الهداية
في شرح بداية المبتدي ج / 3 ص -136-
كتاب الوكالة
قال:
"كل عقد جاز أن يعقده الإنسان بنفسه جاز أن
يوكل به غيره" لأن الإنسان قد
يعجز عن المباشرة بنفسه على اعتبار بعض
الأحوال فيحتاج إلى أن يوكل غيره فيكون بسبيل
منه دفعا للحاجة. وقد صح أن النبي صلى الله
عليه وسلم وكل بالشراء حكيم بن حزام وبالتزويج
عمر بن أم سلمة رضي الله عنهما.
قال:
"وتجوز الوكالة بالخصومة في سائر الحقوق"
لما قدمنا من الحاجة إذ ليس كل أحد يهتدي إلى
وجوه الخصومات. وقد صح أن عليا رضي الله عنه
وكل عقيلا، وبعدما أسن وكل عبد الله بن جعفر
رضي الله عنه
"وكذا بإيفائها واستيفائها إلا في
الحدود والقصاص فإن الوكالة لا تصح باستيفائها
مع غيبة الموكل عن المجلس"
لأنها تندرئ بالشبهات وشبهة العفو ثابتة حال
غيبة الموكل، بل هو الظاهر للندب الشرعي،
بخلاف غيبة الشاهد لأن الظاهر عدم الرجوع،
وبخلاف حالة الحضرة لانتفاء هذه الشبهة، وليس
كل أحد يحسن الاستيفاء. فلو منع عنه ينسد باب
الاستيفاء أصلا، وهذا الذي ذكرناه قول أبي
حنيفة رحمه الله.
"وقال أبو يوسف رحمه الله: لا تجوز الوكالة
بإثبات الحدود والقصاص بإقامة الشهود أيضا"
ومحمد مع أبي حنيفة، وقيل مع أبي يوسف رحمهم
الله، وقيل هذا الاختلاف في غيبته دون حضرته
لأن كلام الوكيل ينتقل إلى الموكل عند حضوره
فصار كأنه متكلم بنفسه. له أن التوكيل إنابة
وشبهة النيابة يتحرز عنها في هذا الباب
"كما في الشهادة على الشهادة وكما في
الاستيفاء" ولأبي حنيفة رحمه
الله أن الخصومة شرط محض لأن الوجوب مضاف إلى
الجناية والظهور إلى الشهادة فيجري فيه
التوكيل كما في سائر الحقوق، وعلى هذا الخلاف
التوكيل بالجواب من جانب من عليه الحد
والقصاص. وكلام أبي حنيفة رحمه الله فيه أظهر
لأن الشبهة لا تمنع الدفع، غير أن إقرار
الوكيل غير مقبول عليه لما فيه من شبهة عدم
الأمر به.
"وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يجوز التوكيل
بالخصومة إلا من غير رضا الخصم إلا أن
ج / 3 ص -137-
يكون الموكل مريضا أو غائبا مسيرة ثلاثة أيام
فصاعدا. وقالا: يجوز التوكيل بغير رضا الخصم" وهو
قول الشافعي رحمه الله. ولا خلاف في الجواز
إنما الخلاف في اللزوم. لهما أن التوكيل تصرف
في خالص حقه فلا يتوقف على رضا غيره كالتوكيل
بتقاضي الديون. وله أن الجواب مستحق على الخصم
ولهذا يستحضره، والناس متفاوتون في الخصومة،
فلو قلنا بلزومه يتضرر به فيتوقف على رضاه
كالعبد المشترك إذا كاتبه أحدهما يتخير الآخر،
بخلاف المريض والمسافر لأن الجواب غير مستحق
عليهما هنالك، ثم كما يلزم التوكيل عنده من
المسافر يلزم إذا أراد السفر لتحقق الضرورة،
ولو كانت المرأة مخدرة لم تجر عادتها بالبروز
وحضور مجلس الحكم قال الرازي رحمه الله: يلزم
التوكيل لأنها لو حضرت لا يمكنها أن تنطق
بحقها لحيائها فيلزم توكيلها. قال: وهذا شيء
استحسنه المتأخرون.
قال:
"ومن شرط الوكالة أن يكون الموكل ممن يملك
التصرف وتلزمه الأحكام" لأن
الوكيل يملك التصرف من جهة الموكل فلا بد أن
يكون الموكل مالكا ليملكه من غيره.
"و" يشترط أن يكون
"الوكيل ممن يعقل العقد ويقصده"
لأنه يقوم مقام الموكل في العبارة فيشترط أن
يكون من أهل العبارة حتى لو كان صبيا لا يعقل
أو مجنونا كان التوكيل باطلا.
"وإذا وكل الحر العاقل البالغ أو المأذون
مثلهما جاز" لأن الموكل مالك
للتصرف والوكيل من أهل العبارة
"وإن وكلا صبيا محجورا يعقل البيع والشراء أو
عبدا محجورا جاز، ولا يتعلق بهما الحقوق
ويتعلق بموكلهما" لأن الصبي
من أهل العبارة؛ ألا ترى أنه ينفذ تصرفه بإذن
وليه، والعبد من أهل التصرف على نفسه مالك له
وإنما لا يملكه في حق المولى، والتوكيل ليس
تصرفا في حقه إلا أنه لا يصح منهما التزام
العهدة. أما الصبي لقصور أهليته والعبد لحق
سيده فتلزم الموكل. وعن أبي يوسف رحمه الله أن
المشتري إذا لم يعلم بحال البائع ثم علم أنه
صبي أو مجنون له خيار الفسخ لأنه دخل في العقد
على أن حقوقه تتعلق بالعاقد، فإذا ظهر خلافه
يتخير كما إذا عثر على عيب.
قال:
"والعقد الذي يعقده الوكلاء على ضربين: كل عقد
يضيفه الوكيل إلى نفسه كالبيع والإجارة فحقوقه
تتعلق بالوكيل دون الموكل".
وقال الشافعي رحمه الله: تتعلق بالموكل؛ لأن
الحقوق تابعة لحكم التصرف، والحكم وهو الملك
يتعلق بالموكل، فكذا توابعه وصار كالرسول
والوكيل بالنكاح. ولنا أن الوكيل هو العاقد
حقيقة؛ لأن العقد يقوم بالكلام، وصحة عبارته
لكونه آدميا وكذا حكما؛ لأنه يستغني عن إضافة
العقد إلى الموكل، ولو كان سفيرا عنه لما
استغنى عن ذلك كالرسول، وإذا كان كذلك كان
أصيلا في الحقوق فتتعلق به
ج / 3 ص -138-
ولهذا
قال في الكتاب
"يسلم المبيع ويقبض الثمن ويطالب بالثمن إذا
اشترى، ويقبض المبيع ويخاصم في العيب ويخاصم
فيه"؛ لأن كل ذلك من الحقوق
والملك يثبت للموكل خلافة عنه، اعتبارا
للتوكيل السابق كالعبد يتهب ويصطاد هو الصحيح.
قال العبد الضعيف: وفي مسألة العيب تفصيل
نذكره إن شاء الله تعالى.
