الهداية في شرح بداية المبتدي

ج / 2 ص -339-       كتاب الحدود
قال: الحد لغة هو المنع ومنه الحداد للبواب وفي الشريعة هو العقوبة المقدرة حقا لله تعالى حتى لا يسمى القصاص حدا لأنه حق العبد ولا التعزير لعدم التقدير والمقصد الأصلي من شرعه الانزجار عما يتضرر به العباد والطهارة ليست أصلية فيه بدليل شرعه في حق الكافر.
قال: "الزنا يثبت بالبينة والإقرار" والمراد ثبوته عند الإمام لأن البينة دليل ظاهر وكذا الإقرار لأن الصدق فيه مرجح لا سيما فيما يتعلق بثبوته مضرة ومعرة والوصول إلى العلم القطعي متعذر فيكتفي بالظاهر.
قال: "فالنية أن تشهد أربعة من الشهود على رجل أو امرأة بالزنا" لقوله تعالى:
{فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] وقال الله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] وقال عليه الصلاة والسلام للذي قذف امرأته "ائت بأربعة يشهدون على صدق مقالتك" ولأن في اشتراط الأربعة يتحقق معنى الستر وهو مندوب إليه والإشاعة ضده "وإذا شهدوا يسألهم الإمام عن الزنا ما هو وكيف هو وأين زنى ومتى زنى وبمن زنى" ولأن النبي عليه الصلاة والسلام استفسر ماعزا عن الكيفية وعن المزنية ولأن الاحتياط في ذلك واجب لأنه عساه غير الفعل في الفرج عناه أو زنى في دار الحرب أو في المتقادم من الزمان أو كانت له شبهة لا يعرفها هو ولا الشهود كوطء جارية الابن فيستقصى في ذلك احتيالا للدرء.
"فإذا بينوا ذلك وقالوا رأيناه وطئها في فرجها كالميل في المكحلة وسأل القاضي عنهم فعدلوا في السر والعلانية حكم بشهادتهم" ولم يكتف بظاهر العدالة في الحدود احتيالا للدرء قال عليه الصلاة والسلام "
ادرءوا الحدود ما استطعتم" بخلاف سائر الحقوق عند أبي حنيفة رحمه الله وتعديل السر والعلانية نبينه في الشهادات إن شاء الله تعالى.
قال في الأصل يحبسه حتى يسأل عن الشهود للاتهام بالجناية وقد حبس رسول الله

 

ج / 2 ص -340-       عليه الصلاة والسلام رجلا بالتهمة بخلاف الديون حيث لا يحبس فيها قبل ظهور العدالة وسيأتيك الفرق إن شاء الله تعالى.
قال: "والإقرار أن يقر البالغ العاقل على نفسه بالزنا أربع مرات في أربعة مجالس من مجالس المقر كلما أقر رده القاضي" فاشتراط البلوغ والعقل لأن قول الصبي والمجنون غير معتبر أو هو غير موجب للحد واشتراط الأربع مذهبنا وعند الشافعي رحمه الله يكتفى بالإقرار مرة واحدة اعتبارا بسائر الحقوق وهذا لأنه مظهر وتكرار الإقرار لا يفيد زيادة الظهور بخلاف زيادة العدد في الشهادة ولنا حديث ماعز رضي الله عنه فإنه عليه الصلاة والسلام أخر الإقامة إلى أن تم الإقرار منه أربع مرات في أربعة مجالس فلو ظهر بما دونها لما أخرها لثبوت الوجوب ولأن الشهادة اختصت فيه بزيادة العدد فكذا الإقرار إعظاما لأمر الزنا وتحقيقا لمعنى الستر ولا بد من اختلاف المجالس لما روينا ولأن لاتحاد المجلس أثرا في جمع المتفرقات فعنده يتحقق شبهة الاتحاد في الإقرار والإقرار قائم بالمقر فيعتبر اختلاف مجلسه دون مجلس القاضي والاختلاف بأن يرده القاضي كلما أقر فيذهب حيث لا يراه ثم يجيء فيقر هو المروي عن أبي حنيفة رحمه الله لأنه عليه الصلاة والسلام طرد ماعزا في كل مرة حتى توارى بحيطان المدينة.
قال: "فإذا تم إقراره أربع مرات سأله عن الزنا ما هو وكيف هو وأين زنى وبمن زنى فإذا بين ذلك لزمه الحد" لتمام الحجة ومعنى السؤال عن هذه الأشياء بيناه في الشهادة ولم يذكر السؤال فيه عن الزمان وذكره في الشهادة لأن تقادم العهد يمنع الشهادة دون الإقرار وقيل لو سأله جاز لجواز أنه زنى في صباه "فإن رجع المقر عن إقراره قبل إقامة الحد أو في وسطه قبل رجوعه وخلى سبيله" وقال الشافعي رحمه الله وهو قول ابن أبي ليلى يقيم عليه الحد لأنه وجب الحد بإقراره فلا يبطل برجوعه وإنكاره كما إذا وجب بالشهادة وصار كالقصاص وحد القذف ولنا أن الرجوع خبر محتمل للصدق كالإقرار وليس أحد يكذبه فيه فتتحقق الشبهة في الإقرار بخلاف ما فيه حق العبد وهو القصاص وحد القذف لوجود من يكذبه ولا كذلك ما هو خالص حق الشرع.
"ويستحب للإمام أن يلقن المقر الرجوع فيقول له لعلك لمست أو قبلت" لقوله عليه الصلاة والسلام لماعز رضي الله عنه "
لعلك لمستها أو قبلتها" قال في الأصل وينبغي أن يقول له الإمام لعلك تزوجتها أو وطئتها بشبهة وهذا قريب من الأول في المعنى والله أعلم.

 

ج / 2 ص -341-       فصل في كيفية الحد وإقامته
"وإذا وجب الحد وكان الزاني محصنا رجمه بالحجارة حتى يموت" لأنه عليه الصلاة والسلام رجم ماعزا وقد أحصن وقال في الحديث المعروف وزنا بعد إحصان وعلى هذا إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
قال: "ويخرجه إلى أرض فضاء ويبتدئ الشهود برجمه ثم الإمام ثم الناس" كذا روي عن علي رضي الله عنه ولأن الشاهد قد يتجاسر على الأداء ثم يستعظم المباشرة فيرجع فكان في بداءته احتيال للدرء وقال الشافعي رحمه الله لا تشترط بداءته اعتبارا بالجلد.
قلنا: كل أحد لا يحسن الجلد فربما يقع مهلكا والإهلاك غير مستحق ولا كذلك الرجم لأنه إتلاف قال "فإن امتنع الشهود من الابتداء سقط الحد" لأنة دلالة الرجوع وكذا إذا ماتوا أو غابوا في ظاهر الرواية لفوات الشرط "وإن كان مقرا ابتدأ الإمام ثم الناس" كذا روي عن علي رضي الله عنه ورمى رسول الله عليه الصلاة والسلام الغامدية بحصاة مثل الحمصة وكانت قد اعترفت بالزنا "ويغسل ويكفن ويصلى عليه" لقوله عليه الصلاة والسلام في ماعز رضي الله عنه "
اصنعوا به كما تصنعون بموتاكم" ولأنه قتل بحق فلا يسقط الغسل كالمقتول قصاصا وصلى النبي عليه الصلاة والسلام على الغامدية بعد ما رجمت "وإن لم يكن محصنا وكان حرا فحده مائة جلدة" لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] إلا أنه انتسخ في حق المحصن فبقي في حق غيره معمولا به.
قال: "يأمر الإمام بضربه بسوط لا ثمرة له ضربا متوسطا" لأن عليا رضي الله عنه لما أراد أن يقيم الحد كسر ثمرته والمتوسط بين المبرح وغير المؤلم لإفضاء الأول إلى الهلاك وخلو الثاني عن المقصود وهو الانزجار "وتنزع عنه ثيايه" معناه دون الإزار لأن عليا رضي الله عنه كان يأمر بالتجريد في الحدود ولأن التجريد أبلغ في إيصال الألم إليه وهذا الحد مبناه على الشدة في الضرب وفي نزع الإزار كشف العورة فيتوقاه "ويفرق الضرب على أعضائه" لأن الجمع في عضو واحد قد يفضي إلى التلف والحد زاجر لا متلف.
قال: "إلا رأسه ووجهه وفرجه" لقوله عليه الصلاة والسلام للذي أمره بضرب الحد "
عاتق الوجه والمذاكير" ولأن الفرج مقتل والرأس مجمع الحواس وكذا الوجه وهو مجمع المحاسن أيضا فلا يؤمن فوات شيء منها بالضرب وذلك إهلاك معنى فلا يشرع حدا.

