الهداية في شرح بداية المبتدي

ج / 3 ص -178-       كتاب الإقرار
قال: "وإذا أقر الحر البالغ العاقل بحق لزمه إقراره مجهولا كان ما أقر به أو معلوما".
اعلم أن الإقرار إخبار عن ثبوت الحق، وأنه ملزم لوقوعه دلالة؛ ألا ترى كيف ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزا رضي الله عنه الرجم بإقراره وتلك المرأة باعترافها. وهو حجة قاصرة لقصور ولاية المقر عن غيره فيقتصر عليه. وشرط الحرية ليصح إقراره مطلقا، فإن العبد المأذون له وإن كان ملحقا بالحر في حق الإقرار، لكن المحجور عليه لا يصح إقراره بالمال ويصح بالحدود والقصاص لأن إقراره عهد موجبا لتعلق الدين برقبته وهي مال المولى فلا يصدق عليه، بخلاف المأذون لأنه مسلط عليه من جهته، وبخلاف الحد والدم لأنه مبقى على أصل الحرية في ذلك، حتى لا يصح إقرار المولى على العبد فيه، ولا بد من البلوغ والعقل لأن إقرار الصبي والمجنون غير لازم لانعدام أهلية الالتزام، إلا إذا كان الصبي مأذونا له لأنه ملحق بالبالغ بحكم الإذن، وجهالة المقر به لا تمنع صحة الإقرار؛ لأن الحق قد يلزم مجهولا بأن أتلف مالا لا يدري قيمته أو يجرح جراحة لا يعلم أرشها أو تبقى عليه باقية حساب لا يحيط به علمه، والإقرار إخبار عن ثبوت الحق فيصح به، بخلاف الجهالة في المقر له لأن المجهول لا يصلح مستحقا، "ويقال له: بين المجهول" لأن التجهيل من جهته فصار كما إذا أعتق أحد عبديه "فإن لم يبين أجبره القاضي على البيان" لأنه لزمه الخروج عما لزمه بصحيح إقراره وذلك بالبيان.
قال: "فإن قال: لفلان علي شيء لزمه أن يبين ما له قيمة لأنه أخبر عن الوجوب في ذمته، وما لا قيمة له لا يجب فيها"، فإذا بين غير ذلك يكون رجوعا.
قال: "والقول قوله مع يمينه إن ادعى المقر له أكثر من ذلك" لأنه هو المنكر فيه "وكذا إذا قال لفلان علي حق" لما بينا، وكذا لو قال: غصبت منه شيئا ويجب أن يبين ما هو مال يجري فيه التمانع تعويلا على العادة. "ولو قال: لفلان علي مال فالمرجع إليه في بيانه لأنه المجمل ويقبل قوله في القليل والكثير" لأن كل ذلك مال فإنه اسم لما يتمول به "إلا أنه لا يصدق في أقل من درهم" لأنه لا يعد مالا عرفا "ولو قال: مال عظيم لم يصدق في أقل من

 

