الهداية في شرح بداية المبتدي

ج / 3 ص -116-       كتاب الشهادات
قال: "الشهادة فرض تلزم الشهود ولا يسعهم كتمانها إذا طالبهم المدعي" لقوله تعالى: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة:282] وقوله تعالى: {وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة:283] وإنما يشترط طلب المدعي لأنها حقه فيتوقف على طلبه كسائر الحقوق.
"والشهادة في الحدود يخير فيها الشاهد بين الستر والإظهار" لأنه بين حسبتين إقامة الحد والتوقي عن الهتك "والستر أفضل" لقوله صلى الله عليه وسلم للذي شهد عنده "لو سترته بثوبك لكان خيرا لك" وقال عليه الصلاة والسلام
"من ستر على مسلم ستر الله عليه في الدنيا والآخرة" وفيما نقل من تلقين الدرء عن النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضي الله عنهم دلالة ظاهرة على أفضلية الستر "إلا أنه يجب أن يشهد بالمال في السرقة فيقول: أخذ" إحياء لحق المسروق منه "ولا يقول سرق" محافظة على الستر، ولأنه لو ظهرت السرقة لوجب القطع والضمان لا يجامع القطع فلا يحصل إحياء حقه.
"والشهادة على مراتب: منها الشهادة في الزنا يعتبر فيها أربعة من الرجال" لقوله تعالى:
{وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء:15] ولقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4] "ولا تقبل فيها شهادة النساء" لحديث الزهري رضي الله عنه: مضت السنة من لدن رسول الله عليه الصلاة والسلام والخليفتين من بعده أن لا شهادة للنساء في الحدود والقصاص، ولأن فيها شبهة البدلية لقيامها مقام شهادة الرجال فلا تقبل فيما يندرئ بالشبهات "ومنها الشهادة ببقية الحدود والقصاص تقبل فيها شهادة رجلين" لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282] "ولا تقبل فيها شهادة النساء" لما ذكرنا.
قال: "وما سوى ذلك من الحقوق يقبل فيها شهادة رجلين أو رجل وامرأتين سواء كان الحق مالا أو غير مال" مثل: النكاح والطلاق والعتاق والعدة والحوالة والوقف والصلح "والوكالة والوصية" والهبة والإقرار والإبراء والولد والولاد والنسب

 

ج / 3 ص -117-       ونحو ذلك. وقال الشافعي رحمه الله: لا تقبل شهادة النساء مع الرجال إلا في الأموال وتوابعها لأن الأصل فيها عدم القبول لنقصان العقل واختلال الضبط وقصور الولاية فإنها لا تصلح للإمارة ولهذا لا تقبل في الحدود، ولا تقبل شهادة الأربع منهن وحدهن إلا أنها قبلت في الأموال ضرورة، والنكاح أعظم خطرا وأقل وقوعا فلا يلحق بما هو أدنى خطرا وأكثر وجودا. ولنا أن الأصل فيها القبول لوجود ما يبتنى عليه أهلية الشهادة وهو المشاهدة والضبط والأداء، إذ بالأول يحصل العلم للشاهد، وبالثاني يبقى، وبالثالث يحصل العلم للقاضي ولهذا يقبل إخبارها في الأخبار، ونقصان الضبط بزيادة النسيان انجبر بضم الأخرى إليها فلم يبق بعد ذلك إلا الشبهة فلهذا لا تقبل فيما يندرئ بالشبهات، وهذه الحقوق تثبت مع الشبهات وعدم قبول الأربع على خلاف القياس كي لا يكثر خروجهن.
قال: "وتقبل في الولادة والبكارة والعيوب بالنساء في موضع لا يطلع عليه الرجال شهادة امرأة واحدة" لقوله عليه الصلاة والسلام:
"شهادة النساء جائزة فيما لا يستطيع الرجال النظر إليه" والجمع المحلى بالألف واللام يراد به الجنس فيتناول الأقل. وهو حجة على الشافعي رحمه الله في اشتراط الأربع، ولأنه إنما سقطت الذكورة ليخف النظر لأن نظر الجنس إلى الجنس أخف فكذا يسقط اعتبار العدد إلا أن المثنى والثلاث أحوط لما فيه من معنى الإلزام "ثم حكمها في الولادة شرحناه في الطلاق"
وأما حكم البكارة فإن شهدن أنها بكر يؤجل في العنين سنة ويفرق بعدها لأنها تأيدت بمؤيد إذ البكارة أصل، وكذا في رد المبيعة إذا اشتراها بشرط البكارة، فإن قلن إنها ثيب يحلف البائع لينضم نكوله إلى قولهن والعيب يثبت بقولهن فيحلف البائع، وأما شهادتهن على استهلال الصبي لا تقبل عند أبي حنيفة رحمه الله في حق الإرث لأنه مما يطلع عليه الرجال إلا في حق الصلاة لأنها من أمور الدين. وعندهما تقبل في حق الإرث أيضا لأنه صوت عند الولادة ولا يحضرها الرجال عادة فصار كشهادتهن على نفس الولادة.
قال: "ولا بد في ذلك كله من العدالة ولفظة الشهادة، فإن لم يذكر الشاهد لفظة الشهادة وقال أعلم أو أتيقن لم تقبل شهادته" أما العدالة فلقوله تعالى:
{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] ولقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ولأن العدالة هي المعينة للصدق، لأن من يتعاطى غير الكذب قد يتعاطاه. وعن أبي يوسف رحمه الله أن الفاسق إذا كان وجيها في الناس ذا مروءة تقبل شهادته لأنه لا يستأجر لوجاهته ويمتنع عن الكذب لمروءته، والأول أصح، إلا أن القاضي لو قضى بشهادة الفاسق يصح عندنا. وقال الشافعي رحمه الله: لا يصح، والمسألة معروفة.

