الهداية
في شرح بداية المبتدي ج / 2 ص -362-
كتاب السرقة
السرقة في اللغة: أخذ الشيء من الغير على سبيل
الخفية والاستسرار ومنه استراق السمع قال الله
تعالى:
{إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ}
[الحجر: 18] وقد زيدت عليه أوصاف في الشريعة
على ما يأتيك بيانه إن شاء الله تعالى والمعنى
اللغوي مراعى فيها ابتداء وانتهاء أو ابتداء
لا غير كما إذا نقب الجدار على الاستسرار وأخذ
المال من المالك مكابرة على الجهار وفي الكبرى
أعني قطع الطريق مسارقة عين الإمام لآنه هو
المتصدي لحفظ الطريق بأعوانه وفي الصغرى
مسارقة عين المالك أو من يقوم مقامه.
قال: "وإذا
سرق العاقل البالغ عشرة دراهم أو ما يبلغ
قيمته عشرة دراهم مضروبة من حرز لا شبهة فيه
وجب عليه القطع" والأصل فيه
قوله تعالى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}
[المائدة: من الآية38] الآية ولا بد من اعتبار العقل والبلوغ لأأن
الجناية لا تتحقق دونهما والقطع جزاء الجناية
ولا بد من التقدير بالمال الخطير لأن الرغبات
تفتر في الحقير وكذا أخذه لا يخفى فلا يتحقق
ركنه ولا حكمة الزجر لأنها فيما يغلب والتقدير
بعشرة دراهم مذهبنا وعند الشافعي رحمه الله
التقدير بربع دينار وعند مالك رحمه الله
بثلاثة دراهم لهما أن القطع على عهد رسول الله
عليه الصلاة والسلام ما كان إلا في ثمن المجن
وأقل ما نقل في تقديره ثلاثة دراهم والأخذ
بالأقل وهو المتيقن به أولى غير أن الشافعي
رحمه الله يقول كانت قمة الدينار على عهد رسول
الله عليه الصلاة والسلام اثني عشر درهما
والثلاثة ربعها ولنا أن الأخذ بالأكثر في هذا
الباب أولى احتيالا لدرء الحد وهذا لأن في
الأقل شبهة عدم الجناية وهي دارئة للحد وقد
تأيد ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام "لا قطع إلا في دينار أو عشرة دراهم" واسم الدراهم ينطلق على المضروبة عرفا فهذا يبين لك اشتراط
المضروب كما قال في الكتاب وهو ظاهر الرواية
وهو الأصح رعاية لكمال الجناية حتى لو سرق
عشرة تبرا قيمتها أنقص من عشرة مضروبة لا يجب
القطع والمعتبر وزن سبعة مثاقيل لأنه هو
المتعارق في عامة البلاد وقوله أو ما يبلغ
قيمته عشرة دراهم إشارة إلى أن
ج / 2 ص -363-
غير
الدراهم تعتبر قيمته بها وإن كان ذهبا ولا بد
من حرز لا شبهة فيه لأن الشبهة دارئة وسنبينه
من بعد إن شاء الله تعالى.
قال: "والعبد
والحر في القطع سواء" لأن
النص لم يفصل ولأن التنصيف متعذر فيتكامل
صيانة لأموال الناس.
"ويجب
القطع بإقراره مرة واحدة وهذا عند أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله لا
يقطع إلا بالإقرار مرتين"
ويروى عنه أنهما في مجلسين مختلفين لأنه إحدى
الحجتين فيعتبر بالأخرى وهي البينة كذلك
اعتبرنا في الزنا ولهما أن السرقة قد ظهرت
بالإقرار مرة فيكتفي به كما في القصاص وحد
القذفولا اعتبار بالشهادة لأن الزيادة تفيد
فيها تقليل تهمة الكذب ولا تفيد في الإقرار
شيئا لأنه لا تهمة وباب الرجوع في حق الحد لا
ينسد بالتكرار والرجوع في حق المال لا يصح
أصلا لأن صاحب المال يكذبه واشترط الزيادة في
الزنا بخلاف القياس فيقتصر على مورد الشرع.
قال: "ويجب
بشهادة شاهدين" لتحقق الظهور
كما في سائر الحقوق وينبغي أن يسألهما الإمام
عن كيفية السرقة وما هيتها وزمانها ومكانها
لزيادة الاحتياط كما مر في الحدود ويحبسه إلى
أن يسأل عن الشهود للتهمة.
قال: "وإذا
اشترك جماعة في سرقة فأصاب كل واحد منهم عشرة
دراهم قطع وإن أصابه أقل لا يقطع"
لأن الموجب سرقة النصاب ويجب على كل واحد منهم
بجنايته فيعتبر كمال النصاب في حقه والله
أعلم.
باب ما يقطع فيه ومالا يقطع
"ولا
قطع فيما يوجد تافها مباحا في دار الإسلام
كالخشب والحشيش والقصب والسمك والطير والصيد
والزرنيخ والمغرة والنورة"
والأصل فيه حديث عائشة رضي الله عنها قالت
كانت اليد لا تقطع على عهد رسول الله عليه
الصلاة والسلام في الشيء التافه أي الحقير وما
يوجد جنسه مباحا في الأصل بصورته غير مرغوب
فيه حقير تقل الرغبات فيه والطباع لا تضن به
فقلما يوجد أخذه على كره من الملك فلا حاجة
إلى شرع الزاحر ولهذا لم يجب القطع في سرقة ما
دون النصاب ولأن الحرز فيها ناقص ألا يرى أن
الخشب يلقى على الأبواب وإنما يدخل في الدار
للعمارة لا للإحراز والطير يطير والصيد يفر
وكلنا الشركة العامة التي كانت فيه وهو على
تلك الصفة تورث الشبهة والحد يندرى ء بها
ويدخل في السمك المالح والطري وفي الطير
الدجاج والبط والحمام لما ذكرنا ولإطلاق قوله
عليه الصلاة والسلام "لا قطع في الطير"
وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يجب القطع في كل
شيء إلا الطين والتراب والسرقين وهو قول
الشافعي رحمه الله والحجة عليهما ما ذكرنا.
ج / 2 ص -364-
قال: "ولا
قطع فيما يتسارع إليه الفساد كاللبن واللحم
والفواكه الرطبة" لقوله عليه
الصلاة والسلام "لا قطع في تمر
ولا كثر" والكثر الجمار وقيل الودى وقال عليه الصلاة والسلام: "لا قطع في الطعام"
والمراد والله أعلم ما يتسارع إليه الفساد
كالمهيأ للأكل منه وما في معناه كاللحم والثمر
لأنه يقطع في الحنطة والسكر إجماعا وقال
الشافعي رحمه الله يقطع فيها لقوله عليه
الصلاة والسلام "لا
قطع في ثمر ولا كثر فإذا آواه الجرين أو
الجران قطع"
قلنا أخرجه على وفاق العادة والذي يؤويه
الجرين في عادتهم هو اليابس من الثمر وفيه
القطع.