ج / 3 ص -179-       مائتي درهم" لأنه أقر بمال موصوف فلا يجوز إلغاء الوصف والنصاب عظيم حتى اعتبر صاحبه غنيا به، والغني عظيم عند الناس. وعن أبي حنيفة أنه لا يصدق في أقل من عشرة دراهم وهي نصاب السرقة لأنه عظيم حيث تقطع به اليد المحترمة، وعنه مثل جواب الكتاب، وهذا إذا قال من الدراهم.
أما إذا قال من الدنانير فالتقدير فيها بالعشرين، وفي الإبل بخمس وعشرين لأنه أدنى نصاب يجب فيه من جنسه وفي غير مال الزكاة بقيمة النصاب "ولو قال: أموال عظام فالتقدير بثلاثة نصب من أي فن سماه" اعتبارا لأدنى الجمع "ولو قال: دراهم كثيرة لم يصدق في أقل من عشرة" وهذا عند أبي حنيفة "وعندهما لم يصدق في أقل من مائتين" لأن صاحب النصاب مكثر حتى وجب عليه مواساة غيره، بخلاف ما دونه. وله أن العشرة أقصى ما ينتهي إليه اسم الجمع، يقال عشرة دراهم ثم يقال أحد عشر درهما فيكون هو الأكثر من حيث اللفظ فينصرف إليه "ولو قال دراهم فهي ثلاثة" لأنها أقل الجمع الصحيح "إلا أن يبين أكثر منها" لأن اللفظ يحتمله وينصرف إلى الوزن المعتاد "ولو قال: كذا كذا درهما لم يصدق في أقل من أحد عشر درهما" لأنه ذكر عددين مبهمين ليس بينهما حرف العطف وأقل ذلك من المفسر أحد عشر "ولو قال: كذا وكذا درهما لم يصدق في أقل من أحد وعشرين" لأنه ذكر عددين مبهمين بينهما حرف العطف، وأقل ذلك من المفسر أحد وعشرون فيحمل كل وجه على نظيره "ولو قال كذا درهما فهو درهم" لأنه تفسير للمبهم "ولو ثلث كذا بغير واو فأحد عشر" لأنه لا نظير له سواه "وإن ثلث بالواو فمائة وأحد وعشرون، وإن ربع يزاد عليها ألف" لأن ذلك نظيره.
قال: "وإن قال: له علي أو قبلي فقد أقر بالدين" لأن " علي " صيغة إيجاب، وقبلي ينبئ عن الضمان على ما مر في الكفالة. "ولو قال المقر هو وديعة ووصل صدق" لأن اللفظ يحتمله مجازا حيث يكون المضمون عليه حفظه والمال محله فيصدق موصولا لا مفصولا.
قال رضي الله تعالى عنه: وفي نسخ المختصر في قوله قبلي إنه إقرار بالأمانة لأن اللفظ ينتظمهما حتى صار قوله: لا حق لي قبل فلان إبراء عن الدين والأمانة جميعا، والأمانة أقلهما والأول أصح. "ولو قال عندي أو معي أو في بيتي أو في كيسي أو في صندوقي فهو إقرار بأمانة في يده" لأن كل ذلك إقرار بكون الشيء في يده وذلك يتنوع إلى مضمون وأمانة فيثبت وأقلها وهو الأمانة. "ولو قال له رجل: لي عليك ألف فقال اتزنها أو انتقدها أو أجلني بها أو قد قضيتكها فهو إقرار" لأن الهاء في الأول والثاني كناية عن المذكور في الدعوى، فكأنه قال: اتزن الألف التي لك علي، حتى لو لم يذكر حرف الكناية لا يكون

 

ج / 3 ص -180-       إقرارا لعدم انصرافه إلى المذكور، والتأجيل إنما يكون في حق واجب، والقضاء يتلو الوجوب ودعوى الإبراء كالقضاء لما بينا، وكذا دعوى الصدقة والهبة لأن التمليك يقتضي سابقة الوجوب، وكذا لو قال أحلتك بها على فلان لأنه تحويل الدين.
قال: "ومن أقر بدين مؤجل فصدقه المقر له في الدين وكذبه في التأجيل لزمه الدين حالا" لأنه أقر على نفسه بمال وادعى حقا لنفسه فيه فصار كما إذا أقر بعبد في يده وادعى الإجارة، بخلاف الإقرار بالدراهم السود لأنه صفة فيه وقد مرت المسألة في الكفالة.
قال: "ويستحلف المقر له على الأجل" لأنه منكر حقا عليه واليمين على المنكر. "وإن قال: له علي مائة ودرهم لزمه كلها دراهم. ولو قال: مائة وثوب لزمه ثوب واحد، والمرجع في تفسير المائة إليه" وهو القياس في الأول، وبه قال الشافعي لأن المائة مبهمة والدرهم معطوف عليها بالواو العاطفة لا تفسيرا لها فبقيت المائة على إبهامها كما في الفصل الثاني.
وجه الاستحسان وهو الفرق أنهم استثقلوا تكرار الدرهم في كل عدد واكتفوا بذكره عقيب العددين. وهذا فيما يكثر استعماله وذلك عند كثرة الوجوب بكثرة أسبابه وذلك في الدراهم والدنانير والمكيل والموزون، أما الثياب وما لا يكال ولا يوزن فلا يكثر وجوبها فبقي على الحقيقة. "وكذا إذا قال: مائة وثوبان" لما بينا "بخلاف ما إذا قال: مائة وثلاثة أثواب" لأنه ذكر عددين مبهمين وأعقبها تفسيرا إذ الأثواب لم تذكر بحرف العطف فانصرف إليهما لاستوائهما في الحاجة إلى التفسير فكانت كلها ثيابا.
قال: "ومن أقر بتمر في قوصرة لزمه التمر والقوصرة" وفسره في الأصل بقوله: غصبت تمرا في قوصرة. ووجهه أن القوصرة وعاء له وظرف له، وغصب الشيء وهو مظروف لا يتحقق بدون الظرف فيلزمانه وكذا الطعام في السفينة والحنطة في الجوالق، بخلاف ما إذا قال: غصبت تمرا من قوصرة لأن كلمة من للانتزاع فيكون الإقرار بغصب المنزوع.
قال: "ومن أقر بدابة في إصطبل لزمه الدابة خاصة" لأن الإصطبل غير مضمون بالغصب عند أبي حنيفة وأبي يوسف وعلى قياس قول محمد يضمنهما ومثله الطعام في البيت.
قال: "ومن أقر لغيره بخاتم لزمه الحلقة والفص" لأن اسم الخاتم يشمل الكل. "ومن أقر له بسيف فله النصل والجفن والحمائل" لأن الاسم ينطوي على الكل. "ومن أقر بحجلة فله العيدان والكسوة" لانطلاق الاسم على الكل عرفا. "وإن قال غصبت ثوبا في منديل لزماه

