعدل والفتنة التي يتبعها أهل الزيغ هي فساد ذات البين التي يكون عنها
القتل والشحناء.
(2/164)
والتفرق المنهي قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} ومن كان كذلك خرج من الإسلام
واستحق النار يدل عليه ما روي أن أبا أمامة خرج من المسجد بدمشق فإذا رؤس
منصوبة على القناة قريب من سبعين رأسا فلما نظر إليها أبو أمامة وقف، ثم
قال: يا سبحان الله يا سبحان الله يا سبحان الله ثلاث مرات ما يعمل الشيطان
لهؤلاء ثلاثا قال: شر قتيل تحت ظل السماء ثلاث مرات وخير قتيل من قتل
هؤلاء، وبكى فقيل: يا أبا أمامة تقول لهم القول فمم تبكي؟ قال: رحمة لهم
أنهم كانوا من أهل الإسلام فخرجوا منه ثم تلا هذه الآية {هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ} حتى ختمها ثم قال: هم هؤلاء
ثم تلا {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ} حتى ختمها ثم قال: هم هؤلاء
قال: فقلت: يا أبا أمامة هذا شيء تحدث به من رأيك أو سمعته من رسول الله
صلى الله عليه وسلم؟ فقال: يا سبحان الله ثلاث مرات إني إذا لجرى قال ذلك
ثلاث مرات لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين
أو ثلاثا أو أربعا حتى بلغ سبعا ما حدثتكموه ثم قال: من أنتم؟ قال: قلت: من
أهل العراق قال: أما أنهم عندكم كثير.
فأهل الحق يردون المتشابه إلى عالمه ثم يلتمسون تأويله من المحكم الذي هو
أم الكتاب فإن وجدوه فيه عملوا به كما عملوا بالمحكم فإن لم يجدوا لقصورهم
هم لم يتجاوزوا في ذلك الإيمان به ولا استعملوا فيه الظنون المحرم
استعمالها في غيره فكيف به قال عليه السلام: "المراء في القرآن كفر" عن ابن
عباس فقدوا قطيفة حمراء مما أصيب من المشركين يوم بدر فقالوا: لعل رسول
الله صلى الله عليه وسلم أخذها فنزلت: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ
يَغُلَّ} الآية قال: خصيف فقلت لعكرمة: أن سعيدا يقرأ القرآن قال: بلى ويغل
ويقرأ عاصم وأبو عمرو وابن كثير يغل والباقون يغل والأولى أولى لأن العرب
إنما تقول للرجل في الشيء الذي لا يجوز له إتيانه ما كان له أن يفعل وإذا
أتى إليه ما لا ينبغي أن يؤتى ما كان لهم أن يغفلوا ذلك به ولا يخالف هذا
ما ذكرنا أن قومه كانوا لا يتهمونه ويسمونه الأمين لأن هذا كان بالمدينة من
المنافقين الذين لا ينكر منهم مثل
(2/165)
هذا وشبهه.
عن ابن عباس في حديث مبيته عند خالته ميمونة فجعل يمسح النوم عن وجهه ثم
قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران لم يبين. أولى العشر الآيات وقد
اختلف فيها فذهب قراء المدينة والكوفة إلى أن أولها الذين يذكرون الله وأهل
الشام أولها إن في خلق السموات والأرض وهو الأصح لأنه في هذا الحديث من غير
هذا الطريق قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وقد روي أنه قرأ الخمس الآيات من آل عمران
والاختلاف من قبل رواته لا من الرسول صلى الله عليه وسلم ويحتمل أنه إنما
قرأ الخمس الآيات أو لهن {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لأن
فيهن التماس الدعاء والتفكر في الآيات وما بعد الخمس إنما هو في ذكر
استجابة الله للمذكورين فيها إلى غير ذلك من المعاني والحكم.
(2/166)
سورة النساء
عن عائشة في قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} لا تجوروا،
ومثله عن ابن عباس لا تميلوا، ومثل هذا ألا يقال بالرأي بل بالتوقيف ولا
نعلم أحدا من الصحابة ولا من التابعين ذهب إلى خلاف هذا التأويل غير زيد
ابن أسلم فإنه قال أن لا تكثر عيالكم وهو فاسد لأن المناسب حينئذ ذلك أدنى
أن لا تعيلوا. عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملي عليه
{لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ
وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها
فقال يا رسول الله لو استطعت الجهاد لجاهدت وكان رجلا أعمى فأنزل الله على
رسول الله صلى الله عليه وسلم وفحذه على فخذي فثقلت حتى خفت أن ترض فخذي ثم
سرى عنه {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} .
ولا يعارضه ما روي عن أبي نضرة قال سألت ابن عباس عن قول الله تعالى: {لا
يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}
الآية فقال أقوام: حبسم أوجاع وأمراض فكانوا أولائك أولى الضرر، فإن ظاهره
يقتضي نزولها
(2/166)
كلها معا لذكرها نسقا لأن حديث زيد أخبار
عن سبب نزولها وحديث ابن عباس أخبار بتأويلها المستقر عليه أمرها وكان ذلك
منه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد الله بقوله أولا لا يستوي
القاعدون الأصحاء وأولي الضرر جميعا لأن فيه تكليف ما ليس في الوسع وليس
على أعمى حرج وإنما المراد بذلك الأصحاء لا غير وإنما ذهب عن ابن أم مكتوم
ذلك وظن أنه مراد فكان منه هذا القول فأنزل الله: {غَيْرُ أُولِي
الضَّرَرِ} بيانا لما أراد أولا وليس هذا ببعيد فإنه ذهب على كثير من
الصحابة معنى قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ
الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} حتى كان منهم من ربط الخيط الأبيض
والأسود في رجله ولا يزال يأكل حتى يتبين أحدهما من الآخر فبين الله تعالى
ذلك بقوله: {مِنَ الْفَجْرِ} وبعضهم جعل تحت وسادته حتى قال صلى الله عليه
وسلم: "أن وسادك لعريض إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل".
قال الطحاوي: قراءة غير بالرفع أصح لأن نزولها في وقت آخر بيانا لما كان
أنزل قبل ذلك في تفضيل المجاهد على القاعد ولو كان النزول معا لجاز أن يكون
منصوبا على الاستثناء كقراءة المدنيين فإنه روى من الصحابة غير واحد أن
نزولها كان على الاستثناء ولكن لم يرو عن أحد منهم أنها نزلت استثناء.
لا يقال: أن ابن أم مكتوم يوم القادسية حمل الرأية للمسلمين وكان أعمى على
حاله التي اعتذر بها فكيف لم يبذل ذلك من نفسه لرسول الله صلى الله عليه
وسلم لأنه يحتمل أنه ما كان يحسن ذلك القدر يوم الاعتذار ثم أحسنه بعد ذلك
فتكلفة حسبة وعن ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون
سوادهم على النبي صلى الله عليه وسلم فيأتي السهم يرمي به فيصيب أحدهم
فيقتله فانزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي
أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} الآية، وعنه كان قوم من أهل مكة
أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم فقال
المسلمون: قد كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفر لهم فنزلت.
(2/167)
فإن قيل: ما معنى قوله: {إِلَّا
الْمُسْتَضْعَفِينَ} إلى قوله: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ
عَنْهُمْ} ولم يكن لهم ذنوب فيعفى لهم عنها قلنا: العفو المراد هو رفع
العبادة عنهم منه قوله صلى الله عليه وسلم: "عفوت لكم عن صدقة الخيل
والرقيق" ومنه قول ابن عباس: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويدعون أشياء
تقذرا فلما بعث الله نبيه أحل حلاله وحرم حرامه فما حرم من شيء فهو حرام
وما أحل من شيء فهو حلال وما سكت عنه عفو يريد أنه تركه بلا عبادة عليهم
فكذا معنى عسى الله هو على إيجابه العفو منه لهم فلم يتعبدهم فيه بما تعبد
به سواهم من قوله على لسان رسوله: "أنا برئ من كل مسلم مع مشرك" لا تراءى
نارهما فقد رفع الله هذا الوعيد عنهم في إقامتهم في تلك الأمكنة لعدم
استطاعتهم الهروب عنها والتحول إلى الأمكنة المحمودة ورفع التعبد عنهم في
ذلك وعن زيد بن ثابت ذكر المنافقون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
فريق: نقتلهم وقال فريق: لا نقتلهم فأنزل الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي
الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} هذا حديث لم يضبطه رواته لأن المنافقين
بالمدينة غير متعرضين بقتل ولا غيره لأنه كان يحملهم على علانيتهم وإن كان
قد وقف من باطنهم على خلافه قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ}
إلى قوله: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} وقال تعالى: {وَلا تُصَلِّ
عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً} الآية وأخبر بمصيرهم إلى النار إن
المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولم يذكر في الحديث المعني الذي من
أجله كانت الصحابة فيهم فئتين وروي عن زيد أن قوما خرجوا إلى أحد مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم1 فاختلفوا فيهم فقالت فرقة: نقتلهم وقالت فرقة: لا
نقتلهم فنزلت: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} إلى قوله:
{وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} فدل هذا على أن ذلك الاختلاف في
أمرهم إنما كان لتركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خروجهم معه إلى
قتال أعدائه بأحد ورجوعهم إلى ما سواها فحل بذلك قتلهم ورجعوا إلى غير
المدينة قال زيد: رجع ناس عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقال بعض:
نقتلهم وقال بعض: لا نقتلهم فأنزل الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي
الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أنها لتنقي
الرجل كما تنقي النار الفضة" يعني المدينة ودل
__________
1 سقط من هنا شيء- ح.
(2/168)
على ذلك قوله تعالى: {فَلا تَتَّخِذُوا
مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا} والمهاجر إنما كان إلى المدينة
لا من المدينة إلى ما سواها ولم نحد ما يدل على الموضع الذي رجعوا إليه غير
ما روى عن مجاهد قال قوم: خرجوا من مكة حتى جاؤا إلى المدينة يزعمون أنهم
مهاجرون ثم ارتدوا بعد ذلك فاستأذنوا إلى مكة ليأخذوا بضائع لهم فيتجرون
بها فاختلف فيهم الصحابة فقيل هم منافقون وقيل هم مؤمنون فبين الله نفاقهم
وأمر بقتالهم.
