الهداية في شرح بداية المبتدي

ج / 2 ص -378-       كتاب السير
السير جمع سيرة وهي الطريقة في الأمور وفي الشرع تختص بسير النبي عليه الصلاة والسلام في مغازيه.
قال: "الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به فريق من الناس سقط عن الباقين" أما الفرضية فلقوله تعالى:
{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36] ولقوله عليه الصلاة والسلام "الجهاد ماض إلى يوم القيامة" وأراد به فرضا باقيا وهو فرض على الكفاية لأنه ما فرض لعينه إذ هو إفساد في نفسه وإنما فرض لإعزاز دين الله ودفع الشر عن العباد فإذا حصل المقصود بالبعض سقط عن الباقين كصلاة الجنازة ورد السلام "فإن لم يقم به أحد أثم جميع الناس بتركه" لأن الوجوب على الكل ولأن في اشتغال الكل به قطع مادة الجهاد من الكراع والسلاح فيجب على الكفاية "إلا أن يكون النفير عاما" فحينئذ يصير من فروض الأعيان لقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة: من الآية41] الآية وقال في الجامع الصغير الجهاد واجب إلا أن المسلمين في سعة حتى يحتاج إليهم فأول هذا الكلام إشارة إلى الوجوب على الكفاية وآخره إلى النفير العام وهذا لأن المقصود عند ذلك لا يتحصل إلا بإقامة الكل فيفترض على الكل "وقتال الكفار واجب" وإن لم يبدءوا للعمومات "ولا يجب الجهاد على صبي" لأن الصبا مظنة المرحمة "ولا عبد ولا امرأة" لتقدم حق المولى والزوج "ولا أعمى ولا مقعد ولا أقطع لعجزهم فإن هجم العدو على بلد وجب على جميع الناس الدفع تخرج المرأة بغير إذن زوجها والعبد بغير إذن المولى" لأنه صار فرض عين وملك اليمين ورق النكاح لا يظهر في حق فروض الأعيان كما في الصلاة والصوم بخلاف ما قبل النفير لأن بغيرهما مقنعا فلا ضرورة إلى إبطال حق المولى والزوج.
"ويكره الجعل ما دام للمسلمين فيء" لأنه لا يشبه الأجر ولا ضرورة إليه لأن مال بيت المال معد لنوائب المسلمين.
قال: "فإذا لم يكن فلا بأس بأن يقوي بعضهم بعضا" لأن فيه دفع الضرر الأعلى

 

ج / 2 ص -379-       بإلحاق الأدنى يؤيده أن النبي عليه الصلاة والسلام أخذ دروعا من صفوان وعمر رضي الله عنه كان يغزي الأعزب عن ذي الحليلة ويعطي الشاخص فرس القاعد والله أعلم بالصواب.

باب كيفية القتال
"وإذا دخل المسملون دار الحرب فحاصروا مدينة أو حصنا دعوهم إلى الإسلام" لما روى ابن عباس رضي الله عنما
أن النبي عليه الصلاة والسلام ما قاتل قوما حتى دعاهم إلى الإسلام قال "فإن أجابوا كفوا عن قتالهم" لحصول المقصود وقد قال صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" الحديث "وإن امتنعوا دعوهم إلى أداء الجزية" به أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام أمراء الجيوش ولأنه أحد ما ينتهي به القتال على ما نطق به النص وهذا في حق من تقبل منه الجزية ومن لا تقبل منه كالمرتدين وعبدة الأوثان من العرب لا فائدة في دعائهم إلى قبول الجزية لأنه لا يقبل منهم إلا الإسلام قال الله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] "فإن بذلوها فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين" لقول علي رضي الله عنه إنما بذلوا الجزية ليكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا والمراد بالبذل القبول وكذا المراد بالإعطاء المذكور فيه في القرآن والله أعلم.
"ولا يجوز أن يقاتل من لم تبلغه الدعوة إلى الإسلام إلا أن يدعوه" لقوله عليه الصلاة والسلام في وصية أمراء الأجناد "
فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله" ولأنهم بالدعوة يعلمون أنا نقاتلهم على الدين لا على سلب الأموال وسبي الذراري فلعلهم يجيبون فنكفى مؤنة القتال ولو قاتلهم قبل الدعوة أثم للنهي ولا غرامة لعدم العاصم وهو الدين أو الإحراز بالدار فصار كقتل النسوان والصبيان.
"ويستحب أن يدعو من بلغته الدعوة" مبالغة في الإندار ولا يجب ذلك لأنه صح أن النبي عليه الصلاة والسلام أغار على بني المصطلق وهم غارون وعهد إلى أسامة رضي الله عنه أن يغير على أبنى صباحا ثم يحرق والغارة لا تكون بدعوة قال "فإن أبوا ذلك استعانوا بالله عليهم وحاربوهم" لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث سليمان بن بريدة "
فإن أبوا ذلك فادعهم إلى إعطاء الجزية إلى أن قال فإن أبوها فاستعن بالله عليهم وقاتلهم" ولأنه تعالى هو الناصر لأوليائه والمدمر على أعدائه فيستعان به في كل الأمور قال "ونصبوا عليهم المجانيق" كما نصب رسول الله عليه الصلاة ولاسلام على الطائف

 

ج / 2 ص -380-       "وحرقوهم" لأنه عليه الصلاة والسلام أحرق اليوبرة قال "وأرسلوا عليهم الماء وقطعوا أشجارهم وأفسدوا زروعهم" لأن في جميع ذلك إلحاق الكبت والغيظ بهم وكسر شوكتهم وتفريق جمعهم فيكون مشروعا.
"ولا بأس برميهم وإن كان فيهم مسلم أسير أو تاجر" لأن في الرمي دفع الضرر العام بالذب عن بيضة الإسلام وقتل الأسير والتاجر ضرر خاص ولأنه قلما يخلو حصن من مسلم فلو امتنع باعتباره لانسد بابه "وإن تترسوا بصبيان المسلمين أو بالأسارى لم يكفوا عن رميهم" لما بينا "ويقصدون بالرمي الكفار" لأنه إن تعذر التمييز فعلا فلقد أمكن قصدا والطاعة بحسب الطاقة وما أصابوه منهم لا دية عليهم ولا كفارة لأن الجهاد فرض والغرامات لا تقرن بالفروض بخلاف حالة المخمصة لأنه لا يمتنع مخافة الضمان لما فيه من إحياء نفسه أما الجهاد فمبني على إتلاف النفس فيمتنع حذار الضمان.
قال: "ولا بأس بإخراج النساء والمصاحف مع المسلمين إذا كانوا عسكرا عظيما يؤمن عليه" لأن الغالب هو السلامة والغالب كالمتحقق "ويكره إخراج ذلك في سرية لا يؤمن عليها" لأن فيه تعريضهن على الضياع والفضيحة وتعريض المصاحف على الاستخفاف فإنهم يستخفون بها مغايظة للمسلمين وهو التأويل الصحيح لقوله عليه الصلاة والسلام "
لا تسافروا بالقرآن في أرض العدو" ولو دخل مسلم إليهم بأمان لا بأس بأن يحمل معه المصحف إذا كانوا قوما يوفون بالعهد لأن الظاهر عدم التعرض والعجائز يخرجن في العسكر العظيم لإقامة عمل يليق بهن كالطبخ والسقي والمداواة فأما الشواب فقرارهن في البيوت أدفع للفتنة ولا يباشرن القتال لأنه يستدل به على ضعف المسلمين إلا عند الضرورة ولا يستحب إخراجهن للمباضعة والخدمة فإن كانوا لا بد مخرجبن فبالإماء دون الحرائر.
"ولا تقاتل المرأة إذ بإذن زوجها ولا العبد إلا بإذن سيده" لما بينا "إلا أن يهجم العدو على بلد للضرورة" وينبغي للمسلمين أن لا يغدروا ولا يغلوا ولا يمثلوا لقوله عليه الصلاة والسلام "
لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا" والغلول السرقة من المغنم والغدر الخيانة ونقض العهد والمثلة المروية في قصة العرنيين منسوخة بالنهي المتأخر هو المنقول "ولا يقتلوا امرأة ولا صبيا ولا شيخا فانيا ولا مقعدا ولا أعمى" لأن المبيح للقتل عندنا هو الحراب ولا يتحقق منهم ولهذا لا يقتل يابس الشق والمقطوع اليمنى والمقطوع يده ورجله من خلاف والشافعي رحمه الله تعالى يخالفنا في الشيخ الفاني والمقعد والأعمى لأن المبيح عنده الكفر والحجة عليه ما بينا وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن قتل

 

ج / 2 ص -381-       الصبيان والذراري وحين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة مقتولة قال "هذه ما كانت هذه تقاتل فلم قتلت" قال "إلا أن يكون أحد هؤلاء ممن له رأي في الحرب أو تكون المرأة ملكة" لتعدي ضررها إلى العباد وكذا يقتل من قاتل من هؤلاء دفعا لشره ولأن القتال مبيح حقيقة "ولا يقتلوا مجنونا" لأنه غير مخاطب إلا أن يقاتل فيقتل دفعا لشره غير أن الصبي والمجنون يقتلان ما داما يقاتلان وغيرهما لا بأس بقتله بعد الأسر لأنه من أهل العقوبة لتوجه الخطاب نحوه وإن كان يجن ويفيق فهو في حال إفاقته كالصحيح.
"ويكره أن يبتدئ الرجل أباه من المشركين فيقتله" لقوله تعالى:
{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15] ولأنه يجب عليه إحياؤه بالإتفاق فيناقضه الإطلاق في إفنائه "فإن أدركه امتنع عليه حتى يقتله غيره" لأن المقصود يحصل بغيره من غير اقتحامه المأثم وإن قصد الأب قتله بحيث لا يمكنه دفعه إلا بقتله لا بأس به لأن مقصوده الدفع ألا ترى أنه لو شهر الأب المسلم سيفه على ابنه ولا يمكنه دفعه إلا بقتله يقتله لما بينا فهذا أولى والله أعلم بالصواب.

باب الموادعة ومن يجوز أمانه
"وإذا رأى الإمام أن يصالح أهل الحرب أو فريقا منهم وكان في ذلك مصلحة للمسلمين فلا بأس به" لقوله تعالى:
{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [لأنفال: 61] ووادع رسول الله عليه الصلاة والسلام أهل مكة عام الحديبية على أن يضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين ولأن الموادعة جهاد معنى إذا كان خيرا للمسلمين لأن المقصود وهو دفع الشر حاصل به ولا يقتصر الحكم على المدة المروية لتعدي المعنى إلى ما زاد عليها بخلاف ما إذا لم يكن خيرا لأنه ترك الجهاد صورة ومعنى.
"وإن صالحهم مدة ثم رأى نقض الصلح أنفع نبذ إليهم وقاتلهم" لأنه عليه الصلاة والسلام نبذ الموادعة التي كانت بينه وبين أهل مكة ولأن المصلحة لما تبدلت كان النبذ جهادا وإيفاء العهد ترك الجهاد صورة ومعنى فلا بد من النبذ تحرزا عن الغدر وقد قال عليه الصلاة والسلام "
في العهود وفاء لا غدر" ولا بد من اعتبار مدة يبلغ فيها خبر النبذ إلى جميعهم ويكتفى في ذلك بمضي مدة يتمكن ملكهم بعد علمه بالنبذ من إنفاذ الخبر إلى أطراف مملكته لأن بذلك ينتفي الغدر.
قال: "وإن بدءوا بخيانة قاتلهم ولم ينبذ إليهم إذا كان ذلك باتفاقهم" لأنهم صاروا ناقضين للعهد فلا حاجة إلى نقضه بخلاف ما إذا دخل جماعة منهم فقطعوا الطريق

 

ج / 2 ص -382-       ولا منعة لهم حيث لا يكون هذا نقضا للعهد ولو كانت لهم منعة وقاتلوا المسلمين علانية يكون نقضا للعهد في حقهم دون غيرهم لأنه بغير إذن ملكهم ففعلهم لا يلزم غيرهم حتى لو كان بإذن ملكهم صاروا ناقضين للعهد لأنه باتفاقهم معنى.
"وإذا رأى الإمام موادعة أهل الحرب وأن يأخذ على ذلك مالا فلا بأس به" لأنه لما جازت الموادعة بغير المال فكذا بالمال لكن هذا إذا كان بالمسلمين حاجة أما إذا لم تكن لا يجوز لما بينا من قبل والمأخوذ من المال يصرف مصارف الجزية هذا إذا لم ينزلوا بساحتهم بل أرسلوا رسولا لأنه في معنى الجزية أما إذا أحاط ا لجيش بهم ثم أخذوا المال فهو غنيمة بخمسها ويقسم الباقي بينهم لأنه مأخوذ بالقهر معنى "وأما المرتدون فيوادعهم الإمام حتى ينظر في أمرهم" لأن الإسلام مرجو منهم فجاز تأخير قتالهم طمعا في إسلامهم.
"ولا يأخذ عليه مالا" لأنه لا يجوز أخذ الجزية منهم لما تبين "ولو أخذه لم يرده" لأنه مال غير معصوم ولو حاصر العدو المسلمين وطلبوا الموادعة على مال يدفعه المسلمون إليهم لا يفعله الإمام لما فيه من إعطاء الدنية وإلحاق المذلة بأهل الإسلام إلا إذا خاف الهلاك لأن دفع الهلاك واجب بأي طريق يمكن.
ولا ينبغي أن يباع السلاح من أهل الحرب ولا يجهز إليهم لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع السلاح من أهل الحرب وحمله إليهم ولأن فيه تقويتهم على قتال المسلمين فيمنع من ذلك وكذا الكراع لما بينا وكذا الحديد لأنه أصل السلاح وكذا بعد الموادعة لأنها على شرف النقض أو الانقض فكانا حربا علينا وهذا هو القياس في الطعام والثوب إلا أنا عرفناه بالنص فإنه عليه الصلاة والسلام أمر ثمامة أن يمير أهل مكة وهم حرب عليه.