 

ج / 3 ص -181-       جميعا" لأنه ظرف لأن الثوب يلف فيه. "وكذا لو قال علي ثوب في ثوب" لأنه ظرف. بخلاف قوله: درهم في درهم حيث يلزمه واحد لأنه ضرب لا ظرف "وإن قال: ثوب في عشرة أثواب لم يلزمه إلا ثوب واحد عند أبي يوسف. وقال محمد: لزمه أحد عشر ثوبا" لأن النفيس من الثياب قد يلف في عشرة أثواب فأمكن حمله على الظرف. ولأبي يوسف أن حرف " في " يستعمل في البين والوسط أيضا، قال الله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر:29] أي بين عبادي، فوقع الشك والأصل براءة الذمم، على أن كل ثوب موعى وليس بوعاء فتعذر حمله على الظرف فتعين الأول محملا.
"ولو قال: لفلان علي خمسة في خمسة يريد الضرب والحساب لزمه خمسة" لأن الضرب لا يكثر المال. وقال الحسن: يلزمه خمسة وعشرون وقد ذكرناه في الطلاق "ولو قال أردت خمسة مع خمسة لزمه عشرة" لأن اللفظ يحتمله. "ولو قال له علي من درهم إلى عشرة أو قال ما بين درهم إلى عشرة لزمه تسعة عند أبي حنيفة فيلزمه الابتداء وما بعده وتسقط الغاية، وقالا: يلزمه العشرة كلها" فتدخل الغايتان. وقال زفر: يلزمه ثمانية ولا تدخل الغايتان. "ولو قال له من داري ما بين هذا الحائط إلى هذا الحائط فله ما بينهما وليس له من الحائطين شيء" وقد مرت الدلائل في الطلاق.

فصل: "ومن قال: لحمل فلانة علي ألف درهم، فإن قال أوصى له فلان أو مات أبوه فورثه فالإقرار صحيح"
لأنه أقر بسبب صالح لثبوت الملك له "ثم إذا جاءت به في مدة يعلم أنه كان قائما وقت الإقرار لزمه، فإن جاءت به ميتا فالمال للموصي والمورث حتى يقسم بين ورثته" لأنه إقرار في الحقيقة لهما، وإنما ينتقل إلى الجنين بعد الولادة ولم ينتقل "ولو جاءت بولدين حيين فالمال بينهما، ولو قال المقر باعني أو أقرضني لم يلزمه شيء" لأنه بين مستحيلا.
قال: "وإن أبهم الإقرار لم يصح عند أبي يوسف، وقال محمد: يصح" لأن الإقرار من الحجج فيجب إعماله وقد أمكن بالحمل على السبب الصالح. ولأبي يوسف أن الإقرار مطلقه ينصرف إلى الإقرار بسبب التجارة، ولهذا حمل إقرار العبد المأذون له وأحد المتفاوضين عليه فيصير كما إذا صرح به.
قال: "ومن أقر بحمل جارية أو حمل شاة لرجل صح إقراره ولزمه" لأن له وجها صحيحا وهو الوصية به من جهة غيره فحمل عليه.

 

ج / 3 ص -182-       قال: "ومن أقر بشرط الخيار بطل الشرط" لأن الخيار للفسخ والإخبار لا يحتمله "ولزمه المال" لوجود الصيغة الملزمة ولم تنعدم بهذا الشرط الباطل، والله أعلم.