قال:
"وكل عقد يضيفه إلى موكله كالنكاح والخلع
والصلح عن دم العمد فإن حقوقه تتعلق بالموكل
دون الوكيل فلا يطالب وكيل الزوج بالمهر ولا
يلزم وكيل المرأة تسليمها"؛
لأن الوكيل فيها سفير محض؛ ألا يرى أنه لا
يستغنى عن إضافة العقد إلى الموكل، ولو أضافه
إلى نفسه كان النكاح له فصار كالرسول، وهذا؛
لأن الحكم فيها لا يقبل الفصل عن السبب؛ لأنه
إسقاط فيتلاشى فلا يتصور صدوره من شخص وثبوت
حكمه لغيره فكان سفيرا. والضرب الثاني من
أخواته العتق على مال والكتابة والصلح على
الإنكار. فأما الصلح الذي هو جار مجرى البيع
فهو من الضرب الأول، والوكيل بالهبة والتصدق
والإعارة والإيداع والرهن والإقراض سفير أيضا؛
لأن الحكم فيما يثبت بالقبض، وأنه يلاقي محلا
مملوكا للغير فلا يجعل أصيلا، وكذا إذا كان
الوكيل من جانب الملتمس، وكذا الشركة
والمضاربة، إلا أن التوكيل بالاستقراض باطل
حتى لا يثبت الملك للموكل بخلاف الرسالة فيه.
قال:
"وإذا طالب الموكل المشتري بالثمن" "فله أن
يمنعه إياه"؛ لأنه أجنبي عن
العقد وحقوقه لما أن الحقوق إلى العاقد
"فإن دفعه إليه جاز ولم يكن للوكيل أن
يطالبه به ثانيا"؛ لأن نفس
الثمن المقبوض حقه وقد وصل إليه، ولا فائدة في
الأخذ منه ثم الدفع إليه، ولهذا لو كان
للمشتري على الموكل دين يقع المقاصة، ولو كان
له عليهما دين يقع المقاصة بدين الموكل أيضا
دون دين الوكيل وبدين الوكيل إذا كان وحده إن
كان يقع المقاصة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما
الله لما أنه يملك الإبراء عنه عندهما ولكنه
يضمنه للموكل في الفصلين.
باب الوكالة في
البيع والشراء
فصل: في الشراء
قال:
"ومن وكل رجلا بشراء شيء فلا بد من تسمية جنسه
وصفته أو جنسه ومبلغ ثمنه"
ليصير الفعل الموكل به معلوما فيمكنه
الائتمار،
"إلا أن يوكله وكالة عامة فيقول: ابتع لي ما
رأيت"؛ لأنه فوض الأمر إلى
رأيه، فأي شيء يشتريه يكون ممتثلا. والأصل فيه
أن الجهالة
ج / 3 ص -139-
اليسيرة تتحمل في الوكالة كجهالة الوصف
استحسانا، لأن مبنى التوكيل على التوسعة؛ لأنه
استعانة. وفي اعتبار هذا الشرط بعض الحرج وهو
مدفوع
"ثم إن كان اللفظ يجمع أجناسا أو ما هو في
معنى الأجناس لا يصح التوكيل وإن بين الثمن"؛
لأن بذلك الثمن يوجد من كل جنس فلا يدرى مراد
الآمر لتفاحش الجهالة
"وإن كان جنسا يجمع أنواعا لا يصح إلا ببيان
الثمن أو النوع"؛ لأنه بتقدير
الثمن يصير النوع معلوما، وبذكر النوع تقل
الجهالة فلا تمنع الامتثال.
مثاله: إذا وكله بشراء عبد أو جارية لا يصح؛
لأنه يشمل أنواعا فإن بين النوع كالتركي
والحبشي أو الهندي أو السندي أو المولد جاز،
وكذا إذا بين الثمن لما ذكرناه، ولو بين النوع
أو الثمن ولم يبين الصفة والجودة والرداءة
والسطة جاز؛ لأنه جهالة مستدركة، ومراده من
الصفة المذكورة في الكتاب النوع.
"وفي الجامع الصغير: ومن قال لآخر اشتر لي
ثوبا أو دابة أو دارا فالوكالة باطلة"
للجهالة الفاحشة، فإن الدابة في حقيقة اللغة
اسم لما يدب على وجه الأرض. وفي العرف يطلق
على الخيل والحمار والبغل فقد جمع أجناسا،
وكذا الثوب؛ لأنه يتناول الملبوس من الأطلس
إلى الكساء ولهذا لا يصح تسميته مهرا وكذا
الدار تشمل ما هو في معنى الأجناس؛ لأنها
تختلف اختلافا فاحشا باختلاف الأغراض والجيران
والمرافق والمحال والبلدان فيتعذر الامتثال.
قال:
"وإن سمى ثمن الدار ووصف جنس الدار والثوب
جاز" معناه نوعه، وكذا إذا
سمى نوع الدابة بأن قال حمارا أو نحوه.
قال:
"ومن دفع إلى آخر دراهم وقال اشتر لي بها
طعاما فهو على الحنطة ودقيقها"
استحسانا. والقياس أن يكون على كل مطعوم
اعتبارا للحقيقة كما في اليمين على الأكل إذ
الطعام اسم لما يطعم. وجه الاستحسان أن العرف
أملك وهو على ما ذكرناه إذا ذكر مقرونا بالبيع
والشراء ولا عرف في الأكل فبقي على الوضع،
وقيل إن كثرت الدراهم فعلى الحنطة، وإن قلت
فعلى الخبز، وإن كان فيما بين ذلك فعلى
الدقيق. قال:
"وإذا اشترى الوكيل وقبض ثم اطلع على عيب فله
أن يرده بالعيب ما دام المبيع في يده"؛
لأنه من حقوق العقد وهي كلها إليه
"فإن سلمه إلى الموكل لم يرده إلا بإذنه"؛
لأنه انتهى حكم الوكالة، ولأن فيه إبطال يده
الحقيقية فلا يتمكن منه إلا بإذنه، ولهذا كان
خصما لمن يدعي في المشتري دعوى كالشفيع وغيره
قبل التسليم إلى الموكل لا بعده.
ج / 3 ص -140-
قال:
"ويجوز التوكيل بعقد الصرف والسلم"؛
لأنه عقد يملكه بنفسه فيملك التوكيل به على ما
مر، ومراده التوكيل بالإسلام دون قبول السلم؛
لأن ذلك لا يجوز، فإن الوكيل يبيع طعاما في
ذمته على أن يكون الثمن لغيره، وهذا لا يجوز.
"فإن فارق الوكيل صاحبه قبل القبض بطل
العقد" لوجود الافتراق من غير
قبض
"ولا يعتبر مفارقة الموكل"؛
لأنه ليس بعاقد والمستحق بالعقد قبض العاقد
وهو الوكيل فيصح قبضه وإن كان لا يتعلق به
الحقوق كالصبي والعبد المحجور عليه، بخلاف
الرسول؛ لأن الرسالة في العقد لا في القبض،
وينتقل كلامه إلى المرسل فصار قبض الرسول قبض
غير العاقد فلم يصح.
قال:
"وإذا دفع الوكيل بالشراء الثمن من ماله وقبض
المبيع فله أن يرجع به على الموكل"؛
لأنه انعقدت بينهما مبادلة حكمية ولهذا إذا
اختلفا في الثمن يتحالفان ويرد الموكل بالعيب
على الوكيل وقد سلم المشتري للموكل من جهة
الوكيل فيرجع عليه ولأن الحقوق لما كانت راجعة
إليه وقد علمه الموكل يكون راضيا بدفعه من
ماله
"فإن هلك المبيع في يده قبل حبسه هلك من مال
الموكل ولم يسقط الثمن"؛ لأن
يده كيد الموكل، فإذا لم يحبسه يصير الموكل
قابضا بيده.