(2/169)
سورة المائدة
عن جبير بن نفير أنه قال: دخلت على عائشة فقالت لي: يا جبير هل تقرأ
المائدة فقلت نعم فقالت: إنها آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال
فاستحلوه وما وجدتم فيها من حرام فحرموه.
وعن البراء آخر آية نزلت: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي
الْكَلالَةِ} وآخر سورة نزلت: براءة، المروى عن عائشة أشبه بالحق والله
أعلم لأن رسوله بعث عليا بسوره براءة في الحجة التي حجها أبو بكر قبل حجة
الوداع فقرأها على الناس حتى ختمها وسورة المائدة نزلت بعد ذلك في حجة
الوداع {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ
نِعْمَتِي} الآية على ما روي أن اليهود قالوا: لو نزلت علينا هذه الآية:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} لاتخذنا ذلك اليوم عيدا فقال ابن
عباس: أنها نزلت في عيدين اثنين يوم عرفة والجمعة وعن عمر أنها نزلت ليلة
جمعة ونحن واقفون معه بعرفة.
وعن علي أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة وعن أبي بكر
قال: تقرؤن هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ
أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وإني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا
على يديه يوشك أن يعمهم الله بعقاب". هذا خطاب فيه نقصان من بعض رواته لا
من أبي بكر والأولى به
(2/169)
ما روي عنه أنه قال يا أيها الناس إنكم
تقرؤن هذه الآية من كتاب الله وتضعونها على غير ما وضعها الله عليه {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ
ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"أن الناس إذا عمل فيهم بالمعاصي أو بغير الحق يوشك أن يعمهم الله بعقاب".
وعن أبي ثعلبة الخشني سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "بل
ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا
ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه ورأيت أمرا لا بد لك منه فعليك بنفسك
إياك من1 العوام فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن كقبض على الجمر للعامل
يومئذ منهم كأجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله فعلمنا أن قول أبي بكر تضعونها
غير موضعها أراد به تستعملونها في غير زمنها وإن زمنها الذي تستعمل فيه" هو
الزمن الذي وصفه صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ثعلبة الخشنى لما وصفه به
ونعوذ بالله منه وإن ما قبله من الأزمنة فرض الله فيه على عباده الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الله لا يهلك
العامة بعمل الخاصة ولكن إذا رأوا المنكر بين أظهرهم فلم يغيروه عذب الله
العامة والخاصة"، ففي هذا تأكيد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى يكون
الزمان الذي ينقطع فيه ذلك وهو الزمان الموصوف في حديث أبي ثعلبة الذي لا
منفعة فيه بأمر بمعروف ولا ينهي عن منكر ولا قوة مع من ينكره على القيام
بالواجب في ذلك فسقط الفرض عنه ويرجع أمره إلى خاصة نفسه ولا يضره مع ذلك
من ضل هكذا يقول أهل الآثار أما من يتعلق بالتأويل فيقول: أن قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُم} ليس على سقوط فرض
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإنهم لا يكونون مهتدين إذا لم يفعلوا ذلك
وإنما يهتدون إذا فعلوا إلا إذا قصروا عنه ويقول نظيره ليس عليك هداهم ومع
هذا يفترض
__________
1 في مشكل الآثار 2/65 "وإياك أمر".
(2/170)
عليه الجهاد والقتال إلى أن يردهم إلى دينه
الذي بعثه الله به وأمره1 أن يقاتل الناس عليه كافة والأول أبين معنى وهذا
صحيح أيضا عن ابن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كيف بكم
وبزمان -أو قال- يوشك أن يأتي زمان يغربل الناس فيه غربلة ويبقى حثالة من
الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فصاروا هكذا" وشبك بين أصابعه
قالوا: وكيف بنا يا رسول الله؟ قال: "تأخذون بما تعرفون وتذرون ما تنكرون
وتقبلون على أمر خاصتكم وتذرون أمر عامتكم".
وعن العرباض قال: وعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ورغبهم وحذرهم
وقال: "ما شاء الله أن يقول" ثم قال: "اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا
وأطيعوا من ولاه الله أمركم ولا تنازعوا الأمر أهله ولو كان عبد أسود
وعليكم ما تعرفون من سنة نبيكم والخلفاء الراشدين وعضوا على نواجذكم
بالحق"، وفي حديث آخر: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا
عليها بالنواجذ" ففي هذه الآثار تسديد ما في الآثار التي قبلها وتصديقه
وأعلام بأن الأزمنة تختلف وتتباين وإن كل زمان منها له حكمه الذي قد بينه
رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته وأعلمهم إياه وعلمهم ما يعملون به فيه
فعلى الناس التمسك بذلك ووضع كل أمر موضعه الذي أمر أن يضعه فيه وإن لا
يخرجوا عن ذلك إلى ما سواه.
وعن ابن عباس كان تميم الداري وعدي بن بداء يختلفان إلى مكة للتجارة فخرج
رجل من بني سهم فتوفي في أرض ليس فيها مسلم فأوصى إليهما ودفعا تركته إلى
أهله وحبسا جاما من فضة مخوص بذهب فاستحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما كتمنا ولا اطلعنا ثم عرف الجام بمكة فقالوا: اشتريناه من عدي وتميم فقام
رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله إن هذا لجام السهمي ولشهادتنا أحق من
شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين وأخذا الجام وفيهم
__________
1 في مشكل الآثار 2/67 "عن عبد الله بن عمرو بن العاص".
(2/171)
نزلت هذه الآية وعنه في قوله تعالى: {أَوْ
آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} قال: من غير أهل الإسلام من الكفار إذا لم تجدوا
المسلمين.
وعن أبي زائدة عن عامر قال: خرج رجل من خثعم فتوفي بدقوقاء فلم يشهد وصيته
إلا رجلان نصرانيان من أهله فأشهدهما على وصيته فقدما الكوفة فاحلفهما أبو
موسى الأشعري في دبر صلاة العصر في مسجد الكوفة بالله الذي لا إله إلا هو
ما خانا ولابد ولا كتما وإنها لوصيته ثم أحاز شهادتهما هذا يدل على أن
الآية محكمة غير منسوخة عند ابن عباس وأبي موسى ولا يعلم لهما مخالف من
الصحابة والتابعين وعن شريح أنه قال: لا تجوز شهادة المشرك على المسلم إلا
في وصيته تكون في سفر.
وعن ابن المسيب وابن جبير وابن سيرين {مِنْ غَيْرِكُمْ} أي: من غير دينكم.
وعن مجاهد إذا حضر موته مسلمان أو كافران ولا يحضر غير اثنين منهم فإن رضي
ورثته بما غابا عليه من تركته بذلك1 ويحلفان أنهما صادقان فإن عثر بلطخ وجد
أو لبس أو شبهه حلف الإثنان2 للأولين من الورثة فاستحقا وابطلا إيمان
الشاهدين وهو قول فقهاء الأمصار ابن أبي ليلى والأوزاعي والثوري وقال الحسن
{مِنْ غَيْرِكُمْ} أي: من غير أهل قبلتكم3 كلهم من أهل الصلاة ألا تراه
يقول: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} وإليه ذهب أبو حنيفة في
أصحابه ومالك في
__________
1 في تفسير ابن جرير 7/72 "فذاك" وهو الظاهر- ح.
2 في التفسير "الأوليان".
3 كذا والظاهر "قبيلتكم" كما يدل عليه السياق وقوله عقبة، كلهم مبتدأ بريد
الأولان والآخران ومذهب الحسن مشهور في ذلك راجع تفسير ابن جرير 7/64 ولفظه
في رواية "كان الحسن يقول اثنان ذوا عدل منكم أي من عشيرته أو آخران من
غيركم قال من غير عشيرته" وفي أخرى عن الحسن، أو آخران من غيركم قال من غير
عشيرتك وعن غير قومك كلهم من المسلمين- ح.
(2/172)
أصحابه والشافعي في أصحابه ومن قال أنها
منسوخة بقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وهذا ليس بشيء لأن ما
أنزل الله في كتابه وعمل به رسوله صلى الله عليه وسلم والصحابة فحصل بذلك
إجماع لا يجوز أن ينسخ إلا بما تقوم به الحجة وقوله: {بَعْدِ الصَّلاةِ} لا
دليل فيه للحسن لاحتمال أن يكون القصد بذلك إلى الوقت المعظم عند أهل
الأديان جميعا ويخافون نزول العقوبة بهم عند المعصية فيه وهو ما بعد صلاة
العصر وقيل أنها كانت في أول الإسلام والأرض حرب والناس كفار والوصية فريضة
فلما نسخت الوصية لم يبق هذا مشروعا وفيه نظر.
(2/173)
سورة الأنعام
عن خباب بن الأرت أن الأقرع وعيينة جاؤوا فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم
مع بلال وعمار وصهيب وخباب في ضعفاء المؤمنين فلما رأوهم حوله حقروهم فأتوه
فخلوا به فقالوا له: نحب أن تجعل لنا منك مجلسا يعرف به العرب فضلنا وإن
وفود العرب تأتيك فنستحيي أن ترانا قعودا مع هذه الأعبد فإذا نحن جئناك
فأقمهم عنا فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت قال: "نعم" قالوا: فاكتب لنا
عليك كتابا فدعا بالصحيفة ليكتب لهم ودعا عليا ليكتب فلما أراد ذلك ونحن
قعود في ناحية نزل جبريل فقال: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ} الآية ثم ذكر الأقرع وصاحبه فقال: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} إلى قوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ} فدعا رسول الله بالصحيفة ودعانا فأتيناه وهو يقول: "سلام
عليكم" فدنونا منه فوضعنا ركبنا على ركبته فكان إذا أراد أن يقوم قام
وتركنا فأنزل الله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ} إلى قوله: {تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يقول: مجالس
الأشراف {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} فهو عيينة
والأقرع والفرط الهلاك ثم ضرب لهم مثلا رجلين ومثل الحيوة الدنيا فكنا نقعد
مع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بلغنا الساعة التي يقوم فيها قمنا
وتركناه حتى يقوم
(2/173)
والا صبرنا أبدا حتى يقوم1 الآيتان عامتان
فيمن كان على صفة النفر المذكور وليستا بخاصتين فيهم بما دل عليه ما روي عن
ابن عمر أنه قال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ}
قال: هم الذين يشهدون الصلوات المكتوبات.
