الهداية في شرح بداية المبتدي

ج / 3 ص -81-         كتاب الصرف
قال: "الصرف هو البيع إذا كان كل واحد من عوضيه من جنس الأثمان" سمي به للحاجة إلى النقل في بدليه من يد إلى يد. والصرف هو النقل والرد لغة، أو لأنه لا يطلب منه إلا الزيادة إذ لا ينتفع بعينه، والصرف هو الزيادة لغة كذا قاله الخليل ومنه سميت العبادة النافلة صرفا.
قال: "فإن باع فضة بفضة أو ذهبا بذهب لا يجوز إلا مثلا بمثل وإن اختلفا في الجودة والصياغة" لقوله عليه الصلاة والسلام:
"الذهب بالذهب مثلا بمثل وزنا بوزن يدا بيد والفضل ربا" الحديث. وقال عليه الصلاة والسلام: "جيدها ورديئها سواء" وقد ذكرناه في البيوع.
قال: "ولا بد من قبض العوضين قبل الافتراق" لما روينا، ولقول عمر رضي الله عنه: وإن استنظرك أن يدخل بيته فلا تنظره، ولأنه لا بد من قبض أحدهما ليخرج العقد عن الكالئ بالكالئ ثم لا بد من قبض الآخر تحقيقا للمساواة فلا يتحقق الربا، ولأن أحدهما ليس بأولى من الآخر فوجب قبضهما سواء كانا يتعينان كالمصوغ أو لا يتعينان كالمضروب أو يتعين أحدهما ولا يتعين الآخر لإطلاق ما روينا، ولأنه إن كان يتعين ففيه شبهة عدم التعيين لكونه ثمنا خلقة فيشترط قبضه اعتبارا للشبهة في الربا، والمراد منه الافتراق بالأبدان، حتى لو ذهبا عن المجلس يمشيان معا في جهة واحدة أو ناما في المجلس أو أغمي عليهما لا يبطل الصرف لقول ابن عمر رضي الله عنه وإن وثب من سطح فثب معه، وكذا المعتبر ما ذكرناه في قبض رأس مال السلم، بخلاف خيار المخيرة لأنه يبطل بالإعراض فيه. "وإن باع الذهب بالفضة جاز التفاضل" لعدم المجانسة "ووجب التقابض" لقوله عليه الصلاة والسلام:
"الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء" "فإن افترقا في الصرف قبل قبض العوضين أو أحدهما بطل العقد" لفوات الشرط وهو القبض ولهذا لا يصح شرط الخيار فيه ولا الأجل لأن بأحدهما لا يبقى القبض مستحقا وبالثاني يفوت القبض المستحق، إلا إذا أسقط الخيار في المجلس فيعود إلى الجواز لارتفاعه قبل تقرره وفيه خلاف زفر رحمه الله.

 