 

ج / 3 ص -118-       وأما لفظة الشهادة فلأن النصوص نطقت باشتراطها إذ الأمر فيها بهذه اللفظة، ولأن فيها زيادة توحيد، فإن قوله أشهد من ألفاظ اليمين كقوله أشهد بالله فكان الامتناع عن الكذب بهذه اللفظة أشد. وقوله في ذلك كله إشارة إلى جميع ما تقدم حتى يشترط العدالة، ولفظة الشهادة في شهادة النساء في الولادة وغيرها هو الصحيح لأنها شهادة لما فيه من معنى الإلزام حتى اختص بمجلس القضاء ولهذا يشترط فيه الحرية والإسلام.
"قال أبو حنيفة رحمه الله: يقتصر الحاكم على ظاهر العدالة في المسلم ولا يسأل عن حال الشهود حتى يطعن الخصم" لقوله عليه الصلاة والسلام:
"المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا محدودا في قذف" ومثل ذلك مروي عن عمر رضي الله عنه، ولأن الظاهر هو الانزجار عما هو محرم دينه، وبالظاهر كفاية إذ لا وصول إلى القطع. "إلا في الحدود والقصاص فإنه يسأل عن الشهود" لأنه يحتال لإسقاطها فيشترط الاستقصاء فيها، ولأن الشبهة فيها دارئة، وإن طعن الخصم فيهم سأل عنهم لأنه تقابل الظاهران فيسأل طلبا للترجيح "وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا بد أن يسأل عنهم في السر والعلانية في سائر الحقوق" لأن القضاء مبناه على الحجة وهي شهادة العدول فيتعرف عن العدالة، وفيه صون قضائه عن البطلان. وقيل هذا اختلاف عصر وزمان والفتوى على قولهما في هذا الزمان.
قال: "ثم التزكية في السر أن يبعث المستورة إلى المعدل فيها النسب والحلي والمصلى ويردها المعدل" كل ذلك في السر كي لا يظهر فيخدع أو يقصد "وفي العلانية لا بد أن يجمع بين المعدل والشاهد" لتنتفي شبهة تعديل غيره، وقد كانت العلانية وحدها في الصدر الأول، ووقع الاكتفاء بالسر في زماننا تحرزا عن الفتنة. ويروى عن محمد رحمه الله: تزكية العلانية بلاء وفتنة. ثم قيل: لا بد أن يقول المعدل هو عدل جائز الشهادة لأن العبد قد يعدل، وقيل يكتفي بقوله هو عدل لأن الحرية ثابتة بالدار وهذا أصح.
قال: "وفي قول من رأى أن يسأل عن الشهود لم يقبل قول الخصم إنه عدل" معناه قول المدعى عليه وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أنه يجوز تزكيته، لكن عند محمد يضم تزكية الآخر إلى تزكيته لأن العدد عنده شرط. ووجه الظاهر أن في زعم المدعي وشهوده أن الخصم كاذب في إنكاره مبطل في إصراره فلا يصلح معدلا، وموضوع المسألة إذا قال هم عدول إلا أنهم أخطئوا أو نسوا، أما إذا قال صدقوا أو هم عدول صدقة فقد اعترف بالحق.

 

ج / 3 ص -119-       قال: "وإذا كان رسول القاضي الذي يسأل عن الشهود واحدا جاز والاثنان أفضل" وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد رحمه الله: لا يجوز إلا اثنان، والمراد منه المزكي، وعلى هذا الخلاف رسول القاضي إلى المزكي والمترجم عن الشاهد له أن التزكية في معنى الشهادة لأن ولاية القضاء تنبني على ظهور العدالة وهو بالتزكية فيشترط فيه العدد كما تشترط العدالة فيه، وتشترط الذكورة في المزكي والحدود والقصاص. ولهما أنه ليس في معنى الشهادة ولهذا لا يشترط فيه لفظة الشهادة ومجلس القضاء، واشتراط العدد أمر حكمي في الشهادة فلا يتعداها "ولا يشترط أهلية الشهادة في المزكي في تزكية السر" حتى صلح العبد مزكيا، فأما في تزكية العلانية فهو شرط، وكذا العدد بالإجماع على ما قاله الخصاف رحمه الله لاختصاصها بمجلس القضاء. قالوا: يشترط الأربعة في تزكية شهود الزنا عند محمد رحمه الله.

فصل: وما يتحمله الشاهد على ضربين:
أحدهما: ما يثبت حكمه بنفسه مثل البيع والإقرار والغصب والقتل وحكم الحاكم، فإذا سمع ذلك الشاهد أو رآه وسعه أن يشهد به وإن لم يشهد عليه" لأنه علم ما هو الموجب بنفسه وهو الركن في إطلاق الأداء. قال الله تعالى:
{إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] وقال النبي عليه الصلاة والسلام: "إذا علمت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع"
قال: "ويقول أشهد أنه باع ولا يقول أشهدني" لأنه كذب، "ولو سمع من وراء الحجاب لا يجوز له أن يشهد، ولو فسر للقاضي لا يقبله" لأن النغمة تشبه النغمة فلم يحصل العلم "إلا إذا كان دخل البيت وعلم أنه ليس فيه أحد سواه ثم جلس على الباب وليس في البيت مسلك غيره فسمع إقرار الداخل ولا يراه له أن يشهد" لأنه حصل العلم في هذه الصورة. "ومنه ما لا يثبت الحكم فيه بنفسه مثل الشهادة على الشهادة، فإذا سمع شاهدا يشهد بشيء لم يجز له أن يشهد على شهادته إلا أن يشهد عليها" لأن الشهادة غير موجبة بنفسها، وإنما تصير موجبة بالنقل إلى مجلس القضاء فلا بد من الإنابة والتحميل ولم يوجد "وكذا لو سمعه يشهد الشاهد على شهادته لم يسع للسامع أن يشهد" لأنه ما حمله وإنما حمل غيره.
"ولا يحل للشاهد إذا رأى خطه أن يشهد إلا أن يتذكر الشهادة" لأن الخط يشبه الخط فلم يحصل العلم. قيل هذا على قول أبي حنيفة رحمه الله. وعندهما يحل له أن يشهد. وقيل هذا بالاتفاق، وإنما الخلاف فيما إذا وجد القاضي شهادته في ديوانه أو قضيته، لأن ما يكون

 

