الهداية
في شرح بداية المبتدي ج / 1 ص -132-
كتاب الحج
"الحج
واجب على الأحرار البالغين العقلاء الأصحاء
إذا قدروا على الزاد والراحلة فاصلا عن المسكن
وما لا بد منه وعن نفقة عياله إلى حين عوده
وكان الطريق آمنا" وصفه
بالوجوب وهو فريضة محكمة ثبتت فرضيته بالكتاب
وهو قوله تعالى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] الآية "ولا يجب في العمر الا مرة واحدة"
لأنه عليه الصلاة والسلام قيل له الحج في كل
عام أم مرة واحدة فقال "لا
بل مرة واحدة فما زاد فهو تطوع"
ولأن سببه البيت وإنه لا يتعدد فلا يتكرر
الوجوب ثم هو واجب على الفور عند أبي يوسف
رحمه الله وعن أبي حنيفة رحمه الله ما يدل
عليه وعند محمد والشافعي رحمهما الله على
التراخي لأنه وظيفة العمر فكان العمر فيه
كالوقت في الصلاة وجه الأول أنه يختص بوقت خاص
والموت في سنة واحدة غير نادر فيتضيق احتياطا
ولهذا كان التعجيل أفضل بخلاف وقت الصلاة لأن
الموت في مثله نادر وإنما شرط الحرية والبلوغ
لقوله عليه الصلاة والسلام "أيما
عبد حج عشر حجج ثم أعتق فعليه حجة الإسلام
وأيما صبي حج عشر حجج ثم بلغ فعليه حجة
الإسلام" ولأنه عبادة والعبادات بأسرها موضوعة عن الصبيان والعقل شرط لصحة
التكليف وكذا صحة الجوارح لأن العجز دونها
لازم والأعمى إذا وجد من يكفيه مؤنة سفره ووجد
زادا وراحلة لا يجب عليه الحج عند أبي حنيفة
رحمه الله خلافا لهما وقد مر في كتاب الصلاة
وأما المقعد فعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يجب
لأنه مستطيع بغيره فأشبه المستطيع بالراحلة
وعن محمد رحمه الله أنه لا يجب لأنه غير قادر
على الأداء بنفسه بخلاف الأعمى لأنه لو هدى
يؤدي بنفسه فأشبه الضال عنه ولا بد من القدرة
على الزاد والراحلة وهو قدر ما يكترى به شق
محمل أو رأس زاملة وقدر النفقة ذاهبا وجائيا
لأنه عليه الصلاة والسلام سئل عن السبيل إليه
فقال "الزاد والراحلة"
وإن أمكنه أن يكترى عقبة فلا شئ عليه لأنهما
إذا كانا يتعاقبان لم توجد الراحلة في جميع
السفر ويشترط أن يكون فاضلا عن المسكن وعما لا
بد منه كالخادم وأثاث البيت وثيابه لأن هذه
الأشياء مشغولة بالحاجة الأصلية ويشترط أن
يكون فاضلا عن نفقة عياله إلى حين عوده لأن
النفقة حق مستحق للمرأة وحق العبد مقدم على حق
الشرع بأمره وليس من شرط
ج / 1 ص -133-
الوجوب
على أهل مكة ومن حولهم الراحلة لأنه لا تلحقهم
مشقة زائدة في الأداء فأشبه السعي الى الجمعة
ولا بد من أمن الطريق لأن الاستطاعة لا تثبت
دونه ثم قيل هو شرط الأداء دون الوجوب لأن
النبي عليه الصلاة والسلام فسر الاستطاعة
بالزاد والراحلة لا غير.
قال: "ويعتبر
في المرأة أن يكون لها محرم تحج به أو زوج ولا
يجوز لها أن تحج بغيرهما إذا كان بينها وبين
مكة مسيرة ثلاثة أيام" وقال
الشافعي رحمه الله يجوز لها الحج إذا خرجت في
رفقة ومعها نساء ثقات لحصول الأمن بالمرافقة.
ولنا قوله عليه الصلاة والسلام "لا
تحجن امرأة الا ومعها محرم"
ولأنها بدون المحرم يخاف عليها الفتنة وتزداد
بانضمام غيرها اليها ولهذا تحرم الخلوة
بالأجنبية وإن كان معها غيرها بخلاف ما إذا
كان بينها وبين مكة أقل من ثلاثة أيام لأنه
يباح لها الخروج إلى ما دون السفر بغير محرم "وإذا
وجدت محرما لم يكن للزوج منعها"
وقال الشافعي رحمه الله له أن يمنعها لأن في
الخروج تفويت حقه.
ولنا أن حق الزوج لا يظهر في حق الفرائض والحج
منها حتى لو كان الحج نفلا له أن يمنعها ولو
كان المحرم فاسقا قالوا لا يجب عليها لأن
المقصود لا يحصل به "ولها
أن تخرج مع كل محرم إلا أن يكون مجوسيا"
لأنه يعتقد إباحة مناكحتها ولا عبرة بالصبي
والمجنون لأنه لا تتأتى منهما الصيانة والصبية
التي بلغت حد الشهوة بمنزلة البالغة حتى لا
يسافر بها من غير محرم ونفقة المحرم عليها
لأنها تتوسل به إلى أداء الحج.
واختلفوا في أن المحرم شرط الوجوب أو شرط
الأداء على حسب اختلافهم في أمن الطريق "وإذا
بلغ الصبي بعدما أحرم أو أعتق العبد فمضيا لم
يجزهما عن حجة الاسلام" لأن
إحرامهما إنعقد لأداء النفل فلا ينقلب لأداء
الفرض "ولو
جدد الصبي الاحرام قبل الوقوف ونوى حجة
الاسلام جاز والعبد لو فعل ذلك لم يجز"
لأن إحرام الصبي غير لازم لعدم الأهلية أما
إحرام العبد لازم فلا يمكنه الخروج عنه
بالشروع في غيره والله أعلم.
فصل
"والمواقيت التي لا يجوز أن يجاوزها
الإنسان إلا محرما خمسة لأهل المدينة ذو
الحليفة ولأهل العراق ذات عرق ولأهل الشام
الجحفة ولأهل نجد قرن ولأهل اليمن يلملم"
هكذا وقت رسول الله عليه الصلاة والسلام هذه
المواقيت لهؤلاء.
وفائدة التأقيت المنع عن تأخير الإحرام عنها
لأنه يجوز التقديم عليها بالاتفاق "ثم
ج / 1 ص -134-
الأفاقى إذا إنتهى إليها على قصد دخول مكة
عليه أن يحرم قصد الحج أو العمرة أو لم يقصد
عندنا" لقوله عليه الصلاة والسلام "لا يجاوز أحد الميقات إلا محرما" ولأن وجوب الإحرام لتعظيم هذه البقعة الشريفة فيستوي فيه الحاج
والمعتمر وغيرهما "ومن
كان داخل الميقات له أن يدخل مكة بغير إحرام
لحاجته" لأنه يكثر دخوله مكة
وفي إيجاب الإحرام في كل مرة حرج بين فصار
كأهل مكة حيث يباح لهم الخروج منها ثم دخولها
بغير إحرام لحاجتهم بخلاف ما إذا قصد أداء
النسك لأنه يتحقق أحيانا فلا حرج "فإن
قدم الإحرام على هذه المواقيت جاز"
لقوله تعالى:
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وإتمامهما أن يحرم بهما من دويرة أهله كذا قاله علي
وابن مسعود رضي الله عنهما والأفضل التقديم
عليها لأن إتمام الحج مفسر به والمشقة فيه
أكثر والتعظيم أوفر وعن أبي حنيفة رحمه الله
إنما يكون أفضل إذا كان يملك نفسه أن لا يقع
في محظور "ومن
كان داخل الميقات فوقته الحل معناه الحل"
الذي بين المواقيت وبين الحرم لأنه يجوز
إحرامه من دويرة أهله وما وراء الميقات إلى
الحرم مكان واحد
ومن كان بمكة فوقته في الحج الحرم وفي العمرة
الحل لأن النبي عليه الصلاة
والسلام أمر أصحابه رضي الله عنهم أن يحرموا
بالحج من جوف مكة وأمر أخا عائشة رضي الله
عنهما أن يعمرها من التنعيم وهو في الحل ولأن
أداء الحج في عرفة وهي في الحل فيكون الاحرام
من الحرم ليتحقق نوع سفر وأداء العمرة في
الحرم فيكون الإحرام من الحل لهذا إلا أن
التنعيم أفضل لورود الأثر به والله أعلم.
باب الإحرام
"وإذا
أراد الإحرام اغتسل أو توضأ والغسل أفضل"
لما روي أنه عليه الصلاة والسلام اغتسل
لإحرامه إلا أنه للتنظيف حتى تؤمر به الحائض
وإن لم يقع فرضها عنها فيقوم الوضوء مقامه كما
في الجمعة لكن الغسل أفضل لأن معنى النظافة
فيه أتم ولأنه عليه الصلاة والسلام اختاره.
قال: "ولبس
ثوبين جديدين أو غسيلين إزارا ورداء"
لأنه عليه السلام ائتزر وارتدى عند إحرامه
ولأنه ممنوع عن لبس المخيط ولا بد من ستر
العورة ودفع الحر والبرد وذلك فيما عيناه
والجديد أفضل لأنه أقرب إلى الطهارة.
قال: "ومس
طيبا إن كان له" وعن محمد
رحمه الله أنه يكره إذا تطيب بما تبقى عينه
بعد الإحرام وهو قول مالك والشافعي رحمهما
الله لأنه منتفع بالطيب بعد الإحرام ووجه
المشهور حديث عائشة رضي الله عنها قالت كنت
أطيب رسول الله عليه الصلاة والسلام
ج / 1 ص -135-
لإحرامه قبل أن يحرم والممنوع عنه التطيب بعد
الإحرام والباقي كالتابع له لاتصاله به بخلاف
الثوب لأنه مباين عنه.
قال: "وصلى
ركعتين" لما روى جابر رضي
الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى
بذي الحليفة ركعتين عند إحرامه قال: "وقال
اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني"
لأن أداءه في أزمنة متفرقة وأماكن متباينة فلا
يعرى عن المشقة عادة فيسأل التيسير وفي الصلاة
لم يذكر مثل هذا الدعاء لأن مدتها يسيرة
وأداءها عادة متيسر.
قال: "ثم
يلبي عقيب صلاته" لما روى أن
النبي عليه الصلاة والسلام لبى في دبر صلاته
وإن لبى بعد ما استوت به راحلته جاز ولكن
الأول أفضل لما روينا "وإن
كان مفردا بالحج ينوي بتلبيته الحج"
لأنه عبادة والأعمال بالنيات "والتلبية
أن يقول لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك
إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك"
وقوله: إن الحمد بكسر الألف لا بفتحها ليكون
ابتداء لا بناء إذ الفتحة صفة الأولى وهو
إجابة لدعاء الخليل صلوات الله عليه على ما هو
المعروف في القصة "ولا
ينبغي أن يخل بشيء من هذه الكلمات"
لأنه هو المنقول باتفاق الرواة فلا ينقص عنه "ولو
زاد فيها جاز" خلافا للشافعي
رحمه الله في رواية الربيع رحمه الله عنه هو
اعتبره بالأذان واستشهد من حيث إنه ذكر منظوم.
ولنا أن أجلاء الصحابة كابن مسعود وابن عمر
وأبي هريرة رضي الله عنهم زادوا على المأثور
ولأن المقصود الثناء وإظهار العبودية فلا يمنع
من الزيادة عليه.
قال: "وإذا
لبى فقد أحرم" يعني إذا نوى
لأن العبادة لا تتأدى إلا بالنية إلا أنه لم
يذكرها لتقدم الإشارة إليها في قوله اللهم إني
أريد الحج "ولا
يصير شارعا في الإحرام بمجرد النية ما لم يأت
بالتلبية" خلافا للشافعي رحمه
الله لأنه عقد على الأداء فلا بد من ذكركما في
تحريمة الصلاة ويصير شارعا بذكر يقصد به
التعظيم سوى التلبية فارسية كانت أو عربية هذا
هو المشهور عن أصحابنا رحمهم الله والفرق بينه
وبين الصلاة على أصلهما أن باب الحج أوسع من
باب الصلاة حتى يقام غير الذكر مقام الذكر
كتقليد البدن فكذا غير التلبية وغير العربية.
قال: "ويتقى
ما نهى الله تعالى عنه من الرفث والفسوق
والجدال" والأصل فيه قوله
تعالى:
{فَلا رَفَثَ
وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}
[البقرة: 197] فهذا نهي بصيغة النفي والرفث
الجماع أو الكلام الفاحش أو ذكر الجماع بحضرة
النساء والفسوق: المعاصي
ج / 1 ص -136-
وهو في
حال الإحرام أشد حرمة والجدال أن يجادل رفيقه
وقيل مجادلة المشركين في تقديم وقت الحج
وتأخيره "ولا
يقتل صيدا" لقوله تعالى:
{لا
تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}
[المائدة: 95] "ولا
يشير إليه ولا يدل عليه"
لحديث أبي قتادة رضي الله عنه أنه أصاب حمار
وحش وهو حلال وأصحابه محرمون فقال النبي عليه
الصلاة والسلام لأصحابه "أهل
أشرتم هل دللتم هل أعنتم"
فقالوا لا فقال "إذا فكلوا" ولأنه إزالة الأمن عن الصيد لأنه آمن بتوحشه وبعده عن الأعين.
قال: "ولا
يلبس قميصا ولا سراويل ولا عمامة ولا خفين إلا
أن لا يجد نعلين فيقطعهما أسفل من الكعبين"
لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى أن
يلبس المحرم هذه الأشياء وقال في آخره "ولا
خفين إلا أن لا يجد نعلين فليقطعهما أسفل من
الكعبين" والكعب هنا المفصل الذي في وسط القدم عند مقعد الشراك دون الناتيء
فيما روى هشام عن محمد رحمه الله.
قال: "ولا
يغطي وجهه ولا رأسه" وقال
الشافعي يجوز للرجل تغطية الوجه لقوله عليه
السلام "إحرام
الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها".
ولنا قوله عليه الصلاة والسلام "لا
تخمروا وجهه ولا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة
ملبيا" قاله في محرم توفى ولأن المرأة لا تغطي وجهها مع أن في الكشف فتنة
فالرجل بالطريق الأولى وفائدة ما روى الفرق في
تغطية الرأس.
قال: "ولا
يمس طيبا" لقوله عليه الصلاة
والسلام "الحاج الشعث التفل"
"وكذا
لا يدهن" لما روينا "ولا
يحلق رأسه ولا شعر بدنه"
لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ} [البقرة: 196] الآية "ولا يقص من لحيته"
لأنه في معنى الحلق ولأن فيه إزالة الشعث
وقضاء التفث.
قال: "ولا
يلبس ثوبا مصبوغا بورس ولا زعفران ولا عصفر"
لقوله عليه الصلاة والسلام "لا يلبس المحرم
ثوبا مسه زعفران ولا ورس".
قال: "إلا
أن يكون غسيلا لا ينفض" لأن
المنع للطيب لا للون وقال الشافعي رحمه الله
لا بأس بلبس المعصفر لأنه لون لا طيب له ولنا
أن له رائحة طيبة.
قال: "ولا
بأس بأن يغتسل ويدخل الحمام"
لأن عمر رضي الله عنه اغتسل وهو محرم و لا بأس
بأن "يستظل
بالبيت والمحمل" وقال مالك
رحمه الله يكره أن يستظل بالفسطاط وما أشبه
ذلك لأنه يشبه تغطية الرأس.
ج / 1 ص -137-
ولنا
أن عثمان رضي الله عنه كان يضرب له فسطاط في
إحرامه ولأنه لا يمس بدنه فأشبه البيت "ولو
دخل تحت أستار الكعبة حتى غطته إن كان لا يصيب
رأسه ولا وجهة فلا بأس به"
لأنه استظلال "و"
لا بأس بأن "يشد
في وسطه الهميان" وقال مالك
رحمه الله يكره إذا كان فيه نفقة غيره لأنه لا
ضرورة.
ولنا أنه ليس في معنى لبس المخيط فاستوت فيه
الحالتان "ولا
يغسل رأسه ولا لحيته بالخطمى"
لأنه نوع طيب ولأنه يقتل هوام الرأس.
قال: "ويكثر
من التلبية عقيب الصلوات وكلما علا شرفا أو
هبط واديا أو لقي ركبا وبالأسحار"
لأن أصحاب رسول الله عليه السلام رضي الله
عنهم كانوا يلبون في هذه الأحوال والتلبية في
الإحرام على مثال التكبير في الصلاة فيؤتى بها
عند الإنتقال من حال إلى حال "ويرفع
صوته بالتلبية" لقوله عليه
الصلاة والسلام "أفضل الحج العج والثج"
فالعج رفع الصوت بالتلبية والثج إسالة الدم.
قال: "فإذا
دخل مكة ابتدأ بالمسجد الحرام"
لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام كما دخل
مكة دخل المسجد ولأن المقصود زيارة البيت وهو
فيه ولا يضره ليلا دخلها أو نهارا لأنه دخول
بلدة فلا يختص بأحدهما "وإذا عاين البيت كبر وهلل"
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول إذا لقي
البيت باسم الله والله أكبر ومحمد رحمه الله
لم يعين في الأصل لمشاهد الحج شيئا من الدعوات
لأن التوقيت يذهب بالرقة وإن تبرك بالمنقول
منها فحسن.
قال: "ثم
ابتدأ بالحجر الأسود فاستقبله وكبر وهلل"
لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل
المسجد فابتدأ بالحجر فاستقبله وكبر وهلل.
قال: "ويرفع
يديه" لقوله عليه السلام "لا
ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن وذكر من جملتها
استلام الحجر".
قال: "واستلمه
إن استطاع من غير أن يؤذي مسلما"
لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام قبل
الحجر الأسود ووضع شفتيه عليه وقال لعمر رضي
الله عنه "إنك رجل أيد تؤذي الضعيف فلا تزاحم الناس على الحجر ولكن إن وجدت فرجة
فاستلمه وإن لا فاستقبله وهلل وكبر"
ولأن الإستلام سنة والتحرز عن أذى المسلم
واجب.
قال: "وإن
أمكنه أن يمس الحجر بشيء في يده"
كالعرجون وغيره "ثم
قبل ذلك فعل" لما روى أنه
عليه الصلاة والسلام
طاف على راحلته واستلم الأركان بمحجنه وإن
لم
ج / 1 ص -138-
يستطع
شيئا من ذلك استقبله وكبر وهلل وحمد الله وصلى
على النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: "ثم
أخذ عن يمينه مما يلي الباب وقد اضطبع رداءه
قبل ذلك فيطوف بالبيت سبعة أشواط"
لما روى
أنه عليه
الصلاة و السلام استلم
الحجر ثم أخذ عن يمينه مما يلي الباب فطاف
سبعة أشواط
"والاضطباع
أن يجعل رداءه تحت إبطه الأيمن ويلقيه على
كتفه الأيسر" وهو سنة وقد نقل
ذلك عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.
قال: "ويجعل
طوافه من وراء الحطيم" وهو
اسم لموضع فيه الميزاب سمي به لأنه حطم من
البيت أي كسر وسمي حجرا لأنه حجر منه أي منع
وهو من البيت لقوله عليه الصلاة و السلام في
حديث عائشة رضي الله عنها "فإن الحطيم من البيت"
فلهذا يجعل الطواف من ورائه حتى لو دخل الفرجة
التي بينه وبين البيت لا يجوز إلا أنه إذا
استقبل الحطيم وحده لا تجزيه الصلاة لأن فرضية
التوجه ثبتت بنص الكتاب فلا تتأدى بما ثبت
بخبر الواحد احتياطا والاحتياط في الطواف أن
يكون وراءه.
قال: "ويرمل
في الثلاثة الأول من الأشواط"
والرمل أن يهز في مشيته الكتفين كالمبارز
يتبختر بين الصفين وذلك مع الاضطباع وكان سببه
إظهار الجلد للمشركين حين قالوا أضناهم حمى
يثرب ثم بقي الحكم بعد زوال السبب في زمن
النبي عليه السلام وبعده.
قال: "ويمشي
في الباقي على هينته" على ذلك
اتفق رواة نسك رسول الله عليه السلام "والرمل
من الحجر إلى الحجر" وهو
المنقول من رمل النبي عليه السلام "فإن
زحمه الناس في الرمل قام فإذا وجد مسلكا رمل"
لأنه لا بدل له فيقف حتى يقيمه على وجه السنة
بخلاف الإستلام لأن الاستقبال بدل له.
قال: "ويستلم
الحجر كلما مر به إن استطاع"
لأن أشواط الطواف كركعات الصلاة فكما يفتتح كل
ركعة بالتكبير يفتتح كل شوط باستلام الحجر وإن
لم يستطع الإستلام استقبل وكبر وهلل على ما
ذكرنا "ويستلم
الركن اليماني" وهو حسن في
ظاهر الرواية وعن محمد رحمه الله أنه سنة "ولا
يستلم غيرهما" فإن النبي عليه
الصلاة والسلام كان يستلم هذين الركنين ولا
يستلم غيرهما "ويختم
الطواف بالإستلام" يعني
استلام الحجر.
قال: "ثم
يأتي المقام فيصلي عنده ركعتين أو حيث تيسر من
المسجد" وهي واجبة عندنا وقال
الشافعي رحمه الله سنة لإنعدام دليل الوجوب
ولنا قوله عليه الصلاة والسلام "وليصل الطائف
لكل أسبوع ركعتين" والأمر للوجوب "ثم يعود إلى الحجر فيستلمه"
لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام لما صلى
ركعتين عاد إلى الحجر، والأصل أن كل طواف
ج / 1 ص -139-
بعده
سعي يعود إلى الحجر لأن الطواف لما كان يفتتح
بالإستلام فكذا السعي يفتتح به بخلاف ما إذا
لم يكن بعده سعي.
