الهداية
في شرح بداية المبتدي ج / 3 ص -190-
كتاب الصلح
قال:
"الصلح على ثلاثة أضرب: صلح مع إقرار، وصلح مع
سكوت، وهو أن لا يقر المدعى عليه ولا ينكر
وصلح مع إنكار وكل ذلك جائز"
لإطلاق قوله تعالى:
{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128] ولقوله عليه الصلاة والسلام:
"كل صلح جائز فيما بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا" وقال
الشافعي: لا يجوز مع إنكار أو سكوت لما روينا،
وهذا بهذه الصفة لأن البدل كان حلالا على
الدافع حراما على الآخذ فينقلب الأمر، ولأن
المدعى عليه يدفع المال لقطع الخصومة وهذا
رشوة. ولنا ما تلونا وأول ما روينا وتأويل
آخره أحل حراما لعينه كالخمر أو حرم حلالا
لعينه كالصلح على أن لا يطأ الضرة ولأن هذا
صلح بعد دعوى صحيحة فيقضى بجوازه لأن المدعي
يأخذه عوضا عن حقه في زعمه وهذا مشروع،
والمدعى عليه يدفعه لدفع الخصومة عن نفسه وهذا
مشروع أيضا إذ المال وقاية الأنفس ودفع الرشوة
لدفع الظلم أمر جائز.
قال:
"فإن وقع الصلح عن إقرار اعتبر فيه ما يعتبر
في البياعات إن وقع عن مال بمال"
لوجود معنى البيع وهو مبادلة المال بالمال
بتراضيهما في حق المتعاقدين بتراضهما
"فتجري فيه الشفعة إذا كان عقارا ويرد بالعيب
ويثبت فيه خيار الشرط والرؤية، ويفسده جهالة
البدل" لأنها المفضية إلى
المنازعة دون جهالة المصالح عنه لأنه يسقط،
ويشترط القدرة على تسليم البدل
"وإن كان عن مال بمنافع يعتبر بالإجارات"
لوجود معنى الإجارة وهو تمليك المنافع بمال
والاعتبار في العقود لمعانيها فيشترط التوقيت
فيها ويبطل الصلح بموت أحدهما في المدة لأنه
إجارة.
قال:
"الصلح عن السكوت والإنكار في حق المدعى عليه
لافتداء اليمين وقطع الخصومة وفي حق المدعي
لمعنى المعاوضة" لما بينا.
"ويجوز أن يختلف حكم العقد في حقهما كما يختلف
حكم الإقالة في حق المتعاقدين وغيرهما"
وهذا في الإنكار ظاهر، وكذا في السكوت فلأنه
يحتمل الإقرار والجحود فلا يثبت كونه عرضا في
حقه بالشك.
ج / 3 ص -191-
قال:
"وإذا صالح عن دار لم يجب فيها الشفعة"
معناه إذا كان عن إنكار أو سكوت لأنه يأخذها
على أصل حقه ويدفع المال دفعا لخصومة المدعي
وزعم المدعي لا يلزمه، بخلاف ما إذا صالح على
دار حيث يجب فيها الشفعة لأن المدعي يأخذها
عوضا عن المال فكان معاوضة في حقه فتلزمه
الشفعة بإقراره وإن كان المدعى عليه يكذبه.
قال:
"وإذا كان الصلح عن إقرار واستحق بعض المصالح
عنه رجع المدعى عليه بحصة ذلك من العوض"
لأنه معاوضة مطلقة كالبيع وحكم الاستحقاق في
البيع هذا
"وإن وقع الصلح عن سكوت أو إنكار فاستحق
المتنازع فيه رجع المدعي بالخصومة ورد العوض"
لأن المدعى عليه ما بذل العوض إلا ليدفع
خصومته عن نفسه، فإذا ظهر الاستحقاق تبين أن
لا خصومة له فيبقى العوض في يده غير مشتمل على
غرضه فيسترده، وإن استحق بعض ذلك رد حصته ورجع
بالخصومة فيه لأنه خلا العوض في هذا القدر عن
الغرض. ولو استحق المصالح عليه عن إقرار رجع
بكل المصالح عنه لأنه مبادلة، وإن استحق بعضه
رجع بحصته. وإن كان الصلح عن إنكار أو سكوت
رجع إلى الدعوى في كله أو بقدر المستحق إذا
استحق بعضه لأن المبدل فيه هو الدعوى، وهذا
بخلاف ما إذا باع منه على الإنكار شيئا حيث
يرجع بالمدعى لأن الإقدام على البيع إقرار منه
بالحق له، ولا كذلك الصلح لأنه قد يقع لدفع
الخصومة، ولو هلك بدل الصلح قبل التسليم
فالجواب فيه كالجواب في الاستحقاق في الفصلين.
