الهداية
في شرح بداية المبتدي ج / 3 ص -132-
كتاب الرجوع عن الشهادة
قال:
"إذا رجع الشهود عن شهادتهم قبل الحكم بها
سقطت" لأن الحق إنما يثبت
بالقضاء والقاضي لا يقضي بكلام متناقض ولا
ضمان عليهما لأنهما ما أتلفا شيئا لا على
المدعي ولا على المشهود عليه
"فإن حكم بشهادتهم ثم رجعوا لم يفسخ الحكم"
لأن آخر كلامهم يناقض أوله فلا ينقض الحكم
بالتناقض ولأنه في الدلالة على الصدق مثل
الأول، وقد ترجح الأول باتصال القضاء به
"وعليهم ضمان ما أتلفوه بشهادتهم"
لإقرارهم على أنفسهم بسبب الضمان، والتناقض لا
يمنع صحة الإقرار، وسنقرره من بعد إن شاء الله
تعالى.
"ولا يصح الرجوع إلا بحضرة الحاكم"
لأنه فسخ للشهادة فيختص بما تختص به الشهادة
من المجلس وهو مجلس القاضي أي قاض كان، ولأن
الرجوع توبة والتوبة على حسب الجناية، فالسر
بالسر والإعلان بالإعلان. وإذا لم يصح الرجوع
في غير مجلس القاضي، فلو ادعى المشهود عليه
رجوعهما وأراد يمينهما لا يحلفان، وكذا لا
تقبل بينته عليهما لأنه ادعى رجوعا باطلا، حتى
لو أقام البينة أنه رجع عند قاضي كذا وضمنه
المال تقبل لأن السبب صحيح.
"وإذا شهد شاهدان بمال فحكم الحاكم به ثم رجعا
ضمنا المال المشهود عليه" لأن
التسبيب على وجه التعدي سبب الضمان كحافر
البئر وقد سببا للإتلاف تعديا. وقال الشافعي
رحمه الله: لا يضمنان لأنه لا عبرة للتسبيب
عند وجود المباشرة. قلنا: تعذر إيجاب الضمان
على المباشر وهو القاضي لأنه كالملجإ إلى
القضاء، وفي إيجابه صرف الناس عن تقلده وتعذر
استيفائه من المدعي لأن الحكم ماض فاعتبر
التسبيب، وإنما يضمنان إذا قبض المدعي المال
دينا كان أو عينا، لأن الإتلاف به يتحقق،
ولأنه لا مماثلة بين أخذ العين وإلزام الدين.
قال:
"فإن رجع أحدهما ضمن النصف"
والأصل أن المعتبر في هذا بقاء من بقي لا رجوع
من رجع وقد بقي من يبقى بشهادته نصف الحق
"وإن شهدا بالمال ثلاثة فرجع أحدهم فلا
ضمان عليه" لأنه بقي من بقي
بشهادته كل الحق، وهذا لأن الاستحقاق باق
ج / 3 ص -133-
بالحجة، والمتلف متى استحق سقط الضمان فأولى
أن يمتنع
"فإن رجع الآخر ضمن الراجعان نصف الحق"
لأن ببقاء أحدهم يبقى نصف الحق
"وإن شهد رجل وامرأتان فرجعت امرأة ضمنت ربع
الحق" لبقاء ثلاثة الأرباع
ببقاء من بقي
"وإن رجعتا ضمنتا نصف الحق"
لأن بشهادة الرجل بقي نصف الحق
"وإن شهد رجل وعشرة نسوة ثم رجع ثمان فلا ضمان
عليهن" لأنه بقي من يبقى
بشهادته كل الحق
"فإن رجعت أخرى كان عليهن ربع الحق"
لأنه بقي النصف بشهادة الرجل والربع بشهادة
الباقية فبقي ثلاثة الأرباع
"وإن رجع الرجل والنساء فعلى الرجل سدس الحق
وعلى النسوة خمسة أسداسه عند أبي حنيفة رحمه
الله وعندهما على الرجل النصف وعلى النسوة
النصف" لأنهن وإن كثرن يقمن
مقام رجل واحد ولهذا لا تقبل شهادتهن إلا
بانضمام رجل واحد.
ولأبي حنيفة رحمه الله أن كل امرأتين قامتا
مقام رجل واحد، قال عليه الصلاة والسلام في
نقصان عقلهن:
"عدلت شهادة اثنتين منهن بشهادة رجل واحد"
فصار كما إذا شهد بذلك ستة رجال ثم رجعوا
"وإن رجع النسوة العشرة دون الرجل كان عليهن
نصف الحق على القولين" لما
قلنا.
"ولو شهد رجلان وامرأة بمال ثم رجعوا فالضمان
عليهما دون المرأة" لأن
الواحدة ليست بشاهدة بل هي بعض الشاهد فلا
يضاف إليه الحكم.
قال:
"وإن شهد شاهدان على امرأة بالنكاح بمقدار مهر
مثلها ثم رجعا فلا ضمان عليهما، وكذلك إذا
شهدا بأقل من مهر مثلها" لأن
منافع البضع غير متقومة عند الإتلاف لأن
التضمين يستدعي المماثلة على ما عرف، وإنما
تضمن وتتقوم بالتملك لأنها تصير متقومة ضرورة
الملك إبانة لخطر المحل
"وكذا إذا شهدا على رجل يتزوج امرأة بمقدار
مهر مثلها" لأنه إتلاف بعوض
لما أن البضع متقوم حال الدخول في الملك
والإتلاف بعوض كلا إتلاف، وهذا لأن مبنى
الضمان على المماثلة ولا مماثلة بين الإتلاف
بعوض وبينه بغير عوض
"وإن شهدا بأكثر من مهر المثل ثم رجعا ضمنا
الزيادة" لأنهما أتلفاها من
غير عوض.
