الهداية
في شرح بداية المبتدي ج / 1 ص -116-
كتاب الصوم
قال رحمه الله: "الصوم
ضربان واجب ونفل والواجب ضربان منه ما يتعلق
بزمان بعينه كصوم رمضان والنذر المعين فيجوز
بنية من الليل وإن لم ينو حتى أصبح أجزأته
النية ما بينه وبين الزوال"
وقال الشافعي رضي الله عنه لا يجزيه.
اعلم أن صوم رمضان فريضة لقوله تعالى:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] وعلى فرضيته انعقد الإجماع ولهذا يكفر جاحده
والمنذور واجب لقوله تعالى:
{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}
[الحج: 29] وسبب الأول الشهر ولهذا يضاف إليه
ويتكرر بتكرره وكل يوم سبب لوجوب صومه وسبب
الثاني النذر والنية من شرطه وسنبينه ونفسره
إن شاء الله تعالى وجه قوله في الخلافية قوله
عليه الصلاة والسلام "لا صيام
لمن لم ينو الصيام من الليل" ولأنه لما
فسد الجزء الأول لفقد النية فسد الثاني ضرورة
أنه لا يتجزأ بخلاف النفل لأنه متجزئ عنده.
ولنا قوله صلى الله عليه وسلم بعدما شهد
الأعرابي برؤية الهلال
"ألا من أكل فلا يأكلن بقية يومه ومن لم يأكل فليصم" وما رواه محمول على نفي الفضيلة والكمال أو معناه لم ينو أنه صوم
من الليل ولأنه يوم صوم فيتوقف الإمساك في
أوله على النية المتأخرة المقترنة بأكثره
كالنفل وهذا لأن الصوم ركن واحد ممتد والنية
لتعيينه لله تعالى فتترجح بالكثرة جنبة الوجود
بخلاف الصلاة والحج لأن لهما أركانا فيشترط
قرانها بالعقد على أدائهما وبخلاف القضاء لأنه
يتوقف على صوم ذلك اليوم وهو النفل وبخلاف ما
بعد الزوال لأنه لم يوجد اقترانها بالأكثر
فترجحت جنبة الفوات ثم قال في المختصر ما بينه
وبين الزوال وفي الجامع الصغير قبل نصف النهار
وهو الأصح لأنه لا بد من وجود النية في أكثر
النهار ونصفه من وقت طلوع الفجر إلى وقت
الضحوة الكبرى لا إلى وقت الزوال فتشترط النية
قبلها لتتحقق في الأكثر ولا فرق بين المسافر
والمقيم عندنا خلافا لزفر رحمه الله لأنه لا
تفصيل فيما ذكرنا من الدليل وهذا الضرب من
الصوم يتأدى بمطلق النية وبنية النفل وبنية
واجب آخر وقال الشافعي رحمه الله في نية النفل
عابث وفي مطلقها له قولان لأنه بنية النفل
معوض عن الفرض فلا يكون له الفرض.
ج / 1 ص -117-
ولنا
أن الفرض متعين فيه فيصاب بأصل النية كالمتوحد
في الدار يصاب باسم جنسه وإذا نوى النفل أو
واجبا آخر فقد نوى أصل الصوم وزيادة جهة وقد
لغت الجهة فبقي الأصل وهو كاف ولا فرق بين
المسافر والمقيم والصحيح والسقيم عند أبي يوسف
ومحمد رحمهما الله لأن الرخصة كي لا تلزم
المعذور مشقة فإذا تحملها التحق بغير المعذور
وعند أبي حنيفة رحمه الله إذا صام المريض
والمسافر بنية واجب آخر يقع عنه لأنه شغل
الوقت بالأهم لتحتمه للحال وتخيره في صوم
رمضان إلى إدراك العدة وعنه في نية التطوع
روايتان والفرق على إحداهما أنه ما صرف الوقت
إلى الأهم.
قال: "والضرب
الثاني ما ثبت في الذمة كقضاء شهر رمضان
والنذر المطلق وصوم الكفارة فلا يجوز إلا بنية
من الليل" لأنه غير متعين ولا
بد من التعيين من الابتداء "والنفل
كله يجوز بنية قبل الزوال"
خلافا لمالك رحمه الله فإنه يتمسك بإطلاق ما
روينا.
ولنا قوله صلى الله عليه وسلم بعد ما كان يصبح
غير صائم "إني إذا لصائم"
ولأن المشروع خارج رمضان هو النفل فيتوقف
الإمساك في أول اليوم على صيرورته صوما بالنية
على ما ذكرنا ولو نوى بعد الزوال لا يجوز وقال
الشافعي رحمه الله يجوز ويصير صائما من حين
نوى إذ هو متجزئ عنده لكونه مبنيا على النشاط
ولعله ينشط بعد الزوال إلا أن من شرطه الإمساك
في أول النهار وعندنا يصير صائما من أول
النهار لأنه عبادة قهر النفس وهي إنما تتحقق
بإمساك مقدر فيعتبر قران النية بأكثره.
فصل في رؤية
الهلال
قال: "وينبغي للناس أن يلتمسوا الهلال في
اليوم التاسع والعشرين من شعبان فإن رأوه
صاموا وإن غم عليهم أكملوا عدة شعبان ثلاثين
يوما ثم صاموا" لقوله صلى
الله عليه وسلم "صوموا
لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم الهلال
فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما" ولأن الأصل بقاء الشهر فلا ينتقل عنه إلا بدليل ولم يوجد "ولا
يصومون يوم الشك إلا تطوعا"
لقوله صلى الله عليه وسلم "لا
يصام اليوم الذي يشك فيه أنه من رمضان إلا
تطوعا"
وهذه المسئلة على وجوه:
أحدها: أن ينوي صوم رمضان وهو
مكروه لما روينا ولأنه تشبه بأهل الكتاب لأنهم
زادوا في مدة صومهم ثم إن ظهر أن اليوم من
رمضان يجزئه لأنه شهد الشهر وصامه وإن ظهر أنه
من شعبان كان تطوعا وإن أفطر لم يقضه لأنه في
معنى المظنون.
والثاني: أن ينوي عن واجب آخر
وهو مكروه أيضا لما روينا إلا أن هذا دون
الأول
في الكراهة ثم إن ظهر أنه من رمضان يجزئه
لوجود أصل النية وإن ظهر أنه من شعبان
ج / 1 ص -118-
فقد
قيل يكون تطوعا لأنه منهي عنه فلا يتأدى به
الواجب وقيل يجزئه عن الذين نراه وهو الأصح
لأن المنهي عنه وهو التقدم على رمضان بصوم
رمضان لا يقوم بكل صوم بخلاف يوم العيد لأن
المنهي عنه وهو ترك الإجابة يلازم كل صوم
والكراهية ههنا لصورة النهي.