قال: "وهذا
الطواف طواف القدوم" ويسمى
طواف التحية "وهو
سنة وليس بواجب" وقال مالك
رحمه الله إنه واجب لقوله عليه الصلاة والسلام
"من أتى البيت فليحيه بالطواف".
ولنا أن الله تعالى أمر بالطواف والأمر المطلق
لا يقتضي التكرار وقد تعين طواف الزيارة
بالإجماع وفيما رواه سماه تحية وهو دليل
الاستحباب "وليس
على أهل مكة طواف القدوم"
لانعدام القدوم في حقهم.
قال: "ثم
يخرج إلى الصفا فيصعد عليه ويستقبل البيت
ويكبر ويهلل ويصلي على النبي صلى الله عليه
وسلم ويرفع يديه ويدعو الله لحاجته"
لما روى
أن النبي عليه الصلاة والسلام صعد الصفا حتى إذا نظر إلى البيت قام
مستقبل القبلة يدعو الله
ولأن الثناء والصلاة يقدمان على الدعاء تقريبا
إلى الإجابة كما في غيره مع الدعوات والرفع
سنة الدعاء وإنما يصعد بقدر ما يصير البيت
بمرأى منه لأن الاستقبال هو المقصود بالصعود
ويخرج إلى الصفا من أي باب شاء وإنما خرج
النبي صلى الله عليه وسلم من باب بني مخزوم
وهو الذي يسمى باب الصفا لأنه كان أقرب
الأبواب إلى الصفا إلا أنه سنة.
قال: "ثم
ينحط نحو المروة ويمشي على هينته فإذا بلغ بطن
الوادي يسعى بين الميلين الأخضرين سعيا ثم
يمشي على هينته حتى يأتي المروة فيصعد عليها
ويفعل كما فعل على الصفا" لما
روى أن النبي عليه الصلاة والسلام نزل من
الصفا وجعل يمشي نحو المروة وسعى في بطن
الوادي حتى إذا خرج من بطن الوادي مشى حتى صعد
المروة وطاف بينهما سبعة أشواط.
قال: "وهذا
شوط واحد فيطوف سبعة أشواط يبدأ بالصفا ويختم
بالمروة ويسعى في بطن الوادي في كل شوط"
لما روينا وإنما يبدأ بالصفا لقوله عليه
الصلاة والسلام فيه "ابدءوا بما بدأ الله تعالى به" ثم السعي بين الصفا والمروة واجب وليس بركن وقال الشافعي رحمه
الله إنه ركن لقوله عليه الصلاة والسلام "إن الله تعالى كتب عليكم السعي فاسعوا".
ولنا قوله تعالى:
{فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ
بِهِمَا} [البقرة: 158] ومثله يستعمل للإباحة فينفي الركنية والإيجاب إلا
أنا عدلنا عنه في الإيجاب ولأن الركنية لا
تثبت
ج / 1 ص -140-
إلا
بدليل مقطوع به ولم يوجد ثم معنى ما روى كتب
استحبابا كما في قوله تعالى:
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة: 180] الآية.
قال: "ثم
يقيم بمكة حراما" لأنه محرم
بالحج فلا يتحلل قبل الإتيان بأفعاله قال "ويطوف
بالبيت كلما بدا له" لأنه
يشبه الصلاة قال عليه الصلاة والسلام "الطواف بالبيت صلاة والصلاة خير موضوع" فكذا الطواف إلا أنه لا يسعى عقيب هذه إلا طوفة في هذه المدة لأن
السعي لا يجب فيه إلا مرة والتنقل بالسعي غير
مشروع ويصلى لكل أسبوع ركعتين وهي ركعتا
الطواف على ما بينا.
قال: "فإذا
كان قبل يوم التروية بيوم خطب الامام خطبة
يعلم فيها الناس الخروج إلى منى والصلاة
بعرفات والوقوف والافاضة".
والحاصل أن في الحج ثلاث خطب أولها ما ذكرنا
والثانية بعرفات يوم عرفة والثالثة بمنى في
اليوم الحادي عشر فيفصل بين كل خطبتين بيوم
وقال زفر رحمه الله يخطب في ثلاثة أيام
متوالية أولها يوم التروية لأنها أيام الموسم
ومجتمع الحاج.
ولنا أن المقصود منها التعليم ويوم التروية
ويوم النحر يوما اشتغال فكان ما ذكرناه أنفع
وفي القلوب أنجع "فإذا
صلى الفجر يوم التروية بمكة خرج إلى منى فيقيم
بها حتى يصلي الفجر من يوم عرفة"
لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام
صلى الفجر يوم التروية بمكة فلما طلعت الشمس
راح إلى منى فصلى بمنى الظهر والعصر والمغرب
والعشاء والفجر ثم راح إلى عرفات
"ولو
بات بمكة ليلة عرفة وصلى بها الفجر ثم غدا إلى
عرفات ومر بمنى أجزأه" لأنه
لا يتعلق بمنى في هذا اليوم إقامة نسك ولكنه
أساء بتركه الاقتداء برسول الله عليه الصلاة
والسلام.
قال: "ثم
يتوجه إلى عرفات فيقيم بها"
لما روينا وهذا بيان الأولوية أما لو دفع قبله
جاز لأنه لا يتعلق بهذا المقام حكم قال في
الأصل وينزل بها مع الناس لأن الانتباذ تجبر
والحال حال تضرع والإجابة في الجمع أرجى وقيل
مراده أن لا ينزل على الطريق كيلا يضيق على
المارة.
قال: "وإذا
زالت الشمس يصلي الإمام بالناس الظهر والعصر
فيبتديء بالخطبة فيخطب خطبة يعلم فيها الناس
الوقوف بعرفة والمزدلفة ورمي الجمار والنحر
والحلق وطواف الزيارة يخطب خطبتين يفصل بينهما
بجلسة كما في الجمعة" هكذا
فعله رسول الله عليه الصلاة
ج / 1 ص -141-
والسلام، وقال مالك رحمه الله يخطب بعد الصلاة
لأنها خطبة وعظ وتذكير فأشبه خطبة العيد.
ولنا ما روينا ولأن المقصود منها تعليم
المناسك والجمع منها وفي ظاهر المذهب إذا صعد
الإمام المنبر فجلس أذن المؤذنون كما في
الجمعة وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يؤذن قبل
خروج الإمام وعنه أنه يؤذن بعد الخطبة والصحيح
ما ذكرنا لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما
خرج واستوى على ناقته أذن المؤذنون بين يديه
ويقيم المؤذن بعد الفراغ من الخطبة لأنه أوان
الشروع في الصلاة فأشبه الجمعة.
قال: "ويصلي
بهم الظهر والعصر في وقت الظهر بأذان وإقامتين"
وقد ورد النقل المستفيض باتفاق الرواة بالجمع
بين الصلاتين وفيما روى جابر رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم صلاهما بأذان
وإقامتين ثم بيانه أنه يؤذن للظهر ويقيم للظهر
ثم يقيم للعصر لأن العصر يؤدى قبل وقته
المعهود فيفرد بالإقامة إعلاما للناس
ولا يتطوع بين الصلاتين
تحصيلا لمقصود الوقوف ولهذا قدم العصر على
وقته فلو أنه فعل فعل مكروها وأعاد الأذان
للعصر في ظاهر الرواية خلافا لما روى عن محمد
رحمه الله لأن الاشتغال بالتطوع أو بعمل آخر
يقطع فور الأذان الأول فيعيده للعصر
فإن صلى بغير خطبة أجزأه لأن
هذه الخطبة ليست بفريضة.
قال: "ومن
صلى الظهر في رحله وحده صلى العصر في وقته
عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا يجمع بينهما
المنفرد لأن جواز الجمع للحاجة إلى امتداد
الوقوف والمنفرد محتاج إليه ولأبي حنيفة رحمه
الله أن المحافظة على الوقت فرض بالنصوص فلا
يجوز تركه إلا فيما ورد الشرع به وهو الجمع
بالجماعة مع الإمام والتقديم لصيانة الجماعة
لأنه يعسر عليهم الاجتماع للعصر بعد ما تفرقوا
في الموقف لا لما ذكراه إذ لا منافاة ثم عند
أبي حنيفة رحمه الله الإمام شرط في الصلاتين
جميعا وقال زفر رحمه الله في العصر خاصة لأنه
هو المغير عن وقته وعلى هذا الخلاف الاحرام
بالحج ولأبي حنيفة رحمه الله أن التقديم على
خلاف القياس عرفت شرعيته فيما إذا كانت العصر
مرتبة على ظهر مؤدى بالجماعة مع الإمام في
حالة الإحرام بالحج فيقتصر عليه ثم لا بد من
الإحرام بالحج قبل الزوال في رواية تقديما
للاحرام على وقت الجمع وفي أخرى يكتفي
بالتقديم على الصلاة لأن المقصود هو الصلاة.
قال: "ثم
يتوجه إلى الموقف فيقف بقرب الجبل والقوم معه
عقيب انصرافهم من
ج / 1 ص -142-
الصلاة" لأن النبي عليه الصلاة والسلام راح إلى الموقف عقيب الصلاة والجبل
يسمى جبل الرحمة والموقف الموقف الأعظم.
قال: "وعرفات
كلها موقف إلا بطن عرنة"
لقوله عليه الصلاة والسلام "عرفات كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة والمزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن
وادي محسر".
قال: "وينبغي
للامام أن يقف بعرفة على راحلته"
لأن النبي عليه الصلاة والسلام وقف على ناقته
"وإن
وقف على قدميه جاز" والأول
أفضل لما بينا "وينبغي
أن يقف مستقبل القبلة" لأن
النبي عليه السلام وقف كذلك وقال النبي عليه
السلام "خير المواقف ما استقبلت به القبلة" "ويدعو
ويعلم الناس المناسك" لما روى
أن النبي عليه السلام
كان يدعو يوم عرفة مادا يديه كالمستطعم المسكين "ويدعو
بما شاء" وإن ورد الآثار ببعض
الدعوات وقد أوردنا تفصيلها في كتابنا المترجم
بعدة الناسك في عدة من المناسك بتوفيق الله
تعالى.
قال: "وينبغي
للناس أن يقفوا بقرب الإمام"
لأنه يدعو ويعلم فيعوا ويسمعوا
وينبغي أن يقف وراء الإمام
ليكون مستقبل القبلة وهذا بيان الأفضلية لأن
عرفات كلها موقف على ما ذكرنا.
قال: "ويستحب
أن يغتسل قبل الوقوف بعرفة ويجتهد في الدعاء"
أما الإغتسال فهو سنة وليس بواجب ولو اكتفى
بالوضوء جاز كما في الجمعة والعيدين وعند
الإحرام وأما الاجتهاد فلأنه عليه الصلاة
والسلام اجتهد في الدعاء في هذا الموقف لأمته
فاستجيب له إلا في الدماء والمظالم "ويلبي
في موقفه ساعة بعد ساعة" وقال
مالك رحمه الله يقطع التلبية كما يقف بعرفة
لأن الإجابة باللسان قبل الاشتغال بالأركان
ولنا ما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام ما
زال يلبي حتى أتى جمرة العقبة ولأن التلبية
فيه كالتكبير في الصلاة فيأتي بها إلى آخر جزء
من الإحرام.
قال: "وإذا
غربت الشمس أفاض الإمام والناس معه على هيئتهم
حتى يأتوا المزدلفة" لأن
النبي عليه الصلاة والسلام دفع بعد غروب الشمس
ولأن فيه إظهار مخالفة المشركين وكان النبي
عليه الصلاة والسلام يمشي على راحلته في
الطريق على هيئته فإن خاف الزحام فدفع قبل
الإمام ولم يجاوز حدود عرفة أجزأه لأنه لم يفض
من عرفة والأفضل أن يقف في مقامه كي لا يكون
آخذا في الأداء قبل وقتها "فلو
مكث قليلا بعد غروب الشمس وإفاضة الإمام لخوف
الزحام فلا بأس به" لما روى
أن عائشة رضي الله عنها بعد إفاضة الإمام دعت
بشراب فأفطرت ثم أفاضت.
ج / 1 ص -143-
قال: "وإذا
أتى مزدلفة فالمستحب أن يقف بقرب الجبل الذي
عليه الميقدة يقال له قزح"
لأن النبي عليه الصلاة والسلام وقف عند هذا
الجبل وكذا عمر رضي الله عنه ويتحرز في النزول
عن الطريق كي لا يضر بالمارة فينزل عن يمينه
أو يساره ويستحب أن يقف وراء الإمام لما بينا
في الوقوف بعرفة.
قال: "ويصلي
الإمام بالناس المغرب والعشاء بأذان وإقامة
واحدة" وقال زفر رحمه الله
بأذان وإقامتين اعتبارا بالجمع بعرفة ولنا
رواية جابر رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة
والسلام جمع بينهما بأذان وإقامة واحدة ولأن
العشاء في وقته فلا يفرد بالإقامة علاما بخلاف
العصر بعرفة لأنه مقدم على وقته فأفرد بها
لزيادة الإعلام.
"ولا
يتطوع بينهما" لأنه يخل
بالجمع. ولو تطوع أو تشاغل بشيء أعاد الإقامة
لوقوع الفصل وكان ينبغي أن يعيد الأذان كما في
الجمع الأول بعرفة إلا أنا اكتفينا بإعادة
الإقامة لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام
صلى المغرب بمزدلفة ثم تعشى ثم أفرد الإقامة
للعشاء "ولا
تشترط الجماعة لهذا الجمع عند أبي حنيفة رحمه
الله" لأن المغرب مؤخرة عن
وقتها بخلاف الجمع بعرفة لأن العصر مقدم على
وقته.
قال: "ومن
صلى المغرب في الطريق لم تجزه عند أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله وعليه إعادتها ما لم يطلع
الفجر" وقال أبو يوسف رحمه
الله يجزيه وقد أساء وعلى هذا الخلاف إذا صلى
بعرفات لأبي يوسف رحمه الله أنه أداها في
وقتها فلا تجب إعادتها كما بعد طلوع الفجر إلا
أن التأخير من السنة فيصير مسيئا بتركه ولهما
ما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال لأسامة
رضي الله عنه في طريق المزدلفة "الصلاة أمامك"
معناه وقت الصلاة وهذا إشارة إلى أن التأخير
واجب وإنما وجب ليمكنه الجمع بين الصلاتين
بالمزدلفة فكان عليه الإعادة ما لم يطلع الفجر
ليصير جامعا بينهما وإذا طلع الفجر لا يمكنه
الجمع فسقطت الإعادة.
قال: "وإذا
طلع الفجر يصلي الإمام بالناس الفجر بغلس"
لرواية ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي عليه
الصلاة والسلام صلاها يومئذ بغلس ولأن في
التغليس دفع حاجة الوقوف فيجوز كتقديم العصر
بعرفة "ثم
وقف ووقف معه الناس ودعا" لأن
النبي عليه الصلاة والسلام وقف في هذا الموضع
يدعو حتى روى في حديث ابن عباس رضي الله عنهما
فاستجيب له دعاؤه لأمته حتى الدماء والمظالم
ثم هذا الوقوف واجب عندنا وليس بركن حتى لو
تركه بغير عذر يلزمه الدم وقال الشافعي رحمه
الله إنه ركن لقوله تعالى:
{فَاذْكُرُوا
ج / 1 ص -144-
اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}
[البقرة: 198] وبمثله تثبت الركنية.
ولنا ما روى أنه عليه الصلاة والسلام قدم ضعفة
أهله بالليل ولو كان ركنا لما فعل ذلك
والمذكور فيما تلا الذكر وهو ليس بركن
بالإجماع وإنما عرفنا الوجوب بقوله عليه
الصلاة والسلام "من وقف
معنا هذا الموقف وقد كان أفاض قبل ذلك من
عرفات فقد تم حجه"
علق به تمام الحج وهذا يصلح أمارة للوجوب غير
أنه إذا تركه بعذر بأن يكون به ضعف أو علة أو
كانت امرأة تخاف الزحام لا شيء عليه لما
روينا.
قال: "والمزدلفة
كلها موقف إلا وادي محسر" لما
روينا من قبل قال: "فإذا
طلعت الشمس أفاض الإمام والناس معه حتى يأتوا
منى" قال العبد الضعيف عصمه
الله تعالى هكذا وقع في نسخ المختصر وهذا غلط
والصحيح أنه إذا أسفر أفاض الإمام والناس لأن
النبي عليه الصلاة والسلام دفع قبل طلوع
الشمس.
قال: "فيبتديء
بجمرة العقبة فيرميها من بطن الوادي بسبع
حصيات مثل حصى الخذف" لأن
النبي عليه الصلاة والسلام لما أتى منى لم
يعرج على شيء حتى رمى جمرة العقبة وقال عليه
الصلاة والسلام "عليكم
بحصى الخذف لا يؤذي بعضكم بعضا" "ولو
رمى بأكبر منه جاز" لحصول
الرمي غير أنه لا يرمي بالكبار من الأحجار
كيلا يتأذى به غيره "ولو
رماها من فوق العقبة أجزأه"
لأن ما حولها موضع النسك والأفضل أن يكون من
بطن الوادي لما روينا "ويكبر
مع كل حصاة" كذا روى ابن
مسعود وابن عمر رضي الله عنهم "ولو سبح مكان التكبير أجزأه"
لحصول الذكر وهو من آداب الرمي "ولا
يقف عندها" لأن النبي عليه
الصلاة والسلام لم يقف عندها
ويقطع التلبية مع أول حصاة
لما روينا عن ابن مسعود رضي الله عنه وروى
جابر أن النبي عليه الصلاة والسلام قطع
التلبية عند أول حصاة رمى بها جمرة العقبة ثم
كيفية الرمي أن يضع الحصاة على ظهر إبهامه
اليمنى ويستعين بالمسبحة ومقدار الرمي أن يكون
بين الرامي وبين موضع السقوط خمسة أذرع فصاعدا
كذا روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله لأن ما
دون ذلك يكون طرحا "ولو
طرحها طرحا أجزأه" لأنه رمى
إلى قدميه إلا أنه مسيء لمخالفته السنة "ولو
وضعها وضعا لم يجزه" لأنه ليس
برمي "ولو رماها فوقعت قريبا من الجمرة يكفيه"
لأن هذا القدر مما لا يمكن الاحتراز عنه "ولو وقعت بعيدا منها لا يجزئه"
لأنه لم يعرف قربة إلا في مكان مخصوص "ولو
رمى بسبع حصيات جملة فهذه واحدة"
لأن المنصوص عليه تفرق الأفعال "ويأخذ
الحصى من أي موضع شاء إلا من عند الجمرة فإن
ذلك يكره" لأن ما عندها من
الحصى مردود هكذا جاء في الأثر فيتشاءم به ومع
هذا لو فعل أجزأه لوجود فعل الرمي "ويجوز
الرمي بكل ما كان من
ج / 1 ص -145-
أجزاء الأرض عندنا" خلافا
للشافعي رحمه الله لأن المقصود فعل الرمي وذلك
يحصل بالطين كما يحصل بالحجر بخلاف ما إذا رمى
بالذهب أو الفضة لأنه يسمى نثرا لا رميا.
قال: "ثم
يذبح إن أحب ثم يحلق أو يقصر"
لما روى عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه
قال "إن
أول نسكنا في يومنا هذا أن نرمي ثم نذبح ثم
نحلق"
ولأن الحلق من أسباب التحلل وكذا الذبح حتى
يتحلل به المحصر فيقدم الرمي عليهما ثم الحلق
من محظورات الإحرام فيقدم عليه الذبح وإنما
علق الذبح بالمحبة لأن الدم الذي يأتي به
المفرد تطوع والكلام في المفرد "والحلق أفضل" لقوله
عليه الصلاة والسلام "رحم الله
المحلقين" الحديث ظاهر بالترحم عليهم ولأن الحلق أكمل في قضاء التفث وهو
المقصود وفي التقصير بعض التقصير فأشبه
الاغتسال مع الوضوء ويكتفي في الحلق بربع
الرأس اعتبارا بالمسح وحلق الكل أولى اقتداء
برسول الله عليه الصلاة والسلام والتقصير أن
يأخذ من رءوس شعره مقدار الأنملة "وقد
حل له كل شيء إلا النساء"
وقال مالك رحمه الله وإلا الطيب أيضا لأنه من
دواعي الجماع ولنا قوله عليه الصلاة والسلام "فيه حل له كل
شيء إلا النساء" وهو مقدم على القياس "ولا يحل له الجماع فيما دون الفرج
عندنا" خلافا للشافعي رحمه
الله لأنه قضاء الشهوة بالنساء فيؤخر إلى تمام
الإحلال "ثم
الرمي ليس من أسباب التحلل عندنا"
خلافا للشافعي رحمه الله هو يقول إنه يتوقت
بيوم النحر كالحلق فيكون بمنزلته في التحليل
ولنا أن ما يكون محللا يكون جناية في غير
أوانه كالحلق والرمي ليس بجناية في غير أوانه
بخلاف الطواف لأن التحلل بالحلق السابق لا به.