باب الاستثناء وما في معناه
قال: "ومن استثنى متصلا بإقراره صح الاستثناء ولزمه الباقي" لأن الاستثناء مع الجملة عبارة عن الباقي ولكن لا بد من الاتصال، "وسواء استثنى الأقل أو الأكثر، فإن استثنى الجميع لزمه الإقرار وبطل الاستثناء" لأنه تكلم بالحاصل بعد الثنيا ولا حاصل بعده فيكون رجوعا، وقد مر الوجه في الطلاق.
"ولو قال: له علي مائة درهم إلا دينارا أو إلا قفيز حنطة لزمه مائة درهم إلا قيمة الدينار أو القفيز" وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف "ولو قال له علي مائة درهم إلا ثوبا لم يصح الاستثناء وقال محمد: لا يصح فيهما" وقال الشافعي: يصح فيهما. ولمحمد أن الاستثناء ما لولاه لدخل تحت اللفظ، وهذا لا يتحقق في خلاف الجنس. وللشافعي أنهما اتحدا جنسا من حيث المالية. ولهما أن المجانسة في الأول ثابتة من حيث الثمنية، وهذا في الدينار ظاهر. والمكيل والموزون أوصافها أثمان.
أما الثوب فليس بثمن أصلا ولهذا لا يجب بمطلق عقد المعاوضة وما يكون ثمنا صلح مقدرا بالدراهم فصار مستثنى من الدراهم، وما لا يكون ثمنا لا يصلح مقدرا فبقي المستثنى من الدراهم مجهولا فلا يصح.
قال: "ومن أقر بحق وقال إن شاء الله متصلا" بإقراره "لم يلزمه الإقرار" لأن الاستثناء بمشيئة الله إما إبطال أو تعليق؛ فإن كان الأول فقد بطل، وإن كان الثاني فكذلك، إما لأن الإقرار لا يحتمل التعليق بالشرط، أو لأنه شرط لا يوقف عليه كما ذكرنا في الطلاق، بخلاف ما إذا قال لفلان علي مائة درهم إذا مت أو إذا جاء رأس الشهر أو إذا أفطر الناس لأنه في معنى بيان المدة فيكون تأجيلا لا تعليقا، حتى لو كذبه المقر له في الأجل يكون المال حالا.
قال: "ومن أقر بدار واستثنى بناءها لنفسه فللمقر له الدار والبناء" لأن البناء داخل في هذا الإقرار معنى لا لفظا، والاستثناء تصرف في الملفوظ، والفص في الخاتم والنخلة في البستان نظير البناء في الدار لأنه يدخل فيه تبعا لا لفظا، بخلاف ما إذا قال إلا ثلثها أو إلا بيتا منها لأنه داخل فيه لفظا "ولو قال بناء هذا الدار لي والعرصة لفلان فهو كما قال" لأن العرصة عبارة عن البقعة دون البناء، فكأنه قال بياض هذه الأرض دون البناء لفلان، بخلاف ما إذا قال مكان العرصة أرضا حيث يكون البناء للمقر له لأن الإقرار بالأرض إقرار بالبناء كالإقرار

 

ج / 3 ص -183-       بالدار. "ولو قال له علي ألف درهم من ثمن عبد اشتريته منه ولم أقبضه، فإن ذكر عبدا بعينه قيل للمقر له إن شئت فسلم العبد وخذ الألف وإلا فلا شيء لك" قال: وهذا على وجوه:
أحدها: هذا وهو أن يصدقه ويسلم العبد، وجوابه ما ذكر، لأن الثابت بتصادقهما كالثابت معاينة. والثاني: أن يقول المقر له: العبد عبدك ما بعتكه وإنما بعتك عبدا غير هذا وفيه المال لازم على المقر لإقراره به عند سلامة العبد له وقد سلم فلا يبالى باختلاف السبب بعد حصول المقصود.
والثالث: أن يقول العبد عبدي ما بعتك. وحكمه أن لا يلزم المقر شيء لأنه ما أقر بالمال إلا عوضا عن العبد فلا يلزمه دونه، ولو قال مع ذلك إنما بعتك غيره يتحالفان لأن المقر يدعي تسليم من عينه والآخر ينكر والمقر له يدعي عليه الألف ببيع غيره والآخر ينكره، وإذا تحالفا بطل المال، هذا إذا ذكر عبدا بعينه "وإن قال من ثمن عبد اشتريته ولم يعينه لزمه الألف ولا يصدق في قوله ما قبضت عند أبي حنيفة وصل أم فصل" لأنه رجوع فإنه أقر بوجوب المال رجوعا إلى كلمة علي، وإنكاره القبض في غير المعين ينافي الوجوب أصلا لأن الجهالة مقارنة كانت أو طارئة بأن اشترى عبدا ثم نسياه عند الاختلاط بأمثاله توجب هلاك المبيع فيمتنع وجوب نقد الثمن، وإذا كان كذلك كان رجوعا فلا يصح وإن كان موصولا. وقال أبو يوسف ومحمد: إن وصل صدق ولم يلزمه شيء، وإن فصل لم يصدق إذا أنكر المقر له أن يكون ذلك من ثمن عبد، وإن أقر أنه باعه متاعا فالقول قول المقر. ووجه ذلك أنه أقر بوجوب المال عليه وبين سببا وهو البيع، فإن وافقه الطالب في السبب وبه لا يتأكد الوجوب إلا بالقبض، والمقر ينكره فيكون القول له، وإن كذبه في السبب كان هذا من المقر بيانا مغيرا لأن صدر كلامه للوجوب مطلقا وآخره يحتمل انتفاءه على اعتبار عدم القبض والمغير يصح موصولا لا مفصولا. "ولو قال ابتعت منه بيعا إلا أني لم أقبضه فالقول قوله" بالإجماع لأنه ليس من ضرورة البيع القبض، بخلاف الإقرار بوجوب الثمن.
قال: "وكذا لو قال من ثمن خمر أو خنزير" ومعنى المسألة إذا قال لفلان علي ألف من ثمن خمر أو خنزير "لزمه الألف ولم يقبل تفسيره عند أبي حنيفة وصل أم فصل" لأنه رجوع لأن ثمن الخمر والخنزير لا يكون واجبا وأول كلامه للوجوب "وقالا: إذا وصل لا يلزمه شيء" لأنه بين بآخر كلامه أنه ما أراد به الإيجاب وصار كما إذا قال في آخره إن شاء الله. قلنا: ذاك تعليق وهذا إبطال.