"وله أن يحبسه حتى يستوفي الثمن"
لما بينا أنه بمنزلة البائع من الموكل. وقال
زفر: ليس له ذلك؛ لأن الموكل صار قابضا بيده
فكأنه سلمه إليه فيسقط حق الحبس. قلنا: هذا لا
يمكن التحرز عنه فلا يكون راضيا بسقوط حقه في
الحبس، على أن قبضه موقوف فيقع للموكل إن لم
يحبسه ولنفسه عند حبسه
"فإن حبسه فهلك كان مضمونا ضمان الرهن
عند أبي يوسف وضمان المبيع عند محمد"
وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وضمان الغصب عند
زفر رحمه الله؛ لأنه منع بغير حق، لهما أنه
بمنزلة البائع منه فكان حبسه لاستيفاء الثمن
فيسقط بهلاكه ولأبي يوسف أنه مضمون بالحبس
للاستيفاء بعد أن لم يكن وهو الرهن بعينه
بخلاف المبيع؛ لأن البيع ينفسخ بهلاكه وها هنا
لا ينفسخ أصل العقد. قلنا: ينفسخ في حق الموكل
والوكيل، كما إذا رده الموكل بعيب ورضي الوكيل
به.
قال:
"وإذا وكله بشراء عشرة أرطال لحم بدرهم فاشترى
عشرين رطلا بدرهم من لحم يباع منه عشرة أرطال
بدرهم لزم الموكل منه عشرة بنصف درهم عند أبي
حنيفة، وقالا: يلزمه العشرون بدرهم"
وذكر في بعض النسخ قول محمد مع قول أبي حنيفة
ومحمد لم يذكر الخلاف في الأصل. لأبي يوسف أنه
أمره بصرف الدرهم في
ج / 3 ص -141-
اللحم
وظن أن سعره عشرة أرطال، فإذا اشترى به عشرين
فقد زاده خيرا وصار كما إذا وكله ببيع عبده
بألف فباعه بألفين. ولأبي حنيفة أنه أمره
بشراء عشرة أرطال ولم يأمره بشراء الزيادة
فينفذ شراؤها عليه وشراء العشرة على الموكل
بخلاف ما استشهد به؛ لأن الزيادة هناك بدل ملك
الموكل فيكون له، بخلاف ما إذا اشترى ما يساوي
عشرين رطلا بدرهم حيث يصير مشتريا لنفسه
بالإجماع؛ لأن الآمر يتناول السمين وهذا مهزول
فلم يحصل مقصود الآمر.
قال:
"ولو وكله بشراء شيء بعينه فليس له أن يشتريه
لنفسه" لأنه يؤدي إلى تغرير
الآمر حيث اعتمد عليه ولأن فيه عزل نفسه ولا
يملكه على ما قيل إلا بمحضر من الموكل، فلو
كان الثمن مسمى فاشترى بخلاف جنسه أو لم يكن
مسمى فاشترى بغير النقود أو وكل وكيلا بشرائه
فاشترى الثاني وهو غائب يثبت الملك للوكيل
الأول في هذه الوجوه؛ لأنه خالف أمر الآمر
فينفذ عليه. ولو اشترى الثاني بحضرة الوكيل
الأول نفذ على الموكل الأول؛ لأنه حضره رأيه
فلم يكن مخالفا.
قال:
"وإن وكله بشراء عبد بغير عينه: فاشترى عبدا
فهو للوكيل إلا أن يقول نويت الشراء للموكل أو
يشتريه بمال الموكل".
قال: هذه المسألة على وجوه: إن أضاف العقد
إلى دراهم الآمر كان للآمر وهو المراد عندي
بقوله أو يشتريه بمال الموكل دون النقد من
ماله؛ لأن فيه تفصيلا وخلافا، وهذا بالإجماع
وهو مطلق. وإن أضافه إلى دراهم نفسه كان لنفسه
حملا لحاله على ما يحل له شرعا أو يفعله عادة
إذ الشراء لنفسه بإضافة العقد إلى دراهم غيره
مستنكر شرعا وعرفا. وإن أضافه إلى دراهم
مطلقة، فإن نواها للآمر فهو للآمر، وإن نواها
لنفسه فلنفسه؛ لأن له أن يعمل لنفسه ويعمل
للآمر في هذا التوكيل، وإن تكاذبا في النية
يحكم النقد بالإجماع؛ لأنه دلالة ظاهرة على ما
ذكرنا، وإن توافقا على أنه لم تحضره النية قال
محمد رحمه الله: هو للعاقد؛ لأن الأصل أن كل
أحد يعمل لنفسه إلا إذا ثبت جعله لغيره ولم
يثبت. وعند أبي يوسف رحمه الله: يحكم النقد؛
لأن ما أوقعه مطلقا يحتمل الوجهين فيبقى
موقوفا، فمن أي المالين نقد فقد فعل ذلك
المحتمل لصاحبه ولأن مع تصادقهما يحتمل النية
للآمر، وفيما قلنا حمل حاله على الصلاح كما في
حالة التكاذب. والتوكيل بالإسلام في الطعام
على هذه الوجوه.
قال:
"ومن أمر رجلا بشراء عبد بألف فقال قد فعلت
ومات عندي وقال الآمر
ج / 3 ص -142-
اشتريته لنفسك فالقول قول الآمر، فإن كان دفع
إليه الألف فالقول قول المأمور"؛ لأن في الوجه الأول أخبر عما لا يملك استئنافه وهو الرجوع بالثمن
على الآمر وهو ينكر والقول للمنكر. وفي الوجه
الثاني هو أمين يريد الخروج عن عهدة الأمانة
فيقبل قوله. ولو كان العبد حيا حين اختلفا، إن
كان الثمن منقودا فالقول للمأمور؛ لأنه أمين،
وإن لم يكن منقودا فكذلك عند أبي يوسف ومحمد
رحمهما الله؛ لأنه يملك استئناف الشراء فلا
يتهم في الإخبار عنه. وعن أبي حنيفة رحمه
الله: القول للأمر؛ لأنه موضع تهمة بأن اشتراه
لنفسه، فإذا رأى الصفقة خاسرة ألزمها الآمر،
بخلاف ما إذا كان الثمن منقودا؛ لأنه أمين فيه
فيقبل قوله تبعا لذلك ولا ثمن في يده هاهنا،
وإن كان أمره بشراء عبد بعينه ثم اختلفا
والعبد حي فالقول للمأمور سواء كان الثمن
منقودا أو غير منقود، وهذا بالإجماع؛ لأنه
أخبر عما يملك استئنافه، ولا تهمة فيه؛ لأن
الوكيل بشراء شيء بعينه لا يملك شراءه لنفسه
بمثل ذلك الثمن في حال غيبته على ما مر، بخلاف
غير المعين على ما ذكرناه لأبي حنيفة رحمه
الله.
"ومن قال لآخر بعني هذا العبد لفلان فباعه ثم
أنكر أن يكون فلان أمره ثم جاء فلان وقال أنا
أمرته بذلك فإن فلانا يأخذه"؛
لأن قوله السابق إقرار منه بالوكالة عنه فلا
ينفعه الإنكار اللاحق.
"فإن قال فلان لم آمره لم يكن له"؛
لأن الإقرار يرتد برده
"إلا أن يسلمه المشترى له فيكون بيعا عنه
وعليه العهدة"؛ لأنه صار
مشتريا بالتعاطي، كمن اشترى لغيره بغير أمره
حتى لزمه ثم سلمه المشترى له، ودلت المسألة
على أن التسليم على وجه البيع يكفي للتعاطي
وإن لم يوجد نقد الثمن، وهو يتحقق في النفيس
والخسيس لاستتمام التراضي وهو المعتبر في
الباب.