ج / 3 ص -82-         قال: "ولا يجوز التصرف في ثمن الصرف قبل قبضه، حتى لو باع دينارا بعشرة دراهم ولم يقبض العشرة حتى اشترى بها ثوبا فالبيع في الثوب فاسد" لأن القبض مستحق بالعقد حقا لله تعالى، وفي تجويزه فواته، وكان ينبغي أن يجوز العقد في الثوب كما نقل عن زفر، لأن الدراهم لا تتعين فينصرف العقد إلى مطلقها، ولكنا نقول: الثمن في باب الصرف مبيع لأن البيع لا بد له منه ولا شيء سوى الثمنين فيجعل كل واحد منهما مبيعا لعدم الأولوية وبيع المبيع قبل القبض لا يجوز، وليس من ضرورة كونه مبيعا أن يكون متعينا كما في المسلم فيه.
قال: "ويجوز بيع الذهب بالفضة مجازفة" لأن المساواة غير مشروطة فيه ولكن يشترط القبض في المجلس لما ذكرنا، بخلاف بيعه بجنسه مجازفة لما فيه من احتمال الربا.
قال: "ومن باع جارية قيمتها ألف مثقال فضة وفي عنقها طوق فضة قيمته ألف مثقال بألفي مثقال فضة ونقد من الثمن ألف مثقال ثم افترقا فالذي نقد ثمن الفضة" لأن قبض حصة الطوق واجب في المجلس لكونه بدل الصرف، والظاهر منه الإتيان بالواجب "وكذا لو اشتراها بألفي مثقال ألف نسيئة وألف نقدا فالنقد ثمن الطوق" لأن الأجل باطل في الصرف جائز في بيع الجارية، والمباشرة على وجه الجواز وهو الظاهر منهما "وكذلك إن باع سيفا محلى بمائة درهم وحليته خمسون فدفع من الثمن خمسين جاز البيع وكان المقبوض حصة الفضة وإن لم يبين ذلك لما بينا، وكذلك إن قال: خذ هذه الخمسين من ثمنهما" لأن الاثنين قد يراد بذكرهما الواحد، قال الله تعالى:
{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22] والمراد أحدهما فيحمل عليه لظاهر حاله "فإن لم يتقابضا حتى افترقا بطل العقد في الحلية" لأنه صرف فيها "وكذا في السيف إن كان لا يتخلص إلا بضرر" لأنه لا يمكن تسليمه بدون الضرر ولهذا لا يجوز إفراده بالبيع كالجذع في السقف "وإن كان يتخلص بغير ضرر جاز البيع في السيف وبطل في الحلية" لأنه أمكن إفراده بالبيع فصار كالطوق والجارية، وهذا إذا كانت الفضة المفردة أزيد مما فيه، فإن كانت مثله أو أقل منه أو لا يدري لا يجوز البيع للربا أو لاحتماله، وجهة الصحة من وجه وجهة الفساد من وجهين فترجحت.
قال: "ومن باع إناء فضة ثم افترقا وقد قبض بعض ثمنه بطل البيع فيما لم يقبض وصح فيما قبض وكان الإناء مشتركا بينهما" لأنه صرف كله فصح فيما وجد شرطه وبطل فيما لم يوجد والفساد طارئ لأنه يصح ثم يبطل بالافتراق فلا يشيع.
قال: "ولو استحق بعض الإناء فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ الباقي بحصته وإن شاء

 

ج / 3 ص -83-         رده" لأن الشركة عيب في الإناء. "ومن باع قطعة نقرة ثم استحق بعضها أخذ ما بقي بحصتها ولا خيار له" لأنه لا يضره التبعيض.
قال: "ومن باع درهمين ودينارا بدرهم ودينارين جاز البيع وجعل كل جنس بخلافه" وقال زفر والشافعي رحمهما الله: لا يجوز وعلى هذا الخلاف إذا باع كر شعير وكر حنطة بكري شعير وكري حنطة: ولهما أن في الصرف إلى خلاف الجنس تغيير تصرفه لأنه قابل الجملة بالجملة، ومن قضيته الانقسام على الشيوع لا على التعيين، والتغيير لا يجوز وإن كان فيه تصحيح التصرف، كما إذا اشترى قلبا بعشرة وثوبا بعشرة ثم باعهما مرابحة لا يجوز وإن أمكن صرف الربح إلى الثوب، وكذا إذا اشترى عبدا بألف درهم ثم باعه قبل نقد الثمن من البائع مع عبد آخر بألف وخمسمائة لا يجوز في المشترى بألف وإن أمكن تصحيحه بصرف الألف إليه. وكذا إذا جمع بين عبده وعبد غيره وقال بعتك أحدهما لا يجوز وإن أمكن تصحيحه بصرفه إلى عبده. وكذا إذا باع درهما وثوبا بدرهم وثوب وافترقا من غير قبض فسد العقد في الدرهمين ولا يصرف الدرهم إلى الثوب لما ذكرنا. ولنا أن المقابلة المطلقة تحتمل مقابلة الفرد بالفرد كما في مقابلة الجنس بالجنس، وأنه طريق متعين لتصحيحه فيحمل عليه تصحيحا لتصرفه، وفيه تغيير وصفه لا أصله لأنه يبقى موجبه الأصلي وهو ثبوت الملك في الكل بمقابلة الكل، وصار هذا كما إذا باع نصف عبد مشترك بينه وبين غيره ينصرف إلى نصيبه تصحيحا لتصرفه بخلاف ما عد من المسائل.
أما مسألة المرابحة فلأنه يصير تولية في القلب بصرف الربح كله إلى الثوب. والطريق في المسألة الثانية غير متعين لأنه يمكن صرف الزيادة على الألف إلى المشتري. وفي الثالثة أضيف البيع إلى المنكر وهو ليس بمحل للبيع والمعين ضده. وفي الأخيرة العقد انعقد صحيحا والفساد في حالة البقاء وكلامنا في الابتداء.
قال: "ومن باع أحد عشر درهما بعشرة دراهم ودينار جاز البيع وتكون العشرة بمثلها والدينار بدرهم" لأن شرط البيع في الدراهم التماثل على ما روينا، فالظاهر أنه أراد به ذلك فبقي الدرهم بالدينار وهما جنسان ولا يعتبر التساوي فيهما. "ولو تبايعا فضة بفضة أو ذهبا بذهب وأحدهما أقل ومع أقلهما شيء آخر تبلغ قيمته باقي الفضة جاز البيع من غير كراهية، وإن لم تبلغ فمع الكراهة، وإن لم يكن له قيمة كالتراب لا يجوز البيع" لتحقق الربا إذ الزيادة لا يقابلها عوض فيكون ربا.
قال: "ومن كان له على آخر عشرة دراهم فباعه الذي عليه العشرة دينارا بعشرة دراهم

