الهداية في شرح بداية المبتدي

ج / 3 ص -23-         كتاب البيوع
قال: "البيع ينعقد بالإيجاب والقبول إذا كانا بلفظي الماضي" مثل أن يقول أحدهما بعت والآخر اشتريت؛ لأن البيع إنشاء تصرف، والإنشاء يعرف بالشرع والموضوع للإخبار قد استعمل فيه فينعقد به. ولا ينعقد بلفظين أحدهما لفظ المستقبل والآخر لفظ الماضي، بخلاف النكاح، وقد مر الفرق هناك. وقوله رضيت بكذا أو أعطيتك بكذا أو خذه بكذا في معنى قوله بعت واشتريت؛ لأنه يؤدي معناه، والمعنى هو المعتبر في هذه العقود، ولهذا ينعقد بالتعاطي في النفيس والخسيس هو الصحيح لتحقق المراضاة.
قال: "وإذا أوجبأحد المتعاقدين البيع فالآخر بالخيار إن شاء قبل في المجلس وإن شاء رد"، وهذا خيار القبول؛ لأنه لو لم يثبت له الخيار يلزمه حكم البيع من غير رضاه، وإذا لم يفسد لحكم بدون قبول الآخر فللموجب أن يرجع عنه قبل قبوله لخلوه عن إبطال حق الغير، وإنما يمتد إلى آخر المجلس؛ لأن المجلس جامع المتفرقات فاعتبرت ساعاته ساعة واحدة دفعا للعسر وتحقيقا لليسر، والكتاب كالخطاب، وكذا الإرسال حتى اعتبر مجلس بلوغ الكتاب وأداء الرسالة، وليس له أن يقبل في بعض المبيع ولا أن يقبل المشتري ببعض الثمن لعدم رضا الآخر بتفرق الصفقة، إلا إذا بين كل واحد؛ لأنه صفقات معنى.
قال: "وأيهما قام عن المجلس قبل القبول بطل الإيجاب؛ لأن القيام دليل الإعراض" والرجوع، وله ذلك على ما ذكرناه. وإذا حصل الإيجاب والقبول لزم البيع ولا خيار لواحد منهما إلا من عيب أو عدم رؤية.
وقال الشافعي رحمه الله يثبت لكل واحد منهما خيار المجلس لقوله عليه الصلاة والسلام:
"المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا" ولنا أن في الفسخ إبطال حق الآخر فلا يجوز. والحديث محمول على خيار القبول. وفيه إشارة إليه فإنهما متبايعان حالة المباشرة لا بعدها أو يحتمله فيحمل عليه، والتفرق فيه تفرق الأقوال.
قال: "والأعواض المشار إليها لا يحتاج إلى معرفة مقدارها في جواز البيع" لأن

 

ج / 3 ص -24-         بالإشارة كفاية في التعريف وجهالة الوصف فيه لا تفضي إلى المنازعة "والأثمان المطلقةلا تصح إلا أن تكون معروفة القدر والصفة"؛ لأن التسليم والتسلم واجب بالعقد، وهذه الجهالة مفضية إلى المنازعة فيمتنع التسليم والتسلم، وكل جهالة هذه صفتها تمنع الجواز، هذا هو الأصل.
قال: "ويجوز البيع بثمن حال ومؤجل إذا كان الأجل معلوما" لإطلاق قوله تعالى:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] وعنه عليه الصلاة والسلام "أنه اشترى من يهودي طعاما إلى أجل معلوم ورهنه درعه". ولا بد أن يكون الأجل معلوما؛ لأن الجهالة فيه مانعة من التسليم الواجب بالعقد، فهذا يطالبه به في قريب المدة، وهذا يسلمه في بعيدها.
قال: "ومن أطلق الثمن في البيع كان على غالب نقد البلد"؛ لأنه المتعارف، وفيه التحري للجواز فيصرف إليه "فإن كانت النقود مختلفة فالبيع فاسد إلا أن يبين أحدهما" وهذا إذا كان الكل في الرواج سواء؛ لأن الجهالة مفضية إلى المنازعة إلا أن ترتفع الجهالة بالبيان أو يكون أحدهما أغلب وأروج فحينئذ يصرف إليه تحريا للجواز، وهذا إذا كانت مختلفة في المالية، فإن كانت سواء فيها كالثنائي والثلاثي والنصرتي اليوم بسمرقند والاختلاف بين العدالى بفرغانة جاز البيع إذا أطلق اسم الدرهم، كذا قالوا، وينصرف إلى ما قدر به من أي نوع كان؛ لأنه لا منازعة ولا اختلاف في المالية.
قال: "ويجوز بيع الطعام والحبوب مكايلة ومجازفة" وهذا إذا باعه بخلاف جنسه لقوله عليه الصلاة والسلام:
"إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد" بخلاف ما إذا باعه بجنسه مجازفة لما فيه من احتمال الربا ولأن الجهالة غير مانعة من التسليم والتسلم فشابه جهالة القيمة.
قال: "ويجوز بإناء بعينه لا يعرف مقداره وبوزن حجر بعينه لا يعرف مقداره"؛ لأن الجهالة لا تفضي إلى المنازعة لما أنه يتعجل فيه التسليم فيندر هلاكه قبله بخلاف السلم؛ لأن التسليم فيه متأخر والهلاك ليس بنادر قبله فتتحقق المنازعة. وعن أبي حنيفة أنه لا يجوز في البيع أيضا، والأول أصح وأظهر
قال: "ومن باع صبرة طعام كل قفيز بدرهم جاز البيع في قفيز واحد عند أبي حنيفة إلا أن يسمي جملة قفزانها وقالا يجوز في الوجهين" له أنه تعذر الصرف إلى الكل لجهالة المبيع والثمن فيصرف إلى الأقل وهو معلوم، وإلا أن تزول الجهالة بتسمية جميع القفزان أو بالكيل في المجلس، وصار هذا كما لو أقر وقال لفلان علي كل درهم فعليه درهم واحد بالإجماع. ولهما أن الجهالة بيدهما إزالتها ومثلها غير مانع، وكما إذا باع

 

ج / 3 ص -25-         عبدا من عبدين على أن المشتري بالخيار. ثم إذا جاز في قفيز واحد عند أبي حنيفة فللمشتري الخيار لتفرق الصفقة عليه، وكذا إذا كيل في المجلس أو سمى جملة قفزانها؛ لأنه علم ذلك الآن فله الخيار، كما إذا رآه ولم يكن رآه وقت البيع.
قال: "ومن باع قطيع غنم كل شاة بدرهم فسد البيع في جميعها عند أبي حنيفة، وكذلك من باع ثوبا مذارعة كل ذراع بدرهم ولم يسم جملة الذراعان، وكان كل معدود متفاوت، وعندهما يجوز في الكل لما قلنا، وعنده ينصرف إلى الواحد" لما بينا غير أن بيع شاة من قطيع غنم وذراع من ثوب لا يجوز للتفاوت. وبيع قفيز من صبرة يجوز لعدم التفاوت فلا تفضي الجهالة إلى المنازعة فيه، وتقضي إليها في الأول فوضح الفرق.
قال: "ومن ابتاع صبرة طعام على أنها مائة قفيز بمائة درهم فوجدها أقل كان المشتري بالخيار إن شاء أخذ الموجود بحصته من الثمن، وإن شاء فسخ البيع" لتفرق الصفقة عليه قبل التمام، فلم يتم رضاه بالموجود، "وإن وجدها أكثر فالزيادة للبائع"؛ لأن البيع وقع على مقدار معين والقدر ليس بوصف
"ومن اشترى ثوبا على أنه عشرة أذرع بعشرة دراهم أو أرضا على أنها مائة ذراع بمائة درهم فوجدها أقل فالمشتري بالخيار، إن شاء أخذها بجملة الثمن، وإن شاء ترك"؛ لأن الذراع وصف في الثوب؛ ألا يرى أنه عبارة عن الطول والعرض، والوصف لا يقابله شيء من الثمن كأطراف الحيوان فلهذا يأخذه بكل الثمن، بخلاف الفصل الأول؛ لأن المقدار يقابله الثمن فلهذا يأخذه بحصته، إلا أنه يتخير لفوات الوصف المذكور لتغير المعقود عليه فيختل الرضى.
قال: "وإن وجدها أكثر من الذراع الذي سماه فهو للمشتري ولا خيار للبائع"؛ لأنه صفة، فكان بمنزلة ما إذا باعه معيبا، فإذا هو سليم "ولو قال بعتكها على أنها مائة ذراع بمائة درهم كل ذراع بدرهم فوجدها ناقصة، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذها بحصتها من الثمن، وإن شاء ترك"؛ لأن الوصف وإن كان تابعا لكنه صار أصلا بإفراده بذكر الثمن فينزل كل ذراع منزلة ثوب؛ وهذا لأنه لو أخذه بكل الثمن لم يكن آخذا لكل ذراع بدرهم "وإن وجدها زائدة فهو بالخيار إن شاء أخذ الجميع كل ذراع بدرهم، وإن شاء فسخ البيع" لأنه إن حصل له الزيادة في الذرع تلزمه زيادة الثمن فكان نفعا يشوبه ضرر فيتخير، وإنما يلزمه الزيادة لما بينا أنه صار أصلا، ولو أخذه بالأقل لم يكن آخذا بالمشروط.
قال: "ومن اشترى عشرة أذرع من مائة ذراع من دار أو حمام فالبيع فاسد عند أبي حنيفة، وقالا: هو جائز، وإن اشترى عشرة أسهم من مائة سهم جاز في قولهم جميعا"

 

ج / 3 ص -26-         لهما أن عشرة أذرع من مائة ذراع عشر الدار فأشبه عشرة أسهم. وله أن الذراع اسم لما يذرع به، واستعير لما يحله الذراع وهو المعين دون المشاع، وذلك غير معلوم، بخلاف السهم. ولا فرق عند أبي حنيفة بين ما إذا علم من جملة الذراعان أو لم يعلم هو الصحيح خلافا لما يقوله الخصاف لبقاء الجهالة.
ولو اشترى عدلا على أنه عشرة أثواب فإذا هو تسعة أو أحد عشر فسد البيع لجهالة المبيع أو الثمن.
"ولو بين لكل ثوب ثمنا جاز في فصل النقصان بقدره وله الخيار، ولم يجز في الزيادة" لجهالة العشرة المبيعة. وقيل عند أبي حنيفة لا يجوز في فصل النقصان أيضا وليس بصحيح، بخلاف ما إذا اشترى ثوبين على أنهما هرويان فإذا أحدهما مروي حيث لا يجوز فيهما، وإن بين ثمن كل واحد منهما؛ لأنه جعل القبول في المروي شرطا لجواز العقد في الهروي، وهو شرط فاسد ولا قبول يشترط في المعدوم فافترقا.
"ولو اشترى ثوبا واحدا على أنه عشرة أذرع كل ذراع بدرهم فإذا هو عشرة ونصف أو تسعة ونصف، قال أبو حنيفة رحمه الله: في الوجه الأول يأخذه بعشرة من غير خيار، وفي الوجه الثاني يأخذه بتسعة إن شاء وقال أبو يوسف رحمه الله: في الوجه الأول يأخذه بأحد عشر إن شاء، وفي الثاني يأخذ بعشرة إن شاء. وقال محمد رحمه الله: يأخذ في الأول بعشرة ونصف إن شاء، وفي الثاني بتسعة ونصف ويخير"؛ لأن من ضرورة مقابلة الذراع بالدرهم مقابلة نصفه بنصفه فيجري عليه حكمها. ولأبي يوسف رحمه الله أنه لما أفرد كل ذراع ببدل نزل كل ذراع منزلة ثوب على حدة وقد انتقض. ولأبي حنيفة رحمه الله أن الذراع وصف في الأصل، وإنما أخذ حكم المقدار بالشرط وهو مقيد بالذراع، فعند عدمه عاد الحكم إلى الأصل. وقيل في الكرباس الذي لا يتفاوت جوانبه لا يطيب للمشتري ما زاد على المشروط؛ لأنه بمنزلة الموزون حيث لا يضره الفصل، وعلى هذا لو قالوا: يجوز بيع ذراع منه.

فصل: "ومن باع دارا دخل بناؤها في البيع وإن لم يسمه"،
لأن اسم الدار يتناول العرصة والبناء في العرف ولأنه متصل بها اتصال قرار فيكون تبعا له.
"ومن باع أرضا دخل ما فيها من النخل والشجر وإن لم يسمه" لأنه متصل بها للقرار فأشبه البناء "ولا يدخل الزرع في بيع الأرض إلا بالتسمية" لأنه متصل بها للفصل فشابه المتاع الذي فيها.
"ومن باع نخلا أو شجرا فيه ثمر فثمرته للبائع إلا أن يشترط المبتاع" لقوله عليه الصلاة

 

ج / 3 ص -27-         والسلام: "من اشترى أرضا فيها نخل فالثمرة للبائع، إلا أن يشترط المبتاع" ولأن الاتصال وإن كان خلقة فهو للقطع لا للبقاء فصار كالزرع. "ويقال للبائع اقطعها وسلم المبيع" وكذا إذا كان فيها زرع؛ لأن ملك المشتري مشغول بملك البائع فكان عليه تفريغه وتسليمه، كما إذا كان فيه متاع. وقال الشافعي رحمه الله: يترك حتى يظهر صلاح الثمر ويستحصد الزرع؛ لأن الواجب إنما هو التسليم المعتاد، والمعتاد أن لا يقطع كذلك وصار كما إذا انقضت مدة الإجارة وفي الأرض زرع. قلنا: هناك التسليم واجب أيضا حتى يترك بأجر، وتسليم العوض كتسليم المعوض،. ولا فرق بين ما إذا كان الثمر بحال له قيمة أو لم يكن في الصحيح ويكون في الحالين للبائع؛ لأن بيعه يجوز في أصح الروايتين على ما تبين فلا يدخل في بيع الشجر من غير ذكر. وأما إذا بيعت الأرض وقد بذر فيها صاحبها ولم ينبت بعد لم يدخل فيه؛ لأنه مودع فيها كالمتاع،. ولو نبت ولم تصر له قيمة فقد قيل لا يدخل فيه، وقد قيل يدخل فيه، وكأن هذا بناء على الاختلاف في جواز بيعه قبل أن تناله المشافر والمناجل، ولا يدخل الزرع والثمر بذكر الحقوق والمرافق؛ لأنهما ليسا منهما. ولو قال بكل قليل وكثير هو له فيها ومنها من حقوقها أو قال من مرافقها لم يدخلا فيه لما قلنا، وإن لم يقل من حقوقها أو من مرافقها دخلا فيه. وأما الثمر المجذوذ والزرع المحصود فهو بمنزلة المتاع لا يدخل إلا بالتصريح به.
قال: "ومن باع ثمرة لم يبد صلاحها أو قد بدا جاز البيع"؛ لأنه مال متقوم، إما لكونه منتفعا به في الحال أو في الثاني، وقد قيل لا يجوز قبل أن يبدو صلاحها والأول أصح "وعلى المشتري قطعها في الحال" تفريغا لملك البائع، وهذا. إذا اشتراها مطلقا أو بشرط القطع "وإن شرط تركها على النخيل فسد البيع"؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد وهو شغل ملك الغير أو هو صفقة في صفقة وهو إعارة أو إجارة في بيع، وكذا بيع الزرع بشرط الترك لما قلنا، وكذا إذا تناهى عظمها عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لما قلنا، واستحسنه محمد رحمه الله للعادة، بخلاف ما إذا لم يتناه عظمها؛ لأنه شرط فيه الجزء المعدوم وهو الذي يزيد لمعنى من الأرض أو الشجر. ولو اشتراها مطلقا وتركها بإذن البائع طاب له الفضل، وإن تركها بغير إذنه تصدق بما زاد في ذاته لحصوله بجهة محظورة، وإن تركها بعدما تناهى عظمها لم يتصدق بشيء. لأن هذا تغير حالة لا تحقق زيادة، وإن اشتراها مطلقا وتركها على النخيل وقد استأجر النخيل إلى وقت الإدراك طاب له الفضل؛ لأن الإجارة باطلة لعدم التعارف والحاجة فبقي الإذن معتبرا، بخلاف ما إذا اشترى الزرع واستأجر الأرض إلى أن يدرك وتركه حيث لا يطيب له الفضل؛ لأن الإجارة فاسدة للجهالة فأورثت خبثا، ولو

 

ج / 3 ص -28-         اشتراها مطلقا فأثمرت ثمرا آخر قبل القبض فسد البيع؛ لأنه لا يمكنه تسليم المبيع لتعذر التمييز. ولو أثمرت بعد القبض يشتركان فيه للاختلاط، والقول قول المشتري في مقداره؛ لأنه في يده، وكذا في الباذنجان والبطيخ، والمخلص أن يشتري الأصول لتحصل الزيادة على ملكه.
قال: "ولا يجوز أن يبيع ثمرة ويستثني منها، أرطالا معلومة" خلافا لمالك رحمه الله؛ لأن الباقي بعد الاستثناء مجهول،. بخلاف ما إذا باع واستثنى نخلا معينا؛ لأن الباقي معلوم بالمشاهدة. قال رضي الله عنه: قالوا هذه رواية الحسن وهو قول الطحاوي؛ أما على ظاهر الرواية ينبغي أن يجوز؛ لأن الأصل أن ما يجوز إيراد العقد عليه بانفراده يجوز استثناؤه من العقد، وبيع قفيز من صبرة جائز فكذا استثناؤه، بخلاف استثناء الحمل وأطراف الحيوان؛ لأنه لا يجوز بيعه، فكذا استثناؤه.
"ويجوز بيع الحنطة في سنبلها والباقلاء في قشره" وكذا الأرز والسمسم. وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز بيع الباقلاء الأخضر، وكذا الجوز واللوز والفستق في قشره الأول عنده. وله في بيع السنبلة قولان، وعندنا يجوز ذلك كله. له أن المعقود عليه مستور بما لا منفعة له فيه فأشبه تراب الصاغة إذا بيع بجنسه. ولنا ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام "أنه نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة"؛ ولأنه حب منتفع به فيجوز بيعه في سنبله كالشعير والجامع كونه مالا متقوما، بخلاف تراب الصاغة؛ لأنه إنما لا يجوز بيعه بجنسه لاحتمال الربا، حتى لو باعه بخلاف جنسه جاز، وفي مسألتنا لو باعه بجنسه لا يجوز أيضا لشبهة الربا؛ لأنه لا يدري قدر ما في السنابل.
"ومن باع دارا دخل في البيع مفاتيح إغلاقها"؛ لأنه يدخل فيه الإغلاق؛ لأنها مركبة فيها للبقاء والمفتاح يدخل في بيع الغلق من غير تسمية؛ لأنه بمنزلة بعض منه إذ لا ينتفع به بدونه.
قال: "وأجرة الكيال وناقد الثمن على البائع" أما الكيل فلا بد منه للتسليم وهو على البائع ومعنى هذا إذا بيع مكايلة، وكذا أجرة الوزان والزراع والعداد، وأما النقد فالمذكور رواية ابن رستم عن محمد؛ لأن النقد يكون بعد التسليم؛ ألا ترى أنه يكون بعد الوزن والبائع هو المحتاج إليه ليميز ما تعلق به حقه من غيره أو ليعرف المعيب ليرده. وفي رواية ابن سماعة عنه على المشتري؛ لأنه يحتاج إلى تسليم الجيد المقدر، والجودة تعرف بالنقد كما يعرف القدر بالوزن فيكون عليه.

 

ج / 3 ص -29-         قال: "وأجرة وزان الثمن على المشتري" لما بينا أنه هو المحتاج إلى تسليم الثمن وبالوزن يتحقق التسليم.
قال: "ومن باع سلعة بثمن قيل للمشتري ادفع الثمن أولا"؛ لأن حق المشتري تعين في المبيع فيقدم دفع الثمن ليتعين حق البائع بالقبض لما أنه لا يتعين بالتعيين تحقيقا للمساواة.
قال: "ومن باع سلعة بسلعة أو ثمنا بثمن قيل لهما سلما معا" لاستوائهما في التعين فلا حاجة إلى تقديم أحدهما في الدفع.

