الهداية في شرح بداية المبتدي

ج / 3 ص -101-       كتاب أدب القاضي
قال: "ولا تصح ولاية القاضي حتى يجتمع في المولى شرائط الشهادة ويكون من أهل الاجتهاد" أما الأول فلأن حكم القضاء يستقى من حكم الشهادة لأن كل واحد منهما من باب الولاية، فكل من كان أهلا للشهادة يكون أهلا للقضاء وما يشترط لأهلية الشهادة يشترط لأهلية القضاء. والفاسق أهل للقضاء حتى لو قلد يصح، إلا أنه لا ينبغي أن يقلد كما في حكم الشهادة فإنه لا ينبغي أن يقبل القاضي شهادته، ولو قبل جاز عندنا. ولو كان القاضي عدلا ففسق بأخذ الرشوة أو غيره لا ينعزل ويستحق العزل، وهذا هو ظاهر المذهب وعليه مشايخنا رحمهم الله. وقال الشافعي رحمه الله: الفاسق لا يجوز قضاؤه كما لا تقبل شهادته عنده، وعن علمائنا الثلاثة رحمهم الله في النوادر أنه لا يجوز قضاؤه. وقال بعض المشايخ رحمهم الله: إذا قلد الفاسق ابتداء يصح، ولو قلد وهو عدل ينعزل بالفسق لأن المقلد اعتمد عدالته فلم يكن راضيا بتقليده دونها. وهل يصلح الفاسق مفتيا؟ قيل لا لأنه من أمور الدين وخبره غير مقبول في الديانات، وقيل يصلح لأنه يجتهد كل الجهد في إصابة الحق حذار النسبة إلى الخطإ، وأما الثاني فالصحيح أن أهلية الاجتهاد شرط الأولوية. فأما تقليد الجاهل فصحيح عندنا خلافا للشافعي رحمه الله، وهو يقول: إن الأمر بالقضاء يستدعي القدرة عليه ولا قدرة دون العلم. ولنا أنه يمكنه أن يقضي بفتوى غيره، ومقصود القضاء يحصل به وهو إيصال الحق إلى مستحقه. وينبغي للمقلد أن يختار من هو الأقدر والأولى لقوله عليه الصلاة والسلام: "من قلد إنسانا عملا وفي رعيته من هو أولى منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين". وفي حد الاجتهاد كلام عرف في أصول الفقه.
وحاصله أن يكون صاحب حديث له معرفة بالفقه ليعرف معاني الآثار أو صاحب فقه له معرفة بالحديث لئلا يشتغل بالقياس في المنصوص عليه وقيل أن يكون مع ذلك صاحب قريحة يعرف بها عادات الناس لأن من الأحكام ما يبتني عليها.
قال: "ولا بأس بالدخول في القضاء لمن يثق بنفسه أن يؤدي فرضه" لأن الصحابة رضي الله عنهم تقلدوه وكفى بهم قدوة، ولأنه فرض كفاية لكونه أمرا بالمعروف.

 

ج / 3 ص -102-       قال: "ويكره الدخول فيه لمن يخاف العجز عنه ولا بأس على نفسه الحيف فيه" كي لا يصير شرطا لمباشرته القبيح، وكره بعضهم الدخول فيه مختارا لقوله عليه الصلاة والسلام: "من جعل على القضاء فكأنما ذبح بغير سكين" والصحيح أن الدخول فيه رخصة طمعا في إقامة العدل والترك عزيمة فلعله يخطئ ظنه ولا يوفق له أو لا يعينه عليه غيره، ولا بد من الإعانة إلا إذا كان هو أهلا للقضاء دون غيره فحينئذ يفترض عليه التقلد صيانة لحقوق العباد وإخلاء للعالم عن الفساد.
قال: "وينبغي أن لا يطلب الولاية ولا يسألها" لقوله عليه الصلاة والسلام:
"من طلب القضاء وكل إلى نفسه ومن أجبر عليه نزل عليه ملك يسدده" ولأن من طلبه يعتمد على نفسه فيحرم، ومن أجبر عليه يتوكل على ربه فيلهم. "ثم يجوز التقلد من السلطان الجائر كما يجوز من العادل" لأن الصحابة رضي الله عنهم تقلدوه من معاوية رضي الله عنه والحق كان بيد علي رضي الله عنه في نوبته، والتابعين تقلدوه من الحجاج وكان جائزا إلا إذا كان لا يمكنه من القضاء بحق لأن المقصود لا يحصل بالتقلد، بخلاف ما إذا كان يمكنه.
قال: "ومن قلد القضاء يسلم إليه ديوان القاضي الذي كان قبله" وهو الخرائط التي فيها السجلات وغيرها، لأنها وضعت فيها لتكون حجة عند الحاجة فتجعل في يد من له ولاية القضاء. ثم إن كان البياض من بيت المال فظاهر، وكذا إذا كان من مال الخصوم في الصحيح لأنهم وضعوها في يده لعمله وقد انتقل إلى المولى، وكذا إذا كان من مال القاضي هو الصحيح لأنه اتخذه تدينا لا تمولا، ويبعث أمينين ليقبضاها بحضرة المعزول أو أمينه ويسألانه شيئا فشيئا، ويجعلان كل نوع منها في خريطة كي لا يشتبه على المولى، وهذا السؤال لكشف الحال لا للإلزام.
قال: "وينظر في حال المحبوسين" لأنه نصب ناظرا "فمن اعترف بحق ألزمه إياه" لأن الإقرار ملزم "ومن أنكر لم يقبل قول المعزول عليه إلا ببينة" لأنه بالعزل التحق بالرعايا، وشهادة الفرد ليست بحجة لا سيما إذا كانت على فعل نفسه "فإن لم تقم بينة لم يعجل بتخليته حتى ينادى عليه وينظر في أمره" لأن فعل القاضي المعزول حق ظاهر فلا يعجل كي لا يؤدي إلى إبطال حق الغير. "وينظر في الودائع وارتفاع الوقوف فيعمل فيه على ما تقوم به البينة أو يعترف به من هو في يده" لأن كل ذلك حجة. "ولا يقبل قول المعزول" لما بينا "إلا أن يعترف الذي هو في يده أن المعزول سلمها إليه فيقبل قوله فيها" لأنه ثبت بإقراره أن اليد كانت للقاضي فيصح إقرار القاضي كأنه في يده في الحال، إلا إذا بدأ بالإقرار لغيره ثم

