الهداية في شرح بداية المبتدي

ج / 3 ص -15-         كتاب الوقف
قال أبو حنيفة: "لا يزول ملك الواقف عن الوقف إلا أن يحكم به الحاكم أو يعلقه بموته فيقول إذا مت فقد وقفت داري على كذا". وقال أبو يوسف "يزول ملكه بمجرد القول. وقال محمد: لا يزول حتى يجعل للوقف وليا ويسلمه إليه".
قال رضي الله عنه: الوقف لغة. هو الحبس تقول وقفت الدابة وأوقفتها بمعنى. وهو في الشرع عند أبي حنيفة: حبس العين على ملك الواقف والتصدق بالمنفعة بمنزلة العارية. ثم قيل المنفعة معدومة فالتصدق بالمعدوم لا يصح، فلا يجوز الوقف أصلا عنده، وهو الملفوظ في الأصل. والأصح أنه جائز عنده إلا أنه غير لازم بمنزلة العارية، وعندهما حبس العين على حكم ملك الله تعالى فيزول ملك الواقف عنه إلى الله تعالى على وجه تعود منفعته إلى العباد فيلزم ولا يباع ولا يوهب ولا يورث. واللفظ ينتظمهما والترجيح بالدليل. لهما قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه حين أراد أن يتصدق بأرض له تدعى ثمغا:
"تصدق بأصلها لا يباع ولا يورث ولا يوهب" ولأن الحاجة ماسة إلى أن يلزم الوقف منه ليصل ثوابه إليه على الدوام، وقد أمكن دفع حاجته بإسقاط الملك وجعله لله تعالى. إذ له نظير في الشرع وهو المسجد فيجعل كذلك. ولأبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام: "لا حبس عن فرائض الله تعالى" وعن شريح: جاء محمد عليه الصلاة والسلام ببيع الحبيس لأن الملك باق فيه بدليل أنه يجوز الانتفاع به زراعة وسكنى وغير ذلك والملك فيه للواقف؛ ألا ترى أن له ولاية التصرف فيه بصرف غلاته إلى مصارفها ونصب القوام فيها إلا أنه يتصدق بمنافعه فصار شبيه العارية، ولأنه يحتاج إلى التصدق بالغلة دائما ولا تصدق عنه إلا بالبقاء على ملكه، ولأنه لا يمكن أن يزال ملكه، لا إلى مالك لأنه غير مشروع مع بقائه كالسائبة. بخلاف الإعتاق لأنه إتلاف، وبخلاف المسجد لأنه جعل خالصا لله تعالى ولهذا لا يجوز الانتفاع به، وهنا لم ينقطع حق العبد عنه فلم يصر خالصا لله تعالى.
قال رضي الله عنه: قال في الكتاب: لا يزول ملك الواقف إلا أن يحكم به الحاكم أو يعلقه بموته، وهذا في حكم الحاكم صحيح؛ لأنه قضاء في مجتهد فيه، أما في تعليقه

 