ج / 3 ص -120-       في قمطره فهو تحت ختمه يؤمن عليه من الزيادة والنقصان فحصل له العلم بذلك ولا كذلك الشهادة في الصك لأنه في يد غيره، وعلى هذا إذا تذكر المجلس الذي كان فيه الشهادة أو أخبره قوم ممن يثق به أنا شهدنا نحن وأنت.
قال: "ولا يجوز للشاهد أن يشهد بشيء لم يعاينه إلا النسب والموت والنكاح والدخول وولاية القاضي فإنه يسعه أن يشهد بهذه الأشياء إذا أخبره بها من يثق به" وهذا استحسان. والقياس أن لا تجوز لأن الشهادة مشتقة من المشاهدة وذلك بالعلم ولم يحصل فصار كالبيع. وجه الاستحسان أن هذه أمور تختص بمعاينة أسبابها خواص من الناس، ويتعلق بها أحكام تبقى على انقضاء القرون، فلو لم تقبل فيها الشهادة بالتسامع أدى إلى الحرج وتعطيل الأحكام، بخلاف البيع لأنه يسمعه كل أحد، وإنما يجوز للشاهد أن يشهد بالاشتهار وذلك بالتواتر أو بإخبار من يثق به كما قال في الكتاب. ويشترط أن يخبره رجلان عدلان أو رجل وامرأتان ليحصل له نوع علم. وقيل في الموت يكتفي بإخبار واحد أو واحدة لأنه قلما يشاهد غير الواحد إذ الإنسان يهابه ويكرهه فيكون في اشتراط العدد بعض الحرج، ولا كذلك النسب والنكاح، وينبغي أن يطلق أداء الشهادة. أما إذا فسر للقاضي أنه يشهد بالتسامع لم تقبل شهادته كما أن معاينة اليد في الأملاك تطلق الشهادة، ثم إذا فسر لا تقبل كذا هذا. ولو رأى إنسانا جلس مجلس القضاء يدخل عليه الخصوم حل له أن يشهد على كونه قاضيا وكذا إذا رأى رجلا وامرأة يسكنان بيتا وينبسط كل واحد منهما إلى الآخر انبساط الأزواج كما إذا رأى عينا في يد غيره. ومن شهد أنه شهد دفن فلان أو صلى على جنازته فهو معاينة، حتى لو فسر للقاضي قبله ثم قصر الاستثناء في الكتاب على هذه الأشياء الخمسة ينفي اعتبار التسامع في الولاء والوقف. وعن أبي يوسف رحمه الله آخرا أنه يجوز في الولاء لأنه بمنزلة النسب لقوله عليه الصلاة والسلام:
"الولاء لحمة كلحمة النسب". وعن محمد رحمه الله أنه يجوز في الوقف لأنه يبقى على مر الأعصار، إلا أنا نقول الولاء يبتنى على زوال الملك ولا بد فيه من المعاينة فكذا فيما يبتنى عليه. وأما الوقف فالصحيح أنه تقبل الشهادة بالتسامع في أصله دون شرائطه، لأن أصله هو الذي يشتهر.
قال: "ومن كان في يده شيء سوى العبد والأمة وسعك أن تشهد أنه له" لأن اليد أقصى ما يستدل به على الملك إذ هي مرجع الدلالة في الأسباب كلها فيكتفي بها. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يشترط مع ذلك أن يقع في قلبه أنه له. قالوا: ويحتمل أن يكون هذا تفسيرا لإطلاق محمد رحمه الله في الرواية فيكون شرطا على الاتفاق.

 

ج / 3 ص -121-       وقال الشافعي رحمه الله: دليل الملك اليد مع التصرف، وبه قال بعض مشايخنا رحمهم الله لأن اليد متنوعة إلى إنابة وملك. قلنا: والتصرف يتنوع أيضا إلى نيابة وأصالة. ثم المسألة على وجوه: إن عاين المالك الملك حل له أن يشهد، وكذا إذا عاين الملك بحدوده دون المالك استحسانا لأن النسب يثبت بالتسامع فيحصل معرفته، وإن لم يعاينها أو عاين المالك دون الملك لا يحل له.
وأما العبد والأمة، فإن كان يعرف أنهما رقيقان فكذلك لأن الرقيق لا يكون في يد نفسه، وإن كان لا يعرف أنهما رقيقان إلا أنهما صغيران لا يعبران عن أنفسهما فكذلك لأنه لا يد لهما، وإن كانا كبيرين فذلك مصرف الاستثناء لأن لهما يدا على أنفسهما فيدفع يد الغير عنهما فانعدم دليل الملك. وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يحل له أن يشهد فيهما أيضا اعتبارا بالثياب، والفرق ما بيناه، والله أعلم بالصواب.

باب من تقبل شهادته ومن لا تقبل
قال: "ولا تقبل شهادة الأعمى". وقال زفر رحمه الله وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله: تقبل فيما يجري فيه التسامع لأن الحاجة فيه إلى السماع ولا خلل فيه. وقال أبو يوسف والشافعي رحمهما الله: يجوز إذا كان بصيرا وقت التحمل لحصول العلم بالمعاينة، والأداء يختص بالقول ولسانه غير موف والتعريف يحصل بالنسبة كما في الشهادة على الميت. ولنا أن الأداء يفتقر إلى التمييز بالإشارة بين المشهود له والمشهود عليه، ولا يميز الأعمى إلا بالنغمة، وفيه شبهة يمكن التحرز عنها بجنس الشهود والنسبة لتعريف الغائب دون الحاضر فصار كالحدود والقصاص. ولو عمي بعد الأداء يمتنع القضاء عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، لأن قيام أهلية الشهادة شرط وقت القضاء لصيرورتها حجة عنده وقد بطلت وصار كما إذا خرس أو جن أو فسق، بخلاف ما إذا ماتوا أو غابوا، لأن الأهلية بالموت قد انتهت وبالغيبة ما بطلت.
قال: "ولا المملوك" لأن الشهادة من باب الولاية وهو لا يلي نفسه فأولى أن لا تثبت له الولاية على غيره "ولا المحدود في قذف وإن تاب" لقوله تعالى:
{وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4] ولأنه من تمام الحد لكونه مانعا فيبقى بعد التوبة كأصله، بخلاف المحدود في غير القذف لأن الرد للفسق وقد ارتفع بالتوبة. وقال الشافعي رحمه الله تقبل إذا تاب لقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} [النور:5] استثنى التائب.
قلنا: الاستثناء ينصرف إلى ما يليه وهو قوله تعالى:
{وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}

 