 

ج / 3 ص -103-       أقر بتسليم القاضي فيسلم ما في يده إلى المقر له الأول لسبق حقه ويضمن قيمته للقاضي بإقراره الثاني ويسلم إلى المقر له من جهة القاضي.
قال: "ويجلس للحكم جلوسا ظاهرا في المسجد" كي لا يشتبه مكانه على الغرباء وبعض المقيمين، والمسجد الجامع أولى لأنه أشهر. وقال الشافعي رحمه الله: يكره الجلوس في المسجد للقضاء لأنه يحضره المشرك وهو نجس بالنص والحائض وهي ممنوعة عن دخوله. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام:
"إنما بنيت المساجد لذكر الله تعالى والحكم". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفصل الخصومة في معتكفه وكذا الخلفاء الراشدون كانوا يجلسون في المساجد لفصل الخصومات، ولأن القضاء عبادة فيجوز إقامتها في المسجد كالصلاة. ونجاسة المشرك في اعتقاده لا في ظاهره فلا يمنع من دخوله، والحائض تخبر بحالها فيخرج القاضي إليها أو إلى باب المسجد أو يبعث من يفصل بينها وبين خصمها كما إذا كانت الخصومة في الدابة. ولو جلس في داره لا بأس به ويأذن للناس بالدخول فيها، ويجلس معه من كان يجلس قبل ذلك لأن في جلوسه وحده تهمة.
قال: "ولا يقبل هدية إلا من ذي رحم محرم أو ممن جرت عادته قبل القضاء بمهاداته" لأن الأول صلة الرحم والثاني ليس للقضاء بل جرى على العادة، وفيما وراء ذلك يصير آكلا بقضائه، حتى لو كانت للقريب خصومة لا يقبل هديته، وكذا إذا زاد المهدي على المعتاد أو كانت له خصومة لأنه لأجل القضاء فيتحاماه. ولا يحضر دعوة إلا أن تكون عامة لأن الخاصة لأجل القضاء فيتهم بالإجابة، بخلاف العامة، ويدخل في هذا الجواب قريبه وهو قولهما. وعن محمد رحمه الله أنه يجيبه وإن كانت خاصة كالهدية، والخاصة ما لو علم المضيف أن القاضي لا يحضرها لا يتخذها.
قال: "ويشهد الجنازة ويعود المريض" لأن ذلك من حقوق المسلمين، قال عليه الصلاة والسلام:
"للمسلم على المسلم ستة حقوق" وعد منها هذين. "ولا يضيف أحد الخصمين دون خصمه" لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، ولأن فيه تهمة.
قال: "وإذا حضرا سوى بينهما في الجلوس والإقبال" لقوله عليه الصلاة والسلام:
"إذا ابتلي أحدكم بالقضاء فليسو بينهم في المجلس والإشارة والنظر" "ولا يسار أحدهما ولا يشير إليه ولا يلقنه حجة" للتهمة ولأن فيه مكسرة لقلب الآخر فيترك حقه "ولا يضحك في وجه أحدهما" لأنه يجترئ على خصمه "ولا يمازحهم ولا واحدا منهم" لأنه يذهب بمهابة القضاء.

 

ج / 3 ص -104-       قال: "ويكره تلقين الشاهد" ومعناه أن يقول له أتشهد بكذا وكذا، وهذا لأنه إعانة لأحد الخصمين فيكره كتلقين الخصم. واستحسنه أبو يوسف رحمه الله في غير موضع التهمة لأن الشاهد قد يحصر لمهابة المجلس فكان تلقينه إحياء للحق بمنزلة الإشخاص والتكفيل.

فصل: في الحبس
قال: "وإذا ثبت الحق عند القاضي وطلب صاحب الحق حبس غريمه لم يعجل بحبسه وأمره بدفع ما عليه" لأن الحبس جزاء المماطلة فلا بد من ظهورها، وهذا إذا ثبت الحق بإقراره لأنه لم يعرف كونه مماطلا في أول الوهلة فلعله طمع في الإمهال فلم يستصحب المال، فإذا امتنع بعد ذلك حبسه لظهور مطله، أما إذا ثبت بالبينة حبسه كما ثبت لظهور المطل بإنكاره.
قال: "فإن امتنع حبسه في كل دين لزمه بدلا عن مال حصل في يده كثمن المبيع أو التزمه بعقد كالمهر والكفالة" لأنه إذا حصل المال في يده ثبت غناه به، وإقدامه على التزامه باختياره دليل يساره إذ هو لا يلتزم إلا ما يقدر على أدائه، والمراد بالمهر معجله دون مؤجله.
قال: "ولا يحبسه فيما سوى ذلك إذا قال إني فقير إلا أن يثبت غريمه أن له مالا فيحبسه" لأنه لم توجد دلالة اليسار فيكون القول قول من عليه الدين، وعلى المدعي إثبات غناه، ويروى أن القول لمن عليه الدين في جميع ذلك لأن الأصل هو العسرة. ويروى أن القول له إلا فيما بدله مال. وفي النفقة القول قول الزوج إنه معسر، وفي إعتاق العبد المشترك القول للمعتق، والمسألتان تؤديان القولين الأخيرين، والتخريج على ما قال في الكتاب أنه ليس بدين مطلق بل هو صلة حتى تسقط النفقة بالموت على الاتفاق، وكذا عند أبي حنيفة رحمه الله ضمان الإعتاق، ثم فيما كان القول قول المدعي إن له مالا، أو ثبت ذلك بالبينة فيما كان القول قول من عليه يحبسه شهرين أو ثلاثة ثم يسأل عنه فالحبس لظهور ظلمه في الحال، وإنما يحبسه مدة ليظهر ماله لو كان يخفيه فلا بد من أن تمتد المدة ليفيد هذه الفائدة فقدره بما ذكره، ويروى غير ذلك من التقدير بشهر أو أربعة إلى ستة أشهر. والصحيح أن التقدير مفوض إلى رأي القاضي لاختلاف أحوال الأشخاص فيه.
قال: "فإن لم يظهر له مال خلي سبيله" يعني بعد مضي المدة لأنه استحق النظرة إلى الميسرة فيكون حبسه بعد ذلك ظلما ; ولو قامت البينة على إفلاسه قبل المدة تقبل في رواية، ولا تقبل في رواية، وعلى الثانية عامة المشايخ رحمهم الله. قال في الكتاب خلي سبيله ولا يحول