ج / 3 ص -16-         بالموت فالصحيح أنه لا يزول ملكه إلا أنه تصدق بمنافعه مؤبدا فيصير بمنزلة الوصية بالمنافع مؤبدا فيلزم، والمراد بالحاكم المولى، فأما المحكم ففيه اختلاف المشايخ. ولو وقف في مرض موته قال الطحاوي: هو بمنزلة الوصية بعد الموت. والصحيح أنه لا يلزمه عند أبي حنيفة، وعندهما يلزمه إلا أنه يعتبر من الثلث والوقف في الصحة من جميع المال، وإذا كان الملك يزول عندهما يزول بالقول عند أبي يوسف وهو قول الشافعي بمنزلة الإعتاق لأنه إسقاط الملك. وعند محمد لا بد من التسليم إلى المتولي لأنه حق الله تعالى، وإنما يثبت فيه في ضمن التسليم إلى العبد لأن التمليك من الله تعالى وهو مالك الأشياء لا يتحقق مقصودا، وقد يكون تبعا لغيره فيأخذ حكمه فينزل منزلة الزكاة والصدقة.
قال: "وإذا صح الوقف على اختلافهم" وفي بعض النسخ: وإذا استحق مكان قوله إذا صح "خرج من ملك الواقف ولم يدخل في ملك الموقوف عليه" لأنه لو دخل في ملك الموقوف عليه لا يتوقف عليه بل ينفذ بيعه كسائر أملاكه، ولأنه لو ملكه لما انتقل عنه بشرط المالك الأول كسائر أملاكه. قال رضي الله عنه: قوله خرج عن ملك الواقف يجب أن يكون قولهما على الوجه الذي سبق تقريره.
قال: "ووقف المشاع جائز عند أبي يوسف" لأن القسمة من تمام القبض والقبض عنده ليس بشرط فكذا تتمته. "وقال محمد: لا يجوز" لأن أصل القبض عنده شرط فكذا ما يتم به، وهذا فيما يحتمل القسمة، وأما فيما لا يحتمل القسمة فيجوز مع الشيوع عند محمد أيضا لأنه يعتبر بالهبة والصدقة المنفذة إلا في المسجد والمقبرة، فإنه لا يتم مع الشيوع فيما لا يحتمل القسمة أيضا عند أبي يوسف، لأن بقاء الشركة يمنع الخلوص لله تعالى، ولأن المهايأة فيهما في غاية القبح بأن يقبر فيه الموتى سنة، ويزرع سنة ويصلى فيه في وقت ويتخذ إصطبلا في وقت، بخلاف الوقف لإمكان الاستغلال وقسمة الغلة. ولو وقفه الكل ثم استحق جزء منه بطل في الباقي عند محمد لأن الشيوع مقارن كما في الهبة، بخلاف ما إذا رجع الواهب في البعض أو رجع الوارث في الثلثين بعد موت المريض وقد وهبه أو أوقفه في مرضه وفي المال ضيق، لأن الشيوع في ذلك طارئ. ولو استحق جزء مميز بعينه لم يبطل في الباقي لعدم الشيوع ولهذا جاز في الابتداء، وعلى هذا الهبة والصدقة المملوكة.
قال: "ولا يتم الوقف عند أبي حنيفة ومحمد حتى يجعل آخره بجهة لا تنقطع أبدا. وقال أبو يوسف: إذا سمى فيه جهة تنقطع جاز وصار بعدها للفقراء

 

ج / 3 ص -17-         وإن لم يسمهم". لهما أن موجب الوقف زوال الملك بدون التمليك وأنه يتأبد كالعتق، فإذا كانت الجهة يتوهم انقطاعها لا يتوفر عليه مقتضاه، فلهذا كان التوقيت مبطلا له كالتوقيت في البيع. ولأبي يوسف أن المقصود هو التقرب إلى الله تعالى وهو موفر عليه، لأن التقرب تارة يكون في الصرف إلى جهة تنقطع ومرة بالصرف إلى جهة تتأبد فيصح في الوجهين وقيل إن التأبيد شرط بالإجماع، إلا أن عند أبي يوسف لا يشترط ذكر التأبيد لأن لفظة الوقف والصدقة منبئة عنه لما بينا أنه إزالة الملك بدون التمليك كالعتق، ولهذا قال في الكتاب في بيان قوله وصار بعدها للفقراء وإن لم يسمهم، وهذا هو الصحيح، وعند محمد ذكر التأبيد شرط لأن هذا صدقة بالمنفعة أو بالغلة، وذلك قد يكون مؤقتا وقد يكون مؤبدا فمطلقه لا ينصرف إلى التأبيد فلا بد من التنصيص.
قال: "ويجوز وقف العقار" لأن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم وقفوه "ولا يجوز وقف ما ينقل ويحول".
قال رضي الله عنه: وهذا على الإرسال قول أبي حنيفة "وقال أبو يوسف: إذا وقف ضيعة ببقرها وأكرتها وهم عبيده جاز" وكذا سائر آلات الحراسة لأنه تبع للأرض في تحصيل ما هو المقصود، وقد يثبت من الحكم تبعا ما لا يثبت مقصودا كالشرب ف البيع والبناء في الوقف، ومحمد معه فيه، لأنه لما جاز إفراد بعض المنقول بالوقف عنده فلأن يجوز الوقف فيه تبعا أولى. "وقال محمد: يجوز حبس الكراع والسلاح" ومعناه وقفه في سبيل الله، وأبو يوسف معه فيه على ما قالوا، وهو استحسان. والقياس أن لا يجوز لما بيناه من قبل. وجه الاستحسان الآثار المشهورة فيه: منها قوله عليه الصلاة والسلام:
"وأما خالد فقد حبس أدرعا وأفراسا له في سبيل الله تعالى وطلحة حبس دروعه في سبيل الله تعالى" ويروى أكراعه. والكراع: الخيل. ويدخل في حكمه الإبل؛ لأن العرب يجاهدون عليها، وكذا السلاح يحمل عليها وعن محمد أنه يجوز وقف ما فيه تعامل من المنقولات كالفأس والمر والقدوم والمنشار والجنازة وثيابها والقدور والمراجل والمصاحف. وعند أبي يوسف لا يجوز؛ لأن القياس إنما يترك بالنص، والنص ورد في الكراع والسلاح فيقتصر عليه. ومحمد يقول: القياس قد يترك بالتعامل كما في الاستصناع، وقد وجد التعامل في هذه الأشياء. وعن نصير بن يحيى أنه وقف كتبه إلحاقا لها بالمصاحف، وهذا صحيح لأن كل واحد يمسك للدين تعليما وتعلما وقراءة، وأكثر فقهاء الأمصار على قول محمد، وما لا تعامل فيه لا يجوز عندنا وقفه. وقال الشافعي: كل ما يمكن الانتفاع به مع بقاء أصله ويجوز بيعه يجوز وقفه؛ لأنه يمكن

