النتف في الفتاوى

كتاب الْوَقْف
اعْلَم ايدك الله ان الْوَقْف على وَجْهَيْن
احدهما قبل الْوَفَاة
وَالثَّانِي بعد الْوَفَاة
فَالَّذِي بعد الْوَفَاة فَهُوَ جَائِز وَهُوَ من ثلث المَال وَهُوَ وَصِيَّة بِلَا خلاف
واما الَّذِي قبل الْوَفَاة فَهُوَ من جَمِيع المَال وَهُوَ ايضا جَائِز فِي قَول ابي يُوسُف وَمُحَمّد وابي عبد الله وَابْن شبْرمَة والاوزاعي وَابْن ابي ليلى وَالْحسن بن صَالح
وَفِي قَول ابي حنيفَة وَزفر وَالْحسن بن زِيَاد لَا يجوز الا من الطَّبَقَة الاولى
وَمُحَمّد والاوزاعي وَابْن شبْرمَة وَابْن ابي ليلى قَالُوا الْوَقْف جَائِز قبل الْوَفَاة إِذا اخرجه من يَده فاقبضه قيمًا والا لم يجز

(1/523)


وَقَالَ ابو يُوسُف وابو عبد الله وَالشَّافِعِيّ وَاللَّيْث بن سعد وَالثَّوْري وَمُحَمّد بن صَاحب هُوَ جَائِز
وَقَالَ مُحَمَّد ايضا اذا شَرط غلَّة الْوَقْف لنَفسِهِ مَا عَاشَ فَلَا يجوز
وَقَالَ ابو يُوسُف وابو عبد الله جَائِز
الْوَقْف قبل الْوَفَاة
واما الْوَقْف الَّذِي قبل الْوَفَاة فانه على ثَلَاثَة اوجه
اثْنَان مِنْهَا يستوى فِيهَا الاغنياء والفقراء
وَالثَّالِث ينْفَرد فِيهِ الْفُقَرَاء دون الاغنياء
احدها فِي انْقِطَاع مَاله اصل من غير اهلاك عينه وَهُوَ على ثَلَاثَة عشر وَجها
احدها ان يَجْعَل الرجل دَاره وارضه مَسْجِدا لله واشهد على ذَلِك فاذا اذن واقيم فِيهِ الصَّلَاة فِي الْجَمَاعَة فقد صَار مَسْجِدا وَخرج من ملكه فِي قَول الْفُقَهَاء
وَقَالَ الشَّيْخ اذا قَالَ جعلته مَسْجِدا اَوْ كَانَ يقر بذلك فقد صَار مَسْجِدا وان لم يشْهد على ذَلِك وان لم يصل فِيهِ وَلم يُؤذن وَلم تقم فِيهِ الصَّلَاة وافضل ذَلِك ان يبنيها كَمَا يبْنى الْمَسْجِد
وَالثَّانِي ان يَجْعَل ارضه مَقْبرَة للْمُسلمين وَيشْهد على ذَلِك وَيَأْذَن بَان يدفنوا فِيهَا الاموات فاذا دفن وَاحِد اَوْ اكثر صَار بِمَنْزِلَة الْقَبْض وَخرجت من يَده فِي قَول الْفُقَهَاء
وَقَالَ الشَّيْخ هُوَ صَحِيح أَيْضا اذا جعلهَا كَذَلِك وان لم يشْهد وان لم يقبر فِيهَا اُحْدُ
وَالثَّالِث اذا جعل دَاره خَانا فِي الْمصر اَوْ ارضه وبنا عَلَيْهَا فَينزل ابناء

(1/524)


السَّبِيل وَيشْهد على ذَلِك وَيَأْذَن فِيهَا بالنزول فاذا نزلها وَاحِد اَوْ اكثر صَار بِمَنْزِلَة الْقَبْض وَخرجت من يَده فِي قَول الْفُقَهَاء
وَقَالَ الشَّيْخ اذا جعلهَا كَذَلِك فقد صَارَت لَهُ وان لم يشْهد عَلَيْهِ وان لم ينزل بهَا اُحْدُ كَمَا ذكرنَا والافضل ان يشْهد على ذَلِك وَهُوَ قَول كثير من اهل الْعلم لانه لَيْسَ شَيْئا يملك وانما هُوَ ارتفاق وانتفاع
وَالرَّابِع اذا جعل دَاره رِبَاط ثغر من الثغور ينزل فِيهِ الْغُزَاة وَالْمُجَاهِدُونَ ويسكنونها فَهُوَ كَمَا وَصفنَا قبل
وَالْخَامِس اذا بِنَا رِبَاطًا فِي طَرِيق من طرق الْمُسلمين لينزلوا فِيهَا وينتفعوا بهَا وَجعلهَا لَهُم
وَالسَّادِس لَو اشْترى دَارا بِمَكَّة اَوْ بمنا وَجعلهَا مَوْقُوفَة للْحَاج والمعتمرين والمجاورين ليسكنوها فَهُوَ جَائِز
وَالسَّابِع اذا جعل دَاره اَوْ بِنَا دَارا وَجعلهَا لطلبة الْعلم وَالْقُرْآن والمتفرغين لَهما وللعبادة وَالْخَيْر يسكنونها فَهُوَ جَائِز
وَالثَّامِن اذا جعل دَاره أَو بِنَا دَارا وَجعلهَا سِقَايَة للْمُسلمين فِي الْمصر اَوْ فِي طَرِيق الْمُسلمين ليشربوا مِنْهَا فَهُوَ جَائِز