ج / 3 ص -122-       [النور:4] أو هو استثناء منقطع بمعنى لكن. "ولو حد الكافر في قذف ثم أسلم تقبل شهادته" لأن للكافر شهادة فكان ردها من تمام الحد، وبالإسلام حدثت له شهادة أخرى، بخلاف العبد إذا حد ثم أعتق لأنه لا شهادة للعبد أصلا فتمام حده يرد شهادته بعد العتق.
قال: "ولا شهادة الوالد لولده وولد ولده، ولا شهادة الولد لأبويه وأجداده" والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام:
"لا تقبل شهادة الولد لوالده ولا الوالد لولده ولا المرأة لزوجها ولا الزوج لامرأته ولا العبد لسيده ولا المولى لعبده ولا الأجير لمن استأجره" ولأن المنافع بين الأولاد والآباء متصلة ولهذا لا يجوز أداء الزكاة إليهم فتكون شهادة لنفسه من وجه أو تتمكن فيه التهمة.
قال العبد الضعيف: والمراد بالأجير على ما قالوا التلميذ الخاص الذي يعد ضرر أستاذه ضرر نفسه ونفعه نفع نفسه، وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام:
"لا شهادة للقانع بأهل البيت" وقيل المراد الأجير مسانهة أو مشاهرة أو مياومة فيستوجب الأجر بمنافعه عند أداء الشهادة فيصير كالمستأجر عليها.
قال: "ولا تقبل شهادة أحد الزوجين للآخر" وقال الشافعي رحمه الله: تقبل لأن الأملاك بينهما متميزة والأيدي متحيزة ولهذا يجري القصاص والحبس بالدين بينهما، ولا معتبر بما فيه من النفع لثبوته ضمنا كما في الغريم إذا شهد لمديونه المفلس. ولنا ما روينا، ولأن الانتفاع متصل عادة وهو المقصود فيصير شاهدا لنفسه من وجه أو يصير متهما، بخلاف شهادة الغريم لأنه لا ولاية على المشهود به. "ولا شهادة المولى لعبده" لأنه شهادة لنفسه من كل جهة إذا لم يكن على العبد دين أو من وجه إن كان عليه دين لأن الحال موقوف مراعى "ولا لمكاتبه" لما قلنا. "ولا شهادة الشريك لشريكه فيما هو من شركتهما" لأنه شهادة لنفسه من وجه لاشتراكهما، ولو شهد بما ليس من شركتهما تقبل لانتفاء التهمة. "وتقبل شهادة الأخ لأخيه وعمه" لانعدام التهمة لأن الأملاك ومنافعها متباينة ولا بسوطة لبعضهم في مال البعض.
قال: "ولا تقبل شهادة المخنث" ومراده المخنث في الرديء من الأفعال لأنه فاسق، فأما الذي في كلامه لين وفي أعضائه تكسر فهو مقبول الشهادة. "ولا نائحة ولا مغنية" لأنهما يرتكبان محرما فإنه عليه الصلاة والسلام
"نهى عن الصوتين الأحمقين النائحة والمغنية".
قال: "ولا مدمن الشرب على اللهو" لأنه ارتكب محرم دينه. "ولا من يلعب بالطيور" لأنه يورث غفلة ولأنه قد يقف على عورات النساء بصعوده على سطحه ليطير طيره وفي

 

ج / 3 ص -123-       بعض النسخ: ولا من يلعب بالطنبور وهو المغني.
قال: "ولا من يغني للناس" لأنه يجمع الناس على ارتكاب كبيرة.
قال: "ولا من يأتي بابا من الكبائر التي يتعلق بها الحد" للفسق.
قال: "ولا من يدخل الحمام من غير مئزر" لأن كشف العورة حرام. "أو يأكل الربا أو يقامر بالنرد والشطرنج". لأن كل ذلك من الكبائر، وكذلك من تفوته الصلاة للاشتغال بهما، فأما مجرد اللعب بالشطرنج فليس بفسق مانع من الشهادة، لأن للاجتهاد فيه مساغا. وشرط في الأصل أن يكون آكل الربا مشهورا به لأن الإنسان قلما ينجو عن مباشرة العقود الفاسدة وكل ذلك ربا.
قال: "ولا من يفعل الأفعال المستحقرة كالبول على الطريق والأكل على الطريق" لأنه تارك للمروءة، وإذا كان لا يستحي عن مثل ذلك لا يمتنع عن الكذب فيتهم. "ولا تقبل شهادة من يظهر سب السلف" لظهور فسقه بخلاف من يكتمه. "وتقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية" وقال الشافعي رحمه الله: لا تقبل لأنه أغلظ وجوه الفسق. ولنا أنه فسق من حيث الاعتقاد وما أوقعه فيه إلا تدينه به وصار كمن يشرب المثلث أو يأكل متروك التسمية عامدا مستبيحا لذلك، بخلاف الفسق من حيث التعاطي.
أما الخطابية فهم من غلاة الروافض يعتقدون الشهادة لكل من حلف عندهم. وقيل يرون الشهادة لشيعتهم واجبة فتمكنت التهمة في شهادتهم لظهور فسقهم.
قال: "وتقبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض وإن اختلفت مللهم". وقال مالك والشافعي رحمهما الله: لا تقبل لأنه فاسق، قال الله تعالى:
{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] فيجب التوقف في خبره، ولهذا لا تقبل شهادته على المسلم فصار كالمرتد. ولنا ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام أجاز شهادة النصارى بعضهم على بعض، ولأنه من أهل الولاية على نفسه وأولاده الصغار فيكون من أهل الشهادة على جنسه، والفسق من حيث الاعتقاد غير مانع لأنه يجتنب ما يعتقده محرم دينه، والكذب محظور الأديان، بخلاف المرتد لأنه لا ولاية له، وبخلاف شهادة الذمي على المسلم لأنه لا ولاية له بالإضافة إليه، ولأنه يتقول عليه لأنه يغيظه قهره إياه، وملل الكفر وإن اختلفت فلا قهر فلا يحملهم الغيظ على التقول.
قال: "ولا تقبل شهادة الحربي على الذمي" أراد به والله أعلم المستأمن لأنه لا ولاية له عليه لأن الذمي من أهل دارنا وهو أعلى حالا منه، وتقبل شهادة الذمي عليه

 