قال: "ولا
قطع في الفاكهة على الشجر والزرع الذي لم يحصد"
لعدم الإحراز "ولا
قطع في الأشربة المطربة" لأن
السارق يتأول في تناولها الإراقة ولأن بعضها
ليس بمال وفي مالية بعضها اختلاف فتتحقق شبهة
عدم المالية.
قال: "ولا
في الطنبور" لأنه من المعازف
"ولا
في سرقة المصحف وإن كان عليه حلية"
وقال الشافعي رحمه الله يقطع لأنه مال متقوم
حتى يجوز بيعه وعن أبي يوسف رحمه الله مثله
وعنه أيضا أن يقطع إذا بلغت الحلية نصابا
لآنها ليست من المصحف فتعتبر بانفرادها ووجه
الظاهر أن الآخذ يتأول في أخذه القراءة والنظر
فيه ولأنه لا مالية له على اعتبار المكتوب
وإحرازه لأجله لا للجلد والأوراق والحلية
وإنما هي توابع ولا معتبر بالتبع كمن سرق آنية
فيها خمر وقيمة الآنية تربو على النصاب "ولا
قطع في أبواب المسجد" لعدم
الإحراز فصار كباب الدار بل أولى لأنه يحرز
بباب الدار ما فيها ولا يحرز بباب المسجد ما
فيه حتى لا يجب القطع بسرقة متاعه.
قال: "ولا
الصليب من الذهب ولا الشطرنج ولا النرد"
لأنه يتأول من أخذها الكسر نهيا عن المنكر
بخلاف الدرهم الذي عليه التمثال لأنه ما أعد
للعبادة فلا تثبت شبهة إباحة الكسر وعن أبي
يوسف رحمه الله أنه إن كان الصليب في المصلى
لا يقطع لعد الحرز وإن كان في بيت آخر يقطع
لكمال المالية والحرز "ولا
قطع على سارق الصبي الحر وإن كان عليه حلى"
لأن الحر ليس بمال وما عليه من الحلى تبع له
ولأنه يتأول في أخذه الصبي إسكاته أو حمله إلى
مرضعته وقال أبو يوسف رحمه الله يقطع إذا كان
عليه حلى فهو نصاب لآنه يجب القطع بسرقته وحده
فكذا مع غيره وعلى هذا إذا سرق إناء فضة فيه
نبيذ أو ثريد والخلاف في صبي لا يمشي ولا
يتكلم كيلا يكون في يد نفسه "ولا
قطع في سرقة العبد الكبير"
لأنه غصب أو خداع "ويقطع
في سرقة العبد الصغير"
لتحققها بحدها إذا كان يعبر عن
ج / 2 ص -365-
نفسه
لأنه هو والبالغ سواء في اعتبار يده وقال أبو
يوسف رحمه الله لا يقطع وإن كان صغيرا لا يعقل
ولا يتكلم استحسانا لآنه آدمي من وجه مال من
وجه ولهما أنه مال مطلق لكونه منتفعا به أو
يعرض أن يصير منتفعا به إلا أنه انضم إليه
معنى الآدمية "ولا
قطع في الدفاتر كلها" لأن
المقصود ما فيها وذلك ليس بمال "إلا
في دفاتر الحساب" لأن ما فيها
لا يقصد بالأخذ فكان المقصود هو الكواغد.
قال: "ولافي
سرقة كلب ولا فهد" لأن من
جنسهما يوجد مباح الأصل غير مرغوب فيه ولأن
الاختلاف بين العلماء ظاهر في مالية الكلب
فأورث شبهة "ولا
قطع في دف ولا طبل ولا بربط ولا مزمار"
لأن عندهما لا قيمة لها وعند أبي حنيفة رحمه
الله آخذها يتأول الكسر فيها "ويقطع
في الساج والقنا والآبنوس والصندل"
لأنها أموال محرزة لكونها عزيزة عند الناس ولا
توجد بصورتها مباحة في دار الإسلام.
قال: "ويقطع
في الفصوص الخضر والياقوت والزبرجد"
لأنها من أعز الأموال وأنفسها ولا توجد مباحة
الأصل في دار إسلام غير مرغوب فيها فصارت
كالذهب والفضة "وإذا
اتخذ من الخشب أواني وأبوبا قطع فيها"
لأنه بالصنعة التحق بالأموال النفيسة ألا ترى
أنها تحرز بخلاف الحصير لأن الصنعة فيه لم
تغلب على الجنس حتى يبسط في غير الحرز وفي
الحصر البغدادية قالوا يجب القطع في سرقتها
لغلبة الصنعة على الأصل وإنما يجب القطع في
غير المركب وإنما يجب إذا كان خفيفا لا يثقل
على الواحد حمله لأن الثقيل منه لا يرغب في
سرقته "ولا
قطع على خائن ولا خائنة"
لقصور في الحرز "ولا
منتهب ولا مختلس" لأنه يجاهر
بفعله كيف وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام:
"لا
قطع في مختلس ولا منتهب ولا خائن" "ولا
قطع على النباش" وهذا عند أبي
حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف
والشافعي رحمهما الله عليه القطع لقوله عليه
الصلاة والسلام "من
نبش قطعناه" ولأنه مال
متقوم محرز بحرز مثله فيقطع فيه ولهما قوله
عليه الصلاة والسلام "لاقطع على المختفي"
وهو النباش بلغة أهل المدينة ولأن الشبهة
تمكنت في الملك لأنه لا ملك للميت حقيقة ولا
للوارث لتقدم حاجة الميت وقد تمكن الخلل في
المقصود وهو الانزجار لأن الجناية في نفسها
نادرة الوجود وما رواه غير مرفوع أو هو محمول
على السياسة وإن كان القبر في بيت مقفل فهو
على الخلاف في الصحيح لما قلنا وكذا إذا سرق
من تابوت في القافلة وفيه الميت لما بيناه.
"ولا
يقطع السارق من بيت المال"
لأنه مال العامة وهو منهم قال "ولا
من مال للسارق فيه شركة" لما
قلنا.