 

ج / 3 ص -184-       "ولو قال له علي ألف من ثمن متاع أو أقرضني ألفا وبين أنها زيوف أو نبهرجة وقال المقر له هي جياد لزمه الجياد عند أبي حنيفة رحمه الله، وقالا: إن قال ذلك موصولا يصدق وإن قال مفصولا لا يصدق" وعلى هذا الخلاف إذا قال هي ستوقة أو رصاص وعلى هذا إذا قال، إلا أنها زيوف، وعلى هذا إذا قال لفلان علي ألف درهم زيوف من ثمن متاع. لهما أنه بيان مغير فيصح بشرط الوصل كالشرط والاستثناء، وهذا لأن اسم الدراهم يحتمل الزيوف بحقيقته، والستوقة بمجازه إلا أن مطلقه ينصرف إلى الجياد فكان بيان مغيرا من هذاالوجه وصار كما إذا قال إلا أنها وزن خمسة ولأبي حنيفة رحمه الله أن هذا رجوع لأن مطلق العقد يقتضي السلامة عن العيب والزيافة عيب، ودعوى العيب رجوع عن بعض موجبه، وصار كما إذا قال بعتك معيبا وقال المشتري بعتنيه سليما فالقول للمشتري لما بينا والستوقة ليست من جنس الأثمان والبيع يرد على الثمن فكان رجوعا وقوله إلا أنها وزن خمسة يصح استثناء، لأنه مقدار بخلاف الجودة لأن استثناء الوصف لا يجوز كاستثناء البناء في الدار بخلاف ما إذا قال له علي كر حنطة من ثمن عبد إلا أنها رديئة لأن الرداءة نوع لا عيب. فمطلق العقد لا يقتضي السلامة عنها، وعن أبي حنيفة في غير رواية الأصول في القرض أنه يصدق في الزيوف إذا وصل، لأن القرض يوجب رد مثل المقبوض، وقد يكون زيفا كما في الغصب. وجه الظاهر أن التعامل بالجياد
فانصرف مطلقه إلها "ولو قال لفلان علي ألف درهم زيوف ولم يذكر البيع والقرض قيل يصدق" بالإجماع لأن اسم الدراهم يتناولها "وقيل لا يصدق" لأن مطلق الإقرار ينصرف إلى العقود لتعينها مشروعة، لا إلى الاستهلاك المحرم "ولو قال اغتصبت منه ألفا أو قال أودعني ثم قال هي زيوف أو نبهرجة صدق وصل أم فصل" لأن الإنسان يغصب ما يجد ويودع ما يملك فلا مقتضى له في الجياد ولا تعامل، فيكون بيان النوع فيصح وإن فصل ولهذا لو جاء زاد المغصوب، والوديعة بالمعيب كان القول له، وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه لا يصدق فيه مفصولا اعتبارا بالقرض إذ القبض فهيما هو الموجب للضمان ولو قال: هي ستوقة أو رصاص بعد ما أقر بالغصب والوديعة ووصل صدق وإن فصل لم يصدق لأن ستوقة ليست من جنس الدراهم لكن الاسم يتناولها مجازا فكان بيانا مغيرا فلا بد من الوصل.
"ولو قال في هذا كله ألفا إلا أنه ينقص كذا لم يصدق وإن وصل صدق" لأن هذا استثناء المقدار والاستثناء يصح موصولا بخلاف الزيافة لأنها وصف واستثناء الأوصاف لا يصح واللفظ يتناول المقدار دون الوصف، وهو تصرف لفظي كما بينا ولو كان الفصل ضرورة انقطاع الكلام بانقطاع نفسه فهو واصل لعدم إمكانية الاحتراز عنه "ومن أقر بغصب

 