__________
1 هكذا ولعله- وإلا صبر لنا أبدا حتى نقوم- ح.
(2/174)
سورة الأعراف
روي أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي
آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} إلى قوله: {غَافِلِينَ} فقال عمر:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "أن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية" فقال: خلقت
هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال:
خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون" فقال رجل: يا رسول الله ففيم
العمل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن الله عز وجل إذا خلق العبد
للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله
به الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من
أعمال أهل النار فيدخله به النار"، فيه أعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم
أيانا أن الله استخرج من ظهر آدم ذريته وفي الآية بنو آدم لا آدم نفسه
وعقلنا بما ذكر فيه أن علم الله متقدم بأهل السعادة بما يستعملهم به في
الدنيا من أعمال الخير حتى يدخلهم الجنة ثوابا على عملهم وكذلك بأهل الشقاء
حتى يدخلهم النار عقوبة لهم على عملهم.
وعن ابن عباس مرفوعا: "أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بعرفة فأخرج من صلبه كل
ذرية ذرأها بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا فقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ
قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} إلى {فَعَلَ
الْمُبْطِلُونَ} " ففيه زيادة على ما في الحديث الأول كلام الله إياهم وذلك
غير مستنكر في لطيف قدرة الله عز وجل وقد أول هذه الآية من لم يقف على
المروى بأن الله عز وجل ألهم ذرية آدم في خلقه إياهم المعرفة به التي هي
موجودة في جميعهم من أن لهم خالقا
(2/174)
سواهم بخلافهم لأنه قدر على خلقهم وهم
عاجزون عن مثل ذلك حتى لا يستطيع أحد أن يقول خلافه فكان ذلك شهادة منهم
على أنفسهم أنه ربهم وحجة عليهم أن قال: الأشقياء منهم يوم القيامة عند
أخذهم بأعمالهم {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} أي: عن عقوبتك لنا
على عملنا أو على أن نقر لك بالربوبية إذ كان الله عز وجل قد بعث إليهم في
الدنيا رسله مبشرين ومنذرين وأنزل عليهم كتبه بما جعلهم به متعبدين وهذا
تأويل حسن لو لم نكن سمعنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في الحديثين
لاحتمال الآية له ولكن لما بين صلى الله عليه وسلم مراد الله بها لم يجز
القول بخلافه ولا تأويل سواه والمعنى في مسح ظهر آدم والتلاوة إنما هي في
بني آدم أنه لما كان أصل بنيه نسب ما استخرجه منه إليهم كما قال: {إِنَّا
خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} والمخلوق من ذلك آدم لا ذريته.
(2/175)
سورة هود
في قول الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ} إلى قوله:
{إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} أهل اللغة مهم الفراء وقطرب يذهبون إلى أن معنى
إلا ما شاء ربك خرج مخرج الزيادة على ما يقيمونه في النار مثل دوام
السماوات والأرض مما هو أكثر من ذلك المقدار كقول الرجل لي عليك ألف إلا
العشرة الآلاف الدرهم التي لي عليك أي والعشرة الآلاف التي لي عليك ليس على
الاستثناء لأن الكثير لا يستثنى من القليل فعلى هذا يكون معنى الأسوى وقيل
بل على الاستثناء كقولك والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك وعزيمتك على ضربه
فكذلك إلا ما شاء ربك ولا يشاؤه وقيل معنى إلا ما شاء ربك الوقف في الحساب
قبل أن يدخل أهل النار النار والأولى رد المعنى إلى ما روي مرفوعا فيمن
يخرج من النار بالشفاعة من ذلك ما روي عن قتادة عن أنس {فَأَمَّا الَّذِينَ
شَقُوا فَفِي النَّارِ} يخرج قوم من النار ولا نكذب بها كما كذب بها أهل
حروراء.
ومنه ما روي عن طليق بن حبيب قال: لقيت جابر بن عبد الله وكنت أشد الناس
تكذيبا بالشفاعة فقرأت عليه كل آية في القرآن وعد الله أهلها
(2/175)
بالخلود في النار فقال لي: يا طليق أتراك
أعلم بكتاب الله وبسنة نبيه مني؟ قال: لا قال: فصمتا وأشار إلى أذنيه إن لم
أكن سمعت محمدا صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرجون من النار" قلت: ومن هؤلاء
القوم؟ قال: "قوم أصابوا ذنوبا كثيرة". ويؤيده قوله تعالى أخبارا عن أهل
النار: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} ففيه أن غيرهم تنفعه
الشفاعة وقوله تعالى: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} وقوله تعالى: {مَنْ
ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ.. وَلا يَشْفَعُونَ
إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} .
(2/176)
سورة يوسف
عن ابن عباس: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} قال: كانت رؤيا
الأنبياء وحيا لا لشك أنه ما قاله رايا وإنما قاله سماعا والأحسن في تأويله
أن رؤيا الأنبياء في مناماتهم ما شاء أن يوحيه إليهم فيها وكل ذلك وحي منه
فجعل ما شاء منه في مناماتهم وجعل منه ما شاء في يقاظاتهم.
(2/176)
سورة سبحان
عن ابن مسعود في حديث ركوب النبي صلى الله عليه وسلم البراق لما أسرى به
إلى بيت المقدس قال: "ثم مشينا إلى بيت المقدس فربطت الدابة بالحلقة التي
ربط فيها الأنبياء ثم دخلت المسجد وتشوف بي الأنبياء من سمى الله في كتابه
ومن لم يسم فصليت بهم إلا هؤلاء النفر عيسى وموسى وإبراهيم"، ففيه أنه أم
الأنبياء إلا المستثنين، وعن أنس امامته بهم جميعا.
وعنه أنه قال: أتيت بالبراق وهو دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل يضع حافره
عند منتهى طرفه فلم نزايل ظهره وهو وجبريل حتى أتيا بيت المقدس ففتحت أبواب
السماء فرأى الجنة والنار قال حذيفة: ولم يصل في بيت المقدس؟ قلت: بل صلى
قال حذيفة: ما اسمك يا أصلع فإني أعرف وجهك ولا أعرف اسمك؟ قلت: أنا زر بن
حبيش قال: وما يدريك أنه قد صلى فيه؟ قلت: يقول الله تعالى: {سُبْحَانَ
الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى
(2/176)
الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} قال: أنه لو كان
صلى فيه لصليتم فيه كما تصلون في المسجد الحرام قال: فقيل له: أنه ربط
الدابة بالحلقة التي ربط بها الأنبياء قال حذيفة: أو كان يخاف أن تذهب وقد
أتاه الله بها ولكن ما روي عن ابن مسعود وأبي هريرة وأنس في إثبات الصلاة
هناك أولى من نفي حذيفة وقوله: لو كان صلى لوجب على أمته أن يصلوا هناك لا
حجة فيه إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد يأتي مواضع ويصلي فيها لم
يكتب علينا إتيانها ولا الصلاة فيها بل قد نهى عمر أن يتتبع تلك المواضع
فيصلي فيها وعن معرور وافيت الموسم مع أمير المؤمنين وانصرفت إلى المدينة
معه ثم رأى ناسا يذهبون مذهبا فقال: أين يذهب هؤلاء؟ قالوا: يأتون مسجد
أصلي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنما هلك من كان قبلكم بهذا
يتبعون آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعا من أدركته الصلاة في شيء من هذه
المساجد التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فليصل فيها وإلا فلا
يتعمدها.
وأبين من هذا أنه لا مسجد أجل مقدارا ولا أكثر ثوابا بعد المسجد الحرام من
مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكتب على الناس إتيانه والصلاة فيه كما
كتب عليهم ما كتب في المسجد الحرام وأما ربط البراق ليلتئذ فإثباته أولى من
نفي حذيفة أيضا إذ ليس كل مسخر لمعنى يطاع1 لذلك المعنى ألا ترى أنه سخر
الله لنا الدواب ونحن نعاني في ركوبها ما نعاني فكذا رباط البراق غير
مستنكر مع تسخير الله تعالى إياه له.
وعن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} قال: لقي الرسل ليلة أسرى به. فيه ما قد دل أن
نزول الآية كان بغير مكة وبغير المدينة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أسرى به إلى حيث لا يعلم حتى علم بوروده إياه وباجتماعه فيها هناك مع
الأنبياء حتى أمهم وهم الذين أمر بسؤالهم عنه لأنه لم يلقهم في غير ذلك
الموضع وعن أبي زميل قال رجل لابن عباس: أنه ليقع في نفسي ما أن أخر من
السماء أحب إلي من أن أتكلم به فقال
__________
1 كذا.
(2/177)
ابن عباس من الشك تعني؟ قال: نعم قال:
فقال: وهل يسلم من ذلك أحد وقد قال تعالى لنبيه: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ
مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} لا نعلمه روى عن أحد من الصحابة في المراد
بهذه الآية غير هذا الحديث عن ابن عباس وأما التابعون فروى عن سعيد بن جبير
والحسن أنهما قالا: لم يشك ولم يسأل.
وأما أهل اللغة فقد رويت عنهم أقوال منها قال الكسائي والفراء: ليس قوله:
{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} خبرا عن أنه في شك إنما هو كقول الرجل لابنه: إن
كنت ابني فافعل كذا وأحسن منه أن المراد بذلك غير النبي صلى الله عليه وسلم
وهم الشاكون بمعنى فإن كنت في شك من غيرك فيما أنزلنا إليك وهو قول أبي
عبيدة كما قال: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ} جاء بالخطاب للنبي
وأمته والمراد به نوح وأمته بقرينة قوله تعالى: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ} وكان
المرادون على هذا بقوله: {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِكَ} هم الذين آمنوا به قبل ذلك كعبد الله بن سلام.