فصل
"إذا أمن رجل حرا وامرأة حرا كافرا أو جماعة أو أهل حصن أو مدينة صح أمانهم ولم يكن لأحد من المسلمين قتالهم" والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: "المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بدمتهم أدناهم" أي أقلهم وهو الواحد ولأنه من أهل القتال فيخافونه إذ هو من أهل المنعة فيتحقق الأمان منه لملاقاته محله ثم يتعدى إلى غيره ولأن سببه لا يتجزأ وهو الإيمان وكذا الأمان لا يتجزأ فيتكامل كولاية الإنكاح.
قال: "إلا أن يكون في ذلك مفسدة فينبذ إليهم" كما إذا أمن الإمام بنفسه ثم رأى

 

ج / 2 ص -383-       المصلحة في النبذ وقد بيناه ولو حاصر الإمام حصنا وأمن واحد من الجيش وفيه مفسدة ينبذ الإمام الأمان لما بينا ويؤدبه الإمام لا فتيانه على رأيه بخلاف ما إذا كان فيه نظر لأنه ربما تفوت المصلحة بالتأخير فكان معذورا.
"ولا يجوز أمان ذمي" لأنه متهم بهم وكذا لا ولاية له على المسلمين قال "ولا أسير ولا تاجر يدخل عليهم" لأنهما مقهوران تحت أيديهم فلا يخافونهما والأمان يختص بمحل الخوف ولأنهما يجبران عليه فيعرى الأمان عن المصلحة ولأنهم كلما اشتد الأمر عليهم يجدون أسيرا أو تاجرا فيتخلصون بأمانه فلا ينفتح لنا باب الفتح ومن أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا لا يصح أمانه لما بينا.
"ولا يجوز أمان العبد المحجور عند أبي حنيفة رحمه الله إلا أن يأذن له مولاه في القتال وقال محمد رحمه الله يصح" وهو قول الشافعي رحمه الله وأبو يوسف رحمه الله معه في رواية ومع أبي حنيفة رحمه الله في رواية لمحمد رحمه الله قوله عليه الصلاة والسلام "
أمان العبد أمان" رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه ولأنه مؤمن ممتنع فيصح أمانه اعتبارا بالمأذون له في القتال وبالمؤبد من الأمان فالإيمان لكونه شرطا للعبادة والجهاد عبادة والامتناع لتحقق إزالة الخوف به والتأثير إعزاز الدين وإقامة المصلحة في حق جماعة المسلمين إذ الكلام في مثل هذه الحالة وإنما لا يملك المسايفة لما فيه من تعطيل منافع المولى ولا تعطيل في مجرد القول ولأبي حنيفة رحمه الله أنه محجور عن القتال فلا يصح أمانه لأنهم لا يخافونه فلم يلاق الأمان محله بخلاف المأذون له في القتال لأن الخوف منه متحقق ولأنه إنما لا يملك المسايفة لما أنه تصرف في حق المولى على وجه لا يعرى عن احتمال الضرر في حقه.
والأمان نوع قتال وفيه ما ذكرناه لأنه قد يخطئ بل هو الظاهر وفيه سد باب الاستغنام بخلاف المأذون لأنه رضي به والخطأ نادر لمباشرته القتال وبخلاف المؤبد لأنه خلف عن الإسلام فهو بمنزلة الدعوة إليه ولأنه مقابل بالجزية ولأنه مفروض عند مسألتهم ذلك وإسقاط الفرض نفع فافترقا.
ولو أمن الصبي وهو لا يعقل لا يصح كالمجنون وإن كان يعقل وهو محجور عن القتال فعلى الخلاف وإن كان مأذونا له في القتال فالأصح أنه يصح بالاتفاق والله أعلم بالصواب.

 

ج / 2 ص -384-       باب الغنائم وقسمتها
"وإذا فتح الإمام بلدة عنوة" أي قهرا "فهو بالخيار إن شاء قسمه بين المسلمين" كما فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام بخيبر "وإن شاء أقر أهله عليه ووضع عليهم الجزية وعلى أراضيهم الخراج" كذلك فعل عمر رضي الله عنه بسواد العراق بموافقة من الصحابة رضي الله عنهم ولم يحمد من خالفه وفي كل من ذلك قدوة فيتخير وقيل الأولى هو الأول عند حاجة الغانمين والثاني عند عدم الحاجة ليكون عدة في الزمان الثاني وهذا في العقار.
أما في المنقول المجرد لا يجوز المن بالرد عليهم لأنه لم يرد به الشرع فيه وفي العقار خلاف الشافعي رحمه الله لأن في المن إبطال حق الغانمين أو ملكهم فلا يجوز من غير بدل يعادله والخراج غير معادل لقلته بخلاف الرقاب لأن للإمام أن يبطل حقهم رأسا بالقتل والحجة عليه ما رويناه ولأن فيه نظرا لأنهم كالأكرة العاملة للمسلمين العالمة بوجوه الزراعة والمؤن مرتفعة مع ما أنه يحظى به الذين يأتون من بعد والخراج وإن قل حالا فقد جل مآلا لدوامه وإن من عليهم بالرقاب والأراضي يدفع إليهم من المنقولات بقدر ما يتهيأ لهم العمل ليخرج عن حد الكراهة.
قال: "وهو في الأسارى بالخيار إن شاء قتلهم" لأنه عليه الصلاة والسلام قد قتل ولأن فيه حسم مادة الفساد "وإن شاء استرقهم" لأن فيه دفع شرهم مع وفور المنفعة لأهل الإسلام "وإن شاء تركهم أحرارا ذمة للمسلمين" لما بيناه "إلا مشركي العرب والمرتدين" على ما نبين إن شاء الله تعالى.
"ولا يجوز أن يردهم إلى دار الحرب" لأن فيه تفويتهم على المسلمين فإن أسلموا لا يقتلهم لاندفاع ا لشر بدونه "وله أن يسترقهم" توفيرا للمنفعة بعد انعقاد سبب الملك بخلاف إسلامهم قبل الأخذ لأنه لم ينعقد السبب بعد.
"ولا يفادى بالأسارى عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا يفادى بهم أسارى المسلمين" وهو قول الشافعي رحمه الله لأن فيه تخليص المسلم وهو أولى من قتل الكافر والانتفاع به، وله أن فيه معونة للكفرة لأنه يعود حربا عليا ودفع شر حرابه خير من استنقاذ الأسير المسلم لأنه إذا بقي في أيديهم كان ابتلاء في حقه غير مضاف إلينا والإعانة بدفع أسيرهم إليهم مضاف إلينا أما المفاداة بمال يأخذه منهم لا يجوز في المشهور من المذاهب لما بينا وفي السير الكبير أنه لا بأس به إذا كان بالمسلمين حاجة استدلالا بأسارى بدر ولو كان أسلم

 

ج / 2 ص -385-       الأسير في أيدينا لا يفادى بمسلم أسير في أيديهم لأنه لا يفيد إلا إذا طابت نفسه به وهو مأمون على إسلامهم.
قال: "ولا يجوز المن عليهم" أي على الأسارى خلافا للشافعي رحمه الله فإنه يقول من رسول الله عليه الصلاة والسلام على بعض الأسارى يوم بدر ولنا قوله تعالى:
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] ولأنه بالأسر والقسر ثبت حق الاسترقاق فيه فلا يجوز إسقاطه بغير منفعة وعوض وما رواه منسوخ بما تلونا.
"وإذا أراد الإمام العود ومعه مواش فلم يقدر على نقلها إلى دار الإسلام ذبحها وحرقها ولا يعقرها ولا يتركها" وقال الشافعي رحمه الله يتركها لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن ذبح الشاة إلا لمأكلة ولنا أن ذبح الحيوان يجوز لغرض صحيح ولا غرض أصح من كسر شوكة الأعداء ثم يحرق بالنار لينقطع منفعته عن الكفار وصار كتخريب البنيان بخلاف التحريق قبل الذبح لأنه منهي عنه وبخلاف العقر لأنه مثلة وتحرق الأسلحة أيضا ومالا يحترق منها يدفن في موضع لا يطلع عليه الكفار إبطالا للمنفعة عليهم.
"ولا يقسم غنيمة في دار الحرب حتى يخرجها إلى دار الإسلام" وقال الشافعي رحمه الله لا بأس بذلك وأصله أن الملك للغانمين لا يثبت قبل للإحراز بدار الإسلام عندنا وعنده يثبت ويبتنى على هذا الأصل عدة من المسائل ذكرناها في كفاية المنتهى له أن سبب الملك الاستيلاء إذا ورد على مال مباح كما في الصيود ولا معنى للاستيلاء سوى إثبات اليد وقد تحقق ولنا أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الغنيمة في دار الحرب والخلاف ثابت فيه والقسمة بيع معني فتدخل تحته ولأن الاستيلاء إثبات اليد الحافظة والناقلة والثاني منعدم لقدرتهم على الاستنقاذ ووجوده ظاهرا ثم قيل موضع الخلاف ترتب الأحكام على القسمة إذا قسم الإمام لا عن اجتهاد لأن حكم الملك لا يثبت بدونه وقيل الكراهة وهي كراهة تنزيه عند محمد رحمه الله فإنه قال على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لا تجوز القسمة في دار الحرب وعند محمد رحمه الله الأفضل أن يقسم في دار الإسلام ووجه الكراهة أن دليل البطلان راجح إلا أنه تقاعد عن سلب الجواز فلا يتعاقد عن إيراث الكراهة.
قال: "والردء والمقاتل في العسكر سواء" لاستوائهم في السبب وهو المجاوزة أو شهود الوقعة على ما عرف وكذلك إذا لم يقاتل لمرض أو غيره لما ذكرنا "وإذا لحقهم المدد في دار الحرب قبل أن يخرجوا الغنيمة إلى دار الإسلام شاركوهم فيها" خلافا

 

ج / 2 ص -386-       للشافعي رحمه الله بعد انقضاء القتال وهو بناء على ما مهدناه من الأصل وإنما ينقطع حق المشاركة عندنا بالإحراز أو بقسمة الإمام في دار الحرب أو ببيعه المغانم فيها لأن بكل واحد منها يتم الملك فينقطع حق شركة المدد.
قال: "ولا حق لأهل سوق العسكر في الغنيمة إلا أن يقاتلوا" وقال الشافعي رحمه الله في أحد قوليه يسهم له لقوله عليه الصلاة والسلام "
الغنيمة لمن شهد الوقعة" ولأنه وجد الجهاد معنى بتكثير السواد ولنا أنه لم توجد المجاوزة على قصد القتال فانعدم السبب الظاهر فيعتبر السبب الحقيقي وهو القتال فيفيد الاستحقاق على حسب حاله فارسا أو راجلا عند القتال وما رواه موقوف على عمر رضي الله عنه أو تأويله أن يشهدها على قصد القتال "وإن لم تكن للإمام حمولة تحمل عليها الغنائم قسمها بين الغانمين قسمة إيداع ليحملوها إلى دار الإسلام ثم يرتجعها منهم فيقسمها" قال العبد الضعيف هكذا ذكر في المختصر ولم يشترط رضاهم وهو رواية السير الكبير والجملة في هذا أن الإمام إذا وجد في المغنم حمولة يحمل الغنائم عليها لأن الحمولة والمحمول ما لهم وكذا إذا كان في بيت المال فضل حمولة لأنه مال المسلمين ولو كان للغانمين أو لبعضهم لا يجبهرم في رواية السير الصغير لأنه ابتداء إجارة وصار كما إذا نفقت دابته في مفازة ومع رفيقه فضل حمولة ويجبرهم في رواية السير الكبير لأنه دفع الضرر العام بتحميل ضرر خاص "ولا يجوز بيع الغنائم قبل القسمة في دار الحرب" لأنه لا ملك قبلها وفيه خلاف الشافعي رحمه الله وقد بينا الأصل.
"ومن مات من الغانمين في دار الحرب فلا حق له في الغنيمة ومن مات منهم بعد إخراجها إلى دار الإسلام فنصيبه لورثته" لأن الإرث يجري في الملك ولا ملك قبل الإحراز وإنما الملك بعده وقال الشافعي رحمه الله من مات منهم بعد استقرار الهزيمة يورث نصيبه لقيام الملك فيه عنده وقد بيناه.
قال: "ولا بأس بأن يعلف العسكر في دار الحرب ويأكلوا مما وجدوه من الطعام" قال العبد الضعيف أرسل ولم يقيده بالحاجة وقد شرطها في رواية ولم يشترطها في أخرى وجه الأولى أنه مشترك بين الغانمين فلا يباح الانتفاع به إلا للحاجة كما في الثياب والدواب وجه الأخرى قوله عليه الصلاة والسلام في طعام خيبر "
كلوها واعلفوها ولا تحملوها" ولأن الحكم يدار على دليل الحاجة وهو كونه في دار الحرب لأن الغازي لا يستصحب قوت نفسه وعلف ظهره مدة مقامه فيها والميرة منقطعة فبقي على أصل الإباحة للحاجة بخلاف السلاح لأنه يستصحبه فانعدم دليل الحاجة وقد تمس إليه

 

ج / 2 ص -387-       الحاجة فتعتبر حقيقتها فيستعمله ثم يرده في المغنم إذا استغنى عنه والدابة مثل السلاح والطعام كالخبز واللحم وما يستعمل فيه كالسمن والزيت.
قال: "ويستعملوا الحطب" وفي بعض النسخ الطيب "ويدهنوا بالدهن ويوقحوا به الدابة" لمساس الحاجة إلى جميع ذلك "ويقاتلوا بما يجدونه من السلاح كل ذلك بلا قسمة" وتأويله إذا احتاج إليه بأن لم يكن له سلاح وقد بيناه.
"ولا يجوز أن يبيعوا من ذلك شيئا ولا يتمولونه" لأن البيع يترتب على الملك ولا ملك على ما قدمناه وإنما هو إباحة وصار كالمباح له الطعام وقوله ولا يتمولونه إشارة إلى أنهم لا يبيعونه بالذهب والفضة والعروض لأنه لا ضرورة إلى ذلك فإن باعه أحدهم رد الثمن إلى الغنيمة لأنه بدل عين كانت للجماعة وأما الثياب والمتاع فيكره الانتفاع بها قبل القسمة من غير حاجة للاشتراك إلا أنه يقسم الإمام بينهم في دار الحرب إذا احتاجوا إلى الثياب والدواب والمتاع لأن المحرم يستباح للضرورة فالمكروه أولى وهذا لأن حق المدد محتمل وحاجة هؤلاء متيقن بها فكان أولى بالرعاية ولم يذكر القسمة في السلاح ولا فرق في الحقيقة فإنه إذا احتاج واحاد يباح له الانتفاع في الفصلين وإن احتاج الكل يقسم في الفصلين بخلاف ما إذا احتاجوا إلى السبي حيث لا يقسم لأن الحاجة إليه من فضول الحوائج.
قال: "ومن أسلم منهم" معناه في دار الحرب "أحرز بإسلامه نفسه" لأن الإسلام ينافي ابتداء الاسترقاق "وأولاده الصغار" لأنهم مسلمون بإسلامه تبعا "وكل مال هو في يده" لقوله عليه الصلاة والسلام "
من أسلم على مال فهو له" ولأنه سبقت يده الحقيقية إليه يد الظاهرين عليه "أو وديعة في يد مسلم أو ذمي" لأنه في يد صحيحة محترمة ويده كيده "فإن ظهرنا على دار الحرب فعقاره فيء" وقال الشافعي رحمه الله هو له لأنه في يده فصار كالمنقول ولنا أن العقار في يد أهل الدار وسلطانها إذ هو من جملة دار الحرب فلم يكن في يده حقيقة وقيل هذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر وفي قول محمد وهو قول أبي يوسف الأول رحمهم الله هو كغيره من الأموال بناء على أن اليد حقيقة لا تثبت على العقار عندهما وعند محمد تثبت. "وزوجته فيء" لأنها كافرة حربية لا تتبعه في الإسلام "وكذا حملها فيء" خلافا للشافعي رحمه الله هو يقول إنه مسلم تبعا كالمنفصل ولنا أنه جزؤها فيرق برقها والمسلم محل للتملك تبعا لغيره بخلاف المنفصل لأنه حر لانعدام الجزئية عند ذلك "وأولاده الكبار فيء" لأنهم كفار حربيون ولا تبعية.