 

ج / 3 ص -105-       بينه وبين غرمائه، وهذا كلام في الملازمة وسنذكره في كتاب الحجر إن شاء الله تعالى.
وفي الجامع الصغير: رجل أقر عند القاضي بدين فإنه يحبسه ثم يسأل عنه، فإن كان موسرا أبد حبسه، وإن كان معسرا خلى سبيله، ومراده إذا أقر عند غير القاضي أو عنده مرة وظهرت مماطلته والحبس أولا ومدته قد بيناه فلا نعيده.
قال: "ويحبس الرجل في نفقة زوجته" لأنه ظالم بالامتناع "ولا يحبس والد في دين ولده" لأنه نوع عقوبة فلا يستحقه الولد على الوالد كالحدود والقصاص "إلا إذا امتنع من الإنفاق عليه" لأن فيه إحياء لولده، ولأنه لا يتدارك لسقوطها بمضي الزمان، والله أعلم الصواب.

باب كتاب القاضي إلى القاضي
قال: "ويقبل كتاب القاضي إلى القاضي في الحقوق إذا شهد به عنده" للحاجة على ما نبين "فإن شهدوا على خصم حاضر حكم بالشهادة" لوجود الحجة "وكتب بحكمه" وهو المدعو سجلا "وإن شهدوا به بغير حضرة الخصم لم يحكم" لأن القضاء على الغائب لا يجوز "وكتب بالشهادة" ليحكم المكتوب إليه بها وهذا هو الكتاب الحكمي، وهو نقل الشهادة في الحقيقة، ويختص بشرائط نذكرها إن شاء الله تعالى، وجوازه لمساس الحاجة لأن المدعي قد يتعذر عليه الجمع بين شهوده وخصمه فأشبه الشهادة على الشهادة. وقوله في الحقوق يندرج تحته الدين والنكاح والنسب والمغصوب والأمانة المجحودة والمضاربة المجحودة لأن كل ذلك بمنزلة الدين، وهو يعرف بالوصف لا يحتاج فيه إلى الإشارة، ويقبل في العقار أيضا لأن التعريف فيه بالتحديد. ولا يقبل في الأعيان المنقولة للحاجة إلى الإشارة. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يقبل في العبد دون الأمة لغلبة الإباق فيه دونها. وعنه أنه يقبل فيهما بشرائط تعرف في موضعها. وعن محمد رحمه الله أنه يقبل في جميع ما ينقل ويحول وعليه المتأخرون رحمهم الله.
قال: "ولا يقبل الكتاب إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين" لأن الكتاب يشبه الكتاب فلا يثبت إلا بحجة تامة وهذا لأنه ملزم فلا بد من الحجة، بخلاف كتاب الاستئمان من أهل الحرب لأنه ليس بملزم، وبخلاف رسول القاضي إلى المزكى ورسوله إلى القاضي لأن الإلزام بالشهادة لا بالتزكية.
قال: "ويجب أن يقرأ الكتاب عليهم ليعرفوا ما فيه أو يعلمهم به" لأنه لا شهادة بدون العلم "ثم يختمه بحضرتهم ويسلمه إليهم" كي لا يتوهم التغيير، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد

 

ج / 3 ص -106-       رحمهما الله، لأن علم ما في الكتاب والختم بحضرتهم شرط، وكذا حفظ ما في الكتاب عندهما ولهذا يدفع إليهم كتاب آخر غير مختوم ليكون معهم معاونة على حفظهم. وقال أبو يوسف رحمه الله آخرا: شيء من ذلك ليس بشرط، والشرط أن يشهدهم أن هذا كتابه وختمه وعن أبي يوسف أن الختم ليس بشرط أيضا فسهل في ذلك لما ابتلي بالقضاء وليس الخبر كالمعاينة. واختار شمس الأئمة السرخسي رحمه الله قول أبي يوسف رحمه الله.
قال: "وإذا وصل إلى القاضي لم يقبله إلا بحضرة الخصم" لأنه بمنزلة أداء الشهادة فلا بد من حضوره، بخلاف سماع القاضي الكاتب لأنه للنقل لا للحكم.
قال: "فإذا سلمه الشهود إليه نظر إلى ختمه، فإذا شهدوا أنه كتاب فلان القاضي سلمه إلينا في مجلس حكمه وقرأه علينا وختمه فتحه القاضي وقرأه على الخصم وألزمه ما فيه" وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا شهدوا أنه كتابه وخاتمه قبله على ما مر، ولم يشترط في الكتاب ظهور العدالة للفتح، والصحيح أنه يفض الكتاب بعد ثبوت العدالة، كذا ذكره الخصاف رحمه الله لأنه ربما يحتاج إلى زيادة الشهود وإنما يمكنهم أداء الشهادة بعد قيام الختم، وإنما يقبله المكتوب إليه إذا كان الكاتب على القضاء، حتى لو مات أو عزل أو لم يبق أهلا للقضاء قبل وصول الكتاب لا يقبله لأنه التحق بواحد من الرعايا، ولهذا لا يقبل إخباره قاضيا آخر في غير عمله أو في غير عملهما، وكذا لو مات المكتوب إليه إلا إذا كتب إلى فلان بن فلان قاضي بلدة كذا وإلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين لأن غيره صار تبعا له وهو معرف، بخلاف ما إذا كتب ابتداء إلى كل من يصل إليه على ما عليه مشايخنا رحمهم الله لأنه غير معرف، ولو كان مات الخصم ينفذ الكتاب على وارثه لقيامه مقامه. "ولا يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في الحدود والقصاص" لأن فيه شبهة البدلية فصار كالشهادة على الشهادة، ولأن مبناهما على الإسقاط وفي قبوله سعي في إثباتهما.