قال الطحاوي: ويحتمل أن يكون هو المراد بالمذكورين في تلك الآية وأن يكون
هم الذين لقيهم صلى الله عليه وسلم في بيت المقدس من الأنبياء الذين كانوا
أنزل عليهم قبله من الكتب ما أنزل عليهم منها مما فيها ذكره وذكر أمته مثل
ما قاله ابن عباس في حديث أبي زميل ووجهه عندنا عن ابن عباس على أن الخطاب
له صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره فإن العرب قد تخاطب من تريد غيره
وقد روي عن عمر بن الخطاب من قوله في حديث المتظاهرتين على رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقلت: يا نبي الله أنت نبي الله وصفيه وخيرته من خلقه على
ما أرى من خصفة مضطجعا عليها ومن وسادة محشوة ليفا تحت رأسه وكسرى وقيصر
على سرر الذهب وفرش الديباج والحرير فجلس فقال: يا عمر لعلك شككت قلت لا
والذي بعثك بالحق إني لعلى يقين من الله فيك إنك لنبيه وصفيه ولكني عجبت
لما زوى عنك من الدنيا وبسط على هؤلاء فقال: هم قوم عجلت لهم طيباتهم في
الحياة الدنيا وأنا أخرت لنا في آخرتنا وإذا كان عمر
(2/178)
قد نفي عن نفسه الشك كان عند أمثاله من
الصحابة منتفيا كانتفائه عنه وكان من النبي صلى الله عليه وسلم أشد انتفاء
فتحققنا أن المرادين بالشك في ذلك هم غير رسول الله صلى الله عليه وسلم
وغير عمر وغير من سواه من الصحابة وأنهم من سواهم من أهل الشك فيه ممن ليس
إسلامه كإسلام الصحابة أو ممن لم يؤمن به ولم يدخل في شريعته وفيه نظر لأن
سؤاله الأنبياء لا تأثير له في نفي الشك عمن شك ممن يجوز عليه الشك.
وعن ابن مسعود كان نفر من الأنس يعبدون نفرا من الجن فأسلم الجنيون وثبت
الأنسيون على عبادتهم وهم لا يشعرون فهم الذين قال تعالى: {أُولَئِكَ
الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ
أَقْرَبُ} والمنكر ذهب إلى ما روي عن مجاهد أنه قال: يبتغون إلى ربهم
الوسيلة عيسى وعزير والملائكة لأن هؤلاء عبدوا من دون الله ولا يعلم غيرهم
وقول ابن مسعود أولى لموضعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤيده قوله:
{قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا
يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} ولم نجد من الصحابة
خلاف قوله. وعنه نزلت على نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن وهذا
دليل صحة حديثه.
(2/179)
سورة الكهف
عن ابن عباس قال: حدثني أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
يحدث عن قصة موسى والخضر أنهما بينما هما يمشيان على الساحل إذا بصر الخضر
غلاما يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر رأسه فاقتلعه بيده فقتله فقال له موسى:
{أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} الآية ثم ساق الحديث حتى
انتهى إلى سؤال الخضر موسى عما كان فيه مما أنكره عليه وإلى قول الخضر له
وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين.
وعن ابن عباس عن أبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الغلام الذي قتله
الخضر طبع كافرا ولو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا والزكية التي
(2/179)
لم تذنب قط فهي أولى من الزاكية التي أذنبت
ثم غفر لها" لأن الغلام قتل صغيرا لم يبلغ الحنث وقيل: هما لغتان بمعنى
واحد وهذا أصح لأنه قد يجوز أن يسمى غلاما وهو بالغ وقوله: لو أدرك أرهقهما
طغيانا قد يراد بالإدراك الاحتلام أو يكون معرفته بالأشياء المذمومة وفي
الآية ما دل على بلوغه وهو {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ}
أي: أنها لم تقتل نفسا ولو قتلت لكانت مستحقة لقتلها بها وطهرت بهذا القتل
والصبي عمده لا يوجب قودا فهو بالغ يؤيده قوله في قصة مريم: {لِأَهَبَ لَكِ
غُلاماً زَكِيّاً} أي: طاهر أو صفة فإنه زكي بغير ذنب كان منه قبل ذلك
فالحق إن لا فرق بين الزكية والزاكية وأنهما بمعنى واحد مثل القاصي والقصي
واختلاف الآثار في زاكية وزكية ليس حكاية عن القرآن ولكنه حكاية من النبي
صلى الله عليه وسلم بلسانه العربي لقول موسى الذي قاله للخضر بلسانه
المخالف للسانه والحكايات للأشياء بغير تلك الألسن قد تحكى بألفاظ مختلفة
ومثله قوله تعالى: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ
إِلَّا رَمْزاً} وفي موضع {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} لأنه حكى بالعربي ما
قيل لزكريا بلسانه مرة بالأيام التي تدخل فيها الليالي ومرة بالليالي التي
تدخل فيها الأيام لما كان المعنى في ذلك سواء فكذلك وصف الغلام بما وصفه به
بلسانه مرة بزكية ومرة بزاكية لما كانا سواء.
وعن أبي بن كعب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أحدا فدعا
له بدأ بنفسه فقال ذات يوم: "رحمة الله علينا وعلى آل موسى لو سكت مع صاحبه
لأبصر العجب ولكنه قال: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا
تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} ".
ولم يختلف القراء في نون الجماعة في لدن أنها تقرأ مثقلة حيث وقع {لَوْ
أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا}
{وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا} وفي إجماعهم دليل على أن أولى القراءة وفي لدنى
التثقيل.
عن أبي ذر أنه قال: دخلت المسجد فإذا النبي صلى الله عليه وسلم جالس
(2/180)
فلما غابت الشمس قال: "يا أبا ذر أتدري أين
تذهب هذه"؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: "فإنها تذهب فتستأذن في السجود
فيؤذن لها ويوشك أن يقال لها: اطلعي من حيث جئت فتطلع من مغربها ذلك مستقر
لها"، فيه أن الشمس تغرب في السماء وقد روي مرفوعا: "في عين حمئة من
الحمأة" رواه ابن عباس وقال: اقرأني ذلك أبي كما أقرأه النبي صلى الله عليه
وسلم.
وعن ابن عباس كنت عند معاوية وعنده عبد الله بن عمرو بن العاص فقال معاوية
لعبد الله: كيف تقرأ {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} فقال: في
عين حامية يريد حارة فقال ابن عباس: فقال معاوية كيف تقرأها يا ابن عباس؟
فقلت: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} وأنشد تبع في ذي القرنين.
بلغ المشارق والمغارب يبتغي ... أسباب علم من حكيم مرشد
فرأى مغيب الشمس عند غروبها ... في عين ذي خلب وثأط حرمد
فالخلب الطين والثأط الحمأة والحر مد الأسود.
قيل: حديث ابن عباس عن أبي يخالف حديث أبي ذر لأن في حديث أبي ذر غروبها في
السماء وفي هذا غروبها في طينة سوداء والطين في الأرض لا في السماء وشعر
تبع يدل على أنها في الأرض لا في السماء أيضا قلنا: قد يكون الطين في
السماء يدل عليه قوله: {حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} وشعر تبع يحتمل أن تكون
الرؤية رؤية يقين وعلم بالقلب لا رؤية عين مع أن الحجة في اللغة وغيره قول
الرسول صلى الله عليه وسلم فحصل الالتئام بغير تضاد فيه ولا اختلاف ثم لا
يعلم عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى ابن عباس على حمئة
والأكثر منهم على حامية وروي في العين التي تغرب فيها الشمس الحرارة
والحمأة جميعا فكانا من صفاتها فمن قرأ حامية وصفها بإحدى صفاتها ومن قرأ
حمئة وصفها بصفتها الأخرى وذلك واسع غير ضيق.
(2/181)
سورة الأنبياء
عن ابن عباس لما نزلت {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}
الآية شق
(2/181)
ذلك على أهل مكة وقالوا: شتم محمد آلهتنا
فجاءهم ابن الزبعري وقال: ادعوه لي فدعى محمد قال: يا محمد هذا شيء لآلهتنا
خاصة أم لكل من عبد من دون الله قال: بل لكل من عبد من دون الله؟ فقال:
خصمناه ورب الكعبة يا محمد ألست تزعم أن عيسى عبد صالح؟ وعزيرا كذلك
والملائكة صالحون؟ قال: بلى قال: فهذه النصارى تعبد عيسى واليهود تعبد
عزيرا وهذه بنو مليح يعبدون الملائكة قال: فضج أهل مكة فنزلت: {إِنَّ
الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا
مُبْعَدُونَ} ونزلت: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا
قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} وهو الضجيج.
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقريش: "يا معشر قريش لا خير
مع أحد يعبد من دون الله" فقالوا: ألست تزعم أن عيسى كان نبيا وكان عبدا
صالحا؟ فأنزل: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ
مِنْهُ يَصِدُّونَ- وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} خروج عيسى ابن مريم
قبل يوم القيامة هكذا قال لعلم بالفتح وضجيج المشركين عند نزولها وهم أهل
فصاحة يدل على أن ما قد تستعمل في بني آدم وإن كان من أكثر استعمالا ومن
ذلك قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ} وقوله تعالى: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} يعني: آدم وما ولد
وقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ} وعلم أن الأولى قراءة {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} بكسر
الصاد وهو الضجيج وبالضم من الصدود ولو كانت منه لكانت إذا قومك عنه يصدون
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَصُدُّوا
عَنِ السَّبِيلِ} وهو كثير في القرآن.
وعن ابن عباس إنكار هذه القراءة وقال: إنما هي لحن وإنما هي يصدون يضجون
وعن علي {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} الآية نزلت
في عثمان وأصحابه أو قال عثمان منهم يعني أن عثمان ممن سبقت له الحسنى
المذكورة لأنها نزلت فيمن سبقت لهم الحسنى من الله وعثمان وأصحابه منهم
قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ} الآية الذكر المراد هنا
هو المكتوب قبل خلق السماوات
(2/182)
وإن الأشياء المذكورة بعده هي ما سواه من
التوراة والإنجيل والقرآن.