قال: "ثم
يأتي مكة من يومه ذلك أو من الغد أو من بعد
الغد فيطوف بالبيت طواف الزيارة سبعة أشواط"
لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام لما حلق
أفاض إلى مكة فطاف بالبيت ثم عاد إلى منى وصلى
الظهر بمنى "ووقته
أيام النحر" لأن الله تعالى
عطف الطواف على الذبح قال:
{فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 28] ثم قال:
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] فكان وقتهما واحدا "وأول
وقته بعد طلوع الفجر من يوم النحر"
لأن ما قبله من الليل وقت الوقوف بعرفة
والطواف مرتب عليه وأفضل هذه الأيام أولها كما
في التضحية وفي الحديث: "أفضلها
أولها" "فإن
كان قد سعى بين الصفا والمروة عقيب طواف
القدوم لم يرمل في هذا الطواف ولا سعي عليه
وإن كان لم يقدم السعي رمل في هذا الطواف وسعى
بعده" لأن السعي لم يشرع إلا
مرة والرمل ما شرع إلا مرة في طواف بعده سعي "ويصلي
ركعتين بعد هذا الطواف" لأن
ختم كل طواف بركعتين فرضا كان الطواف أو نفلا
لما بيناه.
ج / 1 ص -146-
قال: "وقد
حل له النساء" ولكن بالحلق
السابق إذ هو المحلل لا بالطواف إلا أنه أخر
عمله في حق النساء.
قال: "وهذا
الطواف هو المفروض في الحج"
وهو ركن فيه إذ هو المأمور به في قوله تعالى:
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ
الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ويسمى طواف الإفاضة وطواف يوم النحر
ويكره تأخيره عن هذه الأيام
لما بينا أنه موقت بها
وإن أخره عنها لزمه دم عند أبي حنيفة رحمه
الله وسنبينه في باب الجنايات
إن شاء الله تعالى.
قال: "ثم
يعود إلى منى فيقيم بها" لأن
النبي عليه الصلاة والسلام رجع إليها كما
روينا ولأنه بقي عليه الرمي وموضعه بمنى "فإذا زالت الشمس من اليوم الثاني من
أيام النحر رمى الجمار الثلاث فيبدأ بالتي تلي
مسجد الخيف فيرميها بسبع حصيات يكبر مع كل
حصاة ويقف عندها ثم يرمي التي تليها مثل ذلك
ويقف عندها ثم يرمي جمرة العقبة كذلك ولا يقف
عندها" هكذا روى جابر رضي
الله عنه فيما نقل من نسك رسول الله عليه
الصلاة والسلام مفسرا "ويقف
عند الجمرتين في المقام الذي يقف فيه الناس
ويحمد الله ويثني عليه ويهلل ويكبر ويصلي على
النبي عليه الصلاة والسلام ويدعو بحاجته ويرفع
يديه" لقوله عليه الصلاة
والسلام "لا ترفع
الأيدي إلا في سبع مواطن" وذكر من
حملتها عند الجمرتين والمراد رفع الأيدي
بالدعاء وينبغي أن يستغفر للمؤمنين في دعائه
في هذه المواقف لأن النبي عليه الصلاة والسلام
قال "اللهم اغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج" ثم الأصل أن كل رمي بعده رمي يقف بعده لأنه في وسط العبادة فيأتي
بالدعاء فيه وكل رمي ليس بعده رمي لا يقف لأن
العبادة قد انتهت ولهذا لا يقف بعد جمرة
العقبة في يوم النحر أيضا.
قال: "وإذا
كان من الغد رمى الجمار الثلاث بعد زوال الشمس
كذلك وإن أراد أن يتعجل النفر إلى مكة نفر وإن
أراد أن يقيم رمى الجمار الثلاث في اليوم
الرابع بعد زوال الشمس" لقوله
تعالى:
{فَمَنْ
تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ
عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ
عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى}
[البقرة: 203] "والأفضل
أن يقيم" لما روى أن النبي
عليه الصلاة والسلام صبر حتى رمى الجمار
الثلاث في اليوم الرابع وله أن ينفر ما لم
يطلع الفجر من اليوم الرابع فإذا طلع الفجر لم
يكن له أن ينفر لدخول وقت الرمي وفيه خلاف
الشافعي رحمه الله "وإن
قدم الرمي في هذا اليوم" يعني
اليوم الرابع "قبل
الزوال بعد طلوع الفجر جاز عند أبي حنيفة رحمه
الله" وهذا استحسان وقالا لا
يجوز اعتبارا بسائر الأيام وإنما التفاوت في
ج / 1 ص -147-
رخصة
النفر فإذا لم يترخص التحق بها ومذهبه مروي عن
ابن عباس رضي الله عنهما ولأنه لما ظهر أثر
التخفيف في هذا اليوم في حق الترك فلأن يظهر
في جوازه في الأوقات كلها أولى بخلاف اليوم
الأول والثاني حيث لا يجوز الرمي فيهما إلا
بعد الزوال في المشهور من الرواية لأنه لا
يجوز تركه فيهما فبقي على الأصل المروي "فأما يوم النحر فأول وقت الرمي فيه من
وقت طلوع الفجر" وقال الشافعي
أوله بعد نصف الليل لما روي
أن النبي عليه الصلاة والسلام رخص للرماء أن يرموا ليلا.
ولنا قوله عليه الصلاة والسلام "لا
ترموا جمرة العقبة إلا مصبحين"
ويروى "حتى تطلع الشمس" فيثبت أصل الوقت بالأول والأفضلية بالثاني وتأويل ما روى الليلة
الثانية والثالثة ولأن ليلة النحر وقت الوقوف
والرمي يترتب عليه فيكون وقته بعده ضرورة ثم
عند أبي حنيفة يمتد هذا الوقت إلى غروب الشمس
لقوله عليه الصلاة والسلام "إن أول نسكنا
في هذا اليوم الرمي" جعل اليوم وقتا له وذهابه بغروب الشمس وعن أبي يوسف أنه يمتد إلى
وقت الزوال والحجة عليه ما روينا "وإن أخر إلى الليل رماه ولا شيء عليه"
لحديث الدعاء "وإن أخر
إلى الغد رماه" لأنه وقت جنس الرمي "وعليه دم" عند أبي
حنيفة رحمه الله لتأخيره عن وقته كما هو
مذهبه.
قال: "فإن
رماها راكبا أجزأه" لحصول فعل
الرمي "وكل
رمي بعده رمي فالأفضل أن يرميه ماشيا وإلا
فيرميه راكبا" لأن الأول بعده
وقوف ودعاء على ما ذكرنا فيرميه ماشيا ليكون
أقرب إلى التضرع وبيان الأفضل مروي عن أبي
يوسف رحمه الله "ويكره
أن لا يبيت بمنى ليالي الرمي"
لأن النبي عليه الصلاة والسلام بات بها وعمر
رضي الله عنه كان يؤدب على ترك المقام بها "ولو
بات في غيرها متعمدا لا يلزمه شيء عندنا"
خلافا للشافعي رحمه الله لأنه وجب ليسهل عليه
الرمي في أيامه فلم يكن من أفعال الحج فتركه
لا يوجب الجابر.
قال: "ويكره
أن يقدم الرجل ثقله إلى مكة ويقيم حتى يرمي"
لما روى أن عمر رضي الله عنه كان يمنع منه
ويؤدب عليه ولأنه يوجب شغل قلبه "وإذا
نفر إلى مكة نزل بالمحصب" وهو
الأبطح وهو اسم موضع قد نزل به رسول الله صلى
الله عليه وسلم وكان نزوله قصدا هو الأصح حتى
يكون النزول به سنة على ما روى أنه عليه
الصلاة والسلام قال لأصحابه "إنا نازلون غدا
بالخيف خيف بني كنانة حيث تقاسم المشركون فيه
على شركهم"
يشير إلى عهدهم على هجران بني هاشم فعرفنا أنه
نزل به إراءة للمشركين لطيف صنع الله تعالى به
فصار سنة كالرمل في الطواف.
ج / 1 ص -148-
قال: "ثم
دخل مكة وطاف بالبيت سبعة أشواط لا يرمل فيها
وهذا طواف الصدر" ويسمى طواف
الوداع وطواف آخر عهده بالبيت لأنه يودع البيت
ويصدر به "وهو واجب عندنا" خلافا
للشافعي لقوله عليه الصلاة والسلام "من
حج هذا البيت فليكن آخر عهده بالبيت الطواف"
ورخص للنساء الحيض تركه "إلا
على أهل مكة" لأنهم لا يصدرون
ولا يودعون ولا رمل فيه لما بينا أنه شرع مرة
واحدة ويصلي ركعتي الطواف بعده لما قدمنا "ثم
يأتي زمزم ويشرب من مائها"
لما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام استقى
دلوا بنفسه فشرب منه ثم أفرغ باقي الدلو في
البئر "ويستحب
أن يأتي الباب ويقبل العتبة ثم ياتي الملتزم"
وهو ما بين الحجر إلى الباب "فيضع
صدره ووجهه عليه ويتشبث بالأستار ساعة ثم يعود
إلى أهله" هكذا روى أن النبي
عليه الصلاة والسلام فعل بالملتزم ذلك قالوا
وينبغي أن ينصرف وهو يمشي وراءه ووجهه إلى
البيت متباكيا متحسرا على فراق البيت حتى يخرج
من المسجد فهذا بيان تمام الحج.
فصل
"وإذا لم يدخل المحرم مكة وتوجه إلى
عرفات ووقف بها" على ما بينا
"سقط
عنه طواف القدوم" لأنه شرع في
ابتداء الحج على وجه يترتب عليه سائر الأفعال
فلا يكون الإتيان به على غير ذلك الوجه سنة "ولا
شيء عليه بتركه" لأنه سنة
وبترك السنة لا يجب الجابر "ومن
أدرك الوقوف بعرفة ما بين زوال الشمس من يومها
إلى طلوع الفجر من يوم النحر فقد أدرك الحج"
فأول وقت الوقوف بعد الزوال عندنا لما روى أن
النبي عليه الصلاة والسلام وقف بعد الزوال
وهذا بيان أول الوقت وقال عليه الصلاة والسلام
"من أدرك عرفة
بليل فقد أدرك الحج ومن فاته عرفة بليل فقد
فاته الحج"
وهذا بيان آخر الوقت ومالك رحمه الله إن كان
يقول إن أول وقته بعد طلوع الفجر أو بعد طلوع
الشمس فهو محجوج عليه بما روينا "ثم إذا وقف بعد الزوال وأفاض من ساعته
أجزأه" عندنا لأنه عليه
الصلاة والسلام ذكره بكلمة أو فإنه قال "الحج عرفة فمن وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه" وهي كلمة التخيير وقال مالك رحمه الله لا يجزئه إلا أن يقف في
اليوم وجزء من الليل ولكن الحجة عليه ما
رويناه "ومن
اجتاز بعرفات نائما أو مغمى عليه أو لا يعلم
أنها عرفات جاز عن الوقوف"
لأن ما هو الركن قد وجب وهو الوقوف ولا يمتنع
ذلك بالإغماء والنوم كركن الصوم بخلاف الصلاة
لأنها لا تبقى مع الإغماء والجهل يخل بالنية
وهي ليست بشرط لكل ركن "ومن
أغمي عليه فأهل عنه رفقاؤه جاز عند أبي حنيفة
رحمه الله" وقالا
ج / 1 ص -149-
"لا
يجوز، ولو أمر إنسانا بأن يحرم عنه إذا أغمي
عليه أو نام فأحرم المأمور عنه صح"
بالإجماع حتى إذا أفاق أو استيقظ وأتى بأفعال
الحج جاز لهما أنه لم يحرم بنفسه ولا أذن
لغيره به وهذا لأنه لم يصرح بالإذن والدلالة
تقف على العلم وجواز الإذن به لا يعرفه كثير
من الفقهاء فكيف يعرفه العوام بخلاف ما إذا
أمر غيره بذلك صريحا وله أنه لما عاقدهم عقد
الرفقة فقد استعان بكل واحد منهم فيما يعجز عن
مباشرته بنفسه والإحرام هو المقصود بهذا السفر
فكان الإذن به ثابتا دلالة والعلم ثابت نظرا
إلى الدليل والحكم يدار عليه.
قال: "والمرأة
في جميع ذلك كالرجل" لأنها
مخاطبة كالرجل "غير
أنها لا تكشف رأسها" لأنه
عورة "وتكشف
وجهها" لقوله عليه الصلاة
والسلام "إحرام المرأة في وجهها"
"ولو
سدلت شيئا على وجهها وجافته عنه جاز"
هكذا روى عن عائشة رضي الله عنها ولأنه بمنزلة
الاستظلال بالمحمل "ولا
ترفع صوتها بالتلبية" لما فيه
من الفتنة "ولا
ترمل ولا تسعى بين الميلين"
لأنه مخل بستر العورة "ولا
تحلق ولكن تقصر" لما روي أن
النبي عليه الصلاة والسلام نهى النساء عن
الحلق وأمرهن بالتقصير ولأن حلق الشعر في حقها
مثله كحلق اللحية في حق الرجل
وتلبس من المخيط ما بدا لها
لأن في لبس غير المخيط كشف العورة قالوا ولا
تستلم الحجر إذا كان هناك جمع لأنها ممنوعة عن
مماسة الرجال إلا أن تجد الموضع خاليا.
قال: "ومن
قلد بدنة تطوعا أو نذرا أو جزاء صيد أو شيئا
من الأشياء وتوجه معها يريد الحج فقد أحرم"
لقوله عليه الصلاة والسلام "من
قلد بدنة فقد أحرم" ولأن سوق الهدى في
معنى التلبية في إظهار الإجابة لأنه لا يفعله
إلا من يريد الحج أو العمرة وإظهار الإجابة قد
يكون بالفعل كما يكون بالقول فيصير به محرما
لاتصال النية بفعل هو من خصائص الإحرام.
وصفة التقليد أن يربط على عنق بدنته قطعة نعل
أو عروة مزادة أو لحاء شجرة "فإن
قلدها وبعث بها ولم يسقها لم يصر محرما"
لما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كنت
أفتل قلائد هدى رسول الله عليه الصلاة والسلام
فبعث بها وأقام في أهله حلالا "فإن
توجه بعد ذلك لم يصر محرما حتى يلحقها"
لأن عند التوجه إذا لم يكن بين يديه هدى يسوقه
لم يوجد منه إلا مجرد النية وبمجرد النية لا
يصير محرما "فإذا
أدركها وساقها أو أدركها فقد اقترنت نيته بعمل
هو من خصائص الإحرام فيصير محرما"
كما لو ساقها في الابتداء.
ج / 1 ص -150-
قال: "إلا
في بدنة المتعة فإنه محرم حين توجه"
معناه إذا نوى الإحرام وهذا استحسان وجه
القياس فيه ماذكرنا ووجه الاستحسان أن هذا
الهدى مشروع على الابتداء نسكا من مناسك الحج
وضعا لأنه مختص بمكة ويجب شكرا للجمع بين أداء
النسكين وغيره قد يجب بالجناية وإن لم يصل إلى
مكة فلهذا اكتفى فيه بالتوجه وفي غيره توقف
على حقيقة الفعل "فإن جلل بدنة أو اشعرها أو قلد شاة لم
يكن محرما" لأن التجليل لدفع
الحر والبرد والذباب فلم يكن من خصائص الحج
والإشعار مكروه عند أبي حنيفة رحمه الله فلا
يكون من النسك في شيء وعندهما إن كان حسنا فقد
يفعل للمعالجة بخلاف التقليد لأنه يختص بالهدى
وتقليد الشاة غير معتاد وليس بسنة أيضا.
قال: "والبدن
من الإبل والبقر" وقال
الشافعي رحمه الله من الإبل خاصة لقوله عليه
الصلاة والسلام في حديث الجمعة
فالمتعجل منهم كالمهدي بدنة والذين يليه
كالمهدي بقرة فصل بينهما.
ولنا أن البدنة تنبئ عن البدانة وهي الضخامة
وقد اشتركا في هذا المعنى ولهذا يجزئ كل واحد
منهما عن سبعة والصحيح من الرواية في الحديث
كالمهدي جزورا والله تعالى أعلم بالصواب.
باب القران
"القران
أفضل من التمتع والإفراد"
وقال الشافعي رحمه الله الإفراد أفضل وقال
مالك رحمه الله التمتع أفضل من القران لأن له
ذكرا في القرآن ولا ذكر للقران فيه وللشافعي
رحمه الله قوله عليه الصلاة والسلام "القران رخصة"
ولأن في الإفراد زيادة التلبية والسفر والحلق.
ولنا قوله عليه الصلاة والسلام "يا
آل محمد أهلوا بحجة وعمرة معا" ولأن
فيه جمعا بين العبادتين فأشبه الصوم مع
الاعتكاف والحراسة في سبيل الله مع صلاة الليل
والتلبية غير محصورة والسفر غير مقصود والحلق
خروج عن العبادة فلا يترجح بما ذكر والمقصود
بما روي نفي قول أهل الجاهلية إن العمرة في
أشهر الحج من أفجر الفجور وللقران ذكر في
القرآن لأن المراد من قوله تعالى:
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] أن يحرم بهما من دويرة أهله على ما روينا من قبل ثم
فيه تعجيل الإحرام واستدامة إحرامهما من
الميقات إلى إن يفرغ منهما ولا كذلك التمتع
فكان القران أولى منه وقيل الاختلاف بيننا
ج / 1 ص -151-
وبين
الشافعي بناء على أن القارن عندنا يطوف طوافين
ويسعى سعيين وعنده طوافا واحدا وسعيا واحدا.
قال: "وصفة
القران أن يهل بالعمرة والحج معا من الميقات
ويقول عقيب الصلاة اللهم إني أريد الحج
والعمرة فيسرهما لي وتقبلهما مني"
لأن القران هو الجمع بين الحج والعمرة من قولك
قرنت الشيء بالشيء إذا جمعت بينهما وكذا إذا
أدخل حجة على عمرة قبل أن يطوف لها أربعة
أشواط لأن الجمع قد تحقق إذ الأكثر منها قائم
ومتى عزم على أدائهما يسأل التيسير فيهما وقدم
العمرة على الحج فيه ولذلك يقول لبيك بعمرة
وحجة معا لأنه يبدأ بأفعال العمرة فكذلك يبدأ
بذكرها وإن أخر ذلك في الدعاء والتلبية لا بأس
به لأن الواو للجمع ولو نوى بقلبه ولم يذكرهما
في التلبية أجزأه اعتبارا بالصلاة "فإذا
دخل مكة ابتدأ فطاف بالبيت سبعة أشواط يرمل في
الثلاث الأول منها ويسعى بعدها بين الصفا
والمروة وهذه أفعال العمرة ثم يبدأ بأفعال
الحج فيطوف طواف القدوم سبعة أشواط ويسعى بعده
كما بينا في المفرد ويقدم أفعال العمرة"
لقوله تعالى:
{فَمَنْ
تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ}
[البقرة: 96] والقران في معنى المتعة ولا يحلق
بين العمرة والحج لأن ذلك جناية على إحرام
الحج وإنما يحلق في يوم النحر كما يحلق المفرد
ويتحلل بالحلق عندنا لا بالذبح كما يتحلل
المفرد ثم هذا مذهبنا وقال الشافعي رحمه الله
يطوف طوافا واحدا ويسعى سعيا واحدا لقوله عليه
الصلاة والسلام "دخلت
العمرة في الحج إلى يوم القيامة"
ولأن مبنى القران على التداخل حتى اكتفي فيه
بتلبية واحدة وسفر واحد وحلق واحد فكذلك في
الأركان.
ولنا أنه لما طاف صبي بن معبد طوافين وسعى
سعيين قال له عمر رضي الله عنه هديت لسنة نبيك
ولأن القران ضم عبادة إلى عبادة وذلك إنما
يتحقق بأداء عمل كل واحد على الكمال ولأنه لا
تداخل في العبادات المقصودة والسفر للتوسل
والتلبية للتحريم والحلق للتحلل فليست هذه
الأشياء بمقاصد بخلاف الأركان ألا ترى أن شفعي
التطوع لا يتداخلان وبتحريمة واحدة يؤديان
ومعنى ما رواه "دخل وقت العمرة في وقت الحج".
قال: "فإن
طاف طوافين لعمرته وحجته وسعى سعيين يجزيه"
لأنه أتى بما هو المستحق عليه وقد أساء بتأخير
سعي العمرة وتقديم طواف التحية عليه ولا يلزمه
شيء أما عندهما فظاهر لأن التقديم والتأخير في
المناسك لا يوجب الدم عندهما وعنده طواف
التحية سنة وتركه لا يوجب الدم فتقديمه أولى
والسعي بتأخيره بالاشتغال بعمل آخر لا يوجب
الدم فكذا بالاشتغال بالطواف "وإذا
رمى الجمرة يوم النحر ذبح شاة أو بقرة أو بدنة
ج / 1 ص -152-
أو سبع بدنة فهذا دم القران"
لأنه في معنى المتعة والهدي منصوص عليه فيهما
والهدي من الإبل والبقر والغنم على ما نذكره
في بابه إن شاء الله تعالى وأراد بالبدنة ههنا
البعير وإن كان اسم البدنة يقع عليه وعلى
البقرة على ما ذكرنا وكما يجوز سبع البعير
يجوز سبع البقرة "فإذا
لم يكن له ما يذبح صام ثلاثة أيام في الحج
آخرها يوم عرفة وسبعة أيام إذا رجع إلى أهله"
لقوله تعالى:
{فَمَنْ لَمْ
يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي
الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ
عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}
[البقرة: 196] فالنص وإن ورد في التمتع
فالقران مثله لأنه مرتفق بأداء التسكين
والمراد بالحج والله أعلم وقته لأن نفسه لا
يصلح ظرفا إلا أن الأفضل أن يصوم قبل يوم
التروية بيوم ويوم التروية ويوم عرفة لأن
الصوم يدل على الهدي فيستحب تأخيره إلى آخر
وقته رجاء أن يقدر على الأصل "وإن
صامها بمكة بعد فراغه من الحج جاز"
ومعناه بعد مضي أيام التشريق لأن الصوم فيها
منهي عنه وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز لأنه
معلق بالرجوع إلا أن ينوي المقام فحينئذ يجزيه
لتعذر الرجوع.