والثالث: أن ينوي التطوع وهو
غير مكروه لما روينا وهو حجة على الشافعي رحمه
الله في قوله يكره على سبيل الابتداء والمراد
بقوله صلى الله عليه وسلم "لا تتقدموا رمضان بصوم يوم ولا بصوم يومين" الحديث التقدم بصوم رمضان لأنه يؤديه قبل أوانه ثم إن وافق صوما
كان يصومه فالصوم أفضل بالإجماع وكذا إذا صام
ثلاثة أيام من آخر الشهر فصاعدا وإن أفرده فقد
قيل الفطر أفضل احترازا عن ظاهر النهي وقد قيل
الصوم أفضل اقتداء بعلي وعائشة رضي الله عنهما
فإنهما كانا يصومانه والمختار أن يصوم المفتي
بنفسه أخذا بالاحتياط ويفتي العامة بالتلوم
إلى وقت الزوال ثم بالإفطار نفيا للتهمة.
والرابع: أن يضجع في أصل
النية بأن ينوي أن يصوم غدا إن كان من رمضان
ولا يصومه إن كان من شعبان وفي هذا الوجه لا
يصير صائما لأنه لم يقطع عزيمته فصار كما إذا
نوى أنه إن وجد غدا غذاء يفطر وإن لم يجد
يصوم.
والخامس: أن يضجع في وصف
النية بأن ينوي إن كان غدا من رمضان يصوم عنه
وإن كان من شعبان فعن واجب آخر وهذا مكروه
لتردده بين أمرين مكروهين ثم إن ظهر أنه من
رمضان أجزأه لعدم التردد في أصل النية وإن ظهر
أنه من شعبان لا يجزيه عن واجب آخر لأن الجهة
لم تثبت للتردد فيها وأصل النية لا يكفيه لكنه
يكون تطوعا غير مضمون بالقضاء لشروعه فيه
مسقطا وإن نوى عن رمضان إن كان غدا منه وعن
التطوع إن كان من شعبان يكره لأنه ناو للفرض
من وجه ثم إن ظهر أنه من رمضان أجزأه عنه لما
مر وإن ظهر أنه من شعبان جاز عن نفله لأنه
يتأدى بأصل النية ولو أفسده يجب أن لا يقضيه
لدخول الإسقاط في عزيمته من وجه.
قال: "ومن
رأى هلال رمضان وحده صام وإن لم يقبل الإمام
شهادته" لقوله عليه الصلاة
والسلام "صوموا
لرؤيته وأفطروا لرؤيته" وقد رأى ظاهرا وإن أفطر فعليه القضاء دون الكفارة وقال الشافعي
رحمه الله عليه الكفارة إن أفطر بالوقاع لأنه
أفطر في رمضان حقيقة لتيقنه به وحكما لوجوب
الصوم عليه.
ولنا أن القاضي رد شهادته بدليل شرعي وهو تهمة
الغلط فأورث شبهة وهذ الكفارة تندرئ بالشبهات
ولو أفطر قبل أن يرد الإمام شهادته اختلف
المشايخ فيه ولو أكمل هذا
ج / 1 ص -119-
الرجل
ثلاثين يوما لم يفطر إلا مع الإمام لأن الوجوب
عليه للاحتياط الاحتياط بعد ذلك من تأخير
الإفطار ولو أفطر لا كفارة عليه اعتبارا
للحقيقة التي عنده.
قال: "وإذا
كان بالسماء علة قبل الإمام شهادة الواحد
العدل في رؤية الهلال رجلا كان أو امرأة حرا
كان أو عبدا" لأنه أمر ديني
فأشبه رواية الأخبار ولهذا لا يختص بلفظة
الشهادة وتشترط العدالة لأن قول الفاسق في
الديانات غير مقبول وتأويل قول الطحاوي عدلا
كان أو غير عدل أن يكون مستورا والعلة غيم أو
غبار أو نحوه وفي إطلاق جواب الكتاب يدخل
المحدود في القذف بعد ما تاب وهو ظاهر الرواية
لأنه خبر ديني وعن أبي حنيفة رحمه الله أنها
لا تقبل لأنها شهادة من وجه وكان الشافعي في
أحد قوليه يشترط المثنى والحجة عليه ما ذكرنا
وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام قبل
شهادة الواحد في رؤية هلال رمضان ثم إذا قبل
الإمام شهادة الواحد وصاموا ثلاثين يوما لا
يفطرون فيما روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله
للاحتياط ولأن الفطر لا يثبت بشهادة الواحد
وعن محمد رحمه الله أنهم يفطرون ويثبت الفطر
بناء على ثبوت الرمضانية بشهادة الواحد وإن
كان لا يثبت بهذا ابتداء كاستحقاق الإرث بناء
على النسب الثابت بشهادة القابلة.
قال: "وإذا
لم تكن بالسماء علة لم تقبل الشهادة حتى يراه
جمع كثير يقع العلم بخبرهم"
لأن التفرد بالرؤية في مثل هذه الحالة يوهم
الغلط فيجب التوقف فيه حتى يكون جمعا كثيرا
بخلاف ما إذا كان بالسماء علة لأنه قد ينشق
الغيم عن موضع القمر فيتفق للبعض النظر ثم قيل
في حد الكثير أهل المحلة وعن أبي يوسف رحمه
الله خمسون رجلا اعتبارا بالقسامة ولا فرق بين
أهل المصر ومن ورد من خارج المصر وذكر الطحاوي
أنه تقبل شهادة الواحد إذا جاء من خارج المصر
لقلة الموانع وإليه الإشارة في كتاب الاستحسان
وكذا إذا كان على مكان مرتفع في المصر.
قال: "ومن
رأى هلال الفطر وحده لم يفطر
احتياطا وفي الصوم الاحتياط في الإيجاب.
قال: "وإذا
كان بالسماء علة لم يقبل في هلال الفطر إلا
شهادة رجلين أو رجل وامرأتين"
لأنه تعلق به نفع العبد وهو الفطر فأشبه سائر
حقوقه والأضحى كالفطر في هذا في ظاهر الرواية
وهو الأصح خلافا لما روي عن أبي حنيفة رحمه
الله أنه كهلال رمضان لأنه تعلق به نفع العباد
وهو التوسع بلحوم الأضاحي "وإن
لم يكن بالسماء علة لم يقبل إلا شهادة جماعة
يقع العلم بخبرهم" كما ذكرنا.