فصل آخر: "ويجوز قضاء المرأة في كل شيء إلا في الحدود والقصاص"
اعتبارا بشهادتها. وقد مر الوجه. "وليس للقاضي أن يستخلف على القضاء إلا أن يفوض إليه ذلك" لأنه قلد القضاء دون التقليد به فصار كتوكيل الوكيل، بخلاف المأمور بإقامة الجمعة حيث يستخلف لأنه على شرف الفوات لتوقته فكان الأمر به إذنا بالاستخلاف دلالة ولا كذلك القضاء. ولو قضى الثاني بمحضر من الأول أو قضى الثاني فأجاز الأول جاز كما في الوكالة، وهذا

 

ج / 3 ص -107-       لأنه حضره رأي الأول وهو الشرط، وإذا فوض إليه يملكه فيصير الثاني نائبا عن الأصيل حتى لا يملك الأول عزله إلا إذا فوض إليه العزل هو الصحيح.
قال: "وإذا رفع إلى القاضي حكم حاكم أمضاه إلا أن يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع بأن يكون قولا لا دليل عليه. وفي الجامع الصغير: وما اختلف فيه الفقهاء فقضى به القاضي ثم جاء قاض آخر يرى غير ذلك أمضاه" والأصل أن القضاء متى لاقى فصلا مجتهدا فيه ينفذه ولا يرده غيره، لأن اجتهاد الثاني كاجتهاد الأول، وقد يرجح الأول باتصال القضاء به فلا ينقض بما هو دونه. "ولو قضى في المجتهد فيه مخالفا لرأيه ناسيا لمذهبه نفذ عند أبي حنيفة رحمه الله، وإن كان عامدا ففيه روايتان" ووجه النفاذ أنه ليس بخطأ بيقين، وعندهما لا ينفذ في الوجهين لأنه قضى بما هو خطأ عنده وعليه الفتوى، ثم المجتهد فيه أن لا يكون مخالفا لما ذكرنا. والمراد بالسنة المشهورة منها وفيما اجتمع عليه الجمهور لا يعتبر مخالفة البعض وذلك خلاف وليس باختلاف والمعتبر الاختلاف في الصدر الأول.
قال: "وكل شيء قضى به القاضي في الظاهر بتحريم فهو في الباطن كذلك عند أبي حنيفة رحمه الله" وكذا إذا قضى بإحلال، وهذا إذا كانت الدعوى بسبب معين وهي مسألة قضاء القاضي في العقود والفسوخ بشهادة الزور وقد مرت في النكاح.
قال: "ولا يقضي القاضي على غائب إلا أن يحضر من يقوم مقامه" وقال الشافعي رحمه الله: يجوز لوجود الحجة وهي البينة فظهر الحق. ولنا أن العمل بالشهادة لقطع المنازعة، ولا منازعة دون الإنكار ولم يوجد، ولأنه يحتمل الإقرار والإنكار من الخصم فيشتبه وجه القضاء لأن أحكامهما مختلفة، ولو أنكر ثم غاب فكذلك لأن الشرط قيام الإنكار وقت القضاء، وفيه خلاف أبي يوسف رحمه الله، ومن يقوم مقامه قد يكون نائبا بإنابته كالوكيل أو بإنابة الشرع كالوصي من جهة القاضي، وقد يكون حكما بأن كان ما يدعي على الغائب سببا لما يدعيه على الحاضر وهذا في غير صورة في الكتب، أما إذا كان شرطا لحقه فلا معتبر به في جعله خصما عن الغائب وقد عرف تمامه في الجامع. قال: "ويقرض القاضي أموال اليتامى ويكتب ذكر الحق" لأن في الإقراض مصلحتهم لبقاء الأموال محفوظة مضمونة، والقاضي يقدر على الاستخراج والكتابة ليحفظه
"وإن أقرض الوصي ضمن" لأنه لا يقدر على الاستخراج، والأب بمنزلة الوصي في أصح الروايتين لعجزه عن الاستخراج.

 