 

ج / 3 ص -18-         الانتفاع به، فأشبه العقار والكراع والسلاح. ولنا أن الوقف فيه لا يتأبد، ولا بد منه على ما بيناه فصار كالدراهم والدنانير، بخلاف العقار، ولا معارض من حيث السمع ولا من حيث التعامل فبقي على أصل القياس. وهذا لأن العقار يتأبد، والجهاد سنام الدين، فكان معنى القربة فيهما أقوى فلا يكون غيرهما في معناهما.
قال: "وإذا صح الوقف لم يجز بيعه ولا تمليكه، إلا أن يكون مشاعا عند أبي يوسف فيطلب الشريك القسمة فيصح مقاسمته" أما امتناع التمليك فلما بينا. وأما جواز القسمة فلأنها تمييز وإفراز، غاية الأمر أن الغالب في غير المكيل والموزون معنى المبادلة، إلا أن في الوقف جعلنا الغالب معنى الإفراز نظرا للوقف فلم تكن بيعا وتمليكا؛ ثم إن وقف نصيبه من عقار مشترك فهو الذي يقاسم شريكه؛ لأن الولاية للواقف وبعد الموت إلى وصية، وإن وقف نصف عقار خالص له فالذي يقاسمه القاضي أو يبيع نصيبه الباقي من رجل، ثم يقاسمه المشتري ثم يشتري ذلك منه لأن الواحد لا يجوز أن يكون مقاسما ومقاسما، ولو كان في القسمة فضل دراهم إن أعطى الواقف لا يجوز لامتناع بيع الوقف، وإن أعطى الواقف جاز ويكون بقدر الدراهم شراء.
قال: "والواجب أن يبتدأ من ارتفاع الوقف بعمارته شرط ذلك الواقف أو لم يشترط" لأن قصد الواقف صرف الغلة مؤبدا، ولا تبقى دائمة إلا بالعمارة فيثبت شرط العمارة اقتضاء ولأن الخراج بالضمان وصار كنفقة العبد الموصى بخدمته، فإنها على الموصى له بها. ثم إن كان الوقف على الفقراء لا يظفر بهم، وأقرب أموالهم هذه الغلة فتجب فيها. ولو كان الوقف على رجل بعينه وآخره للفقراء فهو في ماله: أي مال شاء في حال حياته. ولا يؤخذ من الغلة؛ لأنه معين يمكن مطالبته، وإنما يستحق العمارة عليه بقدر ما يبقى الموقوف على الصفة التي وقفه، وإن خرب يبني على ذلك الوصف؛ لأنها بصفتها صارت غلتها مصروفة إلى الموقوف عليه. فأما الزيادة على ذلك فليست بمستحقة عليه والغلة مستحقة فلا يجوز صرفها إلى شيء آخر إلا برضاه، ولو كان الوقف على الفقراء فكذلك عند البعض، وعند الآخرين يجوز ذلك، والأول أصح لأن الصرف إلى العمارة ضرورة إبقاء الوقف ولا ضرورة في الزيادة.
قال: "فإن وقف دارا على سكنى ولده فالعمارة على من له سكنى" لأن الخراج بالضمان على ما مر فصار كنفقة العبد الموصى بخدمته "فإن امتنع من ذلك، أو كان فقيرا آجرها الحاكم وعمرها بأجرتها، وإذا عمرها ردها إلى من له السكنى" لأن في ذلك رعاية الحقين حق الواقف وحق صاحب السكنى، لأنه لو لم يعمرها تفوت السكنى أصلا