قال:
"وإن ادعى حقا في دار ولم يبينه فصولح من ذلك
ثم استحق بعض الدار لم يرد شيئا من العوض لأن
دعواه يجوز أن يكون فيما بقي"
بخلاف ما إذا استحق كله لأنه يعرى العوض عند
ذلك عن شيء يقابله فيرجع بكله على ما قدمناه
في البيوع. ولو ادعى دارا فصالحه على قطعة
منها لم يصح الصلح لأن ما قبضه من عين حقه وهو
على دعواه في الباقي. والوجه فيه أحد أمرين:
إما أن يزيد درهما في بدل الصلح فيصير ذلك
عوضا عن حقه فيما بقي، أو يلحق به ذكر البراءة
عن دعوى الباقي.
فصل: "والصلح جائز عن دعوى الأموال"
لأنه في معنى البيع على ما مر.
قال:
"والمنافع" لأنها تملك بعقد
الإجارة فكذا بالصلح، والأصل فيه أن الصلح يجب
حمله على أقرب العقود إليه وأشبهها به احتيالا
لتصحيح تصرف العاقد ما أمكن.
قال:
"ويصح عن جناية العمد والخطأ"
أما الأول فلقوله تعالى:
{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ
ج / 3 ص -192-
أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ}
[البقرة:178] الآية قال ابن عباس رضي الله
عنهما: إنها نزلت في الصلح عن دم العمد وهو
بمنزلة النكاح، حتى أن ما صلح مسمى فيه صلح
هاهنا إذ كل واحد منهما مبادلة المال بغير
المال إلا أن عند فساد التسمية هنا يصار إلى
الدية لأنها موجب الدم. ولو صالح على خمر لا
يجب شيء لأنه لا يجب بمطلق العفو. وفي النكاح
يجب مهر المثل في الفصلين لأنه الموجب الأصلي،
ويجب مع السكوت عنه حكما، ويدخل في إطلاق جواب
الكتاب الجناية في النفس وما دونها، وهذا
بخلاف الصلح عن حق الشفعة على مال حيث لا يصح
لأنه حق التملك، ولا حق في المحل قبل التملك.
وأما القصاص فملك المحل في حق الفعل فيصح
الاعتياض عنه وإذا لم يصح الصلح تبطل الشفعة
لأنها تبطل بالإعراض والسكوت، والكفالة بالنفس
بمنزلة حق الشفعة حتى لا يجب المال بالصلح
عنه، غير أن في بطلان الكفالة روايتين على ما
عرف في موضعه. وأما الثاني وهو جناية الخطأ
فلأن موجبها المال فيصير بمنزلة البيع، إلا
أنه لا تصح الزيادة على قدر الدية لأنه مقدر
شرعا فلا يجوز إبطاله فترد الزيادة، بخلاف
الصلح عن القصاص حيث تجوز الزيادة على قدر
الدية لأن القصاص ليس بمال وإنما يتقوم
بالعقد، وهذا إذا صالح على أحد مقادير الدية،
أما إذا صالح على غير ذلك جاز لأنه مبادلة
بها، إلا أنه يشترط القبض في المجلس كي لا
يكون افتراقا عن دين بدين. ولو قضى القاضي
بأحد مقاديرها فصالح على جنس آخر منها
بالزيادة جاز لأنه تعين الحق بالقضاء فكان
مبادلة بخلاف الصلح ابتداء لأن تراضيهما على
بعض المقادير بمنزلة القضاء في حق التعيين فلا
تجوز الزيادة على ما تعين.
قال:
"ولا يجوز عن دعوى حد" لأنه
حق الله تعالى لا حقه، ولا يجوز الاعتياض عن
حق غيره، ولهذا لا يجوز الاعتياض إذا ادعت
المرأة نسب ولدها لأنه حق الولد لا حقها، وكذا
لا يجوز الصلح عما أشرعه إلى طريق العامة لأنه
حق العامة فلا يجوز أن يصالح واحد على
الانفراد عنه؛ ويدخل في إطلاق الجواب حد القذف
لأن المغلب فيه حق الشرع.
قال:
"وإذا ادعى رجل على امرأة نكاحا وهي تجحد
فصالحته على مال بذلته حتى يترك الدعوى جاز
وكان في معنى الخلع" لأنه
أمكن تصحيحه خلعا في جانبه بناء على زعمه وفي
جانبها بدلا للمال لدفع الخصومة. قالوا: ولا
يحل له أن يأخذ فيما بينه وبين الله تعالى إذا
كان مبطلا في دعواه.