ولنا أن معناه رجعتم عن الحج أي فرغتم إذ
الفراغ سبب الرجوع إلى أهله فكان الأداء بعد
السبب فيجوز "فإن
فاته الصوم حتى أتى يوم النحر لم يجزه إلا
الدم" وقال الشافعي رحمه الله
يصوم بعد هذه الأيام لأنه صوم موقت فيقضي كصوم
رمضان وقال مالك رحمه الله يصوم فيها لقوله
تعالى:
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ}
[البقرة: 196] وهذا وقته.
ولنا: النهي المشهور عن الصوم في هذه الأيام
فيتقيد به النص أو يدخله النقص فلا يتأدى به
ما وجب كاملا "ولا
يؤدى بعدها" لأن الصوم بدل
والأبدال لا تنصب إلا شرعا والنص خصه بوقت
الحج وجواز الدم على الأصل وعن عمر رضي الله
عنه أنه أمر في مثله بذبح الشاة فلو لم يقدر
على الهدي تحلل وعليه دمان دم التمتع ودم
التحلل قبل الهدي "فإن
لم يدخل القارن مكة وتوجه إلى عرفات فقد صار
رافضا لعمرته بالوقوف" لأنه
تعذر عليه أداؤها لأنه يصير باتيا أفعال
العمرة على أفعال الحج وذلك خلاف المشروع ولا
يصير رافضا بمجرد التوجه هو الصحيح من مذهب
أبي حنيفة رحمه الله أيضا والفرق
له بينه وبين مصلى الظهر يوم الجمعة إذا توجه
إليها أن الأمر هنالك بالتوجه متوجه بعد أداء
الظهر والتوجه في القران والتمتع منهي عنه قبل
أداء العمرة فافترقا.
قال: "وسقط
عنه دم القران" لأنه لما
ارتفضت العمرة لم يرتفق بأداء التسكين "وعليه
دم لرفض عمرته" بعد الشروع
فيها "وعليه
قضاؤها" لصحة الشروع فيها
فأشبه المحصر والله أعلم.
ج / 1 ص -153-
باب التمتع
"التمتع
أفضل من الإفراد عندنا" وعن
أبي حنيفة رحمه الله أن الإفراد أفضل لأن
المتمتع سفره واقع لعمرته والمفرد سفره واقع
لحجته وجه ظاهر الرواية أن في التمتع جمعا بين
العبادتين فأشبه القران ثم فيه زيادة نسك وهي
إراقة الدم وسفره واقع لحجته وإن تخللت العمرة
لأنها تبع للحج كتخلل السنة بين الجمعة والسعي
إليها "والمتمتع
على وجهين متمتع يسوق الهدي ومتمتع لا يسوق
الهدي" ومعنى التمتع الترفق
بأداء التسكين في سفر واحد من غير أن يلم
بأهله بينهما إلماما صحيحا ويدخله اختلافات
نبينها إن شاء الله تعالى "وصفته
أن يبتدئ من الميقات في أشهر الحج فيحرم
بالعمرة ويدخل مكة فيطوف لها ويسعى ويحلق أو
يقصر وقد حل من عمرته" وهذا
هو تفسير العمرة وكذلك إذا اراد أن يفرد
بالعمرة فعل ما ذكرنا هكذا فعل رسول الله عليه
الصلاة والسلام في عمرة القضاء وقال مالك رحمه
الله لا حلق عليه إنما العمرة الطواف والسعي
وحجتنا عليه ما روينا وقوله تعالى:
{مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ}
[الفتح: 27] الآية نزلت في عمرة القضاء ولأنها
لما كان لها تحرم بالتلبية كان لها تحلل
بالحلق كالحج "ويقطع
التلبية إذا ابتدأ بالطواف"
وقال مالك رحمه الله كما وقع بصره على البيت
لأن العمرة زيارة البيت وتتم به.
ولنا أن النبي عليه الصلاة والسلام في عمرة
القضاء قطع التلبية حين استلم الحجر ولأن
المقصود هو الطواف فيقطعها عند افتتاحه ولهذا
يقطعها الحاج عند افتتاح الرمي قال: "ويقيم
بمكة حلالا" لأنه حل من
العمرة.
قال: "فإذا
كان يوم التروية أحرم بالحج من المسجد"
والشرط أن يحرم من الحرم أما المسجد فليس
بلازم وهذا لأنه في معنى المكي وميقات المكي
في الحج الحرم على ما بينا "وفعل
ما يفعله الحاج المفرد" لأنه
مؤد للحج إلا أنه يرمل في طواف الزيارة ويسعى
بعده لأن هذا أول طواف له في الحج بخلاف
المفرد لأنه قد سعى مرة ولو كان هذا المتمتع
بعد ما أحرم بالحج طاف وسعى قبل أن يروح إلى
منى لم يرمل في طواف الزيارة ولا يسعى بعده
لأنه قد أتى بذلك مرة "وعليه
دم التمتع" للنص الذي تلوناه
"فإن
لم يجد صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع
إلى أهله" على الوجه الذي
بيناه في القران "فإن
صام ثلاثة أيام من شوال ثم اعتمر لم يجزه عن
الثلاثة" لأن سبب وجوب هذا
الصوم التمتع لأنه بدل عن الهدي وهو في هذه
الحالة غير متمتع فلا يجوز أداؤه قبل وجود
سببه "وإن
صامها" بمكة "بعد
ما أحرم بالعمرة قبل أن يطوف جاز عندنا"
خلافا للشافعي رحمه الله له قوله تعالى:
ج / 1 ص -154-
{فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] ولنا أنه أداء بعد انعقاد سببه والمراد بالحج
المذكور في النص وقته على ما بينا "والأفضل
تأخيرها إلى آخر وقتها وهو يوم عرفة"
لما بينا في القران "وإن
أراد المتمتع أن يسوق الهدي أحرم وساق هديه"
وهذا أفضل لأن النبي عليه الصلاة والسلام ساق
الهدايا مع نفسه ولأن فيه استعدادا ومسارعة "فإن
كانت بدنة قلدها بمزادة أو نعل"
لحديث عائشة رضي الله عنها على ما رويناه
والتقليد أولى من التجليل لن له ذكرا في
الكتاب ولأنه للإعلام والتجليل للزينة ويلبي
ثم يقلد لأنه يصير محرما بتقليد الهدي والتوجه
معه على ما سبق والأولى أن يعقد الإحرام
بالتلبية ويسوق الهدي وهو أفضل من أن يقودها
لأنه عليه الصلاة والسلام أحرم بذي الحليفة
وهداياه تساق بين يديه ولأنه أبلغ في التشهير
إلا إذا كانت لا تنقاد فحينئذ يقودها.
قال: "وأشعر
البدنة عند أبي يوسف ومحمد"
رحمهما الله "ولا
يشعر عند أبي حنيفة" رحمه
الله "ويكره"
والإشعار هو الإدماء بالجرح لغة "وصفته
أن يشق سنامها" بأن يطعن في
أسفل السنام "من
الجانب الأيمن أو الأيسر"
قالوا: والأشبه هو الأيسر لأن النبي عليه
الصلاة والسلام طعن في جانب اليسار مقصودا وفي
جانب الأيمن اتفاقا ويلطخ سنامها بالدم إعلاما
وهذا الصنع مكروه عند أبي حنيفة رحمه الله
وعندهما حسن وعند الشافعي رحمه الله سنة لأنه
مروي عن النبي عليه الصلاة والسلام وعن
الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ولهما أن
المقصود من التقليد أن لا يهاج إذا ورد ماء أو
كلأ أو يرد إذا ضل وأنه في الإشعار أتم لأنه
ألزم فمن هذا الوجه يكون سنة إلا أنه عارضته
جهة كونه مثلة فقلنا بحسنه ولأبي حنيفة رحمه
الله أنه مثلة وأنه منهي عنه ولو وقع التعارض
فالترجيح للمحرم وإشعار النبي عليه الصلاة
والسلام كان لصيانة الهدي لأن المشركين لا
يمتنعون عن تعرضه إلا به وقيل إن أبا حنيفة
كره إشعار أهل زمانه لمبالغتهم فيه على وجه
يخاف منه السراية وقيل إنما كره إيثاره على
التقليد.
قال: "فإذا
دخل مكة طاف وسعى" وهذا
للعمرة على ما بينا في متمتع لا يسوق الهدي "إلا
أنه لا يتحلل حتى يحرم بالحج يوم التروية"
لقوله عليه الصلاة والسلام "لو استقبلت من
أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة
وتحللت منها"
وهذا ينفي التحلل عند سوق الهدي "ويحرم
بالحج يوم التروية" كما يحرم
أهل مكة على ما بينا "وإن
قدم الإحرام قبله جاز وما عجل المتمتع من
الإحرام بالحج فهو أفضل" لما
فيه من المسارعة وزيادة المشقة وهذه الأفضلية
في حق من ساق الهدي وفي حق من لم يسق "وعليه
دم" وهو دم
ج / 1 ص -155-
التمتع
على ما بينا "وإذا
حلق يوم النحر فقد حل من الإحرامين"
لأن الحلق محلل في الحج كالسلام في الصلاة
فيتحلل به عنهما.
قال: "وليس
لأهل مكة تمتع ولا قران وإنما لهم الإفراد
خاصة" خلافا للشافعي رحمه
الله والحجة عليه قوله تعالى:
{ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ}[البقرة:
196] ولأن شرعهما للترفه بإسقاط إحدى السفرتين
وهذا في حق الأفاقي "ومن
كان داخل المواقيت فهو بمنزلة المكي حتى لا
يكون له متعة ولا قران" بخلاف
المكي إذا خرج إلى الكوفة وقرن حيث يصح لأن
عمرته وحجته ميقاتيتان فصار بمنزلة الأفاقي "وإذا
عاد المتمتع إلى بلده بعد فراغه من العمرة ولم
يكن ساق الهدي بطل تمتعه"
لأنه ألم بأهله فيما بين النسكين إلماما صحيحا
وبذلك يبطل التمتع كذا روي عن عدة من التابعين
"وإذا
ساق الهدي فإلمامه لا يكون صحيحا ولا يبطل
تمتعه" عند أبي حنيفة وأبي
يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله يبطل
لأنه أداهما بسفرتين ولهما أن العود مستحق
عليه ما دام على نية التمتع لأن السوق يمنعه
من التحلل فلم يصح إلمامه بخلاف المكي إذا خرج
إلى الكوفة وأحرم بعمرة وساق الهدي حيث لم يكن
متمتعا لأن العود هناك غير مستحق عليه فصح
إلمامه بأهله "ومن
أحرم بعمرة قبل أشهر الحج فطاف لها أقل من
أربعة أشواط ثم دخلت أشهر الحج فتممها وأحرم
بالحج كان متمتعا" لأن
الإحرام عندنا شرط فيصح تقديمه على أشهر الحج
وإنما يعتبر أداء الأفعال فيها وقد وجد الأكثر
وللأكثر حكم الكل "وإن
طاف لعمرته قبل أشهر الحج أربعة أشواط فصاعدا
ثم حج من عامه ذلك لم يكن متمتعا"
لأنه أدى الأكثر قبل أشهر الحج وهذا لأنه صار
بحال لا يفسد نسكه بالجماع فصار كما إذا تحلل
منها قبل اشهر الحج ومالك رحمه الله يعتبر
الإتمام في أشهر الحج والحجة عليه ما ذكرنا
ولأن الترفق بأداء الأفعال والمتمتع المترفق
بأداء النسكين في سفرة واحدة في أشهر الحج.
قال: "واشهر
الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة"
كذا روي عن العبادلة الثلاثة وعبدالله بن
الزبير رضي الله عنهم أجمعين ولأن الحج يفوت
بمضي عشر ذي الحجة ومع بقاء الوقت لا يتحقق
الفوات وهذا يدل على أن المراد من قوله تعالى:
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}
[البقرة: 197] شهران وبعض الثالث لا كله "فإن
قدم الإحرام بالحج عليها جاز إحرامه وانعقد
حجا" خلافا للشافعي رحمه الله
فإن عنده يصير محرما بالعمرة لأنه ركن عنده
وهو شرط عندنا فأشبه الطهارة في جواز التقديم
على الوقت ولأن الإحرام تحريم أشياء وإيجاب
أشياء وذلك يصح في كل زمان فصار كالتقديم على
المكان.
ج / 1 ص -156-
قال: "وإذا
قدم الكوفي بعمرة في اشهر الحج وفرغ منها وحلق
أو قصر ثم اتخذ مكة أو البصرة دارا وحج من
عامه ذلك فهو متمتع" أما
الأول فلأنه ترفق بنسكين في سفر واحد في أشهر
الحج وأما الثاني فقيل هو بالاتفاق وقيل هو
قول أبي حنيفة رحمه الله وعندهما لا يكون
متمتعا لأن المتمتع من تكون عمرته ميقاتية
وحجته مكية ونسكاه هذان ميقاتيان وله أن
السفرة الأولى قائمة مالم يعد إلى وطنه وقد
اجتمع له نسكان فيها فوجب دم التمتع "فإن
قدم بعمرة فأفسدها وفرغ منها وقصر ثم اتخذ
البصرة دارا ثم اعتمر في أشهر الحج وحج من
عامه لم يكن متمتعا عند أبي حنيفة"
رحمه الله "وقالا هو متمتع" لأنه
إنشاء سفر وقد ترفق فيه بنسكين وله أنه باق
على سفره مالم يرجع إلى وطنه "فإن
كان رجع إلى أهله ثم اعتمر في أشهر الحج وحج
من عامه يكون متمتعا في قولهم جميعا"
لأن هذا إنشاء سفر لانتهاء السفر الأول وقد
اجتمع له نسكان صحيحان فيه "ولو
بقي بمكة ولم يخرج إلى البصرة حتى اعتمر في
أشهر الحج وحج من عامه لا يكون متمتعا
بالاتفاق" لأن عمرته مكية
والسفر الأول انتهى بالعمرة الفاسدة ولا تمتع
لأهل مكة "ومن
اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه فأيهما أفسد
مضى فيه" لأنه لا يمكنه
الخروج عن عهدة الإحرام إلا بالأفعال "وسقط
دم المتعة" لأنه لم يترفق
بأداء نسكين صحيحين في سفرة واحدة "وإذا
تمتعت المرأة فضحت بشاة لم يجزها عن دم المتعة"
لأنها أتت بغير الواجب وكذا الجواب في الرجل "وإذا
حاضت المرأة عند الإحرام اغتسلت وأحرمت وصنعت
كما يصنعه الحاج غير أنها لا تطوف بالبيت حتى
تطهر" لحديث عائشة رضي الله
عنها حين حاضت بسرف ولأن الطواف في المسجد
والوقوف في المفازة وهذا الاغتسال للإحرام لا
للصلاة فيكون مفيدا "فإن
حاضت بعد الوقوف وطواف الزيارة انصرفت من مكة
ولا شيء عليها لطواف الصدر
لأنه عليه الصلاة والسلام رخص للنساء الحيض في
ترك طواف الصدر "ومن
اتخذ مكة دارا فليس عليه طواف الصدر"
لأنه على من يصدر إلا إذا اتخذها دارا بعد ما
حل النفر الأول فيما يروى عن أبي حنيفة رحمه
الله ويرويه البعض عن محمد رحمه الله لأنه وجب
عليه بدخول وقته فلا يسقط بنية الإقامة بعد
ذلك والله أعلم بالصواب.
باب الجنايات
"وإذا
تطيب المحرم فعليه الكفارة فإن طيب عضوا كاملا
فما زاد فعليه دم" وذلك مثل
الرأس والساق والفخذ وما اشبه ذلك لأن الجناية
تتكامل بتكامل الارتفاق وذلك في العضو الكامل
فيترتب عليه كمال الموجب "وإن طيب أقل من عضو فعليه الصدقة"
لقصور
ج / 1 ص -157-
الجناية. وقال محمد رحمه الله يجب بقدره من
الدم اعتبارا للجزء بالكل وفي المنتقى أنه إذا
طيب ربع العضو فعليه دم اعتبارا بالحلق ونحن
نذكر الفرق بينهما من بعد إن شاء الله تعالى
ثم واجب الدم يتأدى بالشاة في جميع المواضع
إلا في موضعين نذكرهما في باب الهدي إن شاء
الله تعالى "وكل
صدقة في الإحرام غير مقدرة فهي نصف صاع من بر
إلا ما يجب بقتل القملة والجرادة"
هكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله.
قال: "فإن
خضب رأسه بحناء فعليه
دم" لأنه طيب قال عليه الصلاة
والسلام "الحناء طيب"
وإن صار ملبدا فعليه دمان دم للتطيب ودم
للتغطية "ولو خضب رأسه بالوسمة لا شيء عليه"
لأنها ليست بطيب وعن أبي يوسف رحمه الله أنه
إذا خضب رأسه بالوسمة لأجل المعالجة من الصداع
فعليه الجزاء باعتبار أنه يغلف رأسه وهذا هو
الصحيح ثم ذكر محمد في الأصل رأسه ولحيته
واقصتر على ذكر الرأس في الجامع الصغير دل أن
كل واحد منهما مضمون "فإن
ادهن بزيت فعليه دم عند أبي حنيفة رحمه الله
وقالا عليه الصدقة" وقال
الشافعي رحمه الله إذا استعمله في الشعر فعليه
دم لإزالة الشعث وإن استعمله في غيره فلا شيء
عليه لانعدامه ولهما أنه من الأطعمة إلا أن
فيه ارتفاقا بمعنى قتل الهوام وإزالة الشعث
فكانت جناية قاصرة ولأبي حنيفة رحمه الله أنه
أصل الطيب ولا يخلو عن نوع طيب ويقتل الهوام
ويلين الشعر ويزيل التفث والشعث فتتكامل
الجناية بهذه الجملة فتوجب الدم وكونه مطعوما
لا ينافيه كالزعفران وما أشبههما يجب
باستعماله الدم بالاتفاق لأنه طيب وهذا إذا
استعمله على وجه التطيب "ولو
داوى به جرحه أو شقوق رجليه فلا كفارة عليه"
لأنه ليس بطيب في نفسه إنما هو أصل الطيب أو
هو طيب من وجه فيشترط استعماله على وجه التطيب
بخلاف ما إذا تداوى بالمسك وما أشبهه "وإن
لبس ثوبا مخيطا أو غطى رأسه يوما كاملا فعليه
دم وإن كان أقل من ذلك فعليه صدقة"
وعن أبي يوسف رحمه الله انه إذا لبس أكثر من
نصف يوم فعليه دم وهو قول أبي حنيفة رحمه الله
أولا وقال الشافعي رحمه الله يجب الدم بنفس
اللبس لأن الارتفاق يتكامل بالاشتمال على بدنه
ولنا أن معنى الترفق مقصود من اللبس فلا بد من
اعتبار المدة ليحصل على الكمال ويجب الدم فقدر
باليوم لأنه يلبس فيه ثم ينزع عادة وتتقاصر
فيما دونه الجناية فتجب الصدقة غير أن أبا
يوسف رحمه الله أقام الأكثر مقام الكل "ولو
ارتدى بالقميص أو اتشح به أو ائتزر بالسراويل
فلا بأس به" لأنه لم يلبسه
لبس المخيط "وكذا
لو أدخل منكبيه في القباء ولم يدخل يديه في
الكمين" خلافا لزفر رحمه الله
لأنه ما لبسه لبس القباء ولهذا يتكلف في حفظه
والتقدير في تعطية الرأس من حيث
ج / 1 ص -158-
الوقت
ما بيناه ولا خلاف أنه إذا غطى جميع رأسه يوما
كاملا يجب عليه الدم لأنه ممنوع عنه ولو غطى
بعض رأسه فالمروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه
اعتبر الربع اعتبارا بالحلق والعورة وهذا لأن
ستر البعض استمتاع مقصود يعتاده بعض الناس وعن
أبي يوسف رحمه الله أنه يعتبر أكثر الرأس
اعتبارا للحقيقة "وإذا
حلق ربع رأسه أو ربع لحيته فصاعدا فعليه دم
فإن كان أقل من الربع فعليه صدقة"
وقال مالك رحمه الله لا يجب إلا بحلق الكل
وقال الشافعي رحمه الله يجب بحلق القليل
اعتبارا بنبات الحرم.
ولنا أن حلق بعض الرأس ارتفاق كامل لأنه معتاد
فتتكامل به الجناية وتتقاصر فيما دونه بخلاف
تطيب ربع العضو لأنه غير مقصود وكذا حلق بعض
اللحية معتاد بالعراق وأرض العرب "وإن
حلق الرقبة كلها فعليه دم"
لأنه عضو مقصود بالحلق "وإن
حلق الإبطين أو أحدهما فعليه دم"
لأن كل واحد منهما مقصود بالحلق لدفع الأذى
ونيل الراحة فأشبه العانة ذكر في الإبطين
الحلق ههنا وفي الأصل النتف وهو السنة "وقال
أبو يوسف ومحمد" رحمهما الله
"إذا
حلق عضوا فعليه دم وإن كان أقل فطعام"
أراد به الصدر والساق وما أشبه ذلك لأنه مقصود
بطريق التنور فتتكامل بحلق كله وتتقاصر عند
حلق بعضه "وإن
أخذ من شاربه فعليه طعام حكومة عدل"
ومعناه أنه ينظر أن هذا المأخوذ كم يكون من
ربع اللحية فيجب عليه الطعام بحسب ذلك حتى لو
كان مثلا مثل ربع الربع تلزمه قيمة ربع الشاة
ولفظة الأخذ من الشارب تدل على أنه هو السنة
فيه دون الحلق والسنة أن يقص حتى يوازي
الإطار.