ج / 2 ص -366-
"ومن
له على آخر دراهم فسرق منه مثلها لم يقطع"
لأنه استيفاء لحقه والحال والمؤجل فيه سواء
استحسانا لأن التأجيل لتأخير المطالبة وكذا
إذا سرق زيادة على حقه لآنه بمقدار حقه يصير
شريكا فيه "وإن سرق منه عروضا قطع"
لأنه ليس له ولاية الاستيفاء منه إلا بيعا
بالتراضي وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يقطع
لأن له أن يأخذه عند بعض العلماء قضاء من حقه
أو رهنا بحقه قلنا هذا قول لا يستند إلى دليل
ظاهر فلا يعتبر بدون إتصال الدعوى به حتى لو
ادعى ذلك درى ء عنه الحد لأنه ظن في موضع
الخلاف ولو كان حقه دراهم فسرق منه دنانير قيل
يقطع لأنه ليس له حق الأخذ وقيل لا يقطع لأن
النقود جنس واحد.
"ومن
سرق عينا فيها فردها ثم عاد فسرقها وهي بحالها
لم يقطع" والقياس أن يقطع وهو
رواية عن أبي يوسف رحمه الله وهو قول الشافعي
رحمه الله لقوله عليه الصلاة والسلام "فإن عاد
فاقطعوه" من غير فصل ولأن الثانية متكاملة كالأولى بل أقبح لتقدم الزاجر
وصار كما إذا باعه المالك من السارق ثم اشتراه
منه ثم كانت السرقة ولنا أن القطع أوجب سقوط
عصمة المحل على ما يعرف من بعد إن شاء الله
تعالى وبالرد إلى المالك إن عادت حقيقة العصمة
بقيت شبهة السقوط نظرا إلى اتحاد الملك والمحل
وقيل الموجب وهو القطع فيه بخلاف ما ذكر لأن
الملك قد اختلف باختلاف سببه ولأن تكرار
الجناية منه نادر لتحمله مشقة الزاجر فتعرى
الإقامة عن المقصود وهو تقليل الجناية وصار
كما إذا قذف المحدود في قذف المقذوف الأول
قال: "فإن
تغيرت عن حالها مثل أن يكون غزلا فسرقه وقطع
فرده ثم نسج فعاد فسرقه قطع"
لأن العين قد تبدلت ولهذا يملكه الغاصب به
وهذا هو علامة التبدل في كل محل وإذا تبدلت
انتفت الشبهة الناشئة من اتحاد المحل والقطع
فيه فوجب القطع ثانيا والله أعلم بالصواب.
فصل في الحرز والأخذ منه
"ومن سرق من أبويه أو ولده أو ذي رحم
محرم منه لم يقطع" فالأول وهو
الولاد للبسوطة في المال وفي الدخول في الحرز
والثاني للمعنى الثاني ولهذا أباح الشرع النظر
إلى مواضع الزينة الظاهرة منها بخلاف الصديقين
لأنه عاداه بالسرقة وفي الثاني خلاف الشافعي
رحمه الله لأنه ألحقها بالقرابة البعيدة وقد
بيناه في العتاق.
"ولو
سرق من بيت ذي رحم محرم متاع غيره ينبغي أن لا
يقطع ولو سرق ماله من بيت غيره يقطع"
اعتبارا للحرز وعدمه "وإن
سرق من أمه من ا لرضاعة قطع
"وعن
ج / 2 ص -367-
أبي
يوسف رحمه الله تعالى أنه لا يقطع لأنه يدخل
عليها من غير استئذان وحشمة بخلاف الأخت من
الرضاعة لانعدام هذا المعنى فيها عادة وجه
الظاهر أنه لا قرابة والمحرمية بدونها لا
تحترم كما إذا ثبتت بالزنا والتقبيل عن شهوة
وأقرب من ذلك الأخت من الرضاعة وهذا لأن
الرضاع قلما يشتهر فلا بسوطة تحرزا عن موقف
التهمة بخلاف النسب.
"وإذا
سرق أحد الزوجين من الآخر أو العبد من سيده أو
من امرأة سيده أو من زوج سيدته لم يقطع"
لوجود الإذن بالدخول عادة وإن سرق أحد الزوجين
من حرز الآخر خاصة لا يسكنان فيه فكذلك عندنا
خلافا للشافعي رحمه الله لبسوطة بينهما في
الأموال عادة ودلالة وهو نظير الخلاف في
الشهادة "ولو
سرق المولى من مكاتبه لم يقطع"
لأن له في أكسابه حقا "وكذلك
السارق من الغنم" لأن له فيه
نصيبا وهو مأثور عن علي رضي الله تعالى عنه
درءا وتعليلا.
قال: "والحرز
على نوعين حرز لمعنى فيه كالبيوت والدور وحرز
بالحافظ" قال العبد الضعيف
احرز لا بد منه لأن الاستسرار لا يتحقق دونه
ثم هو قد يكون بالمكان وهو المكان المعد
لإحراز الأمتعة كالدور والبيوت والصندوق
والحانوت وقد يكون بالحافظ كمن جلس في الطريق
أو في المسجد وعنده متاعه فهو محرز به وقد قطع
رسول الله صلى الله عليه وسلم من سرق رداء
صفوان من تحت رأسه وهو نائم في المسجد "وفي
المحرز بالمكان لا يعتبر الإحراز بالحافظ"
هو الصحيح لآنه محرز بدونه وهو البيت وإن لم
يكن له باب أو كان وهو مفتوح حتى يقطع السارق
منه لأن البناء لقصد الإحراز إلا أنه لا يجب
القطع إلا بالإخراج منه لقيام يده فيه قبله
بخلاف المحرز بالحافظ حيث يجب القطع فيه كما
أخذ لزوال يد المالك بمجرد الأخذ فتتم السرقة
ولا فرق بين أن يكون الحافظ مستيقظا أو نائما
والمتاع تحته أو عنده هو الصحيح لأنه يعد
النائم عند متاعه حافظا له في العادة وعلى هذا
لا يضمن المودع والمستعير بمثله لأنه ليس له
بتضييع بخلاف ما اختاره في الفتاوى.
قال: "ومن
سرق شيئا من حرز أو من غير حرز وصاحبه عنده
يحفظه قطع" لأنه سرق مالا
محرزا بأحد الحرزين "ولا
قطع على من سرق مالا من حمام أو من بيت أذن
للناس في دخوله فيه" لوجود
الإذن عادة أو حقيقة في الدخول فاختل الحرز
ويدخل في ذلك حوانيت التجار والخانات إلا إذا
سرق منها ليلا لأنها بنيت لإحراز الأموال
وإنما الإذن يختص بالنهار.