باب خيار الشرط
خيار الشرط جائز في البيع للبائع والمشتري "ولهما الخيار ثلاثة أيام فما دونها والأصل" فيه ما روي: أن حبان بن منقذ بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه كان يغبن في البياعات، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: "إذا بايعت فقل لا خلابة ولي الخيار ثلاثة أيام". "ولا يجوز أكثر منها عند أبي حنيفة" وهو قول زفر والشافعي. "وقالا: يجوز إذا سمى مدة معلومة لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه أجاز الخيار إلى شهرين"؛ ولأن الخيار إنما شرع للحاجة إلى التروي ليندفع الغبن، وقد تمس الحاجة إلى الأكثر فصار كالتأجيل في الثمن. ولأبي حنيفة أن شرط الخيار يخالف مقتضى العقد وهو اللزوم، وإنما جوزناه بخلاف القياس لما رويناه من النص، فيقتصر على المدة المذكورة فيه وانتفت الزيادة. "إلا أنه إذا أجاز في الثلاثجاز عند أبي حنيفة" خلافا لزفر، هو يقول: إنه انعقد فاسدا فلا ينقلب جائزا. وله أنه أسقط المفسد قبل تقرره فيعود جائزا كما إذا باع بالرقم وأعلمه في المجلس. ولأن الفساد باعتبار اليوم الرابع، فإذا أجاز قبل ذلك لم يتصل المفسد بالعقد، ولهذا قيل: إن العقد يفسد بمضي جزء من اليوم الرابع، وقيل ينعقد فاسدا ثم يرتفع الفساد بحذف الشرط، وهذا على الوجه الأول. "ولو اشترى على أنه إن لم ينقد الثمن إلى ثلاثة أيام فلا بيع بينهما جاز. وإلى أربعة أيام لا يجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: يجوز إلى أربعة أيام أو أكثر، فإن نقد في الثلاث جاز في قولهم جميعا".
والأصل فيه أن هذا في معنى اشتراط الخيار إذ الحاجة مست إلى الانفساخ عند عدم النقد تحرزا عن المماطلة في الفسخ فيكون ملحقا به. وقد مر أبو حنيفة على أصله في الملحق به، ونفى الزيادة على الثلاث وكذا محمد في تجويز الزيادة. وأبو يوسف أخذ في

 

ج / 3 ص -30-         الأصل بالأثر. وفي هذا بالقياس، وفي هذه المسألة قياس آخر وإليه مال زفر وهو أنه بيع شرط فيه إقالة فاسدة لتعلقها بالشرط، واشتراط الصحيح منها فيه مفسد للعقد، فاشتراط الفاسد أولى ووجه الاستحسان ما بينا.
قال: "وخيار البائع يمنع خروج المبيع عن ملكه"؛ لأن تمام هذا السبب بالمراضاة ولا يتم مع الخيار ولهذا ينفذ عتقه. ولا يملك المشتري التصرف فيه وإن قبضه بإذن البائع "ولو قبضه المشتري وهلك في يده في مدة الخيار ضمنه بالقيمة"؛ لأن البيع ينفسخ بالهلاك؛ لأنه كان موقوفا، ولا نفاذ بدون المحل فبقي مقبوضا في يده على سوم الشراء وفيه القيمة، ولو هلك في يد البائع انفسخ البيع ولا شيء على المشتري اعتبارا بالبيع الصحيح المطلق.
قال: "وخيار المشتري لا يمنع خروج المبيع عن ملك البائع"؛ لأن البيع في جانب الآخر لازم، وهذا؛ لأن الخيار إنما يمنع خروج البدل. عن ملك من له الخيار؛ لأنه شرع نظرا له دون الآخر.
قال: "إلا أن المشتري لا يملكه عند أبي حنيفة، وقالا: يملكه" لأنه لما خرج عن ملك البائع فلو لم يدخل في ملك المشتري يكون زائلا لا إلى مالك ولا عهد لنا به في الشرع. ولأبي حنيفة أنه لما لم يخرج الثمن عن ملكه فلو قلنا بأنه يدخل المبيع في ملكه لاجتمع البدلان في ملك رجل واحد حكما للمعاوضة، ولا أصل له في الشرع؛ لأن المعاوضة تقتضي المساواة؛ ولأن الخيار شرع نظرا للمشتري ليتروى فيقف على المصلحة، ولو ثبت الملك ربما يعتق عليه من غير اختياره بأن كان قريبه فيفوت النظر.
قال: "فإن هلك في يده هلك بالثمن، وكذا إذا دخله عيب" بخلاف ما إذا كان الخيار للبائع. ووجه الفرق أنه إذا دخله عيب يمتنع الرد، والهلاك لا يعرى عن مقدمة عيب فيهلك، والعقد قد انبرم فيلزمه الثمن، بخلاف ما تقدم؛ لأن بدخول العيب لا يمتنع الرد حكما بخيار البائع فيهلك والعقد موقوف.
قال: "ومن اشترى امرأته على أنه بالخيار ثلاثة أيام لم يفسد النكاح"؛ لأنه لم يملكها لما له من الخيار "وإن وطئها له أن يردها"؛ لأن الوطء بحكم النكاح "إلا إذا كانت بكرا"؛ لأن الوطء ينقصها، وهذا عند أبي حنيفة "وقالا: يفسد النكاح"؛ لأنه ملكها "وإن وطئها لم يردها"؛ لأن وطأها بملك اليمين فيمتنع الرد وإن كانت ثيبا؛ ولهذه المسألة أخوات كلها تبتني على وقوع الملك للمشتري بشرط الخيار وعدمه: منها عتق المشترى على المشتري إذا كان قريبا له في مدة الخيار، ومنها: عتقه إذا كان المشتري حلف إن ملكت عبدا فهو حر. بخلاف

 

ج / 3 ص -31-         ما إذا قال: إن اشتريت فهو حر؛ لأنه يصير كالمنشئ للعتق بعد الشراء فيسقط الخيار، ومنها أن حيض المشتراة في المدة لا يجتزأ به عن الاستبراء عنده، وعندهما يجتزأ؛ ولو ردت بحكم الخيار إلى البائع لا يجب عليه الاستبراء عنده، وعندهما يجب إذا ردت بعد القبض. ومنها إذا ولدت المشتراة في المدة بالنكاح لا تصير أم ولد له عنده خلافا لهما،. ومنها إذا قبض المشتري المبيع بإذن البائع ثم أودعه عند البائع فهلك في يده في المدة هلك من مال البائع لارتفاع القبض بالرد لعدم الملك عنده، وعندهما من مال المشتري لصحة الإيداع باعتبار قيام الملك. ومنها لو كان المشتري عبدا مأذونا له فأبرأه البائع من الثمن في المدة بقي على خياره عنده؛ لأن الرد امتناع عن التملك والمأذون له يليه، وعندهما بطل خياره؛ لأنه لما ملكه كان الرد منه تمليكا بغير عوض وهو ليس من أهله. ومنها إذا اشترى ذمي من ذمي خمرا على أنه بالخيار ثم أسلم بطل الخيار عندهما؛ لأنه ملكها فلا يملك ردها وهو مسلم. وعنده يبطل البيع؛ لأنه لم يملكها فلا يتملكها بإسقاط الخيار بعده وهو مسلم.
قال: "ومن شرط له الخيار فله أن يفسخ في المدة وله أن يجيز، فإن أجازه بغير حضرة صاحبها جاز. وإن فسخ لم يجز إلا أن يكون الآخر حاضرا عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: يجوز" وهو قول الشافعي والشرط هو العلم، وإنما كنى بالحضرة عنه. له أنه مسلط على الفسخ من جهة صاحبه فلا يتوقف على علمه كالإجازة ولهذا لا يشترط رضاه وصار كالوكيل بالبيع. ولهما أنه تصرف في حق الغير وهو العقد بالرفع، ولا يعرى عن المضرة؛ لأنه. عساه يعتمد تمام البيع السابق فيتصرف فيه فتلزمه غرامة القيمة بالهلاك فيما إذا كان الخيار للبائع، أو لا يطلب لسلعته مشتريا فيما إذا كان الخيار للمشتري، وهذا نوع ضرر فيتوقف على علمه وصار كعزل الوكيل، بخلاف. الإجازة لأنه لا إلزام فيه، ولا نقول إنه مسلط، وكيف يقال ذلك وصاحبه لا يملك الفسخ ولا تسليط في غير. ما يملكه المسلط، ولو كان فسخ في حال غيبة صاحبه وبلغه في المدة تم الفسخ لحصول العلم به، ولو بلغه بعد مضي المدة تم العقد بمضي المدة قبل الفسخ.
قال: "وإذا مات من له الخيار بطل خياره ولم ينتقل إلى ورثته" وقال الشافعي: يورث عنه؛ لأنه حق لازم ثابت في البيع فيجري فيه الإرث كخيار العيب والتعيين. ولنا أن الخيار ليس إلا مشيئة وإرادة ولا يتصور انتقاله، والإرث فيما يقبل الانتقال. بخلاف خيار العيب؛ لأن المورث استحق المبيع سليما فكذا الوارث، فأما نفس الخيار لا يورث، وأما خيار التعيين يثبت للوارث ابتداء لاختلاط ملكه بملك الغير لا أن يورث الخيار.
قال "ومن اشترى شيئا وشرط الخيار لغيره فأيهما أجاز الخيار وأيهما نقض

 

ج / 3 ص -32-         انتقض" وأصل هذا أن اشتراط الخيار لغيره جائز استحسانا، وفي القياس لا يجوز وهو قول زفر؛ لأن الخيار من مواجب العقد وأحكامه، فلا يجوز اشتراطه لغيره كاشتراط الثمن على غير المشتري.. ولنا أن الخيار لغير العاقد لا يثبت إلا بطريق النيابة عن العاقد فيقدر الخيار له اقتضاء ثم يجعل هو نائبا عنه تصحيحا لتصرفه، وعند ذلك يكون لكل واحد منهما الخيار، فأيهما أجاز جاز، وأيهما نقض انتقض "ولو أجاز أحدهما وفسخ الآخر يعتبر السابق" لوجوده في زمان لا يزاحمه فيه غيره، ولو خرج الكلامان منهما معا يعتبر تصرف العاقد في رواية وتصرف الفاسخ في أخرى. وجه الأول أن تصرف العاقد أقوى؛ لأن النائب يستفيد الولاية منه. وجه الثاني أن الفسخ أقوى؛ لأن المجاز يلحقه الفسخ والمفسوخ لا تلحقه الإجازة، ولما ملك كل واحد منهما التصرف رجحنا بحال التصرف. وقيل الأول قول محمد والثاني قول أبي يوسف، واستخراج ذلك مما إذا باع الوكيل من رجل والموكل من غيره معا؛ فمحمد يعتبر فيه تصرف الموكل، وأبو يوسف يعتبرهما.
قال: "ومن باع عبدين بألف درهم على أنه بالخيار في أحدهما ثلاثة أيام فالبيع فاسد، وإن باع كل واحد منهما بخمسمائة على أنه بالخيار في أحدهما بعينه جاز البيع" والمسألة على أربعة أوجه:
أحدها: أن لا يفصل الثمن ولا يعين الذي فيه الخيار وهو الوجه الأول في الكتاب وفساده لجهالة الثمن والمبيع؛ لأن الذي فيه الخيار كالخارج عن العقد، إذ العقد مع الخيار لا ينعقد في حق الحكم فبقي الداخل فيه أحدهما وهو غير معلوم.
والوجه الثاني: أن يفصل الثمن ويعين الذي فيه الخيار وهو المذكور ثانيا في الكتاب، وإنما جاز؛ لأن المبيع معلوم والثمن معلوم، وقبول العقد في الذي فيه الخيار وإن كان شرطا لانعقاد العقد في الآخر ولكن هذا غير مكسد للعقد لكونه محلا للبيع كما إذا جمع بين قن ومدبر.
والثالث: أن يفصل ولا يعين.
والرابع: أن يعين ولا يفصل، فالعقد فاسد في الوجهين: إما لجهالة المبيع أو لجهالة الثمن.
قال: "ومن اشترى ثوبين على أن يأخذ أيهما شاء بعشرة وهو بالخيار ثلاثة أيام فهو جائز، وكذا الثلاثة، فإن كانت أربعة أثواب فالبيع فاسد" والقياس أن يفسد البيع في الكل لجهالة المبيع، وهو قول زفر والشافعي. وجه الاستحسان أن شرع الخيار

 

ج / 3 ص -33-         للحاجة إلى دفع الغبن ليختار ما هو الأرفق والأوفق، والحاجة إلى هذا النوع من البيع متحققة؛ لأنه يحتاج إلى اختيار من يثق به أو اختيار من يشتريه لأجله، ولا يمكنه البائع من الحمل إليه إلا بالبيع فكان في معنى ما ورد به الشرع، غير أن هذه الحاجة تندفع بالثلاث لوجود الجيد والوسط والرديء فيها، والجهالة لا تفضي إلى المنازعة في الثلاثة لتعيين من له الخيار، وكذا في الأربع، إلا أن الحاجة إليها غير متحققة والرخصة ثبوتها بالحاجة وكون الجهالة غير مفضية إلى المنازعة فلا تثبت بأحدهما. ثم قيل: يشترط أن يكون في هذا العقد خيار الشرط مع خيار التعيين، وهو المذكور في الجامع الصغير. "وقيل لا يشترط وهو المذكور في الجامع الكبير"، فيكون ذكره على هذا الاعتبار وفاقا لا شرطا؛ وإذا لم يذكر خيار الشرط لا بد من توقيت خيار التعيين بالثلاث عنده وبمدة معلومة أيتها كانت عندهما. ثم ذكر في بعض النسخ: اشترى ثوبين وفي بعضها اشترى أحد الثوبين وهو الصحيح؛ لأن المبيع في الحقيقة أحدهما والآخر أمانة، والأول تجوز واستعارة. ولو هلك أحدهما أو تعيب لزمه البيع فيه بثمنه وتعين الآخر للأمانة لامتناع الرد بالتعيب، ولو هلكا جميعا معا يلزمه نصف ثمن كل واحد منهما لشيوع البيع والأمانة فيهما. ولو كان فيه خيار الشرط له أن يردهما جميعا. ولو مات من له الخيار فلوارثه أن يرد أحدهما؛ لأن الباقي خيار التعيين للاختلاط، ولهذا لا يتوقف في حق الوارث. وأما خيار الشرط لا يورث وقد ذكرناه من قبل.
قال: "ومن اشترى دارا على أنه بالخيار فبيعت دار أخرى بجنبها فأخذها بالشفعة فهو رضا"؛ لأن طلب الشفعة يدل على اختياره الملك فيها؛ لأنه ما ثبت إلا لدفع ضرر الجوار وذلك بالاستدامة فيتضمن ذلك سقوط الخيار سابقا عليه فيثبت الملك من وقت الشراء فيتبين أن الجوار كان ثابتا، وهذا التقرير يحتاج إليه لمذهب أبي حنيفة خاصة.
قال: "وإذا اشترى الرجلان عبدا على أنهما بالخيار فرضي أحدهما فليس للآخر أن يرده" عند أبي حنيفة، وقالا: له أن يرده، وعلى هذا الخلاف خيار العيب وخيار الرؤية، لهما أن إثبات الخيار لهما إثباته لكل واحد منهما فلا يسقط بإسقاط صاحبه لما فيه من إبطال حقه. وله أن المبيع خرج عن ملكه غير معيب بعيب الشركة، فلو رده أحدهما رده معيبا به وفيه إلزام ضرر زائد، وليس من ضرورة إثبات الخيار لهما الرضا برد أحدهما لتصور اجتماعهما على الرد.
قال: "ومن باع عبدا على أنه خباز أو كاتب وكان بخلافه فالمشتري بالخيار إن شاء أخذه بجميع الثمن وإن شاء ترك"؛ لأن هذا وصف مرغوب فيه فيستحق في العقد بالشرط، ثم فواته يوجب التخيير؛ لأنه ما رضي به دونه، وهذا يرجع إلى اختلاف النوع لقلة التفاوت في

 

ج / 3 ص -34-         الأغراض، فلا يفسد العقد بعدمه بمنزلة وصف الذكورة والأنوثة في الحيوانات وصار كفوات وصف السلامة، وإذا أخذه أخذه بجميع الثمن؛ لأن الأوصاف لا يقابلها شيء من الثمن لكونها تابعة في العقد على ما عرف.

باب خيار الرؤية
قال: "ومن اشترى شيئا لم يره فالبيع جائز، وله الخيار إذا رآه، إن شاء أخذه بجميع الثمن "وإن شاء رده" وقال الشافعي: لا يصح العقد أصلا؛ لأن المبيع مجهول. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام:
"من اشترى شيئا لم يره فله الخيار إذا رآه"؛ ولأن الجهالة بعدم الرؤية لا تفضي إلى المنازعة، لأنه لو لم يوافقه يرده، فصار كجهالة الوصف في المعاين المشار إليه. "وكذا إذا قال رضيت ثم رآه له أن يرده" لأن الخيار معلق بالرؤية لما روينا فلا يثبت قبلها، وحق الفسخ قبل الرؤية بحكم أنه عقد غير لازم لا بمقتضى الحديث، ولأن الرضا بالشيء قبل العلم بأوصافه لا يتحقق فلا يعتبر قوله رضيت قبل الرؤية بخلاف قوله رددت.
قال: "ومن باع ما لم يره فلا خيار له" وكان أبو حنيفة يقول: أولا له الخيار اعتبارا بخيار العيب وخيار الشرط وهذا؛ لأن لزوم العقد بتمام الرضا زوالا وثبوتا ولا يتحقق ذلك إلا بالعلم بأوصاف المبيع، وذلك بالرؤية فلم يكن البائع راضيا بالزوال. ووجه القول المرجوع إليه أنه معلق بالشراء لما روينا فلا يثبت دونه. وروي أن عثمان بن عفان باع أرضا له بالبصرة من طلحة بن عبيد الله فقيل لطلحة: إنك قد غبنت، فقال: لي الخيار؛ لأني اشتريت ما لم أره. وقيل لعثمان: إنك قد غبنت، فقال: لي الخيار؛ لأني بعت ما لم أره. فحكما بينهما جبير بن مطعم. فقضى بالخيار لطلحة، وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم. ثم خيار الرؤية غير مؤقت بل يبقى إلى أن يوجد ما يبطله، وما يبطل خيار الشرط من تعيب أو تصرف يبطل خيار الرؤية، ثم إن كان تصرفا لا يمكن رفعه كالإعتاق والتدبير أو تصرفا يوجب حقا للغير كالبيع المطلق والرهن والإجارة يبطله قبل الرؤية وبعدها؛ لأنه لما لزم تعذر الفسخ فبطل الخيار وإن كان تصرفا لا يوجب حقا للغير كالبيع بشرط الخيار، والمساومة والهبة من غير تسليم لا يبطله قبل الرؤية؛ لأنه لا يربو على صريح الرضا ويبطله بعد الرؤية لوجود دلالة الرضى.
قال: "ومن نظر إلى وجه الصبرة، أو إلى ظاهر الثوب مطويا أو إلى وجه الجارية أو إلى وجه الدابة وكفلها فلا خيار له" والأصل في هذا أن رؤية جميع المبيع غير مشروط لتعذره فيكتفي برؤية ما يدل على العلم بالمقصود. ولو دخل في البيع أشياء، فإن كان لا تتفاوت

 

ج / 3 ص -35-         آحادها كالمكيل والموزون، وعلامته أن يعرض بالنموذج يكتفي برؤية واحد منها إلا إذا كان الباقي أردأ مما رأى فحينئذ يكون له الخيار. وإن كان تتفاوت آحادها كالثياب والدواب لا بد من رؤية كل واحد منها، والجوز والبيض من هذا القبيل فيما ذكره الكرخي، وكان ينبغي أن يكون مثل الحنطة والشعير لكونها متقاربة. إذا ثبت هذا فنقول: النظر إلى وجه الصبرة كاف؛ لأنه يعرف وصف البقية؛ لأنه مكيل يعرض بالنموذج، وكذا النظر إلى ظاهر الثوب مما يعلم به البقية إلا إذا كان في طيه ما يكون مقصودا كموضع العلم، والوجه هو المقصود في الآدمي، وهو والكفل في الدواب فيعتبر رؤية المقصود ولا يعتبر رؤية غيره. وشرط بعضهم رؤية القوائم. والأول هو المروي عن أبي يوسف رحمه الله. وفي شاة اللحم لا بد من الجس لأن المقصود وهو اللحم يعرف به. وفي شاة القنية لا بد من رؤية الضرع. وفيما يطعم لا بد من الذوق لأن ذلك هو المعرف للمقصود. قال: "وإن رأى صحن الدار فلا خيار له وإن لم يشاهد بيوتها" وكذلك إذا رأى خارج الدار أو رأى أشجار البستان من خارج. وعند زفر لا بد من دخول داخل البيوت، والأصح أن جواب الكتاب على وفاق عادتهم في الأبنية، فإن دورهم لم تكن متفاوتة يومئذ، فأما اليوم فلا بد من الدخول في داخل الدار للتفاوت، والنظر إلى الظاهر لا يوقع العلم بالداخل.
قال: "ونظر الوكيل كنظر المشتري حتى لا يرده إلا من عيب، ولا يكون نظر الرسول كنظر المشتري، وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا: هما سواء، وله أن يرده" قال معناه الوكيل بالقبض، فأما الوكيل بالشراء فرؤيته تسقط الخيار بالإجماع.
لهما أنه توكل بالقبض دون إسقاط الخيار فلا يملك ما لم يتوكل به وصار كخيار العيب والشرط والإسقاط قصدا. وله أن القبض نوعان: تام وهو أن يقبضه وهو يراه. وناقص، وهو أن يقبضه مستورا وهذا؛ لأن تمامه بتمام الصفقة ولا تتم مع بقاء خيار الرؤية والموكل ملكه بنوعيه، فكذا الوكيل. ومتى قبض الموكل وهو يراه سقط الخيار فكذا الوكيل لإطلاق التوكيل. وإذا قبضه مستورا انتهى التوكيل بالناقص منه فلا يملك إسقاطه قصدا بعد ذلك، بخلاف خيار العيب؛ لأنه لا يمنع تمام الصفقة فيتم القبض مع بقائه، وخيار الشرط على هذا الخلاف. ولو سلم فالموكل لا يملك التام منه فإنه لا يسقط بقبضه؛ لأن الاختيار وهو المقصود بالخيار يكون بعده، فكذا لا يملكه وكيله، وبخلاف الرسول؛ لأنه لا يملك شيئا وإنما إليه تبليغ الرسالة ولهذا لا يملك القبض، والتسليم إذا كان رسولا في البيع.
قال: "وبيع الأعمى وشراؤه جائز وله الخيار إذا اشترى" لأنه اشترى ما لم يره وقد قررناه من قبل "ثم يسقط خياره بجسه المبيع إذا كان يعرف بالجس، ويشمه إذا كان يعرف

 

ج / 3 ص -36-         بالشم ويذوقه إذا كان يعرف بالذوق" كما في البصير "ولا يسقط خياره في العقار حتى يوصف له" لأن الوصف يقام مقام الرؤية كما في السلم. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا وقف في مكان لو كان بصيرا لرآه وقال: قد رضيت سقط خياره، لأن التشبه يقام مقام الحقيقة في موضع العجز كتحريك الشفتين يقام مقام القراءة في حق الأخرس في الصلاة، وإجراء الموسى مقام الحلق في حق من لا شعر له في الحج. وقال الحسن: يوكل وكيلا بقبضه وهو يراه وهذا أشبه بقول أبي حنيفة لأن رؤية الوكيل كرؤية الموكل على ما مر آنفا.
قال: "ومن رأى أحد الثوبين فاشتراهما ثم رأى الآخر جاز له أن يردهما" لأن رؤية أحدهما لا تكون رؤية الآخر للتفاوت في الثياب فبقي الخيار فيما لم يره، ثم لا يرده وحده بل يردهما كي لا يكون تفريقا للصفقة قبل التمام، وهذا؛ لأن الصفقة لا تتم مع خيار الرؤية قبل القبض وبعده، ولهذا يتمكن من الرد بغير قضاء ولا رضا ويكون فسخا من الأصل.
"ومن مات وله خيار الرؤية بطل خياره" لأنه لا يجري فيه الإرث عندنا، وقد ذكرناه في خيار الشرط.
"ومن رأى شيئا ثم اشتراه بعد مدة، فإن كان على الصفة التي رآه فلا خيار له" لأن العلم بأوصافه حاصل له بالرؤية السابقة، وبفواته يثبت الخيار إلا إذا كان لا يعلمه مرئيه لعدم الرضا به "وإن وجده متغيرا فله الخيار" لأن تلك الرؤية لم تقع معلمة بأوصافه فكأنه لم يره، وإن اختلفا في التغير فالقول للبائع لأن التغير حادث وسبب اللزوم ظاهر، إلا إذا بعدت المدة على ما قالوا لأن الظاهر شاهد للمشتري، بخلاف ما إذا اختلفا في الرؤية لأنها أمر حادث والمشتري ينكره فيكون القول قوله.
قال: "ومن اشترى عدل زطي ولم يره فباع منه ثوبا أو وهبه وسلمه لم يرد شيئا منها إلا من عيب، وكذلك خيار الشرط"؛ لأنه تعذر الرد فيما خرج عن ملكه، وفي رد ما بقي تفريق الصفقة قبل التمام؛ لأن خيار الرؤية والشرط يمنعان تمامها، بخلاف خيار العيب لأن الصفقة تتم مع خيار العيب بعد القبض وإن كانت لا تتم قبله وفيه وضع المسألة. فلو عاد إليه بسبب هو فسخ فهو على خيار الرؤية، كذا ذكره شمس الأئمة السرخسي. وعن أبي يوسف أنه لا يعود بعد سقوطه كخيار الشرط، وعليه اعتمد القدوري.