وعن سعيد بن جبير أنه قال: الزبور والتوراة والإنجيل والذكر الذي في السماء
أصل هذه الكتب والأرض أرض الجنة يرثها عبادي الصالحون.
وعنه الزبور القرآن والذكر التوراة والأرض الجنة.
وعن عامر كتبنا في الزبور قال: زبور داود من بعد الذكر وهو ذكر موسى
التوراة وعن مجاهد الزبور الكتاب عند الله والأرض أرض الجنة.
يؤيد ما قلنا أولا عن عمران بن حصين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أقبلوا البشرى يا بني تميم" قالوا: قبلنا فأعطنا قال: "أقبلوا البشرى يا
أهل اليمن" قلنا: قد قبلنا فأخبرنا عن أول الأمر كيف كان؟ قال: "كان الله
قبل كل شيء وكان عرشه على الماء وكتب في اللوح ذكر كل شيء" - الحديث وله
طرق في بعضها ثم كتب في الذكر كل شيء ثم خلق السماوات والأرض.
وأهل اللغة يقولون: الذكر القرآن ويحتجون بقوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي
الذِّكْرِ} وبقوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ} ويقوله تعالى:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ، وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا
يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} وعلى هذا معنى
من بعد الذكر أي من قبل الذكر لأن حروف الخفض تعاقب بعضها بعضا وذلك موجود
في كلام العرب إلا أن الذي ذكرنا أولا دل عليه حديث صحيح أولى بتأويل الآية
مما قالوا: إذ لا ضرورة توجب حمل الأمر عليه.
(2/183)
سورة المؤمنون
...
المؤمنون
عن عمر بن الخطاب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه
الوحي سمع عنده دوي كدوي النحل فمكثنا ساعة فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال:
"اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا
تؤثر علينا وارضنا وارض عنا" ثم قال: لقد أنزلت علي عشر آيات من أقامهن دخل
الجنة ثم قرأ {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} الآيات. يحتمل أن يكون
(2/183)
هذا قبل فرض رمضان وفرض الحج على من فرضه
الله عليه فكان من جاء بغيرهما مستحقا للوعد المذكور فلما فرضا عاد الوعد
إلى من أدى جميع الفرائض التي منها صوم رمضان والحج.
(2/184)
النور
عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينكح الزاني إلا
مجلودا مثله" وهذا في مجلود في الزنا مقيم عليه لا على النازع عنه لأن وصفه
إياه بالجلد وصف له بحال هو فيها مذموم لأن الجلد كفارة فذمه بذلك بعد
الجلد يدفع أن يكون كفارة له إذ كان مقيما على ما يوجب مثله وروي مرفوعا
الزاني لا ينكح إلا زانية مثله والمجلود لا ينكح إلا مجلودة مثله فيه زيادة
على الأول وهو لا يتزوج الزاني إلا زانية ومعناه أيضا على الزانيين
المقيمين على الأحوال المذمومة لا على زانيين جلد كل واحد منهما في زناه
جلدا يكون كفارة له بنزوعه عنه وتوبته منه والمعقول من قصده إلى ذمه بالجلد
ذمه بالزنا الذي كان جلد فيه وروي أن مرثدا لما أراد نكاح عناق استأذن
النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وكانت بغيا فسكت حتى نزلت: {الزَّانِي لا
يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} الآية فنهاه عن ذلك.
وعن ابن عمر كن نساء بغايا كان الرجل يتزوج المرأة منهن لتنفق عليه منهن أم
مهزول1 فاحتمل أن يكون ما في آثار الأول هو على الرجل ينكح لهذا المعنى
الذي يطلق لها الزنا لما يصل إليه بذلك من النفع فسمى زانيا لما كان سببا
كنحو ما روي مرفوعا أيما امرأة استعطرت ومرت على قوم ليجدوا ريحها فهي
زانية وكل عين زانية.
__________
1 هكذا في سنن البيهقي 7/153 وغيره ووقع في الأصل "أم مهرور" كذا- ح.
(2/184)
الفرقان
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن على سبعة أحرف أيها
(2/184)
قرأت أصبت أو قال: اقرأوا ولا حرج غير أن
لا تجمعوا بين ذكر رحمة بعذاب ولا ذكر عذاب برحمة وقال فلا تماروا في
القرآن فإن المراء فيه كفر وقال: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} " ذهب
قوم إلى أن السبعة الأحرف هي سبعة أنحاء كل نحو منها جزء من القرآن كقوله:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} فإنه صنف من الأصناف
التي يعبد الله عليها فمنها ما هو محمود ومنها ما هو على خلافه فمن ذلك
الأحرف حرف زاجر وأمرو وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال قيل هذا فاسد لأنه
روي عن أبي بن كعب أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: اقرأ على
حرف واحد فاستزاده فقال: اقرأ على حرفين، فقد علمنا أن الحرف الذي أمره أن
يقرأ عليه محال أن يكون حراما لا سواه أو يكون حلالا لا سواه.
وعن ابن مسعود كان الكتاب الأول نزل من باب واحد على حرف واحد ونزل القرآن
من سبعة أبواب على سبعة أحرف زاجر وأمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال
فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وافعلوا ما أمرتم وانتهوا عما نهيتم عنه
واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه وقولوا آمنا به كل من عند
ربنا وقيل: سبعة أحرف سبع لغات لأن منه المعرب مثل طور سيناء.
قال الطحاوي: تأملنا فوجدنا قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ
إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} وهم قريش وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ: ما
ينزل عليه على أهل ذلك اللسان وعلى غيرهم من أهل الألسن كالفارسي وغيره
وكان يشق عليهم حفظ ما يقرأه عليهم بحروفه التي يقرأها بها عليهم ولا يتهيأ
لهم كتابة ذلك وتحفظهم إياه لما عليهم من المشقة في ذلك مع أنهم أهل لسانه
وكانوا محتاجين إلى حفظ ما قد تلى عليهم ليقرؤه في صلاتهم وليتعلموا به
شرائع دينهم فوسع عليهم ذلك أن يتلوه بمعانيه وإن خالفت ألفاظهم التي
يتلونه بها ألفاظ نبيهم دل عليه اختلاف عمر مع هشام بن حكيم وهما قرشيان
لسانهما واحد في قراءة آية من سورة الفرقان فقرأها على رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: "هكذا أنزلت
(2/185)
هكذا أنزلت أن هذا القرآن أنزل على سبعة
أحرف {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} .
واختلافها إنما كان في ألفاظه لا في الحلال والحرام والأمر والنهي كقول
الرجل أقبل وتعال وأدن وشبهه يؤكده ما روي أن أبي بن كعب قال: ماحك في نفسي
منذ أسلمت شيء إلا أني قرأت آية وقرأها غيري فقال: أقرأنيها رسول الله صلى
الله عليه وسلم فأتيناه فقلت: يا رسول الله اقرأتني آية كذا كذا قال: "نعم"
وقال صاحبي: اقرأتنيها كذا قال: "نعم أتاني جبريل وميكائيل فجلس جبريل عن
يميني وجلس ميكائيل عن يساري فقال: اقرأ القرآن على حرف وقال: ميكائيل
استزده فقال: اقرأ القرآن على حرفين حتى بلغ سبعة أحرف كل كاف شاف".
وفي رواية ليس منها إلا شاف كاف قلت غفورا رحيما أو قلت سميعا حليما أو
عليما حكيما أوعزيزا حكيما أي ذلك قلت فإنه كذلك ما لم تختم عذابا برحمة أو
رحمة بعذاب فبان أن ذلك توسعة من الله لضرورتهم إلى ذلك وحاجتهم إليه حتى
كثر من يكتب وعادت لغاتهم إلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فحفظوا
القرآن بألفاظه التي نزل بها فلم يسعهم حينئذ أن يقرؤه بخلافها إذ كانت
التوسعة في السبعة الأحرف في وقت خاص لضرورة دعت إلى ذلك فارتفع حكم هذه
السبعة الأحرف بارتفاع تلك الضرورة وعاد ما يقرأ به القرآن إلى حرف واحد
ومما يدل على عود التلاوة إلى حرف واحد بعد ما كانت على الأحرف السبعة ما
كان من أبي بكر في جمعه القرآن واكتتابه بمشورة عمر ومن حضر من الصحابة ومن
متابعة عثمان إياهما على ذلك ثم تابعهم على ذلك زيد بن ثابت كاتب الوحي
وجميع الصحابة فصارا إجماعا والنقل بالإجماع هو الحجة التي بمثلها نقل
الإسلام إلينا حتى علمنا شرائعه وعاد ذلك إلى أن من كفر بحرف منه كان كافرا
حلال الدم إلى أن يرجع إلى ما عليه الجماعة بخلاف حكم الأخبار التي يرويها
الآحاد مما يخالف شيئا مما في المصحف الذي ذكرنا في أنه لا يكون كافرا من
كفر بما جاءت به.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل
(2/186)
آية منها ظهر وبطن. ظهر الآية ما يظهر من
معناها وبطنها هو ما يبطن من معناها فعلى الناس طلب باطنها كما عليهم طلب
ظاهرها ليقفوا بذلك على ما تعبدهم الله تعالى من حلال أو حرام.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن على ثلاثة أحرف" قيل: هو قول:
يقال ويقين يوقن به وعمل يعمل به والأولى أن يقال: لما قال له جبريل: اقرأ
علي حرف وقال له ميكائيل: استزده فقال: اقرأ على حرفين فاستزاده حتى بلغ
ثلاثة أحرف أعلم الناس بذلك فسمعه من حدث عنه ولم يسمع الزيادة وسمع ذلك
غيره إلى سبعة أحرف فحدث به فكان من سمع حجة على من لم يسمع.