ج / 3 ص -124-       كشهادة المسلم عليه وعلى الذمي "وتقبل شهادة المستأمنين بعضهم على بعض إذا كانوا من أهل دار واحدة، فإن كانوا من دارين كالروم والترك لا تقبل" لأن اختلاف الدارين يقطع الولاية ولهذا يمنع التوارث، بخلاف الذمي لأنه من أهل دارنا، ولا كذلك المستأمن. "وإن كانت الحسنات أغلب من السيئات والرجل ممن يجتنب الكبائر قبلت شهادته وإن ألم بمعصية" هذا هو الصحيح في حد العدالة المعتبرة، إذ لا بد من توقي الكبائر كلها وبعد ذلك يعتبر الغالب كما ذكرنا، فأما الإلمام بمعصية لا تنقدح به العدالة المشروطة فلا ترد به الشهادة المشروعة لأن في اعتبار اجتنابه الكل سد بابه وهو مفتوح إحياء للحقوق.
قال: "وتقبل شهادة الأقلف" لأنه لا يخل بالعدالة إلا إذا تركه استخفافا بالدين لأنه لم يبق بهذا الصنيع عدلا "والخصي" لأن عمر رضي الله عنه قبل شهادة علقمة الخصي، ولأنه قطع عضو منه ظلما فصار كما إذا قطعت يده. "وولد الزنا" لأن فسق الأبوين لا يوجب فسق الولد ككفرهما وهو مسلم.
وقال مالك رحمه الله: لا تقبل في الزنا لأنه يجب أن يكون غيره كمثله فيتهم. قلنا: العدل لا يختار ذلك ولا يستحبه، والكلام في العدل.
قال: "وشهادة الخنثى جائزة" لأنه رجل أو امرأة وشهادة الجنسين مقبولة بالنص. "وشهادة العمال جائزة" والمراد عمال السلطان عند عامة المشايخ، لأن نفس العمل ليس بفسق إلا إذا كانوا أعوانا على الظلم. وقيل العامل إذا كان وجيها في الناس ذا مروءة لا يجازف في كلامه تقبل شهادته كما مر عن أبي يوسف رحمه الله في الفاسق، لأنه لوجاهته لا يقدم على الكذب حفظا للمروءة ولمهابته لا يستأجر على الشهادة الكاذبة.
قال: "وإذا شهد الرجلان أن أباهما أوصى إلى فلان والوصي يدعي ذلك فهو جائز استحسانا، وإن أنكر الوصي لم يجز" وفي القياس: لا يجوز إن ادعى، وعلى هذا إذا شهد الموصي لهما بذلك أو غريمان لهما على الميت دين أو للميت عليهما دين أو شهد الوصيان أنه أوصى إلى هذا الرجل معهما. وجه القياس أنها شهادة للشاهد لعود المنفعة إليه. وجه الاستحسان أن للقاضي ولاية نصب الوصي إذا كان طالبا والموت معروف، فيكفي القاضي بهذه الشهادة مؤنة التعيين لا أن يثبت بها شيء فصار كالقرعة والوصيان إذا أقرا أن معهما ثالثا يملك القاضي نصب ثالث معهما لعجزهما عن التصرف باعترافهما، بخلاف ما إذا أنكرا ولم يعرف الموت لأنه ليس له ولاية نصب الوصي فتكون الشهادة هي الموجبة، وفي الغريمين للميت عليهما دين تقبل الشهادة وإن لم يكن الموت معروفا لأنهما يقران على

 

ج / 3 ص -125-       أنفسهما فيثبت الموت باعترافهما في حقهما "وإن شهدا أن أباهما الغائب وكله بقبض ديونه بالكوفة فادعى الوكيل أو أنكره لا تقبل شهادتهما" لأن القاضي لا يملك نصب الوكيل عن الغائب، فلو ثبت إنما يثبت بشهادتهما وهي غير موجبة لمكان التهمة.
قال: "ولا يسمع القاضي الشهادة على جرح ولا يحكم بذلك" لأن الفسق مما لا يدخل تحت الحكم لأن له الدفع بالتوبة فلا يتحقق الإلزام، ولأنه هتك السر والستر واجب والإشاعة حرام، وإنما يرخص ضرورة إحياء الحقوق وذلك فيما يدخل تحت الحكم "إلا إذا شهدوا على إقرار المدعي بذلك تقبل" لأن الإقرار مما يدخل تحت الحكم.
قال: "ولو أقام المدعى عليه البينة أن المدعي استأجر الشهود لم تقبل" لأنه شهادة على جرح مجرد، والاستئجار وإن كان أمرا زائدا عليه فلا خصم في إثباته لأن المدعى عليه في ذلك أجنبي عنه، حتى لو أقام المدعى عليه البينة أن المدعي استأجر الشهود بعشرة دراهم ليؤدوا الشهادة وأعطاهم العشرة من مالي الذي كان في يده تقبل لأنه خصم في ذلك ثم يثبت الجرح بناء عليه، وكذا إذا أقامها على أني صالحت الشهود على كذا من المال. ودفعته إليهم على أن لا يشهدوا علي بهذا الباطل وقد شهدوا وطالبهم برد ذلك المال، ولهذا قلنا إنه لو أقام البينة أن الشاهد عبد أو محدود في قذف أو شارب خمر أو قاذف أو شريك المدعي تقبل.
قال: "ومن شهد ولم يبرح حتى قال أوهمت بعض شهادتي، فإن كان عدلا جازت شهادته" ومعنى قوله أوهمت أي أخطأت بنسيان ما كان يحق علي ذكره أو بزيادة كانت باطلة. ووجهه أن الشاهد قد يبتلى بمثله لمهابة مجلس القضاء فكان العذر واضحا فتقبل إذا تداركه في أوانه وهو عدل، بخلاف ما إذا قام عن المجلس ثم عاد وقال أوهمت، لأنه يوهم الزيادة من المدعي بتلبيس وخيانة فوجب الاحتياط، ولأن المجلس إذا اتحد لحق الملحق بأصل الشهادة فصار ككلام واحد، ولا كذلك إذا اختلف. وعلى هذا إذا وقع الغلط في بعض الحدود أو في بعض النسب وهذا إذا كان موضع شبهة، فأما إذا لم يكن فلا بأس بإعادة الكلام أصلا مثل أن يدع لفظة الشهادة وما يجري مجرى ذلك وإن قام عن المجلس بعد أن يكون عدلا. وعن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أنه يقبل قوله في غير المجلس إذا كان عدلا، والظاهر ما ذكرناه والله أعلم.