قال:
"ومن أمر رجلا أن يشتري له عبدين بأعيانهما
ولم يسم له ثمنا فاشترى له أحدهما جاز"؛
لأن التوكيل مطلق، وقد لا يتفق الجمع بينهما
في البيع "إلا فيما لا يتغابن الناس فيه"؛
لأنه توكيل بالشراء، وهذا كله بالإجماع
"ولو أمره بأن يشتريهما بألف وقيمتهما سواء،
فعند أبي حنيفة رحمه الله إن اشترى أحدهما
بخمسمائة أو أقل جاز، وإن اشترى بأكثر لم يلزم
الآمر"؛ لأنه قابل الألف بهما
وقيمتهما سواء فيقسم بينهما نصفين دلالة، فكان
آمرا بشراء كل واحد منهما بخمسمائة ثم الشراء
بها موافقة وبأقل منها مخالفة إلى خير
والزيادة إلى شر قلت الزيادة أو كثرت فلا يجوز
"إلا أن يشتري الباقي ببقية الألف قبل أن
يختصما استحسانا"؛ لأن شراء
الأول قائم وقد حصل غرضه المصرح به وهو تحصيل
العبدين بالألف وما ثبت الانقسام إلا دلالة
والصريح يفوقها
"وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إن اشترى
أحدهما بأكثر من نصف الألف بما يتغابن الناس
فيه وقد بقي من
ج / 3 ص -143-
الألف ما يشترى بمثله الباقي جاز"؛
لأن التوكيل مطلق لكنه يتقيد بالمتعارف وهو
فيما قلنا، ولكن لا بد أن يبقى من الألف باقية
يشترى بمثلها الباقي ليمكنه تحصيل غرض الآمر.
قال:
"ومن له على آخر ألف درهم فأمره أن يشتري بها
هذا العبد فاشتراه جاز"؛ لأن
في تعيين المبيع تعيين البائع؛ ولو عين البائع
يجوز على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
قال:
"وإن أمره أن يشتري بها عبدا بغير عينه
فاشتراه فمات في يده قبل أن يقبضه الآمر مات
من مال المشتري، وإن قبضه الآمر فهو له"
وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله
"وقالا: هو لازم للآمر إذا قبضه المأمور"
وعلى هذا إذا أمره أن يسلم ما عليه أو يصرف ما
عليه. لهما أن الدراهم والدنانير لا يتعينان
في المعاوضات دينا كانت أو عينا، ألا يرى أنه
لو تبايعا عينا بدين ثم تصادقا أن لا دين لا
يبطل العقد فصار الإطلاق والتقييد فيه سواء
فيصح التوكيل ويلزم الآمر؛ لأن يد الوكيل
كيده. ولأبي حنيفة رحمه الله أنها تتعين في
الوكالات؛ ألا ترى أنه لو قيد الوكالة بالعين
منها أو بالدين منها ثم استهلك العين أو أسقط
الدين بطلت الوكالة، وإذا تعينت كان هذا تمليك
الدين من غير من عليه الدين من دون أن يوكله
بقبضه وذلك لا يجوز، كما إذا اشترى بدين على
غير المشتري أو يكون أمرا بصرف ما لا يملكه
إلا بالقبض قبله وذلك باطل كما إذا قال أعط
مالي عليك من شئت، بخلاف ما إذا عين البائع؛
لأنه يصير وكيلا عنه في القبض ثم يتملكه،
وبخلاف ما إذا أمره بالتصدق؛ لأنه جعل المال
لله وهو معلوم. وإذا لم يصح التوكيل نفذ
الشراء على المأمور فيهلك من ماله إلا إذا
قبضه الآمر منه لانعقاد البيع تعاطيا.
قال:
"ومن دفع إلى آخر ألفا وأمره أن يشتري بها
جارية فاشتراها فقال الآمر اشتريتها بخمسمائة.
وقال المأمور اشتريتها بألف فالقول قول
المأمور" ومراده إذا كانت
تساوي ألفا؛ لأنه أمين فيه وقد ادعى الخروج عن
عهدة الأمانة والآمر يدعي عليه ضمان خمسمائة
وهو ينكر، فإن كانت تساوي خمسمائة فالقول قول
الآمر؛ لأنه خالف حيث اشترى جارية تساوي
خمسمائة والأمر تناول ما يساوي ألفا فيضمن.
قال:
"وإن لم يكن دفع إليه الألف فالقول قول الآمر"
أما إذا كانت قيمتها خمسمائة
فللمخالفة وإن كانت قيمتها ألفا فمعناه أنهما
يتحالفان؛ لأن الموكل والوكيل في هذا ينزلان
منزلة البائع والمشتري وقد وقع الاختلاف في
الثمن وموجبه التحالف. ثم يفسخ العقد الذي جرى
بينهما فتلزم الجارية المأمور.
قال:
"ولو أمره أن يشتري له هذا العبد ولم يسم له
ثمنا فاشتراه فقال الآمر اشتريته
ج / 3 ص -144-
بخمسمائة وقال المأمور بألف وصدق البائع
المأمور فالقول قول المأمور مع يمينه" قيل لا تحالف هاهنا؛ لأنه ارتفع الخلاف بتصديق البائع، إذ هو حاضر
وفي المسألة الأولى هو غائب، فاعتبر الاختلاف،
وقيل يتحالفان كما ذكرنا، وقد ذكر معظم يمين
التحالف وهو يمين البائع والبائع بعد استيفاء
الثمن أجنبي عنهما وقبله أجنبي عن الموكل إذ
لم يجر بينهما بيع فلا يصدق عليه فيبقى
الخلاف، وهذا قول الإمام أبي منصور رحمه الله
وهو أظهر. والله أعلم بالصواب.
فصل: في التوكيل
بشراء نفس العبد
قال:
"وإذا قال العبد لرجل: اشتر لي نفسي من المولى
بألف ودفعها إليه، فإن قال الرجل للمولى:
اشتريته لنفسه فباعه على هذا فهو حر والولاء
للمولى"؛ لأن بيع نفس العبد
منه إعتاق وشراء العبد نفسه قبول الإعتاق ببدل
والمأمور سفير عنه إذ لا يرجع عليه الحقوق
فصار كأنه اشترى بنفسه، وإذا كان إعتاقا أعقب
الولاء
"وإن لم يعين للمولى فهو عبد للمشتري"
لأن اللفظ حقيقة للمعاوضة وأمكن العمل بها إذا
لم يعين فيحافظ عليها. بخلاف شراء العبد نفسه؛
لأن المجاز فيه متعين، وإذا كان معاوضة يثبت
الملك له
"والألف للمولى"؛ لأنه كسب
عبده "وعلى المشتري ألف مثله"
ثمنا للعبد فإنه في ذمته حيث لم يصح الأداء،
بخلاف الوكيل بشراء العبد من غيره حيث لا
يشترط بيانه؛ لأن العقدين هناك على نمط واحد،
وفي الحالين المطالبة تتوجه نحو العاقد، أما
هاهنا فأحدهما إعتاق معقب للولاء ولا مطالبة
على الوكيل والمولى عساه لا يرضاه ويرغب في
المعارضة المحضة فلا بد من البيان.
"ومن قال لعبد اشتر لي نفسك من مولاك فقال
لمولاه بعني نفسي لفلان بكذا ففعل فهو للآمر"؛
لأن العبد يصلح وكيلا عن غيره في شراء نفسه؛
لأنه أجنبي عن ماليته، والبيع يرد عليه من حيث
إنه مال إلا أن ماليته في يده حتى لا يملك
البائع الحبس بعد البيع فإذا أضافه إلى الآمر
صلح فعله امتثالا فيقع. العقد للآمر.
"وإن عقد لنفسه فهو حر"؛ لأنه
إعتاق وقد رضي به المولى دون المعاوضة، والعبد
وإن كان وكيلا بشراء شيء معين ولكنه أتى بجنس
تصرف آخر وفي مثله ينفذ على الوكيل
"وكذا لو قال بعني نفسي ولم يقل لفلان فهو
حر"؛ لأن المطلق يحتمل
الوجهين فلا يقع امتثالا بالشك فيبقى التصرف
واقعا لنفسه.