ج / 3 ص -108-       باب التحكيم
"وإذا حكم رجلان رجلا فحكم بينهما ورضيا بحكمه جاز" لأن لهما ولاية على أنفسهما فصح تحكيمهما وينفذ حكمه عليهما، وهذا إذا كان المحكم بصفة الحاكم لأنه بمنزلة القاضي فيما بينهما فيشترط أهلية القضاء، ولا يجوز تحكيم الكافر والعبد والذمي والمحدود في القذف والفاسق والصبي لانعدام أهلية القضاء اعتبارا بأهلية الشهادة والفاسق إذا حكم يجب أن يجوز عندنا كما مر في المولى "ولكل واحد من المحكمين أن يرجع ما لم يحكم عليهما" لأنه مقلد من جهتهما فلا يحكم إلا برضاهما جميعا "وإذا حكم لزمهما" لصدور حكمه عن ولاية عليهما "وإذا رفع حكمه إلى القاضي فوافق مذهبه أمضاه" لأنه لا فائدة في نقضه ثم في إبرامه على ذلك الوجه "وإن خالفه أبطله" لأن حكمه لا يلزمه لعدم التحكيم منه.
"ولا يجوز التحكيم في الحدود والقصاص" لأنه لا ولاية لهما على دمهما ولهذا لا يملكان الإباحة فلا يستباح برضاهما قالوا: وتخصيص الحدود والقصاص يدل على جواز التحكيم في سائر المجتهدات كالطلاق والنكاح وغيرهما، وهو صحيح إلا أنه لا يفتى به، ويقال يحتاج إلى حكم المولى دفعا لتجاسر العوام وإن حكماه في دم خطإ فقضى بالدية على العاقلة لم ينفذ حكمه لأنه لا ولاية له عليهم إذ لا تحكيم من جهتهم. ولو حكم على القاتل بالدية في ماله رده القاضي ويقضي بالدية على العاقلة لأنه مخالف لرأيه ومخالف للنص أيضا إلا إذا ثبت القتل بإقراره لأن العاقلة لا تعقله.
"ويجوز أن يسمع البينة ويقضي بالنكول وكذا بالإقرار" لأنه حكم موافق للشرع، ولو أخبر بإقرار أحد الخصمين أو بعدالة الشهود وهما على تحكيمهما يقبل قوله لأن الولاية قائمة ولو أخبر بالحكم لا يقبل قوله لانقضاء الولاية كقول المولى بعد العزل.
"وحكم الحاكم لأبويه وزوجته وولده باطل والمولى والمحكم فيه سواء" وهذا لأنه لا تقبل شهادته لهؤلاء لمكان التهمة فكذلك لا يصح القضاء لهم، بخلاف ما إذا حكم عليهم لأنه تقبل شهادته عليهم لانتفاء التهمة فكذا القضاء، ولو حكما رجلين لا بد من اجتماعهما لأنه أمر يحتاج فيه إلى الرأي، والله أعلم بالصواب.

مسائل شتى من كتاب القضاء
قال: "وإذا كان علو لرجل وسفل لآخر فليس لصاحب السفل أن يتد فيه وتدا

 

ج / 3 ص -109-       ولا ينقب فيه كوة عند أبي حنيفة رحمه الله" معناه بغير رضا صاحب العلو "وقالا: يصنع ما لا يضر بالعلو" وعلى هذا الخلاف إذا أراد صاحب العلو أن يبني على علوه. قيل ما حكي عنهما تفسير لقول أبي حنيفة رحمه الله فلا خلاف. وقيل الأصل عندهما الإباحة لأنه تصرف في ملكه والملك يقتضي الإطلاق والحرمة بعارض الضرر فإذا أشكل لم يجز المنع والأصل عنده الحظر لأنه تصرف في محل تعلق به حق محترم للغير كحق المرتهن والمستأجر والإطلاق بعارض فإذا أشكل لا يزول المنع على أنه لا يعرى عن نوع ضرر بالعلو من توهين بناء أو نقضه فيمنع عنه.
قال: "وإذا كانت زائغة مستطيلة تنشعب منها زائعة مستطيلة وهي غير نافذة فليس لأهل الزائغة الأولى أن يفتحوا بابا في الزائغة القصوى" لأن فتحه للمرور ولا حق لهم في المرور إذ هو لأهلها خصوصا حتى لا يكون لأهل الأولى فيما بيع فيها حق الشفعة، بخلاف النافذة لأن المرور فيها حق العامة. قيل المنع من المرور لا من فتح الباب لأنه رفع بعض جداره. والأصح أن المنع من الفتح لأن بعد الفتح لا يمكنه المنع من المرور في كل ساعة. ولأنه عساه يدعي الحق في القصوى بتركيب الباب "وإن كانت مستديرة قد لزق طرفاها فلهم أن يفتحوا" بابا لأن لكل واحد منهم حق المرور في كلها إذ هي ساحة مشتركة ولهذا يشتركون في الشفعة إذا بيعت دار منها.
قال: "ومن ادعى في دار دعوى وأنكرها الذي هي في يده ثم صالحه منها فهو جائز وهي مسألة الصلح على الإنكار" وسنذكرها في الصلح إن شاء الله تعالى، والمدعي وإن كان مجهولا فالصلح على معلوم عن مجهول جائز عندنا لأنه جهالة في الساقط فلا تفضي إلى المنازعة على ما عرف.
قال: "ومن ادعى دارا في يد رجل أنه وهبها له في وقت كذا فسئل البينة فقال جحدني الهبة فاشتريتها منه وأقام المدعي البينة على الشراء قبل الوقت الذي يدعي فيه الهبة لا تقبل بينته" لظهور التناقض إذ هو يدعي الشراء بعد الهبة وهم يشهدون به قبلها، ولو شهدوا به بعدها تقبل لوضوح التوفيق، ولو كان ادعى الهبة ثم أقام البينة على الشراء قبلها ولم يقل جحدني الهبة فاشتريتها لم تقبل أيضا ذكره في بعض النسخ لأن دعوى الهبة إقرار منه بالملك للواهب عندها، ودعوى الشراء رجوع عنه فعد مناقضا، بخلاف ما إذا ادعى الشراء بعد الهبة لأنه تقرر ملكه عندها.
"ومن قال لآخر: اشتريت مني هذه الجارية فأنكر الآخر إن أجمع البائع على ترك

 