باب الاختلاف في الشهادة
قال: "الشهادة إذا وافقت الدعوى قبلت، وإن خالفتها لم تقبل" لأن تقدم الدعوى في

 

ج / 3 ص -126-       حقوق العباد شرط قبول الشهادة، وقد وجدت فيما يوافقها وانعدمت فيما يخالفها.
قال: "ويعتبر اتفاق الشاهدين في اللفظ والمعنى عند أبي حنيفة، فإن شهد أحدهما بألف والآخر بألفين لم تقبل الشهادة عنده وعندهما تقبل على الألف إذا كان المدعي يدعي الألفين". وعلى هذا المائة والمائتان والطلقة والطلقتان والطلقة والثلاث. لهما أنهما اتفقا على الألف أو الطلقة وتفرد أحدهما بالزيادة فيثبت ما اجتمعا عليه دون ما تفرد به أحدهما فصار كالألف والألف والخمسمائة. ولأبي حنيفة رحمه الله أنهما اختلفا لفظا، وذلك يدل على اختلاف المعنى لأنه يستفاد باللفظ، وهذا لأن الألف لا يعبر به عن الألفين بل هما جملتان متباينتان فحصل على كل واحد منهما شاهد واحد فصار كما إذا اختلف جنس المال.
قال: "وإذا شهد أحدهما بالألف والآخر بألف وخمسمائة والمدعي يدعي ألفا وخمسمائة قبلت الشهادة على الألف" لاتفاق الشاهدين عليها لفظا ومعنى، لأن الألف والخمسمائة جملتان عطف إحداهما على الأخرى والعطف يقرر الأول ونظيره الطلقة والطلقة والنصف والمائة والمائة والخمسون، بخلاف العشرة والخمسة عشر لأنه ليس بينهما حرف العطف فهو نظير الألف والألفين "وإن قال المدعي لم يكن لي عليه إلا الألف فشهادة الذي شهد بالألف وخمسمائة باطلة" لأنه كذبه المدعي في المشهود به، وكذا إذا سكت إلا عن دعوى الألف لأن التكذيب ظاهر فلا بد من التوفيق، ولو قال كان أصل حقي ألف وخمسمائة ولكني استوفيت خمسمائة أو أبرأته عنها قبلت لتوفيقه.
قال: "وإذا شهدا بألف وقال أحدهما قضاه منها خمسمائة قبلت شهادتهما بالألف" لاتفاقهما عليه "ولم يسمع قوله إنه قضاه" لأنه شهادة فرد "إلا أن يشهد معه آخر" وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يقضي بخمسمائة، لأن شاهد القضاء مضمون شهادته أن لا دين إلا خمسمائة. وجوابه ما قلنا.
قال: "وينبغي للشاهد" إذا علم بذلك "أن لا يشهد بألف حتى يقر المدعي أنه قبض خمسمائة" كي لا يصير معينا على الظلم. "وفي الجامع الصغير: رجلان شهدا على رجل بقرض ألف درهم فشهد أحدهما أنه قد قضاها، فالشهادة جائزة على القرض" لاتفاقهما عليه، وتفرد أحدهما بالقضاء على ما بينا. وذكر الطحاوي عن أصحابنا أنه لا تقبل، وهو قول زفر رحمه الله لأن المدعي أكذب شاهد القضاء. قلنا: هذا إكذاب في غير المشهود به الأول وهو القرض ومثله لا يمنع القبول.

 

ج / 3 ص -127-       قال: "وإذا شهد شاهدان أنه قتل زيدا يوم النحر بمكة وشهد آخران أنه قتله يوم النحر بالكوفة واجتمعوا عند الحاكم لم يقبل الشهادتين" لأن إحداهما كاذبة بيقين وليست إحداهما بأولى من الأخرى "فإن سبقت إحداهما وقضى بها ثم حضرت الأخرى لم تقبل" لأن الأولى ترجحت باتصال القضاء بها فلا تنتقض بالثانية.
"وإذا شهدا على رجل أنه سرق بقرة واختلفا في لونها قطع، وإن قال أحدهما بقرة وقال الآخر ثورا لم يقطع" وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله "وقالا: لا يقطع في الوجهين" جميعا، وقيل الاختلاف في لونين يتشابهان كالسواد والحمرة لا في السواد والبياض، وقيل هو في جميع الألوان. لهما أن السرقة في السوداء غيرها في البيضاء فلم يتم على كل فعل نصاب الشهادة وصار كالغصب بل أولى، لأن أمر الحد أهم وصار كالذكورة والأنوثة. وله أن التوفيق ممكن لأن التحمل في الليالي من بعيد واللونان يتشابهان أو يجتمعان في واحد فيكون السواد من جانب وهذا يبصره والبياض من جانب آخر وهذا الآخر يشاهده، بخلاف الغصب لأن التحمل فيه بالنهار على قرب منه، والذكورة والأنوثة لا يجتمعان في واحدة، وكذا الوقوف على ذلك بالقرب منه فلا يشتبه.
قال: "ومن شهد لرجل أنه اشترى عبدا من فلان بألف وشهد آخر أنه اشتراه بألف وخمسمائة فالشهادة باطلة" لأن المقصود إثبات السبب وهو العقد ويختلف باختلاف الثمن فاختلف المشهود به ولم يتم العدد على كل واحد، ولأن المدعي يكذب أحد شاهديه وكذلك إذا كان المدعي هو البائع ولا فرق بين أن يدعي المدعي أقل المالين أو أكثرهما لما بينا "وكذلك الكتابة" لأن المقصود هو العقد إن كان المدعي هو العبد فظاهر، وكذا إذا كان هو المولى لأن العتق لا يثبت قبل الأداء فكان المقصود إثبات السبب "وكذا الخلع والإعتاق على مال والصلح عن دم العمد إذا كان المدعي هو المرأة أو العبد أو القاتل" لأن المقصود إثبات العقد والحاجة ماسة إليه، وإن كانت الدعوى من جانب آخر فهو بمنزلة دعوى الدين فيما ذكرنا من الوجوه لأنه ثبت العفو والعتق والطلاق باعتراف صاحب الحق فبقي الدعوى في الدين وفي الرهن، إن كان المدعى هو الرهن لا يقبل لأنه لا حظ له في الرهن فعريت الشهادة عن الدعوى، وإن كان المرتهن فهو بمنزلة دعوى الدين. وفي الإجارة إن كان ذلك في أول المدة فهو نظير البيع، وإن كان بعد مضي المدة والمدعي هو الآجر فهو دعوى الدين.
قال: "فأما النكاح فإنه يجوز بألف استحسانا، وقالا: هذا باطل في النكاح أيضا" وذكر