قال:
"وإن شهدا ببيع شيء بمثل القيمة أو أكثر ثم
رجعا لم يضمنا" لأنه ليس
بإتلاف معنى. نظرا إلى العوض
"وإن كان بأقل من القيمة ضمنا النقصان"
لأنهما أتلفا هذا الجزء بلا عوض. ولا فرق بين
أن يكون البيع باتا أو فيه خيار البائع، لأن
السبب هو البيع السابق فيضاف الحكم عند سقوط
الخيار إليه فيضاف التلف إليهم
"وإن شهدا على رجل أنه طلق امرأته قبل الدخول
بها ثم رجعا ضمنا نصف المهر"
لأنهما أكدا ضمانا على شرف السقوط،
ج / 3 ص -134-
ألا
ترى أنها لو طاوعت ابن الزوج أو ارتدت سقط
المهر أصلا ولأن الفرقة قبل الدخول في معنى
الفسخ فيوجب سقوط جميع المهر كما مر في
النكاح، ثم يجب نصف المهر ابتداء بطريق المتعة
فكان واجبا بشهادتهما.
قال:
"وإن شهدا أنه أعتق عبده ثم رجعا ضمنا قيمته"
لأنهما أتلفا مالية العبد عليه من غير عوض
والولاء للمعتق لأن العتق لا يتحول إليهما
بهذا الضمان فلا يتحول الولاء
"وإن شهدوا بقصاص ثم رجعوا بعد القتل ضمنوا
الدية ولا يقتص منهم" وقال
الشافعي رحمه الله: يقتص منهم لوجود القتل
منهم تسبيبا فأشبه المكره بل أولى، لأن الولي
يعان والمكره يمنع. ولنا أن القتل مباشرة لم
يوجد، وكذا تسبيبا لأن التسبيب ما يفضي إليه
غالبا، وهاهنا لا يفضي لأن العفو مندوب، بخلاف
المكره لأنه يؤثر حياته ظاهرا، ولأن الفعل
الاختياري مما يقطع النسبة، ثم لا أقل من
الشبهة وهي دارئة للقصاص، بخلاف المال لأنه
يثبت مع الشبهات والباقي يعرف في المختلف.
قال:
"وإذا رجع شهود الفرع ضمنوا"
لأن الشهادة في مجلس القضاء صدرت منهم فكان
التلف مضافا إليهم
"ولو رجع شهود الأصل وقالوا لم نشهد شهود
الفرع على شهادتنا فلا ضمان عليهم"
لأنهم أنكروا السبب وهو الإشهاد فلا يبطل
القضاء لأنه خبر محتمل فصار كرجوع الشاهد،
بخلاف ما قبل القضاء
"وإن قالوا أشهدناهم وغلطنا ضمنوا وهذا عند
محمد رحمه الله. وعند أبي حنيفة وأبي يوسف
رحمهما الله لا ضمان عليهم"
لأن القضاء وقع بشهادة الفروع لأن القاضي يقضي
بما يعاين من الحجة وهي شهادتهم. وله أن
الفروع نقلوا شهادة الأصول فصار كأنهم حضروا
"ولو رجع الأصول والفروع جميعا يجب الضمان
عندهما على الفروع لا غير"
لأن القضاء وقع بشهادتهم: وعند محمد رحمه الله
المشهود عليه بالخيار، إن شاء ضمن الأصول وإن
شاء ضمن الفروع، لأن القضاء وقع بشهادة الفروع
من الوجه الذي ذكرا وبشهادة الأصول من الوجه
الذي ذكر فيتخير بينهما، والجهتان متغايرتان
فلا يجمع بينهما في التضمين
"وإن قال شهود الفرع كذب شهود الأصل أو غلطوا
في شهادتهم لم يلتفت إلى ذلك"
لأن ما أمضي من القضاء لا ينتقض بقولهم، ولا
يجب الضمان عليهم لأنهم ما رجعوا عن شهادتهم
إنما شهدوا على غيرهم بالرجوع.
قال:
"وإن رجع المزكون عن التزكية ضمنوا وهذا عند
أبي حنيفة رحمه الله. وقالا: لا يضمنون"
لأنهم أثنوا على الشهود خيرا فصاروا كشهود
الإحصان. وله أن التزكية إعمال للشهادة، إذ
القاضي لا يعمل بها إلا بالتزكية فصارت بمعنى
علة العلة، بخلاف شهود الإحصان لأنه شرط محض
"وإذا شهد شاهدان باليمين وشاهدان بوجود الشرط
ثم رجعوا
ج / 3 ص -135-
فالضمان على شهود اليمين خاصة"
لأنه هو السبب، والتلف يضاف إلى مثبتي السبب
دون الشرط المحض: ألا ترى أن القاضي يقضي
بشهادة اليمين دون شهود الشرط، ولو رجع شهود
الشرط وحدهم اختلف المشايخ فيه. ومعنى المسألة
يمين العتاق والطلاق قبل الدخول. |