قال:
"وإذا ادعت امرأة على رجل نكاحا فصالحها على
مال بذله لها جاز" قال رضي
الله عنه: هكذا ذكر في بعض نسخ المختصر، وفي
بعضها قال: لم يجز. وجه الأول أن
ج / 3 ص -193-
يجعل
زيادة في مهرها. وجه الثاني أنه بذل لها المال
لتترك الدعوى فإن جعل ترك الدعوى منها فرقة
فالزوج لا يعطي العوض في الفرقة، وإن لم يجعل
فالحال على ما كان عليه قبل الدعوى فلا شيء
يقابله العوض فلم يصح. قال:
"وإن ادعى على رجل أنه عبده فصالحه على مال
أعطاه جاز وكان في حق المدعي بمنزلة الإعتاق
على مال" لأنه أمكن تصحيحه
على هذا الوجه في حقه لزعمه ولهذا يصح على
حيوان في الذمة إلى أجل وفي حق المدعى عليه
يكون لدفع الخصومة؛ لأنه يزعم أنه حر فجاز إلا
أنه لا ولاء له لإنكار العبد إلا أن يقيم
البينة فتقبل ويثبت الولاء.
قال:
"وإذا قتل العبد المأذون له رجلا عمدا لم يجز
له أن يصالح عن نفسه، وإن قتل عبد له رجلا
عمدا فصالحه جاز" ووجه الفرق
أن رقبته ليست من تجارته ولهذا لا يملك التصرف
فيه بيعا فكذا استخلاصا بمال المولى وصار
كالأجنبي، أما عبده فمن تجارته وتصرفه فيه
نافذ بيعا فكذا استخلاصا، وهذا لأن المستحق
كالزائل عن ملكه وهذا شراؤه فيملكه.
قال:
"ومن غصب ثوبا يهوديا قيمته دون المائة
فاستهلكه فصالحه منها على مائة درهم جاز عند
أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: يبطل الفضل
على قيمته بما لا يتغابن الناس فيه"
لأن الواجب هي القيمة وهي مقدرة فالزيادة
عليها تكون ربا، بخلاف ما إذا صالح على عرض
لأن الزيادة لا تظهر عند اختلاف الجنس، وبخلاف
ما يتغابن الناس فيه لأنه يدخل تحت تقويم
المقومين فلا تظهر الزيادة. ولأبي حنيفة أن
حقه في الهالك باق حتى لو كان عبدا وترك أخذ
القيمة يكون الكفن عليه أو حقه في مثله صورة
ومعنى، لأن ضمان العدوان بالمثل، وإنما ينتقل
إلى القيمة بالقضاء فقبله إذا تراضيا على
الأكثر كان اعتياضا فلا يكون ربا، بخلاف الصلح
بعد القضاء لأن الحق قد انتقل إلى القيمة.
قال:
"وإذا كان العبد بين رجلين أعتقه أحدهما وهو
موسر فصالحه الآخر على أكثر من نصف قيمته
فالفضل باطل" وهذا بالاتفاق،
وأما عندهما فلما بينا. والفرق لأبي حنيفة
رحمه الله أن القيمة في العتق منصوص عليها
وتقدير الشرع لا يكون دون تقدير القاضي فلا
يجوز الزيادة عليه، وبخلاف ما تقدم لأنها غير
منصوص عليها
"وإن صالحه على عروض جاز" لما
بينا أنه لا يظهر الفضل، والله أعلم بالصواب.
باب التبرع بالصلح والتوكيل به
قال:
"ومن وكل رجلا بالصلح عنه فصالح لم يلزم
الوكيل ما صالح عنه إلا أن يضمنه
ج / 3 ص -194-
والمال لازم للموكل"
وتأويل هذه المسألة إذا كان الصلح عن دم العمد
أو كان الصلح عن بعض ما يدعيه من الدين لأنه
إسقاط محض فكان الوكيل فيه سفيرا ومعبرا فلا
ضمان عليه كالوكيل بالنكاح إلا أن يضمنه لأنه
حينئذ هو مؤاخذ بعقد الضمان لا بعقد الصلح،
أما إذا كان الصلح عن مال بمال فهو بمنزلة
البيع فترجع الحقوق إلى الوكيل فيكون المطالب
بالمال هو الوكيل دون الموكل.