عن أبي ظبيان قال لي ابن عباس: على أي القراءتين تقرأ؟ قلت: على القراءة
الأولى قراءة ابن مسعود قال: بل قراءة ابن مسعود هي الآخرة أن جبريل كان
يعرض على نبي الله القرآن في كل رمضان فلما كان العام الذي قبض فيه عرضه
مرتين فشهد عبد الله ما نسخ منه وما بدل والقراءة التي لا يختلف خطها
باختلافها مثل: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} فتثبتوا
{إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} {كَيْفَ
نُنْشِزُهَا} {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} ولنثوبنهم وما أشبه ذلك
مما في القرآن كثير فإنه قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم على الناس كما
أنزل ثم نزل عند عرض القرآن على جبريل فقرأه أيضا على ما أنزل فحضر الثانية
من غاب عن القراءة الأولى وغاب عن الثانية من حضر الأولى فلزم كل فريق منهم
قراءته التي سمع من النبي صلى الله عليه وسلم وكان محمودا على ذلك إذ هي
كلها من عند الله إذ ليس في المصحف شكل ولا نقط لأنهم تركوا ذلك مخافة أن
يخلطوا بكتاب الله غيره حتى كره كثير منهم كتابة فواتح السور والتعشير
والتخميس واروهم1 حجة وهذا كمثل ما كان في الأحكام مما نسخه الله تعالى على
لسان نبيه بعد ذلك بما نسخه فوقف بعض الصحابة على الحكم الأول وغاب عن
الثاني ووقف بعضهم عن الثاني وغاب عن الأول فكان فرض كل فريق منهم الذي
تعبد به ما وقف عليه لما لم يسمع خلافه.
__________
1 كذا.
(2/187)
عن أنس أن رجلا كان يكتب بين يدي رسول الله
صلى الله عليه وسلم قد قرأ البقرة وآل عمران وكان الرجل إذا قرأ البقرة وآل
عمران جد فينا وكان النبي صلى الله عليه وسلم يملي عليه غفورا رحيما فكتب
عليما حكيما فيقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أكتب كذا وكذا؟ فيقول: "نعم
اكتب كيف شئت" ويملي عليه عليما حكيما فيقول: سميعا بصيرا فيقول له النبي:
"اكتب كيف شئت" فهو كذلك فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين وقال: أنا أعلمكم
بمحمد إن كان ليكل الأمر إلي حتى اكتب ما شئت فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه
وسلم فقال: "أن الأرض لن تقبله" فأخبرني أبو طلحة: أنه رأى الأرض التي مات
بها فوجده منبوذا قال أبو طلحة: ما شأن هذا؟ قالوا: إنا دفناه مرارا فلم
تقبله الأرض.
ليس في الحديث خلاف لما قلنا من أن السبعة الأحرف إنما أطلقت للناس للضرورة
إلى ذلك والعجز منهم عن حفظ الحروف بعينها وأنه لا يسع لنا أن نقرأ شيئا من
القرآن بخلاف الألفاظ التي فيها وإن كان معناها معنى ما فيها لأنه يحتمل أن
يكون ذلك الكتاب الذي أمره بالكتابة إنما هو كتابه إلى الناس في دعائهم إلى
التوحيد وتعليم الشرائع ولم يكن الرجل من قريش ولا من الأنصار وإنما كان
نصرانيا أسلم وكان يقول ما يقرأ محمد إلا ما كتبت له وليس في قوله ما يقرأ
دليل على أنه قرآن وليس كل مقروء {قرآنا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى
بِنَفْسِكَ، فَأُولَئِكَ يَقْرَأُونَ كِتَابَهُمْ- فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ
كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} الآية وكذا لا يلزم أنه كان يقرأ بنفسه ولكن كان
يأمر به فيقرأ عليه ليعلم الناس فيعلموا ما فيه قبل أن ينفذه إلى من يريد
إنفاذه إليه.
عن عطية العوفي قال: قرأت على عبد الله بن عمر {خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ
ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ
ضَعْفاً} فرد على {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ
مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً} ثم
قال قرأت على رسول الله صلى الله عيه وسلم كما قرأت علي فرد علي كما رددت
عليك
(2/188)
والأولى قراءة الرسول وإن كان القراء قد
اختلفوا في قراءته على الوجهين المذكورين وكان ذلك واسعا ويحمل أن يكون سبب
الاختلاف ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن على
الناس فيأخذونه عنه كما يقرأه عليهم ثم يعرض القرآن على جبريل فيبدل من ذلك
ما يبدل فيكون أحد المعنيين قد لحقه التبديل فاتسعت القراءة بالوجهين جميعا
لأنهم لم يقرؤها إلا من حيث جاز لهم قراءتها وإن كان الأولى منهما هو
المأثور.
(2/189)
العنكبوت
عن أبي هريرة قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: أن فلانا يصلي الليل كله فإذا
أصبح سرق فقال: "سينهاه ما يقول" أو قال: "ستمنعه صلاته" قال تعالى: {إِنَّ
الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} أي: أنها تنهى عن
أضدادها أن يأتيها على الوجه المأمور به لأن الله تعالى سيتفضل على هذا
المصلي بالتوبة عن السرقة ورد ما سرق إلى أهله حتى يلقاه يوم يلقاه ولا
تبعة قبله تمنعه من دخول جنته.
(2/189)
الروم
عن ابن عباس كان المشركون يحبون أن يظهر فارس على الروم لأنهم أهل أوثان
فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أنهم سيهزمون" فذكر أبو
بكر لهم فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلا فإن ظهروا كان لك كذا وكذا وإن ظهر
فارس كان لنا كذا وكذا فجعل بينهم أجلا خمس سنين فلم يظهروا فذكر ذلك أبو
بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا جعلته دون العشرة لأن البضع ما
دون العشرة" قال: فظهرت الروم بعد ذلك فذلك قوله تعالى: {الم غُلِبَتِ
الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} الآية قال: فغلبت الروم ثم غلبت بعد ذلك
فقال: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ
الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} قال سفيان: سمعت أنهم ظهروا عليهم يوم
بدر.
(2/189)
وروي لما أنزل {غُلِبَتِ الرُّومُ} لقي أبو
بكر رجالا من المشركين فقال: إن أهل الكتاب سيغلبون على فارس قالوا: في كم؟
قال: في بضع سنين قال ثم خاطر بينهم خطرا فجاء أبو بكر فأخبر رسول الله صلى
الله عليه وسلم بذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإن ما دون
العشرة من البضع" وكان ظهور فارس على الروم لسبع سنين ثم أظهر الله الروم
على فارس زمن الحديبية ففرح المسلمون بظهور أهل الكتاب وظهور المسلمين بعد
الحديبية.
في قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: "ما دون العشرة من البضع" يفهم
منه أن نهاية البضع دون العشرة يعني: ما بينه وبين ثلاث لأن أقل البضع ثلاث
فإنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر لما أخبره بذلك: "ألا احتطت فإن
البضع ما بين الثلاث إلى التسع" ويدل عليه أن أبا بكر لما أخبرهم بما أنزل
الله قالوا له: نبايعك على أن الروم لا تغلب فأرسا وكانت فارس قد غلبت
الروم فقال لهم أبو بكر: البضع ما بين الثلاث إلى التسع فقالوا: الوسط من
ذلك ست لا أقل ولا أكثر فوضعوا الرهان وذلك قبل تحريم القمار فانقلب أبو
بكر إلى أصحابه فأخبرهم الخبر فقالوا: بئس ما صنعت ألا أقررت بها على ما
قال الله لو شاء الله أن يقول ستا لقال فلما كانت سنة ست لم يظهر الروم على
فارس فأخذوا الرهان فلما كانت سنة سبع ظهر الروم على فارس فذلك قوله:
{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} فليس في قول
النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن ما دون العشرة من البضع" بخلاف لقوله في
الحديث الثاني: "فإن البضع ما بين الثلاث إلى التسع" ولا لقول أبي بكر الذي
ذكرنا وقد روي عن أبي عبيدة أن البضع: ما بين الواحد إلى الأربعة والصحيح
أن أقل البضع ثلاثة لا أقل منها إلى تسعة لا أكثر منها وقال الخليل: البضع
من العدد ما بين الثلاث إلى العشر.
قال الطحاوي: اتفق أهل اللغة على أن البضع يذكر ويؤنث
(2/190)
فيقال: بضع كما قال: في بضع سنين ويقال:
بضعة أيام فعلم أن البضع عدد يختلف فيه التذكير والتأنيث ولا يكون ذلك من
العدد في أقل من ثلاثة.
(2/191)
الأحزاب
عن ابن عباس {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}
قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي يوما فخطر خطرة فقال المنافقون
الذين يصلون معه: ألا ترون أن له قلبين قلبا معكم وقلبا معهم فأنزل الله
تعالى هذه الآية وعن مجاهد نزلت في رجل قال: في جوفي قلبين أعقل بكل واحد
منهما أفضل من عقل محمد، وكذب، وقيل: نزلت في رجل كان يقال له: ذو قلبين في
الجاهلية وعن الحسن كان الرجل يقول: أمرتني نفسي بكذا فأنزل الله تعالى:
{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} وأول
التأويلات أولى بها لا سيما وقد دخل في المسند برد رواته إياه إلى ابن
عباس.
(2/191)
سبأ
عن ابن عباس سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبأ ما هو؟ فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "هو رجل ولد له عشر قبائل فسكن اليمن ستة والشام
أربعة فأما اليمانون فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحمير والشاميون
فلخم وجذام وعاملة وغسان".
وعن فروة بن مسيك قلت: يا رسول الله ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن أقبل
منهم؟ قال: "بلى" ثم بدا لي فقلت: يا رسول الله لا بل أهل سبأ فهم أعز وأشد
فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذن لي في قتال سبأ فلما خرجت من
عنده أنزل الله في سبأ ما أنزل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما فعل
الغطفاني" 1 فأرسل إلى منزلي فوجدني قد سرت فردني فلما أتيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأصحابه قال: "ادع القوم فمن أجابك منهم فأقبل ومن لم يجب
فلا تعجل عليه حتى تحدث إلي" فقال رجل: يا رسول الله من القوم
__________
1 والصواب "القطيفي" ح.
(2/191)
وما سبأ أرض هي أم امرأة. فقال: "ليست بأرض
ولا بامرأة ولكنه رجل ولد عشرة من العربة فأما ستة فتيامنوا وأما أربعة
فتشاءموا فأما الذين تشاءموا لخم وجذام وغسان وعاملة وأما الذين تيامنوا
فالأزد وكندة وحمير والأشعريون وأنمار ومذحج" فقال: يا رسول الله وما
أنمار؟ قال: "هم الذين منهم خثعم".