 

ج / 2 ص -342-       وقال أبو يوسف رحمه الله يضرب الرأس أيضا رجع إليه وإنما يضرب سوطا لقول أبي بكر رضي الله عنه اضربوا الرأس فإن فيه شيطانا.
قلنا: تأويله أنه قال ذلك فيمن أبيح قتله ويقال إنه ورد في حربي كان من دعاة الكفرة والإهلاك فيه مستحق "ويضرب في الحدود كلها قائما غير ممدود" لقول علي رضي الله عنه يضرب الرجال في الحدود قياما والنساء قعودا ولأن مبنى إقامة الحد على التشهير والقيام أبلغ فيه ثم قوله غير ممدود فقد قيل المد أن يلقى على الأرض ويمد كما يفعل في زماننا وقيل أن يمد السوط فيرفعه الضارب فوق رأسه وقيل أن يمده بعد الضرب وذلك كله لا يفعل لأنه زيادة على المستحق "وإن كان عبدا جلده خمسين جلدة" لقوله تعالى:
{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] نزلت في الإماء ولأن الرق منقص للنعمة فيكون منقصا للعقوبة لأن الجناية عند توافر النعم أفحش فيكون أدنى إلى التغليظ "والرجل والمرأة في ذلك سواء" لأن النصوص تشملهما "غير أن المرأة لا ينزع من ثيابها إلا الفرو والحشو" لأن في تجريدها كشف العورة والفرو والحشو يمنعان وصول الألم إلى المضروب والستر حاصل بدونهما فينزعان "وتضرب جالسة" لما روينا ولأنه أستر لها.
قال: "وإن حفر لها في الرجم جاز" لأنه عليه الصلاة والسلام حفر للغامدية إلى ثندوتها وحفر علي رضي الله عنه لشراحة الهمدانية وإن ترك لا يضره لأنه عليه الصلاة والسلام لم يأمر بذلك وهي مستورة بثيابها والحفر أحصن لأنه أستر ويحفر إلى الصدر لما روينا "ولا يحفر للرجل" لأنه عليه الصلاة والسلام ما حفر لماعز رضي الله عنه ولأن مبنى الإقامة على التشهير في الرجال والربط والإمساك غير مشروع "ولا يقيم المولى الحد على عبده إلا بإذن الإمام".
وقال ا لشافعي رحمه الله له أن يقيمه لأن له ولاية مطلقة عليه كالإمام بل أولى لأنه يملك من التصرف فيه مالا يملكه الإمام فصار كالتعزير ولنا قوله عليه الصلاة والسلام "
أربع إلى الولاة وذكر منها الحدود" ولأن الحد حق الله تعالى لأن المقصد منها إخلاء العالم عن الفساد ولهذا لا يسقط بإسقاط العبد فيستوفيه من هو نائب عن الشرع وهو الإمام أو نائبه بخلاف التعزير لأنه حق العبد ولهذا يعزر الصبي وحق الشرع موضوع عنه.
قال: "وإحصان الرجم أن يكون حرا عاقلا بالغا مسلما قد تزوج امرأة نكاحا صحيحا ودخل بها وهما على صفة الإحصان" فالعقل والبلوغ شرط لأهلية العقوبة إذ لا خطاب

 

ج / 2 ص -343-       دونهما وما وراءهما يشترط لتكامل الجناية بواسطة تكامل النعمة إذ كفران النعمة يتغلظ عند تكثرها وهذه الأشياء من جلائل النعم وقد شرع الرجم بالزنا عند استجماعها فيناط به بخلاف الشرف والعلم لأن الشرع ما ورد باعتبارهما ونصب الشرع بالرأي متعذر ولأن الحرية ممكنة من النكاح الصحيح والنكاح الصحيح ممكن من الوطء الحلال والإابة شبع بالحلال والإسلام يمكنه من نكاح المسلمة ويؤكد اعتقاد الحرمة فيكون الكل مزجرة عن الزنا والجناية بعد توفر الزواجر أغلظ والشافعي رحمه الله يخالفنا في اشتراط الإسلام وكذا أبو يوسف رحمه الله في رواية لهما ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام رجم يهوديين قد زنيا.
قلنا: كان ذلك بحكم التوراة ثم نسخ يؤيده قوله عليه الصلاة والسلام "
من أشرك بالله فليس بمحصن" والمعتبر في الدخول الإيلاج في القبل على وجه يوجب الغسل.
وشرط صفة الإحصان فيهما عند الدخول حتى لو دخل بالمنكوحة الكافرة أو المملوكة أو المجنونة أو الصبية لا يكون محصنا وكذا إذا كان الزوج موصوفا بإحدى هذه الصفات وهي حرة مسلمة عاقلة بالغة لأن النعمة بذلك لا تتكامل إذ الطبع ينفر عن صحبة المجنونة وقلما يرغب في الصبية لقلة رغبتها فيه وفي المنكوحة المملوكة حذرا عن رق الولد ولا ائتلاف مع الاختلاف في الدين وأبو يوسف رحمه الله يخالفهما في الكافرة والحجة عليه ما ذكرناه وقوله عليه الصلاة والسلام "
لا تحصن المسلم اليهودية ولا النصرانية ولا الحر الأمة ولا الحرة العبد".
قال: "ولا يجمع في المحصن بين الرجم والجلد" لأنه عليه الصلاة والسلام لم يجمع ولأن الجلد يعرى عن المقصود مع الرجم لأن زجر غيره يحصل بالرجم إذ هو في العقوبة أقصاها وزجره لا يحصل بعد هلاكه.
قال: "ولا يجمع في البكر بين الجلد والنفي" والشافعي رحمه الله يجمع بينهما حدا لقوله عليه الصلاة والسلام "
البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" ولأن فيه حسم باب الزنا لقلة المعارف ولنا قوله تعالى: {فَاجْلِدُوا} جعل الجلد كل الموجب رجوعا إلى حرف الفاء وإلى كونه كل المذكور ولأن في التغريب فتح باب الزنا لانعدام الاستحياء من العشيرة ثم فيه قطع مواد البقاء فربما تتخذ زناها مكسبة وهو من أقبح وجوه الزنا وهذه الجهة مرجحة لقول علي رضي الله عنه كفى بالنفي فتنة والحديث منسوخ كشطره، وهو

 

ج / 2 ص -344-       قوله عليه الصلاة والسلام: "الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة" وقد عرف طريقه في موضعه.
قال: "إلا أن يرى الإمام في ذلك مصلحة فيغربه على قدر ما يرى" وذلك تعزير وسياسة لأنه قد يفيد في بعض الأحوال فيكون الرأي فيه إلى الإمام وعليه يحمل النفي المروي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم "وإذا زنى المريض وحده الرجم رجم" لأن الإتلاف مستحق فلا يمتنع بسبب المرض "وإن كان حده الجلد لم يجلد حتى يبرأ" كيلا يفضي إلى الهلاك ولهذا لا يقام القطع عند شدة الحر والبرد "وإذا زنت الحامل لم تحد حتى تضع حملها" كيلا يؤدي إلى هلاك الولد وهو نفس محترمة "وإذا كان حدها الجلد لم تجلد حتى تتعالى من نفاسها" أي ترتفع يريد به تخرج منه لأن النفاس نوع مرضي فيؤخر إلى زمان البرء بخلاف الرجم لأن الأخير لأجل الولد وقد انفصل وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يؤخر إلى أن يستغني ولدها عنها إذا لم يكن أحد يقوم بتربيته لأن في التأخير صيانة الولد عن الضياع وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قال للغامدية بعد ما وضعت "
ارجعي حتى يستغني ولدك" ثم الحبلى تحبس إلى أن تلد إن كان الحد ثابتا بالبينة كيلا تهرب بخلاف الإقرار لأن الرجوع عنه عامل فلا يفيد الحبس والله أعلم.