ج / 1 ص -120-
قال: "ووقت
الصوم من حين طلوع الفجر الثاني إلى غروب
الشمس" لقوله تعالى:
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ
الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}
[البقرة: 187] إلى أن قال:
{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] والخيطان بياض النهار وسواد الليل "والصوم
هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع نهارا مع
النية" لأنه في حقيقة اللغة
هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع لورود
الاستعمال فيه إلا أنه زيد على النية في الشرع
لتتميز بها العبادة من العادة واختص بالنهار
لما تلونا ولأنه لما تعذر الوصال كان تعيين
النهار أولى ليكون على خلاف العادة وعليه مبنى
العبادة والطهارة عن الحيض والنفاس شرط لتحقق
الأداء في حق النساء.
باب ما يوجب
القضاء والكفارة
قال: "وإذا أكل الصائم أو شرب أو جامع نهارا
ناسيا لم يفطر" والقياس أن
يفطر وهو قول مالك رحمه الله لوجود ما يضاد
الصوم فصار كالكلام ناسيا في الصلاة ووجه
الاستحسان قوله عليه الصلاة والسلام الذي أكل
وشرب ناسيا "تم على صومك فإنما أطعمك الله وسقاك" وإذا ثبت هذا في الأكل والشرب ثبت في الوقاع للاستواء في الركنية
بخلاف الصلاة لأن هيئة الصلاة مذكرة فلا يغلب
النسيان ولا مذكر في الصوم فيغلب ولا فرق بين
الفرض والنفل لأن النص لم يفصل "ولو
كان مخطئا أو مكرها فعليه القضاء"
خلافا للشافعي رحمه الله فإنه يعتبر بالناسي
ولنا أنه لا يغلب وجوده وعذر النسيان غالب
ولأن النسيان من قبل من له الحق والإكراه من
قبل غيره فيفترقان كالمقيد والمريض في قضاء
الصلاة.
قال: "فإن
نام فاحتلم لم يفطر" لقوله
صلى الله عليه وسلم "ثلاث لا يفطرن الصائم القيء والحجامة والاحتلام" ولأنه لم توجد صورة الجماع ولا معناه وهو الإنزال عن شهوة
بالمباشرة "وكذا
إذا نظر إلى امرأة فأمنى" لما
بينا فصار كالمتفكر إذا أمنى وكالمستمني بالكف
على ما قالوا "ولو
ادهن لم يفطر" لعدم المنافي "وكذا
إذا احتجم" لهذا ولما روينا "ولو
اكتحل لم يفطر" لأنه ليس بين
العين والدماغ منفذ والدمع يترشح كالعرق
والداخل من المسام لا ينافي كما لو اغتسل
بالماء البارد "ولو
قبل امرأة لا يفسد صومه" يريد
به إذا لم ينزل لعدم المنافي صورة ومعنى بخلاف
الرجعة والمصاهرة لأن الحكم هناك أدير على
السبب على ما يأتي في موضعه إن شاء الله "ولو
أنزل بقبلة أو لمس فعليه القضاء دون الكفارة"
لوجود معنى الجماع ووجود المنافي صورة أو معنى
يكفي لإيجاب القضاء
ج / 1 ص -121-
احتياطا، أما الكفارة فتفتقر إلى كمال الجناية
لأنها تندرئ بالشبهات كالحدود "ولا
بأس بالقبلة إذا أمن على نفسه"
أي الجماع أو الإنزال "ويكره
إذا لم يأمن" لأن عينه ليس
بمفطر وربما يصير فطرا بعاقبته فإن أمن يعتبر
عينه وأبيح له وإن لم يأمن تعتبر عاقبته وكره
له والشافعي رحمه الله أطلق فيه في الحالين
والحجة عليه ما ذكرنا والمباشرة الفاحشة مثل
التقبيل في ظاهر الرواية وعن محمد أنه كره
المباشرة الفاحشة لأنها قلما تخلو عن الفتنة "ولو
دخل حلقه ذباب هو ذاكر لصومه لم يفطر"
وفي القياس يفسد صومه لوصول المفطر إلى جوفه
وإن كان لا يتغذى به كالتراب والحصاة ووجه
الاستحسان أنه لا يستطاع الاحتراز عنه فأشبه
الغبار والدخان.
واختلفوا في المطر والثلج والأصح أنه يفسد
لإمكان الامتناع عنه إذا آواه خيمة أو سقف "ولو
أكل لحما بين أسنانه فإن كان قليلا لم يفطر
وإن كان كثيرا يفطر" وقال زفر
يفطر في الوجهين لأن الفم له حكم الظاهر حتى
لا يفسد صومه بالمضمضة.
ولنا أن القليل تابع لأسنانه بمنزلة ريقه
بخلاف الكثير لأنه لا يبقى فيما بين الأسنان
والفاصل مقدار الحمصة وما دونها قليل "وإن
أخرجه وأخذه بيده ثم أكله ينبغي أن يفسد صومه"
لما روي عن محمد رحمه الله أن الصائم إذا
ابتلع سمسمة بين أسنانه لا يفسد صومه ولو
أكلها ابتداء يفسد صومه ولو مضغها لا يفسد
لأنها تتلاشى وفي مقدار الحمصة عليه القضاء
دون الكفارة عند أبي يوسف رحمه الله وعند زفر
رحمه الله عليه الكفارة أيضا لأنه طعام متغير
ولأبي يوسف رحمه الله أنه يعافه الطبع "فإن
ذرعه القيء لم يفطر" لقوله
صلى الله عليه وسلم "من قاء فلا قضاء عليه ومن استقاء عامدا فعليه القضاء" ويستوي فيه ملء الفم فما دونه فلو عاد وكان ملء الفم فسد عند أبي
يوسف رحمه الله لأنه خارج حتى انتقض به
الطهارة وقد دخل وعند محمد رحمه الله لا يفسد
لأنه لم توجد صورة الفطر وهو الابتلاع وكذا
معناه لأنه لا يتغذى به عادة وإن أعاده فسد
بالإجماع لوجود الإدخال بعد الخروج فتتحقق
صورة الفطر وإن كان أقل من ملء الفم فعاد لم
يفسد صومه لأنه غير خارج ولا صنع له في
الإدخال وإن أعاده فكذلك عند أبي يوسف رحمه
الله لعدم الخروج وعند محمد رحمه الله يفسد
صومه لوجود الصنع منه في الإدخال "فإن
استقاء عمدا ملء فيه فعليه القضاء"
لما روينا والقياس متروك به ولا كفارة عليه
لعدم الصورة وإن كان أقل من ملء الفم فكذلك
عند محمد رحمه الله لإطلاق الحديث وعند أبي
يوسف رحمه الله لا يفسد لعدم الخروج حكما ثم
إن عاد لم يفسد عنده لعدم سبق الخروج وإن
أعاده فعنه أنه لا يفسده لما ذكرنا وعنه أنه
يفسد فألحقه بملء الفم لكثرة الصنع.