قال: "وإن
حلق موضع المحاجم فعليه دم عند أبي حنيفة"
رحمه الله "وقالا
عليه صدقة" لأنه إنما يحلق
لأجل الحجامة وهي ليست من المحظورات فكذا ما
يكون وسيلة إليها إلا أن فيه إزالة شيء من
التفث فتجب الصدقة ولأبي حنيفة رحمه الله أن
حلقه مقصود لأنه لا يتوسل إلى المقصود إلا به
وقد وجد إزالة التفث عن عضو كامل فيجب الدم "وإن
حلق رأس محرم بأمره أو بغير أمره فعلى الحالق
الصدقة وعلى المحلوق دم" وقال
الشافعي رحمه الله لا يجب إن كان بغير أمره
بأن كان نائما لأن من أصله أن الإكراه يخرج
المكره من أن يكون مؤاخذا بحكم الفعل والنوم
أبلغ منه وعندنا بسبب النوم والإكراه ينتفي
المأثم دون الحكم وقد تقرر سببه وهو ما نال من
الراحة والزينة فيلزمه الدم حتما بخلاف المضطر
حيث يتخير لأن الآفة هناك سماوية وههنا من
العباد ثم لا يرجع المحلوق رأسه على الحالق
لأن الدم إنما لزمه بما نال من الراحة فصار
كالمغرور في حق العقر وكذا إذا كان الحالق
حلالا لا يختلف الجواب في حق المحلوق رأسه
وأما الحالق تلزمه الصدقة
ج / 1 ص -159-
في
مسئلتنا في الوجهين وقال الشافعي رحمه الله لا
شيء عليه وعلى هذا الخلاف إذا حلق المحرم رأس
حلال له أن معنى الارتفاق لا يتحقق بحلق شعر
غيره وهو الموجب.
ولنا أن إزالة ما ينمو من بدن الإنسان من
محظورات الإحرام لاستحقاقه الأمان بمنزلة نبات
الحرم فلا يفترق الحال بين شعره وشعر غيره إلا
أن كمال الجناية في شعره "فإن
أخذ من شارب حلال أو قلم أظافيره أطعم ما شاء"
والوجه فيه ما بينا ولا يعرى عن نوع ارتفاق
لأنه يتأذى بتفث غيره وإن كان أقل من التأذي
بتفث نفسه فيلزمه الطعام "وإن
قص أظافير يديه ورجليه فعليه دم"
لأنه من المحظورات لما فيه من قضاء التفث
وإزالة ما ينمو من البدن فإذا قلمها كلها فهو
ارتفاق كامل فيلزمه الدم "ولا
يزاد على دم إن حصل في مجلس واحد"
لأن الجناية من نوع واحد فإن كان في مجالس
فكذلك عند محمد رحمه الله لأن مبناها على
التداخل فأشبه كفارة الفطر إلا إذا تخللت
الكفارة لارتفاع الأولى بالتكفير وعلى قول أبي
حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تجب أربعة دماء
إن قلم في كل مجلس يدا أو رجلا لأن الغالب فيه
معنى العبادة فيتقيد التداخل باتحاد المجلس
كما في آي السجدة "وإن قص يدا أو رجلا فعليه دم"
إقامة للربع مقام الكل كما في الحلق "وإن
قص أقل من خمسة أظافير فعليه صدقة"
معناه تجب بكل ظفر صدقة وقال زفر رحمه الله
يجب الدم بقص ثلاثة منها وهو قول أبي حنيفة
الأول لأن في أظافير اليد الواحدة دما والثلاث
أكثرها وجه المذكور في الكتاب أن أظافير كف
واحد أقل ما يجب الدم بقلمه وقد أقمناها مقام
الكل فلا يقام أكثرها مقام كلها لأنه يؤدي إلى
مالا يتناهي "وإن
قص خمسة أظافير متفرقة من يديه ورجليه فعليه
صدقة عند أبي حنيفة وأبي يوسف"
رحمهما الله "وقال
محمد" رحمه الله "عليه دم" اعتبارا بما
لو قصها من كف واحد وبما إذا حلق ربع الرأس من
مواضع متفرقة ولهما أن كمال الجناية بنيل
الراحة والزينة وبالقلم على هذا الوجه يتأذى
ويشينه ذلك بخلاف الحلق لأنه معتاد على ما مر
وإذا تقاصرت الجناية تجب فيها الصدقة فيجب
بقلم كل ظفر طعام مسكين وكذلك لو قلم أكثر من
خمسة متفرقا إلا أن يبلغ ذلك دما فحينئذ ينقص
عنه ما شاء.
قال: "وإن
انكسر ظفر المحرم وتعلق فأخذه فلا شيء عليه"
لأنه لا ينمو بعد الانكسار فأشبه اليابس من
شجر الحرم "وإن
تطيب أو لبس مخيطا أو حلق من عذر فهو مخير إن
شاء ذبح شاة وإن شاء تصدق على ستة مساكين
بثلاثة أصوع من الطعام وإن شاء صام ثلاثة أيام"
لقوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ
مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}
[البقرة: 196] وكلمة أو للتخيير وقد فسرها
رسول الله عليه الصلاة والسلام بما ذكرنا
والآية نزلت في المعذور،
ج / 1 ص -160-
ثم
الصوم يجزئه في أي موضع شاء لأنه عبادة في كل
مكان وكذلك الصدقة عندنا لما بينا.
وأما النسك فيختص بالحرم بالاتفاق لأن الإراقة
لم تعرف قربة إلا في زمان أو مكان وهذا الدم
لا يختص بزمان فتعين اختصاصه بالمكان "ولو
اختار الطعام أجزأه فيه التعذية والتعشية عند
أبي يوسف" رحمه الله اعتبارا
بكفارة اليمين وعند محمد رحمه الله لا يجزئه
لأن الصدقة تنبئ عن التمليك وهو المذكور.
فصل
"فإن
نظر إلى فرج امرأته بشهوة فأمنى لا شيء عليه"
لأن المحرم هو الجماع ولم يوجد فصار كما لو
تفكر فأمنى "وإن
قبل أو لمس بشهوة فعليه دم"
وفي الجامع الصغير يقول إذا مس بشهوة فأمى ولا
فرق بين ما إذا أنزل أو لم ينزل ذكره في الأصل
وكذا الجواب في الجماع فيما دون الفرج وعن
الشافعي رحمه الله أنه إنما يفسد إحرامه في
جميع ذلك إذا أنزل واعتبره بالصوم.
ولنا أن فساد الحج يتعلق بالجماع ولهذا لا
يفسد بسائر المحظورات وهذا ليس بجماع مقصود
فلا يتعلق به ما يتعلق بالجماع إلا أن فيه
معنى الاستمتاع والارتفاق بالمرأة وذلك محظور
الإحرام فيلزمه الدم بخلاف الصوم لأن المحرم
فيه قضاء الشهوة ولا يحصل بدون الإنزال فيما
دون الفرج "وإن
جامع في أحد السبيلين قبل الوقوف بعرفة فسد
حجه وعليه شاة ويمضي في الحج كما يمضي من لم
يفسده وعليه القضاء" والأصل
فيه ما روي أن رسول الله عليه الصلاة والسلام
سئل عمن واقع امرأته وهما محرمان بالحج قال "يريقان دما ويمضيان في حجتهما وعليهما الحج من قابل" وهكذا نقل عن جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وقال الشافعي
رحمه الله تجب بدنة اعتبارا بما لو جامع بعد
الوقوف والحجة عليه إطلاق ما روينا ولأن
القضاء لما وجب ولا يجب إلا لاستدراك المصلحة
خف معنى الجناية فيكتفي بالشاة بخلاف ما بعد
الوقوف لأنه لا قضاء ثم سوى بين السبيلين وعن
أبي حنيفة رحمه الله أن في غير القبل منهما لا
يفسد لتقاصر معنى الوطء فكان عنه روايتان "وليس
عليه أن يفارق امرأته في قضاء ما أفسداه عندنا"
خلافا لمالك رحمه الله إذا خرجا من بيتهما
ولزفر رحمه الله إذا أحرما وللشافعي إذا
انتهيا إلى المكان الذي جامعها فيه لهم أنهم
يتذاكران ذلك فيقعان في المواقعة فيفترقان.
ولنا أن الجامع بينهما وهو النكاح قائم فلا
معنى للافتراق قبل الإحرام لإباحة الوقاع ولا
بعده لأنهما يتذاكران ما لحقهما من المشقة
الشديدة بسبب لذة يسيرة فيزدادان ندما
ج / 1 ص -161-
وتحرزا
فلا معنى للافتراق "ومن
جامع بعد الوقوف بعرفة لم يفسد حجه وعليه بدنة"
خلافا للشافعي فيما إذا جامع قبل الرمي لقوله
عليه الصلاة والسلام "من وقف بعرفة فقد تم حجه"
وإنما تجب البدنة لقول ابن عباس رضي الله
عنهما أو لأنه على أنواع الارتفاق فيتغلظ
موجبه "وإن
جامع بعد الحلق فعليه شاة"
لبقاء إحرامه في حق النساء دون لبس المخيط وما
أشبه فخفت الجناية فاكتفى بالشاة.
"ومن
جامع في العمرة قبل أن يطوف أربعة أشواط فسدت
عمرته فيمضي فيها ويقضيها وعليه شاة وإذا جامع
بعد ما طاف أربعة أشواط أو أكثر فعليه شاة ولا
تفسد عمرته" وقال الشافعي
تفسد في الوجهين وعليه بدنة اعتبارا بالحج إذ
هي فرض عنده كالحج ولنا أنها سنة فكانت أحط
رتبة منه فتجب الشاة ف فيها والبدنة في الحج
إظهارا للتفاوت.
"ومن
جامع ناسيا كان كمن جامع متعمدا"
وقال الشافعي رحمه الله جماع الناسي غير مفسد
للحج وكذا الخلاف في جماع النائمة والمكرهة هو
يقول الحظر ينعدم بهذه العوارض فلم يقع الفعل
جناية ولنا أن الفساد باعتبار معنى الارتفاق
في الإحرام ارتفاقا مخصوصا وهذا لا ينعدم بهذه
العوارض والحج ليس في معنى الصوم لأن حالات
الإحرام مذكرة بمنزلة حالات الصلاة بخلاف
الصوم والله أعلم.
فصل
"ومن
طاف طواف القدوم محدثا فعليه صدقة"
وقال الشافعي رحمه الله لا يعتد به لقوله عليه
الصلاة والسلام "الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله تعالى أباح فيه المنطق" فتكون الطهارة من شرطه ولنا قوله تعالى:
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}
[الحج: 29] من غير قيد الطهارة فلم تكن فرضا ثم قيل هي سنة والأصح
أنها واجبة لأنه يجب بتركها الجابر ولأن الخبر
يوجب العمل فيثبت به الوجوب فإذا شرع في هذا
الطواف وهو سنة يصير واجبا بالشروع ويدخله نقص
بترك الطهارة فيجبر بالصدقة إظهارا لدنو رتبته
عن الواجب بإيجاب الله وهو طواف الزيارة وكذا
الحكم في كل طواف هو تطوع "ولو
طاف طواف الزيارة محدثا فعليه شاة"
لأنه أدخل النقص في الركن فكان أفحش من الأول
فيجبر بالدم "وإن
كان جنبا فعليه بدنة" كذا روي
عن ابن عباس رضي الله عنهما ولأن الجنابة أغلظ
من الحدث فيجب جبر نقصانها بالبدنة إظهارا
للتفاوت وكذا إذا طاف أكثره جنبا أو محدثا لأن
أكثر الشيء له حكم كله "والأفضل
أن يعيد الطواف ما دام بمكة ولا ذبح عليه"
وفي بعض النسخ: وعليه أن يعيد. والأصح أنه
يؤمر بالإعادة في الحدث استحبابا، وفي الجنابة
إيجابا لفحش
ج / 1 ص -162-
النقصان بسبب الجنابة وقصوره بسبب الحدث ثم
إذا أعاده وقد طافه محدثا لا ذبح عليه وإن
أعاده بعد أيام النحر لأن بعد الإعادة لا يبقى
إلا شبهة النقصان وإن أعاده وقد طافه جنبا في
أيام النحر فلا شيء عليه لأنه أعاده في وقته
وإن أعاده بعد أيام النحر لزمه الدم عند أبي
حنيفة رحمه الله بالتأخير على ما عرف من مذهبه
ولو رجع إلى أهله وقد طافه جنبا عليه أن يعود
لأن النقص كثير فيؤمر بالعود استدراكا له
ويعود بإحرام جديد وإن لم يعد وبعث بدنة أجزأه
لما بينا أنه جابر له إلا أن الأفضل هو العود
ولو رجع إلى أهله وقد طافه محدثا إن عاد وطاف
جاز وإن بعث بالشاة فهو أفضل لأنه خف معنى
النقصان وفيه نفع للفقراء ولو لم يطف طواف
الزيارة أصلا حتى رجع إلى أهله فعليه أن يعود
بذلك الإحرام لانعدام التحلل منه وهو محرم عن
النساء أبدا حتى يطوف "ومن
طاف طواف الصدر محدثا فعليه صدقة"
لأنه دون طواف الزيارة وإن كان واجبا فلا بد
من إظهار التفاوت وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه
يجب شاة إلا أن الأول أصح "ولو
طاف جنبا فعليه شاة" لأنه نقص
كثير ثم هو دون طواف الزيارة فيكتفى بالشاة.
"ومن
ترك من طواف الزيارة ثلاثة أشواط فما دونها
فعليه شاة" لأن النقصان بترك
الأقل يسير فأشبه النقصان بسبب الحدث فتلزمه
شاة فلو رجع إلى أهله أجزأه أن لا يعود ويبعث
بشاة لما بينا.
"ومن
ترك أربعة أشواط بقي محرما أبدا حتى يطوفها"
لأن المتروك أكثر فصار كأنه لم يطف أصلا.
"ومن
ترك طواف الصدر أو أربعة أشواط منه فعليه شاة"
لأنه ترك لواجب الأكثر منه وما دام بمكة يؤمر
بالإعادة إقامة للواجب في وقته.
"ومن
ترك ثلاثة أشواط من طواف الصدر فعليه الصدقة
ومن طاف طواف الواجب في جوف الحجر فإن كان
بمكة أعاده" لأن الطواف وراء
الحطيم واجب على ما قدمناه والطواف في جوف
الحجر أن يدور حول الكعبة ويدخل الفرجتين
اللتين بينها وبين الحطيم فإذا فعل ذلك فقد
أدخل نقصا في طوافه فما دام بمكة أعاده كله
ليكون مؤديا للطواف على الوجه المشروع "وإن
أعاد على الحجر" خاصة "أجزأه" لأنه تلافي ما
هو المتروك وهو أن يأخذ عن يمينه خارج الحجر
حتى ينتهي إلى آخره ثم يدخل الحجر من الفرجة
ويخرج من الجانب الآخر هكذا يفعله سبع مرات "فإن
رجع إلى أهله ولم يعده فعليه دم"
لأنه تمكن نقصان في طوافه بترك ما هو قريب من
الربع ولا تجزيه الصدقة "ومن طاف طواف الزيارة
ج / 1 ص -163-
على غير وضوء وطواف الصدر في آخر أيام التشريق
طاهرا فعليه دم فإن كان طاف طواف الزيارة جنبا
فعليه دمان عند أبي حنيفة"
رحمه الله "وقالا:
عليه دم واحد" لأن في الوجه
الأول لم ينقل طواف الصدر إلى طواف الزيارة
لأنه واجب وإعادة طواف الزيارة بسبب الحدث غير
واجب وإنما هو مستحب فلا ينقل إليه وفي الوجه
الثاني ينقل طواف الصدر إلى طواف الزيارة لأنه
مستحق الإعادة فيصير تاركا لطواف الصدر مؤخرا
لطواف الزيارة عن أيام النحر فيجب الدم بترك
الصدر بالاتفاق وبتأخير الآخر على الخلاف إلا
أنه يؤمر بإعادة طواف الصدر ما دام بمكة ولا
يؤمر بعد الرجوع على ما بينا.
"ومن
طاف لعمرته وسعى على غير وضوء وحل فما دام
بمكة يعيدهما ولا شيء عليه"
أما إعادة الطواف فلتمكن النقص فيه بسبب الحدث
وأما السعي فلأنه تبع للطواف وإذا أعادهما لا
شيء عليه لارتفاع النقصان "وإن رجع إلى أهله قبل أن يعيد فعليه دم"
لترك الطهارة فيه ولا يؤمر بالعود لوقوع
التحلل بأداء الركن إذ النقصان يسير وليس عليه
في السعي شيء لأنه أتى به على أثر طواف معتد
به وكذا إذا أعاد الطواف ولم يعد السعي في
الصحيح.
"ومن
ترك السعي بين الصفا والمروة فعليه دم وحجه
تام" لأن السعي من الواجبات
عندنا فيلزم بتركه الدم دون الفساد.
"ومن
أفاض قبل الإمام من عرفات فعليه دم"
وقال الشافعي رحمه الله: لا شيء عليه لأن
الركن أصل الوقوف فلا يلزمه بترك الإطالة شيء
ولنا أن الاستدامة إلى غروب الشمس واجبة لقوله
عليه الصلاة والسلام "فادفعوا بعد غروب الشمس"
فيجب بتركه الدم بخلاف ما إذا وقف ليلا لأن
استدامة الوقوف على من وقف نهارا لا ليلا فإن
عاد إلى عرفة بعد غروب الشمس لا يسقط عنه الدم
في ظاهر الرواية لأن المتروك لا يصير مستدركا
واختلفوا فيما إذا عاد قبل الغروب.
"ومن
ترك الوقوف بالمزدلفة فعليه دم"
لأنه من الواجبات "ومن
ترك رمي الجمار في الأيام كلها فعليه دم"
لتحقق ترك الواجب "ويكفيه
دم واحد" لأن الجنس متحد كما
في الحلق والترك إنما يتحقق بغروب الشمس من
آخر أيام الرمي لأنه لم يعرف قربة إلا فيها
وما دامت الأيام باقية فالإعادة ممكنة فيرميها
على التأليف ثم بتأخيرها يجب الدم عند أبي
حنيفة خلافا لهما "وإن
ترك رمي يوم واحد فعليه دم"
لأنه نسك تام.
"ومن
ترك رمي إحدى الجمار الثلاث فعليه الصدقة"
لأن الكل في هذا اليوم نسك
ج / 1 ص -164-
واحد،
فكان المتروك أقل إلا أن يكون المتروك أكثر من
النصف فحينئذ يلزمه الدم لوجود ترك الأكثر "وإن
ترك رمي جمرة العقبة في يوم النحر فعليه دم"
لأنه كل وظيفة هذا اليوم رميا وكذا إذا ترك
الأكثر منها "وإن
ترك منها حصاة أو حصاتين أو ثلاثا تصدق لكل
حصاة نصف صاع إلا أن يبلغ دما فينقص ما شاء"
لأن المتروك هو الأقل فتكفيه الصدقة.
"ومن
أخر الحلق حتى مضت أيام النحر فعليه دم عند
أبي حنيفة وكذا إذا أخر طواف الزيارة"
حتى مضت أيام التشريق "فعليه
دم عنده وقالا لا شيء عليه في الوجهين"
وكذا الخلاف في تأخير الرمي وفي تقديم نسك على
نسك كالحلق قبل الرمي ونحر القارن قبل الرمي
والحلق قبل الذبح لهما أن ما فات مستدرك
بالقضاء ولا يجب مع القضاء شيء آخر وله حديث
ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال
من قدم نسكا على نسك فعليه دم ولأن
التأخير عن المكان يوجب الدم فيما هو موقت
بالمكان كالإحرام فكذا التأخير عن الزمان فيما
هو موقت بالزمان "وإن
حلق في أيام النحر في غير الحرم فعليه دم ومن
اعتمر فخرج من الحرم وقصر فعليه دم عند أبي
حنيفة ومحمد" رحمهما الله
تعالى "وقال
أبو يوسف" رحمه الله "لا
شيء عليه".
قال رضي الله عنه: ذكر في الجامع الصغير قول
أبي يوسف في المعتمر ولم يذكره في الحاج قيل
هو بالاتفاق لأن السنة جرت في الحج بالحلق
بمنى وهو من الحرم والأصح أنه على الخلاف هو
يقول الحلق غير مختص بالحرم لأن النبي عليه
الصلاة والسلام وأصحابه أحصروا بالحديبية
وحلقوا في غير الحرم ولهما أن الحلق لما جعل
محللا صار كالسلام في آخر الصلاة فإنه من
واجباتها وإن كان محللا فإذا صار نسكا اختص
بالحرم كالذبح وبعض الحديبية من الحرم فلعلهم
حلقوا فيه فالحاصل أن الحلق يتوقت بالزمان
والمكان عند أبي حنيفة رحمه الله وعند أبي
يوسف لا يتوقت بهما وعند محمد يتوقت بالمكان
دون الزمان وعند زفر يتوقت بالزمان دون المكان
وهذا الخلاف في التوقيت في حق التضمين بالدم
وأما في حق التحلل فلا يتوقت بالاتفاق "والتقصير
والحلق في العمرة غير موقت بالزمان بالإجماع"
لأن أصل العمرة لا يتوقت به بخلاف المكان لأنه
موقت به.