باب الوطء الذي يوجب الحد والذي لا يوجبه
قال: "الوطء الموجب للحد هو الزنا" وأنه في عرف الشرع واللسان وطء الرجل المرأة في القبل في غير الملك وشبهة الملك لأنه فعل محظور والحرمة على الإطلاق عند التعري عن الملك وشبهته يؤيد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام "ادرءوا الحدود بالشبهات".
ثم الشبهة نوعان شبهة في الفعل وتسمى شبهة اشتباه وشبهة في المحل وتسمى شبهة حكمية.
فالأولى: تتحقق في حق من اشتبه عليه لأن معناه أن يظن غير الدليل دليلا ولا بد من الظن ليتحقق الاشتباه
والثانية: تتحقق بقيام الدليل النافي للحرمة في ذاته ولا تتوقف على ظن الجاني واعتقاده والحد يسقط بالنوعين لإطلاق الحديث والنسب يثبت في الثانية إذا ادعى الولد ولا يثبت في الأولى وإن ادعاه لأن الفعل تمحض زنا في الأولى وإنما يسقط الحد لأمر راجع إليه وهو اشتباه الأمر عليه ولم يتمحض في الثانية فشبهة الفعل في ثمانية مواضع:

 

ج / 2 ص -345-       جارية أبيه وأمه وزوجته والمطلقة ثلاثا وهي في العدة وبائنا بالطلاق على مال وهي في العدة وأم ولد أعتقها مولاها وهي في العدة وجارية المولى في حق العبد والجارية المرهونة في حق المرتهن في رواية كتاب الحدود ففي هذه المواضع لا حد عليه إذا قال ظننت أنها تحل لي ولو قال علمت أنها علي حرام وجب الحد والشبهة في المحل في ستة مواضع جارية ابنه والمطلقة طلاقا بائنا بالكنايات والجارية المبيعة في حق البائع قبل التسليم والممهورة في حق الزوج قبل القبض والمشتركة بينه وبين غيره والمرهونة قي حق المرتهن في رواية كتاب الرهن ففي هذه المواضع لا يجب الحد وإن قال علمت أنها علي حرام ثم الشبهة عند أبي حنيفة رحمه الله تثبت بالعقد وإن كان متفقا على تحريمه وهو عالم به وعند الباقين لا تثبت إذا علم بتحريمه ويظهر ذلك في نكاح المحارم على ما يأتيك إن شاء الله تعالى إذا عرفنا هذا.
"ومن طلق امرأته ثلاثا ثم وطئها في العدة وقال علمت أنها علي حرام حد" لزوال الملك المحلل من كل وجه فتكون الشبهة منتفية وقد نطق الكتاب بانتفاء الحل وعلى ذلك الإجماع ولا يعتبر قول المخالف فيه لأنه خلاف لا اختلاف ولو قال ظننت أنها تحل لي لا يحد لأن الظن في موضعه لأن أثر الملك قائم في حق النسب والحبس والنفقة فاعتبر ظنه في إسقاط الحد وأم الولد إذا أعتقها مولاها والمختلعة والمطلقة على مال بمنزلة المطلقة الثلاث لثبوت الحرمة بالإجماع وقيام بعض الآثار في العدة.
"ولو قال لها أنت خلية أو برية أو أمرك بيدك فاختارت نفسها ثم وطئها في العدة وقال علمت أنها علي حرام لم يحد" لاختلاف الصحابة رضي الله عنهم فيه فمن مذهب عمر رضي الله عنه أنها تطليقة رجعية وكذا الجواب في سائر الكنايات وكذا إذا نوى ثلاثا لقيام الاختلاف مع ذلك.
"ولا حد على من وطئ جارية ولده وولد ولده وإن قال علمت أنها علي حرام" لأن الشبهة حكمية لأنها نشأت عن دليل وهو قوله عليه الصلاة والسلام
أنت ومالك لأبيك والأبوة قائمة في حق الجد.
قال: "ويثبت النسب منه وعليه قيمة الجارية" وقد ذكرناه.
"وإذا وطئ جارية أبيه أو أمه أو زوجته وقال ظننت أنها تحل لي فلا حد عليه ولا على قاذفه وإن قال علمت أنها علي حرام حد وكذا العبد إذا وطئ جارية مولاه" لأن بين هؤلاء انبساطا في الانتفاع فظنه في الاستمتاع محتمل فكان شبهة اشتباه إلا أنه زنا

 

ج / 2 ص -346-       حقيقة فلا يحد قاذفه وكذا إذا قالت الجارية ظننت أنه يحل لي والفحل لم يدع في الظاهر لأن الفعل واحد "وإن وطئ جارية أخيه أو عمه وقال ظننت أنها تحل لي حد" لأنه لا انبساط في المال فيما بينهما وكذا سائر المحارم سوى الولاد لما بينا.
"ومن زفت إليه غير امرأته وقالت النساء إنها زوجتك فوطئها لا حد عليه وعليه المهر" قضى بذلك علي رضي الله عنه وبالعدة لأنه اعتمد دليلا وهو الإخبار في موضع الاشتباه إذ الإنسان لا يميز بين امرأته وبين غيرها في أول الوهلة فصار كالمغرور ولا يحد قاذفه إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله لأن الملك منعدم حقيقة.
"ومن وجد امرأة على فراشه فوطئها فعليه الحد" لأنه لا اشتباه بعد طول الصحبة فلم يكن الظن مستندا إلى دليل وهذا لأنه قد ينام على فراشها غيرها من المحارم التي في بيتها وكذا إذا كان أعمى لأنه يمكنه التمييز بالسؤال وغيره إلا إن كان دعاها فأجابته أجنبية وقالت أنا زوجتك فواقعها لأن الإخبار دليل.
"ومن تزوج امرأة لا يحل له نكاحها فوطئها لا يجب عليه الحد عند أبي حنيفة رحمه الله" ولكن يوجع عقوبة إذا كان علم بذلك وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله عليه الحد إذا كان عالما بذلك لأنه عقد لم يصادف محله فيلغو كما إذا أضيف إلى الذكور وهذا لأن محل التصرف ما يكون محلا لحكمه وحكمه الحل وهي من المحرمات ولأبي حنيفة رحمه الله أن العقد صادف محله لأن محل التصرف ما يقبل مقصوده والأنثى من بنات آدم قابلة للتوالد وهو المقصود فكان ينبغي أن ينعقد في جميع الأحكام إلا أنه تقاعد عن إفادة حقيقة الحل فيورث الشبهة لأن الشبهة ما يشبه الثابت لا نفس الثابت إلا أنه ارتكب جريمة وليس فيها حد مقدر فيعزر.
"ومن وطئ أجنبية فيما دون الفرج يعزر" لأنه منكر ليس فيه شيء مقدر "ومن أتى امرأة في الموضع المكروه أو عمل عمل قوم لوط فلا حد عليه عند أبي حنيفة رحمه الله ويعزر وزاد في الجامع الصغير ويودع في السجن وقالا هو كالزنا فيحد" وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله وقال في قول يقتلان بكل حال لقوله عليه الصلاة والسلام "
اقتلوا الفاعل والمفعول" ويروى "فارجموا الأعلى والأسفل" ولهما أنه في معنى الزنا لأنه قضاء الشهوة في محل مشتهى على سبيل الكمال على وجه تمحض حراما لقصد سفح الماء وله أنه ليس بزنا لاختلاف الصحابة في موجبه من الإحراق بالنار وهدم الجدار والتنكيس من مكان مرتفع باتباع الأحجار وغير ذلك ولا هو في معنى الزنا لأنه ليس فيه إضاعة الولد

 

ج / 2 ص -347-       واشتباه الأنساب وكذا هو أندر وقوعا لانعدام الداعي من أحد الجانبين والداعي إلى الزنا من الجانبين وما رواه محمول على السياسة أو على المستجل إلا أنه يعزر عنده لما بيناه.
"ومن وطئ بهيمة فلا حد عليه" لأنه ليس في معنى الزنا في كونه جناية وفي وجود ا لداعي لأن الطبع السليم ينفر عنه والحامل عليه نهاية السفه أو فرط الشبق ولهذا لا يجب ستره إلا أنه يعزر لما بينا والذي يروى أنه تذبح البهيمة وتحرق فذلك لقطع التحدث به وليس بواجب.
"ومن زنى في دار الحرب أو في دار البغي ثم خرج إلينا لا يقام عليه الحد" وعند الشافعي رحمه الله يحد لأنه التزم بإسلامه أحكامه أينما كان مقامه ولنا قوله عليه الصلاة والسلام "
لا تقام الحدود في دار الحرب" ولأن المقصود هو الانزجار وولاية الإمام منقطعة فيهما فيعرى الوجوب عن الفائدة ولا تقام بعد ما خرج لأنها لم تنعقد موجبة فلا تنقلب موجبة ولو غزا من له ولاية الإقامة بنفسه كالخليفة وأمير المصر يقيم الحد على من زنى في معسكره لأنه تحت يده بخلاف أمير العسكر والسرية لأنه لم تفوض إليهما الإقامة.
"وإذا دخل حربي دارنا بأمان فزنى بذمية أو زنى ذمي بحربية يحد الذمي والذمية عند أبي حنيفة رحمه الله ولا يحد الحربي والحربية وهو قول محمد رحمه الله في الذمي" يعني إذا زنى بحربية فأما إذا زنى الحربي بذمية لا يحدان عند محمد رحمه الله وهو قول أبي يوسف رحمه الله أولا "وقال أبو يوسف رحمه الله يحدون كلهم" وهو قوله الآخر لأبي يوسف رحمه الله أن المستأمن التزم أحكامنا مدة مقامه في دارنا في المعاملات كما أن الذمي التزمها مدة عمره ولهذا يحد حد القذف ويقتل قصاصا بخلاف حد الشرب لأنه يعتقد إباحته ولهما أنه ما دخل للقرار بل لحاجة كالتجارة ونحوها فلم يصر من أهل دارنا ولهذا يمكن من الرجوع إلى دار الحرب ولا يقتل المسلم ولا الذمي به وإنما التزم من الحكم ما يرجع إلى تحصيل مقصوده وهو حقوق العباد لأنه لما طمع في الإنصاف يلتزم الانتصاف والقصاص وحد القذف من حقوقهم أما حد الزنا فمحض حق الشرع.
ولمحمد رحمه الله وهو الفرق أن الأصل في باب الزنا فعل ا لرجل والمرأة تابعة له على ما نذكره إن شاء الله تعالى فامتناع الحد في حق الأصل يوجب امتناعه في حق التبع أما الامتناع في حق التبع لا يوجب الامتناع في حق الأصل.
ونظيره إذا زنى البالغ بصبية أو مجنونة وتمكين البالغة من الصبي والمجنون.