ج / 3 ص -145-
فصل: في البيع
قال:
"والوكيل بالبيع والشراء لا يجوز له أن يعقد
مع أبيه وجده ومن لا تقبل شهادته له عند أبي
حنيفة. وقالا: يجوز بيعه منهم بمثل القيمة إلا
من عبده أو مكاتبه" لأن
التوكيل مطلق ولا تهمة إذ الأملاك متباينة
والمنافع منقطعة، بخلاف العبد؛ لأنه بيع من
نفسه؛ لأن ما في يد العبد للمولى وكذا للمولى
حق في كسب المكاتب وينقلب حقيقة بالعجز. وله
أن مواضع التهمة مستثناة عن الوكالات، وهذا
موضع التهمة بدليل عدم قبول الشهادة ولأن
المنافع بينهم متصلة فصار بيعا من نفسه من
وجه، والإجارة والصرف على هذا الخلاف.
قال:
"والوكيل بالبيع يجوز بيعه بالقليل والكثير
والعرض عند أبي حنيفة رحمه الله. وقالا: لا
يجوز بيعه بنقصان لا يتغابن الناس فيه، ولا
يجوز إلا بالدراهم والدنانير"؛
لأن مطلق الأمر يتقيد بالمتعارف؛ لأن التصرفات
لدفع الحاجات فتتقيد بمواقعها، والمتعارف
البيع بثمن المثل وبالنقود ولهذا يتقيد
التوكيل بشراء الفحم والجمد والأضحية بزمان
الحاجة، ولأن البيع بغبن فاحش بيع من وجه هبة
من وجه، وكذا المقايضة بيع من وجه شراء من وجه
فلا يتناوله مطلق اسم البيع ولهذا لا يملكه
الأب والوصي. وله أن التوكيل بالبيع مطلق
فيجري على إطلاقه في غير موضع التهمة، والبيع
بالغبن أو بالعين متعارف عند شدة الحاجة إلى
الثمن والتبرم من العين، والمسائل ممنوعة على
قول أبي حنيفة رحمه الله على ما هو المروي عنه
وأنه بيع من كل وجه، حتى أن من حلف لا يبيع
يحنث به، غير أن الأب والوصي لا يملكانه مع
أنه بيع؛ لأن ولايتهما نظرية ولا نظر فيه،
والمقايضة شراء من كل وجه وبيع من كل وجه
لوجود حد كل واحد منهما.
قال:
"والوكيل بالشراء يجوز عقده بمثل القيمة
وزيادة يتغابن الناس في مثلها، ولا يجوز بما
لا يتغابن الناس في مثله" لأن
التهمة فيه متحققة فلعله اشتراه لنفسه، فإذا
لم يوافقه ألحقه بغيره على ما مر، حتى لو كان
وكيلا بشراء شيء بعينه قالوا ينفذ على الآمر؛
لأنه لا يملك شراءه لنفسه، وكذا الوكيل
بالنكاح إذا زوجه امرأة بأكثر من مهر مثلها
جاز عنده؛ لأنه لا بد من الإضافة إلى الموكل
في العقد فلا تتمكن هذه التهمة، ولا كذلك
الوكيل بالشراء؛ لأنه يطلق العقد.
قال:
"والذي لا يتغابن الناس فيه ما لا يدخل تحت
تقويم المقومين، وقيل في العروض الإل نيم وفي
الحيوانات الإل يازده وفي العقارات الإل
دوازده" لأن التصرف يكثر
وجوده
ج / 3 ص -146-
في
الأول ويقل في الأخير ويتوسط في الأوسط وكثرة
الغبن لقلة التصرف.
قال:
"وإذا وكله ببيع عبد فباع نصفه جاز عند أبي
حنيفة رحمه الله"؛ لأن اللفظ
مطلق عن قيد الافتراق والاجتماع؛ ألا ترى أنه
لو باع الكل بثمن النصف يجوز عنده فإذا باع
النصف به أولى
"وقالا: لا يجوز"؛ لأنه غير
متعارف لما فيه من ضرر الشركة
"إلا أن يبيع النصف الآخر قبل أن يختصما"؛
لأن بيع النصف قد يقع وسيلة إلى الامتثال بأن
لا يجد من يشتريه جملة فيحتاج إلى أن يفرق،
فإذا باع الباقي قبل نقض البيع الأول تبين أنه
وقع وسيلة، وإذا لم يبع ظهر أنه لم يقع وسيلة
فلا يجوز، وهذا استحسان عندهما.
"وإن وكله بشراء عبد فاشترى نصفه فالشراء
موقوف، فإن اشترى باقيه لزم الموكل"؛
لأن شراء البعض قد يقع وسيلة إلى الامتثال بأن
كان موروثا بين جماعة فيحتاج إلى شرائه شقصا
شقصا، فإذا اشترى الباقي قبل رد الآمر البيع
تبين أنه وقع وسيلة فينفذ على الآمر، وهذا
بالاتفاق. والفرق لأبي حنيفة أن في الشراء
تتحقق التهمة على ما مر. وآخر أن الأمر بالبيع
يصادف ملكه فيصح فيعتبر فيه إطلاقه والأمر
بالشراء صادف ملك الغير فلم يصح فلا يعتبر فيه
التقييد والإطلاق.
قال:
"ومن أمر رجلا ببيع عبده فباعه وقبض الثمن أو
لم يقبض فرده المشتري عليه بعيب لا يحدث مثله
بقضاء القاضي ببينة أو بإباء يمين أو بإقرار
فإنه يرده على الآمر" لأن
القاضي تيقن بحدوث العيب في يد البائع فلم يكن
قضاؤه مستندا إلى هذه الحجج. وتأويل اشتراطها
في الكتاب أن القاضي يعلم أنه لا يحدث مثله في
مدة شهر مثلا لكنه اشتبه عليه تاريخ البيع
فيحتاج إلى هذه الحجج لظهور التاريخ، أو كان
عيبا لا يعرفه إلا النساء أو الأطباء، وقولهن
وقول الطبيب حجة في توجه الخصومة لا في الرد
فيفتقر إليها في الرد، حتى لو كان القاضي عاين
البيع والعيب ظاهر لا يحتاج إلى شيء منها وهو
رد على الموكل فلا يحتاج الوكيل إلى رد
وخصومة.
قال:
"وكذلك إن رده عليه بعيب يحدث مثله ببينة أو
بإباء يمين"؛ لأن البينة حجة
مطلقة، والوكيل مضطر في النكول لبعد العيب عن
علمه باعتبار عدم ممارسته المبيع فلزم الآمر.
قال:
"فإن كان ذلك بإقراره لزم المأمور"؛
لأن الإقرار حجة قاصرة وهو غير مضطر إليه
لإمكانه السكوت والنكول، إلا أن له أن يخاصم
الموكل فيلزمه ببينة أو بنكوله، بخلاف ما إذا
كان الرد بغير قضاء والعيب يحدث مثله حيث لا
يكون له أن يخاصم بائعه؛ لأنه بيع
ج / 3 ص -147-
جديد
في حق ثالث والبائع ثالثهما، والرد بالقضاء
فسخ لعموم ولاية القاضي، غير أن الحجة قاصرة
وهي الإقرار، فمن حيث الفسخ كان له أن يخاصمه،
ومن حيث القصور لا يلزم الموكل إلا بحجة، ولو
كان العيب لا يحدث مثله والرد بغير قضاء
بإقراره يلزم الموكل من غير خصومة في رواية؛
لأن الرد متعين وفي عامة الروايات ليس له أن
يخاصمه لما ذكرنا والحق في وصف السلامة ثم
ينتقل إلى الرد ثم إلى الرجوع بالنقصان فلم
يتعين الرد، وقد بيناه في الكفاية بأطول من
هذا.