ج / 2 ص -368-
"ومن
سرق من المسجد متاعا وصاحبه عنده قطع"
لأنه محرز بالحافظ لأن المسجد ما بني لإحراز
الأموال فلم يكن المال محرزا بالمكان بخلاف
الحمام والبيت الذي أذن للناس في دخوله حيث لا
يقطع لأنه بني للإحراز فكان المكان حرزا فلا
يعتبر الإحراز بالحافظ "ولا
قطع على الضيف إذا سرق ممن أضافه"
لأن البيت لم يبق حرزا في حقه لكونه مأذونا في
دخوله ولأنه بمنزلة أهل الدار فيكون فعله
خيانة لا سرقة.
"ومن
سرق سرقة فلم يخرجها من الدار لم يقطع"
لأن الدار كلها حرز واحد فلا بد من الإخراج
منها ولأن الدار وما فيها في يد صاحبها معنى
فتتمكن شبهة عدم الأخذ "فإن
كانت دار فيها مقاصير فأخرجها من المقصورة إلى
صحن الدار قطع" لأن كل مقصورة
باعتبار ساكنها حرز على حدة "وإن
أغار إنسان من أهل المقاصير على مقصورة فسرق
منها قطع" لما بينا "وإذا
نقب اللص البيت فدخل وأخذ المال وناوله آخر
خارج البيت فلا قطع عليهما"
لأن الأول لم يوجد منه الإخراج لاعتراض يد
معتبرة على المال قبل خروجه والثاني لم يوجد
منه هتك الحرز فلم تتم السرقة من كل واحد وعن
أبي يوسف رحمه الله إن أخرج الداخل يده
وناولها الخارج فالقطع على الداخل وإن أدخل
الخارج يده فتناولها من يد الداخل فعليهما
القطع وهي بناء على مسئلة تأتي بعد هذا إن شاء
الله تعالى "وإن
ألقاه في الطريق وخرج فأخده قطع"
وقال زفر رحمه الله لا يقطع لأن الإلقاء غير
موجب للقطع كما لو خرج ولم يأخذ وكذا الأخذ من
السكة كما لو أخذه غيره ولنا أن الرمي حيلة
يعتادها السراق لتعذر الخروج مع المتاع أو
ليتفرغ لقتال صاحب الدار أو للفرار ولم تعترض
عليه يد معتبرة فاعتبر الكل فعلا واحدا فإذا
خرج ولم يأخذه فهو مضيع لا سارق.
قال: "وكذلك
إن حمله على حمار فساقه وأخرجه"
لأن سيره مضاف إليه لسوقه "وإذا
دخل الحرز جماعة فتولى بعضهم الأخذ قطعوا
جميعا" قال العبد الضعيف رحمه
الله هذا استحسان والقياس أن يقطع الحامل وحده
وهو قول زفر رحمه الله لأن الإخراج وجد منه
فتمت السرقة به ولنا أن الإخراج من الكل معنى
للمعاونة كما في السرقة الكبرى وهذا لأن
المعتاد فيما بينهم أن يحمل البعض المتاع
ويتشمر الباقون للدفع فلو امتنع القطع لأدى
إلى سد باب الحد.
قال: "ومن
نقب البيت وأدخل يده فيه وأخذ شيئا لم يقطع"
وعن أبي يوسف رحمه الله في الإملاء أنه يقطع
لأنه أخرج المال من الحرز وهو المقصود فلا
يشترط الدخول فيه كما إذا أدخل يده في صندوق
الصيرفي فأخرج الغطريفي ولنا أن هتك الحرز
يشترط فيه الكمال
ج / 2 ص -369-
تحرزا
عن شبهة العدم والكمال في الدخول وقد أمكن
اعتباره والدخول هو المعتاد بخلاف الصندوق لأن
الممكن فيه إدخال اليد دون الدخول وبخلاف ما
تقدم من حمل البعض المتاع لأن ذلك هو المعتاد.
قال: "وإن
طر صرة خارجة من الكم لم يقطع وإن أدخل يده في
الكم يقطع" لأن في الوجه
الأول الرباط من خارج فبالطر يتحقق الأخذ من
الظاهر فلا يوجد هتك الحرز وفي الثاني الرباط
من داخل فبالطر يتحقق الأخذ من الحرز وهو الكم
ولو كان مكان الطر حل الرباط ثم الأخذ في
الوجهين ينعكس الجواب لانعكاس العلة وعن أبي
يوسف رحمه الله أنه يقطع على كل حال لأنه محرز
إما بالكم أو بصاحبه.
قلنا الحرز هو الكم لأنه يعتمده وإنما قصده
قطع المسافة والاستراحة فأشبه الجوالق "وإن
سرق من القطار بعيرا أو حملا لم يقطع"
لأنه ليس بمحرز مقصودا فتتمكن شبهة العدم وهذا
لأن السائق والقائد والراكب يقصدون قطع
المسافة ونقل الأمتعة دون الحفظ حتى لو كان مع
الأحمال من يتبعها للحفظ قالوا يقطع "وإن
شق الجمل وأخذ منه قطع" لأن
الجوالق في مثل هذا حرز لأنه يقصد بوضع
الأمتعة فيه صيانتها كالكم فوجد الأخذ من
الحرز فيقطع "وإن
سرق جوالقا فيه متاع وصاحبه يحفظه ونائم عليه
قطع" ومعناه إذا كان الجوالق
في موضع هو ليس بحرز كالطريق ونحوه حتى يكون
محرزا بصاحبه لكونه مترصدا لحفظه وهذا لأن
المعتبر هو الحفظ المعتاد والجلوس عنده والنوم
عليه يعد حفظا عادة وكذا النوم بقرب منه على
ما اخترناه من قبل وذكر في بعض النسخ وصاحبه
نائم عليه أو حيث يكون حافظا له وهذا يؤكد ما
قدمناه من القول المختار والله أعلم بالصواب.
فصل في كيفية القطع وإثباته
قال: "ويقطع يمين السارق من الزند ويحسم"
فالقطع لما تلوناه من قبل واليمين بقراءة
عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ومن الزند لأن
الاسم يتناول اليد إلى الإبط وهذا المفصل أعني
الرسغ متيقن به كيف وقد صح أن النبي عليه
الصلاة والسلام أمر بقطع يد السارق من الزند
والحسم لقوله عليه الصلاة والسلام "فاقطعوه
واحسموه" ولأنه لو لم يحسم يفضي إلى التلف والحد زاجر لا متلف "فإن
سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى فإن سرق ثالثا لم
يقطع وخلد في السجن حتى يتوب"
وهذا استحسان ويعزر أيضا ذكره المشايخ رحمهم
الله وقال الشافعي رحمه الله في الثالثة تقطع
يده اليسرى وفي الرابعة تقطع رجله اليمنى
لقوله عليه الصلاة والسلام "من سرق فاقطعوه فإن عاد فاقطعوه فإن عاد فاقطعوه"
ج / 2 ص -370-
ويروى
مفسرا كما هو مذهبه ولأن الثالثة مثل الأولى
في كونها جناية بل فوقها فتكون أدعى إلى شرع
الحد ولنا قول علي رضي الله عنه فيه إني
لأستحي من الله تعالى أن لا أدع له يدا يأكل
بها ويستنجي بها ورجلا يمشي عليها وبهذا حاج
بقية الصحابة رضي الله عنهم فحجهم فانعقد
إجماعا ولأنه إهلاك معني لما فيه من تفويت جنس
المنفعة والحد زاجر ولأنه نادر الوجود والزجر
فيما يغلب وقوعه بخلاف القصاص لأنه حق العبد
فيستوفى ما أمكن جبرا لحقه والحديث طعن فيه
الطحاوي رحمه الله أو نحمله على السياسة.