 

ج / 2 ص -388-       "ومن قاتل من عبيده فيء" لأنه لما تمرد على مولاه خرج من يده فصار تبعا لأهل دارهم "وما كان من ماله في يد حربي فهو فيء" غصبا كان أو وديعة لأن يده ليست بمحترمة "وما كان غصبا في يد مسلم أو ذمي فهو فيء عند أبي حنيفة وقال محمد رحمه الله لا يكون فيئا" قال العبد الضعيف رحمه الله كذا ذكر الاختلاف في السير الكبير وذكروا في شروح الجامع الصغير قول أبي يوسف مع قول محمد رحمهما الله لهما أن المال تابع للنفس وقد صارت معصومة بإسلامه فيتبعها ماله فيها وله أنه مال مباح فيملك بالاستيلاء والنفس لم تصر معصومة بالإسلام ألا ترى أنها ليست بمتقومة إلا أنه محرم التعرض في الأصل لكونه مكلفا وإباحة التعرض بعارض شره وقد اندفع بالإسلام بخلاف المال لأنه خلق عرضة للامتهان فكان محلا للتملك وليست في يده حكما فلم تثبت العصمة.
"وإذا خرج المسلمون من دار الحرب لم يجز أن يعلفوا من الغنيمة ولا يأكلوا منها" لأن الضرورة قد ارتفعت والإباحة باعتبارها ولأن الحق قد تأكد حتى يورث نصيبه ولا كذلك قبل الإخراج إلى دار الإسلام.
"ومن فضل معه علف أو طعام رده إلى الغنيمة" معناه إذا لم تقسم وعن الشافعي رحمه الله مثل قولنا وعنه أنه لا يرد اعتبارا بالمتلصص ولنا أن الاختصاص ضرورة الحاجة وقد زالت بخلاف المتلصص لأنه كان أحق به قبل الإحراز فكذا بعده وبعد القسمة تصدقوا به إن كانوا إغنياء وانتفعوا به إن كانوا محاويج لأنه صار في حكم اللقطة لتعذر الرد على الغانمين وإن كانوا انتفعوا به بعد الإحراز ترد قيمته إلى المغنم إن كان لم يقسم وإن قسمت الغنيمة بالغني يتصدق بقيمته والفقير لا شيء عليه لقيام القيمة مقام الأصل فأخذ حكمه والله أعلم بالصواب.

فصل في كيفية القسمة
قال: "ويقسم الإمام الغنيمة فيخرج خمسها" لقوله تعالى:
{فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [لأنفال: من الآية41] استثنى الخمس "ويقسم الأربعة الأخماس بين الغانمين" لأنه عليه الصلاة والسلام قسمها بين الغانمين "ثم للفارس سهمان وللراجل سهم" عند أبي حنيفة رحمه الله "وقال للفارس ثلاثة أسهم" وهو قول الشافعي رحمه الله لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام أسهم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهما ولأن الاستحقاق بالغناء وغناؤه على ثلاثة أمثال الراجل لأنه للكر والفر والثبات والراجل للثبات لا غير ولأبي حنيفة رحمه الله ما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه

 

ج / 2 ص -389-       الصلاة والسلام أعطى الفارس سهمين والراجل سهما فتعارض فعلاه فيرجع إلى قوله وقد قال عليه الصلاة والسلام للفارس سهمان وللراجل سهم كيف وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قسم للفارس سهمين وللراجل سهما وإذا تعارضت روايتاه ترجح رواية غيره لأن الكر والفر من جنس واحد فيكون غناؤه مثلي غناء الراجل فيفضل عليه بسهم ولأنه تعذر اعتبار مقدار الزيادة لتعذر معرفته فيدار الحكم على سبب ظاهر وللفارس سببان النفس والفرس وللراجل سبب واحد فكان استحقاقه على ضعفه.
"ولا يسهم إلا لفرس واحد" وقال أبو يوسف رحمه الله يسهم لفرسين لما روي
أن النبي عليه الصلاة والسلام أسهم لفرسين ولأن الواحد قد يعيا فيحتاج إلى الآخر ولهما أن البراء بن أوس قاد فرسين فلم يسهم رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا لفرس واحد ولأن القتال لا يتحقق بفرسين دفعة واحدة فلا يكون السبب الظاهر مفضيا إلى القتال عليهما فيسهم لواحد ولهذا لا يسهم لثلاثة أفراس وما رواه محمول على التنفيل كما أعطى سلمة بن الأكوع سهمين وهو راجل "والبراذين والعتاق سواء" لأن الإرهاب مضاف إلى جنس الخيل في الكتاب قال الله تعالى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [لأنفال: 60] واسم الخيل ينطلق على البراذين والعراب والهجين والمقرف إطلاقا واحدا ولأن العربي إن كان في الطلب والهرب أقوى فالبرذون أصبر وألين عطفا ففي كل واحد منهما منفعة معتبرة فاستويا.
"ومن دخل دار الحرب فارسا فنفق فرسه استحق سهم الفرسان ومن دخل راجلا فاشترى فرسا استحق سهم راجل" وجواب الشافعي رحمه الله على عكسه في الفصلين وهكذا روى ابن المبارك عن أبي حنيفة رحمه الله في الفصل الثاني أنه يستحق سهم الفرسان.
والحاصل أن المعتبر عندنا حالة المجاوزة وعنده حالة انقضاء الحرب له أن السبب هو القهر والقتال فيعتبر حال الشخص عنده والمجاوزة وسيلة إلى السبب كالخروج من البيت وتعليق الأحكام بالقتال يدل على إمكان الوقوف عليه ولو تعذر أو تعسر تعلق بشهود الوقعة لأنه أقرب إلى القتال ولنا أن المجاوزة نفسها قتال لأنه يلحقهم الخوف بها والحال بعدها حالة الدوام ولا معتبر بها ولأن الوقوف على حقيقة القتال متعسر وكذا على شهود الوقعة لأنه حال التقاء الصفين فتقام المجاوزة مقامه إذ هو السبب المفضي إليه ظاهرا إذا كان على قصد القتال فيعتبر حال الشخص بحالة المجاوزة فارسا كان أو راجلا ولو دخل فارسا وقاتل راجلا لضيق المكان يستحق سهم الفرسان بالاتفاق ولو دخل فارسا

 

ج / 2 ص -390-       ثم باع فرسه أو وهب أو آجر أو رهن ففي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله يستحق سهم الفرسان اعتبارا للمجاوزة وفي ظاهر الرواية يستحق سهم الرجالة لأن الإقدام على هذه التصرفات يدل على أنه لم يكن من قصده بالمجاوزة القتال فارسا ولو باعه بعد الفراغ لم يسقط سهم الفرسان وكذا إذا باع في حالة القتال عند البعض والأصح أنه يسقط لأن البيع يدل على أن غرضه التجارة فيه إلا أنه ينتظر عزته.
"ولا يسهم لمملوك ولا امرأة ولا صبي ولا ذمي ولكن يرضخ لهم على حسب ما يرى الإمام" لما روي
أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يسهم للنساء والصبيان والعبيد وكان يرضخ لهم ولما استعان عليه الصلاة والسلام باليهود على اليهود لم يعطهم شيئا من الغنيمة يعني أنه لم يسهم لهم ولأن الجهاد عبادة والذمي ليس من أهل العبادة والصبي والمرأة عاجزان عنه ولهذا لم يلحقهما فرضه والعبد لا يمكنه المولى وله منعه إلا أنه يرضخ لهم تحريضا على القتال مع إظهار انحطاط رتبتهم والمكاتب بمنزلة العبد لقيام الرق وتوهم عجزه فيمنعه المولى عن الخروج إلى القتال ثم العبد إنما يرضخ له إذا قاتل لأنه دخل لخدمة المولى فصار كالتاجر والمرأة يرضخ لها إذا كانت تداوي الجرحى وتقوم على المرضى لأنها عاجزة عن حقيقة القتال فيقام هذا النوع من الإعانة مقام القتال بخلاف العبد لأنه قادر على حقيقة القتال والذمي إنما يرضخ له إذا قاتل أو دل على الطريق ولم يقاتل لأن فيه منفعة للمسلمين إلا أنه يزاد على السهم في الدلالة إذا كانت فيه منفعة عظيمة ولا يبلغ به السهم إذا قاتل لأنه جهاد والأول ليس من عمله ولا يسوى بينه وبين المسلم في حكم الجهاد.
"وأما الخمس فيقسم على ثلاثة أسهم سهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل يدخل فقراء ذوي القربى فيهم ويقدمون ولا يدفع إلى أغنيائهم" وقال الشافعي رحمه الله لهم خمس الخمس يستوي فيه غنيهم وفقيرهم ويقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين ويكون لبني هاشم وبني المطلب دون غيرهم لقوله تعالى:
{وَلِذِي الْقُرْبَى} [لأنفال: 41] من غير فصل بين الغني والفقير ولنا أن الخلفاء الأربعة الراشدين رضي الله عنهم قسموه على ثلاثة أسهم على نحو ما قلناه وكفى بهم قدوة وقال عليه الصلاة والسلام "يا معشر بني هاشم إن الله تعالى كره لكم غسالة الناس وأوساخهم وعوضكم منها بخمس الخمس" والعوض إنما يثبت في حق من يثبت في حقه المعوض وهم الفقراء والنبي عليه الصلاة والسلام أعطاهم للنصرة ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام علل فقال "إنهم لن يزالوا معي

 

ج / 2 ص -391-       هكذا في الجاهلية والإسلام وشبك بين أصابعه" دل على أن المراد من النص قرب النصرة لا قرب القرابة.
قال: "فأما ذكر الله تعالى في الخمس فإنه لافتتاح الكلام تبركا باسمه وسهم النبي عليه الصلاة والسلام سقط بموته كا سقط الصفي" لأنه عليه الصلاة والسلام كان يستحقه برسالته ولا رسول بعده والصفي شيء كان عليه الصلاة والسلام يصطفيه لنفسه من الغنيمة مثل درع أو سيف أو جارية وقال الشافعي رحمه الله يصرف سهم الرسول إلى الخليفة والحجة عليه ما قدمناه.
"وسهم ذوي القربى كانوا يستحقونه في زمن النبي عليه الصلاة والسلام بالنصرة" لما روينا قال "وبعده بالفقر".
قال العبد الضعيف عصمه الله هذا الذي ذكره قول الكرخي وقال الطحاوي رحمه الله سهم الفقير منهم ساقط أيضا لما روينا من الإجماع ولأن فيه معنى الصدقة نظرا إلى المصرف فيحرمه كما يحرم العمالة وجه الأول وقيل هو الأصح ما روي أن عمر رضي الله عنه أعطى الفقراء منهم والإجماع انعقد على سقوط حق الأغنياء أما فقراؤهم فيدخلون في الأصناف الثلاثة.
"وإذا دخل الواحد أو الاثنان دار الحرب مغيرين بغير إذن الإمام فأخذوا شيئا لم يخمس" لأن الغنيمة هو المأخوذ قهرا وغلبة لا اختلاسا وسرقة والخمس وظيفتها ولو دخل الواحد أو الاثنان بإذن الإمام ففيه روايتان والمشهور أنه يخمس لأنه لما أذن لهم الإمام فقد التزم نصرتهم بالإمداد فصار كالمنعة "فإن دخلت جماعة لها منعة فأخذوا شيئا خمس وإن لم يأذن لهم الإمام" لأنه مأخوذ قهرا وغلبة فكان غنيمة ولأنه يجب على الإمام أن ينصرهم إذ لو خذلهم كان فيه وهن المسلمين بخلاف الواحد والاثنين لأنه لا يجب عليه نصرتهم والله أعلم بالصواب.