ج / 3 ص -185-       ثوب ثم جاء بثوب معيب فالقول له" لأن الغصب لا يختص بالسليم. "ومن قال لآخر: أخذت منك ألف درهم وديعة فهلكت فقال لا بل أخذتها غصبا فهو ضامن، وإن قال أعطيتنيها وديعة فقال لا بل غصبتنيها لم يضمن" والفرق أن في الفصل الأول أقر بسبب الضمان وهو الأخذ ثم ادعى ما يبرئه وهو الإذن والآخر ينكره فيكون القول له مع اليمين. وفي الثاني أضاف الفعل إلى غيره وذاك يدعي عليه سبب الضمان وهو الغصب فكان القول لمنكره مع اليمين والقبض في هذا كالأخذ والدفع كالإعطاء.
فإن قال قائل: إعطاؤه والدفع إليه لا يكون إلا بقبضه.
فنقول: قد يكون بالتخلية والوضع بين يديه، ولو اقتضى ذلك فالمقتضى ثابت ضرورة فلا يظهر في انعقاده سبب الضمان، وهذا بخلاف ما إذا قال: أخذتها منك وديعة وقال الآخر لا بل قرضا حيث يكون القول للمقر وإن أقر بالأخذ لأنهما توافقا هنالك على أن الأخذ كان بالإذن إلا أن المقر له يدعي سبب الضمان وهو القرض والآخر ينكر فافترقا. "وإن قال هذه الألف كانت وديعة لي عند فلان فأخذتها فقال فلان هي لي فإنه يأخذها" لأنه أقر باليد له وادعى استحقاقها عليه وهو ينكر والقول للمنكر. "ولو قال: آجرت دابتي هذه فلانا فركبها وردها، أو قال: آجرت ثوبي هذا فلانا فلبسه ورده وقال فلان كذبت وهما لي فالقول قوله" وهذا عند أبي حنيفة "وقال أبو يوسف ومحمد: القول قول الذي أخذ منه الدابة والثوب" وهو القياس وعلى هذا الخلاف الإعارة والإسكان. "ولو قال خاط فلان ثوبي هذا بنصف درهم ثم قبضته وقال فلان الثوب ثوبي فهو على هذا الخلاف في الصحيح" وجه القياس ما بيناه في الوديعة.
وجه الاستحسان وهو الفرق أن اليد في الإجارة والإعارة ضرورية تثبت ضرورة استيفاء المعقود عليه وهو المنافع فيكون عدما فيما وراء الضرورة فلا يكون إقرارا له باليد مطلقا، بخلاف الوديعة لأن اليد فيها مقصودة والإيداع إثبات اليد قصدا فيكون الإقرار به اعترافا باليد للمودع.
ووجه آخر: أن في الإجارة والإعارة والإسكان أقر بيد ثابتة من جهته فيكون القول قوله في كيفيته. ولا كذلك في مسألة الوديعة لأنه قال فيها كانت وديعة، وقد تكون من غير صنعه، حتى لو قال أودعتها كان على هذا الخلاف، وليس مدار الفرق على ذكر الأخذ في طرف الوديعة وعدمه في الطرف الآخر وهو الإجارة وأختاه؛ لأنه ذكر الأخذ في وضع الطرف الآخر في كتاب الإقرار أيضا، وهذا بخلاف ما إذا قال اقتضيت من

 

ج / 3 ص -186-       فلان ألف درهم كانت لي عليه أو أقرضته ألفا ثم أخذتها منه وأنكر المقر له حيث يكون القول قوله لأن الديون تقضى بأمثالها، وذلك إنما يكون بقبض مضمون، فإذا أقر بالاقتضاء فقد أقر بسبب الضمان ثم ادعى تملكه عليه بما يدعيه من الدين مقاصة والآخر ينكره.
أما هاهنا المقبوض عين ما ادعى فيه الإجارة وما أشبهها فافترقا، لو أقر أن فلانا زرع هذه الأرض أو بنى هذه الدار أو غرس هذا الكرم وذلك كله في يد المقر فادعاها فلان وقال المقر لا بل ذلك كله لي استعنت بك ففعلت أو فعلته بأجر فالقول للمقر لأنه ما أقر له باليد وإنما أقر بمجرد فعل منه، وقد يكون ذلك في ملك في يد المقر وصار كما إذا قال خاط لي الخياط قميصي هذا بنصف درهم ولم يقل قبضته منه لم يكن إقرارا باليد ويكون القول للمقر لما أنه أقر بفعل منه وقد يخيط ثوبا في يد المقر كذا هذا.