باب خيار العيب
"وإذا اطلع المشتري على عيب في المبيع فهو بالخيار، إن شاء أخذه بجميع الثمن وإن

 

ج / 3 ص -37-         شاء رده" لأن مطلق العقد يقتضي وصف السلامة، فعند فوته يتخير كي لا يتضرر بلزوم ما لا يرضى به، "وليس له أن يمسكه ويأخذ النقصان" لأن الأوصاف لا يقابلها شيء من الثمن في مجرد العقد؛ ولأنه لم يرض بزواله عن ملكه بأقل من المسمى فيتضرر به، ودفع الضرر عن المشتري ممكن بالرد بدون تضرره، والمراد عيب كان عند البائع ولم يره المشتري عند البيع ولا عند القبض؛ لأن ذلك رضا به.
قال: "وكل ما أوجب نقصان الثمن في عادة التجار فهو عيب"؛ لأن التضرر بنقصان المالية، وذلك بانتقاص القيمة والمرجع في معرفته عرف أهله.
"والإباق والبول في الفراش والسرقة في الصغير عيب ما لم يبلغ، فإذا بلغ فليس ذلك بعيب حتى يعاوده بعد البلوغ" ومعناه: إذا ظهرت عند البائع في صغره ثم حدثت عند المشتري في صغره فله أن يرده؛ لأنه عين ذلك، وإن حدثت بعد بلوغه لم يرده؛ لأنه غيره، وهذا؛ لأن سبب هذه الأشياء يختلف بالصغر والكبر، فالبول في الفراش في الصغر لضعف المثانة، وبعد الكبر لداء في باطنه، والإباق في الصغر لحب اللعب والسرقة لقلة المبالاة، وهما بعد الكبر لخبث في الباطن، والمراد من الصغير من يعقل، فأما الذي لا يعقل فهو ضال لا آبق فلا يتحقق عيبا.
قال: "والجنون في الصغر عيب أبدا" ومعناه: إذا جن في الصغر في يد البائع ثم عاوده في يد المشتري فيه أو في الكبر يرده؛ لأنه عين الأول، إذ السبب في الحالين متحد وهو فساد الباطن، وليس معناه أنه لا يشترط المعاودة في يد المشتري؛ لأن الله تعالى قادر على إزالته وإن كان قلما يزول فلا بد من المعاودة للرد.
"قال: "والبخر والدفر عيب في الجارية"؛ لأن المقصود قد يكون الاستفراش وطلب الولد وهما يخلان به، وليس بعيب في الغلام؛ لأن المقصود الاستخدام ولا يخلان به، إلا أن يكون من داء؛ لأن الداء عيب.
"والزنا وولد الزنا عيب في الجارية دون الغلام"؛ لأنه يخل بالمقصود في الجارية وهو الاستفراش وطلب الولد، ولا يخل بالمقصود في الغلام وهو الاستخدام، إلا أن يكون الزنا عادة له على ما قالوا؛ لأن اتباعهن يخل بالخدمة.
قال: "والكفر عيب فيهما"؛ لأن طبع المسلم ينفر عن صحبته؛ ولأنه يمتنع صرفه في بعض الكفارات فتختل الرغبة، فلو اشتراه على أنه كافر فوجده مسلما لا يرده؛ لأنه زوال العيب. وعند الشافعي يرده؛ لأن الكافر يستعمل فيما لا يستعمل فيه المسلم، وفوات الشرط

 

ج / 3 ص -38-         بمنزلة العيب. قال: "فلو كانت الجارية بالغة لا تحيض أو هي مستحاضة فهو عيب"؛ لأن ارتفاع الدم واستمراره علامة الداء، ويعتبر في الارتفاع أقصى غاية البلوغ وهو سبع عشرة سنة فيها عند أبي حنيفة رحمه الله ويعرف ذلك بقول الأمة فترد إذا انضم إليه نكول البائع قبل القبض وبعده وهو الصحيح.
قال: "وإذا حدث عند المشتري عيب فاطلع على عيب كان عند البائع فله أن يرجع بالنقصان ولا يرد المبيع"؛ لأن في الرد إضرارا بالبائع؛ لأنه خرج عن ملكه سالما، ويعود معيبا فامتنع، ولا بد من دفع الضرر عنه فتعين الرجوع بالنقصان إلا أن يرضى البائع أن يأخذه بعيبه؛ لأنه رضي بالضرر.
قال: "ومن اشترى ثوبا فقطعه فوجد به عيبا رجع بالعيب"؛ لأنه امتنع الرد بالقطع فإنه عيب حادث "فإن قال البائع: أنا أقبله كذلك كان له ذلك"؛ لأن الامتناع لحقه وقد رضي به "فإن باعه المشتري لم يرجع بشيء"؛ لأن الرد غير ممتنع برضا البائع فيصير هو بالبيع حابسا للمبيع فلا يرجع بالنقصان "فإن قطع الثوب وخاطه أو صبغه أحمر، أو لت السويق بسمن ثم اطلع على عيب رجع بنقصانه" لامتناع الرد بسبب الزيادة؛ لأنه لا وجه إلى الفسخ في الأصل بدونها؛ لأنها لا تنفك عنه، ولا وجه إليه معها؛ لأن الزيادة ليست بمبيعة فامتنع أصلا "وليس للبائع أن يأخذه"؛ لأن الامتناع لحق الشرع لا لحقه "فإن باعه المشتري بعدما رأى العيب رجع بالنقصان" لأن الرد ممتنع أصلا قبله فلا يكون بالبيع حابسا للمبيع. وعن هذا قلنا: إن من اشترى ثوبا فقطعه لباسا لولده الصغير وخاطه ثم اطلع على عيب لا يرجع بالنقصان، ولو كان الولد كبيرا يرجع؛ لأن التمليك حصل في الأول قبل الخياطة، وفي الثاني بعدها بالتسليم إليه.
قال: "ومن اشترى عبدا فأعتقه أو مات عنده ثم اطلع على عيب رجع بنقصانه" أما الموت؛ فلأن الملك ينتهي به والامتناع حكمي لا يفعله، وأما الإعتاق فالقياس فيه أن لا يرجع؛ لأن الامتناع بفعله فصار كالقتل، وفي الاستحسان: يرجع؛ لأن العتق إنهاء الملك؛ لأن الآدمي ما خلق في الأصل محلا للملك، وإنما يثبت الملك فيه موقتا إلى الإعتاق فكان إنهاء فصارت كالموت، وهذا؛ لأن الشيء يتقرر بانتهائه فيجعل كأن الملك باق والرد متعذر. والتدبير والاستيلاد بمنزلته؛ لأنه تعذر النقل مع بقاء المحل بالأمر الحكمي "وإن أعتقه على مال لم يرجع بشيء" لأنه حبس بدله وحبس البدل كحبس المبدل. وعن أبي حنيفة رحمه الله: أنه يرجع؛ لأنه إنهاء للملك وإن كان بعوض. "فإن قتل المشتري العبد أو كان طعاما فأكله لم يرجع بشيء عند أبي حنيفة رحمه الله أما القتل فالمذكور ظاهر الرواية وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يرجع" لأن

 

ج / 3 ص -39-         قتل المولى عبده لا يتعلق به حكم دنياوي فصار كالموت حتف أنفه فيكون إنهاء. ووجه الظاهر أن القتل لا يوجد إلا مضمونا، وإنما يسقط الضمان هاهنا باعتبار الملك فيصير كالمستفيد به عوضا، بخلاف الإعتاق؛ لأنه لا يوجب الضمان لا محالة كإعتاق المعسر عبدا مشتركا، وأما الأكل فعلى الخلاف، فعندهما يرجع وعنده لا يرجع استحسانا، وعلى هذا الخلاف إذا لبس الثوب حتى تخرق لهما أنه صنع في المبيع ما يقصد بشرائه ويعتاد فعله فيه فأشبه الإعتاق. وله أنه تعذر الرد بفعل مضمون منه في المبيع فأشبه البيع والقتل، ولا معتبر بكونه مقصودا؛ ألا يرى أن البيع مما يقصد بالشراء ثم هو يمنع الرجوع، فإن أكل بعض الطعام ثم علم بالعيب فكذا الجواب عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الطعام كشيء واحد فصار كبيع البعض، وعندهما أنه يرجع بنقصان العيب في الكل، وعنهما أنه يرد ما بقي؛ لأنه لا يضره التبعيض.
قال: "ومن اشترى بيضا أو بطيخا أو قثاء أو خيارا أو جوزا فكسره فوجده فاسدا فإن لم ينتفع به رجع بالثمن كله"؛ لأنه ليس بمال فكان البيع باطلا، ولا يعتبر في الجوز صلاح قشره على ما قيل لأن ماليته باعتبار اللب "وإن كان ينتفع به مع فساده لم يرده"؛ لأن الكسر عيب حادث "و" لكنه "يرجع بنقصان العيب" دفعا للضرر بقدر الإمكان. وقال الشافعي رحمه الله: يرده؛ لأن الكسر بتسليطه. قلنا: التسليط على الكسر في ملك المشتري لا في ملكه فصار كما إذا كان ثوبا فقطعه، ولو وجد البعض فاسدا وهو قليل جاز البيع استحسانا؛ لأنه لا يخلو عن قليل فاسد. والقليل ما لا يخلو عنه الجوز عادة كالواحد والاثنين في المائة، وإن كان الفاسد كثيرا لا يجوز ويرجع بكل الثمن؛ لأنه جمع بين المال وغيره فصار كالجمع بين الحر والعبد.
قال: "ومن باع عبدا فباعه المشتري ثم رد عليه بعيب فإن قبل بقضاء القاضي بإقرار أو بينة أو بإباء يمين له أن يرده على بائعه"؛ لأنه فسخ من الأصل فجعل البيع كأن لم يكن غاية الأمر أنه أنكر قيام العيب لكنه صار مكذبا شرعا بالقضاء، ومعنى القضاء بالإقرار أنه أنكر الإقرار فأثبت بالبينة، وهذا بخلاف الوكيل بالبيع إذا رد عليه بعيب بالبينة حيث يكون ردا على الموكل؛ لأن البيع هناك واحد والموجود هاهنا بيعان، فيفسخ الثاني والأول لا ينفسخ "وإن قبل بغير قضاء القاضي ليس له أن يرده"؛ لأنه بيع جديد في حق ثالث وإن كان فسخا في حقهما والأول ثالثهما.
"وفي الجامع الصغير: وإن رد عليه بإقراره بغير قضاء بعيب لا يحدث مثله لم يكن له أن يخاصم الذي باعه" وبهذا يتبين أن الجواب فيما يحدث مثله وفيما لا يحدث سواء وفي بعض

 

ج / 3 ص -40-         روايات البيوع: إن كان فيما لا يحدث مثله يرجع بالنقصان للتيقن بقيام العيب عند البائع الأول.
قال: "ومن اشترى عبدا فقبضه فادعى عيبا لم يجبر على دفع الثمن حتى يحلف البائع أو يقيم المشتري بينة" لأنه أنكر وجوب دفع الثمن حيث أنكر تعين حقه بدعوى العيب، ودفع الثمن أولا ليتعين حقه بإزاء تعين المبيع؛ ولأنه لو قضي بالدفع فلعله يظهر العيب فينتقض القضاء فلا يقضي به صونا لقضائه "فإن قال المشتري شهودي بالشام استحلف البائع ودفع الثمن" يعني إذا حلف ولا ينتظر حضور الشهود؛ لأن في الانتظار ضررا بالبائع، وليس في الدفع كثير ضرر به؛ لأنه على حجته، أما إذا نكل ألزم العيب؛ لأنه حجة فيه.
قال: "ومن اشترى عبدا فادعى إباقا لم يحلف البائع حتى يقيم المشتري البينة أنه أبق عنده" والمراد التحليف على أنه لم يأبق عنده؛ لأن القول وإن كان قوله ولكن إنكاره إنما يعتبر بعد قيام العيب به في يد المشتري ومعرفته بالحجة "فإذا أقامها حلف بالله لقد باعه وسلمه إليه وما أبق عنده قط" كذا قال في الكتاب، وإن شاء حلفه بالله ما له حق الرد عليك من الوجه الذي يدعي أو بالله ما أبق عندك قط أما لا يحلفه بالله لقد باعه وما به هذا العيب ولا بالله لقد باعه وسلمه وما به هذا العيب؛ لأن فيه ترك النظر للمشتري؛ لأن العيب قد يحدث بعد البيع قبل التسليم وهو موجب للرد، والأول ذهول عنه والثاني يوهم تعلقه بالشرطين فيتأوله في اليمين عند قيامه وقت التسليم دون البيع، ولو لم يجد المشتري بينة على قيام العيب عنده وأراد تحليف البائع ما يعلم أنه أبق عنده يحلف على قولهما.
واختلف المشايخ على قول أبي حنيفة رحمه الله لهما أن الدعوى معتبرة حتى يترتب عليها البينة فكذا يترتب التحليف. وله على ما قاله البعض أن الحلف يترتب على دعوى صحيحة، وليست تصح إلا من خصم ولا يصير خصما فيه إلا بعد قيام العيب. وإذا نكل عن اليمين عندهما يحلف ثانيا للرد على الوجه الذي قدمناه. قال رضي الله عنه: إذا كانت الدعوى في إباق الكبير يحلف ما أبق منذ بلغ مبلغ الرجال؛ لأن الإباق في الصغر لا يوجب رده بعد البلوغ.
قال: "ومن اشترى جارية وتقابضا فوجد بها عيبا فقال البائع: بعتك هذه وأخرى معها وقال المشتري: بعتنيها وحدها فالقول قول المشتري"؛ لأن الاختلاف في مقدار المقبوض فيكون القول للقابض كما في الغصب "وكذا إذا اتفقا على مقدار المبيع واختلفا في المقبوض" لما بينا.

 

ج / 3 ص -41-         قال: "ومن اشترى عبدين صفقة واحدة فقبض أحدهما ووجد بالآخر عيبا فإنه يأخذهما أو يدعهما"؛ لأن الصفقة تتم بقبضهما فيكون تفريقها قبل التمام وقد ذكرناه، وهذا؛ لأن القبض له شبه بالعقد فالتفريق فيه كالتفريق في العقد. ولو وجد بالمقبوض عيبا اختلفوا فيه. ويروى عن أبي يوسف رحمه الله أنه يرده خاصة، والأصح أنه يأخذهما أو يردهما؛ لأن تمام الصفقة تعلق بقبض المبيع وهو اسم للكل فصار كحبس المبيع لما تعلق زواله باستيفاء الثمن لا يزول دون قبض جميعه ولو قبضهما ثم وجد بأحدهما عيبا يرده خاصة خلافا لزفر. هو يقول: فيه تفريق الصفقة ولا يعرى عن ضرر؛ لأن العادة جرت بضم الجيد إلى الرديء فأشبه ما قبل القبض وخيار الرؤية والشرط. ولنا أنه تفريق الصفقة بعد التمام؛ لأن بالقبض تتم الصفقة في خيار العيب وفي خيار الرؤية والشرط لا تتم به على ما مر، ولهذا لو استحق أحدهما ليس له أن يرد الآخر.
قال: "ومن اشترى شيئا مما يكال أو يوزن فوجد ببعضه عيبا رده كله أو أخذه كله" ومراده بعد القبض؛ لأن المكيل إذا كان من جنس واحد فهو كشيء واحد؛ ألا يرى أنه يسمى باسم واحد وهو الكر ونحوه. وقيل هذا إذا كان في وعاء واحد، فإذا كان في وعاءين فهو بمنزلة عبدين حتى يرد الوعاء الذي وجد فيه العيب دون الآخر.
"ولو استحق بعضه فلا خيار له في رد ما بقي"؛ لأنه لا يضره التبعيض، والاستحقاق لا يمنع تمام الصفقة؛ لأن تمامها برضا العاقد لا برضا المالك، وهذا إذا كان بعد القبض، أما لو كان قبل القبض فله أن يرد ما بقي لتفرق الصفقة قبل التمام. قال "وإن كان ثوبا فله الخيار"؛ لأن التشقيص فيه عيب وقد كان وقت البيع حيث ظهر الاستحقاق، بخلاف المكيل والموزون. قال: "ومن اشترى جارية فوجد بها قرحا فداواه أو كانت دابة فركبها في حاجة فهو رضا"؛ لأن ذلك دليل قصده الاستبقاء بخلاف خيار الشرط؛ لأن الخيار هناك للاختبار وأنه بالاستعمال فلا يكون الركوب مسقطا "وإن ركبها ليردها على بائعها أو ليسقيها أو ليشتري لها علفا فليس برضا" أما الركوب للرد؛ فلأنه سبب الرد والجواب في السقي واشتراء العلف محمول على ما إذا كان لا يجد بدا منه، إما لصعوبتها أو لعجزه أو لكون العلف في عدل واحد، وأما إذا كان يجد بدا منه لانعدام ما ذكرناه يكون رضا.
قال: "ومن اشترى عبدا قد سرق ولم يعلم به فقطع عند المشتري له أن يرده ويأخذ الثمن عند أبي حنيفة رحمه الله. وقالا: يرجع بما بين قيمته سارقا إلى غير سارق" وعلى هذا الخلاف إذا قتل بسبب وجد في يد البائع.

 

ج / 3 ص -42-         والحاصل أنه بمنزلة الاستحقاق عنده وبمنزلة العيب عندهما. لهما أن الموجود في يد البائع سبب القطع والقتل وأنه لا ينافي المالية فنفذ العقد فيه لكنه متعيب فيرجع بنقصانه عند تعذر رده وصار كما إذا اشترى جارية حاملا فماتت في يده بالولادة فإنه يرجع بفضل ما بين قيمتها حاملا إلى غير حامل. وله أن سبب الوجوب في يد البائع والوجوب يفضي إلى الوجود فيكون الوجود مضافا إلى السبب السابق، وصار كما إذا قتل المغصوب أو قطع بعد الرد بجناية وجدت في يد الغاصب، وما ذكر من المسألة ممنوع.
ولو سرق في يد البائع ثم في يد المشتري فقطع بهما عندهما يرجع بالنقصان كما ذكرنا. وعنده لا يرده بدون رضا البائع للعيب الحادث ويرجع بربع الثمن، وإن قبله البائع فبثلاثة الأرباع؛ لأن اليد من الآدمي نصفه وقد تلفت بالجنايتين وفي إحداهما رجوع فيتنصف؛ ولو تداولته الأيدي ثم قطع في يد الأخير رجع الباعة بعضهم على بعض عنده كما في الاستحقاق، وعندهما يرجع الأخير على بائعه ولا يرجع بائعه على بائعه؛ لأنه بمنزلة العيب. وقوله "في الكتاب ولم يعلم المشتري" يفيد على مذهبهما؛ لأن العلم بالعيب رضا به، ولا يفيد على قوله في الصحيح؛ لأن العلم بالاستحقاق لا يمنع الرجوع.
قال: "ومن باع عبدا وشرط البراءة من كل عيب فليس له أن يرده بعيب وإن لم يسم العيوب بعددها" وقال الشافعي: لا تصح البراءة بناء على مذهبه أن الإبراء عن الحقوق المجهولة لا يصح. هو يقول: إن في الإبراء معنى التمليك حتى يرتد بالرد، وتمليك المجهول لا يصح. ولنا أن الجهالة في الإسقاط لا تفضي إلى المنازعة وإن كان في ضمنه التمليك لعدم الحاجة إلى التسليم فلا تكون مفسدة، ويدخل في هذه البراءة العيب الموجود والحادث قبل القبض في قول أبي يوسف. وقال محمد رحمه الله: لا يدخل فيه الحادث وهو قول زفر رحمه الله؛ لأن البراءة تتناول الثابت. ولأبي يوسف أن الغرض إلزام العقد بإسقاط حقه عن صفة السلامة وذلك بالبراءة عن الموجود والحادث.

باب البيع الفاسد
"وإذا كان أحد العوضين أو كلاهما محرما فالبيع فاسد كالبيع بالميتة والدم والخنزير والخمر، وكذا إذا كان غير مملوك كالحر" قال رضي الله عنه: هذه فصول جمعها، وفيها تفصيل نبينه إن شاء الله تعالى فنقول: البيع بالميتة والدم باطل، وكذا بالحر لانعدام ركن البيع وهو مبادلة المال بالمال، فإن هذه الأشياء لا تعد مالا عند أحد والبيع بالخمر والخنزير فاسد لوجود حقيقة البيع وهو مبادلة المال بالمال فإنه مال عند البعض والباطل لا يفيد ملك

 

ج / 3 ص -43-         التصرف، ولو هلك المبيع في يد المشتري فيه يكون أمانة عند بعض المشايخ لأن العقد غير معتبر فبقي القبض بإذن المالك وعند البعض يكون مضمونا لأنه لا يكون أدنى حالا من المقبوض على سوم الشراء. وقيل الأول قول أبي حنيفة رحمه الله والثاني قولهما كما في بيع أم الولد والمدبر على ما نبينه إن شاء الله تعالى، والفاسد يفيد الملك عند اتصال القبض به ويكون المبيع مضمونا في يد المشتري فيه. وفيه خلاف الشافعي رحمه الله وسنبينه بعد هذا. وكذا بيع الميتة والدم والحر باطل لأنها ليست أموالا فلا تكون محلا للبيع. وأما بيع الخمر والخنزير إن كان قوبل بالدين كالدراهم والدنانير فالبيع باطل، وغن كان قوبل بعين فالبيع فاسد حتى يملك ما يقابله وإن كان لا يملك عين الخمر والخنزير. ووجه الفرق أن الخمر مال، وكذا الخنزير مال عند أهل الذمة إلا أنه غير متقوم لما أن الشرع أمر بإهانته وترك إعزازه وفي تملكه بالعقد مقصودا إعزاز له، وهذا لأنه متى اشتراهما بالدراهم فالدراهم غير مقصودة لكونها وسيلة لما أنها تجب في الذمة، وإنما المقصود الخمر فسقط التقوم أصلا بخلاف ما إذا اشترى الثوب بالخمر لأن المشتري للثوب إنما يقصد تملك الثوب بالخمر وفيه إعزاز للثوب دون الخمر فبقي ذكر الخمر معتبرا في تملك الثوب لا في حق نفس الخمر حتى فسدت التسمية ووجبت قيمة الثوب دون الخمر، وكذا إذا باع الخمر بالثوب لأنه يعتبر شراء الثوب بالخمر لكونه مقايضة.
قال: "وبيع أم الولد والمدبر والمكاتب فاسد" ومعناه باطل لأن استحقاق العتق قد ثبت لأم الولد لقوله عليه الصلاة والسلام:
"أعتقها ولدها" وسبب الحرية انعقد في المدبر في الحال لبطلان الأهلية بعد الموت، والمكاتب استحق يدا على نفسه لازمة في حق المولى، ولو ثبت الملك بالبيع لبطل ذلك كله فلا يجوز، ولو رضي المكاتب بالبيع ففيه روايتان، والأظهر الجواز، والمراد المدبر المطلق دون المقيد، وفي المطلق خلاف الشافعي رحمه الله وقد ذكرناه في العتاق.
قال: "وإن ماتت أم الولد أو المدبر في يد المشتري فلا ضمان عليه عند أبي حنيفة، وقالا: عليه قيمتهما" وهو رواية عنه لهما أنه مقبوض بجهة البيع فيكون مضمونا عليه كسائر الأموال، وهذا لأن المدبر وأم الولد يدخلان تحت البيع حتى يملك ما يضم إليهما في البيع، بخلاف المكاتب لأنه في يد نفسه فلا يتحقق في حقه القبض وهذا الضمان به وله أن جهة البيع إنما تلحق بحقيقة في محل يقبل الحقيقة وهما لا يقبلان حقيقة البيع فصارا كالمكاتب، وليس دخولهما في البيع في حق أنفسهما، وإنما ذلك ليثبت

 