قال:
"وإن صالح رجل عنه بغير أمره فهو على أربعة
أوجه: إن صالح بمال وضمنه تم الصلح"
لأن الحاصل للمدعى عليه ليس إلا البراءة وفي
حقها هو والأجنبي سواء فصلح أصيلا فيه إذا
ضمنه، كالفضولي بالخلع إذا ضمن البدل ويكون
متبرعا على المدعى عليه كما لو تبرع بقضاء
الدين بخلاف ما إذا كان بأمره ولا يكون لهذا
المصالح شيء من المدعى، وإنما ذلك للذي في يده
لأن تصحيحه بطريق الإسقاط، ولا فرق في هذا بين
ما إذا كان مقرا أو منكرا
"وكذلك إن قال صالحتك على ألفي هذه أو على
عبدي هذا صح الصلح ولزمه تسليمها"
لأنه لما أضافه إلى مال نفسه فقد التزم تسليمه
فصح الصلح
"وكذلك لو قال علي ألف وسلمها"
لأن التسليم إليه يوجب سلامة العوض له فيتم
العقد لحصول مقصوده
"ولو قال صالحتك على ألف فالعقد موقوف، فإن
أجازه المدعى عليه جاز ولزمه الألف، وإن لم
يجزه بطل" لأن الأصل في العقد
إنما هو المدعى عليه لأن دفع الخصومة حاصل له،
إلا أن الفضولي يصير أصيلا بواسطة إضافة
الضمان إلى نفسه، فإذا لم يضفه بقي عاقدا من
جهة المطلوب فيتوقف على إجازته.
قال رضي الله عنه: ووجه آخر وهو أن يقول
صالحتك على هذه الألف أو على هذا العبد ولم
ينسبه إلى نفسه لأنه لما عينه للتسليم صار
شارطا سلامته له فيتم بقوله. ولو استحق العبد
أو وجد به عيبا فرده فلا سبيل له على المصالح
لأنه التزم الإيفاء من محل بعينه ولم يلتزم
شيئا سواه، فإن سلم المحل له تم الصلح، وإن لم
يسلم له لم يرجع عليه بشيء. بخلاف ما إذا صالح
على دراهم مسماة وضمنها ودفعها ثم استحقت أو
وجدها زيوفا حيث يرجع عليه لأنه جعل نفسه
أصيلا في حق الضمان ولهذا يجبر على التسليم،
فإذا لم يسلم له ما سلمه يرجع عليه ببدله،
والله أعلم بالصواب.
باب الصلح في الدين
قال:
"وكل شيء وقع عليه الصلح وهو مستحق بعقد
المداينة لم يحمل على المعاوضة، وإنما يحمل
على أنه استوفى بعض حقه وأسقط باقيه، كمن له
على آخر ألف
ج / 3 ص -195-
درهم فصالحه على خمسمائة، وكمن له على آخر ألف
جياد فصالحه على خمسمائة زيوف جاز وكأنه أبرأه
عن بعض حقه"
وهذا لأن تصرف العاقل يتحرى تصحيحه ما أمكن،
ولا وجه لتصحيحه معاوضة لإفضائه إلى الربا
فجعل إسقاطا للبعض في المسألة الأولى وللبعض
والصفة في الثانية
"ولو صالح على ألف مؤجلة جاز وكأنه أجل نفس
الحق" لأنه لا يمكن جعله
معاوضة لأن بيع الدراهم بمثلها نسيئة لا يجوز
فحملناه على التأخير
"ولو صالحه على دنانير إلى شهر لم يجز"
لأن الدنانير غير مستحقة بعقد المداينة فلا
يمكن حمله على التأخير، ولا وجه له سوى
المعاوضة، وبيع الدراهم بالدنانير نسيئة لا
يجوز فلم يصح الصلح.
قال:
"ولو كانت له ألف مؤجلة فصالحه على خمسمائة
حالة لم يجز" لأن المعجل خير
من المؤجل وهو غير مستحق بالعقد فيكون بإزاء
ما حطه عنه، وذلك اعتياض عن الأجل وهو حرام
"وإن كان له ألف سود فصالحه على خمسمائة بيض
لم يجز" لأن البيض غير مستحقة
بعقد المداينة وهي زائدة وصفا فيكون معاوضة
الألف بخمسمائة وزيادة وصف وهو ربا، بخلاف ما
إذا صالح عن الألف البيض على خمسمائة سود حيث
يجوز لأنه إسقاط كله قدرا ووصفا، وبخلاف ما
إذا صالح على قدر الدين وهو أجود لأنه معاوضة
المثل بالمثل، ولا معتبر بالصفة إلا أنه يشترط
القبض في المجلس، ولو كان عليه ألف درهم ومائة
دينار فصالحه على مائة درهم حالة أو إلى شهر
صح الصلح لأنه أمكن أن يجعل إسقاطا للدنانير
كلها والدراهم إلا مائة وتأجيلا للباقي فلا
يجعل معاوضة تصحيحا للعقد أو لأن معنى الإسقاط
فيه ألزم.