قال:
"ومن قال لآخر أمرتك ببيع عبدي بنقد فبعته
بنسيئة وقال المأمور أمرتني ببيعه ولم تقل
شيئا فالقول قول الآمر"؛ لأن
الآمر يستفاد من جهته ولا دلالة على الإطلاق.
قال:
"وإن اختلف في ذلك المضارب ورب المال فالقول
قول المضارب" لأن الأصل في
المضاربة العموم، ألا ترى أنه يملك التصرف
بذكر لفظ المضاربة فقامت دلالة الإطلاق، بخلاف
ما إذا ادعى رب المال المضاربة في نوع
والمضارب في نوع آخر حيث يكون القول لرب
المال؛ لأنه سقط الإطلاق بتصادقهما فنزل إلى
الوكالة المحضة ثم مطلق الأمر بالبيع ينتظمه
نقدا ونسيئة إلى أي أجل كان عند أبي حنيفة،
وعندهما يتقيد بأجل متعارف والوجه قد تقدم.
قال:
"ومن أمر رجلا ببيع عبده فباعه وأخذ بالثمن
رهنا فضاع في يده أو أخذ به كفيلا فتوي المال
عليه فلا ضمان عليه" لأن
الوكيل أصيل في الحقوق وقبض الثمن منها
والكفالة توثق به، والارتهان وثيقة لجانب
الاستيفاء فيملكهما بخلاف الوكيل بقبض الدين؛
لأنه يفعل نيابة وقد أنابه في قبض الدين دون
الكفالة وأخذ الرهن والوكيل بالبيع يقبض أصالة
ولهذا لا يملك الموكل حجره عنه.
فصل: "وإذا وكل
وكيلين فليس لأحدهما أن يتصرف فيما وكلا به
دون الآخر"
وهذا في تصرف يحتاج فيه إلى الرأي كالبيع
والخلع وغير ذلك، لأن الموكل رضي برأيهما لا
برأي أحدهما، والبدل وإن كان مقدرا ولكن
التقدير لا يمنع استعمال الرأي في الزيادة
واختيار المشتري.
قال:
"إلا أن يوكلهما بالخصومة"
لأن الاجتماع فيها متعذر للإفضاء إلى الشغب في
مجلس القضاء والرأي يحتاج إليه سابقا لتقويم
الخصومة.
قال:
"أو بطلاق زوجته بغير عوض أو بعتق عبده بغير
عوض أو برد وديعة عنده أو
ج / 3 ص -148-
قضاء دين عليه" لأن
هذه الأشياء لا يحتاج فيها إلى الرأي بل هو
تعبير محض، وعبارة المثنى والواحد سواء. وهذا
بخلاف ما إذا قال لهما طلقاها إن شئتما أو قال
أمرها بأيديكما لأنه تفويض إلى رأيهما؛ ألا
ترى أنه تمليك مقتصر على المجلس، ولأنه علق
الطلاق بفعلهما فاعتبره بدخولهما.
قال:
"وليس للوكيل أن يوكل فيما وكل به"
لأنه فوض إليه التصرف دون التوكيل به، وهذا
لأنه رضي برأيه والناس متفاوتون في الآراء.
قال:
"إلا أن يأذن له الموكل"
لوجود الرضا "أو يقول له اعمل برأيك"
لإطلاق التفويض إلى رأيه، وإذا جاز في هذا
الوجه يكون الثاني وكيلا عن الموكل حتى لا
يملك الأول عزله ولا ينعزل بموته وينعزلان
بموت الأول، وقد مر نظيره في أدب القاضي.
قال:
"فإن وكل بغير إذن موكله فعقد وكيله بحضرته
جاز" لأن المقصود حضور رأي
الأول وقد حضر، وتكلموا في حقوقه.
"وإن عقد في حال غيبته لم يجز"
لأنه فات رأيه إلا أن يبلغه فيجيزه
"وكذا لو باع غير الوكيل فبلغه فأجازه"
لأنه حضر رأيه
"ولو قدر الأول الثمن للثاني فعقد بغيبته
يجوز" لأن الرأي فيه يحتاج
إليه لتقدير الثمن ظاهرا وقد حصل، وهذا بخلاف
ما إذا وكل وكيلين وقدر الثمن، لأنه لما فوض
إليهما مع تقدير الثمن ظهر أن غرضه اجتماع
رأيهما في الزيادة واختيار المشتري على ما
بيناه، أما إذا لم يقدر الثمن وفوض إلى الأول
كان غرضه رأيه في معظم الأمر وهو التقدير في
الثمن.
قال:
"وإذا زوج المكاتب أو العبد أو الذمي ابنته
وهي صغيرة حرة مسلمة أو باع أو اشترى لها لم
يجز" معناه التصرف في مالها
لأن الرق والكفر يقطعان الولاية؛ ألا يرى أن
المرقوق لا يملك إنكاح نفسه فكيف يملك إنكاح
غيره، وكذا الكافر لا ولاية له على المسلم حتى
لا تقبل شهادته عليه، ولأن هذه ولاية نظرية
فلا بد من التفويض إلى القادر المشفق ليتحقق
معنى النظر، والرق يزيل القدرة والكفر يقطع
الشفقة على المسلم فلا تفوض إليهما.
"قال أبو يوسف ومحمد: والمرتد إذا قتل على
ردته والحربي كذلك" لأن
الحربي أبعد من الذمي فأولى بسلب الولاية،
وأما المرتد فتصرفه في ماله وإن كان نافذا
عندهما لكنه موقوف على ولده ومال ولده
بالإجماع لأنها ولاية نظرية وذلك باتفاق الملة
وهي مترددة، ثم تستقر جهة الانقطاع إذا قتل
على الردة فيبطل وبالإسلام يجعل كأنه لم يزل
مسلما فيصح.
ج / 3 ص -149-
باب الوكالة بالخصومة والقبض
قال:
"الوكيل بالخصومة وكيل بالقبض"
عندنا خلافا لزفر. هو يقول رضي بخصومته والقبض
غير الخصومة ولم يرض به. ولنا أن من ملك شيئا
ملك إتمامه وإتمام الخصومة وانتهاؤها بالقبض،
والفتوى اليوم على قول زفر رحمه الله لظهور
الخيانة في الوكلاء، وقد يؤتمن على الخصومة من
لا يؤتمن على المال، ونظيره الوكيل بالتقاضي
يملك القبض على أصل الرواية لأنه في معناه
وضعا، إلا أن العرف بخلافه وهو قاض على الوضع
والفتوى على أن لا يملك.
قال:
"فإن كانا وكيلين بالخصومة لا يقبضان إلا معا"
لأنه رضي بأمانتهما لا بأمانة أحدهما،
واجتماعهما ممكن بخلاف الخصومة على ما مر.
قال:
"والوكيل بقبض الدين يكون وكيلا بالخصومة عند
أبي حنيفة رحمه الله" حتى لو
أقيمت عليه البينة على استيفاء الموكل أو
إبرائه تقبل عنده، وقالا: لا يكون خصما وهو،
رواية الحسن عن أبي حنيفة لأن القبض غير
الخصومة، وليس كل من يؤتمن على المال يهتدي في
الخصومات فلم يكن الرضا بالقبض رضا بها. ولأبي
حنيفة رحمه الله أنه وكله بالتملك لأن الديون
تقضى بأمثالها، إذ قبض الدين نفسه لا يتصور
إلا أنه جعل استيفاء العين حقه من وجه، فأشبه
الوكيل بأخذ الشفعة والرجوع في الهبة والوكيل
بالشراء والقسمة والرد بالعيب، وهذه أشبه بأخذ
الشفعة حتى يكون خصما قبل القبض كما يكون خصما
قبل الأخذ هنالك. والوكيل بالشراء لا يكون
خصما قبل مباشرة الشراء، وهذا لأن المبادلة
تقتضي حقوقا وهو أصيل فيها فيكون خصما فيها.