 

ج / 2 ص -348-       ولأبي حنيفة رحمه الله فيه أن فعل الحربي المستأمن زنا لأنه مخاطب بالحرمات على ما هو الصحيح وإن لم يكن مخاطبا بالشرائع على أصلنا والتمكين من فعل هو زنا موجب للحد عليها بخلاف الصبي والمجنون لأنهما لا يخاطبان ونظير هذا الاختلاف إذا زنى المكره بالمطاوعة تحد المطاوعة عنده وعند محمد رحمه الله لا تحد.
قال: "وإذا زنى الصبي أو المجنون بامرأة طاوعته فلا حد عليه ولا عليها" وقال زفر والشافعي رحمهما الله يجب الحد عليها وهو راوية عن أبي يوسف رحمه الله "قال زنى صحيح بمجنونة أو صغيرة يجامع مثلها حد الرجل خاصة" وهذا بالإجماع لهما أن العذر من جانبها لا يوجب سقوط الحد من حانبه فكذا العذر من جانبه وهذا لأن كلا منهما مؤاخذ بفعله ولنا أن فعل الزنا يتحقق منه وإنما هي محل الفعل ولهذا يمسى هو واطئا وزانيا والمرأة موطوءة ومزنيا بها إلا أنها سميت زانية مجازا تسمية للمفعول باسم الفاعل كالراضية في معنى المرضية أو لكونها مسببة بالتمكين فتعلق الحد في حقها بالتمكين من قبيح الزنا وهو فعل من هو مخاطب بالكف عنه ومؤثم على مباشرته وفعل الصبي ليس بهذه الصفة فلا يناط به الحد.
قال: "ومن أكرهه السلطان حتى زنى فلا حد عليه" وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول أولا يحد وهو قول زفر رحمه الله لأن الزنا من الرجل لا يكون إلا بعد انتشار الآلة وذلك دليل الطواعية ثم رجع عنه فقال لا حد عليه لأن سببه الملجئ قائم ظاهرا والانتشار دليل متردد لأنه قد يكون من غير قصد لأن الانتشار قد يكون طبعا لا طوعا كما في النائم فأورث شبهة وإن أكرره غير السلطان حد عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا يحد لأن الإكراه عندهما قد يتحقق من غير السلطان لأن المؤثر خوف الهلاك وأنه يتحقق من غيره وله أن الإكراه من غيره لا يدوم إلا نادرا لتمكنه من الاستعانة بالسلطان أو بجماعة المسلمين ويمكنه دفعه بنفسه بالسلاح والنادر لا حكم له فلا يسقط به الحد بخلاف السلطان لأنه لا يمكنه الاستعانة بغيره ولا الخروج بالسلاح عليه فافترقا.
"ومن أقر أربع مرات في مجالس مختلفة أنه زنى بفلانة وقالت هي تزوجني أو أقرت بالزنا وقال الرجل تزوجتها فلا حد عليه وعليه المهر في ذلك" لأن دعوى النكاح يحتمل الصدق وهو يقوم بالطرفين فأورث شبهة وإذا سقط الحد وجب المهر تعظيما لخطر البضع.
"ومن زنى بجارية فقتلها فإنه يحد وعليه القيمة" معناه قتلها بفعل الزنا لأنه جنى

 

ج / 2 ص -349-       جنايتين فيوفر على كل واحد منهما حكمه وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يحد لأن تقرر ضمان القيمة سبب لملك الأمة فصار كما إذا اشتراها بعد ما زنى بها وهو على هذا الاختلاف واعتراض سبب الملك قبل إقامة الحد يوجب سقوطه كما إذا ملك المسروق قبل القطع ولهما أنه ضمان قتل فلا يوجب الملك لأنه ضمان دم ولو كان يوجبه فإنما يوجبه في العين كما في هبة المسروق لا في منافع البضع لأنها استوفيت والملك يثبت مستندا فلا يظهر في المستوفى لكونها معدومة وهذا بخلاف ما إذا زنى بها فأذهب عينها حيث تجب عليه قيمتها ويسقط الحد لأن الملك هنالك يثبت في الجثة العمياء وهي عين فأورث شبهة.
قال: "وكل شيء صنعه الإمام الذي ليس فوقه إمام فلا حد عليه إلا القصاص فإنه يؤخذ به وبالأموال" لأن الحدود حق الله تعالى وإقامتها إليه لا إلى غيره ولا يمكنه أن يقيم على نفسه لأنه لا يفيد بخلاف حقوق العباد لأنه يستوفيه ولي الحق إما بتمكينه أو بالاستعانة بمنعة المسلمين والقصاص والأموال منها وأما حد القذف قالوا المغلب فيه حق الشرع فحكمه كحكم سائر الحدود التي هي حق الله تعالى والله تعالى أعلم بالصواب.

باب الشهادة على الزنا والرجوع عنها
قال: "وإذا شهد الشهود بحد متقادم لم يمنعهم عن إقامته بعدهم عن الإمام لم تقبل شهادتهم إلا في حد القذف خاصة وفي الجامع الصغير وإذا شهد عليه الشهود بسرقة أو بشرب خمر أو بزنا بعد حين لم يؤخذ به وضمن السرقة" والأصل فيه أن الحدود الخالصة حقا لله تعالى تبطل بالتقادم خلافا للشافعي رحمه الله هو يعتبرها بحقوق العباد وبالإقرار الذي هو إحدى الحجتين ولنا أن الشاهد مخير بين حسبتين أداء الشهادة والستر فالتأخير إن كان لاختيار الستر فالإقدام على الأداء بعد ذلك لضغينة هيجته أو لعداوة حركته فيتهم فيها وإن كان التأخير لا للستر يصير فاسقا آثما فتيقنا بالمانع بخلاف الإقرار لأن الإنسان لا يعادي نفسه فحد الزنا وشرب الخمر والسرقة خالص حق الله تعالى حتى يصح الرجوع عنها بعد الإقرار فيكون التقادم فيه مانعا وحد القذف فيه حق العبد لما فيه من دفع العار عنه ولهذا لا يصح رجوعه بعد الإقرار والتقادم غير مانع في حقوق العباد ولأن الدعوى فيه شرط فيحمل تأخيرهم على انعدام الدعوى فلا يوجب تفسيقهم بخلاف حد السرقة لأن الدعوى ليست بشرط للحد لأنه خالص حق الله تعالى على ما مر وإنما شرطت للمال ولأن الحكم يدار على كون الحد حقا لله تعالى فلا يعتبر وجود التهمة في كل

 

ج / 2 ص -350-       فرد ولأن السرقة تقام على الاستسرار على غرة من المالك فيجب على الشاهد إعلامه وبالكتمان يصير فاسقا آثما ثم التقادم كما يمنع قبول الشهادة في الابتداء يمنع الإقامة بعد القضاء عندنا خلافا لزفر رحمه الله حتى لو هرب بعد ما ضرب بعض الحد ثم أخذ بعد ما تقادم الزمان لا يقام عليه الحد لأن الإمضاء من القضاء في باب الحدود.
واختلفوا في حد التقادم وأشار في الجامع الصغير إلى ستة أشهر فإنه قال بعد حين وهكذا أشار الطحاوي وأبو حنيفة رحمه الله لم يقدر في ذلك وفوضه إلى رأي القاضي في كل عصر وعن محمد رحمه الله أنه قدره بشهر لأن ما دونه عاجل وهو رواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وهو الأصح وهذا إذا لم يكن بين القاضي وبينهم مسيرة شهر أما إذا كان تقبل شهادتهم لأن المانع بعدهم عن الإمام فلا تتحقق التهمة والتقادم في حد الشرب كذلك عند محمد رحمه الله وعندهما يقدر بزوال الرائحة على ما يأتي في بابه إن شاء الله تعالى.
"وإذا شهدوا على رجل أنه زنى بفلانة وفلانة غائبة فإنه يحد وإن شهدوا أنه سرق من فلان وهو غائب لم يقطع" والفرق أن بالغيبة تنعدم الدعوى وهي شرط في السرقة دون الزنا وبالحضور يتوهم دعوى الشبهة ولا يعتبر بالموهوم "وإن شهدوا أنه زنى بامرأة لا يعرفونها لم يحد" لاحتمال أنها امرأته أو أمته بل هو الظاهر "وأن أقر بذلك حد" لأنه لا يخفى عليه أمته أو امرأته.
"وإن شهد اثنان أنه زنى بفلانة فاستكرهها وآخران أنها طاوعته درئ الحد عنهما جميعا عند أبي حنيفة رحمه الله" وهو قول زفر رحمه الله "وقالا يحد الرجل خاصة" لاتفاقهما على الموجب وتفرد أحدهما بزيادة جناية وهو الإكراه بخلاف جانبها لأن طواعيتها شرط تحقق الموجب في حقها ولم يثبت لاختلافهما وله أنه اختلف المشهود عليه لأن الزنا فعل واحد يقوم بهما ولأن شاهدي الطواعية صارا قاذفين لها وإنما يسقط الحد عنهما بشهادة شاهدي الإكراه لأن زناها مكرهة يسقط إحصانها فصارا خصمين في ذلك "وإن شهد اثنان أنه زنى بامرأة بالكوفة وآخران أنه زنى بها بالبصرة درئ الحد عنهما جميعا" لأن المشهود به فعل الزنا وقد اختلف باختلاف المكان ولم يتم على كل واحد منهما نصاب الشهادة ولا يحد الشهود خلافا لزفر رحمه الله لشبهة الاتحاد نظرا إلى اتحاد الصورة والمرأة.
"وإن اختلفوا في بيت واحد حد الرجل والمرأة" معناه أن يشهد كل اثنين على الزنا في زاوية وهذا استحسان والقياس أن لا يجب الحد لاختلاف المكان حقيقة. وجه