قال: "فإن
لم يقصر حتى رجع وقصر فلا شيء عليه في قولهم
جميعا" معناه إذا خرج المعتمر
ثم عاد لأنه أتى به في مكانه فلا يلزمه ضمانه
"فإن
حلق القارن قبل أن يذبح فعليه دمان"
عند أبي حنيفة رحمه الله دم بالحلق في غير
أوانه لأن أوانه بعد الذبح ودم بتأخير الذبح
عن الحلق وعندهما يجب عليه دم واحد وهو الأول
ولا يجب بسبب التأخير شيء على ما قلنا.
ج / 1 ص -165-
فصل
اعلم أن صيد البر محرم على المحرم وصيد البحر
حلال لقوله تعالى:
{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ}
[المائدة: 96] إلى آخر الآية وصيد البر ما يكون توالده ومثواه في
البر وصيد البحر ما يكون توالده ومثواه في
الماء والصيد هو الممتنع المتوحش في أصل
الخلقة واستثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم
الخمس الفواسق وهي الكلب العقور والذئب
والحدأة والغراب والحية والعقرب فإنها مبتدئات
بالأذى والمراد به الغراب الذي يأكل الجيف هو
المروي عن أبي يوسف رحمه الله.
قال: "وإذا
قتل المحرم صيدا أو دل عليه من قتله فعليه
الجزاء" أما القتل فلقوله
تعالى:
{لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ
وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً
فَجَزَاءٌ} [المائدة: 95] الآية نص على إيجاب الجزاء وأما الدلالة ففيها خلاف
الشافعي رحمه الله هو يقول الجزاء تعلق بالقتل
والدلالة ليست بقتل فأشبه دلالة الحلال حلالا.
ولنا ما روينا من حديث أبي قتادة رضي الله عنه
وقال عطاء رحمه الله أجمع الناس على أن على
الدال الجزاء ولأن الدلالة من محظورات الإحرام
ولأنه تفويت الأمن على الصيد إذ هو آمن بتوحشه
وتواريه فصار كالإتلاف ولأن المحرم بإحرامه
التزم الامتناع عن التعرض فيضمن بترك ما
التزمه كالمودع بخلاف الحلال لأنه لا التزام
من جهته على أن فيه الجزاء على ما روي عن أبي
يوسف وزفر رحمهما الله والدلالة الموجبة
للجزاء أن لا يكون المدلول عالما بمكان الصيد
وأن يصدقه في الدلالة حتى لو كذبه وصدق غيره
لا ضمان على المكذب "ولو
كان الدال حلالا في الحرم لم يكن عليه شيء"
لما قلنا "وسواء
في ذلك العامد والناسي" لأنه
ضمان يعتمد وجوبه الإتلاف فأشبه غرامات
الأموال "والمبتدئ
والعائد سواء" لأن الموجب لا
يختلف "والجزاء
عند أبي حنيفة وأبي يوسف أن يقوم الصيد في
المكان الذي قتل فيه أو في أقرب المواضع منه
إذا كان في برية فيقومه ذوا عدل ثم هو مخبر في
الفداء إن شاء ابتاع بها هديا وذبحه إن بلغت
هديا وإن شاء اشترى بها طعاما وتصدق على كل
مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير
وإن شاء صام" على ما نذكر.
وقال محمد والشافعي يجب في الصيد النظير فيما
له نظير ففي الظبي شاة وفي الضبع شاة وفي
الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة وفي النعامة
بدنة وفي حمار الوحش بقرة لقوله تعالى:
{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] ومثله من النعم ما يشبه المقتول صورة لأن القيمة لا
تكون نعما والصحابة رضي الله عنهم أوجبوا
النظير
ج / 1 ص -166-
من حيث
الخلقة والمنظر في النعامة والظبي وحمار الوحش
والأرنب على ما بينا وقال عليه الصلاة والسلام
"الضبع صيد وفيه الشاة"
وما ليس له نظير عند محمد تجب فيه القيمة مثل
العصفور والحمام وأشباههما وإذا وجبت القيمة
كان قوله كقولهما والشافعي رحمه الله تعالى
يوجب في الحمامة شاة ويثبت المشابهة بينهما من
حيث أن كل واحد منهما يعب ويهدر ولأبي حنيفة
وأبي يوسف أن المثل المطلق هو المثل صورة
ومعنى ولا يمكن الحمل عليه فحمل على المثل
معنى لكونه معهودا في الشرع كما في حقوق
العباد أو لكونه مرادا بالإجماع أو لما فيه من
التعميم وفي ضده التخصيص والمراد بالنص والله
أعلم.
فجزاء قيمة ما قتل من النعم الوحشي واسم النعم
يطلق على الوحشي والأهلي كذا قاله أبو عبيدة
والأصمعي رحمهما الله والمراد بما روي التدقير
به دون إيجاب المعين ثم الخيار إلى القاتل في
أن يجعله هديا أو طعاما أو صوما عند أبي حنيفة
وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد والشافعي
رحمهما الله الخيار إلى الحكمين في ذلك فإن
حكما بالهدي يجب النظير على ما ذكرنا وإن حكما
بالطعام أو بالصيام فعلى ما قال أبو حنيفة
وأبو يوسف لهما أن التخيير شرع رفقا بمن عليه
فيكون الخيار إليه كما في كفارة اليمين ولمحمد
والشافعي قوله تعالى:
{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً [المائدة: 95] الآية ذكر الهدي منصوبا لأنه تفسير لقوله:
{يَحْكُمُ بِهِ}
أو مفعول لحكم الحكم ثم ذكر الطعام والصيام
بكلمة أو فيكون الخيار إليهما قلنا الكفارة
عطفت على الجزاء لا على الهدي بدليل أنه مرفوع
وكذا قوله تعالى:
{أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} [المائدة: 95] مرفوع فلم يكن فيها دلالة اختيار الحكمين وإنما يرجع
إليهما في تقويم المتلف ثم الاختيار بعد ذلك
إلى من عليه "ويقومان
في المكان الذي أصابه"
لاختلاف القيم باختلاف الأماكن فإن كان الموضع
برا لا يباع فيه الصيد يعتبر أقرب المواضع
إليه مما يباع فيه ويشترى قالوا والواحد يكفي
والمثنى أولى لأنه أحوط وأبعد عن الغلط كما في
حقوق العباد وقيل يعتبر المثنى ههنا بالنص "والهدي
لا يذبح إلا بمكة" لقوله
تعالى:
{هَدْياً
بَالِغَ الْكَعْبَةِ}
[المائدة: 95] "ويجوز
الإطعام في غيرها" خلافا
للشافعي رحمه الله هو يعتبره بالهدي والجامع
التوسعة على سكان الحرم ونحن نقول الهدي قربة
غير معقولة فيختص بمكان أو زمان أما الصدقة
قربة معقولة في كل زمان ومكان.
"والصوم
يجوز في غير مكة" لأنه قربة
في كل مكان "فإن
ذبح الهدي بالكوفة أجزأه عن الطعام"
معناه إذا تصدق باللحم وفيه وفاء بقيمة الطعام
لأن الإراقة لا تنوب عنه "وإذا
وقع الاختيار على الهدي يهدي ما يجزيه في
الأضحية" لأن مطلق اسم الهدي
منصرف إليه،
ج / 1 ص -167-
وقال
محمد والشافعي يجزي صغار الغنم فيها لأن
الصحابة رضي الله عنهم أوجبوا عناقا وجفرة
وعند ابي حنيفة وأبي يوسف يجوز الصغار على وجه
الإطعام يعني إذا تصدق وإذا وقع الاختيار على
الطعام يقوم التلف بالطعام عندنا لأنه هو
المضمون المعتبر قيمته.
"وإذا
اشترى بالقيمة طعاما تصدق على كل مسكين نصف
صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير ولا يجوز أن
يطعم المسكين أقل من نصف صاع"
لأن الطعام المذكور ينصرف إلى المعهود في
الشرع "وإن
اختار الصيام يقوم المقتول طعاما ثم يصوم عن
كل نصف صاع من بر أو صاع من تمر أو شعير يوما"
لأن تقدير الصيام بالمقتول غير ممكن إذ لا
قيمة للصيام فقدرناه بالطعام والتقدير على هذا
الوجه معهود في الشرع كما في باب الفدية "فإن
فضل من الطعام أقل من نصف صاع فهو مخير إن شاء
تصدق به وإن شاء صام عنه يوما كاملا"
لأن الصوم أقل من يوم غير مشروع وكذلك إن كان
الواجب دون طعام مسكين يطعم قدر الواجب أو
يصوم يوما كاملا لما قلنا.
"ولو
جرح صيد أو نتف شعره أو قطع عضوا منه ضمن ما
نقصه" اعتبارا للبعض بالكل
كما في حقوق العباد "ولو
نتف ريش طائر أو قطع قوائم صيد فخرج من حيز
الامتناع فعليه قيمته كاملة"
لأنه فوت عليه الأمن بتفويت آلة الامتناع
فيغرم جزاءه.
"ومن
كسر بيض نعامة فعليه قيمته"
وهذا مروي عن علي وابن عباس رضي الله عنهم
ولأنه اصل الصيد وله عرضية أن يصير صيدا فنزل
منزلة الصيد احتياطا مالم يفسد "فإن
خرج من البيض فرخ ميت فعليه قيمته حيا"
وهذا استحسان والقياس أن لا يغرم سوى البيضة
لأن حياة الفرخ غير معلومة وجه الاستحسان أن
البيض معد ليخرج منه الفرخ الحي والكسر قبل
أوانه سبب لموته فيحال به عليه احتياطا وعلى
هذا إذا ضرب بطن ظبية فألقت جنينا ميتا وماتت
فعليه قيمتهما.
"وليس
في قتل الغراب والحدأة والذئب والحية والعقرب
والفأرة والكلب العقور جزاء"
لقوله عليه الصلاة والسلام "خمس
من الفواسق يقتلن في الحل والحرم الحدأة
والحية والعقرب والفأرة والكلب العقور" وقال عليه الصلاة والسلام "يقتل المحرم الفأرة والغراب والحدأة والعقرب والحية والكلب العقور" وقد ذكر الذئب في بعض الروايات وقيل المراد بالكلب العقور الذئب
أو يقال إن الذئب في معناه والمراد بالغراب
الذي يأكل الجيف ويخلط لأنه يبتدئ بالأذى أما
العقعق فغير مستثنى لأنه لا يسمى غرابا ولا
يبتدئ بالأذى وعن أبي حنيفة رحمه الله أن
الكلب العقور وغير العقور
ج / 1 ص -168-
والمستأنس، والمتوحش منهما سواء لأن المعتبر
في ذلك الجنس وكذا الفأرة الأهلية والوحشية
سواء والضب واليربوع ليسا من الخمس المستثناة
لأنهما لا يبتدئان بالأذى "وليس
في قتل البعوض والنمل والبراغيث والقراد شيء"
لأنها ليست بصيود وليست بمتولدة من البدن ثم
هي مؤذية بطباعها والمراد بالنمل السود أو
الصفر التي تؤذي ومالا يؤذي لا يحل قتلها ولكن
لا يجب الجزاء للعلة الأولى.
"ومن
قتل قملة تصدق بما شاء" مثل
كف من إطعام لأنها متولدة من التفث الذي على
البدن "وفي
الجامع الصغير أطعم شيئا"
وهذا يدل على أنه يجزيه أن يطعم مسكينا شيئا
يسيرا على سبيل الإباحة وإن لم يكن مشبعا.
"ومن
قتل جرادة تصدق بما شاء" لأن
الجراد من صيد البر فإن الصيد ما لا يمكن أخذه
إلا بحيلة ويقصده الآخذ "وتمرة
خير من جرادة" لقول عمر رضي
الله عنه تمرة خير من جرادة "ولا
شيء عليه في ذبح السلحفاة"
لأنه من الهوام والحشرات فأشبه الخنافس
والوزغات ويمكن أخذه من غير حيلة وكذا لا يقصد
بالأخذ فلم يكن صيدا.
"ومن
حلب صيد الحرم فعليه قيمته"
لأن اللبن من أجزاء الصيد فأشبه كله.
"ومن
قتل مالا يؤكل لحمه من الصيد كالسباع ونحوها
فعليه الجزاء" إلا ما استثناه
الشرع وهو ما عددناه وقال الشافعي رحمه الله
لا يجب الجزاء لأنها جبلت على الإيذاء تدخلت
في الفواسق المستثناة وكذا اسم الكلب يتناول
السباع بأسرها لغة.
ولنا أن السبع صيد لتوحشه وكونه مقصودا بالأخذ
إما لجلده أو ليصطاد به أو لدفع أذاه والقياس
على الفواسق ممتنع لما فيه من إبطال العدد
واسم الكلب لا يقع على السبع عرفا والعرف أملك
"ولا
يجاوز بقيمته شاة" وقال زفر
رحمه الله: تجب قيمته بالغة ما بلغت اعتبارا
بمأكول اللحم.
ولنا قوله عليه الصلاة والسلام "الضبع
صيد وفيه الشاة" ولأن
اعتبار قيمته لمكان الانتفاع بجلده لا لأنه
محارب مؤذ ومن هذا الوجه لا يزداد على قيمة
الشاة ظاهرا.
"وإذا
صال السبع على المحرم فقتله لا شيء عليه"
وقال زفر رحمه الله يجب الجزاء اعتبارا بالجمل
الصائل.
ولنا ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قتل سبعا
وأهدى كبشا وقال إنا ابتدأناه ولأن المحرم
ممنوع عن التعرض لا عن دفع الأذى ولهذا كان
مأذونا في دفع المتوهم من الأذى كما في
الفواسق فلأن يكون مأذونا في دفع المتحقق منه
أولى ومع وجود الإذن من
ج / 1 ص -169-
الشارع
لا يجب الجزاء حقا له بخلاف الجمل الصائل لأنه
لا إذن من صاحب الحق وهو العبد "وإن
اضطر المحرم إلى قتل صيد فقتله فعليه الجزاء"
لأن الإذن مقيد بالكفارة بالنص على ما تلوناه
من قبل.
"ولا
بأس للمحرم أن يذبح الشاة والبقرة والبعير
والدجاجة والبط الأهلي" لأن
هذه الأشياء ليست بصيود لعدم التوحش والمراد
بالبط الذي يكون في المساكن والحياض لأنه ألوف
بأصل الخلقة.
"ولو
ذبح حماما مسرولا فعليه الجزاء"
خلافا لمالك رحمه الله له أنه ألوف مستأنس ولا
يمتنع بجناحيه لبطء نهوضه ونحن نقول الحمام
متوحش بأصل الخلقة ممتنع بطيرانه وإن كان بطيء
النهوض والاستئناس عارض فلم يعتبر "وكذا
إذا قتل ظبيا مستأنسا" لأنه
صيد في الأصل فلا يبطله الاستئناس كالبعير إذا
ند لا يأخذ حكم الصيد في الحرمة على المحرم.
"وإذا
ذبح المحرم صيدا فذبيحته ميتة لا يحل أكلها"
وقال الشافعي رحمه الله يحل ما ذبحه المحرم
لغيره لأنه عامل له فانتقل فعله إليه.
ولنا أن الذكاة فعل مشروع وهذا فعل حرام فلا
يكون ذكاة كذبيحة المجوسي وهذا لأن المشروع هو
الذي قام مقام الميز بين الدم واللحم تيسيرا
فينعدم بانعدامه "فإن
أكل المحرم الذابح من ذلك شيئا فعليه قيمة ما
أكل عند أبي حنيفة" رحمه الله
"وقالا
ليس عليه جزاء ما أكل وإن أكل منه محرم آخر
فلا شيء عليه في قولهم جميعا"
لهما أن هذه ميتة فلا يلزمه بأكلها إلا
الاستغفار وصار كما إذا أكله محرم غيره ولأبي
حنيفة أن حرمته باعتبار كونه ميتة كما ذكرنا
وباعتبار أنه محظور إحرامه لأن إحرامه هو الذي
أخرج الصيد عن المحلية والذابح عن الأهلية في
حق الذكاة فصارت حرمة التناول بهذه الوسائط
مضافة إلى إحرامه بخلاف محرم آخر لأن تناوله
ليس من محظورات إحرامه.
"ولا
بأس بأن يأكل المحرم لحم صيد اصطاده حلال
وذبحه إذا لم يدل المحرم عليه ولا أمره بصيده"
خلافا لمالك رحمه الله فيما إذا اصطاده لأجل
المحرم له قوله عليه الصلاة والسلام "لا بأس بأكل
المحرم لحم صيد مالم يصده أو يصاد له" ولنا ما
روي أن الصحابة رضي الله عنهم تذاكروا لحم
الصيد في حق المحرم فقال عليه الصلاة والسلام
"لا بأس به"
واللام فيما روي لام تمليك فيحمل على أن يهدى
إليه الصيد دون اللحم أو معناه أن يصاد بأمره
ثم شرط عدم الدلالة وهذا تنصيص على أن الدلالة
محرمة قالوا فيه روايتان
ج / 1 ص -170-
ووجه
الحرمة حديث أبي قتادة رضي الله عنه وقد
ذكرناه "وفي
صيد الحرم إذا ذبحه الحلال قيمته يتصدق بها
على الفقراء" لأن الصيد استحق
الأمن بسبب الحرم قال عليه الصلاة والسلام في
حديث فيه طول "ولا ينفر صيدها"
"ولا
يجزئه الصوم" لأنها غرامة
وليست بكفارة فأشبه ضمان الأموال وهذا لأنه
يجب بتفويت وصف في المحل وهو الأمن والواجب
على المحرم بطريق الكفارة جزاء على فعله لأن
الحرمة باعتبار معنى فيه وهو إحرامه والصوم
يصلح جزاء الأفعال لا ضمان المحال وقال زفر
رحمه الله يجزئه الصوم اعتبارا بما وجب على
المحرم والفرق قد ذكرناه وهل يجزئه الهدي ففيه
روايتان.
"ومن
دخل الحرم بصيد فعليه أن يرسله فيه إذا كان في
يده" خلافا للشافعي رحمه الله
فإنه يقول حق الشرع لا يظهر في مملوك العبد
لحاجة العبد.
ولنا أنه لما حصل في الحرم وجب ترك التعرض
لحرمة الحرم إذ صار هو من صيد الحرم فاستحق
الأمن لما روينا "فإن
باعه رد البيع فيه إن كان قائما"
لأن البيع لم يجز لما فيه من التعرض للصيد
وذلك حرام "وإن
كان فائتا فعليه الجزاء" لأنه
تعرض للصيد بتفويت الأمن الذي استحقه "وكذلك
بيع المحرم الصيد من محرم أو حلال"
لما قلنا.
"ومن
أحرم وفي بيته أو في قفص معه صيد فليس عليه أن
يرسله" وقال الشافعي رحمه
الله يجب عليه أن يرسله لأنه متعرض للصيد
بإمساكه في ملكه فصار كما إذا كان في يده.
ولنا أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحرمون
وفي بيوتهم صيود ودواجن ولم ينقل عنهم إرسالها
وبذلك جرت العادة الفاشية وهي من إحدى الحجج
ولأن الواجب ترك التعرض وهو ليس بمتعرض من
جهته لأنه محفوظ بالبيت والقفص لا به غير أنه
في ملكه ولو أرسله في مفازة فهو على ملكه فلا
معتبر ببقاء الملك وقيل إذا كان القفص في يده
لزمه إرساله لكن على وجه لا يضيع.
قال: "فإن
أصاب حلال صيدا ثم أحرمه فأرسله من يده غيره
يضمن عند أبي حنيفة" رحمه
الله "وقالا
لا يضمن" لأن المرسل آمر
بالمعروف ناه عن المنكر وما على المحسنين من
سبيل وله أنه ملك الصيد بالأخذ ملكا محترما
فلا يبطل احترامه بإحرامه وقد أتلفه المرسل
فيضمنه بخلاف ما إذا أخذه في حالة الإحرام
لأنه لم يملكه والواجب عليه ترك التعرض ويمكنه
ذلك بأن يجليه في بيته فإذا قطع يده عنه كان
متعديا ونظيره الاختلاف في كسر المعازف "وإن
أصاب محرم صيدا فأرسله من يده غيره لا ضمان
عليه
ج / 1 ص -171-
بالاتفاق" لأنه لم يملكه بالأخذ فإن الصيد لم يبق محلا للتملك في حق المحرم
لقوله تعالى:
{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا
دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة: 96] فصار كما إذااشترى الخمر "فإن
قتله محرم آخر في يده فعلى كل واحد منهما
جزاؤه" لأن الآخذ متعرض للصيد
الآمن والقاتل مقرر لذلك والتقرير كالابتداء
في حق التضمين كشهود الطلاق قبل الدخول إذا
رجعوا "ويرجع
الآخذ على القاتل" وقال زفر
رحمه الله لا يرجع لأن الآخذ مؤاخذ بصنعه فلا
يرجع على غيره ولنا أن الآخذ إنما يصير سببا
للضمان عند اتصال الهلاك به فهو بالقتل جعل
فعل الآخذ علة فيكون في معنى مباشرة علة العلة
فيحال بالضمان عليه.