ج / 1 ص -122-
قال: "ومن
ابتلع الحصاة أو الحديد أفطر"
لوجود صورة الفطر "ولا
كفارة عليه" لعدم المعنى "ومن
جامع في أحد السبيلين عامدا فعليه القضاء"
استدراكا للمصلحة الفائتة "وللكفارة"
لتكامل الجناية ولا يشترط الإنزال في المحلين
اعتبارا بالاغتسال وهذا لأن قضاء الشهوة يتحقق
دونه وإنما ذلك شبع وعن أبي حنيفة رحمه الله
أنه لا تجب الكفارة بالجماع في الموضع المكروه
اعتبارا بالحد عنده والأصح أنها تجب لأن
الجناية متكاملة لقضاء الشهوة "ولو
جامع ميتة أو بهيمة فلا كفارة أنزل أو لم ينزل"
خلافا للشافعي رحمه الله لأن الجناية تكاملها
بقضاء الشهوة في محل مشتهى ولم يوجد ثم عندنا
كما تجب الكفارة بالوقاع على الرجل تجب على
المرأة وقال الشافعي رحمه الله في قول لا تجب
عليها لأنها متعلقة بالجماع وهو فعله وإنما هي
محل الفعل وفي قول تجب ويتحمل الرجل عنها
اعتبارا بماء الاغتسال.
ولنا قوله صلى الله عليه وسلم "من
أفطر في رمضان فعليه ما على المظاهر"
وكلمة "من" تنتظم الذكور أو الإناث ولأن السبب جناية الإفساد لا نفس الوقاع
وقد شاركته فيها ولا يتحمل لأنها عبادة أو
عقوبة ولا يجري فيها التحمل "ولو
أكل أو شرب ما يتغذى به أو ما يداوى به فعليه
القضاء والكفارة" وقال
الشافعي رحمه الله لا كفارة عليه لأنها شرعت
في الوقاع بخلاف القياس لارتفاع الذنب بالتوبة
فلا يقاس عليه غيره.
ولنا أن الكفارة تعلقت بجناية الإفطار في
رمضان على وجه الكمال وقد تحققت وبإيجاب
الإيمان تكفيرا عرف أن التوبة غير مكفرة لهذه
الجناية.
ثم قال: "والكفارة
مثل كفارة الظهار" لما روينا
ولحديث الأعرابي فإنه قال يا رسول الله هلكت
وأهلكت فقال
ماذا صنعت قال واقعت امرأتي في نهار رمضان متعمدا فقال صلى الله عليه وسلم "أعتق رقبة" فقال لا أملك إلا رقبتي هذه فقال "صم شهرين متتابعين"
فقال وهل جاءني ما جاءني إلا من الصوم فقال "أطعم ستين مسكينا"
فقال لا أجد فأمر رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن يؤتى بفرق من تمر ويروى بعرق فيه خمسة
عشر صاعا وقال "فرقها
على المساكين" فقال
والله ما بين لابتي المدينة أحد أحوج مني ومن
عيالي فقال "كل أنت وعيالك يجزيك ولا يجزي أحدا بعدك" وهو حجة على الشافعي في قوله يخير لأن مقتضاه الترتيب وعلى مالك
في نفي التتابع للنص عليه "ومن
جامع فيما دون الفرج فأنزل فعليه القضاء"
لوجود الجماع معنى "ولا
كفارة عليه" لانعدامه صورة "وليس
في إفساد صوم غير رمضان كفارة"
لأن الإفطار في رمضان أبلغ في الجناية فلا
يحلق به غيره
ج / 1 ص -123-
"ومن
احتقن أو استعط أو أقطر في أذنه أفطر"
لقوله صلى الله عليه وسلم "الفطر مما دخل" ولوجود معنى الفطر وهو وصول ما فيه صلاح البدن إلى الجوف "ولا
كفارة عليه" لانعدامه صورة "ولو
أقطر في أذنيه الماء أو دخلهما لا يفسد صومه"
لانعدام المعنى والصورة بخلاف ما إذا دخله
الدهن "ولو
داوى جائفة أو آمة بدواء فوصل إلى جوفه أو
دماغه أفطر" عند أبي حنيفة
رحمه الله والذي يصل هو الرطب وقالا لا يفطر
لعدم التيقن بالوصول لانضمام المنفذ مرة
واتساعه أخرى كما في اليابس من الدواء وله أن
رطوبة الدواء تلاقي رطوبة الجراحة فيزداد ميلا
إلى الأسفل فيصل إلى الجوف بخلاف اليابس لأنه
ينشف رطوبة الجراحة فينسد فمها "ولو
أقطر في إحليله لم يفطر" عند
أبي حنيفة وقال أبو يوسف رحمه الله يفطر وقول
محمد رحمه الله مضطرب فيه فكأنه وقع عند أبي
يوسف رحمه الله أن بينه وبين الجوف منفذا
ولهذا يخرج منه البول ووقع عند أبي حنيفة رحمه
الله أن المثانة بينهما حائل والبول يترشح منه
وهذا ليس من باب الفقه "ومن
ذاق شيئا بفمه لم يفطر" لعدم
الفطر صورة ومعنى "ويكره
له ذلك" لما فيه من تعريض
الصوم على الفساد "ويكره
للمرأة أن تمضغ لصبيها الطعام إذا كان لها منه
بد" لما بينا "ولا
بأس إذا لم تجد منه بدا"
صيانة للولد ألا ترى أن لها أن تفطر إذا خافت
على ولدها "ومضغ
العلك لا يفطر الصائم" لأنه
لا يصل إلى جوفه وقيل إذا لم يكن ملتئما يفسد
لأنه يصل إليه بعض أجزائه وقيل إذا كان أسود
يفسد وإن كان ملتئما لأنه يتفتت "إلا
أنه يكره للصائم" لما فيه من
تعريض الصوم للفساد ولأنه يتهم بالإفطار ولا
يكره للمرأة إذا لم تكن صائمة لقيامه مقام
السواك في حقهن ويكره للرجال على ما قيل إذا
لم يكن من علة وقيل لا يستحب لما فيه من
التشبه بالنساء "ولا
بأس بالكحل ودهن الشارب" لأنه
نوع ارتفاق وهو ليس من محظورات الصوم وقد ندب
النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاكتحال يوم
عاشوراء وإلى الصوم فيه ولا بأس بالاكتحال
للرجال إذا قصد به التداوي دون الزينة ويستحسن
دهن الشارب إذا لم يكن من قصده الزينة لأنه
يعمل عمل الخضاب ولا يفعل لتطويل اللحية إذا
كانت بقدر المسنون وهو القبضة "ولا
بأس بالسواك الرطب بالغداة والعشي للصائم"
لقوله صلى الله عليه وسلم "خير حلال
الصائم السواك من غير فصل" وقال
الشافعي يكره بالعشي لما فيه من إزالة الأثر
المحمود وهو الخلوف فشابه دم الشهيد قلنا هو
أثر العبادة والأليق به الإخفاء بخلاف دم
الشهيد لأنه أثر الظلم ولا فرق بين الرطب
الأخضر وبين المبلول بالماء لما روينا.
