الهداية في شرح بداية المبتدي

ج / 1 ص -217-       كتاب الرضاع
قال: "قليل الرضاع وكثيره سواء إذا حصل في مدة الرضاع تعلق به التحريم" وقال الشافعي رحمه الله لا يثبت التحريم إلا بخمس رضعات لقوله عليه الصلاة والسلام "لا تحرم المصة ولا المصتان ولا الإملاجة ولا الإملاجتان" ولنا قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] الآية وقوله عليه الصلاة والسلام "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" من غير فصل ولأن الحرمة وإن كانت لشبهة البعضية الثابتة بنشوز العظم وإنبات اللحم لكنه أمر مبطن فتعلق الحكم بفعل الإرضاع وما رواه مردود بالكتاب أو منسوخ به وينبغي أن يكون في مدة الرضاع لما نبين "ثم مدة الرضاع ثلاثون شهرا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا سنتان" وهو قول الشافعي رحمه الله وقال زفر رحمه الله ثلاثة أحوال لأن الحول حسن للتحول من حال إلى حال ولا بد من الزيادة على الحولين لما نبين فيقدر به ولهما قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الاحقاف: 15] ومدة الحمل أدناها ستة أشهر فبقي للفصال حولان وقال النبي عليه الصلاة والسلام "لا رضاع بعد حولين" وله هذه الآية ووجهه أنه تعالى ذكر شيئين وضرب لهما مدة فكانت لكل واحد منهما بكمالها كالأجل المضروب للدينين إلا انه قام المنقص في أحدهما فبقي في الثاني على ظاهره ولأنه لا بد من تغير الغذاء لينقطع الإنبات باللبن وذلك بزيادة مدة يتعود الصبي فيها غيره فقدرت بأدنى مدة الحمل لأنها مغيرة فإن غذاء الجنين يغاير غذاء الرضيع كما يغاير غذاء الفطيم والحديث محمول على مدة الاستحقاق وعليه يحمل النص المقيد بحولين في الكتاب.
قال: "وإذا مضت مدة الرضاع لم يتعلق بالرضاع تحريم" لقوله عليه الصلاة والسلام "
لا رضاع بعد الفصال" ولأن الحرمة باعتبار النشوء وذلك في المدة إذ الكبير لا يتربى به ولا يعتبر الفطام قبل المدة إلا في رواية عن أبي حنيفة رحمه الله إذا استغنى عنه ووجهه انقطاع النشوء بتغير الغذاء وهل يباح الإرضاع بعد المدة فقيل لا يباح لإن إباحته ضررية لكونه جزء الآدمي.
قال: "ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" للحديث الذي روينا "إلا أم أخته من

 

ج / 1 ص -218-       الرضاع فإنه يجوز أن يتزوجها ولا يجوز أن يتزوج أم أخته من النسب" لأنها تكون أمه أو موطوءة أبيه بخلاف الرضاع.
"ويجوز أن يتزوج أخت ابنه من الرضاع ولا يجوز ذلك من النسب" لأنه لما وطئ أمها حرمت عليه ولم يوجد هذا المعنى في الرضاع "وامرأة أبيه أو امرأة ابنه من الرضاع لا يجوز أن يتزوجها كما لا يجوز ذلك من النسب" لما روينا وذكر الأصلاب في النص لإسقاط اعتبار التبني على ما بيناه "ولبن الفحل يتعلق به التحريم وهو أن ترضع المرأة صبية فتحرم هذه الصبية على زوجها وعلى آبائه وأبنائه ويصير الزوج الذي نزل لها منه اللبن أبا للمرضعة" وفي أحد قولي الشافعي رحمه الله لبن الفحل لا يحرم لأن الحرمة لشبهة البعضية واللبن بعضها لا بعضه ولنا ما روينا والحرمة بالنسب من الجانبين فكذا بالرضاع وقال عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها "
ليلج عليك أفلح فإنه عمك من الرضاعة" ولأنه سبب لنزول اللبن منها فيضاف إليه في موضع الحرمة احتياطا.
"ويجوز أن يتزوج الرجل بأخت أخيه من الرضاع" لأنه يجوز أن يتزوج بأخت أخيه من النسب وذلك مثل الأخ من الأب إذا كانت له أخت من أمه جاز لأخيه من أبيه أن يتزوجها "وكل صبيين اجتمعا على ثدي امرأة واحدة لم يجز لأحدهما أن يتزوج بالأخرى" هذا هو الأصل لأن أمهما واحدة فهما أخ وأخت "ولا يتزوج المرضعة أحد من ولد التي أرضعت" لأنه أخوها "ولا ولد ولدها" لأنه ولد أخيه "ولا يتزوج الصبي المرضع أخت زوج المرضعة" لأنها عمته من الرضاع.
"وإذا اختلط اللبن بالماء واللبن هو الغالب تعلق به التحريم وإن غلب الماء لم يتعلق به التحريم" خلافا للشافعي رحمه الله هو يقول إنه موجود فيه حقيقة ونحن نقول المغلوب غير موجود حكما حتى لا يظهر في مقابلة الغالب كما في اليمين "وإن اختلط بالطعام لم يتعلق به التحريم" وإن كان اللبن غالبا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا إذا كان اللبن غالبا يتعلق به التحريم قال رضي الله عنه قولهما فيما إذا لم تمسه النار حتى لو طبخ بها لا يتعلق به التحريم في قولهم جميعا لهما أن العبرة للغالب كما في الماء إذا لم يغيره شيء عن حاله ولأبي حنيفة رحمه الله أن الطعام أصل واللبن تابع له في حق المقصود فصار كالمغلوب ولا معتبر بتقاطر اللبن من الطعام عنده هو الصحيح لأن التغذي بالطعام إذ هو الأصل "وإن اختلط بالدواء واللبن غالب تعلق به التحريم" لأن اللبن يبقى مقصودا فيه إذ الدواء لتقويته على الوصول "وإذا اختلط اللبن بلبن الشاة وهو الغالب تعلق به التحريم وإن غلب لبن الشاة لم يتعلق به التحريم" اعتبارا للغالب كما في الماء "وإذا اختلط لبن امرأتين تعلق