 

ج / 2 ص -351-       الاستحسان أن التوفيق ممكن بأن يكون ابتداء الفعل في زاوية والانتهاء في زاوية أخرى بالاضطراب أو لأن الواقع في وسط البيت فيحسبه من في المقدم في المقدم ومن في المؤخر في المؤخر فيشهد بحسب ما عنده.
"وإن شهد أربعة أنه زنى بامرأة بالنخيلة عند طلوع الشمس وأربعة أنه زنى بها عند طلوع الشمس بدير هند درئ الحد عنهم جميعا" أما عنهما فلأنا تيقنا بكذب أحد الفريقين غير عين وأم اعن الشهود فلاحتمال صدق كل فريق "وإن شهد أربعة على امرأة بالزنا وهي بكر درئ الحد عنهما وعنهم" لأن الزنا لا يتحقق مع بقاء البكارة ومعنى المسئلة أن النساء نظرن إليها فقلن إنها بكر وشهادتهن حجة في إسقاط الحد وليست بحجة في إيجابه فلهذا سقط الحد عنهما ولا يجب عليهم.
"وإن شهد أربعة على رجل بالزنا وهم عميان أو محدودون في قذف أو أحدهم عبد أو محدود في قذف فإنهم يحدون ولا يحد المشهود عليه" لأنه لا يثبت بشهادتهم المال فكيف يثبت الحد وهم ليسوا من أهل أداء الشهادة والعبد ليس بأهل للتحمل والأداء فلم تثبت شبهة الزنا لأن الزنا يثبت بالأداء "وإن شهدوا بذلك وهم فساق أو ظهر أنهم فساق لم يحدوا" لأن الفاسق من أهل الأداء والتحمل وإن كان في أدائه نوع قصور لتهمة الفسق ولهذا لو قضى القاضي بشهادة فاسق ينفذ عندنا ويثبت بشهادتهم شبهة الزنا وباعتبار قصور في الأداء لتهمة ا لفسق يثبت شبهة عدم الزنا فلهذا امتنع الحدان وسيأتي فيه خلاف الشافعي رحمه الله بناء على أصله أن الفاسق ليس من أهل الشهادة فهو كالعبد عنده "وإن نقص عدد الشهود عن أربعة حدوا" لأنهم قذفة إذ لا حسبة عند نقصان العدد وخروج الشهادة عن القذف باعتبارها.
"وإن شهد أربعة على رجل بالزنا فضرب بشهادتهم ثم وجد أحدهم عبدا أو محدودا في قذف فإنهم يحدون" لأنهم قذفة إذ الشهود ثلاثة "وليس عليهم ولا على بيت المال أرش الضرب وإن رجم فديته على بيت المال وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا أرش الضرب أيضا على بيت المال" قال العبد الضعيف عصمه الله معناه إذا كان جرحه وعلى هذا الخلاف إذا مات من الضرب وعلى هذا إذا رجع الشهود لا يضمنون عنده وعندهما يضمنون لهما أن الواجب بشهادتهم مطلق الضرب إذ الاحتراز عن الجرح خارج عن الوسع فينتظم الجارح وغيره فيضاف إلى شهادتهم فيضمنون بالرجوع وعند عدم الرجوع تجب على بيت المال لأنه يتنقل فعل الجلاد إلى القاضي وهو عامل للمسلمين فتجب الغرامة في مالهم فصار كالرجم والقصاص ولأبي حنيفة رحمه الله أن الواجب هو الجلد وهو

 

ج / 2 ص -352-       ضرب مؤلم غير جارح ولا مهلك فلا يقع جارحا ظاهرا إلا لمعنى في الضارب وهو قلة هدايته فاقتصر عليه إلا أنه لا يجب عليه الضمان في الصحيح كيلا يمتنع الناس عن الإقامة مخافة الغرامة.
"وإن شهد أربعة على شهادة أربعة على رجل بالزنا لم يحد" لما فيها من زيادة الشبهة ولا ضرورة إلى تحملها فإن جاء الأولون فشهدوا على المعاينة في ذلك المكان لم يحد أيضا" معناه شهدوا على ذلك الزنا بعينه لأن شهادتهم قد ردت من وجه برد شهادة الفروع في عين هذه الحادثة إذ هم قائمون مقامهم في الأمر والتحميل ولا يحد الشهود لأن عددهم متكامل وامتناع الحد عن المشهود عليه لنوع شبهة وهي كافية لدرء الحد لا لإيجابه.
"وإذا شهد أربعة على رجل بالزنا فرجم فكلما رجع واحد حد الراجع وحده وغرم ربع الدية" أما الغرامة فلأنه بقي من يبقى بشهادته ثلاثة أرباع الحق فيكون التألف بشهادة الراجع ربع الحق وقال الشافعي رحمه الله يجب القتل دون المال بناء على أصله في شهود القصاص وسنبينه في الديات إن شاء الله تعالى.
وأما الحد فمذهب علمائنا الثلاثة رحمهم الله وقال زفر رحمه الله لا يحد لأنه إن كان الراجع قاذف حي فقد بطل بالموت وإن كان قاذف ميت فهو مرجوم بحكم القاضي فيورث ذلك شبهة ولنا أن الشهادة إنما تنقلب قذفا بالرجوع لأن به تفسخ شهادته فجعل للحال قذفا للميت وقد انفسخت الحجة فينفسخ ما يبتنى عليه وهو القضاء في حقه فلا يورث الشبهة بخلاف ما إذا قذفه غيره لأنه غير محصن في حق غيره لقيام القضاء في حقه "فإن لم يحد المشهود عليه حتى رجع واحد منهم حدوا جميعا وسقط الحد عن المشهود عليه" وقال محمد رحمه الله حد الراجع خاصة لأن الشهادة تأكدت بالقضاء فلا ينفسخ إلا في حق الراجع كما إذا رجع بعد الإمضاء ولهما أن الإمضاء من القضاء فصار كما إذا رجع واحد منهم قبل القضاء ولهذا سقط الحد عن المشهود عليه ولو رجع واحد منهم قبل القضاء حدوا جميعا وقال زفر رحمه الله يحد الراجع خاصة لأنه لا يصدق على غيره ولنا أن كلامهم قذف في الأصل وإنما يصير شهادة باتصال القضاء به فإذا لم يتصل به بقي قذفا فيحدون "فإن كانوا خمسة فرجع أحدهم فلا شيء عليه" لأنه بقي من يبقى بشهادته كل الحق وهو شهادة الأربعة "فإن رجع آخر حدا وغرما ربع الدية" أما الحد فلما ذكرنا وأما الغرامة فلأنه بقي من يبقى بشهادته ثلاثة أرباع الحق والمعتبر بقاء من بقي لا رجوع من رجع على ما عرف.