ج / 3 ص -44-         حكم البيع فيما ضم إليهما فصار كمال المشتري لا يدخل في حكم عقده بانفراده، وإنما يثبت حكم الدخول فيما ضمه إليه، كذا هذا.
قال: "ولا يجوز بيع السمك قبل أن يصطاد" لأنه باع مالا يملكه "ولا في حظيرة إذا كان لا يؤخذ إلا بصيد"؛ لأنه غير مقدور التسليم، ومعناه إذا أخذه ثم ألقاه فيها لو كان يؤخذ من غير حيلة جاز، إلا إذا اجتمعت فيها بأنفسها ولم يسد عليها المدخل لعدم الملك.
قال: "ولا بيع الطير في الهواء" لأنه غير مملوك قبل الأخذ، وكذا لو أرسله من يده لأنه غير مقدور التسليم "ولا بيع الحمل ولا النتاج" لنهي النبي عليه الصلاة والسلام عن بيع الحبل وحبل الحبلة ولأن فيه غررا.
قال: "ولا اللبن في الضرع" للغرر فعساه انتفاخ، ولأنه ينازع في كيفية الحلب، وربما يزداد فيختلط المبيع بغيره.
قال: "ولا الصوف على ظهر الغنم" لأنه من أوصاف الحيوان، ولأنه ينبت من أسفل فيختلط المبيع بغيره، بخلاف القوائم؛ لأنها تزيد من أعلى، وبخلاف القصيل لأنه يمكن قلعه، والقطع في الصوف متعين فيقع التنازع في موضع القطع، وقد صح أنه عليه الصلاة والسلام "نهى عن بيع الصوف على ظهر الغنم، وعن لبن في ضرع، وعن سمن في لبن" وهو حجة على أبي يوسف رحمه الله في هذا الصوف حيث جوز بيعه فيما يروى عنه.
قال: "وجذع في سقف وذراع من ثوب ذكرا القطع أو لم يذكراه" لأنه لا يمكن التسليم إلا بضرر، بخلاف ما إذا باع عشرة دراهم من نقرة فضة لأنه لا ضرر في تبعيضه، ولو لم يكن معينا لا يجوز لما ذكرنا وللجهالة أيضا، ولو قطع البائع الذراع أو قلع الجذع قبل أن يفسخ المشتري يعود صحيحا لزوال المفسد، بخلاف ما إذا باع النوى في التمر أو البذر في البطيخ حيث لا يكون صحيحا. وإن شقهما وأخرج المبيع لأن في وجودهما احتمالا، أما الجذع فعين موجود. قال: "وضربة القانص" وهو ما يخرج من الصيد بضرب الشبكة مرة لأنه مجهول ولأن فيه غررا.
قال: "وبيع المزابنة، وهو بيع الثمر على النخيل بتمر مجذوذ مثل كيله خرصا" لأنه عليه الصلاة والسلام
"نهى عن المزابنة والمحاقلة" فالمزابنة ما ذكرنا، والمحاقلة بيع الحنطة في سنبلها بحنطة مثل كيلها خرصا؛ ولأنه باع مكيلا بمكيل من جنسه فلا تجوز بطريق الخرص كما إذا كانا موضوعين على الأرض، وكذا العنب بالزبيب على هذا.
وقال الشافعي رحمه الله: يجوز فيما دون خمسة أوسق لأنه عليه الصلاة والسلام
"نهى عن

 

ج / 3 ص -45-         المزابنة ورخص في العرايا", وهو أن يباع بخرصها تمرا فيما دون خمسة أوسق". قلنا: العرية: العطية لغة، وتأويله أن يبيع المعرى له ما على النخيل من المعري بتمر مجذوذ، وهو بيع مجازا لأنه لم يملكه فيكون برا مبتدأ.
قال: "ولا يجوز البيع بإلقاء الحجر والملامسة والمنابزة". وهذه بيوع كانت في الجاهلية، وهو أن يتراوض الرجلان على سلعة: أي يتساومان، فإذا لمسها المشتري أو نبذها إليه البائع أو وضع المشتري عليها حصاة لزم البيع؛ فالأول بيع الملامسة والثاني المنابذة، والثالث إلقاء الحجر، وقد "نهى عليه الصلاة والسلام عن بيع الملامسة والمنابذة" ولأن فيه تعليقا بالخطر.
قال: "ولا يجوز بيع ثوب من ثوبين" لجهالة المبيع؛ ولو قال: على أنه بالخيار في أن يأخذ أيهما شاء جاز البيع استحسانا، وقد ذكرناه بفروعه.
قال: "ولا يجوز بيع المراعي ولا إجارتها" المراد الكلأ، أما البيع فلأنه ورد على ما لا يملكه لاشتراك الناس فيه بالحديث، وأما الإجارة فلأنها عقدت على استهلاك عين مباح، ولو عقد على استهلاك عين مملوك بأن استأجر بقرة ليشرب لبنها لا يجوز فهذا أولى.
قال: "ولا يجوز بيع النحل" وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف رحمه الله وقال محمد رحمه الله: يجوز إذا كان محرزا، وهو قول الشافعي رحمه الله لأنه حيوان منتفع به حقيقة وشرعا فيجوز بيعه وإن كان لا يؤكل كالبغل والحمار. ولهما أنهما من الهوام فلا يجوز بيعه كالزنابير والانتفاع بما يخرج منه لا بعينه فلا يكون منتفعا به قبل الخروج، حتى لو باع كوارة فيها عسل بما فيها من النحل يجوز تبعا له، كذا ذكره الكرخي رحمه الله. "ولا يجوز بيع دود القز عند أبي حنيفة" لأنه من الهوام، وعند أبي يوسف رحمه الله يجوز إذا ظهر فيه القز تبعا له. وعند محمد رحمه الله يجوز كيفما كان لكونه منتفعا به "ولا يجوز بيع بيضة عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يجوز" لمكان الضرورة. وقيل أبو يوسف مع أبي حنيفة رحمه الله كما في دود القز والحمام إذا علم عددها وأمكن تسليمها جاز بيعها لأنه مال مقدور التسليم. "ولا يجوز بيع الآبق" لنهي النبي عليه الصلاة والسلام عنه ولأنه لا يقدر على تسليمه
"إلا أن يبيعه من رجل زعم أنه عنده" لأن المنهي عنه بيع آبق مطلق وهو أن يكون آبقا في حق المتعاقدين وهذا غير آبق في حق المشتري؛ ولأنه إذا كان عند المشتري انتفى العجز عن التسليم وهو المانع، ثم لا يصير قابضا بمجرد العقد إذا كان في يده وكان أشهد عنده أخذه لأنه

 

ج / 3 ص -46-         أمانة عنده وقبض الأمانة لا ينوب عن قبض البيع، ولو كان لم يشهد يجب أن يصير قابضا لأنه قبض غصب، لو قال هو عند فلان فبعه مني فباعه لا يجوز لأنه آبق في حق المتعاقدين ولأنه لا يقدر على تسليمه. ولو باع الآبق ثم عاد من الإباق لا يتم ذلك العقد؛ لأنه وقع باطلا لانعدام المحلية كبيع الطير في الهواء. وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يتم العقد إذا لم يفسخ لأن العقد انعقد لقيام المالية والمانع قد ارتفع وهو العجز عن التسليم، كما إذا أبق بعد البيع، وهكذا يروى عن محمد رحمه الله.
قال: "ولا بيع لبن امرأة في قدح" وقال الشافعي رحمه الله يجوز بيعه لأنه مشروب طاهر، ولنا أنه جزء الآدمي وهو بجميع أجزائه مكرم مصون عن الابتذال بالبيع، ولا فرق في ظاهر الرواية بين لبن الحرة والأمة. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يجوز بيع لبن الأمة لأنه يجوز إيراد العقد على نفسها فكذا على جزئها. قلنا: الرق قد حل نفسها، فأما اللبن فلا رق فيه لأنه يختص بمحل يتحقق فيه القوة التي هي ضده وهو الحي ولا حياة في اللبن.
قال: "ولا يجوز بيع شعر الخنزير" لأنه نجس العين فلا يجوز بيعه إهانة له، ويجوز الانتفاع به للخرز للضرورة فإن ذلك العمل لا يتأتى بدونه، ويوجد مباح الأصل فلا ضرورة إلى البيع، ولو وقع في الماء القليل أفسده عند أبي يوسف. وعند محمد رحمه الله لا يفسده لأن إطلاق الانتفاع به دليل طهارته ولأبي يوسف رحمه الله أن الإطلاق للضرورة فلا يظهر إلا في حالة الاستعمال وحالة الوقوع تغايرها.
قال: "ولا يجوز بيع شعور الإنسان ولا الانتفاع بها" لأن الآدمي مكرم لا مبتذل فلا يجوز أن يكون شيء من أجزائه مهانا ومبتذلا وقد قال: عليه الصلاة والسلام:
"لعن الله الواصلة والمستوصلة" الحديث، وإنما يرخص فيما يتخذ من الوبر فيزيد في قرون النساء وذوائبهن.
قال "ولا بيع جلود الميتة قبل أن تدبغ" لأنه غير منتفع به، قال عليه الصلاة والسلام:
"لا تنتفعوا من الميتة بإهاب" وهو اسم لغير المدبوغ على ما عرف في كتاب الصلاة "ولا بأس ببيعها والانتفاع بها بعد الدباغ" لأنها قد طهرت بالدباغ، وقد ذكرناه في كتاب الصلاة "ولا بأس ببيع عظام الميتة وعصبها وصوفها وقرنها وشعرها ووبرها والانتفاع بذلك كله"؛ لأنها طاهرة لا يحلها الموت؛ لعدم الحياة وقد قررناه من قبل. والفيل كالخنزير نجس العين عند محمد رحمه الله وعندهما بمنزلة السباع حتى يباع عظمه وينتفع به.

 

ج / 3 ص -47-         قال: "وإذا كان السفل لرجل وعلوه لآخر فسقطا أو سقط العلو وحده فباع صاحب العلو علوه لم يجز" لأن حق التعلي ليس بمال لأن المال ما يمكن إحرازه والمال هو المحل للبيع، بخلاف الشرب حيث يجوز بيعه تبعا للأرض باتفاق الروايات ومفردا في رواية، وهو اختيار مشايخ بلخي رحمهم الله لأنه حظ من الماء ولهذا يضمن بالإتلاف وله قسط من الثمن على ما نذكره في كتاب الشرب.
قال: "وبيع الطريق وهبته جائز وبيع مسيل الماء وهبته باطل" والمسألة تحتمل وجهين: بيع رقبة الطريق والمسيل، وبيع حق المرور والتسييل. فإن كان الأول فوجه الفرق بين المسألتين أن الطريق معلوم لأن له طولا وعرضا معلوما، وأما المسيل فمجهول لأنه لا يدرى قدر ما يشغله من الماء وإن كان الثاني ففي بيع حق المرور روايتان ووجه الفرق على إحداهما بينه وبين حق التسييل أن حق المرور معلوم لتعلقه بمحل معلوم وهو الطريق، أما المسيل على السطح فهو نظير حق التعلي وعلى الأرض مجهول لجهالة محله. ووجه الفرق بين حق المرور وحق التعلي على إحدى الروايتين أن حق التعلي يتعلق بعين لا تبقى وهو البناء فأشبه المنافع، أما حق المرور يتعلق بعين تبقى وهو الأرض فأشبه الأعيان.
قال: "ومن باع جارية فإذا هو غلام" فلا بيع بينهما، بخلاف ما إذا باع كبشا فإذا هو نعجة حيث ينعقد البيع ويتخير. والفرق ينبني على الأصل الذي ذكرناه في النكاح لمحمد رحمه الله وهو أن الإشارة مع التسمية إذا اجتمعتا ففي مختلفي الجنس يتعلق العقد بالمسمى ويبطل لانعدامه، وفي متحدي الجنس يتعلق بالمشار إليه وينعقد لوجوده ويتخير لفوات الوصف كمن اشترى عبدا على أنه خباز فإذا هو كاتب، وفي مسألتنا الذكر والأنثى من بني آدم جنسان للتفاوت في الأغراض، وفي الحيوانات جنس واحد للتقارب فيها وهو المعتبر في هذا دون الأصل كالخل والدبس جنسان. والوذاري والزندنيجي على ما قالوا جنسان مع اتحاد أصلهما.
قال: "ومن اشترى جارية بألف درهم حالة أو نسيئة فقبضها ثم باعها من البائع بخمسمائة قبل أن ينقد الثمن الأول لا يجوز البيع الثاني" وقال الشافعي رحمه الله: يجوز لأن الملك قد تم فيها بالقبض فصار البيع من البائع ومن غيره سواء وصار كما لو باع بمثل الثمن الأول أو بالزيادة أو بالعرض. ولنا قول عائشة رضي الله عنها: لتلك المرأة وقد باعت بستمائة بعدما اشترت بثمانمائة: بئسما شريت واشتريت، أبلغي زيد بن أرقم أن الله تعالى أبطل حجه وجهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب؛ ولأن الثمن لم يدخل في ضمانه فإذا وصل

 

ج / 3 ص -48-         إليه المبيع ووقعت المقاصة بقي له فضل خمسمائة وذلك بلا عوض، بخلاف ما إذا باع بالعرض لأن الفضل إنما يظهر عند المجانسة.
قال: "ومن اشترى جارية بخمسمائة ثم باعها وأخرى معها من البائع قبل أن ينقد الثمن بخمسمائة فالبيع جائز في التي لم يشترها من البائع ويبطل في الأخرى" لأنه لا بد أن يجعل بعض الثمن بمقابلة التي لم يشترها منه فيكون مشتريا للأخرى بأقل مما باع وهو فاسد عندنا، ولم يوجد هذا المعنى في صاحبتها ولا يشيع الفساد لأنه ضعيف فيها لكونه مجتهدا فيه أو؛ لأنه باعتبار شبهة الربا، أو؛ لأنه طارئ؛ لأنه يظهر بانقسام الثمن أو المقاصة فلا يسري إلى غيرها.
قال: "ومن اشترى زيتا على أن يزنه بظرفه فيطرح عنه مكان كل ظرف خمسين رطلا فهو فاسد، ولو اشترى على أن يطرح عنه بوزن الظرف جاز"؛ لأن الشرط الأول لا يقتضيه العقد والثاني يقتضيه.
قال: "ومن اشترى سمنا في زق فرد الظرف وهو عشرة أرطال فقال البائع الزق غير هذا وهو خمسة أرطال فالقول قول المشتري"، لأنه إن اعتبر اختلافا في تعيين الزق المقبوض فالقول قول القابض ضمينا كان أو أمينا، وإن اعتبر اختلافا في السمن فهو في الحقيقة اختلاف في الثمن فيكون القول قول المشتري؛ لأنه ينكر الزيادة.
قال: "وإذا أمر المسلم نصرانيا ببيع خمر أو شرائها ففعل جاز عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا يجوز: على المسلم" وعلى هذا الخلاف الخنزير، وعلى هذا توكيل المحرم غيره ببيع صيده. لهما أن الموكل لا يليه فلا يوليه غيره؛ ولأن ما يثبت للوكيل ينتقل إلى الموكل فصار كأنه باشره بنفسه فلا يجوز. ولأبي حنيفة رحمه الله أن العاقد هو الوكيل بأهليته وولايته، وانتقال الملك إلى الآمر أمر حكمي فلا يمتنع بسبب الإسلام كما إذا ورثهما، ثم إن كان خمرا يخللها وإن كان خنزيرا يسيبه.
قال: "ومن باع عبدا على أن يعتقه المشتري أو يدبره أو يكاتبه أو أمة على أن يستولدها فالبيع فاسد"؛ لأن هذا بيع وشرط وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط. ثم جملة المذهب فيه أن يقال: كل شرط يقتضيه العقد كشرط الملك للمشتري لا يفسد العقد لثبوته بدون الشرط، وكل شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين أو للمعقود عليه وهو من أهل الاستحقاق يفسده كشرط أن لا يبيع المشتري العبد المبيع؛ لأن فيه زيادة عارية عن العوض فيؤدي إلى الربا، أو؛ لأنه يقع بسببه المنازعة فيعرى العقد عن مقصوده إلا أن يكون

 

ج / 3 ص -49-         متعارفا؛ لأن العرف قاض على القياس، ولو كان لا يقتضيه العقد ولا منفعة فيه لأحد لا يفسده وهو الظاهر من المذهب كشرط أن لا يبيع المشتري الدابة المبيعة لأنه انعدمت المطالبة فلا يؤدي إلى الربا، ولا إلى المنازعة. إذا ثبت هذا فنقول: إن هذه الشروط لا يقتضيها العقد؛ لأن قضيته الإطلاق في التصرف والتخيير لا الإلزام حتما، والشرط يقتضي ذلك وفيه منفعة للمعقود عليه، والشافعي رحمه الله وإن كان يخالفنا في العتق ويقيسه على بيع العبد نسمة فالحجة عليه ما ذكرناه، وتفسير المبيع نسمة أن يباع ممن يعلم أنه يعتقه لا أن يشترط فيه، فلو أعتقه المشتري بعدما اشتراه بشرط العتق صح البيع حتى يجب عليه الثمن عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا: يبقى فاسدا حتى يجب عليه القيمة؛ لأن البيع قد وقع فاسدا فلا ينقلب جائزا كما إذا تلف بوجه آخر. ولأبي حنيفة رحمه الله أن شرط العتق من حيث ذاته لا يلائم العقد على ما ذكرناه، ولكن من حيث حكمه يلائمه؛ لأنه منه للملك والشيء بانتهائه يتقرر، ولهذا لا يمنع العتق الرجوع بنقصان العيب، فإذا تلف من وجه آخر لم تتحقق الملاءمة فيتقرر الفساد، وإذا وجد العتق تحققت الملاءمة فيرجح جانب الجواز فكان الحال قبل ذلك موقوفا.
قال: "وكذلك لو باع عبدا على أن يستخدمه البائع شهرا أو دارا على أن يسكنها أو على أن يقرضه المشتري درهما أو على أن يهدي له هدية"؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين؛ ولأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع وسلف؛ ولأنه لو كان الخدمة والسكنى يقابلهما شيء من الثمن يكون إجارة في بيع، ولو كان لا يقابلهما يكون إعارة في بيع. وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن صفقتين في صفقة
قال: "ومن باع عينا على أن لا يسلمه إلى رأس الشهر فالبيع فاسد"؛ لأن الأجل في المبيع العين باطل فيكون شرطا فاسدا، وهذا؛ لأن الأجل شرع ترفيها فيليق بالديون دون الأعيان.
قال: "ومن اشترى جارية إلا حملها فالبيع فاسد" والأصل أن ما لا يصح إفراده بالعقد لا يصح استثناؤه من العقد، والحمل من هذا القبيل، وهذا؛ لأنه بمنزلة أطراف الحيوان لاتصاله به خلقة وبيع الأصل يتناولهما فالاستثناء يكون على خلاف الموجب فلا يصح فيصير شرطا فاسدا، والبيع يبطل به والكتابة والإجارة والرهن بمنزلة البيع؛ لأنها تبطل الشروط الفاسدة، غير أن المفسد في الكتابة ما يتمكن في صلب العقد منها، والهبة والصدقة والنكاح والخلع والصلح عن دم العمد لا تبطل باستثناء الحمل، بل يبطل الاستثناء؛ لأن هذه العقود لا تبطل الشروط الفاسدة، وكذا الوصية لا تبطل به، لكن يصح الاستثناء حتى يكون

 

ج / 3 ص -50-         الحمل ميراثا والجارية وصية؛ لأن الوصية أخت الميراث والميراث يجري فيما في البطن، بخلاف ما إذا استثنى خدمتها؛ لأن الميراث لا يجري فيها.
قال: "ومن اشترى ثوبا على أن يقطعه البائع ويخيطه قميصا أو قباء فالبيع فاسد"؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين؛ ولأنه يصير صفقة في صفقة على ما مر.
قال: "ومن اشترى نعلا على أن يحذوها البائع قال أو يشركها فالبيع فاسد" قال رضي الله عنه: ما ذكره جواب القياس، ووجهه ما بينا، وفي الاستحسان: يجوز للتعامل فيه فصار كصبغ الثوب، وللتعامل جوزنا الاستصناع.
قال: "والبيع إلى النيروز والمهرجان وصوم النصارى وفطر اليهود إذا لم يعرف المتبايعان ذلك فاسد لجهالة الأجل" وهي مفضية إلى المنازعة في البيع لابتنائها على المماكسة إلا إذا كانا يعرفانه لكونه معلوما عندهما، أو كان التأجيل إلى فطر النصارى بعدما شرعوا في صومهم؛ لأن مدة صومهم معلومة بالأيام فلا جهالة فيه.
قال: "ولا يجوز البيع إلى قدوم الحاج"، وكذلك إلى الحصاد والدياس والقطاف والجزاز؛ لأنها تتقدم وتتأخر، ولو كفل إلى هذه الأوقات جاز؛ لأن الجهالة اليسيرة متحملة في الكفالة وهذه الجهالة يسيرة مستدركة لاختلاف الصحابة رضي الله تعالى عنهم فيها ولأنه معلوم الأصل؛ ألا يرى أنها تحتمل الجهالة في أصل الدين بأن تكفل بما ذاب على فلان ففي الوصف أولى، بخلاف البيع فإنه لا يحتملها في أصل الثمن، فكذا في وصفه، بخلاف ما إذا باع مطلقا ثم أجل الثمن إلى هذه الأوقات حيث جاز؛ لأن هذا تأجيل في الدين وهذه الجهالة فيه متحملة بمنزلة الكفالة، ولا كذلك اشتراطه في أصل العقد؛ لأنه يبطل بالشرط الفاسد. "ولو باع إلى هذه الآجال ثم تراضيا بإسقاط الأجل قبل أن يأخذ الناس في الحصاد والدياس وقبل قدوم الحاج جاز البيع أيضا. وقال زفر رحمه الله: لا يجوز؛ لأنه وقع فاسدا فلا ينقلب جائزا وصار كإسقاط الأجل في النكاح إلى أجل" ولنا أن الفساد للمنازعة وقد ارتفع قبل تقرره وهذه الجهالة في شرط زائد لا في صلب العقد فيمكن إسقاطه، بخلاف ما إذا باع الدرهم بالدرهمين ثم أسقطا الدرهم الزائد؛ لأن الفساد في صلب العقد، وبخلاف النكاح إلى أجل؛ لأنه متعة وهو عقد غير عقد النكاح، وقوله في الكتاب ثم تراضيا خرج وفاقا؛ لأن من له الأجل يستبد بإسقاطه؛ لأنه خالص حقه.
قال: "ومن جمع بين حر وعبد أو شاة ذكية وميتة بطل البيع فيهما" وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إن سمى لكل واحد منهما ثمنا جاز في العبد

 

ج / 3 ص -51-         والشاة الذكية "وإن جمع بين عبد ومدبر أو بين عبده وعبد غيره صح البيع في العبد بحصته من الثمن" عند علمائنا الثلاثة، وقال زفر رحمه الله: فسد فيهما، ومتروك التسمية عامدا كالميتة، والمكاتب وأم الولد كالمدبر له الاعتبار بالفصل الأول، إذ محلية البيع منتفية بالإضافة إلى الكل ولهما أن الفساد بقدر المفسد فلا يتعدى إلى القن، كمن جمع بين الأجنبية وأخته في النكاح، بخلاف ما إذا لم يسم ثمن كل واحد منهما؛ لأنه مجهول ولأبي حنيفة رحمه الله وهو الفرق بين الفصلين أن الحر لا يدخل تحت العقد أصلا؛ لأنه ليس بمال والبيع صفقة واحدة فكان القبول في الحر شرطا للبيع في العبد وهذا شرط فاسد، بخلاف النكاح؛ لأنه لا يبطل بالشروط الفاسدة.
وأما البيع في هؤلاء موقوف وقد دخلوا تحت العقد لقيام المالية ولهذا ينفذ في عبد الغير بإجازته، وفي المكاتب برضاه في الأصح، وفي المدبر بقضاء القاضي، وكذا في أم الولد عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمه الله، إلا أن المالك باستحقاقه المبيع وهؤلاء باستحقاقهم أنفسهم ردوا البيع فكان هذا إشارة إلى البقاء، كما إذا اشترى عبدين وهلك أحدهما قبل القبض، وهذا لا يكون شرط القبول في غير المبيع ولا بيعا بالحصة ابتداء ولهذا لا يشترط بيان ثمن كل واحد فيه.