باب إقرار المريض
قال: "وإذا أقر الرجل في مرض موته بديون وعليه ديون في صحته وديون لزمته في مرضه بأسباب معلومة فدين الصحة والدين المعروف الأسباب مقدم" وقال الشافعي رحمه الله: دين المرض ودين الصحة يستويان لاستواء سببهما وهو الإقرار الصادر عن عقل ودين، ومحل الوجوب الذمة القابلة للحقوق فصار كإنشاء التصرف مبايعة ومناكحة. ولنا أن الإقرار لا يعتبر دليلا إذا كان فيه إبطال حق الغير، وفي إقرار المريض ذلك لأن حق غرماء الصحة تعلق بهذا المال استيفاء، ولهذا منع من التبرع والمحاباة إلا بقدر الثلث. بخلاف النكاح لأنه من الحوائج الأصلية وهو بمهر المثل، وبخلاف المبايعة بمثل القيمة لأن حق الغرماء تعلق بالمالية لا بالصورة، وفي حالة الصحة لم يتعلق بالمال لقدرته على الاكتساب فيتحقق التثمير، وهذه حالة العجز وحالتا المرض حالة واحدة لأنه حالة الحجر، بخلاف حالتي الصحة والمرض؛ لأن الأولى حالة إطلاق وهذه حالة عجز فافترقا، وإنما تقدم الديون المعروفة الأسباب لأنه لا تهمة في ثبوتها إذ المعاين لا مرد له، وذلك مثل بدل مال ملكه أو استهلكه وعلم وجوبه بغير إقراره أو تزوج امرأة بمهر مثلها، وهذا الدين مثل دين الصحة لا يقدم أحدهما على الآخر لما بينا، ولو أقر بعين في يده لآخر لم يصح في حق غرماء الصحة لتعلق حقهم به، ولا يجوز للمريض أن يقضي دين بعض الغرماء دون البعض؛ لأن في إيثار البعض إبطال حق الباقين، وغرماء الصحة والمرض في ذلك سواء، إلا إذا قضى ما استقرض في مرضه أو نقد ثمن ما اشترى في مرضه وقد علم بالبينة.

 

ج / 3 ص -187-       قال: "فإذا قضيت" يعني الديون المقدمة "وفضل شيء يصرف إلى ما أقر به في حالة المرض" لأن الإقرار في ذاته صحيح، وإنما رد في حق غرماء الصحة فإذا لم يبق حقهم ظهرت صحته.
قال: "وإن لم يكن عليه ديون في صحته جاز إقراره" لأنه لم يتضمن إبطال حق الغير وكان المقر له أولى من الورثة لقول عمر رضي الله عنه: إذا أقر المريض بدين جاز ذلك عليه في جميع تركته ولأن قضاء الدين من الحوائج الأصلية وحق الورثة يتعلق بالتركة بشرط الفراغ ولهذا تقدم حاجته في التكفين.
قال: "ولو أقر المريض لوارثه لا يصح إلا أن يصدقه فيه بقية الورثة" وقال الشافعي في أحد قوليه: يصح لأنه إظهار حق ثابت لترجح جانب الصدق فيه، وصار كالإقرار لأجنبي وبوارث آخر وبوديعة مستهلكة للوارث. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام:
"لا وصية لوارث ولا إقرار له بالدين" ولأنه تعلق حق الورثة بماله في مرضه ولهذا يمنع من التبرع على الوارث أصلا، ففي تخصيص البعض به إبطال حق الباقين، ولأن حالة المرض حالة الاستغناء والقرابة سبب التعلق، إلا أن هذا التعلق لم يظهر في حق الأجنبي لحاجته إلى المعاملة في الصحة؛ لأنه لو انحجر عن الإقرار بالمرض يمتنع الناس عن المعاملة معه، وقلما تقع المعاملة مع الوارث ولم يظهر في حق الإقرار بوارث آخر لحاجته أيضا، ثم هذا التعلق حق بقية الورثة، فإذا صدقوه فقد أبطلوه فيصح إقراره.
قال: "وإذا أقر لأجنبي جاز وإن أحاط بماله" لما بينا، والقياس أن لا يجوز إلا في الثلث لأن الشرع قصر تصرفه عليه. إلا أنا نقول: لما صح إقراره في الثلث كان له التصرف في ثلث الباقي لأنه الثلث بعد الدين ثم وثم حتى يأتي على الكل.
قال: "ومن أقر لأجنبي ثم قال: هو ابني ثبت نسبه منه وبطل إقراره، فإن أقر لأجنبية ثم تزوجها لم يبطل إقراره لها" ووجه الفرق أن دعوة النسب تستند إلى وقت العلوق فتبين أنه أقر لابنه فلا يصح ولا كذلك الزوجية لأنها تقتصر على زمان التزوج فبقي إقراره لأجنبية.
قال: "ومن طلق زوجته في مرضه ثلاثا ثم أقر لها بدين فلها الأقل من الدين ومن ميراثها منه" لأنهما متهمان فيه لقيام العدة، وباب الإقرار مسدود للوارث فلعله أقدم على هذا الطلاق ليصح إقراره لها زيادة على ميراثها ولا تهمة في أقل الأمرين فيثبت والله أعلم بالصواب.