قال:
"والوكيل بقبض العين لا يكون وكيلا بالخصومة"
بالاتفاق لأنه أمين محض، والقبض ليس بمبادلة
فأشبه الرسول
"حتى أن من وكل وكيلا بقبض عبد له فأقام الذي
هو في يده البينة أن الموكل باعه إياه وقف
الأمر حتى يحضر الغائب" وهذا
استحسان، والقياس أن يدفع إلى الوكيل لأن
البينة قامت لأعلى خصم فلم تعتبر. وجه
الاستحسان أنه خصم في قصر يده لقيامه مقام
الموكل في القبض فتقصر يده حتى لو حضر البائع
تعاد البينة على البيع، فصار كما إذا أقام
البينة على أن الموكل عزله عن ذلك فإنها تقبل
في قصر يده كذا هذا.
قال:
"وكذلك العتاق والطلاق وغير ذلك"
ومعناه إذا أقامت المرأة البينة على الطلاق
ج / 3 ص -150-
والعبد
والأمة على العتاق على الوكيل بنقلهم تقبل في
قصر يده حتى يحضر الغائب استحسانا دون العتق
والطلاق.
قال:
"وإذا أقر الوكيل بالخصومة على موكله عند
القاضي جاز إقراره عليه، ولا يجوز عند غير
القاضي" عند أبي حنيفة ومحمد
استحسانا إلا أنه يخرج عن الوكالة.
وقال أبو يوسف: يجوز إقراره عليه وإن أقر في
غير مجلس القضاء. وقال زفر والشافعي رحمهما
الله: لا يجوز في الوجهين وهو قول أبي يوسف
رحمه الله أولا، وهو القياس لأنه مأمور
بالخصومة وهي منازعة والإقرار يضاده لأنه
مسالمة، والأمر بالشيء لا يتناول ضده ولهذا لا
يملك الصلح والإبراء ويصح إذا استثنى الإقرار،
وكذا لو وكله بالجواب مطلقا يتقيد بجواب هو
خصومة لجريان العادة بذلك ولهذا يختار فيها
الأهدى فالأهدى. وجه الاستحسان أن التوكيل
صحيح قطعا وصحته بتناوله ما يملكه قطعا وذلك
مطلق الجواب دون أحدهما عينا. وطريق المجاز
موجود على ما نبينه إن شاء الله تعالى فيصرف
إليه تحريا للصحة قطعا؛ ولو استثنى الإقرار،
فعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يصح لأنه لا
يملكه. وعن محمد رحمه الله أنه يصح لأن
للتنصيص زيادة دلالة على ملكه إياه؛ وعند
الإطلاق يحمل على الأولى. وعنه أنه فصل بين
الطالب والمطلوب ولم يصححه في الثاني لكونه
مجبورا عليه ويخير الطالب فيه؛ فبعد ذلك يقول
أبو يوسف رحمه الله: إن الوكيل قائم مقام
الموكل، وإقراره لا يختص بمجلس القضاء فكذا
إقرار نائبه. وهما يقولان: إن التوكيل يتناول
جواب يسمى خصومة حقيقة أو مجازا، والإقرار في
مجلس القضاء خصومة مجازا، إما لأنه خرج في
مقابلة الخصومة، أو لأنه سبب له لأن الظاهر
إتيانه بالمستحق وهو الجواب في مجلس القضاء
فيختص به، لكن إذا أقيمت البينة على إقراره في
غير مجلس القضاء يخرج من الوكالة حتى لا يؤمر
بدفع المال إليه لأنه صار مناقضا وصار كالأب
أو الوصي إذا أقر في مجلس القضاء لا يصح ولا
يدفع المال إليهما.
قال:
"ومن كفل بمال عن رجل فوكله صاحب المال بقبضه
عن الغريم لم يكن وكيلا في ذلك أبدا"
لأن الوكيل من يعمل لغيره، ولو صححناها صار
عاملا لنفسه في إبراء ذمته فانعدم الركن، ولأن
قبول قوله ملازم للوكالة لكونه أمينا، ولو
صححناها لا يقبل لكونه مبرئا نفسه فينعدم
بانعدام لازمه، وهو نظير عبد مديون أعتقه
مولاه حتى ضمن قيمته للغرماء ويطالب العبد
بجميع الدين، فلو وكله الطالب بقبض المال عن
العبد كان باطلا لما بيناه.
قال:
"ومن ادعى أنه وكيل الغائب في قبض دينه فصدقه
الغريم أمر بتسليم الدين إليه"
ج / 3 ص -151-
لأنه
إقرار على نفسه لأن ما يقضيه خالص ماله
"فإن حضر الغائب فصدقه وإلا دفع إليه الغريم
الدين ثانيا" لأنه لم يثبت
الاستيفاء حيث أنكر الوكالة، والقول في ذلك
قوله مع يمينه فيفسد الأداء
"ويرجع به على الوكيل إن كان باقيا في يده"
لأن غرضه من الدفع براءة ذمته ولم تحصل فله أن
ينقض قبضه
"وإن كان" ضاع
"في يده لم يرجع عليه" لأنه
بتصديقه اعترف أنه محق في القبض وهو مظلوم في
هذا الأخذ، والمظلوم لا يظلم غيره.
قال:
"إلا أن يكون ضمنه عند الدفع"
لأن المأخوذ ثانيا مضمون عليه في زعمهما، وهذه
كفالة أضيفت إلى حالة القبض فتصح بمنزلة
الكفالة بما ذاب له على فلان، ولو كان الغريم
لم يصدقه على الوكالة ودفعه إليه على ادعائه،
فإن رجع صاحب المال على الغريم رجع الغريم على
الوكيل لأنه لم يصدقه على الوكالة، وإنما دفعه
إليه على رجاء الإجازة، فإذا انقطع رجاؤه رجع
عليه، وكذا إذا دفعه إليه على تكذيبه إياه في
الوكالة. وهذا أظهر لما قلنا، وفي الوجوه كلها
ليس له أن يسترد المدفوع حتى يحضر الغائب لأن
المؤدى صار حقا للغائب، إما ظاهرا أو محتملا
فصار كما إذا دفعه إلى فضولي على رجاء الإجازة
لم يملك الاسترداد لاحتمال الإجازة، ولأن من
باشر التصرف لغرض ليس له أن ينقضه ما لم يقع
اليأس عن غرضه.
"ومن قال إني وكيل بقبض الوديعة فصدقه
المودع" لم يؤمر بالتسليم
إليه لأنه أقر له بمال الغير، بخلاف الدين.
ولو ادعى أنه مات أبوه وترك الوديعة ميراثا له
ولا وارث له غيره، وصدقه المودع أمر بالدفع
إليه لأنه لا يبقى ماله بعد موته، فقد اتفقا
على أنه مال الوارث. ولو ادعى أنه اشترى
الوديعة من صاحبها فصدقه المودع لم يؤمر
بالدفع إليه لأنه ما دام حيا كان إقرارا بملك
الغير لأنه من أهله فلا يصدقان في دعوى البيع
عليه.