فصل: في أحكامه
"وإذا قبض المشتري المبيع في البيع الفاسد بأمر البائع وفي العقد عوضان كل واحد منهما مال ملك المبيع ولزمته قيمته" وقال الشافعي رحمه الله: لا يملكه وإن قبضه؛ لأنه محظور فلا ينال به نعمة الملك؛ ولأن النهي نسخ للمشروعية للتضاد، ولهذا لا يفيده قبض القبض، وصار كما إذا باع بالميتة أو باع الخمر بالدراهم. ولنا أن ركن البيع صدر من أهله. مضافا إلى محله فوجب القول بانعقاده، ولا خفاء في الأهلية والمحلية. وركنه: مبادلة المال بالمال، وفيه الكلام والنهي يقرر المشروعية عندنا لاقتضائه التصور فنفس البيع مشروع، وبه تنال نعمة الملك وإنما المحظور ما يجاوره كما في البيع وقت النداء، وإنما لا يثبت الملك قبل القبض كي لا يؤدي إلى تقرير الفساد المجاور إذ هو واجب الرفع بالاسترداد فبالامتناع عن المطالبة أولى؛ ولأن السبب قد ضعف لمكان اقترانه بالقبيح فيشترط اعتضاده بالقبض في إفادة الحكم بمنزلة الهبة، والميتة ليست بمال فانعدم الركن، ولو كان الخمر مثمنا فقد خرجناه وشيء آخر وهو أن في الخمر الواجب هو القيمة وهي تصلح ثمنا لا مثمنا. ثم شرط أن يكون القبض بإذن البائع وهو الظاهر، إلا أنه يكتفي به دلالة كما إذا قبضه في مجلس العقد

 

ج / 3 ص -52-         استحسانا، وهو الصحيح؛ لأن البيع تسليط منه على القبض، فإذا قبضه بحضرته قبل الافتراق ولم ينهه كان بحكم التسليط السابق، وكذا القبض في الهبة في مجلس العقد يصح استحسانا، وشرط أن يكون في العقد عوضان كل واحد منهما مال ليتحقق ركن البيع وهو مبادلة المال فيخرج عليه البيع بالميتة والدم والحر والريح والبيع مع نفي الثمن، وقوله لزمته قيمته، في ذوات القيم، فأما في ذوات الأمثال فيلزمه المثل؛ لأنه مضمون بنفسه بالقبض فشابه الغصب، وهذا؛ لأن المثل صورة ومعنى أعدل من المثل معنى.
قال: "ولكل واحد من المتعاقدين فسخه" رفعا للفساد، وهذا قبل القبض ظاهر؛ لأنه لم يفد حكمه فيكون الفسخ امتناعا منه، وكذا بعد القبض إذا كان الفساد في صلب العقد لقوته، وإن كان الفساد بشرط زائد فلمن له الشرط ذلك دون من عليه لقوة العقد، إلا أنه لم تتحقق المراضاة في حق من له الشرط.
قال: "فإن باعه المشتري نفذ بيعه"؛ لأنه ملكه فملك التصرف فيه وسقط حق الاسترداد لتعلق حق العبد بالثاني ونقض الأول لحق الشرع وحق العبد مقدم لحاجته ولأن الأول مشروع بأصله دون وصفه، والثاني مشروع بأصله ووصفه فلا يعارضه مجرد الوصف؛ ولأنه حصل بتسليط من جهة البائع، بخلاف تصرف المشتري في الدار المشفوعة؛ لأن كل واحد منهما حق العبد ويستويان في المشروعية وما حصل بتسليط من الشفيع.
قال: "ومن اشترى عبدا بخمر أو خنزير فقبضه وأعتقه أو باعه أو وهبه وسلمه فهو جائز وعليه القيمة" لما ذكرنا أنه ملكه بالقبض فتنفذ تصرفاته، وبالإعتاق قد هلك فتلزمه القيمة، وبالبيع والهبة انقطع الاسترداد على ما مر، والكتابة والرهن نظير البيع؛ لأنهما لازمان. إلا أنه يعود حق الاسترداد بعجز المكاتب وفك الرهن لزوال المانع. وهذا بخلاف الإجارة؛ لأنها تفسخ بالأعذار، ورفع الفساد عذر؛ ولأنها تنعقد شيئا فشيئا فيكون الرد امتناعا.
قال: "وليس للبائع في البيع الفاسد أن يأخذ المبيع حتى يرد الثمن"؛ لأن المبيع مقابل به فيصير محبوسا به كالرهن "وإن مات البائع فالمشتري أحق به حتى يستوفي الثمن"؛ لأنه يقدم عليه في حياته، فكذا على ورثته وغرمائه بعد وفاته كالراهن ثم إن كانت دراهم الثمن قائمة يأخذها بعينها؛ لأنها تتعين في البيع الفاسد، وهو الأصح؛ لأنه بمنزلة الغصب، وإن كانت مستهلكة أخذ مثلها لما بينا.
قال: "ومن باع دارا بيعا فاسدا فبناها المشتري فعليه قيمتها" عند أبي حنيفة رحمه الله ورواه يعقوب عنه في الجامع الصغير ثم شك بعد ذلك في الرواية. "وقالا: ينقض البناء وترد

 

ج / 3 ص -53-         الدار" والغرس على هذا الاختلاف. لهما أن حق الشفيع أضعف من حق البائع حتى يحتاج فيه إلى القضاء ويبطل بالتأخير، بخلاف حق البائع، ثم أضعف الحقين لا يبطل بالبناء فأقواهما أولى، وله أن البناء والغرس مما يقصد به الدوام وقد حصل بتسليط من جهة البائع فينقطع حق الاسترداد كالبيع، بخلاف حق الشفيع؛ لأنه لم يوجد منه التسليط ولهذا لا يبطل بهبة المشتري وبيعه فكذا ببنائه وشك يعقوب في حفظ الرواية عن أبي حنيفة رحمه الله وقد نص محمد على الاختلاف في كتاب الشفعة فإن حق الشفعة مبني على انقطاع حق البائع بالبناء وثبوته على الاختلاف.
قال: "ومن اشترى جارية بيعا فاسدا وتقابضا فباعها وربح فيها تصدق بالربح ويطيب للبائع ما ربح في الثمن" والفرق أن الجارية مما يتعين فيتعلق العقد بها فيتمكن الخبث في الربح، والدراهم والدنانير لا يتعينان على العقود فلم يتعلق العقد الثاني بعينها فلم يتمكن الخبث فلا يجب التصدق، وهذا في الخبث الذي سببه فساد الملك.
أما الخبث لعدم الملك فعند أبي حنيفة ومحمد يشمل النوعين لتعلق العقد فيما يتعين حقيقة، وفيما لا يتعين شبهة من حيث إنه يتعلق به سلامة المبيع أو تقدير الثمن، وعند فساد الملك تنقلب الحقيقة شبهة والشبهة تنزل إلى شبهة الشبهة، والشبهة هي المعتبرة دون النازل عنها.
قال: "وكذلك إذا ادعى على آخر مالا فقضاه إياه، ثم تصادقا أنه لم يكن عليه شيء وقد ربح المدعي في الدراهم يطيب له الربح"؛ لأن الخبث لفساد الملك هاهنا؛ لأن الدين وجب بالتسمية ثم استحق بالتصادق، وبدل المستحق مملوك فلا يعمل فيما لا يتعين.

فصل: فيما يكره
قال: "ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجش" وهو أن يزيد في الثمن ولا يريد الشراء ليرغب غيره وقال: "لا تناجشوا".
قال: "وعن السوم على سوم غيره" قال عليه الصلاة والسلام:
"لا يستم الرجل على سوم أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه"؛ ولأن في ذلك إيحاشا وإضرارا، وهذا إذا تراضى المتعاقدان على مبلغ ثمنا في المساومة، فأما إذا لم يركن أحدهما إلى الآخر فهو بيع من يزيد ولا بأس به على ما نذكره، وما ذكرناه محمل النهي في النكاح أيضا.
قال: "وعن تلقي الجلب" وهذا إذا كان يضر بأهل البلد فإن كان لا يضر فلا بأس به، إلا إذا لبس السعر على الواردين فحينئذ يكره لما فيه من الغرور والضرر.

 

ج / 3 ص -54-         قال: "وعن بيع الحاضر للبادي" فقد قال عليه الصلاة والسلام: "لا يبع الحاضر للبادي" وهذا إذا كان أهل البلد في قحط وعوز، وهو أن يبيع من أهل البدو طمعا في الثمن الغالي لما فيه من الإضرار بهم أما إذا لم يكن كذلك فلا بأس به لانعدام الضرر.
قال: "والبيع عند أذان الجمعة" قال الله تعالى:
{وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] ثم فيه إخلال بواجب السعي على بعض الوجوه، وقد ذكرنا الأذان المعتبر فيه في كتاب الصلاة.
قال: "وكل ذلك يكره" لما ذكرنا، "ولا يفسد به البيع"؛ لأن الفساد في معنى خارج زائد لا في صلب العقد ولا في شرائط الصحة.
قال "ولا بأس ببيع من يزيد" وتفسيره ما ذكرنا. وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام باع قدحا وحلسا ببيع من يزيد؛ ولأنه بيع الفقراء والحاجة ماسة إلى "نوع منه".
قال: "ومن ملك مملوكين صغيرين أحدهما ذو رحم محرم من الآخر لم يفرق بينهما، وكذلك إن كان أحدهما كبيرا" والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم:
"من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة". ووهب النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله تعالى عنه غلامين أخوين صغيرين ثم قال له: "ما فعل الغلامان؟" فقال: بعت أحدهما، فقال: "أدرك أدرك"، ويروى: "رده رده"؛ ولأن الصغير يستأنس بالصغير وبالكبير والكبير يتعاهده فكان في بيع أحدهما قطع الاستئناس، والمنع من التعاهد وفيه ترك المرحمة على الصغار، وقد أوعد عليه ثم المنع معلول بالقرابة المحرمة للنكاح حتى لا يدخل فيه محرم غير قريب ولا قريب غير محرم، ولا يدخل فيه الزوجان حتى جاز التفريق بينهما؛ لأن النص ورد بخلاف القياس فيقتصر على مورده، ولا بد من اجتماعهما في ملكه لما ذكرنا، حتى لو كان أحد الصغيرين له والآخر لغيره لا بأس ببيع واحد منهما، ولو كان التفريق بحق مستحق لا بأس به كدفع أحدهما بالجناية وبيعه بالدين ورده بالعيب؛ لأن المنظور إليه دفع الضرر عن غيره لا الإضرار به.
قال: "فإن فرق كره له ذلك وجاز العقد" وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يجوز في قرابة الولاد ويجوز في غيرها. وعنه أنه لا يجوز في جميع ذلك لما روينا، فإن الأمر بالإدراك والرد لا يكون إلا في البيع الفاسد. ولهما أن ركن البيع صدر من أهله في محله، وإنما الكراهة لمعنى مجاور فشابه كراهة الاستيام "وإن كانا كبيرين فلا بأس بالتفريق بينهما"؛ لأنه ليس في معنى ما ورد به النص، وقد صح
"أنه عليه الصلاة والسلام فرق بين مارية وسيرين وكانتا أمتين أختين" والله أعلم.

 

ج / 3 ص -55-         باب الإقالة
"الإقالة جائزة في البيع بمثل الثمن الأول" لقوله عليه الصلاة والسلام: "من أقال نادما بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة" ولأن العقد حقهما فيملكان رفعه دفعا لحاجتهما "فإن شرطا أكثر منه أو أقل فالشرط باطل ويرد مثل الثمن الأول". والأصل أن الإقالة فسخ في حق المتعاقدين بيع جديد في حق غيرهما إلا أن لا يمكن جعله فسخا فتبطل، وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وعند أبي يوسف رحمه الله هو بيع إلا أن لا يمكن جعله بيعا فيجعل فسخا إلا أن لا يمكن فتبطل. وعند محمد رحمه الله هو فسخ إلا إذا تعذر جعله فسخا فيجعل بيعا إلا أن لا يمكن فتبطل. لمحمد رحمه الله أن اللفظ للفسخ والرفع. ومنه يقال: أقلني عثراتي فتوفر عليه قضيته. وإذا تعذر يحمل على محتمله وهو البيع؛ ألا ترى أنه بيع في حق الثالث: ولأبي يوسف رحمه الله أنه مبادلة المال بالمال بالتراضي. وهذا هو حد البيع ولهذا يبطل بهلاك السلعة ويرد بالعيب وتثبت به الشفعة وهذه أحكام البيع. ولأبي حنيفة رحمه الله أن اللفظ ينبئ عن الرفع والفسخ كما قلنا، والأصل إعمال الألفاظ في مقتضياتها الحقيقية، ولا يحتمل ابتداء العقد ليحمل عليه عند تعذره؛ لأنه ضده واللفظ لا يحتمل ضده فتعين البطلان، وكونه بيعا في حق الثالث أمر ضروري؛ لأنه يثبت به مثل حكم البيع وهو الملك لا مقتضى الصيغة، إذ لا ولاية لهما على غيرهما، إذا ثبت هذا نقول: إذا شرط الأكثر فالإقالة على الثمن الأول لتعذر الفسخ على الزيادة، إذ رفع ما لم يكن ثابتا محال فيبطل الشرط؛ لأن الإقالة لا تبطل بالشروط الفاسدة، بخلاف البيع؛ لأن الزيادة يمكن إثباتها في العقد فيتحقق الربا أو لا يمكن إثباتها في الرفع، وكذا إذا شرط الأقل لما بيناه إلا أن يحدث في المبيع عيب فحينئذ جازت الإقالة بالأقل؛ لأن الحط يجعل بإزاء ما فات بالعيب، وعندهما في شرط الزيادة يكون بيعا؛ لأن الأصل هو البيع عند أبي يوسف رحمه الله وعند محمد رحمه الله جعله بيعا ممكن فإذا زاد كان قاصدا بهذا ابتداء البيع، وكذا في شرط الأقل عند أبي يوسف رحمه الله؛ لأنه هو الأصل عنده، وعند محمد رحمه الله هو فسخ بالثمن الأول لا سكوت عن بعض الثمن الأول، ولو سكت عن الكل وأقال يكون فسخا فهذا أولى، بخلاف ما إذا زاد، وإذا دخله عيب فهو فسخ بالأقل لما بيناه. ولو أقال بغير جنس الثمن الأول فهو فسخ بالثمن الأول عند أبي حنيفة رحمه الله ويجعل التسمية لغوا عندهما بيع لما بينا، ولو ولدت المبيعة ولدا ثم تقايلا فالإقالة باطلة عنده لأن الولد مانع من الفسخ، وعندهما تكون بيعا والإقالة قبل القبض في المنقول، وغيره فسخ عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله

 

ج / 3 ص -56-         وكذا عند أبي يوسف رحمه الله في المنقول لتعذر البيع، وفي العقار يكون بيعا عنده لإمكان البيع، فإن بيع العقار قبل القبض جائز عنده.
قال: "وهلاك الثمن لا يمنع صحة الإقالة وهلاك المبيع يمنع منها" لأن رفع البيع يستدعي قيامه وهو قائم بالبيع دون الثمن "فإن هلك بعض المبيع جازت الإقالة في الباقي"؛ لقيام البيع فيه، وإن تقايضا تجوز الإقالة بعد هلاك أحدهما ولا تبطل بهلاك أحدهما لأن كل واحد منهما مبيع فكان المبيع باقيا، والله أعلم بالصواب.

باب المرابحة والتولية
قال: "المرابحة نقل ما ملكه بالعقد الأول بالثمن الأول مع زيادة ربح، والتولية نقل ما ملكه بالعقد الأول بالثمن الأول من غير زيادة ربح" والبيعان جائزان؛ لاستجماع شرائط الجواز، والحاجة ماسة إلى هذا النوع من البيع؛ لأن الغبي الذي لا يهتدي في التجارة يحتاج إلى أن يعتمد فعل الذكي المهتدي وتطيب نفسه بمثل ما اشترى وبزيادة ربح فوجب القول بجوازهما، ولهذا كان مبناهما على الأمانة والاحتراز عن الخيانة وعن شبهتها، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الهجرة ابتاع أبو بكر رضي الله عنه بعيرين فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ولني أحدهما"، فقال: هو لك بغير شيء، فقال عليه الصلاة والسلام: "أما بغير ثمن فلا".
قال: "ولا تصح المرابحة والتولية حتى يكون العوض مما له مثل"؛ لأنه إذا لم يكن له مثل لو ملكه ملكه بالقيمة وهي مجهولة "ولو كان المشتري باعه مرابحة ممن يملك ذلك البدل وقد باعه بربح درهم أو بشيء من المكيل موصوف جاز" لأنه يقدر على الوفاء بما التزم "وإن باعه بربح الإل يازده لا يجوز" لأنه باعه برأس المال وببعض قيمته؛ لأنه ليس من ذوات الأمثال.
"ويجوز أن يضيف إلى رأس المال أجرة القصار والطراز والصبغ والقتل وأجرة حمل الطعام" لأن العرف جار بإلحاق هذه الأشياء برأس المال في عادة التجار؛ ولأن كل ما يزيد في المبيع أو في قيمته يلحق به هذا هو الأصل، وما عددناه بهذه الصفة؛ لأن الصبغ وأخواته يزيد في العين والحمل يزيد في القيمة إذ القيمة تختلف باختلاف المكان "ويقول قام علي بكذا ولم يقل اشتريته بكذا" كي لا يكون كاذبا وسوق الغنم بمنزلة الحمل، بخلاف أجرة الراعي وكراء بيت الحفظ؛ لأنه لا يزيد في العين والمعنى، وبخلاف أجرة التعليم لأن ثبوت الزيادة لمعنى فيه وهو حذاقته "فإن اطلع المشتري على خيانة في المرابحة فهو بالخيار" عند

 

ج / 3 ص -57-         أبي حنيفة رحمه الله إن شاء أخذه بجميع الثمن وإن شاء تركه "وإن اطلع على خيانة في التولية أسقطها من الثمن، وقال أبو يوسف رحمه الله: يحط فيهما، وقال محمد رحمه الله: يخير فيهما" لمحمد رحمه الله أن الاعتبار للتسمية؛ لكونه معلوما، والتولية والمرابحة ترويج وترغيب فيكون وصفا مرغوبا فيه كوصف السلامة فيتخير بفواته، ولأبي يوسف رحمه الله أن الأصل فيه كونه تولية ومرابحة ولهذا ينعقد بقوله وليتك بالثمن الأول أو بعتك مرابحة على الثمن الأول إذا كان ذلك معلوما فلا بد من البناء على الأول وذلك بالحط، غير أنه يحط في التولية قدر الخيانة من رأس المال وفي المرابحة منه ومن الربح، ولأبي حنيفة رحمه الله أنه لو لم يحط في التولية لا تبقى تولية؛ لأنه يزيد على الثمن الأول فيتغير التصرف فتعين الحط وفي المرابحة لو لم يحط تبقى مرابحة وإن كان يتفاوت الربح فلا يتغير التصرف فأمكن القول بالتخيير، فلو هلك قبل أن يرده أو حدث فيه ما يمنع الفسخ يلزمه جميع الثمن في الروايات الظاهرة؛ لأنه مجرد خيار لا يقابله شيء من الثمن كخيار الرؤية والشرط، بخلاف خيار العيب؛ لأنه المطالبة بتسليم الفائت فيسقط ما يقابله عند عجزه.
قال: "ومن اشترى ثوبا فباعه بربح ثم اشتراه، فإن باعه مرابحة طرح عنه كل ربح كان قبل ذلك، فإن كان استغرق الثمن لم يبعه مرابحة، وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا: يبيعه مرابحة على الثمن الأخير".
صورته: إذا اشترى ثوبا بعشرة وباعه بخمسة عشر ثم اشتراه بعشرة فإنه يبيعه مرابحة بخمسة ويقول قام علي بخمسة، ولو اشتراه بعشرة وباعه بعشرين مرابحة ثم اشتراه بعشرة لا يبيعه مرابحة أصلا، وعندهما يبيعه مرابحة على العشرة في الفصلين، لهما أن العقد الثاني عقد متجدد منقطع الأحكام عن الأول فيجوز بناء المرابحة عليه، كما إذا تخلل ثالث، ولأبي حنيفة رحمه الله أن شبهة حصول الربح بالعقد الثاني ثابتة؛ لأنه يتأكد به بعدما كان على شرف السقوط بالظهور على عيب الشبهة كالحقيقة في بيع المرابحة احتياطا ولهذا لم تجز المرابحة فيما أخذ بالصلح لشبهة الحطيطة فيصير كأنه اشترى خمسة وثوبا بعشرة فيطرح عنه خمسة، بخلاف ما إذا تخلل ثالث؛ لأن التأكيد حصل بغيره.
قال: "وإذا اشترى العبد المأذون له في التجارة ثوبا بعشرة وعليه دين يحيط برقبته فباعه من المولى بخمسة عشر فإنه يبيعه مرابحة على عشرة، وكذلك إن كان المولى اشتراه فباعه من العبد" لأن في هذا العقد شبهة العدم بجوازه مع المنافي فاعتبر عدما في حكم المرابحة وبقي الاعتبار للأول فيصير كأن العبد اشتراه للمولى بعشرة في الفصل الأول، وكأنه يبيعه للمولى في الفصل الثاني فيعتبر الثمن الأول.