 

ج / 3 ص -128-       في الأمالي قول أبي يوسف مع قول أبي حنيفة رحمهما الله. لهما أن هذا اختلاف في العقد، لأن المقصود من الجانبين السبب فأشبه البيع. ولأبي حنيفة رحمه الله أن المال في النكاح تابع، والأصل فيه الحل والازدواج والملك ولا اختلاف في ما هو الأصل فيثبت، ثم إذا وقع الاختلاف في التبع يقضي بالأقل لاتفاقهما عليه، ويستوي دعوى أقل المالين أو أكثرهما في الصحيح. ثم قيل: لاختلاف فيما إذا كانت المرأة هي المدعية وفيما إذا كان المدعي هو الزوج إجماع على أنه لا تقبل، لأن مقصودها قد يكون المال ومقصوده ليس إلا العقد. وقيل الاختلاف في الفصلين وهذا أصح والوجه ما ذكرنا، والله أعلم.

فصل: في الشهادة على الإرث
قال: "ومن أقام بينة على دار أنها كانت لأبيه أعارها أو أودعها الذي هي في يده فإنه يأخذها ولا يكلف البينة أنه مات وتركها ميراثا له" وأصله أنه متى ثبت ملك المورث لا يقضي به للوارث حتى يشهد الشهود أنه مات وتركها ميراثا له عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، خلافا لأبي يوسف رحمه الله. هو يقول: إن ملك الوارث ملك المورث فصارت الشهادة بالملك للمورث شهادة به للوارث، وهما يقولان: إن ملك الوارث متجدد في حق العين حتى يجب عليه الاستبراء في الجارية الموروثة، ويحل للوارث الغني ما كان صدقة على المورث الفقير فلا بد من النقل، إلا أنه يكتفي بالشهادة على قيام ملك المورث وقت الموت لثبوت الانتقال ضرورة، وكذا على قيام يده على ما نذكره، وقد وجدت الشهادة على اليد في مسألة الكتاب لأن يد المستعير والمودع والمستأجر قائمة مقام يده فأغنى ذلك عن الجر والنقل "وإن شهدوا أنها كانت في يد فلان مات وهي في يده جازت الشهادة" لأن الأيدي عند الموت تنقلب يد ملك بواسطة الضمان والأمانة تصير مضمونة بالتجهيل فصار بمنزلة الشهادة على قيام ملكه وقت الموت. "وإن قالوا لرجل حي نشهد أنها كانت في يد المدعي منذ شهر لم تقبل" وعن أبي يوسف رحمه الله أنها تقبل لأن اليد مقصودة كالملك؛ ولو شهدوا أنها كانت ملكه تقبل فكذا هذا صار كما إذا شهدوا بالأخذ من المدعي. وجه الظاهر وهو قولهما أن الشهادة قامت بمجهول لأن اليد منقضية وهي متنوعة إلى ملك وأمانة وضمان فتعذر القضاء بإعادة المجهول، بخلاف الملك لأنه معلوم غير مختلف، وبخلاف الآخذ لأنه معلوم وحكمه معلوم وهو وجوب الرد، ولأن يد ذي اليد معاين ويد المدعي مشهود به، وليس الخبر كالمعاينة. "وإن أقر بذلك المدعى عليه دفعت إلى المدعي" لأن الجهالة في المقر به لا تمنع صحة الإقرار "وإن شهد شاهدان أنه أقر أنها كانت في يد المدعي دفعت إليه" لأن المشهود به هاهنا الإقرار وهو معلوم.

 

ج / 3 ص -129-       باب الشهادة على الشهادة
قال: "الشهادة على الشهادة جائزة في كل حق لا يسقط بالشبهة" وهذا استحسان لشدة الحاجة إليها، إذ شاهد الأصل قد يعجز عن أداء الشهادة لبعض العوارض، فلو لم تجز الشهادة على الشهادة أدى إلى إتواء الحقوق، ولهذا جوزنا الشهادة على الشهادة وإن كثرت، إلا أن فيها شبهة من حيث البدلية أو من حيث إن فيها زيادة احتمال، وقد أمكن الاحتراز عنه بجنس الشهود فلا تقبل فيما تندرئ بالشبهات كالحدود والقصاص.
"وتجوز شهادة شاهدين على شهادة شاهدين". وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز إلا الأربع على كل أصل اثنان لأن كل شاهدين قائمان مقام شاهد واحد فصارا كالمرأتين.
ولنا قول علي رضي الله عنه: لا يجوز على شهادة رجل إلا شهادة رجلين، ولأن نقل شهادة الأصل من الحقوق فهما شهدا بحق ثم شهدا بحق آخر فتقبل. "ولا تقبل شهادة واحد على شهادة واحد" لما روينا، وهو حجة على مالك رحمه الله، ولأنه حق من الحقوق فلا بد من نصاب الشهادة.
"وصفة الإشهاد أن يقول شاهد الأصل لشاهد الفرع: اشهد على شهادتي أني أشهد أن فلان بن فلان أقر عندي بكذا وأشهدني على نفسه" لأن الفرع كالنائب عنه فلا بد من التحميل والتوكيل على ما مر، ولا بد أن يشهد كما يشهد عند القاضي لينقله إلى مجلس القضاء "وإن لم يقل أشهدني على نفسه جاز" لأن من سمع إقرار غيره حل له الشهادة وإن لم يقل له اشهد "ويقول شاهد الفرع عند الأداء أشهد أن فلانا أشهدني على شهادته أن فلانا أقر عنده بكذا وقال لي اشهد على شهادتي بذلك" لأنه لا بد من شهادته، وذكر شهادة الأصل وذكر التحميل، ولها لفظ أطول من هذا وأقصر منه، وخير الأمور أوسطها. "ومن قال أشهدني: فلان على نفسه لم يشهد السامع على شهادته حتى يقول له اشهد على شهادتي" لأنه لا بد من التحميل، وهذا ظاهر عند محمد رحمه الله لأن القضاء عنده بشهادة الفروع والأصول جميعا حتى اشتركوا في الضمان عند الرجوع، وكذا عندهما لأنه لا بد من نقل شهادة الأصول ليصير حجة فيظهر تحميل ما هو حجة.
قال: "ولا تقبل شهادة شهود الفرع إلا أن يموت شهود الأصل أو يغيبوا مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا أو يمرضوا مرضا لا يستطيعون معه حضور مجلس الحاكم" لأن جوازها للحاجة، وإنما تمس عند عجز الأصل وبهذه الأشياء يتحقق العجز. وإنما اعتبرنا السفر لأن المعجز بعد المسافة ومدة السفر بعيدة حكما حتى أدير عليها عدة من الأحكام فكذا سبيل