 

ج / 3 ص -188-       فصل: "ومن أقر بغلام يولد مثله لمثله وليس له نسب معروف أنه ابنه وصدقه الغلام ثبت نسبه منه وإن كان مريضا"
لأن النسب مما يلزمه خاصة فيصح إقراره به وشرط أن يولد مثله لمثله كي لا يكون مكذبا في الظاهر، وشرط أن لا يكون له نسب معروف لأنه يمنع ثبوته من غيره، وإنما شرط تصديقه لأنه في يد نفسه إذ المسألة في غلام يعبر عن نفسه، بخلاف الصغير على ما مر من قبل، ولا يمتنع بالمرض لأن النسب من الحوائج الأصلية "ويشارك الورثة في الميراث" لأنه لما ثبت نسبه منه صار كالوارث المعروف فيشارك ورثته.
قال: "ويجوز إقرار الرجل بالوالدين والولد والزوجة والمولى" لأنه أقر بما يلزمه وليس فيه تحميل النسب على الغير. "ويقبل إقرار المرأة بالوالدين والزوج والمولى" لما بينا "ولا يقبل بالولد" لأن فيه تحميل النسب على الغير وهو الزوج لأن النسب منه "إلا أن يصدقها الزوج" لأن الحق له "أو تشهد بولادته قابلة" لأن قول القابلة في هذا مقبول وقد مر في الطلاق، وقد ذكرنا في إقرار المرأة تفصيلا في كتاب الدعوى، ولا بد من تصديق هؤلاء، ويصح التصديق في النسب بعد موت المقر لأن النسب يبقى بعد الموت، وكذا تصديق الزوجة لأن حكم النكاح باق، وكذا تصديق الزوج بعد موتها لأن الإرث من أحكامه. وعند أبي حنيفة لا يصح لأن النكاح انقطع بالموت ولهذا لا يحل له غسلها عندنا، ولا يصح التصديق على اعتبار الإرث لأنه معدوم حالة الإقرار، وإنما يثبت بعد الموت والتصديق يستند إلى أول الإقرار.
قال: "ومن أقر بنسب من غير الوالدين والولد نحو الأخ والعم لا يقبل إقراره في النسب" لأن فيه حمل النسب على الغير "فإن كان له وارث معروف قريب أو بعيد فهو أولى بالميراث من المقر له" لأنه لما لم يثبت نسبه منه لا يزاحم الوارث المعروف "وإن لم يكن له وارث استحق المقر له ميراثه" لأن له ولاية التصرف في مال نفسه عند عدم الوارث؛ ألا يرى أن له أن يوصي بجميعه فيستحق جميع المال وإن لم يثبت نسبه منه لما فيه من حمل النسب على الغير، وليست هذه وصية حقيقة حتى أن من أقر بأخ ثم أوصى لآخر بجميع ماله كان للموصى له ثلث جميع المال خاصة ولو كان الأول وصية لاشتركا نصفين لكنه بمنزلته، حتى لو أقر في مرضه بأخ وصدقه المقر له ثم أنكر المقر وراثته ثم أوصى بماله كله لإنسان كان ماله للموصى له؛ ولو لم يوص لأحد كان لبيت المال، لأن رجوعه صحيح لأن النسب لم يثبت فبطل إقراره.

 

ج / 3 ص -189-       قال: "ومن مات أبوه فأقر بأخ لم يثبت نسب أخيه" لما بينا "ويشاركه في الإرث" لأن إقراره تضمن شيئين: حمل النسب على الغير ولا ولاية له عليه، والاشتراك في المال وله فيه ولاية فيثبت كالمشتري وإذا أقر على البائع بالعتق لم يقبل إقراره حتى لا يرجع عليه بالثمن ولكنه يقبل في حق العتق.
قال: "ومن مات وترك ابنين وله على آخر مائة درهم فأقر أحدهما أن أبوه قبض منها خمسين لا شيء للمقر وللآخر خمسون" لأن هذا إقرار بالدين على الميت لأن الاستيفاء إنما يكون بقبض مضمون، فإذا كذبه أخوه استغرق الدين نصيبه كما هو المذهب عندنا، غاية الأمر أنهما تصادقا على كون المقبوض مشتركا بينهما، لكن المقر لو رجع على القابض بشيء لرجع القابض على الغريم ورجع الغريم على المقر فيؤدي إلى الدور، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.