"وإذا
كان السارق أشل اليد اليسرى أو أقطع أو مقطوع
الرجل اليمنى لم يقطع" لأن
فيه تفويت جنس المنفعة بطشا أو مشيا وكذا إذا
كانت رجله اليمنى شلاء لما قلنا "وكذا
إن كانت إبهامه اليسرى مقطوعة أو شلاء أو
الأصبعان منها سوى الإبهام"
لأن قوام البطش بالإبهام "فإن
كانت أصبع واحدة سوى الإبهام مقطوعة أو شلاء
قطع" لأن فوات الواحدة لا
يوجب خللا ظاهرا في البطش بخلاف فوات الأصبعين
لأنهما ينزلان منزلة الإبهام في نقصان البطش.
قال: "وإذا
قال الحاكم للحداد اقطع يمين هذا في سرقة
سرقها فقطع يساره عمدا أو خطأ فلا شيء عليه
عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا شيء عليه في
الخطأ ويضمن في العمد" وقال
زفر رحمه الله يضمن في الخطأ أيضا وهو القياس
والمراد بالخطأ هو الخطأ في الاجتهاد وأما
الخطأ في معرفة اليمين واليسار لا يجعل عفوا
وقيل يجعل عذرا أيضا له أنه قطع يدا معصومة
والخطأ في حق العباد غير موضوع فيضمنها.
قلنا إنه أخطأ في اجتهاده إذ ليس في النص
تعيين اليمين والخطأ في الاجتهاد موضوع ولهما
أنه قطع طرفا معصوما بغير حق ولا تأويل لأنه
تغمد الظلم فلا يعفى وإن كان في المجتهدات
وكان ينبغي أن يجب القصاص إلا أنه امتنع
للشبهة ولأبي حنيفة رحمه الله أنه أتلف وأخلف
من جنسه ما هو خير منه فلا يعد إتلافا كمن شهد
على غيره ببيع ماله بمثل قيمته ثم رجع وعلى
هذا لو قطعه غير الحداد لا يضمن أيضا هو
الصحيح ولو أخرج السارق يساره وقال هذه يميني
لا يضمن بالاتفاق لأنه قطعه بأمره ثم في العمد
عنده عليه أي السارق ضمان المال لأنه لم يقع
حدا وفي الخطأ كذلك على هذه الطريقة وعلى
طريقة الاجتهاد لا يضمن.
"ولا
يقطع السارق إلا أن يحضر المسروق منه فيطالب
بالسرقة" لأن الخصومة شرط
لظهورها ولا فرق بين الشهادة والإقرار عندنا
خلافا للشافعي رحمه الله في الإقرار، لأن
ج / 2 ص -371-
الجناية على مال الغير لا تظهر إلا بخصومته
"وكذا إذا غاب عند القطع عندنا"
لأن الاستيفاء من القضاء في باب الحدود.
"وللمستودع
والغاصب وصاحب الربا أن يقطعوا السارق منهم
ولرب الوديعة أن يقطعه أيضا وكذا المغصوب منه"
وقال زفر والشافعي رحمهما الله لا يقطع بخصومة
الغاصب والمستودع وعلى هذا الخلاف المستعير
والمستأجر والمضارب والمستبضع والقابض على سوم
الشراء والمرتهن وكل من له يد حافظة سوى
المالك ويقطع بخصومة المالك في السرقة من
هؤلاء إلا أن الراهن إنما يقطع بخصومته حال
قيام الرهن بعد قضاء الدين لأنه لا حق له في
المطالبة بالعين بدونه والشافعي رحمه الله
بناه على أصله لا خصومة لهؤلاء في الاسترداد
عنده وزفر رحمه الله يقول ولاية الخصومة في حق
الاسترداد ضرورة الحفظ فلا تظهر في حق القطع
لأن فيه تفويت الصيانة ولنا أن السرقة موجبة
للقطع في نفسها وقد ظهرت عند القاضي بحجة
شرعية وهي شهادة رجلين عقيب خصومة معتبرة
مطلقا إذ الاعتبار لحاجتهم إلى الاسترداد
فيستوفي القطع والمقصود من الخصومة إحياء حقه
وسقوط العصمة ضرورة الاستيفاء فلم يعتبر ولا
معتبر بشبهة موهومة الاعتراض كما إذا حضر
المالك وغاب المؤتمن فإنه يقطع بخصومته في
ظاهر الرواية وإن كانت شبهة الإذن في دخول
الحرز ثابتة "وإن
قطع سارق فسرقت منه لم يكن له ولا لرب السرقة
أن يقطع السارق الثاني" لأن
المال غير متقوم في حق السارق حتى لا يجب عليه
الضمان بالهلاك فلم تنعقد موجبة في نفسها
وللأول ولاية الخصومة في الاسترداد في رواية
لحاجته إذ الرد واجب عليه.
"ولو
سرق الثاني قبل أن يقطع الأول أو بعد ما درئ
الحد بشبهة يقطع بخصومة الأول"
لأن سقوط التقوم ضرورة القطع ولم يوجد فصار
كالغاصب.
"ومن
سرق سرقة فردها على المالك قبل الارتفاع إلى
الحاكم لم يقطع" وعن أبي يوسف
رحمه الله أنه يقطع اعتبارا بما إذا رده بعد
المرافعة وجه الظاهر أن الخصومة شرط لظهور
السرقة لأن البينة إنما جعلت حجة ضرورة قطع
المنازعة وقد انقطعت الخصومة بخلاف ما عبد
المرافعة لانتهاء الخصومة لحصول مقصودها فتبقى
تقديرا.