 

ج / 3 ص -58-         قال: "وإذا كان مع المضارب عشرة دراهم بالنصف فاشترى ثوبا بعشرة وباعه من رب المال بخمسة عشر فإنه يبيعه مرابحة باثني عشر ونصف" لأن هذا البيع وإن قضي بجوازه عندنا عند عدم الربح خلافا لزفر رحمه الله مع أنه اشترى ماله بماله لما فيه من استفادة ولاية التصرف وهو مقصود والانعقاد يتبع الفائدة ففيه شبهة العدم؛ ألا ترى أنه وكيل عنه في البيع الأول من وجه فاعتبر البيع الثاني عدما في حق نصف الربح.
قال: "ومن اشترى جارية فاعورت أو وطئها وهي ثيب يبيعها مرابحة ولا يبين" لأنه لم يحتبس عنده شيئا يقابله الثمن؛ لأن الأوصاف تابعة لا يقابلها الثمن، ولهذا لو فاتت قبل التسليم لا يسقط شيء من الثمن، وكذا منافع البضع لا يقابلها الثمن، والمسألة فيما إذا لم ينقصها الوطء، وعن أبي يوسف رحمه الله في الفصل الأول أنه لا يبيع من غير بيان، كما إذا احتبس بفعله وهو قول الشافعي رحمه الله "فأما إذا فقأ عينها بنفسه أو فقأها أجنبي فأخذ أرشها لم يبعها مرابحة حتى يبين" لأنه صار مقصودا بالإتلاف فيقابلها شيء من الثمن، وكذا إذا وطئها وهي بكر لأن العذرة جزء من العين يقابلها الثمن وقد حبسها.
"ولو اشترى ثوبا فأصابه قرض فأر أو حرق نار يبيعه مرابحة من غير بيان، ولو تكسر بنشره وطيه لا يبيعه مرابحة حتى يبين" والمعنى ما بيناه.
قال: "ومن اشترى غلاما بألف درهم نسيئة فباعه بربح مائة ولم يبين فعلم المشتري، فإن شاء رده، وإن شاء قبل"؛ لأن للأجل شبها بالمبيع؛ ألا يرى أنه يزاد في الثمن لأجل الأجل، والشبهة في هذا ملحقة بالحقيقة فصار كأنه اشترى شيئين وباع أحدهما مرابحة بثمنهما، والإقدام على المرابحة يوجب السلامة عن مثل هذه الخيانة، فإذا ظهرت يخير كما في العيب "وإن استهلكه ثم علم لزمه بألف ومائة"؛ لأن الأجل لا يقابله شيء من الثمن.
قال: "فإن كان ولاه إياه ولم يبين رده إنشاء"؛ لأن الخيانة في التولية مثلها في المرابحة؛ لأنه بناء على الثمن الأول "وإن كان استهلكه ثم علم لزمه بألف حالة" لما ذكرناه، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يرد القيمة ويسترد كل الثمن، وهو نظير ما إذا استوفى الزيوف مكان الجياد وعلم بعد الاتفاق، وسيأتيك من بعد إن شاء الله تعالى، وقيل يقوم بثمن حال وبثمن مؤجل فيرجع بفضل ما بينهما، ولو لم يكن الأجل مشروطا في العقد ولكنه منجم معتاد قيل لا بد من بيانه؛ لأن المعروف كالمشروط، وقيل يبيعه ولا يبينه؛ لأن الثمن حال.
قال: "ومن ولى رجلا شيئا بما قام عليه ولم يعلم المشتري بكم قام عليه فالبيع فاسد" لجهالة الثمن "فإن أعلمه البائع، يعني في المجلس فهو بالخيار، إن شاء أخذه وإن شاء تركه"

 

ج / 3 ص -59-         لأن الفساد لم يتقرر، فإذا حصل العلم في المجلس جعل كابتداء العقد وصار كتأخير القبول إلى آخر المجلس وبعد الافتراق قد تقرر فلا يقبل الإصلاح، ونظيره بيع الشيء برقمه إذا علم في المجلس، وإنما يتخير؛ لأن الرضا لم يتم قبله لعدم العلم فيتخير كما في خيار الرؤية.

فصل: "ومن اشترى شيئا مما ينقل ويحول لم يجز له بيعه حتى يقبضه"
لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع ما لم يقبض ولأن فيه غرر انفساخ العقد على اعتبار الهلاك. "ويجوز بيع العقار قبل القبض عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمه الله. وقال محمد رحمه الله: لا يجوز" رجوعا إلى إطلاق الحديث واعتبارا بالمنقول وصار كالإجارة، ولهما أن ركن البيع صدر من أهله في محله، ولا غرر فيه؛ لأن الهلاك في العقار نادر، بخلاف المنقول، والغرر المنهي عنه غرر انفساخ العقد، والحديث معلول به عملا بدلائل الجواز والإجارة، قيل على هذا الخلاف؛ ولو سلم فالمعقود عليه في الإجارة المنافع وهلاكها غير نادر.
قال: "ومن اشترى مكيلا مكايلة أو موزونا موازنة فاكتاله أو اتزنه ثم باعه مكايلة أو موازنة لم يجز للمشترى منه أن يبيعه ولا أن يأكله حتى يعيد الكيل والوزن" لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه صاعان: صاع البائع، وصاع المشتري؛ ولأنه يحتمل أن يزيد على المشروط وذلك للبائع والتصرف في مال الغير حرام فيجب التحرز عنه، بخلاف ما إذا باعه مجازفة؛ لأن الزيادة له، وبخلاف ما إذا باع الثوب مذارعة؛ لأن الزيادة له إذ الذرع وصف في الثوب، بخلاف القدر، ولا معتبر بكيل البائع قبل البيع وإن كان بحضرة المشتري؛ لأنه ليس صاع البائع والمشتري وهو الشرط، ولا بكيله بعد البيع بغيبة المشتري؛ لأن الكيل من باب التسليم؛ لأن به يصير المبيع معلوما ولا تسليم إلا بحضرته، ولو كاله البائع بعد البيع بحضرة المشتري فقد قيل لا يكتفى به لظاهر الحديث، فإنه اعتبر صاعين والصحيح أنه يكتفى به؛ لأن المبيع صار معلوما بكيل واحد وتحقق معنى التسليم، ومحمل الحديث اجتماع الصفقتين على ما نبين في باب السلم إن شاء الله تعالى، ولو اشترى المعدود عدا فهو كالمذروع فيما يروى عنهما لأنه ليس بمال الربا، وكالموزون فيما يروى عن أبي حنيفة رحمه الله لأنه لا تحل له الزيادة على المشروط.
قال: "والتصرف في الثمن قبل القبض جائز" لقيام المطلق وهو الملك وليس فيه غرر الانفساخ بالهلاك لعدم تعينها بالتعيين، بخلاف المبيع.
قال: "ويجوز للمشتري أن يزيد للبائع في الثمن ويجوز للبائع أن يزيد للمشتري في

 

ج / 3 ص -60-         المبيع، ويجوز أن يحط من الثمن ويتعلق الاستحقاق بجميع ذلك" فالزيادة والحط يلتحقان بأصل العقد عندنا، وعند زفر والشافعي رحمه الله لا يصحان على اعتبار الالتحاق، بل على اعتبار ابتداء الصلة، لهما أنه لا يمكن تصحيح الزيادة ثمنا؛ لأنه يصير ملكه عوض ملكه فلا يلتحق بأصل العقد، وكذا الحط؛ لأن كل الثمن صار مقابلا بكل المبيع فلا يمكن إخراجه فصار برا مبتدأ، ولنا أنهما بالحط والزيادة يغيران العقد من وصف مشروع إلى وصف مشروع وهو كونه رابحا أو خاسرا أو عدلا، ولهما ولاية الرفع فأولى أن يكون لهما ولاية التغير، وصار كما إذا أسقطا الخيار أو شرطاه بعد العقد، ثم إذا صح يلتحق بأصل العقد؛ لأن وصف الشيء يقوم به لا بنفسه، بخلاف حط الكل؛ لأنه تبديل لأصله لا تغيير لوصفه فلا يلتحق به، وعلى اعتبار الالتحاق لا تكون الزيادة عوضا عن ملكه، ويظهر حكم الالتحاق في التولية والمرابحة حتى يجوز على الكل في الزيادة ويباشر على الباقي في الحط وفي الشفعة حتى يأخذ بما بقي في الحط، وإنما كان للشفيع أن يأخذ بدون الزيادة لما في الزيادة من إبطال حقه الثابت فلا يملكانه، ثم الزيادة لا تصح بعد هلاك المبيع على ظاهر الرواية؛ لأن المبيع لم يبق على حالة يصح الاعتياض عنه والشيء يثبت ثم يستند، بخلاف الحط لأنه بحال يمكن إخراج البدل عما يقابله فيلتحق بأصل العقد استنادا.
قال: "ومن باع بثمن حال ثم أجله أجلا معلوما صار مؤجلا"؛ لأن الثمن حقه فله أن يؤخره تيسيرا على من عليه، ألا ترى أنه يملك إبراءه مطلقا فكذا مؤقتا، ولو أجله إلى أجل مجهول إن كانت الجهالة متفاحشة كهبوب الريح لا يجوز، وإن كانت متقاربة كالحصاد والدياس يجوز؛ لأنه بمنزلة الكفالة وقد ذكرناه من قبل.
قال: "وكل دين حال إذا أجله صاحبه صار مؤجلا"؛ لما ذكرنا "إلا القرض" فإن تأجيله لا يصح؛ لأنه إعارة وصلة في الابتداء حتى يصح بلفظة الإعارة، ولا يملكه من لا يملك التبرع كالوصي والصبي ومعاوضة في الانتهاء، فعلى اعتبار الابتداء لا يلزم التأجيل فيه كما في الإعارة، إذ لا جبر في التبرع، وعلى اعتبار الانتهاء لا يصح؛ لأنه يصير بيع الدراهم بالدراهم نسيئة وهو ربا، وهذا بخلاف ما إذا أوصى أن يقرض من ماله ألف درهم فلانا إلى سنة حيث يلزم الورثة من ثلثه أن يقرضوه ولا يطالبوه قبل المدة؛ لأنه وصية بالتبرع بمنزلة الوصية بالخدمة والسكنى فيلزم حقا للموصي، والله تعالى أعلم.

باب الربا
قال: "الربا محرم في كل مكيل أو موزون إذا بيع بجنسه متفاضلا" فالعلة عندنا الكيل

 

ج / 3 ص -61-         مع الجنس والوزن مع الجنس. قال رضي الله عنه: ويقال القدر مع الجنس وهو أشمل. والأصل فيه الحديث المشهور وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "الحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد، والفضل ربا" وعد الأشياء الستة: الحنطة والشعير والتمر والملح والذهب والفضة على هذا المثال. ويروى بروايتين بالرفع مثل وبالنصب مثلا. ومعنى الأول بيع التمر، ومعنى الثاني بيعوا التمر، والحكم معلوم بإجماع القائسين لكن العلة عندنا ما ذكرناه. وعند الشافعي رحمه الله: الطعم في المطعومات والثمنية في الأثمان، والجنسية شرط، والمساواة مخلص. والأصل هو الحرمة عنده لأنه نص على شرطين التقابض والمماثلة وكل ذلك يشعر بالعزة والخطر كاشتراط الشهادة في النكاح، فيعلل بعلة تناسب إظهار الخطر والعزة وهو الطعم لبقاء الإنسان به والثمنية لبقاء الأموال التي هي مناط المصالح بها، ولا أثر للجنسية في ذلك فجعلناه شرطا والحكم قد يدور مع الشرط. ولنا أنه أوجب المماثلة شرطا في البيع وهو المقصود بسوقه تحقيقا لمعنى البيع، إذ هو ينبئ عن التقابل وذلك بالتماثل، أو صيانة لأموال الناس عن التوى، أو تتميما للفائدة باتصال التسليم به، ثم يلزم عند فوته حرمة الربا والمماثلة بين الشيئين باعتبار الصورة والمعنى، والمعيار يسوى الذات، والجنسية تسوى المعنى فيظهر الفضل على ذلك فيتحقق الربا، لأن الربا هو الفضل المستحق لأحد المتعاقدين في المعاوضة الخالي عن عوض شرط فيه، ولا يعتبر الوصف لأنه لا يعد تفاوتا عرفا، أو لأن في اعتباره سد باب البياعات، أو لقوله عليه الصلاة والسلام: "جيدها ورديئها سواء" والطعم والثمنية من أعظم وجوه المنافع، والسبيل في مثلها الإطلاق بأبلغ الوجوه لشدة الاحتياج إليها دون التضييق فيه فلا معتبر بما ذكره. إذا ثبت هذا نقول إذا: بيع المكيل أو الموزون بجنسه مثلا بمثل جاز البيع فيه لوجوب شرط الجواز، وهو المماثلة في المعيار؛ ألا ترى إلى ما يروى مكان قوله، مثلا بمثل كيلا بكيل، وفي الذهب بالذهب وزنا بوزن "وإن تفاضلا لم يجز" لتحقق الربا "ولا يجوز بيع الجيد بالرديء مما فيه الربا إلا مثلا بمثل" لإهدار التفاوت في الوصف "ويجوز بيع الحفنة بالحفنتين والتفاحة بالتفاحتين" لأن المساواة بالمعيار ولم يوجد فلم يتحقق الفضل، ولهذا كان مضمونا بالقيمة عند الإتلاف. وعند الشافعي رحمه الله العلة هي الطعم ولا مخلص وهو المساواة فيحرم، وما دون نصف الصاع فهو في حكم الحفنة لأنه لا تقدير في الشرع بما دونه، ولو تبايعا مكيلا أو موزونا غير مطعوم بجنسه متفاضلا كالجص والحديد لا يجوز عندنا لوجود القدر والجنس. وعنده يجوز لعدم الطعم والثمنية.
قال: "وإذا عدم الوصفان الجنس والمعنى المضموم إليه حل التفاضل والنساء" لعدم العلة المحرمة.

 

ج / 3 ص -62-         والأصل فيه الإباحة. وإذا وجدا. حرم التفاضل والنساء لوجود العلة. وإذا وجد أحدهما وعدم الآخر حل التفاضل وحرم النساء مثل أن يسلم هرويا في هروي أو حنطة في شعير، فحرمة ربا الفضل بالوصفين وحرمة النساء بأحدهما. وقال الشافعي: الجنس بانفراده لا يحرم النساء لأن بالنقدية وعدمها لا يثبت إلا شبهة الفضل، وحقيقة الفضل غير مانع فيه حتى يجوز بيع الواحد بالاثنين فالشبهة أولى. ولنا أنه مال الربا من وجه نظرا إلى القدر أو الجنس والنقدية أوجبت فضلا في المالية فتتحقق شبهة الربا وهي مانعة كالحقيقة، إلا أنه إذا أسلم النقود في الزعفران ونحوه يجوز، وإن جمعهما الوزن لأنهما لا يتفقان في صفة الوزن، فإن الزعفران يوزن بالأمناء وهو مثمن يتعين بالتعيين، والنقود توزن بالسنجات وهو ثمن لا يتعين بالتعيين. ولو باع بالنقود موازنة وقبضها صح التصرف فيها قبل الوزن، وفي الزعفران وأشباهه لا يجوز، فإذا اختلفا فيه صورة ومعنى وحكما لم يجمعهما القدر من كل وجه فتنزل الشبهة فيه إلى شبهة الشبهة وهي غير معتبرة.
قال: "وكل شيء نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريم التفاضل فيه كيلا فهو مكيل أبدا، وإن ترك الناس الكيل فيه مثل الحنطة والشعير والتمر والملح وكل ما نص على تحريم التفاضل فيه وزنا فهو موزون أبدا، وإن ترك الناس الوزن فيه مثل الذهب والفضة" لأن النص أقوى من العرف والأقوى لا يترك بالأدنى "وما لم ينص عليه فهو محمول على عادات الناس" لأنها دلالة. وعن أبي يوسف أنه يعتبر العرف على خلاف المنصوص عليه أيضا لأن النص على ذلك لمكان العادة فكانت هي المنظور إليها وقد تبدلت، فعلى هذا لو باع الحنطة بجنسها متساويا وزنا، أو الذهب بجنسه متماثلا كيلا لا يجوز عندهما، وإن تعارفوا ذلك لتوهم الفضل على ما هو المعيار فيه، كما إذا باع مجازفة إلا أنه يجوز الإسلام في الحنطة ونحوها وزنا لوجود الإسلام في معلوم.
قال: "وكل ما ينسب إلى الرطل فهو وزني" معناه ما يباع بالأواقي لأنها قدرت بطريق الوزن حتى يحتسب ما يباع بها وزنا، بخلاف سائر المكاييل، وإذا كان موزونا فلو بيع بمكيال لا يعرف وزنه بمكيال مثله لا يجوز لتوهم الفضل في الوزن بمنزلة المجازفة.
قال: "وعقد الصرف ما وقع على جنس الأثمان يعتبر فيه قبض عوضيه في المجلس" لقوله عليه الصلاة والسلام:
"والفضة بالفضة هاء وهاء" معناه يدا بيد، وسنبين الفقه في الصرف إن شاء الله تعالى.
قال: "وما سواه مما فيه الربا يعتبر فيه التعيين ولا يعتبر فيه التقابض خلافا للشافعي

 

ج / 3 ص -63-         في بيع الطعام". له قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المعروف "يدا بيد" ولأنه إذا لم يقبض في المجلس فيتعاقب القبض وللنقد مزية فتثبت شبهة الربا. ولنا أنه مبيع متعين فلا يشترط فيه القبض كالثوب، وهذا لأن الفائدة المطلوبة إنما هو التمكن من التصرف ويترتب ذلك على التعيين، بخلاف الصرف لأن القبض فيه ليتعين به؛ ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام "يدا بيد" عينا بعين، وكذا رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه وتعاقب القبض لا يعتبر تفاوتا في المال عرفا، بخلاف النقد والمؤجل.
قال: "ويجوز بيع البيضة بالبيضتين والتمرة بالتمرتين والجوزة بالجوزتين" لانعدام المعيار فلا يتحقق الربا. والشافعي يخالفنا فيه لوجود الطعم على ما مر.
قال: "ويجوز بيع الفلس بالفلسين بأعيانهما" عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: لا يجوز لأن الثمنية تثبت باصطلاح الكل فلا تبطل باصطلاحهما، وإذا بقيت أثمانا لا تتعين فصار كما إذا كانا بغير أعيانهما وكبيع الدرهم بالدرهمين. ولهما أن الثمنية في حقهما تثبت باصطلاحهما إذ لا ولاية للغير عليهما فتبطل باصطلاحهما وإذا بطلت الثمنية تتعين بالتعيين ولا يعود وزنيا لبقاء الاصطلاح على العد إذ في نقضه في حق العد فساد العقد فصار كالجوزة بالجوزتين بخلاف النقود لأنها للثمنية خلقة، وبخلاف ما إذا كانا بغير أعيانهما لأنه كالئ بالكالئ وقد نهي عنه، وبخلاف ما إذا كان أحدهما بغير عينه لأن الجنس بانفراده يحرم النساء.
قال: "ولا يجوز بيع الحنطة بالدقيق ولا بالسويق" لأن المجانسة باقية من وجه لأنهما من أجزاء الحنطة والمعيار فيهما الكيل، لكن الكيل غير مسو بينهما وبين الحنطة لاكتنازهما فيه وتخلخل حبات الحنطة فلا يجوز وإن كان كيلا بكيل "ويجوز بيع الدقيق بالدقيق متساويا كيلا" لتحقق الشرط "وبيع الدقيق بالسويق لا يجوز" عند أبي حنيفة متفاضلا، ولا متساويا لأنه لا يجوز بيع الدقيق بالمقلية ولا بيع السويق بالحنطة، فكذا بيع أجزائهما لقيام المجانسة من وجه. وعندهما يجوز لأنهما جنسان مختلفان لاختلاف المقصود. قلنا: معظم المقصود وهو التغذي يشملهما فلا يبالى بفوات البعض كالمقلية مع غير المقلية والعلكة بالمسوسة.
قال: "ويجوز بيع اللحم بالحيوان" عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: إذا باعه بلحم من جنسه لا يجوز إلا إذا كان اللحم المفرز أكثر ليكون اللحم بمقابلة ما فيه من اللحم والباقي بمقابلة السقط، إذ لو لم يكن كذلك يتحقق الربا من حيث زيادة

 

ج / 3 ص -64-         السقط أو من حيث زيادة اللحم فصار كالخل بالسمسم. ولهما أنه باع الموزون بما ليس بموزون، لأن الحيوان لا يوزن عادة ولا يمكن معرفة ثقله بالوزن لأنه يخفف نفسه مرة بصلابته ويثقل أخرى، بخلاف تلك المسألة لأن الوزن في الحال يعرف قدر الدهن إذا ميز بينه وبين الثجير، ويوزن الثجير.
قال: "ويجوز بيع الرطب بالتمر مثلا بمثل عند أبي حنيفة" وقالا: لا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام حين سأل عنه
"أو ينقص إذا جف؟ فقيل نعم، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا إذا" وله أن الرطب تمر لقوله عليه الصلاة والسلام حين أهدى إليه رطب: "أ و كل تمر خيبر هكذا؟" سماه تمرا. وبيع التمر بمثله جائز لما روينا، ولأنه لو كان تمرا جاز البيع بأول الحديث، وإن كان غير تمر فبآخره، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم" ومدار ما روياه على زيد بن عياش وهو ضعيف عند النقلة.
قال: "وكذا العنب بالزبيب" يعني على الخلاف والوجه ما بيناه. وقيل لا يجوز بالاتفاق اعتبارا بالحنطة المقلية بغير المقلية، والرطب بالرطب يجوز متماثلا كيلا عندنا لأنه بيع التمر بالتمر، وكذا بيع الحنطة الرطبة أو المبلولة بمثلها أو باليابسة، أو التمر أو الزبيب المنقع بالمنقع منهما متماثلا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد رحمه الله لا يجوز جميع ذلك لأنه يعتبر المساواة في أعدل الأحوال وهو المال، وأبو حنيفة رحمه الله يعتبره في الحال، وكذا أبو يوسف رحمه الله عملا بإطلاق الحديث إلا أنه ترك هذا الأصل في بيع الرطب بالتمر لما رويناه لهما. ووجه الفرق لمحمد رحمه الله بين هذه الفصول وبين الرطب بالرطب أن التفاوت فيما يظهر مع بقاء البدلين على الاسم الذي عقد عليه العقد، وفي الرطب بالتمر مع بقاء أحدهما على ذلك فيكون تفاوتا في عين المعقود عليه، وفي الرطب بالرطب التفاوت بعد زوال ذلك الاسم فلم يكن تفاوتا في المعقود عليه فلا يعتبر. ولو باع البسر بالتمر متفاضلا لا يجوز لأن البسر تمر، بخلاف الكفرى حيث يجوز بيعه بما شاء من التمر اثنان بواحد لأنه ليس بتمر، فإن هذا الاسم له من أول ما تنعقد صورته لا قبله، والكفرى عددي متفاوت، حتى لو باع التمر به نسيئة لا يجوز للجهالة.
قال: "ولا يجوز بيع الزيتون بالزيت والسمسم بالشيرج حتى يكون الزيت والشيرج أكثر مما في الزيتون والسمسم فيكون الدهن بمثله والزيادة بالثجير" لأن عند ذلك يعرى عن الربا إذ ما فيه من الدهن موزون، وهذا لأن ما فيه لو كان أكثر أو مساويا له، فالثجير وبعض الدهن أو الثجير وحده فضل، ولو لم يعلم مقدار ما فيه لا يجوز لاحتمال الربا، والشبهة فيه

 

ج / 3 ص -65-         كالحقيقة، والجوز بدهنه واللبن بسمنه والعنب بعصيره والتمر بدبسه على هذا الاعتبار. واختلفوا في القطن بغزله، والكرباس بالقطن يجوز كيفما كان بالإجماع.
قال: "ويجوز بيع اللحمان المختلفة بعضها ببعض متفاضلا" ومراده لحم الإبل والبقر والغنم؛ فأما البقر والجواميس جنس واحد، وكذا المعز مع الضأن وكذا العراب مع البخاتي.
قال: "وكذلك ألبان البقر والغنم" وعن الشافعي رحمه الله لا يجوز لأنها جنس واحد لاتحاد المقصود. ولنا أن الأصول مختلفة حتى لا يكمل نصاب أحدهما بالآخر في الزكاة، فكذا أجزاؤها إذا لم تتبدل بالصنعة.
قال: "وكذا خل الدقل بخل العنب" للاختلاف بين أصليهما، فكذا بين ماءيهما ولهذا كان عصيراهما جنسين. وشعر المعز وصوف الغنم جنسان لاختلاف المقاصد.
قال: "وكذا شحم البطن بالألية أو باللحم" لأنها أجناس مختلفة لاختلاف الصور والمعاني والمنافع اختلافا فاحشا.
قال: "ويجوز بيع الخبز بالحنطة والدقيق متفاضلا" لأن الخبز صار عدديا أو موزونا فخرج من أن يكون مكيلا من كل وجه والحنطة مكيلة. وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا خير فيه، والفتوى على الأول، وهذا إذا كانا نقدين؛ فإن كانت الحنطة نسيئة جاز أيضا، وإن كان الخبز نسيئة يجوز عند أبي يوسف رحمه الله وعليه الفتوى، وكذا السلم في الخبز جائز في الصحيح، ولا خير في استقراضه عددا أو وزنا عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه يتفاوت بالخبز والخباز والتنور والتقدم والتأخر. وعند محمد رحمه الله يجوز بهما للتعامل، وعند أبي يوسف رحمه الله يجوز وزنا ولا يجوز عددا للتفاوت في آحاده.
قال: "ولا ربا بين المولى وعبده" لأن العبد وما في يده ملك لمولاه فلا يتحقق الربا، وهذا إذا كان مأذونا له ولم يكن عليه دين، فإن كان عليه دين لا يجوز لأن ما في يده ليس ملك المولى عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما تعلق به حق الغرماء فصار كالأجنبي فيتحقق الربا كما يتحقق بينه وبين مكاتبه.
قال: "ولا بين المسلم والحربي في دار الحرب" خلافا لأبي يوسف والشافعي رحمهما الله. لهما الاعتبار بالمستأمن منهم في دارنا. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام:
"لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب" ولأن مالهم مباح في دارهم فبأي طريق أخذه

 

ج / 3 ص -66-         المسلم أخذ مالا مباحا إذا لم يكن فيه غدر، بخلاف المستأمن منهم لأن ماله صار محظورا بعقد الأمان.