في قوله: لا بل أهل سبأ علم به أن سبأ أرض فيها المنتسبون إليها يؤكده قوله
تعالى: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} واحتمل ان يكون سميت سبأ
كما سميت القبائل في البلدان فقيل: همدان للقبيلة التي نزلتها همدان ومراد
للقبيلة التي نزلتها مراد وكذا حمير وغيره فيحتمل أن يكون قيل: سبأ للقبيلة
التي نزلتها من يرجع نسبته إلى سبأ فإن كان أرضا وجب أن لا ينصرف وإن كان
لسكانها فكذلك لأنهم قبيلة فيقرأ {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ} لا سبأ وقيل: أن
من نون جعله أبا للقبيلة ومن لم ينون جعلها أرضا.
(2/192)
حم فصلت
عن ابن مسعود اني لمستند بأستار الكعبة إذ جاء ثلاثة نفر ثقفي وقرشيان كثير
شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم فقال أحدهم: أترى الله يسمع ما قلنا؟ فقال
أحدهم: أراه يسمع إذا رفعنا ولا يسمع إذا خفضنا وقال الآخر: إن كان يسمع
منه شيئا إنه ليسمعه كله فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل
الله عز وجل: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ
سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} إلى {الْمُعْتَبِينَ} .
قيل سياق الآية {وهو وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ}
إلى قوله: {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ثم قال توبيخا: {وَمَا كُنْتُمْ
تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ} الآية ينافي صحة ما في الحديث لأن
ذلك كله في الآخرة.
قلنا: يحتمل أن الله تعالى أنزل على رسوله في الحين الذي ذكر ابن مسعود ما
ذكره له أولائك الجهال {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} الآية توبيخا لهم
(2/192)
وإعلاما من الله إياهم بذلك ثم أنزل
{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ} الآية فجعل صلى الله
عليه وسلم ذلك في المكان الذي يعلمه فيه مما هو شكل له ووصله به إذ كان ذلك
كله مما يخاطب به أهل النار.
(2/193)
الأحقاف
عن عامر بن سعد عن أبيه ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي
على الأرض أنه من أهل الجنة: إلا لعبد الله بن سلام وفيه نزلت: {وَشَهِدَ
شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ}
لا حجة فيه على من نفى كون الآية فيه كالشعبي وابن جبير لأن السورة مكية
وإسلام عبد الله متأخر قبل وفاة النبي بعامين كما نفى كون {قُلْ كَفَى
بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ
الْكِتَابِ} مؤولا فيه إذ ليس ذكر النزول فيه من كلام النبي صلى الله عليه
وسلم ولا من كلام سعد بن أبي وقاص والحق أن الآية قد تنزل بالمدينة فتوضع
في سورة مكية ألا ترى أن المصريين قالوا لعبد الله بن سلام لما حذرهم من
قتل عثمان: كذب اليهودي كذب اليهودي فقال كذبتم: والله وأثمتم ما أنا
بيهودي، وإني لأحد المؤمنين يعلم الله ذلك ورسوله والمؤمنون وقد أنزل الله
في: {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} الآية والآية الأخرى
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ
وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ} وأخبار
عبد الله بذلك أولى إذ كان أعلم بما أنزل فيه.
(2/193)
القتال
عن ابن عمر قال: كنا معاشر الصحابة نرى أنه ليس من حسناتنا مقبول1 حتى
نزلت: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا
أَعْمَالَكُمْ} فقلنا: ما هذا المبطل فقلنا الكبائر الموجبات والفواحش حتى
نزلت {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ
ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فلما نزلت كففنا عن القول وكنا نخاف
__________
1 هكذا في الأصل ولعله غير مقبول- ح.
(2/193)
على من أصاب الكبائر ونرجو لمن لم يصبها.
فيه أن معتقد الصحابة كان قبل نزول الآية أن صاحب الكبيرة لا تقبل منه
الحسنات بعد ذلك واعتقدوا بعد النزول أنه قد يغفر لأهل الكبائر إذ كانوا لا
يشركون به شيئا.
عن أبي هريرة لما نزلت {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً
غَيْرَكُمْ} الآية قالوا: من هم يا رسول الله وسلمان إلى جنبه؟ فقال: "هم
الفرس هذا وقومه".
وفي رواية: "والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لنا له رجال من فارس"
- الخطاب وإن كان للصحابة لكن المقصود غيرهم لأنهم لم يتولوا بحمد الله وهو
مثل قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} وقد علم الله
أن ذلك لا يكون منه لأنه المعصوم على الإطلاق فكان المراد بالوعيد غيره
وفيه أنه إذا كان الوعيد يلحقه مع منزلته العظيمة لو كان منه شرك فلحوقه
بغيره أولى وهو به أحرى ومثله {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ
الْأَقَاوِيلِ} الآية الوتين نياط القلب وقد علم أن ذلك لا يكون منه ولو
كان لحل به الوعيد فإذا كان منهم يكون الحلول والوقوع بهم أولى.
(2/194)
الطور
عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله ليرفع ذرية
المؤمن معه في جنته وإن لم يبلغها ليقربهم عينه" ثم قرأ: {وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ
ذُرِّيَّتَهُمْ} أوقفه بعضهم على ابن عباس ولا يعلم مثل هذا إلا توقيفا
وإذا دخل غير النبي صلى الله عليه وسلم من المؤمنين في عموم الآية فالنبي
صلى الله عليه وسلم أدخل فيها منهم وهو في إلحاق الله ذريته المتبعة له
بالإيمان لتقر بهم عينه أولى من سائر المؤمنين.
(2/194)
سورة الواقعة
عن أبي هريرة لما نزلت: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ
الْآخِرِينَ} شق
(2/194)
ذلك على المسلمين فنزلت: {ثُلَّةٌ مِنَ
الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:
"إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة شطر أهل الجنة" وقال مرة: نصف أهل
الجنة وتقاسمونهم النصف الباقي.
لما تأملنا وجدنا الآية الأولى في السابقين المقربين بما تقدمها وهم أعلى
رتبة من أصحاب اليمين وهم أول لأنهم بعض أصحاب اليمين فأخبر في كتابه أن
المقربين ثلة من الأولين يعني ممن تقدمهم من أمم الأنبياء وقليل من الآخرين
يعني من أمة نبينا وإن أصحاب اليمين ثلة من الأولين وثلة من الآخرين يؤكده
قوله في آخر السورة {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ
وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ
الْيَمِينِ} فهما غير أن وهما من أهل الجنة إلا أن المقربين أعلى من في
الجنة وارفع رتبة فيها وإنما فرح الصحابة لما علموا بالآية الثانية أن من
الجنة سوى المقربين وهم أصحاب اليمين دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:
"إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة" ثم قال: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ
وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} ثم تفضل الله بأن جعلهم ثلثي أهل الجنة على ما
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أهل الجنة مائة وعشرون صفا هذه الأمة
منها ثمانون صفا" -
قال أبو الوليد: ويحتمل أن يكونوا ثلاثة أرباع أهل الجنة على ما في هذا
الحديث من قوله وقال مرة: نصف أهل الجنة وتقاسمونهم النصف الآخر فثلاثة
أرباع أهل الجنة أمة نبينا وربعهم أمم سائر الأنبياء وهم في الكافرين
كالشعرة السوداء في الثور الأبيض على ما ورد مرفوعا عن علي بن أبي طالب عن
النبي صلى الله عليه وسلم {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ
تُكَذِّبُونَ} قال: "ما شأنكم تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا". وكان قولهم
كفرا فأنزل الله وتجعلون شكركم على ما أنزلت عليكم من الرزق والغيث إنكم
تكذبون تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا.
(2/195)
وعن ابن عباس وتجعلون شكركم مكان رزقكم1
كما تقول العرب: زرتك لتكرمني فجعلت زيارتي إياك أنك استخففت بي أي جعلت
ثوابها الاستخفاف فمثله جعلهم الشكر لما كان منه إليهم التكذيب.
وعن الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو حبس الله القطر عن
الناس سبع سنين ثم أرسله لأصبح قوم كافرين يقولون: مطرنا بنوء المجدح" أي:
كافرين بنعمة الله وهذا مثل قوله: "واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها
النساء بكفرهن قيل: أيكفرن بالله؟ قال: "لا. يكفرن الإحسان ويكفرن العشير
لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط".
__________
1 أي أنه قرأ "تجعلون شكركم" لم يقرأ {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} هذا منقول
في كتب التفسير والقراءة- ح.
(2/196)
فنزلت آية التخيير {عَسَى رَبُّهُ إِنْ
طَلَّقَكُنَّ} إلى قوله: {ظَهِيرٍ} ونزلت في {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ
مِنَ الْأَمْنِ} إلى قوله: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ
مِنْهُمْ} فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر وأنزل الله التخيير فيه. أخبار عمر
بأنه المستنبط لما ذكره في الحديث وإن المستنبطين في الآية هم أولوا الخير
والعلم الذين تؤخذ عنهم أمور الدين.
وعن جابر وأولوا الأمر، قال: أولوا الخير، وعن جماعة من السلف أنهم قالوا:
أولوا الفقه والخير، وليس بخلاف لما روي عن ابن عباس في، وأولي الأمر منكم
ما أنها نزلت في عبد الله بن حذافة إذ بعثه صلى الله عليه وسلم في السرية
إذ كان من أهل الخير والصحبة ومن أهل الفقه ولولا أنه كذلك لما ولي رسول
الله صلى الله عليه وسلم ما ولاه إياه لله فيه أحكام لا يدركها إلا أهل
الفقه الذين يعلمون أمثالها يدل عليه ما روي عن ابن عباس أولوا الأمر أهل
طاعة الله الذين يعلمون الناس معاني دينهم ويأمرون بالمعروف وينهون عن
المنكر أوجب الله طاعتهم على العباد- وعن أبي هريرة أمراء السرايا فدل أن
أولى الأمر المأمور بطاعتهم من هذه صفتهم أمراء كانوا أو غير أمراء.