فصل
"ومن كان مريضا في رمضان فخاف إن صام
ازداد مرضه أفطر وقضى" وقال
ج / 1 ص -124-
الشافعي رحمه الله: لا يفطر هو يعتبر خوف
الهلاك أو فوات العضو كما يعتبر في التيمم
ونحن نقول إن زيادة المرض وامتداده قد يفضي
إلى الهلاك فيجب الاحتراز عنه "وإن
كان مسافرا لا يستضر بالصوم فصومه أفضل وإن
أفطر جاز" لأن السفر لا يعرى
عن المشقة فجعل نفسه عذرا بخلاف المرض فإنه قد
يخف بالصوم فشرط كونه مفضيا إلى الحرج وقال
الشافعي رحمه الله الفطر أفضل لقوله صلى الله
عليه وسلم "ليس من البر الصيام في السفر".
ولنا أن رمضان أفضل الوقتين فكان الأداء فيه
أولى وما رواه محمول على حالة الجهد "وإذا
مات المريض أو المسافر وهما على حالهما لم
يلزمهما القضاء" لأنهما لم
يدركا عدة من أيام أخر "ولو
صح المريض وأقام المسافر ثم ماتا لزمهما
القضاء بقدر الصحة والإقامة"
لوجود الإدراك بهذا المقدار وفائدته وجوب
الوصية بالإطعام وذكر الطحاوي خلافا فيه بين
أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وبين محمد
رحمه الله وليس بصحيح وإنما الخلاف في النذر
والفرق لهما أن النذر سبب فيظهر الوجوب في حق
الخلف وفي هذه المسئلة السبب إدارك العدة
فيتقدر بقدر ما أدرك "وقضاء رمضان إن شاء فرقه وإن شاء تابعه"
لإطلاق النص لكن المستحب المتابعة مسارعة إلى
إسقاط الواجب "وإن
أخره حتى دخل رمضان آخر صام الثاني"
لأنه في وقته "وقضى
الأول بعده" لأنه وقت القضاء
"ولا
فدية عليه" لأن وجوب القضاء
على التراخي حتى كان له أن يتطوع "والحامل
والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما
أفطرتا وقضتا" دفعا للحرج "ولا
كفارة عليهما" لأنه إفطار
بعذر "ولا
فدية عليهما" خلافا للشافعي
رحمه الله فيما إذا خافت على الولد هو يعتبره
بالشيخ الفاني.
ولنا أن الفدية بخلاف القياس في الشيخ الفاني
والفطر بسبب الولد ليس في معناه لأنه عاجز بعد
الوجوب والولد لا وجوب عليه أصلا "والشيخ الفاني الذي لا يقدر على الصيام
يفطر ويطعم لكل يوم مسكينا كما يطعم في
الكفارات" والأصل فيه قوله
تعالى:
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ
طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:
184] قيل معناه لا يطيقونه ولو قدر على الصوم
يبطل حكم الفداء لأن شرط الخلفية استمرار
العجز "ومن
مات وعليه قضاء رمضان فأوصى به أطعم عنه وليه
لكل مسكينا نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو
شعير" لأنه عجز عن الأداء في
آخر عمره فصار كالشيخ الفاني ثم لا بد من
الإيصاء عندنا خلافا للشافعي رحمه الله وعلى
هذا الزكاة هو يعتبره بديون العباد إذ كل ذلك
حق مالي تجري فيه النيابة.
ولنا أنه عبادة ولا بد فيه من الاختيار وذلك
في الإيصاء دون الوراثة لأنها جبرية، ثم
ج / 1 ص -125-
هو
تبرع ابتداء حتى يعتبر من الثلث والصلاة
كالصوم باستحسان المشايخ وكل صلاة تعتبر بصوم
يوم هو الصحيح "ولا
يصوم عنه الولي ولا يصلي"
لقوله صلى الله عليه وسلم "لا يصوم احد عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد" "ومن
دخل في صلاة التطوع أو في صوم التطوع ثم أفسده
قضاه" خلافا للشافعي رحمه
الله له أنه تبرع بالمؤدى فلا يلزمه مالم
يتبرع به.