باب الحقوق
"ومن اشترى منزلا فوقه منزل فليس له الأعلى إلا أن يشتريه بكل حق هو له أو بمرافقه أو بكل قليل وكثير هو فيه أو منه. ومن اشترى بيتا فوقه بيت بكل حق لم يكن له الأعلى، ومن اشترى دارا بحدودها فله العلو والكنيف" جمع بين المنزل والبيت والدار، فاسم الدار ينتظم العلو لأنه اسم لما أدير عليه الحدود، والعلو من توابع الأصل وأجزائه فيدخل فيه. والبيت اسم لما يبات فيه، والعلو مثله، والشيء لا يكون تبعا لمثله فلا يدخل فيه إلا بالتنصيص عليه، والمنزل بين الدار والبيت لأنه يتأتى فيه مرافق السكنى مع ضرب قصور إذ لا يكون فيه منزل الدواب، فلشبهه بالدار يدخل العلو فيه تبعا عند ذكر التوابع، ولشبهه بالبيت لا يدخل فيه بدونه. وقيل في عرفنا يدخل العلو في جميع ذلك لأن كل مسكن يسمى بالفارسية خانه ولا يخلو عن علو، وكما يدخل العلو في اسم الدار يدخل الكنيف لأنه من توابعه، ولا تدخل الظلة إلا بذكر ما ذكرنا عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه مبني على هواء الطريق فأخذ حكمه. وعندهما إن كان مفتحه في الدار يدخل من غير ذكر شيء مما ذكرنا لأنه من توابعه فشابه الكنيف.
قال: "ومن اشترى بيتا في دار أو منزلا أو مسكنا لم يكن له الطريق إلا أن يشتريه بكل حق هو له أو بمرافقه أو بكل قليل وكثير، وكذا الشرب والمسيل" لأنه خارج الحدود إلا أنه من التوابع فيدخل بذكر التوابع، بخلاف الإجارة لأنها تعقد للانتفاع فلا يتحقق إلا به، إذ المستأجر لا يشتري الطريق عادة ولا يستأجره فيدخل تحصيلا للفائدة المطلوبة منه، أما الانتفاع بالمبيع ممكن بدونه لأن المشتري عادة يشتريه، وقد يتجر فيه فيبيعه من غيره فحصلت الفائدة، والله تعالى أعلم.

باب الاستحقاق
"ومن اشترى جارية فولدت عنده فاستحقها رجل ببينة فإنه يأخذها وولدها، وإن أقر بها لرجل لم يتبعها ولدها" ووجه الفرق أن البينة حجة مطلقة فإنها كاسمها مبينة فيظهر بها ملكه من الأصل والولد كان متصلا بها فيكون له.
أما الإقرار حجة قاصرة يثبت الملك في المخبر به ضرورة صحة الإخبار، وقد اندفعت بإثباته بعد الانفصال فلا يكون الولد له. ثم قيل: يدخل الولد في القضاء بالأم تبعا، وقيل

 

ج / 3 ص -67-         يشترط القضاء بالولد وإليه تشير المسائل، فإن القاضي إذا لم يعلم بالزوائد. قال محمد رحمه الله: لا تدخل الزوائد في الحكم، فكذا الولد إذا كان في يد غيره لا يدخل تحت الحكم بالأم تبعا.
قال: "ومن اشترى عبدا فإذا هو حر وقد قال العبد للمشتري اشترني فإني عبد له، فإن كان البائع حاضرا أو غائبا غيبة معروفة لم يكن على العبد شيء، وإن كان البائع لا يدرى أين هو رجع المشتري على العبد ورجع هو على البائع وإن ارتهن عبدا مقرا بالعبودية فوجده حرا لم يرجع عليه على كل حال". وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يرجع فيهما لأن الرجوع بالمعاوضة أو بالكفالة والموجود ليس إلا الإخبار كاذبا فصار كما إذا قال الأجنبي ذلك أو قال العبد ارتهني فإني عبد وهي المسألة الثانية. ولهما أن المشتري شرع في الشراء معتمدا على ما أمره وإقراره أني عبد، إذ القول له في الحرية فيجعل العبد بالأمر بالشراء ضامنا للثمن له عند تعذر رجوعه على البائع دفعا للغرور والضرر، ولا تعذر إلا فيما لا يعرف مكانه، والبيع عقد معاوضة فأمكن أن يجعل الآمر به ضامنا للسلامة كما هو موجبه، بخلاف الرهن لأنه ليس بمعاوضة بل هو وثيقة لاستيفاء عين حقه حتى يجوز الرهن ببدل الصرف والمسلم فيه مع حرمة الاستبدال فلا يجعل الأمر به ضمانا للسلامة، وبخلاف الأجنبي لأنه لا يعبأ بقوله فلا يتحقق الغرور. ونظير مسألتنا قول المولى بايعوا عبدي هذا فإني قد أذنت له ثم ظهر الاستحقاق فإنهم يرجعون عليه بقيمته، ثم في وضع المسألة ضرب إشكال على قول أبي حنيفة رحمه الله لأن الدعوى شرط في حرية العبد عنده، والتناقض يفسد الدعوى. وقيل إذا كان الوضع في حرية الأصل فالدعوى فيها ليس بشرط عنده لتضمنه تحريم فرج الأم. وقيل هو شرط لكن التناقض غير مانع لخفاء العلوق وإن كان الوضع في الإعتاق فالتناقض لا يمنع لاستبداد المولى به فصار كالمختلعة تقيم البينة على الطلقات الثلاث قبل الخلع والمكاتب يقيمها على الإعتاق قبل الكتابة.
قال: "ومن ادعى حقا في دار" معناه حقا مجهولا "فصالحه الذي في يده على مائة درهم فاستحقت الدار إلا ذراعا منها لم يرجع بشيء" لأن للمدعي أن يقول دعواي في هذا الباقي.
قال: "وإن ادعاها كلها فصالحه على مائة درهم فاستحق منها شيء رجع بحسابه" لأن التوفيق غير ممكن فوجب الرجوع ببدله عند فوات سلامة المبدل، ودلت المسألة على أن الصلح عن المجهول على معلوم جائز لأن الجهالة فيما يسقط لا تفضي إلى المنازعة. والله تعالى أعلم بالصواب.

 

ج / 3 ص -68-         فصل: في بيع الفضولي
قال: "ومن باع ملك غيره بغير أمره فالمالك بالخيار، إن شاء أجاز البيع؛ وإن شاء فسخ" وقال الشافعي رحمه الله: لا ينعقد لأنه لم يصدر عن ولاية شرعية لأنها بالملك أو بإذن المالك وقد فقدا، ولا انعقاد إلا بالقدرة الشرعية. ولنا أنه تصرف تمليك وقد صدر من أهله في محله فوجب القول بانعقاده، إذ لا ضرر فيه للمالك مع تخييره، بل فيه نفعه حيث يكفي مؤنة طلب المشتري وقرار الثمن وغيره، وفيه نفع العاقد لصون كلامه عن الإلغاء، وفيه نفع المشتري فثبت للقدرة الشرعية تحصيلا لهذه الوجوه، كيف وإن الإذن ثابت دلالة لأن العاقل يأذن في التصرف النافع.
قال: "وله الإجازة إذا كان المعقود عليه باقيا والمتعاقدان بحالهما" لأن الإجازة تصرف في العقد فلا بد من قيامه وذلك بقيام العاقدين والمعقود عليه. وإذا أجاز المالك كان الثمن مملوكا له أمانة في يده بمنزلة الوكيل، لأن الإجازة اللاحقة بمنزلة الوكالة السابقة، وللفضولي أن يفسخ قبل الإجازة دفعا للحقوق عن نفسه، بخلاف الفضولي في النكاح لأنه معبر محض، هذا إذا كان الثمن دينا، فإن كان عرضا معينا إنما تصح الإجازة إذا كان العرض باقيا أيضا. ثم الإجازة إجازة نقد لا إجازة عقد حتى يكون العرض الثمن مملوكا للفضولي، وعليه مثل المبيع إن كان مثليا أو قيمته إن لم يكن مثليا، لأنه شراء من وجه والشراء لا يتوقف على الإجازة. ولو هلك المالك لا ينفذ بإجازة الوارث في الفصلين لأنه توقف على إجازة المورث لنفسه فلا يجوز بإجازة غيره. ولو أجاز المالك في حياته ولا يعلم حال المبيع جاز البيع في قول أبي يوسف رحمه الله أولا، وهو قول محمد رحمه الله لأن الأصل بقاؤه، ثم رجع أبو يوسف رحمه الله وقال: لا يصح حتى يعلم قيامه عند الإجازة لأن الشك وقع في شرط الإجازة فلا يثبت مع الشك.
قال: "ومن غصب عبدا فباعه وأعتقه المشتري ثم أجاز المولى البيع فالعتق جائز" استحسانا، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد رحمهم الله: لا يجوز لأنه لا عتق بدون الملك، قال عليه الصلاة والسلام:
"لا عتق فيما لا يملك ابن آدم" والموقوف لا يفيد الملك، ولو ثبت في الآخرة يثبت مستندا وهو ثابت من وجه دون وجه، والمصحح للإعتاق الملك الكامل لما روينا، ولهذا لا يصح أن يعتق الغاصب ثم يؤدي الضمان، ولا أن يعتق المشتري والخيار للبائع ثم يجيز البائع ذلك، وكذا لا يصح بيع المشتري من الغاصب فيما نحن فيه مع أنه أسرع نفاذا حتى نفذ من الغاصب إذا أدى الضمان

 

ج / 3 ص -69-         وكذا لا يصح إعتاق المشتري من الغاصب إذا أدى الغاصب الضمان. ولهما أن الملك ثبت موقوفا بتصرف مطلق موضوع لإفادة الملك، ولا ضرر فيه على ما مر فتوقف الإعتاق مرتبا عليه وينفذ بنفاذه فصار كإعتاق المشتري من الراهن وكإعتاق الوارث عبدا من التركة وهي مستغرقة بالديون يصح، وينفذ إذا قضى الديون بعد ذلك، بخلاف إعتاق الغاصب بنفسه لأن الغصب غير موضوع لإفادة الملك، وبخلاف ما إذا كان في البيع خيار البائع لأنه ليس بمطلق، وقران الشرط به يمنع انعقاده في حق الحكم أصلا، وبخلاف بيع المشتري من الغاصب إذا باع لأن بالإجازة يثبت للبائع ملك بات، فإذا طرأ على ملك موقوف لغيره أبطله، وأما إذا أدى الغاصب الضمان ينفذ إعتاق المشتري منه كذا ذكره هلال رحمه الله وهو الأصح.
قال: "فإن قطعت يد العبد فأخذ أرشها ثم أجاز المولى البيع فالأرش للمشتري" لأن الملك قد تم له من وقت الشراء، فتبين أن القطع حصل على ملكه وهذه حجة على محمد، والعذر له أن الملك من وجه يكفي لاستحقاق الأرش كالمكاتب إذا قطعت يده وأخذ الأرش ثم رد في الرق يكون الأرش للمولى، فكذا إذا قطعت يد المشترى في يد المشتري والخيار للبائع ثم أجيز البيع فالأرش للمشتري، بخلاف الإعتاق على ما مر. "ويتصدق بما زاد على نصف الثمن" لأنه لم يدخل في ضمانه أو فيه شبهة عدم الملك.
قال: "فإن باعه المشتري من آخر ثم أجاز المولى البيع الأول لم يجز البيع الثاني" لما ذكرنا، ولأن فيه غرر الانفساخ على اعتبار عدم الإجازة في البيع الأول والبيع يفسد به، بخلاف الإعتاق عندهما لأنه لا يؤثر فيه الغرر.
قال: "فإن لم يبعه المشتري فمات في يده أو قتل ثم أجاز البيع لم يجز" لما ذكرنا أن الإجازة من شروطها قيام المعقود عليه وقد فات بالموت وكذا بالقتل، إذ لا يمكن إيجاب البدل للمشتري بالقتل حتى يعد باقيا ببقاء البدل لأنه لا ملك للمشتري عند القتل ملكا يقابل بالبدل فتحقق الفوات، بخلاف البيع الصحيح لأن ملك المشتري ثابت فأمكن إيجاب البدل له فيكون المبيع قائما بقيام خلفه.
قال: "ومن باع عبد غيره بغير أمره وأقام المشتري البينة على إقرار البائع أو رب العبد أنه لم يأمره بالبيع وأراد رد المبيع لم تقبل بينته" للتناقض في الدعوى، إذ الإقدام على الشراء إقرار منه بصحته، والبينة مبنية على صحة الدعوى "وإن أقر البائع بذلك عند القاضي بطل البيع" إن طلب المشتري ذلك، لأن التناقض لا يمنع صحة الإقرار، وللمشتري أن يساعده

 

ج / 3 ص -70-         على ذلك فيتحقق الاتفاق بينهما، فلهذا شرط طلب المشتري.
قال رحمه الله: وذكر في الزيادات أن المشتري إذا صدق مدعيه ثم أقام البينة على إقرار البائع أنه للمستحق تقبل. وفرقوا أن العبد في هذه المسألة في يد المشتري. وفي تلك المسألة في يد غيره وهو المستحق، وشرط الرجوع بالثمن أن لا يكون العين سالما للمشتري.
قال: "ومن باع دارا لرجل وأدخلها المشتري في بنائه لم يضمن البائع" عند أبي حنيفة رحمه الله وهو قول أبي يوسف رحمه الله آخرا، وكان يقول أولا: يضمن البائع، وهو قول محمد رحمه الله وهي مسألة غصب العقار وسنبينه إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب.

باب السلم
السلم: عقد مشروع بالكتاب وهو آية المداينة، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: أشهد أن الله تعالى أحل السلف المضمون وأنزل فيها أطول آية في كتابه، وتلا قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282]. وبالسنة وهو ما روي "أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم", والقياس وإن كان يأباه ولكنا تركناه بما رويناه. ووجه القياس أنه بيع المعدوم إذ المبيع هو المسلم فيه.
قال: "وهو جائز في المكيلات والموزونات" لقوله عليه الصلاة والسلام:
"من أسلم منكم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" والمراد بالموزونات غير الدراهم والدنانير لأنهما أثمان، والمسلم فيه لا بد أن يكون مثمنا فلا يصح السلم فيهما ثم قيل يكون باطلا، وقيل ينعقد بيعا بثمن مؤجل تحصيلا لمقصود المتعاقدين بحسب الإمكان، والعبرة في العقود للمعاني والأول أصح لأن التصحيح إنما يجب في محل أوجبا العقد فيه ولا يمكن ذلك.
قال: "وكذا في المذروعات" لأنه يمكن ضبطها بذكر الذرع والصفة والصنعة، ولا بد منها لترتفع الجهالة فيتحقق شرط صحة السلم، وكذا في المعدودات التي لا تتفاوت كالجوز والبيض، لأن العددي المتقارب معلوم القدر مضبوط الوصف مقدور التسليم فيجوز السلم فيه، والصغير والكبير فيه سواء لاصطلاح الناس على إهدار التفاوت، بخلاف البطيخ والرمان لأنه يتفاوت آحاده تفاوتا فاحشا، وبتفاوت الآحاد في المالية يعرف العددي

 

ج / 3 ص -71-         المتقارب. وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يجوز في بيض النعامة لأنه يتفاوت آحاده في المالية، ثم كما يجوز السلم فيها عددا يجوز كيلا. وقال زفر رحمه الله: لا يجوز كيلا لأنه عددي وليس بمكيل. وعنه أنه لا يجوز عددا أيضا للتفاوت. ولنا أن المقدار مرة يعرف بالعدد وتارة بالكيل، وإنما صار معدودا بالاصطلاح فيصير مكيلا باصطلاحهما وكذا في الفلوس عددا. وقيل هذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمه الله. وعند محمد رحمه الله لا يجوز لأنها أثمان. ولهما أن الثمنية في حقهما باصطلاحهما فتبطل باصطلاحهما ولا تعود وزنيا وقد ذكرناه من قبل.
"ولا يجوز السلم في الحيوان" وقال الشافعي رحمه الله: يجوز لأنه يصير معلوما ببيان الجنس والسن والنوع والصفة، والتفاوت بعد ذلك يسير فأشبه الثياب. ولنا أنه بعد ذكر ما ذكر يبقى فيه تفاوت فاحش في المالية باعتبار المعاني الباطنة فيفضي إلى المنازعة، بخلاف الثياب لأنه مصنوع العباد فقلما يتفاوت الثوبان إذا نسجا على منوال واحد. وقد صح
"أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن السلم في الحيوان" ويدخل فيه جميع أجناسه حتى العصافير.
قال: "ولا في أطرافه كالرءوس والأكارع" للتفاوت فيها إذ هو عددي متفاوت لا مقدر لها.
قال: "ولا في الجلود عددا ولا في الحطب حزما ولا في الرطبة جرزا" للتفاوت فيها، إلا إذا عرف ذلك بأن بين له طول ما يشد به الحزمة أنه شبر أو ذراع فحينئذ يجوز إذا كان على وجه لا يتفاوت.
قال: "ولا يجوز السلم حتى يكون المسلم فيه موجودا من حين العقد إلى حين المحل، حتى لو كان منقطعا عند العقد موجودا عند المحل أو على العكس أو منقطعا فيما بين ذلك لا يجوز" وقال الشافعي رحمه الله: يجوز إذا كان موجودا وقت المحل لوجود القدرة على التسليم حال وجوبه. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام:
"لا تسلفوا في الثمار حتى يبدو صلاحها" ولأن القدرة على التسليم بالتحصيل فلا بد من استمرار الوجود في مدة الأجل ليتمكن من التحصيل. "ولو انقطع بعد المحل فرب السلم بالخيار، إن شاء فسخ السلم، وإن شاء انتظر وجوده" لأن السلم قد صح والعجز الطارئ على شرف الزوال فصار كإباق المبيع قبل القبض.
قال: "ويجوز السلم في السمك المالح وزنا معلوما وضربا معلوما" لأنه معلوم القدر

 

ج / 3 ص -72-         مضبوط الوصف مقدور التسليم إذ هو غير منقطع "ولا يجوز السلم فيه عددا" للتفاوت.
قال: "ولا خير في السلم في السمك الطري إلا في حينه وزنا معلوما وضربا معلوما" لأنه ينقطع في زمان الشتاء، حتى لو كان في بلد لا ينقطع يجوز مطلقا، وإنما يجوز وزنا لا عددا لما ذكرنا. وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يجوز في لحم الكبار منها وهي التي تقطع اعتبارا بالسلم في اللحم عنده.
قال: "ولا خير في السلم في اللحم عند أبي حنيفة رحمه الله. وقالا: إذا وصف من اللحم موضعا معلوما بصفة معلومة جاز" لأنه موزون مضبوط الوصف ولهذا يضمن بالمثل. ويجوز استقراضه وزنا ويجري فيه ربا الفضل، بخلاف لحم الطيور لأنه لا يمكن وصف موضع منه. وله أنه مجهول للتفاوت في قلة العظم وكثرته أو في سمنه وهزاله على اختلاف فصول السنة، وهذه الجهالة مفضية إلى المنازعة. وفي مخلوع العظم لا يجوز على الوجه الثاني وهو الأصح، والتضمين بالمثل ممنوع. وكذا الاستقراض، وبعد التسليم فالمثل أعدل من القيمة، ولأن القبض يعاين فيعرف مثل المقبوض به في وقته، أما الوصف فلا يكتفى به.
قال: "ولا يجوز السلم إلا مؤجلا" وقال الشافعي رحمه الله: يجوز حالا لإطلاق الحديث ورخص في السلم. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام:
"إلى أجل معلوم" فيما روينا، ولأنه شرع رخصة دفعا لحاجة المفاليس فلا بد من الأجل ليقدر على التحصيل فيه فيسلم، ولو كان قادرا على التسليم لم يوجد المرخص فبقي على النافي.
قال: "ولا يجوز إلا بأجل معلوم" لما روينا، ولأن الجهالة فيه مفضية إلى المنازعة كما في البيع، والأجل أدناه شهر وقيل ثلاثة أيام، وقيل أكثر من نصف يوم. والأول أصح "ولا يجوز السلم بمكيال رجل بعينه ولا بذراع رجل بعينه" معناه إذا لم يعرف مقداره لأنه تأخر فيه التسليم فربما يضيع فيؤدي إلى المنازعة وقد مر من قبل، ولا بد أن يكون المكيال مما لا ينقبض ولا ينبسط كالقصاع مثلا، فإن كان مما ينكبس بالكبس كالزنبيل والجراب لا يجوز للمنازعة إلا في قرب الماء للتعامل فيه، كذا روي عن أبي يوسف رحمه الله.
قال: "ولا في طعام قرية بعينها" أو ثمرة نخلة بعينها لأنه قد يعتريه آفة فلا يقدر على التسليم وإليه أشار عليه الصلاة والسلام حيث قال "أرأيت لو أذهب الله تعالى الثمر بم يستحل أحدكم مال أخيه؟" ولو كانت النسبة إلى قرية لبيان الصفة لا بأس به على ما قالوا كالخشمراني ببخارى والبساخي بفرغانة.