 

ج / 2 ص -353-       "وإن شهد أربعة على رجل بالزنا فزكوا فرجم فإذا الشهود مجوس أو عبيد فالدية على المزكين عند أبي حنيفة" رحمه الله معناه: إذا رجعوا عن التزكية "وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله هو على بيت المال" وقيل هذا إذا قالوا تعمدنا التزكية مع علمنا بحالهم لهما أنهم أثنوا على الشهود خيرا فصار كما إذا أثنوا على المشهود عليه خيرا بأن شهدوا بإحصانه وله أن الشهادة إنما تصير حجة عاملة بالتزكية فكانت التزكية في معنى علة العلة فيضاف الحكم إليها بخلاف شهود الإحصان لأنه محض الشرط ولا فرق بين ما إذا شهدوا بلفظة الشهادة أو أخبرونا وهذا إذا أخبروا بالحرية والإسلام أما إذا قالوا هم عدول وظهروا عبيدا لا يضمنون لأن العبد قد يكون عدلا "ولا ضمان على الشهود" لأنه لا يقع كلامهم شهادة ولا يحدون حد القذف لأنهم قذفوا حيا وقد مات فلا يورث عنه.
"وإذا شهد أربعة على رجل بالزنا فأمر القاضي برجمه فضرب رجل عنقه ثم وجد الشهود عبيدا فعلى القاتل الدية" وفي القياس يجب القصاص لأنه قتل نفسا معصومة بغير حق وجه الاستحسان أن القضاء صحيح ظاهرا وقت القتل فأورث شبهة بخلاف ما إذا قتله قبل القضاء لأن الشهادة لم تصر حجة بعد ولأنه ظنه مباح الدم معتمدا على دليل مبيح فصار كما إذا ظنه حربيا وعليه علامتهم وتجب الدية في ماله لأنه عمد والعواقل لا تعقل العمد ويجب ذلك في ثلاث سنين لأنه وجب بنفس القتل "وإن رجم ثم وجدوا عبيدا فالدية على بيت المال" لأنه امتثل أمر الإمام فنقل فعله إليه ولو باشره بنفسه تجب الدية في بيت المال لما ذكرنا كذا هذا بخلاف ما إذا ضرب عنقه لأنه لم يأتمر أمره "وإذا شهدوا على رجل بالزنا وقالوا تعمدنا النظر قبلت شهادتهم" لأنه يباح النظر لهم ضرورة تحمل الشهادة فأشبه الطبيب والقابلة.
"وإذا شهد أربعة على رجل بالزنا فأنكر الإحصان وله امرأة قد ولدت منه فإنه يرجم" معناه أن ينكر الدخول بعد وجود سائر الشرائط لأن الحكم بثبات النسب منه حكم بالدخول عليه ولهذا لو طلقها بعقب الرجعة والإحصان يثبت بمثله "فإن لم تكن ولدت منه وشهد عليه بالأحصان رجل وامرأتان رجم" خلافا لزفر والشافعي رحمهما الله فالشافعي رحمه الله مر على أصله أن شهادتهن غير مقبولة في غير الأموال وزفر رحمه الله يقول إنه شرط في معنى العلة لأن الجناية تتغلظ عنده فيضاف الحكم إليه فأشبه حقيقة العلة فلا تقبل شهادة النساء فيه احتيالا للدرء فصار كما إذا شهد ذميان على ذمي زنى عبده المسلم أنه أعتقه قبل الزنا فلا تقبل لما ذكرنا ولنا أن الإحصان عبارة عن الخصال الحميدة وأنها مانعة من الزنا على ما ذكرنا فلا يكون في معنى العلة وصار كما إذا شهدوا به في غير هذه الحالة بخلاف

 

ج / 2 ص -354-       ما ذكر لأن العتق يثبت بشهادتهما وإنما لا يثبت بسبق التاريخ لأنه ينكره المسلم أو يتضرر به المسلم "فإن رجع شهود الإحصان لا يضمنون" عندنا خلافا لزفر وهو فرع ما تقدم والله تعالى أعلم بالصواب.

باب حد الشرب
"ومن شرب الخمر فأخذ وريحها موجودة أو جاءوا به سكران فشهد الشهود عليه بذلك فعليه الحد وكذلك إذا أقر وريحها موجودة" لأن جناية الشرب قد ظهرت ولم يتقادم العهد والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: "من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه".
"وأن أقر بعد ذهاب رائحتها لم يحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله يحد" وكذلك إذا شهدوا عليه بعد ما ذهب ريحها والسكر لم يحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله يحد فالتقادم يمنع قبول الشهادة بالاتفاق غير أنه مقدر بالزمان عنده اعتبارا بحد الزنا وهذا لأن التأخير يتحقق بمضي الزمان والرائحة قد تكون من غيرن كما قيل:

يقولون لي انكه شربت مدامة                   فقلت لهم لا بل أكلت السفرجلا

وعندهما يقدر يزوال الرائحة لقول ابن مسعود رضي الله عنه فيه فإن وجدتم رائحة الخمر فاجلدوه ولأن قيام الأثر من أقوى دلالة القرب وإنما يصار إلى التقدير بالزمان عند تعذر اعتباره والتمييز بين الروائح ممكن للمستدل وإنما تشتبه على الجهال.
وأما الإقرار فالتقادم لا يبطله عند محمد رحمه الله كما في حد الزنا على ما مر تقريره وعندهما لا يقام الحد إلا عند قيام الرائحة لأن حد الشرب ثبت بإجماع ا لصحابة رضي الله عنهم ولا إجماع إلا برأي ابن مسعود رضي الله عنه وقد شرط قيام الرائحة على ما روينا "فإن اخذه الشهود وريحها توجد منه أو هو سكران فذهبوا به من مصر إلى مصر فيه الإمام فانقطع ذلك قبل أن ينتهوا به حد في قولهم جميعا" لأن هذا عذر كعبد المسافة في حد الزنا والشاهد لا يتهم في مثلة.
"ومن سكر من النبيذ حد" لما روي أن عمر رضي الله عنه أقام الحد على أعرابي سكر من النبيذ وسنبين الكلام في حد السكر ومقدار حده المستحق عليه إن شاء الله تعالى "ولا حد على من وجد منه رائحة الخمر أو تقيأها" لأن الرائحة محتملة وكذا الشرب قد يقع عن إكراه أو اضطرار.

 

ج / 2 ص -355-       "ولا يحد السكران حتى يعلم أنه سكر من النبيذ وشربه طوعا" لأن السكر من المباح لا يوجب الحد كالبنج ولبن الرماك وكذا شرب المكره لا يوجب الحد "ولا يحد حتى يزول عنه السكر" تحصيلا لمقصود الانزجار.
"وحد الخمر والسكر في الحر ثمانون سوطا" لإجماع الصحابة رضي الله عنهم "يفرق على بدنه كما في حد الزنا على ما مر" ثم يجرد في المشهور من الرواية وعن محمد رحمه الله أنه لا يجرد إظهارا للتخفيف لأنه لم يرد به نص ووجه المشهور أنا أظهرنا التخفيف مرة فلا يعتبر ثانيا "وإن كان عبدا فحده أربعون سوطا" لأن الرق منصف على ما عرف "ومن أقر بشرب الخمر أو السكر ثم رجع لم يحد" لأنه خالص حق الله تعالى.
"ويثبت الشرب بشهادة شاهدين و" يثبت "بالإقرار مرة واحدة" وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يشترط الإقرار مرتين وهو نظير الاختلاف في السرقة وسنبينها هناك إن شاء الله "ولا تقبل فيه شهادة النساء مع الرجال" لأن فيها شبهة البدلية وتهمة الضلال والنسيان.
"والسكران الذي يحد هو الذي لا يعقل منطقا لا قليلا ولا كثيرا ولا ولا يعقل الرجل من المرأة" قال العبد الضعيف: "وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا هو الذي يهذى ويختلط كلامه" لأنه هو السكران في العرف وإليه مال أكثر المشايخ رحمهم الله وله أنه يؤخذ في اسباب لحدود بأقصاها درءا للحد ونهاية السكر أن يغلب السرور على العقل فيسلبه التمييز بين شيء وشيء وما دون ذلك لا يعرى عن شبهة الصحو والمعتبر في القدح المسكر في حق الحرمة ما قالاه بالإجماع أخذا بالاحتياط والشافعي رحمه الله يعتبر ظهور أثره في مشيته وحركاته وأطرافه وهذا مما يتفاوت فلا معنى لاعتباره.
"ولا يحد السكران بإقراره على نفسه" لزيادة احتمال الكذب في إقراره فيحتال لدرئه لأنه خالص حق الله تعالى بخلاف حد القذف لأن فيه حق العبد والسكران فيه كالصاحي عقوبة عليه كما في سائر تصرفاته ولو ارتد السكران لا تبين منه امرأته لأن الكفر من باب الاعتقاد فلا يتحقق مع السكر وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وفي ظاهر الرواية تكون ردة والله أعلم بالصواب.