 

ج / 3 ص -19-         والأول أولى، ولا يجبر الممتنع على العمارة لما فيه من إتلاف ماله فأشبه امتناع صاحب البذر في المزارعة فلا يكون امتناعه رضا منه ببطلان حقه لأنه في حيز التردد، ولا تصح إجارة من له السكنى لأنه غير مالك. امتناع صاحب البذر في المزارعة فلا يكون امتناعه رضا منه ببطلان حقه لأنه في حيز.
قال: "وما انهدم من بناء الوقف وآلته صرفه الحاكم في عمارة الوقف إن احتاج إليه، وإن استغنى عنه أمسكه حتى يحتاج إلى عمارته فيصرفه فيهما"؛ لأنه لا بد من العمارة ليبقى على التأبيد فيحصل مقصود الواقف. فإن مست الحاجة إليه في الحال صرفها فيها، وإلا أمسكها حتى لا يتعذر عليه ذلك أوان الحاجة فيبطل المقصود، وإن تعذر إعادة عينه إلى موضعه بيع وصرف ثمنه إلى المرمة صرفا للبدل إلى مصرف المبدل "ولا يجوز أن يقسمه" يعني النقض "بين مستحقي الوقف" لأنه جزء من العين ولا حق للموقوف عليهم فيه: وإنما حقهم في المنافع، والعين حق الله تعالى فلا يصرف إليهم غير حقهم.
قال: "وإذا جعل الواقف غلة الوقف لنفسه أو جعل الولاية إليه جاز عند أبي يوسف" قال رضي الله عنه: ذكر فصلين شرط الغلة لنفسه وجعل الولاية إليه.
أما الأول فهو جائز عند أبي يوسف، ولا يجوز على قياس قول محمد وهو قول هلال الرازي وبه قال الشافعي. وقيل إن الاختلاف بينهما بناء على الاختلاف في اشتراط القبض والإفراز. وقيل هي مسألة مبتدأة، والخلاف فيما إذا شرط البعض لنفسه في حياته وبعد موته للفقراء، وفيما إذا شرط الكل لنفسه في حياته وبعد موته للفقراء سواء؛ ولو وقف وشرط البعض أو الكل لأمهات أولاده ومدبريه ما داموا أحياء، فإذا ماتوا فهو للفقراء والمساكين، فقد قيل يجوز بالاتفاق، وقد قيل هو على الخلاف أيضا وهو الصحيح لأن اشتراطه لهم في حياته كاشتراطه لنفسه.
وجه قول محمد رحمه الله أن الوقف تبرع على وجه التمليك بالطريق الذي قدمناه، فاشتراطه البعض أو الكل لنفسه يبطله؛ لأن التمليك من نفسه لا يتحقق فصار كالصدقة المنفذة، وشرط بعض بقعة المسجد لنفسه. ولأبي يوسف ما روي "أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يأكل من صدقته" والمراد منها صدقته الموقوفة، ولا يحل الأكل منها إلا بالشرط، فدل على صحته، ولأن الوقف إزالة الملك إلى الله تعالى على وجه القربة على ما بيناه، فإذا شرط البعض أو الكل لنفسه، فقد جعل ما صار مملوكا لله تعالى لنفسه لا أنه يجعل ملك نفسه لنفسه، وهذا جائز، كما إذا بنى خانا أو سقاية أو جعل أرضه مقبرة، وشرط أن ينزله أو يشرب منه أو يدفن فيه، ولأن مقصوده القربة وفي الصرف إلى نفسه ذلك، قال عليه

 