قال:
"فإن وكل وكيلا يقبض ماله فادعى الغريم أن
صاحب المال قد استوفاه فإنه يدفع المال إليه"
لأن الوكالة قد ثبتت والاستيفاء لم يثبت بمجرد
دعواه فلا يؤخر الحق.
قال:
"ويتبع رب المال فيستحلفه"
رعاية لجانبه، ولا يستحلف الوكيل لأنه نائب.
قال:
"وإن وكله بعيب في جارية فادعى البائع رضا
المشتري لم يرد عليه حتى يحلف المشتري
بخلاف مسألة الدين" لأن
التدارك ممكن هنالك باسترداد ما قبضه الوكيل
إذا ظهر الخطأ عند نكوله، وهاهنا غير ممكن لأن
القضاء بالفسخ ماض على الصحة وإن ظهر الخطأ
عند أبي حنيفة رحمه الله كما هو مذهبه، ولا
يستحلف المشتري عنده بعد ذلك لأنه لا يفيد،
وأما عندهما قالوا: يجب أن يتحد الجواب على
هذا في الفصلين ولا يؤخر، لأن التدارك ممكن
عندهما لبطلان القضاء. وقيل الأصح عند أبي
يوسف رحمه الله أن يؤخر في الفصلين
ج / 3 ص -152-
لأنه
يعتبر النظر حتى يستحلف المشتري لو كان حاضرا
من غير دعوى البائع فينتظر للنظر.
قال:
"ومن دفع إلى رجل عشرة دراهم ينفقها على أهله
فأنفق عليهم عشرة من عنده فالعشرة بالعشرة"
لأن الوكيل بالإنفاق وكيل بالشراء والحكم فيه
ما ذكرناه وقد قررناه فهذا كذلك. وقيل هذا
استحسان وفي القياس ليس له ذلك ويصير متبرعا.
وقيل القياس والاستحسان في قضاء الدين لأنه
ليس بشراء، فأما الإنفاق يتضمن الشراء فلا
يدخلانه، والله أعلم بالصواب.
باب عزل الوكيل
قال:
"وللموكل أن يعزل الوكيل عن الوكالة"
لأن الوكالة حقه فله أن يبطله، إلا إذا تعلق
به حق الغير بأن كان وكيلا بالخصومة يطلب من
جهة الطالب لما فيه من إبطال حق الغير، وصار
كالوكالة التي تضمنها عقد الرهن.
قال:
"فإن لم يبلغه العزل فهو على وكالته وتصرفه
جائز حتى يعلم" لأن في العزل
إضرارا به من حيث إبطال ولايته أو من حيث رجوع
الحقوق إليه فينقد من مال الموكل ويسلم المبيع
فيضمنه فيتضرر به، ويستوي الوكيل بالنكاح
وغيره للوجه الأول، وقد ذكرنا اشتراط العدد أو
العدالة في المخبر فلا نعيده.
قال:
"وتبطل الوكالة بموت الموكل وجنونه جنونا
مطبقا ولحاقه بدار الحرب مرتدا"
لأن التوكيل تصرف غير لازم فيكون لدوامه حكم
ابتدائه فلا بد من قيام الأمر وقد بطل بهذه
العوارض، وشرط أن يكون الجنون مطبقا لأن قليله
بمنزلة الإغماء، وحد المطبق شهر عند أبي يوسف
اعتبارا بما يسقط به الصوم. وعنه أكثر من يوم
وليلة لأنه تسقط به الصلوات الخمس فصار
كالميت. وقال محمد: حول كامل لأنه يسقط به
جميع العبادات فقدر به احتياطا.
قالوا: الحكم المذكور في اللحاق قول أبي حنيفة
لأن تصرفات المرتد موقوفة عنده فكذا وكالته،
فإن أسلم نفذ، وإن قتل أو لحق بدار الحرب بطلت
الوكالة، فأما عندهما تصرفاته نافذة فلا تبطل
وكالته إلا أن يموت أو يقتل على ردته أو يحكم
بلحاقه وقد مر في السير وإن كان الموكل امرأة
فارتدت فالوكيل على وكالته حتى تموت أو تلحق
بدار الحرب لأن ردتها لا تؤثر في عقودها على
ما عرف.
قال:
"وإذا وكل المكاتب ثم عجز أو المأذون له ثم
حجر عليه أو الشريكان فافترقا، فهذه الوجوه
تبطل الوكالة على الوكيل، علم أو لم يعلم"
لما ذكرنا أن بقاء الوكالة يعتمد قيام الأمر
ج / 3 ص -153-
وقد
بطل بالحجر والعجز والافتراق، ولا فرق بين
العلم وعدمه لأن هذا عزل حكمي فلا يتوقف على
العلم كالوكيل بالبيع إذا باعه الموكل.
قال:
"وإذا مات الوكيل أو جن جنونا مطبقا بطلت
الوكالة" لأنه لا يصح أمره
بعد جنونه وموته
"وإن لحق بدار الحرب مرتدا لم يجز له التصرف
إلا أن يعود مسلما".
قال رضي الله عنه: وهذا عند محمد، فأما
عند أبي يوسف لا تعود الوكالة. لمحمد أن
الوكالة إطلاق لأنه رفع المانع. أما الوكيل
يتصرف بمعان قائمة به وإنما عجز بعارض اللحاق
لتباين الدارين، فإذا زال العجز والإطلاق باق
عاد وكيلا. ولأبي يوسف أنه إثبات ولاية
التنفيذ، لأن ولاية أصل التصرف بأهليته وولاية
التنفيذ بالملك وباللحاق لحق بالأموات وبطلت
الولاية فلا تعود كملكه في أم الولد والمدبر.
ولو عاد الموكل مسلما وقد لحق بدار الحرب
مرتدا لا تعود الوكالة في الظاهر. وعن محمد
أنها تعود كما قال في الوكيل. والفرق له على
الظاهر أن مبنى الوكالة في حق الموكل على
الملك وقد زال وفي حق الوكيل على معنى قائم به
ولم يزل باللحاق.
قال:
"ومن وكل آخر بشيء ثم تصرف بنفسه فيما وكل به
بطلت الوكالة" وهذا اللفظ
ينتظم وجوها: مثل أن يوكله بإعتاق عبده أو
بكتابته فأعتقه أو كاتبه الموكل بنفسه أو
يوكله بتزويج امرأة أو بشراء شيء ففعله بنفسه
أو يوكله بطلاق امرأته فطلقها الزوج ثلاثا أو
واحدة وانقضت عدتها أو بالخلع فخالعها، بنفسه
لأنه لما تصرف بنفسه تعذر على الوكيل التصرف
فبطلت الوكالة، حتى لو تزوجها بنفسه وأبانها
لم يكن للوكيل أن يزوجها منه لأن الحاجة قد
انقضت، بخلاف ما إذا تزوجها الوكيل وأبانها له
أن يزوج الموكل لبقاء الحاجة، وكذا لو وكله
ببيع عبده فباعه بنفسه، فلو رد عليه بعيب
بقضاء قاض؛ فعن أبي يوسف رحمه الله أنه ليس
للوكيل أن يبيعه مرة أخرى لأن بيعه بنفسه منع
له من التصرف فصار كالعزل. وقال محمد رحمه
الله: له أن يبيعه مرة أخرى لأن الوكالة باقية
لأنه إطلاق والعجز قد زال، بخلاف ما إذا وكله
بالهبة فوهب بنفسه ثم رجع لم يكن للوكيل أن
يهب لأنه مختار في الرجوع فكان ذلك دليل عدم
الحاجة. أما الرد بقضاء بغير اختياره فلم يكن
دليل زوال الحاجة، فإذا عاد إليه قديم ملكه
كان له أن يبيعه، والله أعلم. |