"وإذا
قضي على رجل بالقطع في سرقة فوهبت له لم يقطع"
معناه إذا سلمت إليه "وكذلك
إذا باعها المالك إياه" وقال
زفر والشافعي رحمهما الله يقطع وهو رواية عن
أبي يوسف رحمه الله لأن السرقة قد تمت انعقادا
وظهورا وبهذا العارض لم يتبين قيام الملك
ج / 2 ص -372-
وقت
السرقة فلا شبهة ولنا أن الإمضاء من القضاء في
هذا الباب لوقوع الاستغناء عنه بالاستيفاء إذ
القضاء للإظهار والقطع حق الله تعالى وهو ظاهر
عنده وإذا كان كذلك يشترط قيام الخصومة عند
الاستيفاء وصار كما إذا ملكها منه قبل القضاء
قال "وكذلك
إذا نقصت قيمتها من النصاب"
يعني قبل الإستيفاء بعد القضاء وعن محمد رحمه
الله أنه يقطع وهو قول زفر والشافعي رحمهما
الله اعتبارا بالنقصان في العين ولنا أن كمال
النصاب لما كان شرطا يشترط قيامه عند الإمضاء
لما ذكرنا بخلاف النقصان في العين لأنه مضمون
عليه فكمل النصاب عينا ودينا كما إذا استهلك
كله أما نقصان السعر فغير مضمون فافترقا.
"وإذا
ادعى السارق أن العين المسروقة ملكه سقط القطع
عنه وإن لم يقم بينة" معناه
بعد ما شهد الشاهدان بالسرقة وقال الشافعي
رحمه الله لا يسقط بمجرد الدعوى لأنه لا يعجز
عنه سارق فيؤدي إلى سد باب الحد ولنا أن
الشبهة دارئة تتحقق بمجرد الدعوى للاحتمال ولا
معتبر بما قال بدليل صحة الرجوع بعد الإقرار.
"وإذا
أقر رجلان بسرقة ثم قال أحدهما هو مالي لم
يقطعا" لأن الرجوع عامل في حق
الراجع ومورث للشبهة في حق الآخر لأن السرقة
تثبت بإقرارهما على الشركة "فإن
سرقا ثم غاب أحدهما وشهد الشاهدان على سرقتهما
قطع الآخر في قول أبي حنيفة رحمه الله الآخر
وهو قولهما" وكان يقول أولا
لا يقطع لأنه لو حضر ربما يدعي الشبهة وجه
قوله الآخر أن الغيبة تمنع ثبوت السرقة على
الغائب فيبقى معدوما والمعدوم لا يورث الشبهة
ولا معتبر بتوهم حدوث الشبهة على ما مر.
"وإذا
أقر العبد المحجور عليه بسرقة عشرة دراهم
بعينها فإنه يقطع وترد السرقة إلى المسروق منه"
وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله.
وقال أبو يوسف رحمه الله يقطع والعشرة للمولى
وقال محمد رحمه الله لا يقطع والعشرة للمولى
وهو قول زفر رحمه الله ومعنى هذا إذا كذبه
المولى.
"ولو
أقر بسرقة مال مستهلك قطعت يده ولو كان العبد
مأذونا له يقطع في الوجهين"
وقال زفر رحمه الله لا يقطع في الوجوه كلها
لأن الأصل عنده أن إقرار العبد على نفسه
بالحدود والقصاص لا يصح لأنه يرد على نفسه
وطرفه وكل ذلك مال المولى والإقرار على الغير
غير مقبول إلا أن المأذون له يؤاخذ بالضمان
والمال لصحة إقراره به لكونه مسلطا عليه من
جهته والمحجور عليه لا يصح إقراره بالمال أيضا
ونحن نقول يصح إقراره من حيث إنه آدمي ثم
يتعدى إلى المالية فيصح من حيث إنه مال ولأنه
لا تهمة في هذا الإقرار،
ج / 2 ص -373-
لما
يشتمل عليه من الإضرار ومثله مقبول على الغير
لمحمد رحمه الله في المحجور عليه أن إقراره
بالمال باطل ولهذا لا يصح منه الإقرار بالغصب
فيبقى مال المولى ولا قطع على العبد في سرقة
مال المولى يؤيده أن المال أصل فيها والقطع
تابع حتى تسمع الخصومة فيه بدون القطع ويثبت
المال دونه وفي عكسه لا تسمع ولا يثبت وإذا
بطل فيما هو الأصل بطل في التبع بخلاف المأدون
لأن إقراره بالمال الذي في يده صحيح فيصح في
حق القطع تبعا ولأبي يوسف رحمه الله أنه أقر
بشيئين بالقطع وهو على نفسه فيصح على ما
ذكرناه وبالمال وهو على المولى فلا يصح في حقه
فيه والقطع يستحق بدونه كما إذا قال الحر
الثوب الذي في يد زيد سرقته من عمرو وزيد يقول
هو ثوبي يقطع يد المقر وإن كان لا يصدق في
تعيين الثوب حتى لا يؤخذ من زيد ولأبي حنيفة
رحمه الله أن الإقرار بالقطع قد صح منه لما
بينا فيصح بالمال بناء عليه لأن الإقرار يلاقي
حالة البقاء والمال في حالة البقاء تابع للقطع
حتى تسقط عصمة المال باعتباره فيستوفى القطع
بعد استهلاكه بخلاف مسئلة الحر لأن القطع إنما
يجب بالسرقة من المودع أما مالا يجب بسرقة
العبد مال المولى فافترقا ولو صدقه المولى
يقطع في الفصول كلها لزوال المانع.
قال: "وإذا
قطع السارق والعين قائمة في يده ردت إلى
صاحبها" لبقائها على ملكه "وإن
كانت مستهلكة لم يضمن" وهذا
الإطلاق يشمل الهلاك والاستهلاك وهو رواية أبي
يوسف رحمه الله عن أبي حنيفة رحمه الله وهو
المشهور وروى الحسن عنه أنه يضمن بالاستهلاك
وقال الشافعي رحمه الله يضمن فيهما لأنهما
حقان قد اختلف سبباهما فلا يمتنعان فالقطع حق
بالشرع وسببه ترك الانتهاء عما نهي عنه
والضمان حق العبد وسببه أخذ المال فصار
كاستهلاك صيد مملوك في الحرم أو شرب خمر
مملوكة لذمي ولنا قوله عليه الصلاة والسلام "لا
غرم على السارق بعد ما قطعت يمينه"
ولأن وجوب الضمان ينافي القطع لأنه يتملكه
بأداء الضمان مستندا إلى وقت الأخذ فتبين أنه
ورد على ملكه فينتفي القطع للشهبة وما يؤدي
إلى انتفائه فهو المنتفي ولأن المحل لا يبقى
معصوما حقا للعبد إذ لو بقي لكان مباحا في
نفسه فينتفي القطع للشبهة فيصير محرما حقا
للشرع كالميتة ولا ضمان فيه إلا أن العصمة لا
يظهر سقوطها في حق الاستهلاك لأنه فعل آخر غير
السرقة ولا ضرورة في حقه وكذا الشبهة تعتبر
فيما هو السبب دون غيره ووجه المشهور أن
الاستهلاك إتمام المقصود فتعتبر الشبهة فيه
وكذا يظهر سقوط العصمة في حق الضمان لأنه من
ضرورات سقوطها في حق الهلاك لانتفاء المماثلة.