ج / 3 ص -20-         الصلاة والسلام: "نفقة الرجل على نفسه صدقة". ولو شرط الواقف أن يستبدل به أرضا أخرى إذا شاء ذلك فهو جائز عند أبي يوسف، وعند محمد الوقف جائز والشرط باطل. ولو شرط الخيار لنفسه في الوقف ثلاثة أيام جاز الوقف والشرط عند أبي يوسف وعند محمد الوقف باطل، وهذا بناء على ما ذكرنا.
وأما فصل الولاية فقد نص فيه على قول أبي يوسف، وهو قول هلال أيضا وهو ظاهر المذهب. وذكر هلال في وقفه وقال أقوام: إن شرط الواقف الولاية لنفسه كانت له ولاية، وإن لم يشترط لم تكن له ولاية. قال مشايخنا: الأشبه أن يكون هذا قول محمد، لأن من أصله أن التسليم إلى القيم شرط لصحة الوقف، فإذا سلم لم يبق له ولاية فيه. ولنا أن المتولي إنما يستفيد الولاية من جهته بشرطه فيستحيل أن لا يكون له الولاية وغيره يستفيد الولاية منه، ولأنه أقرب الناس إلى هذا الوقف فيكون أولى بولايته، كمن اتخذ مسجدا يكون أولى بعمارته ونصب المؤذن فيه، وكمن أعتق عبدا كان الولاء له لأنه أقرب الناس إليه. ولو أن الواقف شرط ولايته لنفسه وكان الواقف غير مأمون على الوقف فللقاضي أن ينزعها من يده نظرا للفقراء، كما له أن يخرج الوصي نظرا للصغار، وكذا إذا شرط أن ليس للسلطان ولا لقاض أن يخرجها من يده ويوليها غيره لأنه شرط مخالف لحكم الشرع فبطل.

فصل: "وإذا بنى مسجدا لم يزل ملكه عنه حتى يفرزه عن ملكه بطريقه ويأذن للناس بالصلاة فيه، فإذا صلى فيه واحد زال عند أبي حنيفة عن ملكه" أما الإفراز فلأنه لا يخلص لله تعالى إلا به، وأما الصلاة فيه فلأنه لا بد من التسليم عند أبي حنيفة ومحمد، ويشترط تسليم نوعه، وذلك في المسجد بالصلاة فيه، أو لأنه لما تعذر القبض فقام تحقق المقصود مقامه ثم يكتفى بصلاة الواحد فيه في رواية عن أبي حنيفة، وكذا عن محمد؛ لأن فعل الجنس متعذر فيشترط أدناه. وعن محمد أنه يشترط الصلاة بالجماعة؛ لأن المسجد بني لذلك في الغالب "وقال أبو يوسف: يزول ملكه بقوله جعلته مسجدا" لأن التسليم عنده ليس بشرط؛ لأنه إسقاط لملك العبد فيصير خالصا لله تعالى بسقوط حق العبد وصار كالإعتاق، وقد بيناه من قبل.
قال: "ومن جعل مسجدا تحته سرداب أو فوقه بيت وجعل باب المسجد إلى الطريق، وعزله عن ملكه فله أن يبيعه، وإن مات يورث عنه" لأنه لم يخلص لله تعالى لبقاء حق العبد متعلقا به، ولو كان السرداب لمصالح المسجد جاز كما في مسجد بيت المقدس. وروى

 