ولنا أن المؤدي قربة وعمل فتجب صيانته بالمضي
عن الإبطال وإذا وجب المضي وجب القضاء بتركه
ثم عندنا لا يباح الإفطار فيه بغير عذر في
إحدى الروايتين لما بينا ويباح بعذر والضيافة
عذر لقوله صلى الله عليه وسلم "أفطر واقض يوما مكانه"
"وإذا
بلغ الصبي أو أسلم الكافر في رمضان أمسكا بقية
يومهما" قضاء لحق الوقت
بالتشبه "ولو
أفطرا فيه لا قضاء عليهما"
لأن الصوم غير واجب فيه "وصاما
ما بعده" لتحقق السبب
والأهلية "ولم
يقضيا يومهما ولا ما مضى"
لعدم الخطاب وهذا بخلاف الصلاة لأن السبب فيها
الجزء المتصل بالأداء فوجدت الأهلية عنده وفي
صوم الجزء الأول والأهلية منعدمة عنده وعن أبي
يوسف رحمه الله أنه إذا زال الكفر أو الصبا
قبل الزوال فعليه القضاء لأنه أدرك وقت النية
وجه الظاهر أن الصوم لا يتجزأ وجوبا وأهلية
الوجوب منعدمة في أوله إلا أن للصبي أن ينوي
التطوع في هذه الصورة دون الكافر على ما قالوا
لأن الكافر ليس من أهل التطوع أيضا والصبي أهل
له "وإذا
نوى المسافر الإفطار ثم قدم المصر قبل الزوال
فنوى الصوم أجزأه" لأن السفر
لا ينافي أهلية الوجوب ولا صحة الشروع "وإن
كان في رمضان فعليه أن يصوم"
لزوال المرخص في وقت النية ألا ترى أنه لو كان
مقيما في أول اليوم ثم سافر لا يباح له الفطر
ترجيحا لجانب الإقامة لهذا أولى إلا أنه إذا
أفطر في المسئلتين لا تلزمه الكفارة لقيام
شبهة المبيح "ومن
أغمي عليه في رمضان لم يقض اليوم الذي حدث فيه
الإغماء" لوجود الصوم فيه وهو
الإمساك المقرون بالنية إذ الظاهر وجودها منه
"وقضى
ما بعده" لانعدام النية "وإن
أغمي عليه أول ليلة منه قضاه كله غير يوم تلك
الليلة" لما قلنا. وقال مالك
رحمه الله لا يقضي ما بعده لأن صوم رمضان عنده
يتأدى بنية واحدة بمنزلة الاعتكاف وعندنا لا
بد من النية لكل يوم لأنها عبادات متفرقة لأنه
يتخلل بين كل يومين ما ليس بزمان لهذه العبادة
بخلاف الاعتكاف "ومن
أغمي عليه في رمضان كله قضاه"
لأنه نوع مرض يضعف القوى ولا يزيل الحجى فيصير
عذرا في التأخير لا في الإسقاط "ومن
جن في رمضان كله لم يقضه"
خلافا لمالك رحمه الله هو يعتبره بالإغماء.
ولنا أن المسقط هو الحرج والإغماء لا يستوعب
الشهر عادة فلا حرج والجنون يستوعبه فيتحقق
الحرج "وإن
أفاق المجنون في بعضه مضى ما قضى"
خلافا لزفر والشافعي
ج / 1 ص -126-
رحمهما
الله هما يقولان لم يجب عليه الأداء لانعدام
الأهلية والقضاء مرتب عليه وصار كالمستوعب.
ولنا أن السبب قد وجد وهو الشهر والأهلية
بالذمة وفي الوجوب فائدة وهو صيرورة مطلوبا
على وجه لا يحرج في أدائه بخلاف المستوعب لأنه
يحرج في الأداء فلا فائدة وتماما في الخلافيات
ثم لا فرق بين الأصلي والعارض قيل هذا في ظاهر
الرواية وعن محمد رحمه الله أنه فرق بينهما
لأنه إذا بلغ مجنونا التحق بالصبي فانعدم
الخطاب بخلاف ما إذا بلغ عاقلا ثم جن وهذا
مختار بعض المتأخرين "ومن
لم ينو في رمضان كله لا صوما ولا فطرا فعليه
قضاؤه" وقال زفر رحمه الله
يتأدى صوم رمضان بدون النية في حق الصحيح
المقيم لأن الإمساك مستحق عليه فعلى أي وجه
يؤديه يقع عنه كما إذا وهب كل النصاب من
الفقير.
ولنا أن المستحق الإمساك بجهة العبادة ولا
عبادة إلا بالنية وفي نية النصاب وجد نية
القربة على ما مر في الزكاة "ومن
أصبح غير ناو للصوم فأكل لا كفارة عليه"
عند أبي حنيفة رحمه الله وقال زفر رحمه الله
عليه الكفارة لأنه يتأدى بغير النية عنده وقال
أبو يوسف ومحمد رحمهما الله إذا أكل قبل
الزوال تجب الكفارة لأنه فوت إمكان التحصيل
فصار كغاصب الغاصب ولأبي حنيفة رحمه الله أن
الكفارة تعلقت بالإفساد وهذا امتناع إذ لا صوم
إلا بالنية "وإذا
حاضت المرأة أو نفست أفطرت وقضت"
بخلاف الصلاة لأنها تحرج في قضائها وقد مر في
الصلاة "وإذا
قدم المسافر أو طهرت الحائض في بعض النهار
أمسكا بقية يومهما" وقال
الشافعي رحمه الله لا يجب الإمساك وعلى هذا
الخلاف كل من صار أهلا للزوم ولم يكن كذلك في
أول اليوم هو يقول التشبه خلف فلا يجب إلا على
من يتحقق الأصل في حقه كالمفطر متعمدا أو
مخطئا.
ولنا أنه وجب قضاء لحق الوقت لا خلفا لأنه وقت
معظم بخلاف الحائض والنفساء والمريض والمسافر
حيث لا يجب عليهم حال قيام هذه الأعذار لتحقق
المانع عن التشبه حسب تحققه عن الصوم.
قال: "وإذا
تسحر وهو يظن أن الفجر لم يطلع فإذا هو قد طلع
أو أفطر وهو يرى أن الشمس قد غربت فإذا هي لم
تغرب أمسك بقية يومه" قضاء
لحق الوقت بالقدر الممكن أو نفيا للتهمة "وعليه
القضاء" لأنه حق مضمون بالمثل
كما في المريض والمسافر
ج / 1 ص -127-
"ولا
كفارة عليه" لأن الجناية
قاصرة لعدم القصد وفيه قال عمر رضي الله عنه
ما تجانفنا لإثم قضاء يوم علينا يسير والمراد
بالفجر الفجر الثاني وقد بيناه في الصلاة "ثم
التسحر مستحب" لقوله عليه
الصلاة والسلام "تسحروا فإن في السحور بركة"
والمستحب تأخيره لقوله عليه الصلاة والسلام "ثلاث من أخلاق المرسلين تعجيل الإفطار
وتأخير السحور والسواك" "إلا
أنه إذا شك في الفجر" ومعناه
تساوي الظنين "الأفضل
أن يدع الأكل تحرزا عن المحرم ولا يجب عليه
ذلك ولو أكل فصومه تام" لأن
الأصل هو الليل وعن أبي حنيفة رحمه الله إذا