فصل في التنفيل
قال: "ولا بأس بأن ينفل الإمام في حالة القتال ويحرض به على القتال فيقول من قتل قتيلا فله سلبه ويقول للسرية قد حعلت لكم الربع بعد الخمس" معناه بعد ما رفع الخمس لأن التحريض مندوب إليه قال الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [لأنفال: 65] وهذا نوع تحريض ثم قد يكون التنفيل بما ذكر وقد يكون بغيره إلا أنه

 

ج / 2 ص -392-       لا ينبغي للإمام أن ينفل بكل المأخوذ لأن فيه إبطال حق الكل فإن فعله مع السرية جاز لأن التصرف إليه وقد تكون المصلحة فيه.
"ولا ينفل بعد إحراز الغنيمة بدار الإسلام" لأن حق الغير قد تأكد فيه بالإحراز قال "إلا من الخمس" لأنه لا حق للغانمين في الخمس.
"وإذا لم يجعل السلب للقاتل فهو من جملة الغنيمة والقاتل وغيره ذلك سواء" وقال الشافعي رحمه الله السلب للقاتل إذا كان من أهل أن يسهم له وقد قتله مقبلا لقوله عليه الصلاة والسلام "
من قتل قتيلا فله سلبه" والظاهر أنه نصب شرع لأنه بعث له ولأن القاتل مقبلا أكثر غناء فيختص بسلبه إظهارا للتفاوت بينه وبين غيره ولنا أنه مأخوذ بقوة الجيش فيكون غنيمة فيقسم قسمة الغنائم كما نطق به النص وقال عليه الصلاة والسلام لحبيب بن أبي سلمة "ليس لك من سلب قتيلك إلا ما طابت به نفس إمامك" وما رواه يحتمل نصب الشرع ويحتمل التنفيل فنحمله على الثاني لما رويناه وزيادة الغناء لا تعتبر في جنس واحد كما ذكرناه.
"والسلب ما على المقتول من ثيابه وسلاحه ومركبه وكذا ما كان على مركبه من السرج والآلة وكذا ما معه على الدابة من ماله في حقيبته أو على وسطه وما عدا ذلك فليس بسلب" وما كان مع غلامه على دابة أخرى فليس بسلبه ثم حكم التنفيل قطع حق الباقين فأما الملك فإنما يثبت بعد الإحراز بدار الإسلام لم مر من قبل حتى لو قال الإمام من أصاب جارية فهي له فأصابها مسلم واستبرأها لم يحل له وطؤها وكذا لا يبيعها وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله له أن يطأها ويبيعها لأن التنفيل يثبت به الملك عنده كما يثبت بالقسمة في دار الحرب وبالشراء من الحربي ووجوب الضمان بالإتلاف قد قيل على هذا الاختلاف والله أعلم بالصواب.

باب استيلاء الكفار
"وإذا غلب الترك على الروم فسبوهم وأخذوا أموالهم ملكوها" لأن الاستيلاء قد تحقق في مال مباح وهو السبب على ما نبينه إن شاء الله تعالى "فإن غلبنا على الترك حل لنا ما نجده من ذلك" اعتبارا بسائر أملاكهم.
"وإذا غلبوا على أموالنا والعياذ بالله وأحرزوها بدارهم ملكوها" وقال الشافعي رحمه الله لا يملكونها لأن الاستيلاء محظور ابتداء وانتهاء والمحظور لا ينتهض سببا للملك على ما عرف من قاعدة الخصم ولنا أن الاستيلاء ورد على مال مباح فينعقد

 

ج / 2 ص -393-       سببا للملك دفعا لحاجة المكلف كاستيلائنا على أموالهم وهذا لأن العصمة تثبت على منافاة الدليل ضرورة تمكن المالك من الانتفاع فإذا زالت المكنة عاد مباحا كما كان غير أن الاستيلاء لا يتحقق إلا بالإحراز بالدار لأنه عبارة عن الاقتدار على المحل حالا ومآلا والمحظور لغيره إذا صلح سببا لكرامة تفوق الملك وهو الثواب الآجل فما ظنك بالملك العاجل "فإن ظهر عليها المسلمون فوجدها المالكون قبل القسمة فهي لهم بغير شيء وإن وجدوها بعد القسمة أخذوها بالقيمة إن أحبوا" لقوله عليه الصلاة والسلام فيه "إن وجدته قبل القسمة فهو لك بغير شيء وإن وجدته بعد القسمة فهو لك بالقيمة" ولأن المالك القديم زال ملكه بغير رضاه فكان له حق الأخذ نظرا له إلا أن في الأخذ بعد القسمة ضررا بالمأخوذ منه بإزالة ملكه الخاص فيأخذه بالقيمة ليعتدل النظر من الجانبين والشركة قبل القسمة عامة فيقل الضرر فيأخذه بغير قيمة "وإن دخل دار الحرب تاجر فاشترى ذلك وأخرجه إلى دار الإسلام فمالكه الأول بالخيار إن شاء أخذه بالثمن الذي اشتراه به وإن شاء تركه" لأنه يتضرر بالأخذ مجانا ألا ترى أنه قد دفع العوض بمقابلته فكان اعتدال النظر فيما قلناه ولو اشتراه بعرض يأخذه بقيمة العرض ولو وهبوه لمسلم يأخذه بقيمته لأنه ثبت له ملك خاص فلا يزال إلا بالقيمة ولو كان مغنوما وهو يأخذه قبل القسمة ولا يأخذه بعدها لأن الأخذ بالمثل غير مفيد وكذا إذا كان موهوبا لا يأخذه لما بينا وكذا إذا كان مشترى بمثله قدرا ووصفا قال "فإن أسروا عبدا فاشتراه رجل وأخرجه إلى دار الإسلام ففقئت عينه وأخذ أرشها فإن المولى يأخذه بالثمن الذي أخذ به من العدو" أما الأخذ بالثمن فلما قلنا "ولا يأخذ الأرش" لأن الملك فيه صحيح فلو أخذه أخذه بمثله وهو لا يفيد ولا يحط شيء من الثمن لأن الأوصاف لا يقابلها شيء من الثمن بخلاف الشفعة لأن الصفقة لما تحولت إلى الشفيع صار المشترى في يد المشتري بمنزلة المشترى شراء فاسدا والأوصاف تضمن فيه كما في الغصب أما ههنا الملك صحيح فافترقا "وإن أسروا عبدا فاشتراه رجل بألف درهم فأسروه ثانيا وأدخلوه دار الحرب فاشتراه رجل آخر بألف درهم فليس للمولى الأول أن يأخذه من الثاني بالثمن" لأن الأسر ما ورد على ملكه.
"وللمشتري الأول أن يأخذه من الثاني بالثمن" لأن الأسر ورد على ملكه "ثم يأخذه المالك القديم بألفين إن شاء" لأنه قام عليه بالثمنين فيأخذه بهما وكذا إذا كان المأسور منه الثاني غائبا ليس للأول أن يأخذه اعتبارا بحال حضرته.
"ولا يملك علينا أهل الحرب بالغلبة مدبرينا وأمهات أولادنا ومكاتبينا وأحرارنا ونملك عليهم جميع ذلك" لأن السبب إنما يفيد الملك في محله والمحل المال المباح

 

ج / 2 ص -394-       والحر معصوم بنفسه وكذا من سواه لأنه تثبت الحرية فيه من وجه بخلاف رقابهم لأن الشرع أسقط عصمتهم جزاء على جنايتهم وجعلهم أرقاء ولا جناية من هؤلاء.
"وإذا أبق عبد لمسلم فدخل إليهم فأخذوه لم يملكوه عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا يملكونه" لأن العصمة لحق المالك لقيام يده وقد زالت ولهذا لو أخذوه من دار الإسلام ملكوه وله أنه ظهرت يده على نفسه بالخروج من دارنا لأن سقوط اعتباره لتحقق يد المولى عليه تمكينا له من الانتفاع وقد زالت يد المولى فظهرت يده على نفسه وصار معصوما بنفسه فلم يبق محلا للملك بخلاف المتردد لأن يد المولى باقية عليه لقيام يد أهل الدار فمنع ظهور يده وإذا لم يثبت الملك لهم عند أبي حنيفة رحمه الله يأخذه المالك القديم بغير شيء موهوبا كان أو مشترى أو مغنوما قبل القسمة وبعد القسمة يؤدى عوضه من بيت المال لأنه لا يمكن إعادة القسمة لتفرق الغانمين وتعذر اجتماعهم وليس له على المالك جعل الآبق لأنه عامل لنفسه إذ في زعمه أنه ملكه "وإن ند بعير إليهم فأخذوه ملكوه" لتحقق الاستيلاء إذ لا بد للعجماء لتظهر عند الخروج من دارنا بخلاف العبد على ما ذكرنا وإن اشتراه رجل وأدخله دار الإسلام فصاحبه يأخذه بالثمن إن شاء" لما بينا "فإن أبق عبد إليهم وذهب معه بفرس ومتاع فأخذ المشركون ذلك كله واشترى رجل ذلك كله وأخرجه إلى دار الإسلام فإن المولى يأخذ العبد بغير شيء والفرس والمتاع بالثمن وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا يأخذ العبد وما معه بالثمن إن شاء" اعتبارا لحالة الاجتماع بحالة الانفراد وقد بينا الحكم في كل فرد.
"وإذا دخل الحربي دارنا بأمان واشترى عبدا مسلما وأدخله دار الحرب عتق عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا يعتق" لأن الإزالة كانت مستحقة بطريق معين وهو البيع وقد انقطعت ولاية الجبر عليه فبقي في يده عبدا ولأبي حنيفة رحمه الله أن تخليص المسلم عن ذل الكافر واجب فيقام الشرط وهو تباين الدارين مقام العلة وهو الإعتاق تخليصا له كما يقام مضي ثلاث حيض مقام التفريق فيما إذا أسلم أحد الزوجين في دار الحرب.
"وإذا أسلم عبد لحربي ثم خرج إلينا أو ظهر على الدار فهو حر وكذلك إذا خرج عبيدهم إلى عسكر المسلمين فهم أحرار" لما روي أن عبيدا من عبيد الطائف أسلموا وخرجوا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقضى بعتقهم وقال "
هم عتقاء الله" ولأنه أحرز نفسه بالخروج إلينا مراغما لمولاه أو بالالتحاق بمنعة المسلمين إذا ظهر على الدار واعتبار يده أولى من اعتبار يد المسلمين لأنها أسبق ثبوتا على نفسه فالحاجة في حقه إلى زيادة توكيد وفي حقهم إلى إثبات اليد ابتداء فلهذا كان أولى والله أعلم بالصواب.

 

ج / 2 ص -395-       باب المستأمن
"وإذا دخل المسلم دار الحرب تاجرا فلا يحل له أن يتعرض لشيء من أموالهم ولا من دمائهم" لأنه ضمن أن لا يتعرض لهم بالاستئمان فالتعرض بعد ذلك يكون غدرا والغدر حرام إلا إذا غدر بهم ملكهم فأخذ أموالهم أو حبسهم أو فعل غيره بعلم الملك ولم يمنعه لأنهم هم الذين نقضوا العهد بخلاف الأسير لأنه غير مستأمن فيباح له التعرض وإن أطلقوه طوعا "فإن غدر بهم" أعني التاجر "أخذ شيئا وخرج به ملكه ملكا محظورا" لورود الاستيلاء على مال مباح إلا أنه حصل بسبب الغدر فأوجب ذلك خبثا فيه فيؤمر بالتصدق به وهذا لأن الحظر لغيره لا يمنع انعقاد السبب على ما بيناه.
"وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان فأدانه حربي أو أدان هو حربيا أو غصب أحدهما صاحبه ثم خرج إلينا واستأمن الحربي لم يقض لواحد منهما على صاحبه بشيء" أما الإدانة فلأن القضاء يعتمد الولاية ولا ولاية وقت الإدانة أصلا ولا وقت القضاء على المستأمن لأنه ما التزم حكم الإسلام فيما مضى من أفعاله وإنما التزم ذلك في المستقبل وأما الغصب فلأنه صار ملكا للذي غصبه واستولى عليه لمصادفته مالا غير معصوم على ما بيناه وكذلك لو كانا حربيين فعلا ذلك ثم خرجا مستأمنين لما قلنا "ولو خرجا مسلمين قضي بالدين بينهما ولم يقض بالغصب" أما المداينة فلأنها وقعت صحيحة لوقوعها بالتراضي والولاية ثابتة حالة القضاء لالتزامهما الأحكام بالإسلام وأما الغصب فلما بينا أنه ملكه ولا خبث في ملك الحربي حتى يؤمر بالرد.
"وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان فغصب حربيا ثم خرجا مسلمين أمر برد الغصب ولم يقض عليه" أما عدم القضاء فلما بينا أنه ملكه وأما الأمر بالرد ومراده الفتوى به فلأنه فسد الملك لما يقارنه من المحرم وهو نقض العهد.
"وإذا دخل مسلمان دار الحرب بأمان فقتل أحدهما صاحبه عمدا أو خطأ فعلى القاتل الدية في ماله وعليه الكفارة في الخطأ" أما الكفارة فلإطلاق الكتاب وأما الدية فلأن العصمة الثابتة بالإحراز بدار الإسلام لا تبطل بعارض الدخول بالأمان وإنما لا يجب القصاص لأنه لا يمكن استيفاؤه إلا بمنعة ولا منعة بدون الإمام وجماعة المسلمين ولم يوجد ذلك في دار الحرب وإنما تجب الدية في ماله في العمد لأن العواقل لا تعقل العمد وفي الخطأ لأنه لا قدرة لهم على الصيانة مع تباين الدارين والوجوب عليهم على اعتبار تركها "وإن كانا أسيرين فقتل أحدهما صاحبه" أو قتل مسلم تاجر أسيرا "فلا شيء على

 

ج / 2 ص -396-       القاتل لا الكفارة في الخطأ عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا في الأسيرين الدية في الخطأ والعمد" لأن العصمة لا تبطل بعارض الأسر كما لا تبطل بعارض الاستئمان على ما بيناه وامتناع القصاص لعدم المنعة وتجب الدية في ماله لما قلنا ولأبي حنيفة رحمه الله أن بالأسر صار تبعا لهم لصيرورته مقهورا في أيديهم ولهذا يصير مقيما بإقامتهم ومسافرا بسفرهم فيبطل به الإحراز أصلا وصار كالمسلم الذي لم يهاجر إلينا وخص الخطأ بالكفارة لأنه لا كفارة في العمد عندنا والله أعلم بالصواب.