 

ج / 1 ص -219-       التحريم بأغلبهما عند أبي يوسف رحمه الله" لأن الكل صار شيئا واحدا فيجعل الأقل تابعا للأكثر في بناء الحكم عليه "وقال محمد" وزفر رحمهما الله "يتعلق التحريم بهما" لأن الجنس لا يغلب الجنس فإن الشيء لا يصير مستهلكا في جنسه لاتحاد المقصود وعن أبي حنيفة رحمه الله في هذا روايتان وأصل المسئلة في الأيمان.
"وإذا نزل للبكر لبن فأرضعت صبيا تعلق به التحريم" لإطلاق النص ولأنه سبب النشوء فتثبت به شبهة البعضية "وإذا حلب لبن المرأة بعد موتها فأوجر الصبي تعلق به التحريم" خلافا للشافعي رحمه الله هو يقول الأصل في ثبوت الحرمة إنما هو المرأة ثم تتعدى إلى غيرها بواسطتها وبالموت لم تبق محلا لها ولهذا لا يوجب وطؤها حرمة المصاهرة ولنا أن السبب هو شبهة الجزئية وذلك في اللبن لمعنى الإنشاز والإنبات وهو قائم باللبن وهذه الحرمة تظهر في حق الميتة دفنا وتيمما أما الحرمة في الوطء لكونه ملاقيا لمحل الحرث وقد زال بالموت فافترقا.
"وإذا احتقن الصبي باللبن لم يتعلق به التحريم" وعن محمد رحمه الله أنه تثبت به الحرمة كما يفسد به الصوم ووجه الفرق على الظاهر أن المفسد في الصوم إصلاح البدن ويوجد ذلك في الدواء فأما المحرم في الرضاع فمعنى النشوء ولا يوجد ذلك في الاحتقان لأن المغذى وصوله من الأعلى.
"وإذا نزل للرجل لبن فأرضع به صبيا لم يتعلق التحريم" لأنه ليس بلبن على التحقيق فلا يتعلق به النشوء والنمو وهذا لأن اللبن إنما يتصور ممن يتصور منه الولادة "وإذا شرب صبيان من لبن شاة لم يتعلق به التحريم" لأنه لا جزئية بين الآدمي والبهائم والحرمة باعتبارها.
"وإذا تزوج الرجل صغيرة وكبيرة فأرضعت الكبيرة الصغيرة حرمتا على الزوج" لأنه يصير جامعا بين الأم والبنت رضاعا وذلك حرام كالجمع بينهما نسبا "ثم إن لم يدخل بالكبيرة فلا مهر لها" لأن الفرقة جاءت من قبلها قبل الدخول بها "وللصغيرة نصف المهر" لأن الفرقة وقعت لا من جهتها والاتضاع وإن كان فعلا منها لكن فعلها غير معتبر في إسقاط حقها كما إذا قتلت مورثها "ويرجع به الزوج على الكبيرة إن كانت تعمدت به الفساد وإن لم تتعمد فلا شيء عليها وإن علمت بأن الصغيرة امرأته" وعن محمد رحمه الله أنه يرجع في الوجهين والصحيح ظاهر الرواية لأنها وإن أكدت ما كان على شرف السقوط وهو نصف المهر وذلك يجري مجرى الإتلاف لكنها مسببة فيه إما لأن الإرضاع ليس

 

ج / 1 ص -220-       بإفساد للنكاح وضعا وإنما ثبت ذلك باتفاق الحال أو لأن إفساد النكاح ليس بسبب لإلزام المهر بل هو سبب لسقوطه إلا أن نصف المهر يجب بطريق المتعة على ما عرف لكن من شرطه إبطال النكاح وإذا كانت مسببة يشترط فيه التعدي كحفر البئر ثم إنما تكون متعدية إذا علمت بالنكاح وقصدت بالإرضاع الفساد أما إذا لم تعلم بالنكاح أو علمت بالنكاح ولكنها قصدت دفع الجوع والهلاك عن الصغيرة دون الفساد لا تكون متعدية لأنها مأمورة بذلك ولو علمت بالنكاح ولم تعلم بالفساد لا تكون متعدية أيضا وهذا منا اعتبار الجهل لدفع قصد الفساد لا لدفع الحكم.
"ولا تقبل في الرضاع شهادة النساء منفردات وإنما تثبت بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين" وقال مالك رحمه الله تثبت بشهادة امرأة واحدة إذا كانت موصوفة بالعدالة لأن الحرمة حق من حقوق الشرع فتثبت بخبر الواحد كمن اشترى لحما فأخبره واحد أنه ذبيحة المجوسي ولنا أن ثبوت الحرمة لا يقبل الفصل عن زوال الملك في باب النكاح وإبطال الملك لا يثبت إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين بخلاف اللحم لأن حرمة التناول تنفك عن زوال الملك فاعتبر أمرا دينيا والله أعلم بالصواب.