كان في موضع لا يستبين الفجر أو كانت الليلة
مقمرة أو متغيمة أو كان ببصره علة وهو يشك لا
يأكل ولو أكل فقد أساء لقوله عليه الصلاة
والسلام "دع ما يريبك
إلى ما لا يريبك" وإن كان أكبر رأيه أنه أكل والفجر طالع فعليه قضاؤه عملا بغالب
الرأي وفيه الاحتياط وعلى ظاهر الرواية لاقضاء
عليه لأن اليقين لا يزال إلا بمثله "ولو
ظهر أن الفجر طالع لا كفارة عليه"
لأنه بنى الأمر على الأصل فلا تتحقق العمدية "ولو
شك في غروب الشمس لا يحل له الفطر"
لأن الأصل هو النهار "ولو
أكل فعليه القضاء" عملا
بالأصل وإن كان أكبر رأيه أنه أكل قبل الغروب
فعليه القضاء رواية واحدة لأن النهار هو الأصل
ولو كان شاكا فيه وتبين أنها لم تغرب ينبغي أن
تجب الكفارة نظرا إلى ما هو الأصل وهو النهار
"ومن
أكل في رمضان ناسيا وظن أن ذلك يفطره فأكل بعد
ذلك متعمدا عليه القضاء دون الكفارة"
لأن الاشتباه استند إلى القياس فتحقق الشبهة
وإن بلغه الحديث وعلمه فكذلك في ظاهر الرواية
وعن أبي حنيفة رحمه الله أنها تجب وكذا عنهما
لأنه لا اشتباه فلا شبهة وجه الأول قيام
الشبهة الحكمية بالنظر إلى القياس فلا ينتفي
بالعلم كوطء الأب جارية ابنه "ولو احتجم وظن
أن ذلك يفطره ثم أكل متعمدا عليه القضاء
والكفارة" لأن الظن ما استند إلى دليل شرعي
إلا إذا أفتاه فقيه بالفساد لأن الفتوى دليل
شرعي في حقه ولو بلغه الحديث فاعتمده فكذلك
عند محمد رحمه الله لأن قول الرسول عليه
الصلاة والسلام لا ينزل عن قول المفتي وعن أبي
يوسف رحمه الله خلاف ذلك لأن على العامي
الاقتداء بالفقهاء لعدم الاهتداء في حقه إلى
معرفة الأحاديث وإن عرف تأويله تجب الكفارة
لانتفاء الشبهة وقول الأوزاعي رحمه الله لا
يورث الشبهة لمخالفتة القياس "ولو
أكل بعد ما اغتاب متعمدا فعليه القضاء
والكفارة كيفما كان" لأن
الفطر يخالف القياس والحديث مؤول بالإجماع "وإذا جومعت النائمة أو المجنونة وهي
صائمة عليها القضاء دون الكفارة"
وقال زفر والشافعي رحمهما الله لا قضاء عليهما
اعتبارا بالناسي والعذر هنا أبلغ لعدم القصد
ولنا أن النسيان يغلب وجوده وهذا نادر ولا تجب
الكفارة لانعدام الجناية.
ج / 1 ص -128-
فصل فيما يوجبه على نفسه
"وإذا
قال لله علي صوم يوم النحر أفطر وقضى"
فهذا النذر صحيح عندنا خلافة لزفر والشافعي
رحمهما الله هما يقولان إنه نذر بما هو معصية
لورود النهي عن صوم هذه الأيام.
ولنا أنه نذر بصوم مشروع والنهي لغيره وهو ترك
إجابة دعوة الله تعالى فيصح نذره لكنه يفطر
احترازا عن المعصية المجاورة ثم يقضي اسقاطا
للواجب وإن صام فيه يخرج عن العهدة لأنه أداه
كما التزمه "وإن
نوى يمينا فعليه كفارة يمين"
يعني إذا أفطر وهذه المسئلة على وجوه ستة إن
لم ينو شيئا أو نوى النذر لا غير أو نوى النذر
ونوى أن لا يكون يمينا يكون نذرا لأنه نذر
بصيغته كيف وقد قرره بعزيمته وإن نوى اليمين
ونوى أن لا يكون نذرا يكون يمينا لأن اليمين
محتمل كلامه وقد عينه ونفى غيره وإن نواهما
يكون نذرا ويمينا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما
الله وعند أبي يوسف رحمه الله يكون نذرا ولو
نوى اليمين فكذلك عندهما وعنده يكون يمينا
لأبي يوسف أن النذر فيه حقيقة واليمين مجاز
حتى لا يتوقف الأول على النية ويتوقف الثاني
فلا ينتظمهما ثم المجاز يتعين بنيته وعند
نيتهما تترجح الحقيقة ولهما أنه لا تتنافى بين
الجهتين لأنهما يقتضيان الوجوب إلا أن النذر
يقتضيه لعينه واليمين لغيره فجمعنا بينهما
عملا بالدليلين كما جمعنا بين جهتي التبرع
والمعارضة في الهبة بشرط العوض "ولو
قال لله علي صوم هذه السنة أفطر يوم الفطر
ويوم النحر وأيام التشريق وقضاها"
لأن النذر بالسنة المعينة نذر بهذه الأيام
وكذا إذا لم يعين لكنه شرط التتابع لأن
المتابعة لا تعرى عنها لكن يقضيها في هذا
الفصل موصولة تحقيقا للتتابع بقدر الإمكان
ويأتي في هذا خلاف زفر والشافعي رحمهما الله
للنهي عن الصوم فيها وهو قوله عليه الصلاة
والسلام "ألا لا تصوموا
في هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب وبعال" وقد
بينا الوجه فيه والعذرعنه ولو لم يشترط
التتابع لم يجزه صوم هذه الأيام لأن الأصل
فيما يلتزمه الكمال والمؤدى ناقص لمكان النهي
بخلاف ما إذا عينها لأنه التزم بوصف النقصان
فيكون الأداء بالوصف الملتزم.
قال: "وعليه
كفارة يمين إن أراد به يمينا"
وقد سبقت وجوهه "ومن
أصبح يوم النحر صائما ثم أفطر لا شيء عليه وعن
أبي يوسف ومحمد رحمهما الله في النوادر أن
عليه القضاء" لأن الشروع
ملزوم كالنذر وصار كالشرع في الصلاة في الوقت
المكروه والفرق لأبي حنيفة رحمه الله وهو ظاهر
الرواية أن بنفس الشروع في الصوم يسمى صائما
حتى يحنث
ج / 1 ص -129-
به
الحالف على العموم فيصير مرتكبا للنهي فيجب
إبطاله فلا تجب صيانته ووجوب القضاء يبنى عليه
ولا يصير مرتكبا للنهي بنفس النذر وهو الموجب
ولا بنفس الشروع في الصلاة حتى يتم ركعة ولهذا
لا يحنث به الحالف على الصلاة فتجب صيانه
المؤدي ويكون مضمونا بالقضاء وعن أبي حنيفة
رحمه الله أنه لا يجب القضاء في فضل الصلاة
أيضا والأظهر هو الأول والله أعلم بالصواب.