"فإن
قطع حشيش الحرم أو شجرة ليست بمملوكة وهو مما
لا ينبته الناس فعليه قيمته إلا فيما جف منه"
لأن حرمتهما ثبتت بسبب الحرم قال عليه الصلاة
والسلام "لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها" ولا يكون للصوم في هذه القيمة مدخل لأن حرمة تناولها بسبب الحرم
لا بسبب الإحرام فكان من ضمان المحال على ما
بينا ويتصدق بقيمته على الفقراء وإذا أداها
ملكه كما في حقوق العباد ويكره بيعه بعد القطع
لأنه ملكه بسبب محظور شرعا فلو أطلق له في
بيعه لتطرق الناس إلى مثله إلا أنه يجوز البيع
مع الكراهة بخلاف الصيد والفرق ما نذكره والذي
ينبته الناس عادة عرفناه غير مستحق للأمن
بالإجماع ولأن المحرم المنسوب إلى الحرم
والنسبة إليه على الكمال عند عدم النسبة إلى
غيره بالإنبات ومالا ينبت عادة إذا أنبته
إنسان التحق بما ينبت عادة ولو نبت بنفسه في
ملك رجل فعلى قاطعه قيمتان قيمة لحرمة الحرم
حقا للشرع وقيمة أخرى ضمانا لمالكه كالصيد
المملوك في الحرم وما جف من شجر الحرم لا ضمان
فيه لأنه ليس بنام "ولا
يرعى حشيش الحرم ولا يقطع إلا الإذخر"
وقال أبو يوسف رحمه الله لا بأس بالرعي لأن
فيه ضرورة فإن منع الدواب عنه متعذر ولنا ما
روينا والقطع بالمسافر كالقطع بالمناجل وحمل
الحشيش من الحل ممكن فلا ضرورة بخلاف الإذخر
لأنه استثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيجوز قطعه ورعيه وبخلاف الكمأة لأنها ليست من
جملة النبات "وكل
شيء فعله القارن مما ذكرنا أن فيه على المفرد
دما فعليه دمان دم لحجته ودم لعمرته"
وقال الشافعي رحمه الله دم واحد بناء على أنه
محرم بإحرام واحد عنده وعندنا بإحرامين وقد مر
من قبل.
قال: "إلا
أن يتجاوز الميقات غير محرم بالعمرة أو الحج
فيلزمه دم واحد" خلافا لزفر
رحمه الله لما أن المستحق عليه عند الميقات
إحرام واحد وبتأخير واجب واحد لا يجب إلا جزاء
واحد.
"وإذا
اشترك محرمان في قتل صيد فعلى كل واحد منهما
جزاء كامل" لأن كل واحد
ج / 1 ص -172-
منهما
بالشركة يصير جانيا جناية تفوق الدلالة فيتعدد
الجزاء بتعدد الجناية.
"وإذا
اشترك حلالات في قتل صيد الحرم فعليهما جزاء
واحد" لأن الضمان يدل عن
المحل لا جزاء عن الجناية فيتحد باتحاد المحل
كرجلين قتلا رجلا خطأ تجب عليهما دية واحدة
وعلى كل واحد منهما كفارة.
"وإذا
باع المحرم الصيد أو اتباعه فالبيع باطل"
لأن بيعه حيا تعرض للصيد الآمن وبيعه بعد ما
قتله بيع ميتة.
"ومن
أخرج ظبية من الحرم فولدت أولادا فماتت هي
وأولادها فعليه جزاؤهن" لأن
الصيد بعد الإخراج من الحرم بقي مستحقا للأمن
شرعا ولهذا وجب رده إلى مأمنه وهذه صفة شرعية
فتسرى إلى الولد "فإن
أدى جزاءها ثم ولدت ليس عليه جزاء الولد"
لأن بعد أداء الجزاء لم تبق آمنة لأن وصول
الخلف كوصول الأصل والله أعلم بالصواب.
باب مجاوزة الوقت بغير إحرام
"وإذا
أتى الكوفي بستان بني عامر فأحرم بعمرة فإن
رجع إلى ذات عرق ولبى بطل عنه دم الوقت وإن
رجع إليه ولم يلب حتى دخل مكة وطاف لعمرته
فعليه دم" وهذا عند أبي حنيفة
وقالا إن رجع إليه محرما فليس عليه شيء لبى أو
لم يلب وقال زفر رحمه الله تعالى لا يسقط لبى
أو لم يلب لأن جنايته لم ترتفع بالعود وصار
كما إذا أفاض من عرفات ثم عاد إليه بعد
الغروب.
ولنا أنه تدارك المتروك في أوانه وذلك قبل
الشروع في الأفعال فيسقط الدم بخلاف الإفاضة
لأنه لم يتدارك المتروك على ما مر غير أن
التدارك عندهما بعوده محرما لأنه أظهر حق
الميقات كما إذا مر به محرما ساكتا وعنده رحمه
الله بعوده محرما ملبيا لأن العزيمة في
الإحرام من دويرة أهله فإذا ترخص بالتأخير إلى
الميقات وجب عليه قضاء حقه بإنشاء التلبية
فكان التلافي بعوده ملبيا وعلى هذا الخلاف إذا
أحرم بحجة بعد المجاوزة مكان العمرة في جميع
ما ذكرناه ولو عاد بعد ما ابتدأ بالطواف
واستلم الحجر لا يسقط عنه الدم بالاتفاق ولو
عاد إليه قبل الإحرام يسقط بالاتفاق "وهذا"
الذي ذكرنا "إذا
كان يريد الحج أو العمرة فإن دخل البستان
لحاجة فله أن يدخل مكة بغير إحرام ووقته
البستان وهو وصاحب المنزل سواء"
لأن البستان غير واجب التعظيم فلا يلزمه
الإحرام بقصده وإذا دخله التحق بأهله
وللبستاني أن يدخل مكة بغير إحرام للحاجة
فكذلك له والمراد بقوله ووقته البستان جميع
الحل الذي بينه وبين الحرم وقد مر من قبل فكذا
وقت الداخل الملحق به "فإن
ج / 1 ص -173-
أحرما من الحل ووقفا بعرفة لم يكن عليهما شيء"
يريد به البستاني والداخل فيه لأنهما أحرما من
ميقاتهما.
"ومن
دخل مكة بغير إحرام ثم خرج من عامه ذلك إلى
الوقت وأحرم بحجة عليه أجزأه"
ذلك "من
دخوله مكة بغير إحرام" وقال
زفر رحمه الله لا يجزيه وهو القياس اعتبارا
بما لزمه بسبب النذر وصار كما إذا تحولت
السنة.
ولنا أنه تلافي المتروك في وقته لأن الواجب
عليه تعظيم هذه البقعة بالإحرام كما إذا أتاه
محرما بحجة الإسلام في الابتداء بخلاف ما إذا
تحولت السنة لأنه صار دينا في ذمته فلا يتأدى
إلا بإحرام مقصود كما في الاعتكاف المنذور
فإنه يتأدى بصوم رمضان من هذه السنة دون العام
الثاني.
"ومن
جاوز الوقت فأحرم بعمرة وأفسدها مضى فيها
وقضاها" لأن الإحرام يقع
لازما فصار كما إذا أفسد الحج "وليس
عليه دم لترك الوقت" وعلى
قياس قول زفر رحمه الله لا يسقط عنه وهو نظير
الاختلاف في فائت الحج إذا جاوز الوقت بغير
إحرام وفيمن جاوز الوقت بغير إحرام وأحرم
بالحج ثم أفسد حجته هو يعتبر المجاوزة هذه
بغيرها من المحظورات.
ولنا أنه يصير قاضيا حق الميقات بالإحرام منه
في القضاء وهو يحكي الفائت ولا ينعدم به غيره
من المحظورات فوضح الفرق "وإذا
خرج المكي يريد الحج فأحرم ولم يعد إلى الحرم
ووقف بعرفة فعليه شاة" لأن
وقته الحرم وقد جاوزه بغير إحرام فإن عاد إلى
الحرم ولبى أو لم يلب فهو على الاختلاف الذي
ذكرناه في الأفاقي.
"والمتمتع
إذا فرغ من عمرته ثم خرج من الحرم فأحرم ووقف
بعرفة فعليه دم" لأنه لما دخل
مكة وأتى بأفعال العمرة صار بمنزلة المكي
وإحرام المكي من الحرم لما ذكرنا فيلزمه الدم
بتأخيره عنه "فإن
رجع إلى الحرم فأهل فيه قبل أن يقف بعرفة فلا
شيء عليه" وهو على الخلاف
الذي تقدم في الأفاقي.
باب إضافة الإحرام إلى الإحرام
"قال
أبو حنيفة رحمه الله: إذا أحرم المكي بعمرة
وطاف لها شوطا ثم أحرم بالحج فإنه يرفض الحج
وعليه لرفضه دم وعليه حجة وعمرة وقال أبو يوسف
ومحمد رحمهما الله رفض العمرة أحب إلينا
وقضاؤها وعليه دم" لأنه لا بد
من رفض أحدهما لأن الجمع بينهما في حق المكي
غير مشروع والعمرة أولى بالرفض لأنها أدنى
حالا وأقل أعمالا وأيسر
ج / 1 ص -174-
قضاء
لكونها غير مؤقتة وكذا إذا أحرم بالعمرة ثم
بالحج ولم يأت بشيء من أفعال العمرة لما قلنا.
فإن طاف للعمرة أربعة أشواط ثم أحرم بالحج رفض
الحج بلا خلاف لأن للأكثر حكم الكل فتعذر
رفضها كما إذا فرغ منها ولا كذلك إذا طاف
للعمرة أقل من ذلك عند أبي حنيفة رحمه الله
وله أن إحرام العمرة قد تأكد بأداء شيء من
أعمالها وإحرام الحج لم يتأكد ورفض غير
المتأكد أيسر ولأن في رفض العمرة والحالة هذه
إبطال العمل وفي رفض الحج امتناع عنه وعليه دم
بالرفض أيهما رفضه لأنه تحلل قبل أوانه لتعذر
المضي فيه فكان في معنى المحصر إلا أن في رفض
العمرة قضاءها لا غير وفي رفض الحج قضاؤه
وعمرة لأنه في معنى فائت الحج "وإن
مضى عليهما أجزأه" لأنه أدى
أفعالهما كما التزمهما غير أنه منهي عنهما
والنهي لا يمنع تحقق الفعل على ما عرف من
أصلنا "وعليه
دم لجمعه بينهما" لأنه تمكن
النقصان في عمله لارتكابه المنهي عنه وهذا في
حق المكي دم جبر وفي حق الأفاقي دم شكر.
"ومن
أحرم بالحج ثم أحرم يوم النحر بحجة أخرى فإن
حلق في الأولى لزمته الأخرى ولا شيء عليه وإن
لم يحلق في الأولى لزمته الأخرى وعليه دم قصر
أو لم يقصر عند ابي حنيفة"
رحمه الله "وقالا
إن لم يقصر فلا شيء عليه" لأن
الجمع بين إحرامي الحج أو إحرامي العمرة بدعة
فإذا حلق فهو وإن كان نسكا في الإحرام الأول
فهو جناية على الثاني لأنه في غير أوانه فلزمه
الدم بالإجماع وإن لم يحلق حتى حج في العام
القابل فقد أخر الحلق عن وقته في الإحرام
الأول وذلك يوجب الدم عند أبي حنيفة رحمه الله
وعندهما لا يلزمه شيء على ما ذكرنا فلهذا سوى
بين التقصير وعدمه عنده وشرط التقصير عندهما.
"ومن
فرغ من عمرته إلا التقصير فأحرم بأخرى فعليه
دم لإحرامه قبل الوقت" لأنه
جمع بين إحرامي العمرة وهذا مكروه فيلزمه الدم
وهو دم جبر وكفارة.
"ومن
أهل بالحج ثم أحرم بعمرة لزماه"
لأن الجمع بينهما مشروع في حق الأفاقي
والمسئلة فيه فيصير بذلك قارنا لكنه أخطأ
السنة فيصير مسيئا "فلو
وقف بعرفات ولم يأت بأفعال العمرة فهو رافض
لعمرته" لأنه تعذر عليه
أداؤها إذ هي مبنية على الحج غير مشروعة "فإن
توجه إليها لم يكن رافضا حتى يقف"
وقد ذكرناه من قبل "فإن
طاف للحج ثم أحرم بعمرة فمضى عليهما لزماه
وعليه دم لجمعه بينهما" لأن
الجمع بينهما مشروع على ما مر فصح الإحرام
بهما والمراد بهذا الطواف طواف التحية وأنه
سنة وليس بركن حتى
ج / 1 ص -175-
لا
يلزمه بتركه شيء وإذا لم يأت بما هو ركن يمكنه
أن يأتي بأفعال العمرة ثم بأفعال الحج فلهذا
لو مضى عليهما جاز وعليه دم لجمعه بينهما وهو
دم كفارة وجبر هو الصحيح لأنه بان أفعال
العمرة على أفعال الحج من وجه "ويستحب
أن يرفض عمرته" لأن إحرام
الحج قد تأكد بشيء من أعماله بخلاف ما إذا لم
يطف للحج "وإذا
رفض عمرته بقضيها" لصحة
الشروع فيها "وعليه
دم" لرفضها.
"ومن
أهل بعمرة في يوم النحر أو في ايام التشريق
لزمته" لما قلنا "ويرفضها"
أي يلزمه الرفض لأنه قد أدى ركن الحج فيصير
بانيا أفعال العمرة على أفعال الحج من كل وجه
وقد كرهت العمرة في هذه الأيام أيضا على ما
نذكر فلهذا يلزمه رفضها فإن رفضها فعليه دم
لرفضها "وعمرة
مكانها" لما بينا "فإن مضى عليها أجزأه"
لأن الكراهة لمعنى في غيرها وهو كونه مشغولا
في هذه الأيام بأداء بقية أعمال الحج فيجب
تخليص الوقت له تعظيما "وعليه
دم لجمعه بينهما" إما في
الإحرام أو في الأعمال الباقية قالوا وهذا دم
كفارة أيضا وقيل إذا حلق للحج ثم أحرم لا
يرفضها على ظاهر ما ذكر في الأصل وقيل يرفضها
احترازا
عن النهي قال الفقيه أبو جعفر ومشايخنا رحمهم
الله تعالى على هذا "فإن
فاته الحج ثم أحرم بعمرة أو بحجة فإنه يرفضها"
لأن فائت الحج يتحلل بأفعال العمرة من غير أن
ينقلب إحرامه إحرام العمرة على ما يأتيك في
باب الفوات إن شاء الله فيصير جامعا بين
العمرتين من حيث الأفعال فعليه أن يرفضها كما
لو أحرم بعمرتين وإن أحرم بحجة يصير جامعا بين
الحجتين إحراما فعليه أن يرفضها كما لو أحرم
بحجتين وعليه قضاؤها لصحة الشروع فيها ودم
لرفضها بالتحلل قبل أوانه والله أعلم.
باب الإحصار
"وإذا
أحصر المحرم بعدو أو أصابه مرض فمنعه من المضي
جاز له التحلل" وقال الشافعي
رحمه الله لا يكون الإحصار إلا بالعدو لأن
التحلل بالهدي شرع في حق المحصر لتحصيل النجاة
وبالإحلال ينجو من العدو لا من المرض.
ولنا أن آية الإحصار وردت في الإحصار بالمرض
بإجماع أهل اللغة فإنهم قالوا الإحصار بالمرض
والحصر بالعدو والتحلل قبل أوانه لدفع الحرج
الآتي من قبل امتداد الإحرام والحرج في
الاصطبار عليه مع المرض أعظم.
"وإذا
جاز له التحلل يقال له ابعث شاة تذبح في الحرم
وواعد من تبعثه بيوم بعينه يذبح فيه ثم تحلل"
وإنما يبعث إلى الحرم لأن دم الإحصار قربة،
والإراقة لم تعرف قربة إلا في
ج / 1 ص -176-
زمان
أو مكان على ما مر فلا يقع قربة دونه فلا يقع
به التحلل وإليه الإشارة بقوله تعالى:
{وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] فإن الهدي اسم لما يهدى إلى الحرم وقال الشافعي
رحمه الله لا يتوقت به لأنه شرع رخصة والتوقيت
يبطل التخفيف قلنا المراعى أصل التخفيف لا
نهايته وتجوز الشاة لأن المنصوص عليه الهدي
والشاة أدناه وتجزيه البقرة والبدنة أو سبعهما
كما في الضحايا وليس المراد بما ذكرنا بعث
الشاة بعينها لأن ذلك قد يتعذر بل له أن يبعث
بالقيمة حتى تشترى الشاة هنالك وتذبح عنه
وقوله ثم تحلل إشارة إلى أنه ليس عليه الحلق
أو التقصير وهو قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما
الله وقال أبو يوسف عليه ذلك ولو لم يفعل لا
شيء عليه لأنه عليه الصلاة والسلام حلق عام
الحديبية وكان محصرا بها وأمر أصحابه رضي الله
عنهم بذلك ولهما أن الحلق إنما عرف قربة مرتبا
على أفعال الحج فلا يكون نسكا قبلها وفعل
النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه ليعرف
استحكام عزيمتهم على الانصراف.
قال: "وإن
كان قارنا بعث بدمين"
لاحتياجه إلى التحلل من إحرامين "فإن
بعث بهدي واحد ليتحلل عن الحج ويبقى في إحرام
العمرة لم يتحلل عن واحد منهما"
لأن التحلل منهما شرع في حالة واحدة.
"ولا
يجوز ذبح دم الإحصار إلا في الحرم ويجوز ذبحه
قبل يوم النحر عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا
لا يجوز الذبح للمحصر بالحج إلا في يوم النحر
ويجوز للمحصر بالعمرة متى شاء"
اعتبارا بهدي المتعة والقران وربما يعتبر أنه
بالحلق إذ كل واحد منهما محلل ولأبي حنيفة
رحمه الله أنه دم كفارة حتى لا يجوز الأكل منه
فيختص بالمكان دون الزمان كسائر دماء الكفارات
بخلاف دم المتعة والقران لأنه دم نسك وبخلاف
الحلق لأنه في أوانه لأن معظم أفعال الحج وهو
الوقوف ينتهي به.
قال: "والمحصر
بالحج إذا تحلل فعليه حجة وعمرة"
هكذا روي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم
ولأن الحجة يجب قضاؤها لصحة الشروع فيها
والعمرة لما أنه في معنى فائت الحج "وعلى
المحصر بالعمرة القضاء"
والإحصار عنها يتحقق عندنا وقال مالك رحمه
الله لا يتحقق لأنها لا تتوقت.
ولنا أن النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه
رضي الله عنهم أحصروا بالحديبية وكانوا عمارا
ولأن شرع التحلل لدفع الحرج وهذا موجود في
إحرام العمرة وإذا تحقق الإحصار فعليه القضاء
إذا تحلل كما في الحج "وعلى
القارن حجة وعمرتان" أما الحج
ج / 1 ص -177-
وإحداهما فلما بينا وأما الثانية فلأنه خرج
منها بعد صحة الشروع فيها "فإن
بعث القارن هديا وواعدهم أن يذبحوه في يوم
بعينه ثم زال الإحصار فإن كان لا يدرك الحج
والهدي لا يلزمه أن يتوجه بل يصبر حتى يتحلل
بنحر الهدي" لفوات المقصود من
التوجه وهو أداء الأفعال وإن توجه ليتحلل
بأفعال العمرة له ذلك لأنه فائت الحج "وإن
كان يدرك الحج والهدي لزمه التوجه"
لزوال العجز قبل حصول المقصود بالخلف "وإذا أدرك هدية صنع به ما شاء"
لأنه ملكه وقد كان عينه لمقصود استغنى عنه "وإن كان يدرك الهدي دون الحج يتحلل"
لعجزه عن الأصل "وإن
كان يدرك الحج دون الهدي جاز له التحلل"
استحسانا وهذا التقسيم لا يستقيم على قولهما
في المحصر بالحج لأن دم الإحصار عندهما يتوقت
بيوم النحر فمن يدرك الحج يدرك الهدي وإنما
يستقيم على قول أبي حنيفة رحمه الله وفي
المحصر بالعمرة يستقيم بالاتفاق لعدم توقت
الدم بيوم النحر.
وجه القياس وهو قول زفر رحمه الله أنه قدر على
الأصل وهو الحج قبل حصول المقصود بالبدل وهو
الهدي.
وجه الاستحسان أنا لو ألزمناه التوجه لضاع
ماله لأن المبعوث على يديه الهدي يذبحه ولا
يحصل مقصوده وحرمة المال كحرمة النفس وله
الخيار إن شاء صبر في ذلك المكان أو في غيره
ليذبح عنه فيتحلل وإن شاء توجه ليؤدي النسك
الذي التزمه بالإحرام وهو أفضل لأنه أقرب إلى
الوفاء بما وعد.
"ومن
وقف بعرفة ثم أحصر لا يكون محصرا"
لوقوع الأمن عن الفوات "ومن
أحصر بمكة وهو ممنوع عن الطواف والوقوف فهو
محصر" لأنه تعذر عليه الإتمام
فصار كما إذا أحصر في الحل "وإن
قدر على أحدهما فليس بمحصر"
أما على الطواف فلأن فائت الحج يتحلل به والدم
بدل عنه في التحلل وأما على الوقوف فلما بينا
وقد قيل في هذه المسئلة خلاف بين أبي حنيفة
وأبي يوسف رحمهما الله والصحيح ما أعلمتك من
التفصيل والله تعالى أعلم.
باب الفوات
"ومن
أحرم بالحج وفاته الوقوف بعرفة حتى طلع الفجر
من يوم النحر فقد فاته الحج"
لما ذكرنا أن وقت الوقوف يمتد إليه "وعليه
أن يطوف ويسعى ويتحلل ويقضي الحج من قابل ولا
دم عليه" لقوله عليه الصلاة
والسلام "من
فاته عرفة بليل فقد فاته الحج فليتحلل بعمرة"
وعليه الحج من قابل والعمرة ليست إلا الطواف
والسعي ولأن الإحرام بعدما انعقد
ج / 1 ص -178-
صحيحا
لا طريق للخروج عنه إلا بأداء أحد النسكين كما
في الإحرام المبهم وههنا عجز عن الحج فتتعين
عليه العمرة ولا دم عليه لأن التحلل وقع
بأفعال العمرة فكانت في حق فائت الحج بمنزلة
الدم في حق المحصر فلا يجمع بينهما.