ج / 3 ص -110-       الخصومة وسعه أن يطأها" لأن المشتري لما جحده كان فسخا من جهته، إذ الفسخ يثبت به كما إذا تجاحدا فإذا عزم البائع على ترك الخصومة ثم الفسخ، وبمجرد العزم إن كان لا يثبت الفسخ فقد اقترن بالفعل وهو إمساك الجارية ونقلها وما يضاهيه، ولأنه لما تعذر استيفاء الثمن من المشتري فات رضا البائع فيستبد بفسخه.
قال: "ومن أقر أنه قبض من فلان عشرة دراهم ثم ادعى أنها زيوف صدق" وفي بعض النسخ اقتضى، وهو عبارة عن القبض أيضا. ووجهه أن الزيوف من جنس الدراهم إلا أنها معيبة، ولهذا لو تجوز به في الصرف والسلم جاز، والقبض لا يختص بالجياد فيصدق لأنه أنكر قبض حقه، بخلاف ما إذا أقر أنه قبض الجياد أو حقه أو الثمن أو استوفى لإقراره بقبض الجياد صريحا أو دلالة فلا يصدق والنبهرجة كالزيوف وفي الستوقة لا يصدق لأنه ليس من جنس الدراهم، حتى لو تجوز به فيما ذكرنا لا يجوز. والزيف ما زيفه بيت المال، والنبهرجة ما يرده التجار، والستوقة ما يغلب عليه الغش.
قال: "ومن قال لآخر لك علي ألف درهم فقال ليس لي عليك شيء ثم قال في مكانه بل لي عليك ألف درهم فليس عليه شيء" لأن إقراره هو الأول وقد ارتد برد المقر له، والثاني دعوى فلا بد من الحجة أو تصديق خصمه، بخلاف ما إذا قال لغيره اشتريت وأنكر الآخر له أن يصدقه، لأن أحد المتعاقدين لا يتفرد بالفسخ كما لا يتفرد بالعقد، والمعنى أنه حقهما فبقي العقد فعمل التصديق، أما المقر له يتفرد برد الإقرار فافترقا.
قال: "ومن ادعى على آخر مالا فقال ما كان لك علي شيء قط فأقام المدعي البينة على ألف وأقام هو البينة على القضاء قبلت بينته" وكذلك على الإبراء. وقال زفر رحمه الله: لا تقبل لأن القضاء يتلو الوجوب وقد أنكره فيكون مناقضا. ولنا أن التوفيق ممكن لأن غير الحق قد يقضى ويبرأ منه دفعا للخصومة والشغب؛ ألا ترى أنه يقال قضى بباطل وقد يصالح على شيء فيثبت ثم يقضى، وكذا إذا قال ليس لك علي شيء قط لأن التوفيق أظهر "ولو قال ما كان لك علي شيء قط ولا أعرفك لم تقبل بينته على القضاء" وكذا على الإبراء لتعذر التوفيق لأنه لا يكون بين اثنين، أخذ وإعطاء وقضاء واقتضاء ومعاملة بدون المعرفة. وذكر القدوري رحمه الله أنه تقبل أيضا لأن المحتجب أو المخدرة قد يؤذى بالشغب على بابه فيأمر بعض وكلائه بإرضائه ولا يعرفه ثم يعرفه بعد ذلك فأمكن التوفيق.
قال: "ومن ادعى على آخر أنه باعه جاريته فقال لم أبعها منك قط فأقام المشتري البينة على الشراء فوجد بها أصبعا زائدة فأقام البائع البينة أنه برئ إليه من كل عيب لم تقبل

 

ج / 3 ص -111-       بينة البائع" وعن أبي يوسف رحمه الله أنها تقبل اعتبارا بما ذكرنا. ووجه الظاهر أن شرط البراءة تغيير للعقد من اقتضاء وصف السلامة إلى غيره فيستدعي وجود البيع وقد أنكره فكان مناقضا، بخلاف الدين لأنه قد يقضى وإن كان باطلا على ما مر.
قال: "ذكر حق كتب في أسفله ومن قام بهذا الذكر الحق فهو ولي ما فيه إن شاء الله تعالى، أو كتب في شراء فعلى فلان خلاص ذلك وتسليمه إن شاء الله تعالى بطل الذكر كله، وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله. وقالا: إن شاء الله تعالى هو على الخلاص وعلى من قام بذكر الحق، وقولهما استحسان ذكره في الإقرار" لأن الاستثناء ينصرف إلى ما يليه لأن الذكر للاستيثاق، وكذا الأصل في الكلام الاستبداد وله أن الكل كشيء واحد بحكم العطف فيصرف إلى الكل كما في الكلمات المعطوفة مثل قوله عبده حر وامرأته طالق وعليه المشي إلى بيت الله تعالى إن شاء الله تعالى؛ ولو ترك فرجة قالوا: لا يلتحق به ويصير كفاصل السكوت، والله أعلم بالصواب.

فصل: في القضاء بالمواريث
قال: "وإذا مات نصراني فجاءت امرأته مسلمة وقالت أسلمت بعد موته وقالت الورثة أسلمت قبل موته فالقول قول الورثة" وقال زفر رحمه الله: القول قولها لأن الإسلام حادث فيضاف إلى أقرب الأوقات. ولنا أن سبب الحرمان ثابت في الحال فيثبت فيما مضى تحكيما للحال كما في جريان ماء الطاحونة؛ وهذا ظاهر نعتبره للدفع؛ وما ذكره يعتبره للاستحقاق؛ "ولو مات المسلم وله امرأة نصرانية فجاءت مسلمة بعد موته وقالت أسلمت قبل موته وقالت الورثة أسلمت بعد موته فالقول قولهم أيضا"، ولا يحكم الحال لأن الظاهر لا يصلح حجة للاستحقاق وهي محتاجة إليه، أما الورثة فهم الدافعون ويشهد لهم ظاهر الحدوث أيضا.
قال: "ومن مات وله في يد رجل أربعة آلاف درهم وديعة فقال المستودع هذا ابن الميت لا وارث له غيره فإنه يدفع المال إليه" لأنه أقر أن ما في يده حق الوارث خلافة فصار كما إذا أقر أنه حق المورث وهو حي أصالة، بخلاف ما إذا أقر لرجل أنه وكيل المودع بالقبض أو أنه اشتراه منه حيث لا يؤمر بالدفع إليه لأنه أقر بقيام حق المودع إذ هو حي فيكون إقرارا على مال الغير، ولا كذلك بعد موته، بخلاف المديون إذا أقر بتوكيل غيره بالقبض لأن الديون تقضى بأمثالها فيكون إقرارا على نفسه فيؤمر بالدفع إليه "فلو قال المودع لآخر هذا ابنه أيضا وقال الأول ليس له ابن غيري قضى بالمال للأول" لأنه لما صح

 