 

ج / 3 ص -73-         قال: "ولا يصح السلم عند أبي حنيفة رحمه الله إلا بسبع شرائط: جنس معلوم" كقولنا حنطة أو شعير "ونوع معلوم" كقولنا سقية أو بخسية "وصفة معلومة" كقولنا جيد أو رديء "ومقدار معلوم" كقولنا كذا كيلا بمكيال معروف وكذا وزنا "وأجل معلوم" والأصل فيه ما روينا والفقه فيه ما بينا "ومعرفة مقدار رأس المال إذا كان يتعلق العقد على مقداره" كالمكيل والموزون والمعدود "وتسمية المكان الذي يوفيه فيه إذا كان له حمل ومؤنة" وقالا: لا يحتاج إلى تسمية رأس المال إذا كان معينا ولا إلى مكان التسليم ويسلمه في موضع العقد، فهاتان مسألتان. ولهما في الأولى أن المقصود يحصل بالإشارة فأشبه الثمن والأجرة وصار كالثوب. ولأبي حنيفة أنه ربما يوجد بعضها زيوفا ولا يستبدل في المجلس، فلو لم يعلم قدره لا يدري في كم بقي أو ربما لا يقدر على تحصيل المسلم فيه فيحتاج إلى رد رأس المال، والموهوم في هذا العقد كالمتحقق لشرعه مع المنافي، بخلاف ما إذا كان رأس المال ثوبا لأن الذرع وصف فيه لا يتعلق العقد على مقداره. ومن فروعه إذا أسلم في جنسين ولم يبين رأس مال كل واحد منهما، أو أسلم جنسين ولم يبين مقدار أحدهما. ولهما في الثانية أن مكان العقد يتعين لوجود العقد الموجب للتسليم، ولأنه لا يزاحمه مكان آخر فيه فيصير نظير أول أوقات الإمكان في الأوامر فصار كالقرض والغصب. ولأبي حنيفة رحمه الله أن التسليم غير واجب في الحال فلا يتعين، بخلاف القرض والغصب، وإذا لم يتعين فالجهالة فيه تفضي إلى المنازعة، لأن قيم الأشياء تختلف باختلاف المكان فلا بد من البيان، وصار كجهالة الصفة، وعن هذا قال من قال من المشايخ رحمهم الله إن الاختلاف فيه عنده يوجب التخالف كما في الصفة. وقيل على عكسه لأن تعين المكان قضية العقد عندهما، وعلى هذا الخلاف الثمن والأجرة والقسمة.
وصورتها: إذا اقتسما دارا وجعلا مع نصيب أحدهما شيئا له حمل ومؤنة. وقيل لا يشترط ذلك في الثمن. والصحيح أنه يشترط إذا كان مؤجلا، وهو اختيار شمس الأئمة السرخسي رحمه الله. وعندهما يتعين مكان الدار ومكان تسليم الدابة للإيفاء.
قال: "وما لم يكن له حمل ومؤنة لا يحتاج فيه إلى بيان مكان الإيفاء بالإجماع" لأنه لا تختلف قيمته "ويوفيه في المكان الذي أسلم فيه" قال رضي الله عنه: وهذه رواية الجامع الصغير والبيوع. وذكر في الإجارات أنه يوفيه في أي مكان شاء، وهو الأصح لأن الأماكن كلها سواء، ولا وجوب في الحال. ولو عينا مكانا، قيل لا يتعين لأنه لا يفيد، وقيل يتعين لأنه يفيد سقوط خطر الطريق، ولو عين المصر فيما له حمل ومؤنة يكتفى به لأنه مع تباين أطرافه كبقعة واحدة فيما ذكرنا.

 

ج / 3 ص -74-         قال: "ولا يصح السلم حتى يقبض رأس المال قبل أن يفارقه فيه" أما إذا كان من النقود فلأنه افتراق عن دين بدين، وقد "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الكالئ بالكالئ وإن كان عينا"، فلأن السلم أخذ عاجل بآجل، إذ الإسلام والإسلاف ينبئان عن التعجيل فلا بد من قبض أحد العوضين ليتحقق معنى الاسم، ولأنه لا بد من تسليم رأس المال ليتقلب المسلم إليه فيه فيقدر على التسليم، ولهذا قلنا: لا يصح السلم إذا كان فيه خيار الشرط لهما أو لأحدهما لأنه يمنع تمام القبض لكونه مانعا من الانعقاد في حق الحكم، وكذا لا يثبت فيه خيار الرؤية لأنه غير مفيد، بخلاف خيار العيب لأنه لا يمنع تمام القبض
ولو أسقط خيار الشرط قبل الافتراق ورأس المال قائم جاز خلافا لزفر، وقد مر نظيره "وجملة الشروط جمعوها في قولهم إعلام رأس المال وتعجيله وإعلام المسلم فيه وتأجيله وبيان مكان الإيفاء والقدرة على تحصيله، فإن أسلم مائتي درهم في كر حنطة مائة منها دين على المسلم إليه ومائة نقد فالسلم في حصة الدين باطل" لفوات القبض "ويجوز في حصة النقد" لاستجماع شرائطه ولا يشيع الفساد لأن الفساد طارئ، إذ السلم وقع صحيحا، ولهذا لو نقد رأس المال قبل الافتراق صح إلا أنه يبطل بالافتراق لما بينا، وهذا لأن الدين لا يتعين في البيع، ألا ترى أنهما لو تبايعا عينا بدين ثم تصادقا أن لا دين لا يبطل البيع فينعقد صحيحا.
قال: "ولا يجوز التصرف في رأس مال السلم والمسلم فيه قبل القبض" أما الأول فلما فيه من تفويت القبض المستحق بالعقد. وأما الثاني فلأن المسلم فيه مبيع والتصرف في المبيع قبل القبض لا يجوز.
قال: "ولا تجوز الشركة والتولية في المسلم فيه" لأنه تصرف فيه "فإن تقايلا السلم لم يكن له أن يشتري من المسلم إليه برأس المال شيئا حتى يقبضه كله" لقوله عليه الصلاة والسلام:
"لا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك" أي عند الفسخ، ولأنه أخذ شبها بالمبيع فلا يحل التصرف فيه قبل قبضه، وهذا لأن الإقالة بيع جديد في حق ثالث، ولا يمكن جعل المسلم فيه مبيعا لسقوطه فجعل رأس المال مبيعا لأنه دين مثله، إلا أنه لا يجب قبضه في المجلس لأنه ليس في حكم الابتداء من كل وجه، وفيه خلاف زفر رحمه الله، والحجة عليه ما ذكرناه.
قال: "ومن أسلم في كر حنطة فلما حل الأجل اشترى المسلم إليه من رجل كرا وأمر رب السلم بقبضه قضاء لم يكن قضاء، وإن أمره أن يقبضه له ثم يقبضه لنفسه فاكتاله له ثم اكتاله لنفسه جاز" لأنه اجتمعت الصفقتان بشرط الكيل فلا بد من الكيل مرتين لنهي النبي

 

ج / 3 ص -75-         عليه الصلاة والسلام عن بيع الطعام حتى يجري فيه صاعان، وهذا هو محمل الحديث على ما مر والسلم وإن كان سابقا لكن قبض المسلم فيه لاحق وأنه بمنزلة ابتداء البيع لأن العين غير الدين حقيقة. وإن جعل عينه في حق حكم خاص وهو حرمة الاستبدال فيتحقق البيع بعد الشراء، وإن لم يكن سلما وكان قرضا فأمره بقبض الكر جاز لأن القرض إعارة ولهذا ينعقد بلفظ الإعارة فكان المردود عين المأخوذ مطلقا حكما فلا تجتمع الصفقتان.
قال: "ومن أسلم في كر فأمر رب السلم أن يكيله المسلم إليه في غرائر رب السلم ففعل وهو غائب لم يكن قضاء" لأن الأمر بالكيل لم يصح لأنه لم يصادف ملك الآمر، [لأن] حقه في الدين دون العين فصار المسلم إليه مستعيرا للغرائر منه وقد جعل ملك نفسه فيها فصار كما لو كان عليه دراهم دين فدفع إليه كيسا ليزنها المديون فيه لم يصر قابضا. ولو كانت الحنطة مشتراة والمسألة بحالها صار قابضا لأن الأمر قد صح حيث صادف ملكه لأنه ملك العين بالبيع، ألا ترى أنه لو أمره بالطحن كان الطحين في السلم للمسلم إليه وفي الشراء للمشتري لصحة الأمر، وكذا إذا أمره أن يصبه في البحر في السلم يهلك من مال المسلم إليه وفي الشراء من مال المشتري، ويتقرر الثمن عليه لما قلنا، ولهذا يكتفى بذلك الكيل في الشراء في الصحيح لأنه نائب عنه في الكيل والقبض بالوقوع في غرائر المشتري، ولو أمره في الشراء أن يكيله في غرائر البائع ففعل لم يصر قابضا لأنه استعار غرائره ولم يقبضها فلا تصير الغرائر في يده، فكذا ما يقع فيها، وصار كما لو أمره أن يكيله ويعزله في ناحية من بيت البائع لأن البيت بنواحيه في يده فلم يصر المشتري قابضا. ولو اجتمع الدين والعين والغرائر للمشتري، إن بدأ بالعين صار قابضا، أما العين فلصحة الأمر فيه، وأما الدين فلاتصاله بملكه وبمثله يصير قابضا، كمن استقرض حنطة وأمره أن يزرعها في أرضه، وكمن دفع إلى صائغ خاتما وأمره أن يزيده من عنده نصف دينار، وإن بدأ بالدين لم يصر قابضا، أما الدين فلعدم صحة الأمر، وأما العين فلأنه خلطه بملكه قبل التسليم فصار مستهلكا عند أبي حنيفة رحمه الله فينتقض البيع، وهذا الخلط غير مرضي به من جهته لجواز أن يكون مراده البداءة بالعين وعندهما هو بالخيار إن شاء نقض البيع وإن شاء شاركه في المخلوط لأن الخلط ليس باستهلاك عندهما.
قال: "ومن أسلم جارية في كر حنطة وقبضها المسلم إليه ثم تقايلا فماتت في يد المشتري فعليه قيمتها يوم قبضها، ولو تقايلا بعد هلاك الجارية جاز" لأن صحة الإقالة تعتمد بقاء العقد وذلك بقيام المعقود عليه، وفي السلم المعقود عليه إنما هو المسلم فيه فصحت الإقالة حال بقائه، وإذا جاز ابتداء فأولى أن يبقى انتهاء، لأن البقاء أسهل، وإذا انفسخ العقد

 

ج / 3 ص -76-         في المسلم فيه انفسخ في الجارية تبعا فيجب عليه ردها وقد عجز فيجب عليه رد قيمتها "ولو اشترى جارية بألف درهم ثم تقايلا فماتت في يد المشتري بطلت الإقالة، ولو تقايلا بعد موتها فالإقالة باطلة" لأن المعقود عليه في البيع إنما هو الجارية فلا يبقى العقد بعد هلاكها فلا تصح الإقالة ابتداء ولا تبقى انتهاء لانعدام محله، وهذا بخلاف بيع المقايضة حيث تصح الإقالة وتبقى بعد هلاك أحد العوضين لأن كل واحد منهما مبيع فيه.
قال: "ومن أسلم إلى رجل دراهم في كر حنطة فقال المسلم إليه شرطت رديئا وقال رب السلم لم تشترط شيئا فالقول قول المسلم إليه" لأن رب السلم متعنت في إنكاره الصحة لأن المسلم فيه يربو على رأس المال في العادة، وفي عكسه قالوا: يجب أن يكون القول لرب السلم عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه يدعي الصحة وإن كان صاحبه منكرا. وعندهما القول للمسلم إليه لأنه منكر وإن أنكر الصحة، وسنقرره من بعد إن شاء الله تعالى "ولو قال المسلم إليه لم يكن له أجل وقال رب السلم بل كان له أجل فالقول قول رب السلم" لأن المسلم إليه متعنت في إنكاره حقا له وهو الأجل، والفساد لعدم الأجل غير متيقن لمكان الاجتهاد فلا يعتبر النفع في رد رأس المال، بخلاف عدم الوصف، وفي عكسه القول لرب السلم عندهما لأنه ينكر حقا له عليه فيكون القول قوله وإن أنكر الصحة كرب المال إذا قال للمضارب شرطت لك نصف الربح إلا عشرة وقال المضارب لا بل شرطت لي نصف الربح فالقول لرب المال لأنه ينكر استحقاق الربح وإن أنكر الصحة. وعند أبي حنيفة رحمه الله القول للمسلم إليه لأنه يدعي الصحة وقد اتفقا على عقد واحد فكانا متفقين على الصحة ظاهرا، بخلاف مسألة المضاربة لأنه ليس بلازم فلا يعتبر الاختلاف فيه فيبقى مجرد دعوى استحقاق الربح، أما السلم فلازم فصار الأصل أن من خرج كلامه تعنتا فالقول لصاحبه بالاتفاق، وإن خرج خصومة ووقع الاتفاق على عقد واحد فالقول لمدعي الصحة عنده، وعندهما للمنكر وإن أنكر الصحة.
قال: "ويجوز السلم في الثياب إذا بين طولا وعرضا ورقعة" لأنه أسلم في معلوم مقدور التسليم على ما ذكرنا، وإن كان ثوب حرير لا بد من بيان وزنه أيضا لأنه مقصود فيه. "ولا يجوز السلم في الجواهر ولا في الخرز" لأن آحادها متفاوتة تفاوتا فاحشا وفي صغار اللؤلؤ التي تباع وزنا يجوز السلم لأنه مما يعلم بالوزن "ولا بأس بالسلم في اللبن والآجر إذا سمى ملبنا معلوما" لأنه عددي متقارب لا سيما إذا سمي الملبن.
قال: "وكل ما أمكن ضبط صفته ومعرفة مقداره جاز السلم فيه" لأنه لا يفضي إلى المنازعة "وما لا يضبط صفته ولا يعرف مقداره لا يجوز السلم فيه" لأنه دين، وبدون الوصف

 

ج / 3 ص -77-         يبقى مجهولا جهالة تفضي إلى المنازعة "ولا بأس بالسلم في طست أو قمقمة أو خفين أو نحو ذلك إذا كان يعرف" لاستجماع شرائط السلم "وإن كان لا يعرف فلا خير فيه" لأنه دين مجهول.
قال: "وإن استصنع شيئا من ذلك بغير أجل جاز استحسانا" للإجماع الثابت بالتعامل. وفي القياس لا يجوز لأنه بيع المعدوم، والصحيح أنه يجوز بيعا لا عدة، والمعدوم قد يعتبر موجودا حكما، والمعقود عليه العين دون العمل، حتى لو جاء به مفروغا لا من صنعته أو من صنعته قبل العقد فأخذه جاز، ولا يتعين إلا بالاختيار، حتى لو باعه الصانع قبل أن يراه المستصنع جاز، وهذا كله هو الصحيح.
قال: "وهو بالخيار إذا رآه، إن شاء أخذه، وإن شاء تركه" لأنه اشترى شيئا لم يره ولا خيار للصانع، كذا ذكره في المبسوط وهو الأصح، لأنه باع ما لم يره. وعن أبي حنيفة رحمه الله أن له الخيار أيضا لأنه لا يمكنه تسليم المعقود عليه إلا بضرر وهو قطع الصرم وغيره. وعن أبي يوسف أنه لا خيار لهما. أما الصانع فلما ذكرنا. وأما المستصنع فلأن في إثبات الخيار له إضرارا بالصانع لأنه ربما لا يشتريه غيره بمثله ولا يجوز فيما لا تعامل فيه للناس كالثياب لعدم المجوز وفيما فيه تعامل إنما يجوز إذا أمكن إعلامه بالوصف ليمكن التسليم، وإنما قال بغير أجل لأنه لو ضرب الأجل فيما فيه تعامل يصير سلما عند أبي حنيفة خلافا لهما، ولو ضربه فيما لا تعامل فيه يصير سلما بالاتفاق. لهما أن اللفظ حقيقة للاستصناع فيحافظ على قضيته ويحمل الأجل على التعجيل، بخلاف ما لا تعامل فيه لأنه استصناع فاسد فيحمل على السلم الصحيح. ولأبي حنيفة أنه دين يحتمل السلم، وجواز السلم بإجماع لا شبهة فيه وفي تعاملهم الاستصناع نوع شبهة فكان الحمل على السلم أولى، والله أعلم.

مسائل منثورة
قال: "ويجوز بيع الكلب والفهد والسباع، المعلم وغير المعلم في ذلك سواء" وعن أبي يوسف أنه لا يجوز بيع الكلب العقور لأنه غير منتفع به. وقال الشافعي: لا يجوز بيع الكلب، لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن من السحت مهر البغي وثمن الكلب" ولأنه نجس العين والنجاسة تشعر بهوان المحل وجواز البيع يشعر بإعزازه فكان منتفيا. ولنا "أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الكلب إلا كلب صيد أو ماشية" ولأنه منتفع به حراسة واصطيادا فكان ما لا يجوز بيعه، بخلاف الهوام المؤذية؛ لأنه لا ينتفع بها، والحديث محمول

 

ج / 3 ص -78-         على الابتداء قلعا لهم عن الاقتناء ولا نسلم نجاسة العين، ولو سلم فيحرم التناول دون البيع.
وقال: "ولا يجوز بيع الخمر والخنزير" لقوله عليه الصلاة والسلام:
"إن الذي حرم شربها حرم بيعها وأكل ثمنها" ولأنه ليس بمال في حقنا، وقد ذكرناه.
قال: "وأهل الذمة في البياعات كالمسلمين" لقوله عليه الصلاة والسلام في ذلك الحديث:
"فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين" ولأنهم مكلفون محتاجون كالمسلمين.
قال: "إلا في الخمر والخنزير خاصة" فإن عقدهم على الخمر كعقد المسلم على العصير، وعقدهم على الخنزير كعقد المسلم على الشاة؛ لأنها أموال في اعتقادهم، ونحن أمرنا بأن نتركهم وما يعتقدون. دل عليه قول عمر: ولوهم بيعها وخذوا العشر من أثمانها.
قال: "ومن قال لغيره بع عبدك من فلان بألف درهم على أني ضامن لك خمسمائة من الثمن سوى الألف ففعل فهو جائز ويأخذ الألف من المشتري والخمسمائة من الضامن، وإن كان لم يقل من الثمن جاز البيع بألف ولا شيء على الضمين" وأصله أن الزيادة في الثمن والمثمن جائز عندنا، وتلتحق بأصل العقد خلافا لزفر والشافعي لأنه تغيير للعقد من وصف مشروع إلى وصف مشروع وهو كونه عدلا أو خاسرا أو رابحا، ثم قد لا يستفيد المشتري بها شيئا بأن زاد في الثمن وهو يساوي المبيع بدونها فيصح اشتراطها على الأجنبي كبدل الخلع لكن من شرطها المقابلة تسمية وصورة، فإذا قال من الثمن وجد شرطها فيصح، وإذا لم يقل لم يوجد فلم يصح.
قال: "ومن اشترى جارية ولم يقبضها حتى زوجها فوطئها الزوج فالنكاح جائز" لوجود سبب الولاية، وهو الملك في الرقبة على الكمال وعليه المهر. "وهذا قبض" لأن وطء الزوج حصل بتسليط من جهته فصار فعله كفعله "إن لم يطأها فليس بقبض" والقياس أن يصير قابضا؛ لأنه تعييب حكمي فيعتبر بالتعييب الحقيقي. وجه الاستحسان أن في الحقيقي استيلاء على المحل وبه يصير قابضا ولا كذلك الحكمي فافترقا.
قال: "ومن اشترى عبدا فغاب فأقام البائع البينة أنه باعها إياه، فإن كانت غيبته معروفة لم يبع في دين البائع" لأنه يمكن إيصال البائع إلى حقه بدون البيع، وفيه إبطال حق المشتري "وإن لم يدر أين هو بيع العبد وأوفى الثمن" لأن ملك المشتري ظهر بإقراره

 

ج / 3 ص -79-         فيظهر على الوجه الذي أقر به مشغولا بحقه، وإذا تعذر استيفاؤه من المشتري يبيعه القاضي فيه كالراهن إذا مات والمشتري إذا مات مفلسا والمبيع لم يقبض، بخلاف ما بعد القبض؛ لأن حقه لم يبق متعلقا به، ثم إن فضل شيء يمسك للمشتري؛ لأنه بدل حقه وإن نقص يتبع هو أيضا.
قال: "فإن كان المشتري اثنين فغاب أحدهما فللحاضر أن يدفع الثمن كله ويقبضه، وإذا حضر الآخر لم يأخذ نصيبه حتى ينقد شريكه الثمن كله وهو قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: إذا دفع الحاضر الثمن كله لم يقبض إلا نصيبه وكان متطوعا بما أدى عن صاحبه" لأنه قضى دين غيره بغير أمره فلا يرجع عليه وهو أجنبي عن نصيب صاحبه فلا يقبضه. ولهما أنه مضطر فيه لأنه لا يمكنه الانتفاع بنصيبه إلا بأداء جميع الثمن؛ لأن البيع صفقة واحدة، وله حق الحبس ما بقي شيء منه، والمضطر يرجع كمعير الرهن، وإذا كان له أن يرجع عليه كان له حق الحبس عنه إلى أن يستوفي حقه كالوكيل بالشراء إذا قضى الثمن من مال نفسه.
قال: "ومن اشترى جارية بألف مثقال ذهب وفضة فهما نصفان" لأنه أضاف المثقال إليهما على السواء فيجب من كل واحد منهما خمسمائة مثقال لعدم الأولوية، وبمثله لو اشترى جارية بألف من الذهب والفضة يجب من الذهب مثاقيل ومن الفضة دراهم وزن سبعة لأنه أضاف الألف إليهما فينصرف إلى الوزن المعهود في كل واحد منهما.
قال: "ومن له على آخر عشرة دراهم جياد فقضاه زيوفا وهو لا يعلم فأنفقها أو هلكت فهو قضاء عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وقال أبو يوسف: يرد مثل زيوفه ويرجع بدراهمه" لأن حقه في الوصف مرعي كهو في الأصل، ولا يمكن رعايته بإيجاب ضمان الوصف لأنه لا قيمة له عند المقابلة بجنسه فوجب المصير إلى ما قلنا. ولهما أنه من جنس حقه. حتى لو تجوز به فيما لا يجوز الاستبدال جاز فيقع به الاستيفاء ولا يبقى حقه إلا في الجودة، ولا يمكن تداركها بإيجاب ضمانها لما ذكرنا، وكذا بإيجاب ضمان الأصل لأنه إيجاب له عليه ولا نظير له.
قال: "وإذا أفرخ طير في أرض رجل فهو لمن أخذه" وكذا إذا باض فيها "وكذا إذا تكنس فيها ظبي" لأنه مباح سبقت يده إليه ولأنه صيد وإن كان يؤخذ بغير حيلة والصيد لمن أخذه، وكذا البيض؛ لأنه أصل الصيد ولهذا يجب الجزاء على المحرم بكسره أو شيه، وصاحب الأرض لم يعد أرضه فصار كنصب شبكة للجفاف وكذا إذا دخل الصيد داره

 

ج / 3 ص -80-         أو وقع ما نثر من السكر والدراهم في ثيابه ما لم يكفه أو كان مستعدا له، بخلاف ما إذا عسل النحل في أرضه لأنه عد من أنزاله فيملكه تبعا لأرضه كالشجر النابت فيها والتراب المجتمع في أرضه بجريان الماء، والله أعلم.