فصل
قال: "وإذا دخل الحربي إلينا مستأمنا لم يمكن أن يقيم في دارنا سنة ويقول له الإمام إن أقمت تمام السنة وضعت عليك الجزية" والأصل أن الحربي لا يمكن من إقامة دائمة في دارنا إلا بالاسترقاق أو الجزية لأنه يصير عينا لهم وعونا علينا فتلتحق المضرة بالمسلمين ويمكن من الإقامة اليسيرة لأن في منعها قطع الميرة والجلب وسد باب التجارة ففصلنا بينهما بسنة لأنها مدة تجب فيها الجزية فتكون الإقامة لمصلحة الجزية ثم إن رجع بعد مقالة الإمام قبل تمام السنة إلى وطنه فلا سبيل عليه وإذا مكث سنة فهو ذمي لأنه لما أقام سنة بعد تقدم الإمام إليه صار ملتزما للجزية فيصير ذميا وللإمام أن يؤقت في ذلك ما دون السنة كالشهر والشهرين "وإذا أقامها بعد مقالة الإمام يصير ذميا" لما قلنا "ثم لا يترك أن يرجع إلى دار الحرب" لأن عقد الذمة لا ينقض كيف وأن فيه قطع الجزية وجعل ولده حربا علينا وفيه مضرة بالمسلمين "فإن دخل الحربي دارنا بأمان فاشترى أرض خراج فإذا وضع عليه الخراج فهو ذمي" لأن خراج الأرض بمنزلة خراج الرأس فإذا التزمه صار ملتزما المقام في دارنا أما بمجرد الشراء فلا يصير ذميا لأنه قد يشتريها للتجارة وإذا لزمه خراج الأرض فبعد ذلك تلزمه الجزية لسنة مستقبلة لأنه يصير ذميا بلزوم الخراج فتعتبر المدة من وقت وجوبه وقوله في الكتاب فإذا وضع عليه الخراج فهو ذمي تصريح بشرط الوضع فيتخرج عليه أحكام جمة فلا تغفل عنه.
"وإذا دخلت حربية بأمان فتزوجت ذميا صارت ذمية" لأنها التزمت المقام تبعا للزوج "وإذا دخل حربي بأمان فتزوج ذمية لم يصر ذميا" لأنه يمكنه أن يطلقها فيرجع إلى بلده فلم يكن ملتزما المقام.
"ولو أن حربيا دخل دارنا بأمان ثم عاد إلى دار الحرب وترك وديعة عند مسلم أو ذمي أو دينا في ذمتهم فقد صار دمه مباحا بالعود" لأنه أبطل أمانه "وما في دار الإسلام من ماله

 

ج / 2 ص -397-       على خطر فإن أسر أو ظهر على الدار فقتل سقطت ديونه وصارت الوديعة فيئا" أما الوديعة فلأنها في يده تقديرا لأن يد المودع كيده فيصير فيئا تبعا لنفسه وأما الدين فلأن إثبات اليد عليه بواسطة المطالبة وقد سقطت ويد من عليه أسبق إليه من يد العامة فيختص به فيسقط "وإن قتل ولم يظهر على الدار فالقرض والوديعة لورثته" وكذلك إذا مات لأن نفسه لم تصر مغنومة فكذلك ماله وهذا لأن حكم الأمان باق في ماله عليه أو على ورثته من بعده.
قال: "وما أوجف المسلمون عليه من أموال أهل الحرب بغير قتال يصرف في مصالح المسلمين كما يصرف الخراج" قالوا هو مثل الأراضي التي أجلوا أهلها عنها والجزية ولا خمس في ذلك وقال الشافعي رحمه الله فيها الخمس اعتبارا بالغنيمة ولنا ما روي
أنه عليه الصلاة والسلام أخذ الجزية وكذا عمر ومعاذ رضي الله عنهما ووضع في بيت المال ولم يخمس ولأنه مال مأخوذ بقوة المسلمين من غير قتال بخلاف الغنيمة لأنه مملوك بمباشرة الغانمين وبقوة المسلمين فاستحق الخمس بمعنى واستحتقه الغانمون بمعنى وفي هذا السبب واحد وهو ما ذكرناه فلا معنى لإيجاب الخمس.
"وإذا دخل الحربي دارنا بأمان وله امرأة في دار الحرب وأولاد صغار وكبار ومال أودع بعضه ذميا وبعضه حربيا وبعضه مسلما فأسلم ههنا ثم ظهر على الدار فذلك كله فيء" أما المرأة وأولاده الكبار فظاهر لأنهم حربيون كبار وليسوا بأتباع وكذلك ما في بطنها لو كانت حاملا لما قلنا من قبل وأما أولاده الصغار فلأن الصغير إنما يصير مسلما تبعا لإسلام أبيه إذا كان في يده وتحت ولايته ومع تباين الدارين لا يتحقق ذلك وكذا أمواله لا تصير محرزة بإحرازه نفسه لاختلاف الدارين فبقي الكل فيئا وغنيمة "وإن أسلم في دار الحرب ثم جاء فظهر على الدار فأولاده الصغار أحرار مسلمون" تبعا لأبيهم لأنهم كانوا تحت ولايته حين أسلم إذ الدار واحدة "وما كان من مال أودعه مسلما أو ذميا فهو له" لأنه في يد محترمة ويده كيده "وما سوى ذلك فيء" أما المرأة وأولاده الكبار فلما قلنا وأما المال الذي في يد الحربي فلأنه لم يصر معصوما لأن يد الحربي ليست يدا محترمة.
"وإذا أسلم الحربي في دار الحرب فقتله مسلم عمدا أو خطأ وله ورثة مسلمون هناك فلا شيء عليه إلا الكفارة في الخطأ" وقال الشافعي رحمه الله تجب الدية في الخطأ والقصاص في العمد لأنه أراق دما معصوما "لوجود العاصم وهو الإسلام" لكونه مستجلبا للكرامة وهذا لأن العصمة أصلها المؤثمة لحصول أصل الزجر بها وهي ثابتة إجماعا والمقومة كمال فيه لكمال الامتناع به فيكون وصفا فيه فتتعلق بما علق به الأصل. ولنا قوله تعالى:
{فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] الآية،

 

ج / 2 ص -398-       جعل التحرير كل الموجب رجوعا إلى حرف الفاء أو إلى كونه كل المذكور فينتفي غيره ولأن العصمة المؤثمة بالآدمية لأن الآدمي خلق متحملا أعباء التكليف والقيام بها بحرمة التعرض والأموال تابعة لها أما المقومة فالأصل فيها الأموال لأن التقوم يؤذن بجبر الفائت وذلك في الأموال دون النفوس لأن من شرطه التماثل وهو في المال دون النفس فكانت النفوس تابعة ثم العصمة المقومة في الأموال بالإحراز بالدار لأن العزة بالمنعة فكذلك في النفوس إلا أن الشرع أسقط اعتبار منعة الكفرة لما أنه أوجب إبطالها والمرتد والمستأمن في دارنا من أهل دارهم حكما لقصدهما الانتقال إليها.
"ومن قتل مسلما خطأ لا ولي له أو قتل حربيا دخل إلينا بأمان فأسلم الدية على عاقلته للإمام وعليه الكفارة" لأنه قتل نفسا معصومة خطأ فتعتبر بسائر النفوس المعصومة ومعنى قوله للإمام أن حق الأخذ له لأنه لا وارث له "وإن كان عمدا فإن شاء الإمام قتله وإن شاء أخذ الدية" لأن النفس معصومة والقتل عمد والولي معلوم وهو العامة أو السلطان قال عليه الصلاة والسلام "
السلطان ولي من لا ولي له" وقوله وإن شاء أخذ الدية معناه بطريق الصلح لأن موجب العمد هو القود عينا وهذا لأن الدية أنفع في هذه المسألة من القود فلهذا كان له ولاية الصلح على المال "وليس له أن يعفو" لأن الحق للعامة وولايته نظرية وليس من النظر إسقاط حقهم من غير عوض والله أعلم بالصواب.

باب العشر والخراج
قال: "أرض العرب كلها أرض عشر وهي ما بين العذيب إلى أقصى حجر باليمن بمهرة إلى حد الشام والسواد أرض خراج وهو ما بين العذيب إلى عقبة حلوان ومن الثعلبية ويقال من العلث إلى عبادان" لأن النبي عليه الصلاة والسلام والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم لم يأخذوا الخراج من أراضي العرب ولأنه بمنزلة الفيء فلا يثبت في أراضيهم كما لا يثبت في رقابهم وهذا لأن وضع الخراج من شرطه أن يقر أهلها على الكفر كما في سواد العراق ومشركو العرب لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف وعمر رضي الله عنه حين فتح السواد وضع الخراج عليها بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ووضع على مصر حين افتتحها عمرو بن العاص وكذا اجتمعت الصحابة رضي الله عنهم على وضع الخراج على الشام.
قال: "وأرض السواد مملوكة لأهلها يجوز بيعهم لها وتصرفهم فيها" لأن الإمام إذا

 

ج / 2 ص -399-       فتح أرضا عنوة وقهرا له أن يقر أهلها عليها ويضع عليها وعلى رءوسهم الخراج فتبقى الأراضي مملوكة لأهلها وقد قدمناه من قبل.
قال: "وكل أرض أسلم أهلها أو فتحت عنوة وقسمت بين الغانمين فهي أرض عشر" لأن الحاجة إلى ابتداء التوظيف على المسلم والعشر أليق به لما فيه من معنى العبادة وكذا هو أخف حيث يتعلق بنفس الخارج.
"وكل أرض فتحت عنوة فأقر أهلها عليها فهي أرض خراج" وكذا إذا صالحهم لأن الحاجة إلى ابتداء التوظيف على الكافر والخراج أليق به ومكة مخصوصة من هذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحها عنوة وتركها لأهلها ولم يوظف الخراج.
"وفي الجامع الصغير كل أرض فتحت عنوة فوصل إليها ماء الأنهار فهي أرض خراج ومالم يصل إليها ماء الأنهار واستخرج منها عين فهي أرض عشر" لأن العشر يتعلق بالأرض النامية ونماؤها بمائها فيعتبر السقي بماء العشر أو بماء الخراج.
قال: "ومن أحيا أرضا مواتا فهي عند أبي يوسف رحمه الله تعالى معتبرة بحيزها فإن كانت من حيز أرض الخراج" ومعناه بقربه "فهي خراجية وإن كانت من حيز أرض العشر فهي عشرية" والبصرة عنده عشرية بإجماع الصحابة رضي الله عنهم لأن حيز الشيء يعطي له حكمه كفناء الدار يعطى له حكم الدار حتى يجوز لصاحبها الانتفاع به وكذا لا يجوز أخذ ما قرب من العامر وكان القياس في البصرة أن تكون خراجية لأنها من حيز أرض الخراج إلا أن الصحابة رضي الله عنهم وظفوا عليها العشر فترك القياس لإجماعهم "وقال محمد رحمه الله إن أحياها ببئر حفرها أو بعين استخرجها أو ماء دجلة أو الفرات أو الأنهار العظام التي لا يملكها أحد فهي عشرية" وكذا إن أحياها بماء السماء "وإن أحياها بماء الأنهار التي احتفرها الأعاجم" مثل نهر الملك ونهر يزدجرد "فهي خراجية" لما ذكرنا من اعتبار الماء إذ هو السبب للنماء ولأنه لا يمكن توظيف الخراج ابتداء على المسلم كرها فيعتبر في ذلك الماء لأن السقي بماء الخراج دلالة التزامية.
قال: "والخراج الذي وضعه عمر رضي الله عنه على أهل السواد من كل جريب يبلغه الماء قفيز هاشمي وهو الصاع ودرهم ومن جريب الرطبة خمسة دراهم ومن جريب الكرم المتصل والنخيل المتصل عشرة دراهم" وهذا هو المنقول عن عمر رضي الله عنه فإنه بعث عثمان بن حنيف حتى يمسح سواد العراق وجعل حذيفة مشرفا عليه فمسح فبلغ ستا وثلاثين ألف ألف جريب ووضع على ذلك ما قلنا وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي

 

ج / 2 ص -400-       الله عنهم من غير نكير فكان إجماعا منهم ولأن المؤن متفاوتة فالكرم أخفها مؤنة والمزارع أكثرها مؤنة والرطاب بينهما والوظيفة تتفاوت بتفاوتها فجعل الواجب في الكرم أعلاها وفي الزرع أدناها وفي الرطبة أوسطها.
قال: "وما سوى ذلك من الأصناف كالزعفران والبستان وغيره يوضع عليها بحسب الطاقة" لأنه ليس فيه توظيف عمر رضي الله عنه وقد اعتبر الطاقة في ذلك فنعتبرها فيما لا توظيف فيه قالوا ونهاية الطاقة أن يبلغ الواجب نصف الخارج لا يزاد عليه لأن التنصيف عين الإنصاف لما كان لنا أن نقسم الكل بين الغانمين والبستان كل أرض يحوطها حائط وفيها نخيل متفرقة وأشجار أخر وفي ديارنا وظفوا من الدراهم في الأراضي كلها وترك كذلك لأن التقدير يجب أن يكون بقدر الطاقة من أي شيء كان.
قال: "فإن لم تطق ما وضع عليها نقصهم الإمام" والنقصان عند قلة الريع جائز بالإجماع ألا ترى إلى قول عمر رضي الله عنه لعلكما حملتما الأرض مالا تطيق فقالا لا بل حملناها ما تطيق ولو زدنا لأطاقت وهذا يدل على جواز النقصان.
وأما الزيادة عند زيادة الريع يجوز عند محمد رحمه الله اعتبارا بالنقصان وعند أبي يوسف رحمه الله لا يجوز لأن عمر رضي الله عنه لم يزد حين أخبر بزيادة الطاقة "وإن غلب على أرض الخراج الماء أو انقطع الماء عنها أو اصطلم الزرع آفة فلا خراج عليه" لأنه فات التمكن من الزراعة وهو النماء التقديري المعتبر في الخراج وفيما إذا اصطلم الزرع آفة فات النماء بالتقديري في بعض الحول وكونه ناميا في جميع الحول شرط كما في مال الزكاة أو يدار الحكم على الحقيقة عند خروج الخارج.
قال: "وإن عطلها صاحبها فعليه الخراج" لأن التمكن كان ثابتا وهو الذي فوته.
قالوا: من انتقل إلى أخس الأمرين من غير عذر فعليه خراج الأعلى لأنه هو الذي ضيع الزيادة وهذا يعرف ولا يفتى به كيلا يتجرأ الظلمة على أخذ أموال الناس "ومن أسلم من أهل الخراج أخذ منه الخراج على حاله" لأن فيه معنى المؤنة فيعتبر مؤنة في حالة البقاء فأمكن إبقاؤه على المسلم "ويجوز أن يشتري المسلم أرض الخراج من الذمي ويؤخذ منه الخراج" لما قلنا وقد صح أن الصحابة رضي الله عنهم اشتروا أراضي الخراج وكانوا يؤدون خراجها فدل على جواز الشراء وأخذ الخراج وأدائه للمسلم عن غير كراهة "ولا عشر في الخارج من أرض الخراج" وقال الشافعي رحمه الله يجمع بينهما لأنهما حقان مختلفان وجبا في محلين بسببين مختلفين فلا يتنافيان ولنا قوله عليه الصلاة والسلام "
لا يجتمع

 

 

ج / 2 ص -401-       عشر وخراج في أرض مسلم" ولأن أحدا من أئمة العدل والجور لم يجمع بينهما وكفى بإجماعهم حجة ولأن الخراج يجب في أرض فتحت عنوة وقهرا والعشر في أرض أسلم أهلها طوعا والوصفان لا يجتمعان في ارض واحدة وسبب الحقين واحد وهو الأرض النامية إلا أنه يعتبر في العشر تحقيقا وفي الخراج تقديرا ولهذا يضافان إلى الأرض وعلى هذا الخلاف الزكاة مع أحدهما "ولا يتكرر الخراج بتكرر الخارج في سنة" لأن عمر رضي الله عنه لم يوظفه مكررا بخلاف العشر لأنه لا يتحقق عشرا إلا بوجوبه في كل خارج والله أعلم بالصواب.