ج / 3 ص -112-       إقراره للأول انقطع يده عن المال فيكون هذا إقرارا على الأول فلا يصح إقراره للثاني، كما إذا كان الأول ابنا معروفا، ولأنه حين أقر للأول لا مكذب له فصح، وحين أقر للثاني له مكذب فلم يصح.
قال: "وإذا قسم الميراث بين الغرماء والورثة فإنه لا يؤخذ منهم كفيل ولا من وارث وهذا شيء احتاط به بعض القضاة وهو ظلم" وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله، وقالا: يؤخذ الكفيل، والمسألة فيما إذا ثبت الدين والإرث بالشهادة ولم يقل الشهود لا نعلم له وارثا غيره. لهما أن القاضي ناظر للغيب، والظاهر أن في التركة وارثا غائبا أو غريما غائبا، لأن الموت قد يقع بغتة فيحتاط بالكفالة. كما إذا دفع الآبق واللقطة إلى صاحبه وأعطى امرأة الغائب النفقة من ماله. ولأبي حنيفة رحمه الله أن حق الحاضر ثابت قطعا، أو ظاهرا فلا يؤخر لحق موهوم إلى زمان التكفيل كمن أثبت الشراء ممن في يده أو أثبت الدين على العبد حتى بيع في دينه لا يكفل، ولأن المكفول له مجهول فصار كما إذا كفل لأحد الغرماء بخلاف النفقة لأن حق الزوج ثابت وهو معلوم. وأما الآبق واللقطة ففيه روايتان، والأصح أنه على الخلاف. وقيل إن دفع بعلامة اللقطة أو إقرار العبد يكفل بالإجماع لأن الحق غير ثابت، ولهذا كان له أن يمنع. وقوله ظلم: أي ميل عن سواء السبيل، وهذا يكشف عن مذهبه رحمه الله أن المجتهد يخطئ ويصيب لا كما ظنه البعض.
قال: "وإذا كانت الدار في يد رجل وأقام الآخر البينة أن أبوه مات وتركها ميراثا بينه وبين أخوه فلان الغائب قضي له بالنصف وترك النصف الآخر في يد الذي هي في يده ولا يستوثق منه بكفيل، وهذا عند أبي حنيفة. وقالا: إن كان الذي هي في يده جاحدا أخذ منه وجعل في يد أمين، وإن لم يجحد ترك في يده" لهما أن الجاحد خائن فلا يترك المال في يده، بخلاف المقر لأنه أمين. وله أن القضاء وقع للميت مقصودا واحتمال كونه مختار الميت ثابت فلا تنقض يده كما إذا كان مقرا وجحوده قد ارتفع بقضاء القاضي، والظاهر عدم الجحود في المستقبل لصيرورة الحادثة معلومة له وللقاضي، ولو كانت الدعوى في منقول فقد قيل يؤخذ منه بالاتفاق لأنه يحتاج فيه إلى الحفظ والنزع أبلغ فيه، بخلاف العقار لأنها محصنة بنفسها ولهذا يملك الوصي بيع المنقول على الكبير الغائب دون العقار، وكذا حكم وصي الأم والأخ والعم على الصغير. وقيل المنقول على الخلاف أيضا، وقول أبي حنيفة رحمه الله فيه أظهر لحاجته إلى الحفظ، وإنما لا يؤخذ الكفيل لأنه إنشاء خصومة والقاضي إنما نصب لقطعها لا لإنشائها، وإذا حضر الغائب لا يحتاج إلى إعادة البينة ويسلم النصف إليه بذلك القضاء لأن أحد الورثة ينتصب خصما عن الباقين فيما

 

ج / 3 ص -113-       يستحق له وعليه دينا كان أو عينا لأن المقضي له وعليه إنما هو الميت في الحقيقة وواحد من الورثة يصلح خليفة عنه في ذلك، بخلاف الاستيفاء لنفسه لأنه عامل فيه لنفسه فلا يصلح نائبا عن غيره، ولهذا لا يستوفي إلا نصيبه وصار كما إذا قامت البينة بدين الميت، إلا أنه إنما يثبت استحقاق، الكل على أحد الورثة إذا كان الكل في يده. ذكره في الجامع لأنه لا يكون خصما بدون اليد فيقتصر القضاء على ما في يده.
قال: "ومن قال مالي في المساكين صدقة فهو على ما فيه الزكاة، وإن أوصى بثلث ماله فهو على كل شيء" والقياس أن يلزمه التصدق بالكل، وبه قال زفر رحمه الله لعموم اسم المال كما في الوصية.
وجه الاستحسان أن إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى فينصرف إيجابه إلى ما أوجب الشارع فيه الصدقة من المال. أما الوصية فأخت الميراث لأنها خلافة كهي فلا يختص بمال دون مال، ولأن الظاهر التزام الصدقة من فاضل ماله وهو مال الزكاة، أما الوصية تقع في حال الاستغناء فينصرف إلى الكل وتدخل فيه الأرض العشرية عند أبي يوسف رحمه الله لأنها سبب الصدقة، إذ جهة الصدقة في العشرية راجحة عنده، وعند محمد رحمه الله لا تدخل لأنها سبب المؤنة، إذ جهة المؤنة راجحة عنده، ولا تدخل أرض الخراج بالإجماع لأنه يتمحض مؤنة. ولو قال ما أملكه صدقة في المساكين فقد قيل يتناول كل مال لأنه أعم من لفظ المال. والمقيد إيجاب الشرع وهو مختص بلفظ المال فلا مخصص في لفظ الملك فبقي على العموم، والصحيح أنهما سواء لأن الملتزم باللفظين الفاضل عن الحاجة على ما مر، "ثم إذا لم يكن له مال سوى ما دخل تحت الإيجاب يمسك من ذلك قوته، ثم إذا أصاب شيئا تصدق بمثل ما أمسك" لأن حاجته هذه مقدمة ولم يقدر محمد بشيء لاختلاف أحوال الناس فيه. وقيل المحترف يمسك قوته ليوم وصاحب الغلة لشهر وصاحب الضياع لسنة على حسب التفاوت في مدة وصولهم إلى المال، وعلى هذا صاحب التجارة يمسك بقدر ما يرجع إليه ماله.
قال: "ومن أوصى إليه ولم يعلم الوصية حتى باع شيئا من التركة فهو وصي والبيع جائز، ولا يجوز بيع الوكيل حتى يعلم". وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يجوز في الفصل الأول أيضا لأن الوصاية إنابة بعد الموت فتعتبر بالإنابة قبله وهي الوكالة. ووجه الفرق على الظاهر أن الوصاية خلافة لإضافتها إلى زمان بطلان الإنابة فلا يتوقف على العلم كما في تصرف الوارث. أما الوكالة فإنابة لقيام ولاية المنوب عنه فيتوقف على العلم، وهذا لأنه لو توقف لا يفوت النظر لقدرة الموكل، وفي الأول يفوت لعجز الموصي "ومن