 

ج / 3 ص -130-       هذا الحكم. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه إن كان في مكان لو غدا لأداء الشهادة لا يستطيع أن يبيت في أهله صح الإشهاد إحياء لحقوق الناس، قالوا: الأول أحسن والثاني أرفق وبه أخذ الفقيه أبو الليث.
قال: "فإن عدل شهود الأصل شهود الفرع جاز" لأنهم من أهل التزكية "وكذا إذا شهد شاهدان فعدل أحدهما الآخر صح" لما قلنا، غاية الأمر أن فيه منفعة من حيث القضاء بشهادته لكن العدل لا يتهم بمثله كما لا يتهم في شهادة نفسه، كيف وأن قوله في حق نفسه وإن ردت شهادة صاحبه فلا تهمة.
قال: "وإن سكتوا عن تعديلهم جاز ونظر القاضي في حالهم" وهذا عند أبي يوسف رحمه الله. وقال محمد رحمه الله: لا تقبل لأنه لا شهادة إلا بالعدالة، فإذا لم يعرفوها لم ينقلوا الشهادة فلا يقبل. ولأبي يوسف رحمه الله أن المأخوذ عليهم النقل دون التعديل، لأنه قد يخفى عليهم، وإذا نقلوا يتعرف القاضي العدالة كما إذا حضروا بأنفسهم وشهدوا.
قال: "وإن أنكر شهود الأصل الشهادة لم تقبل شهادة الشهود الفرع" لأن التحميل لم يثبت للتعارض بين الخبرين وهو شرط. "وإذا شهد رجلان على شهادة رجلين على فلانة بنت فلان الفلانية بألف درهم، وقالا أخبرانا أنهما يعرفانها فجاء بامرأة وقالا: لا ندري أهي هذه أم لا فإنه يقال للمدعي هات شاهدين يشهدان أنها فلانة" لأن الشهادة على المعرفة بالنسبة قد تحققت والمدعي يدعي الحق على الحاضرة ولعلها غيرها فلا بد من تعريفها بتلك النسبة، ونظير هذا إذا تحملوا الشهادة ببيع محدودة بذكر حدودها وشهدوا على المشتري لا بد من آخرين يشهدان على أن المحدود بها في يد المدعى عليه، وكذا إذا أنكر المدعى عليه أن الحدود المذكورة في الشهادة حدود ما في يده.
قال: "وكذا كتاب القاضي إلى القاضي" لأنه في معنى الشهادة على الشهادة إلا أن القاضي لكمال ديانته ووفور ولايته ينفرد بالنقل "ولو قالوا في هذين البابين التميمية لم يجز حتى ينسبوها إلى فخذها" وهي القبيلة الخاصة، وهذا لأن التعريف لا بد منه في هذا، ولا يحصل بالنسبة إلى العامة وهي عامة إلى بني تميم لأنهم قوم لا يحصون، ويحصل بالنسبة إلى الفخذ لأنها خاصة. وقيل الفرغانية نسبة عامة والأوزجندية خاصة، "وقيل السمرقندية والبخارية عامة" وقيل إلى السكة الصغيرة خاصة، وإلى المحلة الكبيرة والمصر عامة. ثم التعريف وإن كان يتم بذكر الجد عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله

 

ج / 3 ص -131-       خلافا لأبي يوسف رحمه الله على ظاهر الروايات، فذكر الفخذ يقوم مقام الجد لأنه اسم الجد الأعلى فنزل منزلة الجد الأدنى، والله أعلم.

فصل: "قال أبو حنيفة رحمه الله: شاهد الزور أشهره في السوق ولا أعزره.
وقالا: نوجعه ضربا ونحبسه" وهو قول الشافعي رحمه الله. لهما ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه ضرب شاهد الزور أربعين سوطا وسخم وجهه، ولأن هذه كبيرة يتعدى ضررها إلى العباد وليس فيها حد مقدر فيعزر. وله أن شريحا كان يشهر ولا يضرب، ولأن الانزجار يحصل بالتشهير فيكتفي به، والضرب وإن كان مبالغة في الزجر ولكنه يقع مانعا عن الرجوع فوجب التخفيف نظرا إلى هذا الوجه. وحديث عمر رضي الله عنه محمول على السياسة بدلالة التبليغ إلى الأربعين والتسخيم ثم تفسير التشهير منقول عن شريح رحمه الله فإنه كان يبعثه إلى سوقه إن كان سوقيا، وإلى قومه إن كان غير سوقي بعد العصر أجمع ما كانوا، ويقول: إن شريحا يقرئكم السلام ويقول: إنا وجدنا هذا شاهد زور فاحذروه وحذروا الناس منه. وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أنه يشهر عندهما أيضا. والتعزير والحبس على قدر ما يراه القاضي عندهما، وكيفية التعزير ذكرناه في الحدود.
"وفي الجامع الصغير: شاهدان أقرا أنهما شهدا بزور لم يضربا وقالا يعزران" وفائدته أن شاهد الزور في حق ما ذكرنا من الحكم هو المقر على نفسه بذلك، فأما لا طريق إلى إثبات ذلك بالبينة لأنه نفي للشهادة والبينات للإثبات، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.