باب حد القذف
"وإذا قذف الرجل رجلا محصنا أو امرأة محصنة بصريح الزنا وطالب المقدوف بالحد حده الحاكم ثمانين سوطا إن كان حرا" لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4]

 

ج / 2 ص -356-       إلى أن قال {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] الآية والمراد الرمي بالزنا بالإجماع وفي النص إشارة إليه وهو اشتراط أربعة من الشهداء إذ هو مختص بالزنا ويشترط مطالبة المقذوف لأن فيه حقه من حيث دفع العار وإحصان المقذوف لما تلونا.
قال: "ويفرق على أعضائه" لما مر في حد الزنا "ولا يجرد من ثيابه" لأن سسببه غير مقطوع به فلا يقام على الشدة بخلاف حد الزنا "غير أنه ينزع عنه الفرو والحشو" لأن ذلك يمنع أيصال الألم به "وإن كان القاذف عبدا جلد أربعين سوطا" لمكان الرق.
"والإحصان أن يكون المقذوف حرا عاقلا بالغا مسلما عفيفا عن فعل الزنا" أم الحرية فلأنه يطلق عليه اسم الإحصان قال الله تعالى:
{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] أي الحرائر والعقل والبلوغ لأن العار لا يلحق بالصبي والمجنون لعدم تحقق فعل الزنا منهما والإسلام لقوله عليه الصلاة والسلام "من أشرك بالله فليس بمحصن" والعفة لأن غير العفيف لا يلحقه العار وكذا القاذف صادق فيه.
"ومن نفى نسب غيره فقال لست لأبيك فإنه يحد" وهذا إذا كانت أمه حرة مسلمة لأنه في الحقيقة قذف لأمه لأن النسب إنما ينفى عن الزاني لا عن غيره "ومن قال لغيره في غضب لست بابن فلان لأبيه الذي يدعة له يحد ولو قال في غير غضب لا يحد" لأن عند الغضب يراد به حقيقته سبا له وفي غيره يراد به المعاتبة بنفي مشابهته إباه في أسباب المروءة.
"ولو قال لست بابن فلان يعني جده لم يحد" لأنه صادق في كلامه ولو نسبه إلى جده لا يحد أيضا لأنه قد ينسب إليه مجازا "ولو قال له يا ابن الزانية وأمه ميتة محصنة فطالب الابن بحده حد القاذف" لأنه قذف محصنة بعد موتها "ولا يطالب بحد القذف للميت إلا من يقع القدح في نسبه بقذفه وهو الوالد والولد" لأن العار يلتحق به لمكان الجزئية فيكون القذف متناولا له معنى.
وعند الشافعي رحمه الله يثبت حق المطالبة لكل وارث لأن حد القذف يورث عنده على ما نبين وعندنا ولاية المطالبة ليست بطريق الإرث بل لما ذكرناه ولهذا يثبت عندنا للمحروم عن الميراث بالقتل ويثبت لولد البنت كما يثبت لولد الابن خلافا لمحمد رحمه الله ويثبت لولد الولد حال قيام الولد خلافا لزفر رحمه الله.
"وإذا كان المقذوف محصنا جاز لابنه الكافر والعبد أن يطالب بالحد" خلافا لزفر هو يقول القذف يتناوله معنى لرجوع العار إليه وليس طريقه الإرث عندنا فصار كما إذا كان

 

ج / 2 ص -357-       متناولا له صورة ومعنى ولها أنه عيره بقذف محصن فيأخذه بالحد وهذا لأن الإحصان في الذي ينسب إلى الزنا شرط ليقع تعييرا على الكمال ثم يرجع هذا التعيير الكامل إلى ولده والكفر لا ينافي أهلية الاستحقاق بخلاف ما إذا تناول القذف نفسه لأنه لم يوجد التعيير على الكمال لفقد الإحصان في المنسوب إلى الزنا.
"وليس للعبد أن يطالب مولاه بقذف أمه الحرة ولا للابن أن يطالب أباه بقذف أمه الحرة المسلمة" لأن المولى لا يعاقب بسبب عبده وكذا الأب بسبب ابنه ولهذا لا يقاد الوالد بولده ولا السيد بعبده ولو كان لها ابن من غيره له أن يطالب لتحقق السبب وانعدام المانع.
"ومن قذف غيره فمات المقذوف بطل الحد" وقال الشافعي رحمه الله لا يبطل "ولو مات بعد ما أقيم بعض الحد بطل الباقي" عندنا خلافا له بناء على أنه يورث عنده وعندنا لا يورث ولا خلاف أن فيه حق الشرع وحق العبد فإنه شرع لدفع العار عن المقذوف وهو الذي ينتفع به على الخصوص فمن هذا الوجه حق العبد ثم إنه شرع زاجرا ومنه سمى حدا والمقصود من شرع الزاجر إخلاء العالم عن الفساد وهذا آية حق الشرع وبكل ذلك تشهد الأحكام وإذا تعارضت الجهتان فالشافعي رحمه الله مال إلى تغليب حق العبد تقديما لحق العبد باعتبار حاجته وغنى الشرع ونحن صرنا إلى تغليب حق الشرع لأن ما للعبد من الحق يتولاه مولاه فيصير حق العبد مرعيا به ولا كذلك عكسه لآنه لا ولاية للعبد في استيفاء حقوق الشرع إلا نيابة عنه وهذا هو الأصل المشهور الذي يتخرج عليه الفروع المختلف فيها منها الإرث إذ الإرث يجري في حقوق العباد لا في حقوق الشرع ومنها العفو فإنه لا يصح عفو المقذوف عندنا ويصح عنده ومنها أنه لا يجوز الاعتياض عنه ويجري فيه التداخل وعنده لا يجري وعن أبي يوسف رحمه الله في العفو مثل قول الشافعي رحمه الله ومن أصحابنا من قال إن الغالب حق العبد وخرج الأحكام والأول أظهر.
قال: "ومن أقر بالقذف ثم رجع لم يقبل رجوعه" لأن للمقذوف فيه حقا فيكذبه في الرجوع بخلاف ما هو خالص حق الله لأنه لا مكذب له فيه "ومن قال لعربي يا نبطي لم يحد" لأنه يراد به التشبيه في الأخلاق أو عدم الفصاحة وكذا إذا قال لست بعربي لما قلنا.
"ومن قال لرجل يا ابن ماء السماء فليس بقاذف" لأنه يراد به التشبيه في الجود والسماحة والصفاء لأن ماء السماء لقب به بصفائه وسخائه "وإن نسبه إلى عمه أو خاله

 

ج / 2 ص -358-       أو إلى زوج أمه فليس بقاذف" لأن كل واحد من هؤلاء يسمى أبا. أما الأول فلقوله تعالى: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133] واسماعيل كان عما له، والثاني لقوله عليه الصلاة والسلام: "الخال أب" والثالث للتربية.
"ومن قال لغيرة زنأت في الجبل وقال عنيت صعود الجبل حد وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله لا يحد" لأن المهموز منه للصعود حقيقة قالت امراة من العرب:

وارق إلى الخيرات زناء في الجبل

وذكر الجبل يقرره مرادا ولهما أنه يستعمل في الفاحشة مهموزا أيضا لأن من العرب من يهمز الملين كما يلين المهموز وحالة الغضب والسباب تعين الفاحشة مرادا بمنزلة ما إذا قال يا زانى ء أو قال زنأت وذكر الجبل إنما بعين الصعود مرادا إذا كان مقرونا بكلمة على إذ هو المستعمل فيه ولو قال زنأت على الجبل قيل لا يحد لما قلنا وقيل يحد للمعنى الذي ذكرناه.
"ومن قال لآخر يازاني فقال لا بل أنت فإنهما يحدان" لأن معناه لا بل أنت زان إذ هي كلمة عطف يستدرك بها الغلط فيصير الخبر المذكور في الأول مذكورا في الثاني "ومن قال لامرأته يا زانية فقالت لا بل أنت حدت المرأة ولا لعان" لأنهما قاذفان وقذفه يوجب اللعان وقذفها الحد وفي البداءة بالحد إبطال اللعان لأن المحدود في القذف ليس بأهل له وا إبطال في عكسه أصلا فيحتال للدرء إذ اللعان في معنى الحد "ولو قالت زنيت بك فلا حد ولا لعان" معناه قالت بعد ما قال لها يا زانية لوقوع الشك في كل واحد منهما لأنه يحتمل أنها أرادت الزنا قبل النكاح فيجب الحد دون اللعان لتصديقها إياه وانعدامه منه ويحتمل انها أرادت زناي ما كان معك بعد النكاح لأني ما مكنت أحدا غيرك وهو المراد في مثل هذه الحالة وعلى هذا الاعتبار يجب اللعان دون الحد على المرأة لوجود القذف منه وعدمه منها فجاء ما قلنا.
"ومن أقر بولد ثم نفاه فإنه يلاعن" لأن النسب لزمه بإقراره وبالنفي بعده صار قاذفا فيلاعن "وإن نفاه ثم أقر به حد" لأنه لما أكذب نفسه بطل اللعان لأنه حد ضروري صير إليه ضرورة التكاذب والأصل فيه حد القذف فإذا بطل التكاذب يصار إلى الأصل وفيه خلاف ذكرناه في اللعان "والولد ولده" في الوجهين لإقراره به سابقا أو لاحقا واللعان يصح بدون قطع النسب كما يصح بدون الولد "وإن قال ليس بابني ولا بابنك فلا حد