 

ج / 3 ص -114-       أعلمه من الناس بالوكالة يجوز تصرفه" لأنه إثبات حق لا إلزام أمر.
قال: "ولا يكون النهي عن الوكالة حتى يشهد عنده شاهدان أو رجل عدل" وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله، وقالا: هو والأول سواء لأنه من المعاملات وبالواحد فيها كفاية. وله أنه خبر ملزم فيكون شهادة من وجه فيشترط أحد شطريها وهو العدد أو العدالة، بخلاف الأول، وبخلاف رسول الموكل لأن عبارته كعبارة المرسل للحاجة إلى الإرسال، وعلى هذا الخلاف إذا أخبر المولى بجناية عبده والشفيع والبكر والمسلم الذي لم يهاجر إلينا.
قال: "وإذا باع القاضي أو أمينه عبدا للغرماء وأخذ المال فضاع واستحق العبد لم يضمن" لأن أمين القاضي قائم مقام القاضي والقاضي مقام الإمام وكل واحد منهم لا يلحقه ضمان كي لا يتقاعد عن قبول هذه الأمانة فيضيع الحقوق ويرجع المشتري على الغرماء، لأن البيع واقع لهم فيرجع عليهم عند تعذر الرجوع على العاقد، كما إذا كان العاقد محجورا عليه ولهذا يباع بطلبهم "وإن أمر القاضي الوصي ببيعه للغرماء ثم استحق أو مات قبل القبض وضاع المال رجع المشتري على الوصي" لأنه عاقد نيابة عن الميت وإن كان بإقامة القاضي عنه فصار كما إذا باعه بنفسه.
قال: "ورجع الوصي على الغرماء" لأنه عامل لهم، وإن ظهر للميت مال يرجع الغريم فيه بدينه. قالوا: ويجوز أن يقال يرجع بالمائة التي غرمها أيضا لأنه لحقه في أمر الميت، والوارث إذا بيع له بمنزلة الغريم لأنه إذا لم يكن في التركة دين كان العاقد عاملا له.

فصل آخر: "وإذا قال القاضي قد قضيت على هذا بالرجم فارجمه أو بالقطع فاقطعه أو بالضرب فاضربه وسعك أن تفعل"
وعن محمد رحمه الله أنه رجع عن هذا وقال: لا تأخذ بقوله حتى تعاين الحجة، لأن قوله يحتمل الغلط والخطأ والتدارك غير ممكن، وعلى هذه الرواية لا يقبل كتابه. واستحسن المشايخ هذه الرواية لفساد حال أكثر القضاة في زماننا إلا في كتاب القاضي للحاجة إليه. وجه ظاهر الرواية أنه أخبر عن أمر يملك إنشاءه فيقبل لخلوه عن التهمة، ولأن طاعة أولي الأمر واجبة، وفي تصديقه طاعة. وقال الإمام أبو منصور رحمه الله: إن كان عدلا عالما يقبل قوله لانعدام تهمة الخطإ والخيانة، وإن كان عدلا جاهلا يستفسر، فإن أحسن التفسير وجب تصديقه وإلا فلا، وإن كان جاهلا فاسقا أو عالما فاسقا لا يقبل إلا أن يعاين سبب الحكم لتهمة الخطإ والخيانة.
قال: "وإذا عزل القاضي فقال لرجل أخذت منك ألفا ودفعتها إلى فلان قضيت بها

 

ج / 3 ص -115-       عليك فقال الرجل أخذتها ظلما فالقول قول القاضي، وكذا لو قال قضيت بقطع يدك في حق، هذا إذا كان الذي قطعت يده والذي أخذ منه المال مقرين أنه فعل ذلك وهو قاض" ووجهه أنهما لما توافقا أنه فعل ذلك في قضائه كان الظاهر شاهدا له. إذ القاضي لا يقضي بالجور ظاهرا "ولا يمين عليه" لأنه ثبت فعله في قضائه بالتصادق ولا يمين على القاضي.
"ولو أقر القاطع والآخذ بما أقر به القاضي لا يضمن أيضا" لأنه فعله في حال القضاء ودفع القاضي صحيح كما إذا كان معاينا.
"ولو زعم المقطوع يده أو المأخوذ ماله أنه فعل قبل التقليد أو بعد العزل فالقول للقاضي أيضا" هو الصحيح لأنه أسند فعله إلى حالة معهودة منافية للضمان فصار كما إذا قال طلقت أو أعتقت وأنا مجنون والجنون منه كان معهودا.
"ولو أقر القاطع أو الآخذ في هذا الفصل بما أقر به القاضي بضمان" لأنهما أقرا بسبب الضمان، وقول القاضي مقبول في دفع الضمان عن نفسه لا في إبطال سبب الضمان على غيره، بخلاف الأول لأنه ثبت فعله في قضائه بالتصادق "ولو كان المال في يد الآخذ قائما وقد أقر بما أقر به القاضي والمأخوذ منه المال صدق القاضي في أنه فعله في قضائه أو ادعى أنه فعله في غير قضائه يؤخذ منه" لأنه أقر أن اليد كانت له فلا يصدق في دعوى تملكه إلا بحجة، وقول المعزول فيه ليس بحجة.