"والعمرة
لا تفوت وهي جائزة في جميع السنة إلا خمسة
أيام يكره فيها فعلها وهي يوم عرفة ويوم النحر
وأيام التشريق" لما روي عن
عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تكره
العمرة في هذه الأيام الخمسة ولأن هذه الأيام
أيام الحج فكانت متعينة له وعن أبي يوسف رحمه
الله أنها لا تكره في يوم عرفة قبل الزوال لأن
دخول وقت ركن الحج بعد الزوال لا قبله والأظهر
من المذهب ما ذكرناه ولكن مع هذا لو أداها في
هذه الأيام صح ويبقى محرما بها فيها لأن
الكراهة لغيرها وهو تعظيم أمر الحج وتخليص
وقته له فيصح الشروع.
"والعمرة
سنة" وقال الشافعي رحمه الله
فريضة لقوله عليه الصلاة والسلام "العمرة فريضة كفريضة الحج"
ولنا قوله عليه الصلاة والسلام "الحج
فريضة والعمرة تطوع" ولأنها
غير موقتة بوقت وتتأدى بنية غيرها كما في فائت
الحج وهذا أمارة النفلية وتأويل ما رواه أنها
مقدرة بأعمال الحج إذ لا تثبت الفرضية مع
التعارض في الآثار. قال: "وهي
الطواف والسعي" وقد ذكرناه في
باب التمتع والله أعلم بالصواب.
باب الحج عن الغير
الأصل في هذا الباب أن الإنسان له أن يجعل
ثواب عمله لغيره صلاة أو صوما أو صدقة أو
غيرها عند أهل السنة والجماعة لما روي عن
النبي عليه الصلاة والسلام
أنه ضحى بكبشين أملحين أحدهما عن نفسه والآخر عن أمته ممن أقر بوحدانية
الله تعالى وشهد له بالبلاغ
جعل تضحية إحدى الشاتين لأمته والعبادات أنواع
مالية محضة كالزكاة وبدنية محضة كالصلاة
ومركبة منهما كالحج والنيابة تجري في النوع
الأول في حالتي الاختيار والضرورة لحصول
المقصود بفعل النائب ولا تجري في النوع الثاني
بحال لأن المقصود وهو إتعاب النفس لا يحصل به
وتجري في النوع الثالث عند العجز للمعنى
الثاني وهو المشقة بتنقيص المال ولا تجري عند
القدرة لعدم إتعاب النفس والشرط العجز الدائم
إلى وقت الموت لأن الحج فرض العمر وفي الحج
النفل تجوز الإنابة حالة القدرة لأن باب النفل
أوسع ثم ظاهر المذهب أن الحج يقع عن المحجوج
عنه وبذلك تشهد الأخبار الواردة في الباب
كحديث الخثعمية فإنه عليه الصلاة والسلام قال
فيه "حجي عن
ج / 1 ص -179-
أبيك
واعتمري" وعن محمد رحمه الله أن الحج يقع عن الحاج وللآمر ثواب النفقة لأنه
عبادة بدنية وعند العجز أقيم الإنفاق مقامه
كالفدية في باب الصوم.
قال: "ومن
أمره رجلان بأن يحج عن كل واحد منها حجة فأهل
بحجة عنهما فهي عن الحاج ويضمن النفقة"
لأن الحج يقع عن الأمر حتى لا يخرج الحاج عن
حجة الإسلام وكل واحد منهما أمره أن يخلص الحج
له من غير اشتراك ولا يمكن إيقاعه عن أحدهما
لعدم الأولوية فيقع عن المأمور ولا يمكنه أن
يجعله عن أحدهما بعد ذلك بخلاف ما إذا حج عن
أبويه فإن له أن يجعله عن أيهما شاء لأنه
متبرع بجعل ثواب عمله لأحدهما أو لهما فيبقى
على خياره بعد وقوعه سببا لثوابه وهنا يفعل
بحكم الآمر وقد خالف أمرهما فيقع عنه "ويضمن
النفقة إن أنفق من مالهما"
لأنه صرف نفقة الآمر إلى حج نفسه.
"وإن
أبهم الإحرام بأن نوى عن أحدهما غير عين فإن
مضى على ذلك صار مخالفا" لعدم
الأولوية وإن عين أحدهما قبل المضي فكذلك عند
أبي يوسف رحمه الله وهو القياس لأنه مأمور
بالتعيين والإبهام يخالفه فيقع عن نفسه بخلاف
ما إذا لم يعين حجة أو عمرة حيث كان له أن
يعين ما شاء لأن الملتزم هناك كمجهول وههنا
المجهول من له الحق وجه الاستحسان أن الإحرام
شرع وسيلة إلى الأفعال لا مقصودا بنفسه
والمبهم يصلح وسيلة بواسطة التعيين فاكتفي به
شرطا بخلاف ما إذا أدى الأفعال على الإبهام
لأن المؤدي لا يحتمل التعيين فصار مخالفا.
قال: "فإن
أمره غيره أن يقرن عنه فالدم على من أحرم"
لأنه وجب شكرا لما وفقه الله تعالى من الجمع
بين النسكين والمأمور هو المختص بهذه النعمة
لأن حقيقة الفعل منه وهذه المسئلة تشهد بصحة
المروي عن محمد رحمه الله أن الحج يقع عن
المأمور "وكذلك
إن أمره واحد بأن يحج عنه والآخر بأن يعتمر
عنه وأذنا له بالقران فالدم عليه"
لما قلنا.
"ودم
الإحصار على الآمر" وهذا عند
أبي حنيفة ومحمد "وقال
أبو يوسف على الحاج" لأنه وجب
للتحلل دفعا لضرر امتداد الإحرام وهذا الضرر
راجع إليه فيكون الدم عليه ولهما أن الآمر هو
الذي أدخله في هذه العهدة فعليه خلاصه "فإن
كان يحج عن ميت فأحصر فالدم في مال الميت"
عندهما خلافا لأبي يوسف رحمه الله ثم قيل هو
من ثلث مال الميت لأنه صلة كالزكاة وغيرها
وقيل من جميع المال لأنه وجب حقا للمأمور فصار
دينا.
"ودم
الجماع على الحج" لأنه دم
جناية وهو الجاني عن اختيار "ويضمن
النفقة" معناه إذا جامع قبل
الوقوف حتى فسد حجه لأن الصحيح هو ا لمأمور
به، بخلاف ما إذا فاته الحج
ج / 1 ص -180-
حيث لا
يضمن النفقة لأنه ما فاته باختياره أما إذا
جامع بعد الوقوف لا يفسد حجه ولا يضمن النفقة
لحصول مقصود الآمر وعليه الدم في ماله لما
بينا وكذلك سائر دماء الكفارات على الحج لما
قلنا.
"ومن
أوصى بأن يحج عنه فأحجوا عنه رجلا فلما بلغ
الكوفة مات أو سرقت نفقته وقد أنفق النصف يحج
عن الميت من منزله بثلث ما بقي"
وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله "وقالا
يحج عنه من حيث مات الأول"
فالكلام ههنا في اعتبار الثلث وفي مكان الحج
أما الأول فالمذكور قول أبي حنيفة رحمه الله
أما عند محمد يحج عنه بما بقي من المال
المدفوع إليه إن بقي شيء وإلا بطلت الوصية
اعتبارا بتعيين الموصي إذ تعيين الوصي كتعيينه
وعند أبي يوسف رحمه الله يحج عنه بما بقي من
الثلث الأول لأنه هو المحل لنفاذ الوصية لأبي
حنيفة أن قسمة الوصي وعزله المال لا يصح إلا
بالتسليم إلى الوجه الذي سماه الموصي لأنه لا
خصم له ليقبض ولم يوجد التسليم إلى ذلك ا لوجه
فصار كما إذا هلك قبل الإفراز والعزل فيحج
بثلث ما بقي وأما الثاني فوجه قول أبي حنيفة
رحمه الله وهو القياس أن القدر الموجود من
السفر قد بطل في حق أحكام الدنيا قال عليه
الصلاة والسلام "إذا
مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث"
الحديث وتنفيذ الوصية من أحكام الدنيا فبقيت
الوصية من وطنه كأن لم يوجد الخروج وجه قولهما
وهو الإستحسان أن سفره لم يبطل لقوله تعالى:
{وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ
وَرَسُولِهِ}
[النساء: 100] الآية وقال عليه الصلاة والسلام
"من
مات في طريق الحج كتب له حجة مبرورة في كل سنة"
وإذا لم يبطل سفره اعتبرت الوصية من ذلك
المكان وأصل الاختلاف في الذي يحج بنفسه
وينبني على ذلك المأمور بالحج.
قال: "ومن
أهل بحجة عن أبويه يجزئه أن يجعله عن أحدهما"
لأن من حج عن غيره بغير إذنه فإنما يجعل ثواب
حجه له وذلك بعد أداء الحج فلغت نيته قبل
أدائه وصح جعله ثوابه لأحدهما بعد الأداء
بخلاف المأمور على ما فرقنا من قبل والله
تعالى أعلم بالصواب.
باب الهدي
"الهدي أدناه شاة" لما
روي أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن الهدي
فقال "أدناه شاة" قال:
"وهو
من ثلاثة أنواع الإبل والبقر والغنم"
لأنه عليه الصلاة والسلام لما جعل الشاة أدنى
فلا بد أن يكون له أعلى وهو البقر والجزور
ولأن الهدي ما يهدى إلى الحرم ليتقرب
ج / 1 ص -181-
به فيه
والأصناف الثلاثة سواء في هذا المعنى "ولا
يجوز في الهدايا إلا ما جاز في الضحايا"
لأنه قربة تعلقت بإراقة الدم كالأضحية
فيتخصصان بمحل واحد "والشاة جائزة في كل شيء إلا في موضعين
من طاف طواف الزيارة جنبا ومن جامع بعد الوقوف
بعرفة فإنه لا يجوز فيهما إلا البدنة"
وقد بينا المعنى فيما سبق.
"ويجوز
الأكل من هدي التطوع والمتعة والقران"
لأنه دم نسك فيجوز الأكل منها بمنزلة الأضحية
وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام أكل من
لحم هديه وحسا من المرقة "ويستحب
له أن يأكل منها" لما روينا
وكذلك يستحب أن يتصدق على الوجه الذي عرف في
الضحايا.
"ولا
يجوز الأكل من بقية الهدايا"
لأنها دماء كفارات وقد صح أن النبي عليه
الصلاة والسلام لما أحصر بالحديبية وبعث
الهدايا على يدي ناجية الأسلمي قال له "لا تأكل أنت
ورفقتك منها شيئا"
"ولا
يجوز ذبح هدي التطوع والمتعة والقران إلا في
يوم النحر" قال العبد الضعيف
"وفي
الأصل يجوز ذبح دم التطوع قبل يوم النحر وذبحه
يوم النحر أفضل وهذا هو الصحيح"
لأن القربة في التطوعات باعتبار أنها هدايا
وذلك يتحقق بتبليغها إلى الحرم "فإذا
وجد ذلك جاز ذبحها في غيره يوم النحر وفي أيام
النحر أفضل" لأن معنى القربة
في إراقة الدم فيها أظهر أما دم المتعة
والقران فلقوله تعالى:
{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ
لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ}
[الحج: 28، 29] وقضاء التفث يختص بيوم النحر
ولأنه دم نسك فيختص بيوم النحر كالأضحية.
"ويجوز
ذبح بقية الهدايا في أي وقت شاء"
وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز إلا في يوم
النحر اعتبارا بدم المتعة والقران فإن كل واحد
دم جبر عنده.
ولنا أن هذه دماء كفارات فلا تختص بيوم النحر
لأنها لما وجبت لجبر النقصان كان التعجيل بها
أولى لارتفاع النقصان به من غير تأخير بخلاف
دم المتعة والقران لأنه دم نسك قال "ولا
يجوز ذبح الهدايا إلا في الحرم"
لقوله تعالى في جزاء الصيد:
{هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] فصار أصلا في كل دم هو كفارة ولأن الهدي اسم لما
يهدى إلى مكان ومكانه الحرم قال عليه الصلاة
والسلام "منى كلها منحر وفجاج مكة كلها منحر" "ويجوز
أن يتصدق بها على مساكين الحرم وغيرهم"
خلافا للشافعي رحمه الله لأن الصدقة قربة
معقولة والصدقة على كل فقير قربة.
ج / 1 ص -182-
قال: "ولا
يجب التعريف بالهدايا" لأن
الهدي ينبئ عن النقل إلى مكان ليتقرب بإراقة
دمه فيه لا عن التعريف فلا يجب "فإن
عرف بهدي المتعة فحسن" لأنه
يتوقت بيوم النحر فعسى أن لا يجد من يمسكه
فيحتاج إلى أن يعرف به ولأنه دم نسك فيكون
مبناه على التشهير بخلاف دماء الكفارات لأنه
يجوز ذبحها قبل يوم النحر على ما ذكرنا وسببها
الجناية فيليق بها الستر.
قال: "والأفضل
في البدن النحر وفي البقر والغنم الذبح"
لقوله تعالى:
{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] قيف في تأويله الجزور وقال الله تعالى: {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] وقال الله تعالى:
{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107] والذبح ما أعد للذبح وقد صح أن النبي عليه الصلاة
والسلام نحر الإبل وذبح البقر والغنم إن شاء
نحر الإبل في الهدايا قياما أو أضجعها وأي ذلك
فعل فهو حسن والأفضل أن ينحرها قياما لما روي
أنه عليه الصلاة والسلام "نحر الهدايا
قياما" وأصحابه رضي الله عنهم كانوا ينحرونها قياما معقولة اليد اليسرى "ولا
يذبح البقر والغنم قياما" لأن
في حالة الاضطجاع المذبح أبين فيكون الذبح
أيسر والذبح هو السنة فيهما.
قال: "والأولى
أن يتولى ذبحها بنفسه إذا كان يحسن ذلك"
لما روي
أن النبي عليه الصلاة والسلام ساق مائة بدنة في حجة الوداع فنحر نيفا
وستين بنفسه وولى الباقي عليا رضي الله عنه ولأنه قربة والتولي في القربات أولى لما فيه من زيادة الخشوع إلا
أن الإنسان قد لا يهتدي لذلك ولا يحسنه فجوزنا
توليته غيره.
قال: "ويتصدق
بجلالها وخطامها ولا يعطي أجرة الجزار منها"
لقوله عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه
"تصدق بجلالها وبخطمها ولا تعطي أجرة الجزار
منها".
"ومن
ساق بدنة فاضطر إلى ركوبها ركبها وإن استغنى
عن ذلك لم يركبها" لأنه جعلها
خالصة لله تعالى فلا ينبغي أن يصرف شيئا من
عينها أو منافعها إلى نفسه إلى أن يبلغ محله
إلا أن يحتاج إلى ركوبها لما روي أنه عليه
الصلاة والسلام رأى رجلا يسوق بدنة فقال
"اركبها ويلك" وتأويله أنه كان عاجزا محتاجا
ولو ركبها فانتقص بركوبه فعليه ضمان ما نقص من
ذلك "وإن كان لها لبن لم يحلبها"
لأن اللبن متولد منها فلا يصرفه إلى حاجة نفسه
"وينضح ضرعها بالماء البارد حتى ينقطع
اللبن" ولكن هذا إذا كان
قريبا من وقت الذبح فإن كان بعيدا منه يحلبها
ويتصدق بلبنها كيلا يضر ذلك بها وإن صرفه إلى
حاجة نفسه تصدق بمثله أو بقيمته لأنه مضمون
عليه.
ج / 1 ص -183-
"ومن
ساق هديا فعطب فإن كان تطوعا فليس عليه غيره"
لأن القربة تعلقت بهذا المحل وقد فات "وإن
كان عن واجب فعليه أن يقيم غيره مقامه"
لأن الواجب باق في ذمته "وإن
أصابه عيب كبير يقيم غيره مقامه"
لأن المعيب بمثله لا يتأدى به الواجب فلا بد
من غيره "وصنع بالمعيب ما شاء" لأنه التحق
بسائر أملاكه "وإذا
عطبت البدنة في الطريق فإن كان تطوعا نحرها
وصبغ نعلها بدمها وضرب بها صفحة سنامها ولا
يأكل هو ولا غيره من الأغنياء منها"
بذلك أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام ناجية
الأسلمي رضي الله عنها والمراد بالنعل قلادتها
وفائدة ذلك ان يعلم الناس أنه هدي فيأكل منه
الفقراء دون الأغنياء وهذا لأن الإذن بتناوله
معلق بشرط بلوغه محله فينبغي أن لا يحل قبل
ذلك أصلا إلا أن التصدق على الفقراء أفضل من
أن يتركه جزرا للسباع وفيه نوع تقرب والتقرب
هو المقصود "فإن
كانت واجبة أقام غيرها مقامها وصنع بها ما شاء"
لأنه لم يبق صالحا لما عينه وهو ملكه كسائر
أملاكه "ويقلد
هدي التطوع والمتعة والقران"
لأنه دم نسك وفي التقليد إظهاره وتشهيره فيليق
به "ولا
يقلد دم الإحصار ولا دم الجنايات"
لأن سببها الجناية والستر أليق بها ودم
الاحصار جابر فيلحق بجنسها ثم ذكر الهدي
ومراده البدنة لأنه لا يقلد الشاة عادة ولا
يسن تقليده عندنا لعدم فائدة التقليد على ما
تقدم والله أعلم.
مسائل منثورة
"أهل
عرفة إذا وقفوا في يوم وشهد قوم أنهم وقفوا
يوم النحر أجزأهم" والقياس أن
لا يجزيهم اعتبارا بما إذا وقفوا يوم التروية
وهذا لأنه عبادة تختص بزمان ومكان فلا يقع
عبادة دونهما وجه الاستحسان أن هذه شهادة قامت
على النفي وعلى أمر لا يدخل تحت الحكم لأن
المقصود منها نفي حجهم والحج لا يدخل تحت
الحكم فلا تقبل ولأن فيه بلوى عاما لتعذر
الإحتراز عنه والتدارك غير ممكن وفي الأمر
بالاعادة حرج بين فوجب أن يكتفي به عند
الاشتباه بخلاف ما إذا وقفوا يوم التروية لأن
التدارك ممكن في الجملة بأن يزول الاشتباه في
يوم عرفة ولأن جواز المؤخر له نظير ولا كذلك
جواز المقدم قالوا ينبغي للحاكم أن لا يسمع
هذه الشهادة ويقول قد تم حج الناس فانصرفوا
لأنه ليس فيها إلا إيقاع الفتنة وكذا إذا
شهدوا عشية عرفة برؤية الهلال ولا يمكنه
الوقوف في بقية الليل مع الناس أو أكثرهم لم
يعمل بتلك الشهادة.
قال: "ومن
رمى في اليوم الثاني الجمرة الوسطى والثالثة
ولم يرم الأولى فان رمى الأولى ثم الباقيتين
فحسن" لأنه راعى الترتيب
المسنون "ولو
رمى الأولى وحدها أجزأه" لأنه
ج / 1 ص -184-
تدارك
المتروك في وقته وإنما ترك الترتيب وقال
الشافعي رحمه الله لا يجزيه ما لم يعد الكل
لأنه شرع مرتبا فصار كما إذا سعى قبل الطواف
أو بدأ بالمروة قبل الصفا.
ولنا أن كل جمرة قربة مقصودة بنفسه فلا يتعلق
الجواز بتقديم البعض على البعض بخلاف السعي
لأنه تابع للطواف لأنه دونه والمروة عرفت
منتهى السعي بالنص فلا تتعلق بها البداءة.
قال: "ومن
جعل على نفسه أن يحج ماشيا فإنه لا يركب حتى
يطوف طواف الزيارة" وفي الأصل
خيره بين الركوب والمشي وهذا إشارة إلى الوجوب
وهو الأصل لأنه التزم القربة بصفة الكمال
فتلزمه بتلك الصفة كما إذا نذر الصوم متتابعا
وأفعال الحج تنتهي بطواف الزيارة فيمشي إلى أن
يطوفه ثم قيل يبتدئ المشي من حين يحرم وقيل من
بيته لأن الظاهر أنه هو المراد ولو ركب أراق
دما لأنه أدخل نقصا فيه قالوا إنما يركب إذا
بعدت المسافة وشق عليه المشي وإذا قربت والرجل
ممن يعتاد المشي ولا يشق عليه ينبغي أن لا
يركب "ومن
باع جارية محرمة قد أذن لها مولاها في ذلك
فللمشتري أن يحللها ويجامعها"
وقال زفر: ليس له ذلك لأن هذا عقد سبق ملكه
فلا يتمكن من فسخه كما إذا اشترى جارية منكوحة
ولنا أن المشتري قائم مقام البائع وقد كان
للبائع أن يحللها فكذا المشتري إلا أنه يكره
ذلك للبائع لما فيه من خلف الوعد وهذا المعنى
لم يوجد في حق المشتري بخلاف النكاح لأنه ما
كان للبائع أن يفسخه إذا باشرت بإذنه فكذا لا
يكون ذلك للمشتري وإذا كان له أن يحللها لا
يتمكن من ردها بالعيب عندنا وعند زفر يتمكن
لأنه ممنوع من غشيانها "و"
ذكر "في
بعض النسخ أو يجامعها"
والأول: يدل على أنه يحللها بغير الجماع بقص
شعر أو بقلم ظفر ثم يجامع والثاني: يدل على
أنه يحللها بالمجامعة لأنه لا يخلو عن تقديم
مس يقع به التحلل والأولى أن يحللها بغير
المجامعة تعظيما لأمر الحج والله أعلم. |