ج / 3 ص -21-         الحسن عنه أنه قال: إذا جعل السفل مسجدا وعلى ظهره مسكن فهو مسجد؛ لأن المسجد مما يتأبد، وذلك يتحقق في السفل دون العلو. وعن محمد على عكس هذا؛ لأن المسجد معظم، وإذا كان فوقه مسكن أو مستغل يتعذر تعظيمه. وعن أبي يوسف أنه جوز في الوجهين حين قدم بغداد ورأى ضيق المنازل فكأنه اعتبر الضرورة. وعن محمد أنه حين دخل الري أجاز ذلك كله لما قلنا.
قال: "وكذلك إن اتخذ وسط داره مسجدا وأذن للناس بالدخول فيه" يعني له أن يبيعه ويورث عنه؛ لأن المسجد ما لا يكون لأحد فيه حق المنع، وإذا كان ملكه محيطا بجوانبه كان له حق المنع فلم يصر مسجدا، ولأنه أبقى الطريق لنفسه فلم يخلص لله تعالى "وعن محمد أنه لا يباع ولا يورث ولا يوهب" اعتبره مسجدا، وهكذا عن أبي يوسف أنه يصير مسجدا؛ لأنه لما رضي بكونه مسجدا ولا يصير مسجدا إلا بالطريق دخل فيه الطريق وصار مستحقا كما يدخل في الإجارة من غير ذكر.
قال: "ومن اتخذ أرضه مسجدا لم يكن له أن يرجع فيه ولا يبيعه ولا يورث عنه" لأنه تجرد عن حق العباد وصار خالصا لله، وهذا لأن الأشياء كلها لله تعالى، وإذا أسقط العبد ما ثبت له من الحق رجع إلى أصله فانقطع تصرفه عنه كما في الإعتاق. ولو خرب ما حول المسجد واستغني عنه يبقى مسجدا عند أبي يوسف لأنه إسقاط منه فلا يعود إلى ملكه، وعند محمد يعود إلى ملك الباني، أو إلى وارثه بعد موته؛ لأنه عينه لنوع قربة، وقد انقطعت فصار كحصير المسجد وحشيشه إذا استغني عنه، إلا أن أبا يوسف يقول في الحصير والحشيش إنه ينقل إلى مسجد آخر.
قال: "ومن بنى سقاية للمسلمين أو خانا يسكنه بنو السبيل أو رباطا أو جعل أرضه مقبرة لم يزل ملكه عن ذلك حتى يحكم به الحاكم عند أبي حنيفة"؛ لأنه لم ينقطع عن حق العبد؛ ألا ترى أن له أن ينتفع به فيسكن في الخان وينزل في الرباط ويشرب من السقاية، ويدفن في المقبرة فيشترط حكم الحاكم أو الإضافة إلى ما بعد الموت كما في الوقف على الفقراء، بخلاف المسجد؛ لأنه لم يبق له حق الانتفاع به فخلص لله تعالى من غير حكم الحاكم.
"وعند أبي يوسف يزول ملكه بالقول" كما هو أصله، إذ التسليم عنده ليس بشرط والوقف لازم.
"وعند محمد إذا استقى الناس من السقاية وسكنوا الخان والرباط ودفنوا في

 

ج / 3 ص -22-         المقبرة زال الملك" لأن التسليم عنده شرط والشرط تسليم نوعه، وذلك بما ذكرناه. ويكتفى بالواحد لتعذر فعل الجنس كله، وعلى هذا البئر الموقوفة والحوض، ولو سلم إلى المتولي صح التسليم في هذه الوجوه كلها؛ لأنه نائب عن الموقوف عليه، وفعل النائب كفعل المنوب عنه، وأما في المسجد فقد قيل لا يكون تسليما؛ لأنه لا تدبير للمتولي فيه، وقيل يكون تسليما؛ لأنه يحتاج إلى من يكنسه ويغلق بابه، فإذا سلم إليه صح التسليم، والمقبرة في هذا بمنزلة المسجد على ما قيل؛ لأنه لا متولي له عرفا. وقيل هي بمنزلة السقاية والخان فيصح التسليم إلى المتولي؛ لأنه لو نصب المتولي يصح، وإن كان بخلاف العادة، ولو جعل دارا له بمكة سكنى لحاج بيت الله والمعتمرين، أو جعل داره في غير مكة سكنى للمساكين، أو جعلها في ثغر من الثغور سكنى للغزاة والمرابطين. أو جعل غلة أرضه للغزاة في سبيل الله تعالى ودفع ذلك إلى وال يقوم عليه فهو جائز، ولا رجوع فيه لما بينا إلا أن في الغلة تحل للفقراء دون الأغنياء، وفيما سواه من سكنى الخان والاستقاء من البئر والسقاية وغير ذلك يستوي فيه الغني والفقير، والفارق هو العرف في الفصلين. فإن أهل العرف يريدون بذلك في الغلة الفقراء، وفي غيرها التسوية بينهم وبين الأغنياء، ولأن الحاجة تشمل الغني والفقير في الشرب والنزول. والغني لا يحتاج إلى صرف هذا الغلة لغناه، والله تعالى أعلم بالصواب.