قال: "ومن
سرق سرقات فقطع في إحداها فهو لجميعها ولا
يضمن شيئا عند
ج / 2 ص -374-
أبي حنيفة رحمه الله وقالا يضمن كلها إلا التي
قطع لها" ومعنى المسئلة إذا حضر أحدهم فإن حضروا جميعا وقطعت يده لخصومتهم
لا يضمن شيئا بالاتفاق في السرقات كلها لهما
أن الحاضر ليس بنائب عن الغائب ولا بد من
الخصومة لتظهر السرقة فلم تظهر السرقة من
الغائبين فلم يقع القطع لها فبقيت أموالهم
معصومة وله أن الواجب بالكل قطع واحد حقا لله
تعالى لأن مبنى الحدود على التداخل والخصومة
شرط للظهور عند القاضي فإذا استوفى فالمستوفي
كل الواجب ألا ترى أنه يرجع نفعه إلى الكل
فيقع عن الكل وعلى هذا الخلاف إذا كانت النصب
كلها لواحد فخاصم في البعض والله تعالى أعلم
بالصواب.
باب ما يحدث للسارق في السرقة
"ومن
سرق ثوبا فشقه في الدار نصفين ثم أخرجه وهو
يساوي عشرة دراهم قطع" وعن
أبي يوسف رحمه الله أنه لا يقطع لأن له فيه
سبب الملك وهو الخرق الفاحش فإنه يوجب القيمة
وتملك المضمون وصار كالمشتري إذا سرق مبيعا
فيه خيار للبائع ولهما أن الأخذ وضع سببا
للضمان لا للملك وإنما الملك يثبت ضرورة أداء
الضمان كيلا يجتمع البدلان في ملك واحد ومثله
لا يورث الشبهة كنفس الأخذ وكما إذا سرق
البائع معيبا باعه بخلاف ما ذكر لأن البيع
موضوع لإفادة الملك وهذا الخلاف فيما إذا
اختار تضمين النقصان وأخذ الثوب فإن اختار
تضمين القيمة وترك الثوب عليه لا يقطع
بالاتفاق لأنه ملكه مستندا إلى وقت الأخذ فصار
كما إذا ملكه بالهبة فأورث شبهة وهذا كله إذا
كان النقصان فاحشا فإن كان يسيرا يقطع
بالاتفاق لانعدام سبب الملك إذ ليس له اختيار
تضمين كل القيمة "وإن
سرق شاة فذبحها ثم أخرجها لم يقطع"
لأن السرقة تمت على اللحم ولا قطع فيه "ومن
سرق ذهبا أو فضة يجب فيه القطع فصنعه دراهم أو
دنانير قطع وترد الدراهم والدنانير إلى
المسروق منه وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله
وقالا لا سبيل للمسروق منه عليهما"
وأصله في الغصب فهذه صنعة متقومة عندهما خلافا
له ثم وجوب الحد لا يشكل على قوله لأنه لم
يملكه وقيل على قولهما لا يجب لأنه ملكه قبل
القطع وقيل يجب لأنه صار بالصنعة شيئا آخر فلم
يملك عينه "فإن
سرق ثوبا فصبغه أحمر قطع ولم يؤخذ منه الثوب
ولم يضمن قيمة الثوب وهذا عند أبي حنيفة وأبي
يوسف رحمهما الله".
"وقال
محمد رحمه الله يؤخذ منه الثوب ويعطى ما زاد
الصبغ فيه" اعتبارا بالغصب
والجامع بينهما كون الثوب أصلا قائما وكون
الصبع تابعا ولهما أن الصبغ قائم صورة ومعنى
حتى لو أراد أخذه مصبوغا يضمن ما زاد الصبغ
فيه وحق المالك في الثوب قائم
ج / 2 ص -375-
صورة
لا معنى ألا ترى أنه غير مضمون على السارق
بالهلاك فرجحنا جانب السارق بخلاف الغصب لأن
حق كل واحد منهما قائم صورة ومعنى فاستويا من
هذا الوجه فرجحنا جانب المالك بما ذكرنا "وإن
صبغه أسود أخذ منه في المذهبين"
يعني عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وعند
أبي يوسف رحمه الله هذا والأول سواء لأن
السواد زيادة عنده كالحمرة وعند محمد رحمه
الله زيادة أيضا كالحمرة ولكنه لا يقطع حق
المالك وعند أبي حنيفة رحمه الله السواد نقصان
فلا يوجب انقطاع حق المالك والله أعلم
بالصواب.
باب قطع الطريق
قال: "وإذا
خرج جماعة ممتنعين أو واحد يقدر على الامتناع
فقصدوا قطع الطريق فأخذوا قبل أن يأخذوا مالا
ويقتلوا نفسا حبسهم الإمام حتى يحدثوا توبة
وإن أخذوا مال مسلم أو ذمي والمأخوذ إذا قسم
على جماعتهم أصاب كل واحد منهم عشرة دراهم
فصاعدا أو ما تبلغ قيمته ذلك قطع الإمام
أيديهم وأرجلهم من خلاف وإن قتلوا ولم يأخذوا
مالا قتلهم الإمام حدا"
والأصل فيه قوله تعالى:
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه} [المائدة: 33] الآية
والمراد منه والله أعلم التوزيع على الأحوال
وهي أربعة هذه الثلاثة المذكورة والرابعة
نذكرها إن شاء الله تعالى ولأن الجنايات
تتفاوت على الأحوال فاللائق تغلظ الحكم
بتغلظها.