(1/525)


وَالتَّاسِع الْبِئْر يحفرها الرجل للاستقاء مِنْهَا وَالْوُضُوء وَغير ذَلِك فَهُوَ جَائِز
والعاشر المشرعة يحفرها الرجل وَيخرج ماءها وَيَبْنِي عَلَيْهِ بَيْتا ليتوضأ فِيهِ الْمُسلمُونَ ويغتسلوا فَهُوَ جَائِز
وَالْحَادِي عشر ان يَشْتَرِي الرجل ارضا فيزيدها فِي طَرِيق الْمُسلمين اَوْ يُخرجهَا من دَاره اَوْ ارضه ليمشي فِيهَا الْمُسلمُونَ فَهُوَ جَائِز
وَالثَّانِي عشر ان يتَّخذ الرجل قنطرة على نهر بأذن الامام اَوْ فِي ملك نَفسه وَيَأْذَن فِي الْمُرُور عَلَيْهَا فَهُوَ جَائِز
وَالثَّالِث عشر رجل اخْرُج عينا اَوْ قناة ووقفها على الْمُسلمين ليسقوا مِنْهَا مَوَاشِيهمْ ودوابهم ويعجنوا ترابهم ويكسوا مِنْهَا اشجارهم وَنَحْوهَا فَهُوَ جَائِز كُله
فاذا اسْتغنى النَّاس عَن وَاحِد من هَذِه الاشياء وَصَارَ معطلا لَا ينْتَفع بِهِ البته فَإِنَّهُ يصير ملكا لصَاحبه ولورثته من بعده يفعل بِهِ مَا شَاءَ من بيع اَوْ هبة اَوْ غير ذَلِك فِي قَول مُحَمَّد وَفِي قَول ابي يُوسُف يكون ذَلِك كَذَلِك على حَاله
وَالثَّانِي من الْوَقْف الَّذِي يستوى فِيهِ الاغنياء والفقراء فِي الِانْتِفَاع مَا لَيْسَ لَهُ اصل من غير اسْتِهْلَاك عينه وَيُقَال لَهُ الحبيس وَهُوَ ايضا على خَمْسَة اوجه
احدها الْخَيل وَالْبِغَال وَالْحمير يحبسها الرجل على الْغُزَاة فِي سَبِيل الله ليركبوها ويقاتلوا عَلَيْهَا فَهُوَ جَائِز

(1/526)


وَالثَّانِي السِّلَاح يقفه الرجل فِي سَبِيل الله لِيُقَاتل بِهِ الْعَدو
وَمَتى هربت دَابَّة اَوْ فسد مَتَاع فَكَانَ لَا يصلح لما جعله لَهُ باعوا ذَلِك واستبدلوا بِهِ مَا يصلح لذَلِك وَكَذَلِكَ فِي نتاج الْخَيل وَالْبِغَال وَالْحمير
وَالثَّالِث الانعام يقفها الرجل على ابناء السَّبِيل فِي رِبَاط بِعَيْنِه ليَكُون بهَا نفع لَهُم فَهُوَ جَائِز
وَالرَّابِع الاواني والالات يقفها الرجل فِي رِبَاط اَوْ غَيره لينْتَفع بهَا النَّاس فَهُوَ جَائِز
وَالْخَامِس مصاحف الْقُرْآن وَالْفِقْه وَالتَّفْسِير وَمَا فِيهِ الْقرْبَة الى الله تَعَالَى يقفها الرجل فِي مَوضِع فان اسْتغنى عَنْهَا فِي هَذَا الْموضع فَفِي مَوضِع آخر يُسَمِّيه اَوْ قَالَ فِيمَا يرى الْقيم فَهُوَ جَائِز ايضا وَفِي هَذَا الْبَاب اخْتِلَاف
قَالَ ابو حنيفَة لَا يجوز الْوَقْف فِي الْحَيَوَان وَالْمَتَاع الا ان يقف ارضا بعبيدها ودوابها والانهار الَّتِي فِيهَا فَيجوز ذَلِك
وَقَالَ مُحَمَّد لَا بَأْس ان يحبس الْخَيل وَالسِّلَاح فِي سَبِيل الله وَدفعه الى من يَقُول بِهِ ويعطيها من يحْتَاج اليه فان كَانَ فِي الصِّحَّة فَيكون من جَمِيع المَال وان كَانَ فِي الْمَرَض كَانَ من الثُّلُث
وَفِي قَول ابي حنيفَة وابي عبد الله وَالشَّافِعِيّ يجوز فِي الْحَيَوَان وَالْمَتَاع جَمِيعًا