 

ج / 3 ص -84-         ودفع الدينار وتقاصا العشرة بالعشرة فهو جائز" ومعنى المسألة إذا باع بعشرة مطلقة. ووجهه أنه يجب بهذا العقد ثمن يجب عليه تعيينه بالقبض لما ذكرنا، والدين ليس بهذه الصفة فلا تقع المقاصة بنفس المبيع لعدم المجانسة، فإذا تقاصا يتضمن ذلك فسخ الأول والإضافة إلى الدين، إذ لولا ذلك يكون استبدالا ببدل الصرف، وفي الإضافة إلى الدين تقع المقاصة بنفس العقد على ما نبينه، والفسخ قد يثبت بطريق الاقتضاء كما إذا تبايعا بألف ثم بألف وخمسمائة، وزفر يخالفنا فيه لأنه لا يقول بالاقتضاء، وهذا إذا كان الدين سابقا. فإن كان لاحقا فكذلك في أصح الروايتين لتضمنه انفساخ الأول والإضافة إلى دين قائم وقت تحويل العقد فكفى ذلك للجواز.
قال: "ويجوز بيع درهم صحيح ودرهمي غلة بدرهمين صحيحين ودرهم غلة" والغلة ما يرده بيت المال ويأخذه التجار. ووجهه تحقق المساواة في الوزن وما عرف من سقوط اعتبار الجودة.
قال: "وإذا كان الغالب على الدراهم الفضة فهي فضة، وإذا كان الغالب على الدنانير الذهب فهي ذهب، ويعتبر فيهما من تحريم التفاضل ما يعتبر في الجياد حتى لا يجوز بيع الخالصة بها ولا بيع بعضها ببعض إلا متساويا في الوزن. وكذا لا يجوز الاستقراض بها إلا وزنا" لأن النقود لا تخلو عن قليل غش عادة لأنها لا تنطبع إلا مع الغش، وقد يكون الغش خلقيا كما في الرديء منه فيلحق القليل بالرداءة، والجيد والرديء سواء "وإن كان الغالب عليهما الغش فليسا في حكم الدراهم والدنانير" اعتبارا للغالب، فإن اشترى بها فضة خالصة فهو على الوجوه التي ذكرناها في حلية السيف. "وإن بيعت بجنسها متفاضلا جاز صرفا للجنس إلى خلاف الجنس" فهي في حكم شيئين فضة وصفر ولكنه صرف حتى يشترط القبض في المجلس لوجود الفضة من الجانبين، فإذا شرط القبض في الفضة يشترط في الصفر لأنه لا يتميز عنه إلا بضرر.
قال رضي الله عنه: ومشايخنا رحمهم الله لم يفتوا بجواز ذلك في العدالى والغطارفة لأنها أعز الأموال في ديارنا، فلو أبيح التفاضل فيه ينفتح باب الربا، ثم إن كانت تروج بالوزن فالتبايع والاستقراض فيها بالوزن، وإن كانت تروج بالعد فبالعد، وإن كانت تروج بهما فبكل واحد منهما لأن المعتبر هو المعتاد فيهما إذا لم يكن فيهما نص، ثم هي ما دامت تروج تكون أثمانا لا تتعين بالتعيين، وإذا كانت لا تروج فهي سلعة تتعين بالتعيين، وإذا كانت يتقبلها البعض دون البعض فهي كالزيوف لا يتعلق العقد بعينها بل بجنسها زيوفا إن كان البائع يعلم بحالها لتحقق الرضا منه، وبجنسها من الجياد إن كان لا يعلم لعدم الرضا منه.