أما الحبس في الأولى فلأنه المراد بالنفي
المذكور لأنه نفي عن وجه الأرض بدفع شرهم عن
أهلها ويغزرون أيضا لمباشرتهم منكرا لإخافة
وشرط القدرة على الامتناع لأن المحاربة لا
تتحقق إلا بالمنعة والحالة الثانية كما بيناها
لما تلوناه وشرط أن يكون المأخوذ مال مسلم أو
ذمي لتكون العصمة مؤبدة ولهذا لو قطع الطريق
على المستأمن لا يجب القطع وشرط كمال النصاب
في حق كل واحد كيلا يستباح طرفه إلا بتناوله
ماله خطر والمراد قطع اليد اليمنى والرجل
اليسرى كيلا يؤدي إلى تفويت جنس المنفعة
والحالة الثالثة كما بيناها لما تلوناه "ويقتلون
حدا حتى لو عفا الأولياء عنهم لا يلتفت إلى
عفوهم" لأنه حق الشرع "و"
الرابعة "إذا
قتلوا وأخذوا المال فالإمام بالخيار إن شاء
قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقتلهم وصلبهم وإن
شاء قتلهم وإن شاء صلبهم وقال محمد رحمه الله
يقتل أو يصلب ولا يقطع" لأنه
جناية واحدة فلا توجب حدين ولأن ما دون النفس
يدخل في النفس في باب الحد كحد السرقة والرجم
ولهما أن هذه عقوبة واحدة
ج / 2 ص -376-
تغلظت
لغلظ سببها وهو تفويت الأمن على التناهي
بالقتل وأخذ المال ولهذا كان قطع اليد والرجل
معا في الكبرى حدا واحدا وإن كانا في الصغرى
حدين والتداخل في الحدود لا في حد واحد ثم ذكر
في الكتاب التخيير بين الصلب وتركه وهو ظاهر
الرواية وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يتركه
لأنه منصوص عليه والمقصود التشهير ليعتبر به
غيره ونحن نقول أصل التشهير بالقتل والمبالغة
بالصلب فيخير فيه.
ثم قال: "ويصلب
حيا ويبعج بطنه برمح إلى أن يموت"
ومثله عن الكرخي رحمه الله وعن الطحاوي رحمه
الله أنه يقتل ثم يصلب توقيا عن المثلة وجه
الأول وهو الأصح أن الصلب على هذا الوجه أبلغ
في الردع وهو المقصود به.
قال: "ولا
يصلب أكثر من ثلاثة أيام"
لأنه يتغير بعدها فيتأذى الناس به وعن أبي
يوسف رحمه الله أنه يترك على خشبة حتى يتقطع
ويسقط ليعتبر به غيره قلنا حصل الاعتبار بما
ذكرناه والنهاية غير مطلوبة.
قال: "وإذا
قتل القاطع فلا ضمان عليه في مال أخذه"
اعتبارا بالسرقة الصغرى وقد بيناه "فإن
باشر القتل أحدهم أجرى الحد عليهم بأجمعهم"
لأنه جزاء المحاربة وهي تتحقق بأن يكون البعض
ردءا للبعض حتى إذا زلت أقدامهم انحازوا إليهم
وإنما الشرط القتل من واحد منهم وقد تحقق.
قال: "والقتل
وإن كان بعصا أو بحجر أو بسيف فهو سواء"
لأنه يقع قطعا للطريق بقطع المارة "وإن
لم يقتل القاطع ولم يأخذ مالا وقد جرح اقتص
منه فيما فيه القصاص وأخذ الأرش منه فيما فيه
الأرش وذلك إلى الأولياء"
لأنه لا حد في هذه الجناية فظهر حق العبد وهو
ما ذكرناه فيستوفيه الولي "وإن
أخذ مالا ثم جرح قطعت يده ورجله وبطلت
الجراحات" لأنه لما وجب الحد
حقا لله سقطت عصمة النفس حقا للعبد كما تسقط
عصمة المال "وإن
أخذ بعد ما تاب وقد قتل عمدا فإن شاء الأولياء
قتلوه وإن شاءوا عفوا عنه"
لأن الحد في هذه الجناية لا يقام بعد التوبة
للاستثناء المذكور في النص ولأن التوبة تتوقف
على رد المال ولا قطع في مثله فظهر حق العبد
في النفس والمال حتى يستوفي الولي القصاص أو
يعفو ويجب الضمان إذا هلك في يده أو استهلكه "وإن
كان من القطاع صبي أو مجنون أو ذو رحم محرم من
المقطوع عليه سقط الحد عن الباقين"
فالمذكور في الصبي والمجنون قول أبي حنيفة
وزفر رحمهما الله وعن أبي يوسف رحمه الله أنه
لو باشر العقلاء يحد الباقون وعلى هذا السرقة
الصغرى له أن المباشر أصل والردء تابع ولا خلل
في مباشرة العاقل
ج / 2 ص -377-
ولا
اعتبار بالخلل في التبع وفي عكسه ينعكس المعنى
والحكم ولهما أنه جناية واحدة قامت بالكل فإذا
لم يقع فعل بعضهم موجبا كان فعل الباقين بعض
العلة وبه لا يثبت الحكم فصار كالخاطئ مع
العامد.
وأما ذو الرحم المحرم فقد قيل تأويله إذا كان
المال مشتركا بين المقطوع عليهم والأصح أنه
مطلق لأن الجناية واحدة على ما ذكرناه
فالامتناع في حق البعض يوجب الامتناع في حق
الباقين بخلاف ما إذا كان فيهم مستأمن لأن
الامتناع في حقه لخلل في العصمة وهو يخصه أما
هنا الامتناع لخلل في الحرز والقافلة حرز واحد
"وإذا
سقط الحد صار القتل إلى الأولياء"
لظهور حق العبد على ما ذكرناه "فإن
شاءوا قتلوا وإن شاءوا عفوا وإذا قطع بعض
القافلة الطريق على البعض لم يجب الحد"
لأن الحرز واحد فصارت القافلة كدار واحدة "ومن قطع الطريق ليلا أو نهارا في المصر
أو بين الكوفة والحيرة فليس بقاطع الطريق"
استحسانا وفي القياس يكون قاطع الطريق وهو قول
الشافعي رحمه الله لوجوده حقيقة وعن أبي يوسف
رحمه الله أنه يجب الحد إذا كان خارج المصر
وإن كان بقربه لأنه لا يلحقه الغوث وعنه إن
قاتلوا نهارا بالسلاح أو ليلا به أو بالخشب
فهم قطاع الطريق لأن السلاح لا يلبث والغوث
يبطئ بالليالي ونحن نقول إن قطع الطريق يقطع
المارة ولا يتحقق ذلك في المصر ويقرب منه لأن
الظاهر لحوق الغوث لأنهم يؤخذون برد المال
إيصالا للحق إلى المستحق ويؤدبون ويحبسون
لارتكابهم الجناية ولو قتلوا فالأمر فيه إلى
الأولياء لما بينا "ومن
خنق رجلا حتى قتله فالدية على عاقلته عند أبي
حنيفة رحمه الله" وهي مسئلة
القتل بالمثقل وسنبين في باب الديات إن شاء
الله تعالى "وإن خنق في المصر غير مرة قتل به"
لأنه صار ساعيا في الأرض بالفساد فيدفع شره
بالقتل. والله تعالى أعلم بالصواب. |