الْوَقْف الَّذِي ينْفَرد بِهِ الْفُقَرَاء
واما الْوَقْف الَّذِي ينْفَرد بِهِ الْفُقَرَاء دون الاغنياء فانه على خَمْسَة اوجه
احدها ان يقف الرجل وَقفا وَيَقُول وقفته على الْمَسَاكِين والفقراء من الْمُسلمين وَجَعَلته فِي يَدي قيم فَهُوَ جَائِز صَحِيح وان لم يُخرجهُ من يَده

(1/527)


وان كَانَ مشَاعا فَهُوَ جَائِز ايضا فِي قَول ابي يُوسُف وابي عبد الله وَلَا يجوز فِي قَول مُحَمَّد وَصَارَت مَوْقُوفَة الى الابد لَا يجوز بيعهَا وشراؤها ورهنها وهبتها وَيجوز ايجارها واستئجارها
وَالثَّانِي ان يقف الرجل وَقفا وَيَقُول وقفته على الارامل واليتامى اَوْ ابناء السَّبِيل اَوْ الغارمين اَوْ العميان اَوْ المرضى اَوْ المسجونين فَهُوَ جَائِز وَيكون وَقفا على فقرائهم دون اغنيائهم وَيكون فِي ذَلِك الصِّنْف دون سَائِر الْأَصْنَاف وَيجوز للقيم ان يصرفهَا فيهم على مَا يرى من تَفْضِيل بَعضهم على بعض وَتَخْصِيص بَعضهم من بعض اذا جعل الْوَاقِف لَهُ ذَلِك
وَالثَّالِث اذا وقف وَقفا على قوم مسمين اَوْ على قرَابَته اَوْ على فُقَرَاء قرَابَته اَوْ على جِيرَانه اَوْ على أهل مَسْجده اَوْ على فُقَرَاء اهل مَسْجده فَهُوَ جَائِز وَيَنْبَغِي اذا فعل ذَلِك ان يَجْعَل آخِره فِي الْمَسَاكِين وَلَو لم يَجْعَل لم يجز الْوَقْف فاذا لم يتبق مِنْهُم اُحْدُ فَيكون للْمَسَاكِين ابدا
وَالرَّابِع اذا وقف وَقفا على اولاده أَو على نَفسه ثمَّ على أَوْلَاد أَوْلَاده مَا تَنَاسَلُوا فاذا انقرضوا فعلى فُقَرَاء الْمُسلمين فَهُوَ جَائِز وان لم يَجْعَل آخِره على الْفُقَرَاء لَا يَصح ذَلِك
وَالْخَامِس اذا وقف وَقفا على شَيْء مِمَّا ذكرنَا من الَّذِي يَسْتَوِي فِيهِ الاغنياء والفقراء على اصلاح ذَلِك وابرامه وابقاءه من الْمَسْجِد والخان والمقبرة والرباط وَالْخَيْل وَالسِّلَاح وَالْمَتَاع وَغَيرهَا ثمَّ على الْفُقَرَاء بعد ذَلِك فان ذَلِك جَائِز فان لم يَجْعَل آخِره عَليّ الْفُقَرَاء لَا يجوز
وان قَالَ وقفته على اولادي واولاد اولادي فان انقرضوا فعلى مَسْجِد فلَان اَوْ خَان فلَان اَوْ رِبَاط فلَان وَنَحْوهَا ثمَّ على الْمَسَاكِين فان ذَلِك جَائِز ايضا

(1/528)


قَالَ وَيَنْبَغِي ان تكون الصَّدَقَة الْمَوْقُوفَة مَضْمُونَة فِيمَا يحْتَمل الْقِسْمَة ومعلومة ومقبوضة فِي قَول الْفُقَهَاء
وَقَالَ الشَّيْخ اذا لم تكن مقسومة جَازَ ان كَانَت مَقْبُوضَة
قَالَ وَلَا رُجُوع فِي الصَّدَقَة لانها بِمَنْزِلَة الْهِبَة
قَالَ واذا وقف على أَوْلَاده أَو على قوم باعيانهم وَلم يذكر آخِرهم فانهم اذا انقرضوا رَجَعَ الى الْوَاقِف اَوْ الى ورثته ان كَانَ مَيتا فِي قَول الشَّافِعِي وَاللَّيْث بن سعد وَهُوَ بَاطِل فِي قَول ابي حنيفَة واصحابه وابي عبد الله
فان وقف على فُقَرَاء مدينته اَوْ قبيلته جَازَ ذَلِك وَهُوَ مؤبد
وان قَالَ فُقَرَاء قَرَابَتي أَو فُقَرَاء قَرْيَة لم يجز حَتَّى يَجعله للْفُقَرَاء بعدهمْ
فَرغْنَا من الْعُقُود وابتدأنا بالامانات