باب الجزية
"وهي على ضربين جزية توضع بالتراضي والصلح فتتقدر بحسب ما يقع عليه الاتفاق" كما صالح رسول الله عليه الصلاة والسلام أهل نجران على ألف ومائتي حلة ولأن الموجب هو التراضي فلا يجوز التعدي إلى غير ما وقع عليه الاتفاق "وجزية يبتدئ الإمام وضعها إذا غلب الإمام على الكفار وأقرهم على أملاكهم فيضع على الغني للظاهر الغني في كل سنة ثمانية وأربعين درهما يأخذ منهم في كل شهر أربعة دراهم وعلى وسط الحال أربعة وعشرين درهما في كل شهر درهمين وعلى الفقير المعتمل اثني عشر درهما في كل شهر درهما" وهذا عندنا وقال الشافعي رحمه الله يضع على كل حالم دينارا أو ما يعدل الدينار الغني والفقير في ذلك سواء لقوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ رضي الله عنه "
خذ من كل حالم وحالمة دينارا أو عدله معافر من غير فصل" ولأن الجزية إنما وجبت بدلا عن القتل حتى لا تجب على من لا يجوز قتله بسبب الكفر كالذراري والنسوان وهذا المعنى ينتظم الفقير والغني ومذهبنا منقول عن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ولم ينكر عليهم أحد من المهاجرين والأنصار ولأنه وجب نصرة للمقاتلة فتجب على التفاوت بمنزلة خراج الأرض وهذا لأنه وجب بدلا عن النصرة بالنفس والمال وذلك يتفاوت بكثرة الوفر وقلته فكذا ما هو بدله وما رواه محمول على أنه كان ذلك صلحا ولهذا أمره بالأخذ من الحالمة وإن كانت لا يؤخذ منها الجزية.
قال: "وتوضع الجزية على أهل الكتاب والمجوس" لقوله تعالى:
{مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] الآية ووضع رسول الله عليه الصلاة والسلام الجزية على المجوس.
قال: "وعبدة الأوثان من العجم" وفيه خلاف الشافعي رحمه الله هو يقول إن القتال

 

ج / 2 ص -402-       واجب لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ} [البقرة: 193] إلا أنا عرفنا جواز تركه في حق أهل الكتاب بالكتاب وفي حق المجوس بالخبر فبقي من وراءهم على الأصل ولنا أنه يجوز استرقاقهم فيجوز ضرب الجزية عليهم إذ كل واحد منهما يشتمل على سلب النفس منهم فإنه يكتسب ويؤدى إلى المسلمين ونفقته في كسبه "وإن ظهر عليهم قبل ذلك فهم ونساؤهم وصبيانهم فيء" لجواز استرقاقهم.
"ولا توضع على عبدة الأوثان من العرب ولا المرتدين" لأن كفرهما قد تغلظ أما مشركو العرب فلأن النبي عليه الصلاة والسلام نشأ بين أظهرهم والقرآن نزل بلغتهم فالمعجزة في حقهم أظهر وأما المرتد فلأنه كفر بربه بعد ما هدى للإسلام ووقف على محاسنه فلا يقبل من الفريقين إلا الإسلام أو السيف زيادة في العقوبة وعند الشافعي رحمه الله يسترق مشركو العرب وجوابه ما قلنا.
"وإذا ظهر عليهم فنساؤهم وصبيانهم فيء" لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه استرق نسوان بني حنيفة وصبيانهم لما ارتدوا وقسمهم بين الغانمين "ومن لم يسلم من رجالهم قتل" لما ذكرنا.
"ولا جزية على امرأة ولا صبي" لأنها وجبت بدلا عن القتل أو عن القتال وهما لا يقتلان ولا يقاتلان لعدم الأهلية.
قال: "ولا زمن ولا أعمى" وكذا المفلوج والشيخ الكبير لما بينا وعن أبي يوسف رحمه الله أنه تجب إذا كان له مال لأنه يقتل في الجملة إذا كان له رأي "ولا على فقير غير معتمل" خلافا للشافعي رحمه الله له إطلاق حديث معاذ رضي الله عنه ولنا أن عثمان رضي الله عنه لم يوظفها على فقير غير معتمل وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ولأن خراج الأرض لا يوظف على أرض لا طاقة لها فكذا هذا الخراج والحديث محمول على المعتمل.
"ولا توضع على المملوك والمكاتب والمدبر وأم الولد" لأنه بدل عن القتل في حقهم وعن النصرة في حقنا وعلى اعتبار الثاني لا تجب فلا تجب بالشك "ولا يؤدى عنهم مواليهم" لأنهم تحملوا الزيادة بسببهم "ولا توضع على الرهبان الذين لا يخالطون الناس" كذا ذكر ههنا وذكر محمد عن أبي حنيفة رحمهم الله أنه يوضع عليهم إذا كانوا يقدرون على العمل وهو قول أبي يوسف رحمه الله وجه الوضع عليهم أن القدرة على العمل هو الذي ضيعها فصار كتعطيل الأرض الخراجية ووجه الوضع عنهم أنه لا قتل عليهم إذا كانوا

 

ج / 2 ص -403-       لا يخالطون الناس والجزية في حقهم لإسقاط القتل ولا بد أن يكون المعتمل صحيحا ويكتفى بصحته في أكثر السنة.
"ومن أسلم وعليه جزية سقطت عنه" وكذلك إذا مات كافرا خلافا للشافعي رحمه الله فيهما له أنها وجبت بدلا عن العصمة أو عن السكنى وقد وصل إليه المعوض فلا يسقط عنه العوض بهذا العارض كما في الأجرة والصلح عن دم العمد ولنا قوله عليه الصلاة والسلام "
ليس على مسلم جزية" ولأنها وجبت عقوبة على الكفر ولهذا تسمى جزية وهي والجزاء واحد وعقوبة الكفر تسقط بالإسلام ولا تقام بعد ا لموت ولأن شرع العقوبة في الدنيا لا يكون إلا لدفع لاشر وقد اندفع بالموت والإسلام ولأنها وجبت بدلا عن النصرة في حقنا وقد قدر عليها بنفسه بعد الإسلام والعصمة تثبت بكونه آدميا والذمي يسكن ملك نفسه فلا معنى لإيجاب بدل العصمة والسكنى "وإن اجتمعت عليه الحولان تداخلت وفي الجامع الصغير ومن لم يؤخذ منه خراج رأسه حتى مضت السنة وجاءت سنة أخرى لم يؤخذ" وهذا عند أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يؤخذ منه وهو قول الشافعي رحمه الله.
"وإن مات عند تمام السنة لم يؤخذ منه في قولهم جميعا وكذلك إن مات في بعض السنة".
أما مسألة الموت فقد ذكرناها وقيل خراج الأرض على هذا الخلاف وقيل لا تداخل فيه بالاتفاق لهما في الخلافية أن الخراج وجب عوضا والأعواض إذا اجتمعت وأمكن استيفاؤها تستوفى وقد أمكن فيما نحن فيه بعد توالي السنين بخلاف ما إذا أسلم لأنه تعذر استيفاؤه.
ولأبي حنيفة رحمه الله أنها وجبت عقوبة على الإصرار على الكفر على ما بيناه ولهذا لا تقبل منه لو بعث على يد نائبه في أصح الروايات بل يكلف أن يأتي به بنفسه فيعطي قائما والقابض منه قاعد وفي رواية يأخذ بتلبيبه ويهزه هزا ويقول أعط الجزية يا ذمي فثبت أنه عقوبة والعقوبات إذا اجتمعت تداخلت كالحدود ولأنها وجبت بدلا عن القتل في حقهم وعن النصرة في حقنا كما ذكرنا لكن في المستقبل لا في الماضي لأن القتل إنما يستوفى لحراب قائم في الحال لا لحراب ماض وكذا النصرة في المستقبل لأن الماضي وقعت الغنية عنه ثم قول محمد رحمه الله في الجزية في الجامع الصغير وجاءت سنة أخرى حمله بعض المشايخ رحمهم الله على المضي مجازا وقال الوجوب بآخر السنة فلا بد من المضي

 

ج / 2 ص -404-       ليتحقق الاجتماع فتتداخل وعند البعض هو مجرى على حقيقته والوجوب عند أبي حنيفة رحمه الله بأول الحول فيتحقق الاجتماع بمجرد المجيء والأصح أن الوجوب عندنا في ابتداء الحول وعند الشافعي رحمه الله في آخر اعتبارا بالزكاة.
ولنا أن ما وجب بدلا عنه لا يتحقق إلا في المستقبل على ما قررناه فتعذر إيجابه بعد مضي الحول فأوجبناه في أوله والله أعلم بالصواب.

فصل
"ولا يجوز إحداث بيعة ولا كنيسة في دار الإسلام" لقوله عليه الصلاة والسلام "لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة" والمراد إحداثها "وإن انهدمت البيع والكنائس القديمة أعادوها" لأن الأبنية لا تبقى دائما ولما أقرهم الإمام فقد عهد إليهم الإعادة إلا أنهم لا يمكنون من نقلها لأنه إحداث في الحقيقة والصومعة للتخلي فيها بمنزلة البيعة بخلاف موضع الصلاة في البيت لأنه تبع للسكنى وهذا في الأمصار دون القرى لأن الأمصار هي التي تقام فيها الشعائر فلا تعارض بإظهار ما يخالفها وقيل في ديارنا يمنعون من ذلك في القرى أيضا لأن فيها بعض الشعائر والمروي عن صاحب المذهب في قرى الكوفة لأن أكثر أهلها أهل الذمة وفي أرض العرب يمنعون من ذلك في أمصارها وقراها لقوله عليه الصلاة والسلام "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب".
قال: "ويؤخذ أهل الذمة بالتميز عن المسلمين في زيهم ومراكبهم وسروجهم وقلانسهم فلا يركبون الخيل ولا يعملون بالسلاح وفي الجامع الصغير ويؤخذ أهل الذمة بإظهار الكستيجات والركوب على السروج التي هي كهيئة الأكف" وإنما يؤخذون بذلك إظهارا للصغار عليهم وصيانة لضعفة المسلمين ولأن المسلم يكرم والذمي يهان ولا يبتدأ بالسلام ويضيق عليه الطريق فلو لم تكن علامة مميزة فلعله يعامل معاملة المسلمين وذلك لا يجوز والعلامة يجب أن تكون خيطا غليظا من الصوف يشده على وسطه دون الزنار من الإبريسم فإنه جفاء في حق أهل الإسلام ويجب أن يتميز نساؤهم عن نسائنا في الطرقات والحمامات ويجعل على دورهم علامات كيلا يقف عليها سائل يدعو لهم بالمغفرة قالوا الأحق أن لا يتركوا أن يركبوا إلا للضرورة وإذا ركبوا للضرورة فلينزلوا في مجامع المسلمين فإن لزمت الضرورة اتخذوا سروجا بالصفة التي تقدمت ويمنعون من لباس يختص به أهل العلم والزهد والشرف.
"ومن امتنع من الجزية أو قتل مسلما أو سب النبي عليه الصلاة والسلام أو زنى

 

ج / 2 ص -405-       بمسلمة لم ينتقض عهده" لأن الغاية التي ينتهي بها القتال التزام الجزية لا أداؤها والالتزام باق وقال الشافعي رحمه الله سب النبي عليه الصلاة والسلام يكون نقضا لأنه لو كان مسلما ينقض إيمانه فكذا ينقض أمانه إذ عقد الذمة خلف عنه ولنا أن سب النبي عليه الصلاة والسلام كفر منه والكفر المقارن لا يمنعه فالطارئ لا يرفعه قال "ولا ينقض العهد إلا أن يلتحق بدار الحرب أو يغلبوا على موضع فيحاربوننا" لأنهم صاروا حربا علينا فيعرى عقد الذمة عن الفائدة وهو دفع شر الحراب.
"وإذا نقض الذمي العهد فهو بمنزلة المرتد" معناه في الحكم بموته باللحاق لأنه التحق بالأموات وكذا في حكم ما حمله من ماله إلا أنه لو أسر يسترق بخلاف المرتد والله أعلم بالصواب.