(2/197)
التغابن
عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ
أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} قال: هؤلاء
قوم من أهل مكة أسلموا فأبى زواجهم وأولادهم أن يدعوهم فهاجروا فلما قدموا
المدينة فرأوا الناس قد تفقهوا في الدين هموا أن يعاقبوهم فنزلت هذه الآية
{وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا} الآية فيه أنه لا يحل طاعة
زوجة ولا ولد في صد عن طاعة الله ومن حاول ذلك منهم عدو لهم وأمرهم بالعفو
إذ كانت عقوباتهم لا يستدركون بها شيئا قد فات.
(2/196)
التحريم
عن عمر بن الخطاب حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على نسائه أن لا يدخل
عليهن شهرا قال: قلت: يا رسول الله: "إن كنت طلقتهن فإن الله وملائكته
وجبريل وميكائيل معك وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك وقلما تكلمت وأحمد الله
بكلام إلا رجوت أن يكون الله تعالى يصدق قولي".
(2/196)
الجن
روي مرفوعا أن الشهب التي أرسلت على مستمعي السمع عند المبعث لم تكن قبل
ذلك.
عن ابن عباس كان الجن يصعدون السماء فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا
باطلا فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم فذكروا ذلك
لإبليس ولم تكن النجوم يرمي بها فقال لهم إبليس: ما هذا إلا من حدث فبعث
جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يصلي بين جبلي قال: أراه
بمكة فأتوه فأخبروه فقال: هذا الذي حدث في الأرض.
وعن ابن عباس عن رجال من الأنصار أنهم بينا هم جلوس ليلة مع رسول الله صلى
الله رمى بنجم فاستنار فقال لهم رسول الله صلى الله
(2/197)
عليه وسلم: "ما كنتم تقولون في الجاهلية
إذا رمى بمثل هذا"؟ قالوا: كنا نقول ولد الليلة عظيم أو مات عظيم قال رسول
الله صلى الله عيه وسلم: "فإنها لا ترمي بموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا
تبارك اسمه إذا قضى أمرا سبح حملة العرش ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم
حتى يبلغ التسبيح أهل السماء الدنيا ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة
العرش ما قال ربكم فيخبرونهم فيستخبر أهل السماوات بعضهم بعضا حتى يبلغ
الخبر هذا السماء فتخطف الجن فيلقونه إلى أوليائهم ويروون فما جاؤابه على
وجهه فهو حق ولكنهم يكذبون فيه ويزيدون".
يحتمل أنه كان في الجاهلية الرمي في وقت خاص وبعد مبعث النبي صلى الله عليه
وسلم عم الأوقات كلها يدل عليه قوله تعالى في إخباره عن الجن بقولهم:
{وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} الآية أي: أنه لا
نستطيع مثل ما كان نستطيعه قبل ذلك من الاستماع مع الشهب التي حدثت ومن ذلك
قوله: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ}
إلى قوله: {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ
وَاصِبٌ} أي: أنهم مدحورون ممنوعون من ذلك الواصب الدائم أي أنه غير منقطع
وكله بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم والحق أن ما كان قبل المبعث لم يكن
لقطع المعاودة وكان بعد مبعثه كان يمنعهم بالكلية لا يقال: روت عائشة سأل
ناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان؟ فقال: "ليسوا بشيء" قالوا:
فإنهم يخبروننا بالشيء أحيانا يكون حقا فقال: "تلك الكلمة من الحق يخطفها
الجن فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة فيزيدون فيها أكثر من مائة كذبة" وهو
مخالف لما قلتم لأن هذا منسوخ1 بما كان بعده من حديث ابن عباس عن رجال من
الأنصار.
__________
1 في دعوى نسخه إشكال قوي لأن المقرر عند الأصوليين أن الأخبار لا يجوز
عليها النسخ وإنما ينسخ الأمر والنهي وما في معناهما من الإنشاءات- ح.
(2/198)
وقال القاضي: وفيه نظر إذ لا تعارض بين
حديث ابن عباس بأن الشهب كان يرمي بها في الجاهلية وبين حديث عائشة أن الجن
قد تخطف الكلمة من الحق بعد المبعث مع شدة الحرص وكثرة الشهب المرصدة دل
عليه قوله: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ}
إلا بأن يؤل أن الجن لا تصل إلى شيء من خبر السماء بعد المبعث بخلاف ما
كانت تصل إليه من قبل والحق أن الشهب قد كان يرمي بها قبل البعث إلا أن ذلك
كان في وقت خاص وكان للجن مقاعد معه يسترقون السمع منها فلما بعث الله نبيه
صلى الله عليه وسلم عم الأوقات كلها وملأ السماء حرسا وجعل لكل من يسترق
السمع من الجن شهابا رصدا فحال ذلك بينهم وبين ما كانوا يصلون إليه من خبر
السماء إلا أن يخطف أحدهم الخطفة فيتبعه شهاب ثاقب كما أخبر الله في كتابه
وكما في حديث عائشة المذكور.
(2/199)
المدثر
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن
وأصغى سمعه وحتى جبهته ينتظر متى يؤمر بنفخ فينفخ قالوا: يا رسول الله كيف
نقول؟ قال: "قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله نتوكل".
وعن ابن عباس {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن". فيه أن الصور ينفخ فيه
وعن ابن عمر أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما الصور؟ قال: "قرن
ينفخ فيه". فوافق ذلك ما في الآثار قبله قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ
فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} فدل ذلك على
أن النفخ في الصور أعاد إليهم أرواحهم حتى عادوا ينسلون بعدما كانوا موتى
لا أرواح لهم ويكون النفخ سببا لعود أرواحهم إليهم وأما أهل اللغة منهم أبو
عبيدة يقول: الصور جمع صورة مثل سورة وسور وقال جرير.
(2/199)
لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة
والجبال الخشع
قال الفراء: يقال أن الصور قرن ويقال جمع الصورة والله أعلم قوله تعالى:
{يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ} {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ} يدل
على أن النفخ كان وهم أحياء فماتوا بذلك وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
"لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون يوم القيامة" الحديث، وأما قوله
تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى
رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} يحتمل أن يكون جمع صورة لأن المنفوخ فيهم حينئذ
كانوا موتى فنفخ فيهم الروح والله أعلم.
(2/200)
سورة التكوير
في قوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} يقرأ بالضاد والظاء
واختلف عن ابن عباس الروايات فروى عطاء عنه قراءة ظنين ومجاهد عنه ضنين
والأولى قراءة الضاد لأن نجله بالغيب كان منفيا وكان قومه يظنونه أني كتم
عنهم من الوحي ما هو أرفق لهم فنزلت {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} و {يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} الآية
قالت عائشة أعظم الفرية على الله ثلاثة من قال أن محمد رأى ربه وأن محمدا
كتم شيئا من الوحي وأن محمدا يعلم ما في غد.
وقيل: أن كل عالم لا يجب أن يعلم كل علمه غيره فأخبر الله تعالى أنه صلى
الله عليه وسلم فيما أعلمه بخلاف ذلك وأن معه من الفضل ما يتجاوز به علم كل
العلماء ومن قرأ بالظاء نفي عنه أن يكون متهما في ذلك وقد كان صلى الله
عليه وسلم غير متهم حتى سمته قومه الأمين لصدق لهجته ألا ترى لما تشاجر
قريش في بناء الكعبة فيمن يضع الحجر فقالوا: أول رجل يدخل من باب المسجد
يضعه فدخل صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذا أمين وكذا في سؤال هرقل لقومه هل
كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فقالوا: لا وفي تسميتهم إياه أمينا
في الجاهلية آثار كثيرة عرفها أهلها في مواضعها وإذا لم يكن عند قومه
الأعداء متهما لم يكن لنفي ذلك وجه والمصاحف كلها كتبت بالضاد والله أعلم.
(2/200)
سورة التكاثر
عن الزبير أنه قال لما نزلت: {لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}
قلنا: يا رسول الله وأي نعيم وإنما هو الأسودان؟ فقال صلى الله عليه وسلم:
"إنه سيكون فيه أن الذي يسأل عنه هو الفاضل عما به قوام أنفسهم وأما مقدار
ما يقوم أنفسهم به فهم غير مسؤولين عنه" يدل عليه ما روي أنه خرج ليلا فمر
بأبي بكر فدعاه فخرج إليه ثم مر بعمر فدعاه فخرج إليه1 ثم انطلق حتى دخل
بعض حوائط الأنصار فقال: "أطعمنا بسرا" فأتاهم بعذق فأكلوا منه وأتاهم بماء
فشربوا فقال صلى الله عليه وسلم: "هذا من النعيم الذي تسئلون عنه" فقال
عمر: أنا لمسؤولون عن هذا؟ قال: "نعم، إلا من ثلاث كسرة يسد بها جوعه وخرقة
يواري بها عورته وحجرة يدخل فيها من الحر والبرد" فأخذ عمر العذق فضرب به
الأرض حتى تناثر البسر وقال: إنا لمسؤولون عن هذا.
__________
1 من مشكل الآثار 1/195.
(2/201)
المعوذتان
عن زر أنه سأل أبي بن كعب عن المعوذتين وقال: إن أخاك ابن مسعود يحكهما من
المصحف فقال أبي: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قيل لي قل فقلت:
فنحن نقول كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم ففي هذا الجواب لا دلالة على
كونهما من القرآن ولا نفيهما عنه ولكن حديث عقبة أنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "أنزلت على آيات لم تنزل علي مثلهن المعوذات" ثم قرأ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 1 يدل على كونهما من القرآن ولم يكن في حديث
أبي ما يخالف ذلك فاتفق جميع ما روي أنهما من القرآن ولا حجة لأحد مع النبي
صلى الله عليه وسلم.
__________
1 كذا وفي مشكل الآثار 1/43- في رواية المعوذات ثم قرأ هي وفي أخرى يعني
المعوذتين وفي أخرى عن عقبة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى لهم
الصبح فقرأ لهم: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
النَّاسِ} وفي أخرى فقال لي: نا عقبة ألا أعلمك من خير سورتين قرأ بهما
الناس ... قال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
الْفَلَقِ} .
(2/201)
|