 

ج / 3 ص -85-         "وإذا اشترى بها سلعة فكسدت وترك الناس المعاملة بها بطل البيع عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف رحمهما الله: عليه قيمتها يوم البيع. وقال محمد رحمه الله: قيمتها آخر ما تعامل الناس بها" لهما أن العقد قد صح إلا أنه تعذر التسليم بالكساد وأنه لا يوجب الفساد، كما إذا اشترى بالرطب فانقطع أوانه. وإذا بقي العقد وجبت القيمة، لكن عند أبي يوسف رحمه الله وقت البيع لأنه مضمون به، وعند محمد رحمه الله يوم الانقطاع لأنه أوان الانتقال إلى القيمة. ولأبي حنيفة رحمه الله أن الثمن يهلك بالكساد؛ لأن الثمنية بالاصطلاح وما بقي فيبقى بيعا بلا ثمن فيبطل، وإذا بطل البيع يجب رد المبيع إن كان قائما وقيمته إن كان هالكا كما في البيع الفاسد.
قال: "ويجوز البيع بالفلوس" لأنها مال معلوم، فإن كانت نافقة جاز البيع بها وإن لم تتعين لأنها أثمان بالاصطلاح، وإن كانت كاسدة لم يجز البيع بها حتى يعينها لأنها سلع فلا بد من تعيينها "وإذا باع بالفلوس النافقة ثم كسدت بطل البيع عند أبي حنيفة رحمه الله خلافا لهما" وهو نظير الاختلاف الذي بيناه. "ولو استقرض فلوسا نافقة فكسدت عند أبي حنيفة رحمه الله يجب عليه مثلها" لأنه إعارة، وموجبه رد العين معنى والثمنية فضل فيه إذ القرض لا يختص به. وعندهما تجب قيمتها لأنه لما بطل وصف الثمنية تعذر ردها كما قبض فيجب رد قيمتها، كما إذا استقرض مثليا فانقطع، لكن عند أبي يوسف رحمه الله يوم القبض، وعند محمد رحمه الله يوم الكساد على ما مر من قبل، وأصل الاختلاف فيمن غصب مثليا فانقطع، وقول محمد رحمه الله أنظر للجانبين، وقول أبي يوسف أيسر.
قال: "ومن اشترى شيئا بنصف درهم فلوس جاز وعليه ما يباع بنصف درهم من الفلوس وكذا إذا قال بدانق فلوس أو بقيراط فلوس جاز". وقال زفر: لا يجوز في جميع ذلك لأنه اشترى بالفلوس وأنها تقدر بالعدد لا بالدانق والدرهم فلا بد من بيان عددها، ونحن نقول: ما يباع بالدانق ونصف الدرهم من الفلوس معلوم عند الناس والكلام فيه فأغنى عن بيان العدد. ولو قال بدرهم فلوس أو بدرهمي فلوس فكذا عند أبي يوسف رحمه الله لأن ما يباع بالدرهم من الفلوس معلوم وهو المراد لا وزن الدرهم من الفلوس. وعن محمد رحمه الله أنه لا يجوز بالدرهم ويجوز فيما دون الدرهم، لأن في العادة المبايعة بالفلوس فيما دون الدرهم فصار معلوما بحكم العادة، ولا كذلك الدرهم قالوا: وقول أبي يوسف رحمه الله أصح لا سيما في ديارنا.
قال: "ومن أعطى صيرفيا درهما وقال أعطني بنصفه فلوسا وبنصفه نصفا إلا حبة جاز البيع في الفلوس وبطل فيما بقي عندهما" لأن بيع نصف درهم بالفلوس جائز وبيع النصف

 

ج / 3 ص -86-         بنصف إلا حبة ربا فلا يجوز "وعلى قياس قول أبي حنيفة رحمه الله بطل في الكل" لأن الصفقة متحدة والفساد قوي فيشيع وقد مر نظيره، ولو كرر لفظ الإعطاء كان جوابه كجوابهما هو الصحيح لأنهما بيعان "ولو قال أعطني نصف درهم فلوسا ونصفا إلا حبة جاز" لأنه قابل الدرهم بما يباع من الفلوس بنصف درهم وبنصف درهم إلا حبة فيكون نصف درهم إلا حبة بمثله وما وراءه بإزاء الفلوس. قال رضي الله عنه: وفي أكثر نسخ المختصر ذكر المسألة الثانية، والله تعالى أعلم بالصواب.