فصل
"ونصارى بني تغلب يؤخذ من أموالهم ضعف ما يؤخذ من المسلمين من الزكاة" لأن عمر رضي الله عنه صالحهم على ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم "ويؤخذ من نسائهم ولا يؤخذ من صبيانهم" لأن الصلح وقع على الصدقة المضاعفة والصدقة تجب عليهن دون الصبيان فكذا المضاعف وقال زفر رحمه الله لا يؤخذ من نسائهم أيضا وهو قول الشافعي رحمه الله لأنه جزية في الحقيقة على ما قال عمر رضي الله عنه هذه جزية فسموها ما شئتم ولهذا تصرف مصارف الجزية ولا جزية على النسوان ولنا أنه مال وجب بالصلح والمرأة من أهل وجوب مثله عليها والمصرف مصالح المسلمين لأنه مال بيت المال وذلك لا يختص بالجزية ألا ترى أنه لا يراعى فيه شرائطها "ويوضع على مولى التغلبي الخراج" أي الجزية "وخراج الأرض بمنزلة مولى القرشي" وقال زفر رحمه الله يضاعف لقوله عليه الصلاة والسلام "
إن مولى القوم منهم" ألا ترى أن مولى الهاشمي يلحق في حق حرمة الصدقة ولنا أن هذا تخفيف والمولى لا يلحق بالأصل فيه ولهذا توضع الجزية على مولى المسلم إذا كان نصرانيا بخلاف حرمة الصدقة لأن الحرمات تثبت بالشبهات فألحق المولى بالهاشمي في حقه ولا يلزم مولى الغني حيث لا تحرم عليه الصدقة لأن الغني من أهلها وإنما الغني مانع ولم يوجد في حق المولى أما الهاشمي فليس بأهل لهذه الصلة أصلا لأنه صين لشرفه وكرامته عن أوساخ الناس فألحق به مولاه.
قال: "وما جباه الإمام من الخراج ومن أموال بني تغلب وما أهداه أهل الحرب إلى الإمام والجزية يصرف في مصالح المسلمين كسد الثغور وبناء القناطر إلا الجسور ويعطى

 

ج / 2 ص -406-       قضاة المسلمين وعمالهم وعلماؤهم منه ما يكفيهم ويدفع منه أرزاق المقاتلة وذراريهم" لأنه مال بيت المال فإنه وصل إلى المسلمين من غير قتال وهو معد لمصالح المسلمين وهؤلاء عملتهم ونفقة الذراري على الآباء فلو لم يعطوا كفايتهم لاحتاجوا إلى الاكتساب فلا يتفرغون للقتال.
"ومن مات في نصف السنة فلا شيء له من العطاء" لأنه نوع صلة وليس بدين ولهذا سمي عطاء فلا يملك قبل القبض ويسقط بالموت وأهل العطاء في زماننا مثل القاضي والمدرس والمفتي والله أعلم.

باب أحكام المرتدين
قال: "وإذا ارتد المسلم عن الإسلام والعياذ بالله عرض عليه الإسلام فإن كانت له شبهة كشفت عنه" لأنه عساه اعترته شبهة فتزاح وفيه دفع شره بأحسن الأمرين إلا أن العرض على ما قالوا غير واجب لأن الدعوة بلغته.
قال: "ويحبس ثلاثة أيام فإن أسلم وإلا قتل وفي الجامع الصغير المرتد يعرض عليه الإسلام حرا كان أو عبدا فإن أبى قتل" وتأويل الأول أنه يستمهل فيمهل ثلاثة أيام لأنها مدة ضربت لإبلاء الأعذار وعن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أنه يستحب أن يؤجله ثلاثة أيام طلب ذلك أو لم يطلب وعن الشافعي رحمه الله أن على الإمام أن يؤجله ثلاثة أيام ولا يحل له أن يقتله قبل ذلك لأن ارتداد المسلم يكون عن شبهة ظاهرا فلا بد من مدة يمكنه التأمل فقدرناها بالثلاثة ولنا قوله تعالى:
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] من غير قيد الإمهال وكذا قوله عليه الصلاة والسلام "من بدل دينه فاقتلوه" ولأنه كافر حربي بلغته الدعوة فيقتل للحال من غير استمهال وهذا لأنه لا يجوز تأخير الواجب لأمر موهوم ولا فرق بين الحر والعبد لإطلاق الدلائل وكيفية توبته أن يتبرأ عن الأديان كلها سوى الإسلام لأنه لا دين له ولو تبرأ عما انتقل إليه كفاه لحصول المقصود قال "فإن قتله قاتل قبل عرض الإسلام عليه كره ولا شيء على القاتل" ومعنى الكراهية ههنا ترك المستحب وانتفاء الضمان لأن الكفر مبيح للقتل والعرض بعد بلوغ الدعوة غير واجب.
"وأما المرتدة فلا تقتل" وقال الشافعي رحمه الله تقتل لما روينا ولأن ردة الرجل مبيحة للقتل من حيث إنه جناية مغلظة فتناط بها عقوبة مغلظة وردة المرأة تشاركها فيها فتشاركها في موجبها ولنا أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن قتل النساء ولأن الأصل تأخير الجزية إلى دار الآخرة إذ تعجيلها يخل بمعنى الابتلاء وإنما عدل عنه دفعا لشر

 

ج / 2 ص -407-       ناجز وهو الحراب ولا يتوجه ذلك من النساء لعدم صلاحية البنية بخلاف الرجال فصارت المرتدة كالأصلية قال "ولكن تحبس حتى تسلم" لأنها امتنعت عن إيفاء حق الله تعالى بعد الإقرار فتجبر على إيفائه بالحبس كما في حقوق العباد.
"وفي الجامع الصغير وتجبر المرأة على الإسلام حرة كانت أو أمة والأمة يجبرها مولاها" أما الجبر فلما ذكرنا ومن المولى لما فيه من الجمع بين الحقين ويروى تضرب في كل أيام مبالغة في الحمل على الإسلام.
قال: "ويزول ملك المرتد عن أمواله بردته زوالا مراعى فإن أسلم عادت إلى حالها قالوا هذا عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما لا يزول ملكه" لأنه مكلف محتاج فإلى أن يقتل يبقى ملكه كالمحكوم عليه بالرجم والقصاص وله أنه حربي مقهور تحت أيدينا حتى يقتل ولا قتل إلا بالحراب وهذا يوجب زوال ملكه ومالكيته غير أنه مدعو إلى الإسلام بالإجبار عليه ويرجى عوده إليه فتوقفنا في أمره فإن أسلم جعل العارض كأن لم يكن في حق هذا الحكم وصار كأن لم يزل مسلما ولم يعمل السبب وإن مات أو قتل على ردته أو لحق بدار الحرب وحكم بلحاقه استقر كفره فيعمل السبب عمله وزال ملكه.
قال: "وإن مات أو قتل على ردته انتقل ما اكتسبه في إسلامه إلى ورثته المسلمين وكان ما اكتسبه في حال ردته فيئا" وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله "وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله كلاهما لورثته" وقال الشافعي رحمه الله كلاهما فيء لأنه مات كافرا والمسلم لا يرث الكافر ثم هو مال حربي لا أمان له فيكون فيئا ولهما أن ملكه في الكسبين بعد الردة باق على ما بيناه فينتقل بموته إلى ورثته ويستند إلى ما قبيل ردته إذ الردة سبب الموت فيكون توريث المسلم من المسلم ولأبي حنيفة رحمه الله أنه يمكن الاستناد في كسب الإسلام لوجوده قبل الردة ولا يمكن الاستناد في كسب الردة لعدمه قبلها ومن شرطه وجوده ثم إنما يرثه من كان وارثا له حالة الردة وبقي وارثا إلى وقت موته في رواية عن أبي حنيفة رحمه الله اعتبارا للاستناد وعنه أنه يرثه من كان وارثا له عند الردة ولا يبطل استحقاقه بموته بل يخلفه وارثه لأن الردة بمنزلة الموت وعنه أنه يعتبر وجود الوارث عند الموت لأن الحادث بعد انعقاد السبب قبل تمامه كالحادث قبل انعقاده بمنزلة الولد الحادث من المبيع قبل القبض وترثه امرأته المسلمة إذا مات أو قتل على ردته وهي في العدة لأنه يصير فارا وإن كان صحيحا وقت الردة والمرتدة كسبها لورثتها لأنه لا حراب منها فلم يوجد سبب الفيء بخلاف المرتد عند أبي حنيفة رحمه الله ويرثها زوجها المسلم إن ارتدت،

 

ج / 2 ص -408-       وهي مريضة لقصدها إبطال حقه وإن كانت صحيحة لا يرثها لأنها لا تقتل فلم يتعلق حقه بمالها بالردة بخلاف المرتد.
قال: "وإن لحق بدار الحرب مرتدا وحكم الحاكم بلحاقه عتق مدبروه وأمهات أولاده وحلت الديون التي عليه ونقل ما اكتسبه في حال الإسلام إلى ورثته من المسلمين" وقال الشافعي رحمه الله يبقى ماله موقوفا كما كان لأنه نوع غيبة فأشبه الغيبة في دار الإسلام ولنا أنه باللحاق صار من أهل الحرب وهم أموات في حق أحكام الإسلام لانقطاع ولاية الإلزام كما هي منقطعة عن الموتى فصار كالموت إلا أنه لا يستقر لحاقه إلا بقضاء القاضي لاحتمال العود إلينا فلا بد من القضاء وإذا تقرر موته ثبتت الأحكام المتعلقة به وهي ما ذكرناها كما في الموت الحقيقي ثم يعتبر كونه وارثا عند لحاقه في قول محمد رحمه الله لأن اللحاق هو السبب والقضاء لتقرره بقطع الاحتمال وقال أبو يوسف رحمه الله وقت القضاء لأنه يصير موتا بالقضاء والمرتدة إذا لحقت بدار الحرب فهي على هذا الخلاف "وتقضى الديون التي لزمته في حال الإسلام مما اكتسبه في حال الإسلام وما لزمه في حال ردته من الديون يقضى مما اكتسبه في حال ردته" قال العبد الضعيف عصمه الله هذه رواية عن أبي حنيفة رحمه الله وعنه أنه يبدأ بكسب الإسلام وإن لم يف بذلك يقضى من كسب الردة وعنه على عكسه وجه الأول أن المستحق بالسببين مختلف وحصول كل واحد من الكسبين باعتبار السبب الذي وجب به الدين فيقضى كل دين من الكسب المكتسب في تلك الحالة ليكون الغرم بالغنم وجه الثاني أن كسب الإسلام ملكه حتى يخلفه الوارث فيه ومن شرط هذه الخلافة الفراغ عن حق المورث فيقدم الدين عليه أما كسب الردة فليس بمملوك له لبطلان أهلية الملك بالردة عنده فلا يقضى دينه منه إلا إذا تعذر قضاؤه من محل آخر فحينئذ يقضى منه كالذمي إذا مات ولا وارث له يكون ماله لجماعة المسلمين ولو كان عليه دين يقضى منه كذلك ههنا وجه الثالث أن كسب الإسلام حق الورثة وكسب الردة خالص حقه فكان قضاء الدين منه أولى إلا إذا تعذر بأن لم يف به فحينئذ يقضى من كسب الإسلام تقديما لحقه وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تقضى ديونه من الكسبين لأنهما جميعا ملكه حتى يجري الإرث فيهما والله أعلم.
قال: "وما باعه أو اشتراه أو أعتقه أو وهبه أو رهنه أو تصرف فيه من أمواله في حال ردته فهو موقوف فإن أسلم صحت عقوده وإن مات أو قتل أو لحق بدار الحرب بطلت" وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد يجوز ما صنع في الوجهين.
اعلم أن تصرفات المرتد على أقسام:

 

ج / 2 ص -409-       نافذ بالاتفاق كالاستيلاد والطلاق لأنه لا يفتقر إلى حقيقة الملك وتمام الولاية.
وباطل بالاتفاق: كالنكاح والذبيحة لأنه يعتمد الملة ولا ملة له.
وموقوف بالاتفاق: كالمفاوضة لأنها تعتمد المساواة ولا مساواة بين المسلم والمرتد مالم يسلم.
ومختلف في توقفه وهو ما عددناه لهما أن الصحة تعتمد الأهلية والنفاذ يعتمد الملك ولا خفاء في وجود الأهلية لكونه مخاطبا وكذا الملك لقيامه قبل موته على ما قررناه من قبل ولهذا لو ولد له ولد بعد الردة لستة أشهر من امرأة مسلمة يرثه ولو مات ولده بعد الردة قبل الموت لا يرثه فيصح تصرفاته قبل المدة إلا أن عند أبي يوسف رحمه الله تصح كما تصح من الصحيح لأن الظاهر عوده إلى الإسلام إذ الشبهة تزاح فلا يقتل وصار كالمرتدة وعند محمد رحمه الله تصح كما تصح من المريض لأن من انتحل إلى نحلة لا سيما معرضا عما نشأ عليه قلما يتركه فيفضي إلى القتل ظاهرا بخلاف المرتدة لأنها لا تقتل ولأبي حنيفة رحمه الله أنه حربي مقهور تحت أيدينا على ما قررناه في توقف الملك وتوقف التصرفات بناء عليه وصار كالحربي يدخل دارنا بغير أمان فيؤخذ ويقهر وتتوقف تصرفاته لتوقف حاله فكذا المرتد واستحقاقه القتل لبطلان سبب العصمة في الفصلين فأوجب خللا في الأهلية بخلاف الزاني وقاتل العمد لأن الاستحقاق في ذلك جزاء على الجناية وبخلاف المرأة لأنها ليست حربية ولهذا لا تقتل "فإن عاد المرتد بعد الحكم بلحاقه بدار الحرب إلى دار الإسلام مسلما فما وجده في يد ورثته من ماله بعينه أخذه" لأن الوارث إنما يخلفه فيه لاستغنائه وإذا عاد مسلما احتاج إليه فيقدم عليه بخلاف ما إذا أزاله الوارث عن ملكه وبخلاف أمهات أولاده ومدبريه لأن القضاء قد صح بدليل مصحح فلا ينقض ولو جاء مسلما قبل أن يقضي القاضي بذلك فكأنه لم يزل مسلما لما ذكرنا.
"وإذا وطئ المرتد جارية نصرانية كانت له في حالة الإسلام فجاءت بولد لأكثر من ستة أشهر منذ ارتد فادعاه فهي أم ولد له والولد حر وهو ابنه ولا يرثه وإن كانت الجارية مسلمة ورثه الابن إن مات على الردة أو لحق بدار الحرب" أما صحة الاستيلاد فلما قلنا وأما الإرث فلأن الأم إذا كانت نصرانية والولد تبع له لقربه إلى الإسلام للجبر عليه فصار في حكم المرتد والمرتد لا يرث المرتد أما إذا كانت مسلمة فالولد مسلم تبعا لها لأنها خيرهما دينا والمسلم يرث المرتد "وإذا لحق المرتد بماله بدار الحرب ثم ظهر على ذلك المال فهو فيء فإن لحق ثم رجع وأخذ مالا وألحقه بدار الحرب فظهر على ذلك المال