باب الاعتكاف
قال: "الاعتكاف
مستحب" والصحيح أنه سنة مؤكدة
لأن النبي عليه الصلاة والسلام واظب عليه في
العشر الأواخر من رمضان والمواظبة دليل السنة
"وهو
اللبث في المسجد مع الصوم ونية الاعتكاف"
أما اللبث فركنه لأنه ينبئ عنه فكان وجوده به
والصوم من شرطه عندنا خلافا للشافعي رحمه الله
والنية شرط في سائر العبادات هو يقول إن الصوم
عبادة وهو أصل بنفسه فلا يكون شرطا لغيره.
ولنا قول عليه الصلاة والسلام "لا
إعتكاف إلا بالصوم" والقياس
في مقابلة النص المنقول غير مقبول ثم الصوم
شرط لصحة الواجب منه رواية واحدة ولصحة التطوع
فيما روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله لظاهر
ما روينا وعلى هذه الرواية لا يكون أقل من يوم
وفي رواية الأصل وهو قول محمد رحمه الله أقله
ساعة فيكون من غير صوم لأن مبنى النفي على
المساهلة ألا ترى أن يقعد في صلاة النفل مع
القدرة على القيام ولو شرع فيه ثم قطعه لا
يلزمه القضاء في رواية الأصل لأنه غير مقدر
فلم يكن القطع إبطالا وفي رواية الحسن يلزمه
لأنه مقدر باليوم كالصوم ثم الاعتكاف لا يصح
إلا في مسجد الجماعة لقول حذيفة رضي الله عنه
لا اعتكاف الا في مسجد جماعة وعن أبي حنيفة
رحمه الله أنه لا يصح إلا في مسجد يصلى فيه
الصلوات الخمس لأنه عبادة إنتظار الصلاة فيختص
بمكان تؤدى فيه أما المرأة فتعتكف في مسجد
بيتها لأنه هو الموضع لصلاتها فيتحقق انتظارها
فيه ولو لم يكن لها في البيت مسجد تجعل موضعا
فيه فتعتكف فيه "ولا
يخرج من المسجد إلا لحاجة الإنسان أو الجمعة"
أما الحاجة فلحديث عائشة رضي الله عنها كان
النبي عليه الصلاة والسلام لا يخرج من معتكفه
إلا لحاجة الإنسان ولأنه معلوم وقوعها ولا بد
من الخروج في تقضيتها فيصير الخروج لها مستثنى
ولا يمكث بعد فراغه من الطهور لأن ما ثبت
بالضرورة يتقدر بقدرها وأما الجمعة فلأنها من
أهم حوائجه وهي معلوم وقوعها وقال الشافعي
رحمه الله الخروج إليها مفسد لأنه يمكنه
الاعتكاف في الجامع ونحن نقول
ج / 1 ص -130-
الاعتكاف في كل مسجد مشروع وإذا صح الشروع
فالضرورة مطلقة في الخروج ويخرج حين تزول
الشمس لأن الخطاب يتوجه بعده وإن كان منزله
بعيدا عنه يخرج في وقت يمكنه إدراكها ويصلي
قبلها أربعا وفي رواية ستا الأربع سنة
والركعتان تحية المسجد وبعدها أربعا أو ستا
على حسب الاختلاف في سنة الجمعة وسننها توابع
لها فألحقت بها ولو أقام في مسجد الجامع أكثر
من ذلك لا يفسد اعتكافه لأنه موضع اعتكاف إلا
أنه لا يستحب لأنه إلتزم أداءه في مسجد واحد
فلا يتمه في مسجدين من غير ضرورة "ولو
خرج من المسجد ساعة بغير عذر فسد اعتكافه"
عند أبي حنيفة رحمه الله لوجود المنافى وهو
القياس وقالا لا يفسد حتى يكون أكثر من نصف
يوم وهو الاستحسان لأن في القليل ضرورة قال "وأما
الأكل والشرب والنوم يكون في معتكفه"
لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن لمأوى
إلا المسجد ولأنه يمكن قضاء هذه الحاجة في
المسجد فلا ضرورة إلى الخروج "ولا
بأس بأن يبيع ويبتاع في المسجد من غير أن يحضر
السلعة" لأنه قد يحتاج إلى
ذلك بأن لا يجد من يقوم بحاجته إلا أنهم قالوا
يكره إحضار السلعة للبيع والشراء لأن المسجد
محرز من حقوق العباد وفيه شغله بها ويكره لغير
المعتكف البيع والشراء فيه لقوله عليه الصلاة
والسلام "جنبوا مساجدكم صبيانكم"
إلى أن قال "وبيعكم وشراءكم".
قال: "ولا
يتكلم إلا بخير ويكره له الصمت"
لأن صوم الصمت ليس بقربة في شريعتنا لكنه
يتجانب ما يكون مأثما "ويحرم
على المعتكف الوطء" لقوله
تعالى:
{وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] "و"
كذا "اللمس
والقبلة" لأنه من دواعيه
فيحرم عليه إذ هو محظوره كما في الإحرام بخلاف
الصوم لأن الكف ركنه لا محظوره فلم يتعد إلى
دواعيه "فإن
جامع ليلا أو نهارا عامدا أو ناسيا بطل
اعتكافه" لأن الليل محل
الاعتكاف بخلاف الصوم وحالة العاكفين مذكرة
فلا يعذر بالنسيان "ولو
جامع فيما دون الفرج فأنزل أو قبل أو لمس
فأنزل بطل اعتكافه" لأنه في
معنى الجماع حتى يفسد به الصوم ولو لم ينزل لا
يفسد إن كان محرما لأنه ليس في معنى الجماع
وهو المفسد ولهذا لا يفسد به الصوم.
قال: "ومن
أوجب على نفسه اعتكاف أيام لزمه اعتكافها
بلياليها" لأن ذكر الأيام على
سبيل الجمع يتناول ما بازائها من الليالي يقال
ما رأيتك منذ أيام والمراد بلياليها وكانت "متتابعة
وان لم يشترط التتابع" لأن
مبنى الاعتكاف على التتابع لأن الأوقات كلها
قابلة له بخلاف الصوم لأن مبناه على التفرق
لأن الليالي غير قابلة للصوم فيجب على التفرق
حتى ينص على التتابع
"وإن نوى الأيام خاصة صحت نيته"
لأنه نوى الحقيقة "ومن
أوجب على
ج / 1 ص -131-
نفسه اعتكاف يومين يلزمه بليلتيهما قال أبو
يوسف رحمه الله لا تدخل الليلة الأولى" لأن المثنى غير الجمع وفي المتوسطة ضرورة الاتصال وجه الظاهر أن
في المثنى معنى الجمع فيلحق به احتياطا لأمر
العبادة والله أعلم. |