 

ج / 2 ص -359-       ولا لعان" لأنه أنكر الولادة وبه لا يصير قاذفا.
"ومن قذف امرأة ومعها أولاد لم يعرف لهم أب أو قذف الملاعنة بولد والولد حي أو قذفها بعد موت الولد فلا حد عليه" لقيام أمارة الزنا منها وهي ولادة ولد لا أب له ففاتت العفة نظرا إليها وهي شرط الإحصان "ولو قذف امرأة لاعنت بغير ولد فعليه الحد" لانعدام أمارة الزنا.
قال: "ومن وطى ء وطئا حراما في غير ملكه لم يحد قاذفه" لفوات العفة وهي شرط الإحصان ولأن القاذف صادق والأصل فيه أن من وطى ء حراما لعينه لا يجب الحد بقذفه لأن الزنا هو الوطء المحرم لعينه وإن كان محرما لغيره يحد لأنه ليس بزنا فالوطء في غير الملك من كل وجه أو من وجه حرام لعينه وكذا الوطء في الملك والحرمة مؤيدة فإن كانت الحرمة مؤقتة فالحرمة لغيره وأبو حنيفة رحمه الله يشترط أن تكون الحرمة المؤبدة ثابتة بالإجماع أو بالحديث المشهور لتكون ثابتة من غير تردد "وبيانه أن من قذف رجلا وطى ء جارية مشتركة بينه وبين آخر فلا حد عليه" لانعدام الملك من وجه "وكذا إذا قذف امرأة زنت في نصرانيتها" لتحقق الزنا منها شرعا لانعدام الملك ولهذا وجب عليها الحد "ولو قذف رجلا أتى أمته وهي مجوسية أو امرأته وهي حائض أو مكاتبة له فعليه الحد" لأن الحرمة مع قيام الملك وهي مؤقتة فكانت الحرمة لغيره فلم يكن زنا وعن أبي يوسف رحمه الله أن وطء المكاتبة يسقط الإحصان وهو قول زفر رحمه الله لآن الملك زائل في حق الوطء ولهذا يلزمه العقر بالوطء ونحن نقول ملك الذات باق والحرمة لغيره إذ هي مؤقته.
"ولو قذف رجلا وطء أمته وهي أخته من الرضاعة لا يحد" لأن الحرمة مؤبدة وهذا هو الصحيح "ولو قذف مكاتبا مات وترك وفاء لا حد عليه" لتمكن الشبهة في الحرية لكان اختلاف الصحابة رضي الله عنهم "ولو قذف مجوسيا تزوج بأمه ثم أسلم يحد عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا حد عليه" وهذا بناء على أن تزوج المجوسي بالمحارم له حكم الصحة فيما بينهم عنده خلافا لهما وقد مر في النكاح "وإذا دخل الحربي دارنا بأمان فقذف مسلما حد" لأن فيه حق العبد وقد التزم إيفاء حقوق العباد ولأنه طمع في أن لا يؤذى فيكون ملتزما أن لا يؤذى وموجب أذاه الحد.
"وإذا حد المسلم في قذف سقطت شهادته وإن تاب" وقال الشافعي رحمه الله تقبل إذا تاب وهي تعرف في الشهادات "وإذا حد الكافر في قذف لم تجز شهادته على أهل الذمة" لأن له الشهادة على جنسه فترد تتمة لحده "فإن أسلم قبلت شهادته عليهم وعلى المسلمين" لأن

 

ج / 2 ص -360-       هذه شهادة استفادها بعد الإسلام فلم تدخل تحت الرد بخلاف العبد إذا حد حد القذف ثم أعتق حيث لا تقبل شهادته لأنه لا شهادة له أصلا في حال الرق فكان رد شهادته بعد العتق من تمام حده "فإن ضرب سوطا في قذف ثم أسلم ثم ضرب ما بقي جازت شهادته" لأن رد الشهادة متمم للحد فيكون صفة له والمقام بعد الإسلام بعض الحد فلا يكون رد الشهادة صفة له وعن أبي يوسف رحمه الله أنه رد شهادته إذ الأقل تابع للأكثر والأول أصح.
قال: "ومن قذف أو زنى أو شرب غير مرة فحد فهو لذلك كله" أما الأولان فلأن المقصد من إقامة الحد حقا لله تعالى الانزجار واحتمال حصوله بالأول قائم فيتمكن شبهة فوات المقصود في الثاني وهذا بخلاف ما إذا زنى وقذف وسرق وشرب لأن المقصود من كل جنس غير المقصود من الآخر فلا يتداخل وأما القذف فالمغلب فيه عندنا حق الله ليكون ملحقا بهما وقال الشافعي رحمه الله إن اختلف المقذوف أو المقذوف به وهو الزنا لا يتداخل لأن المغلب فيه حق العبد عنده.

فصل في التعزير
"ومن قذف عبدا أو أمة أو أم ولد أو كافرا بالزنا عزر" لأنه جناية قذف وقد امتنع وجوب الحد لعقد الإحصان فوجب التعزير "وكذا إذا قذف مسلما بغير الزنا فقال يا فاسق أو يا كافر أو يا خبيث أو ياسارق" لأنه آذاه وألحق الشين به ولا مدخل للقياس في الحدود فوجب التعزير إلا أنه يبلغ بالتعزير غايته في الجناية الأولى لأنه من جنس ما يجب به الحد وفي الثانية الرأي إلى الإمام.
"ولو قال يا حمار أو يا خنزير لم يعزر" لأنه ما ألحق الشين به للتيقن بنفيه وقيل في عرفنا يعزر لأنه يعد شينا وقيل إن كان المسبوب من الأشراف كالفقهاء والعلوية يعزر لأنه يلحقهم الوحشة بذلك وإن كان من العامة لا يعزر وهذا أحسن.
والتعزيز أكثره تسعة وثلاثون سوطا وأقله ثلاث جلدات وقال أبو يوسف رحمه الله يبلغ التعزير خمسة وسبعين سوطا والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام "
من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين" وإذا تعذر تبليغه حدا فأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله نظرا إلى أدنى الحد وهو حد العبد في القذف فصرفاه إليه وذلك أربعون سوطا فنقصا منه سوطا وأبو يوسف رحمه الله اعتبر أقل الحد في الأحرار إذ الأصل هو الحرية ثم نقص سوطا في رواية عنه وهو قول زفر رحمه الله وهو القياس وفي هذه الرواية نقص خمسة وهو مأثور عن علي رضي الله عنه فقلده ثم قدر الأدنى في الكتاب بثلاث جلدات لأن ما دونها لا يقع به

 

ج / 2 ص -361-       الزجر. وذكر مشايخنا رحمهم الله أن أدناه على ما يراه الإمام فيقدر بقدر ما يعلم أنه ينزجر لأنه يختلف باختلاف الناس وعن أبي يوسف رحمه الله أنه على قدر عظم الجرم وصغره وعنه أنه يقرب كل نوع من بابه فيقرب اللمس والقبلة من حد الزنا والقذف بغير الزنا من حد القذف قال: "وإن رأى الإمام أن يضم إلى الضرب في التعزير الحبس فعل" لأنه صلح تعزيزا وقد ورد الشرع به في الجملة حتى جاز أن يكتفى به فجاز أن يضم إليه ولهذا لم يشرع في التعزير بالتهمة قبل ثبوته كما شرع في الحد لأنه من التعزيز.
قال: "وأشد الضرب التعزيز" لأنه جرى التخفيف فيه من حيث العدد فلا يخفف من حيث الوصف كيلا يؤدي إلى فوات المقصود ولهذا لم يخفف من حيث التفريق على الأعضاء.
قال: "ثم حد الزنا" لأنه ثابت بالكتاب وحد الشرب ثبت بقول الصحابة رضي الله عنهم ولأنه أعظم جناية حتى شرع فيه الرجم "ثم حد الشرب" لأن سببه متيقن به "ثم حد القذف" لأن سببه محتمل لاحتمال كونه صادقا ولأنه جرى فيه التغليظ من حيث رد الشهادة فلا يغلظ من حيث الوصف.
"ومن حده الإمام أو عزره فمات فدمه هدر" لأنه فعل ما فعل بأمر الشرع وفعل المأمور لا يتقيد بشرط السلامة كالفصاد والبزاغ بخلاف الزوج إذا عزر زوجته لأنه مطلق فيه والإطلاقات تتقيد بشرط السلامة كالمرور في الطريق وقال الشافعي رحمه الله تجب الدية في بيت المال لأن الإتلاف خطأ فيه إذ التعزير للتأديب غير أنه تجب الدية في بيت المال لأن نفع عمله يرجع إلى عامة المسلمين فيكون الغرم في ما لهم قلنا لما استوفى حق الله تعالى بأمره صار كأن الله أماته من غير واسطة فلا يجب الضمان.