 

ج / 2 ص -410-       فوجدته الورثة قبل القسمة رد عليهم" لأن الأول مال لم يجر فيه الإرث والثاني انتقل إلى الورثة بقضاء القاضي بلحاقه فكان الوارث مالكا قديما.
"وإذا لحق المرتد بدار الحرب وله عبد فقضى به لابنه وكاتبه الابن ثم جاء المرتد مسلما فالكتابة جائزة والمكاتبة والولاء للمرتد الذي أسلم" لأنه لا وجه إلى بطلان الكتابة لنفوذها بدليل منفذ فجعلنا الوارث الذي هو خلفه كالوكيل من جهته وحقوق العقد فيه ترجع إلى الموكل والولاء لمن يقع العتق عنه.
"وإذا قتل المرتد رجلا خطأ ثم لحق بدار الحرب أو قتل على ردته فالدية في مال اكتسبه في حال الإسلام خاصة عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا الدية فيما اكتسبه في حالة الإسلام والردة جميعا" لأن العواقل لا تعقل المرتد لانعدام النصرة فتكون في ماله وعندهما الكسبان جميعا ماله لنفوذ تصرفاته في الحالين ولهذا يجري الإرث فيهما عندهما وعنده ماله المكتسب في الإسلام لنفاذ تصرفه فيه دون المكسوب في الردة لتوقف تصرفه ولهذا كان الأولى ميراثا عنه والثاني فيئا عنده.
"وإذا قطعت يد المسلم عمدا فارتد والعياذ بالله ثم مات على ردته من ذلك أو لحق بدار الحرب ثم جاء مسلما فمات من ذلك فعلى القاطع نصف الدية في ماله للورثة" أما الأول فلأن السراية حلت محلا غير معصوم فأهدرت بخلاف ما إذا قطعت يد المرتد ثم أسلم فمات من ذلك لأن الإهدار لا يحلقه الاعتبار أما المعتبر فقد يهدر بالإبراء فكذا بالردة وأما الثاني وهو ما إذا لحق ومعناه إذا قضى بلحاقه فلأنه صار ميتا تقديرا والموت يقطع السراية وإسلامه حياة حادثة في التقدير فلا يعود حكم الجناية الأولى فإذا لم يقض القاضي بلحاقه فهو على الخلاف الذي نبينه إن شاء الله تعالى قال "فإن لم يلحق وأسلم ثم مات فعليه الدية كاملة" وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد وزفر في جميع ذلك نصف الدية لأن اعتراض الردة أهدر السراية فلا ينقلب بالإسلام إلى الضمان كما إذا قطع يد مرتد فأسلم ولهما أن الجناية وردت على محل معصوم وتمت فيه فيجب ضمان النفس كما إذا لم تتخلل الردة وهذا لأنه لا معتبر بقيام العصمة في حال بقاء الجناية وإنما المعتبر قيامها في حال انعقاد السبب وفي حال ثبوت الحكم وحالة البقاء بمعزل من ذلك كله وصار كقيام الملك في حال بقاء اليمين.
"وإذا ارتد المكاتب ولحق بدار الحرب واكتسب مالا فأخذ بماله وأبى أن يسلم فقتل فإنه يوفي مولاه مكاتبته وما بقي فلورثته" وهذا ظاهر على أصلهما لأن كسب الردة ملكه إذا

 

ج / 2 ص -411-       كان حرا فكذا إذا كان مكاتبا وأما عند أبي حنيفة فلأن المكاتب إنما يملك أكسابه بالكتابة والكتابة لا تتوقف بالردة فكذا أكسابه ألا ترى أنه لا يتوقف تصرفه بالأقوى وهو الرق فكذا بالأدنى بطريق الأولى.
"وإذا ارتد الرجل وامرأته والعياذ بالله ولحقا بدار الحرب فحبلت المرأة في دار الحرب وولدت ولدا وولد لولدهما ولد فظهر عليهم جميعا فالولدان فيء" لأن المرتدة تسترق فيتبعها ولدها ويجبر الولد الأول على الإسلام ولا يجبر ولد الولد وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه يجبر تبعا للجد وأصله التبعية في الإسلام وهي رابعة أربع مسائل كلها على الروايتين والثانية صدقة الفطر والثالثة جر الولاء والأخرى الوصية بالقرابة.
قال: "وارتداد الصبي الذي يعقل ارتداد عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ويجبر على الإسلام ولا يقتل وإسلامه إسلام لا يرث أبويه إن كانا كافرين وقال أبو يوسف ارتداده ليس بارتداد وإسلامه إسلام" وقال زفر والشافعي رحمهما الله إسلامه ليس بإسلام وارتداده ليس بارتداد لهما في الإسلام أنه تبع لأبويه فيه فلا يجعل أصلا ولأنه يلزمه أحكاما تشوبها المضرة فلا يؤهل له ولنا فيه أن عليا رضي الله عنه أسلم في صباه وصحح النبي عليه الصلاة والسلام إسلامه وافتخاره بذلك مشهور ولأنه أتى بحقيقة الإسلام وهي التصديق والإقرار معه لأن الإقرار عن طوع دليل على الاعتقاد على ما عرف والحقائق لا ترد وما يتعلق به سعادة أبدية ونجاة عقباوية وهي من أجل المنافع وهو الحكم الأصلي ثم يبتنى عليه غيرها فلا يبالي بشوبه ولهم في الردة أنها مضرة محضة بخلاف الإسلام على أصل أبي يوسف رحمه الله لأنه تعلق به أعلى المنافع على ما مر ولأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله فيها أنها موجودة حقيقة ولا مرد للحقيقة كما قلنا في الإسلام إلا أنه يجبر على الإسلام لما فيه من النفع له ولا يقتل لأنه عقوبة والعقوبات موضوعة عن الصبيان مرحمة عليهم وهذا في الصبي الذي يعقل ومن لا يعقل من الصبيان لا يصح ارتداده لأن إقراره لا يدل على تغير العقيدة وكذا المجنون والسكران الذي لا يعقل والله أعلم بالصواب.

باب البغاة
"وإذا تغلب قوم من المسلمين على بلد وخرجوا من طاعة الإمام دعاهم إلى العود إلى الجماعة وكشف عن شبهتهم" لأن عليا رضي الله عنه فعل كذلك بأهل حروراء قبل قتالهم

 

ج / 2 ص -412-       ولأنه أهون الأمرين ولعل الشر يندفع به فيبدأ به "ولا يبدأ بقتال حتى يبدءوه فإن بدءوه قاتلهم حتى يفرق جمعهم" قال العبد الضعيف هكذا ذكره القدوري رحمه الله في مختصره وذكر الإمام المعروف بخواهر زاده رحمه الله أن عندنا يجوز أن يبدأ بقتالهم إذا تعسكروا واجتمعوا وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز حتى يبدءوا بالقتال حقيقة لأنه لا يجوز قتل المسلم إلا دفعا وهم مسلمون بخلاف الكافر لأن نفس الكفر مبيح عنده ولنا أن الحكم يدار على الدليل وهو الاجتماع والامتناع وهذا لأنه لو انتظر الإمام حقيقة قتالهم ربما لا يمكنه الدفع فيدار على الدليل ضرورة دفع شرهم وإذا بلغه أنهم يشترون السلاح ويتأهبون للقتال ينبغي أن يأخذهم ويحبسهم حتى يقلعوا عن ذلك ويحدثوا توبة دفعا للشر بقدر الإمكان والمروي عن أبي حنيفة رحمه الله من لزوم البيت محمول على حال عدم الإمام أما إعانة الإمام الحق فمن الواجب عند الغناء والقدرة "فإن كانت لهم فئة أجهز على جريحهم وأتبع موليهم" دفعا لشرهم كيلا يلتحقوا بهم "وإن لم يكن لهم فئة لم يجهز على جريحهم ولم يتبع موليهم" لاندفاع الشر دونه وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز ذلك في الحالين لأن القتال إذا تركوه لم يبق قتلهم دفعا وجوابه ما ذكرناه أن المعتبر دليله لا حقيقته "ولا يسبى لهم ذرية ولا يقسم لهم مال" لقول علي رضي الله عنه يوم الجمل ولا يقتل أسير ولا يكشف ستر ولا يؤخذ مال وهو القدرة في هذا الباب وقوله في الأسير تأويله إذا لم يكن لهم فئة فإن كانت يقتل الإمام الأسير وإن شاء حبسه لما ذكرنا ولأنهم مسلمون والإسلام يعصم النفس والمال.
"ولا بأس بأن يقاتلوا بسلاحهم إن احتاج المسلمون إليه" وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز والكراع على هذا الخلاف له أنه مال مسلم فلا يجوز الانتفاع به إلا برضاه ولنا أن عليا رضي الله عنه قسم السلاح فيما بين أصحابه بالبصرة وكانت قسمته للحاجة لا للتمليك ولأن للإمام أن يفعل ذلك في مال العادل عند الحاجة ففي مال الباغي أولى والمعنى فيه إلحاق الضرر الأدنى لدفع الأعلى.
"ويحبس الإمام أموالهم فلا يردها عليهم ولا يقسمها حتى يتوبوا فيردها عليهم" أما عدم القسمة فلما بيناه وأما الحبس فلدفع شرهم بكسر شوكتهم ولهذا يحبسها عنهم وإن كان لا يحتاج إليها إلا أنه يبيع الكراع لأن حبس الثمن أنظر وأيسر وأما الرد بعد التوبة فلاندفاع الضرورة ولا استغنام فيها.
قال: "وما جباه أهل البغي من البلاد التي غلبوا عليها من الخراج والعشر لم يأخذه الإمام ثانيا" لأن ولاية الأخذ له باعتبار الحماية ولم يحمهم "فإن كانوا صرفوه في حقه أجزأ

 

ج / 2 ص -413-       من أخذ منه" لوصول الحق إلى مستحقه "وإن لم يكونوا صرفوه في حقه فعلى أهله فيما بينهم وبين الله تعالى أن يعيدوا ذلك" لأنه لم يصل إلى مستحقه.
قال العبد الضعيف رحمه الله قالوا الإعادة عليهم في الخراج لأنهم مقاتلة فكانوا مصارف وإن كانوا أغنياء وفي العشر إن كانوا فقراء فكذلك لأنه حق الفقراء وقد بيناه في الزكاة وفي المستقبل يأخذه الإمام لأنه يحميهم فيه لظهور ولايته.
"ومن قتل رجلا وهما من عسكر أهل البغي ثم ظهر عليهم فليس عليهم شيء" لأنه لا ولاية لإمام العدل حين القتل فلم ينعقد موجبا كالقتل في دار الحرب "وإن غلبوا على مصر فقتل رجل من أهل المصر رجلا من أهل المصر عمدا ثم ظهر على المصر فإنه يقتص منه" وتأويله: إذا لم يجر على أهله أحكامهم وأزعجوا قبل ذلك وفي ذلك لم تنقطع ولاية الإمام فيجب القصاص.
"وإذا قتل رجل من أهل العدل باغيا فإنه يرثه فإن قتله الباغي وقال قد كنت على حق وأنا الآن على حق ورثه وإن قال قتلته وأنا أعلم أني على الباطل لم يرثه وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله" وقال أبو يوسف رحمه الله لا يرث الباغي في الوجهين وهو قول الشافعي رحمه الله وأصله أن العادل إذا أتلف نفس الباغي أو ماله لا يضمن ولا يأثم لأنه مأمور بقتالهم دفعا لشرهم والباغي إذا قتل العادل لا يجب الضمان عندنا ويأثم.
وقال الشافعي رحمه الله في القديم: إنه يجب وعلى هذا الخلاف إذا تاب المرتد وقد أتلف نفسا أو مالا له أنه أتلف مالا معصوما أو قتل نفسا معصومة فيجب الضمان اعتبارا بما قبل المنعة ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم رواه الزهري رحمه الله ولأنه أتلف عن تأويل فاسد والفاسد منه ملحق بالصحيح إذا ضمت إليه المنعة في حق الدفع كما في منعة أهل الحرب وتأويلهم وهذا لأن الأحكام لا بد فيها من الإلزام أو الإلتزام ولا التزام لاعتقاد الإباحة عن تأويل ولا إلزام لعدم الولاية لوجود المنعة والولاية باقية قبل المنعة وعند عدم التأويل ثبت الالتزام اعتقادا بخلاف الإثم لأنه لا منعة في حق الشارع إذا ثبت هذا فنقول قتل العادل الباغي قتل بحق فلا يمنع الإرث ولأبي يوسف رحمه الله في قتل الباغي العادل أن التأويل الفاسد إنما يعتبر في حق الدفع والحاجة ههنا إلى استحقاق الإرث فلا يكون التأويل معتبرا في حق الإرث ولهما فيه أن الحاجة إلى دفع الحرمان أيضا إذ القرابة سبب الإرث فيعتبر الفاسد فيه إلا أن من شرطه بقاءه على ديانته فإذا قال كنت على الباطل لم يوجد الدافع فوجب الضمان.

 

ج / 2 ص -414-       قال: "ويكره بيع السلاح من أهل الفتنة وفي عساكرهم" لأنه إعانة على المعصية "وليس ببيعه بالكوفة من أهل الكوفة ومن لم يعرفه من أهل الفتنة بأس" لأن الغلبة من الأمصار لأهل الصلاح وإنما يكره بيع نفس السلاح لا بيع مالا يقاتل به إلا بصنعة ألا ترى أنه يكره بيع المعازف ولا يكره بيع الخشب وعلى هذا الخمر مع العنب والله أعلم بالصواب.