قال:
"ومن له على آخر ألف درهم فقال أد إلي غدا
منها خمسمائة على أنك بريء من الفضل ففعل فهو
بريء، فإن لم يدفع إليه الخمسمائة غدا عاد
عليه الألف وهو قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو
يوسف: لا يعود عليه" لأنه
إبراء مطلق؛ ألا ترى أنه جعل أداء الخمسمائة
عوضا حيث ذكره بكلمة على وهي للمعاوضة،
والأداء لا يصح عوضا لكونه مستحقا عليه فجرى
وجوده مجرى عدمه فبقي الإبراء مطلقا فلا يعود
كما إذا بدأ بالإبراء. ولهما أن هذا إبراء
مقيد بالشرط فيفوت بفواته لأنه بدأ بأداء
الخمسمائة في الغد وأنه يصلح غرضا حذار إفلاسه
وتوسلا إلى تجارة أربح منه، وكلمة على إن كانت
للمعاوضة فهي محتملة للشرط لوجود معنى
المقابلة فيه فيحمل عليه عند تعذر الحمل على
المعاوضة تصحيحا لتصرفه أو لأنه متعارف،
والإبراء مما يتقيد بالشرط وإن كان لا يتعلق
به كما في الحوالة، وستخرج البداءة بالإبراء
إن شاء الله تعالى.
قال رضي الله عنه: وهذه المسألة على وجوه:
أحدها ما ذكرناه.
ج / 3 ص -196-
والثاني: إذا قال صالحتك من الألف على خمسمائة
تدفعها إلي غدا وأنت بريء من الفضل على أنك إن
لم تدفعها إلي غدا فالألف عليك على حاله.
وجوابه أن الأمر على ما قال لأنه أتى بصريح
التقييد فيعمل به.
والثالث: إذا قال أبرأتك من خمسمائة من الألف
على أن تعطيني الخمسمائة غدا والإبراء فيه
واقع أعطى الخمسمائة أو لم يعط لأنه أطلق
الإبراء أولا، وأداء الخمسمائة لا يصلح عوضا
مطلقا ولكنه يصلح شرطا فوقع الشك في تقييده
بالشرط فلا يتقيد به، بخلاف ما إذا بدأ بأداء
خمسمائة لأن الإبراء حصل مقرونا به، فمن حيث
إنه لا يصلح عوضا يقع مطلقا، ومن حيث إنه يصلح
شرطا لا يقع مطلقا فلا يثبت الإطلاق بالشك
فافترقا.
والرابع: إذا قال أد إلي خمسمائة على أنك بريء
من الفضل ولم يؤقت للأداء وقتا. وجوابه أنه
يصح الإبراء ولا يعود الدين لأن هذا إبراء
مطلق، لأنه لما لم يؤقت للأداء وقتا لا يكون
الأداء غرضا صحيحا لأنه واجب عليه في مطلق
الأزمان فلم يتقيد بل يحمل على المعاوضة ولا
يصلح عوضا، بخلاف ما تقدم لأن الأداء في الغد
غرض صحيح.
والخامس: إذا قال إن أديت إلي خمسمائة أو قال
إذا أديت أو متى أديت. فالجواب فيه أنه لا يصح
الإبراء لأنه علقه بالشرط صريحا، وتعليق
البراءات بالشروط باطل لما فيها من معنى
التمليك حتى يرتد بالرد، بخلاف ما تقدم لأنه
ما أتى بصريح الشرط فحمل على التقييد به.
قال:
"ومن قال لآخر لا أقر لك بمالك حتى تؤخره عني
أو تحط عني ففعل جاز عليه"
لأنه ليس بمكره، ومعنى المسألة إذا قال ذلك
سرا، أما إذا قال علانية يؤخذ به.
فصل: في الدين المشترك
قال:
"وإذا كان الدين بين شريكين فصالح أحدهما من
نصيبه على ثوب فشريكه بالخيار، إن شاء اتبع
الذي عليه الدين بصفة، وإن شاء أخذ نصف الثوب
إلا أن يضمن له شريكه ربع الدين"
وأصل هذا أن الدين المشترك بين اثنين إذا قبض
أحدهما شيئا منه فلصاحبه أن يشاركه في المقبوض
لأنه ازداد بالقبض، إذ مالية الدين باعتبار
عاقبة القبض، وهذه الزيادة راجعة إلى أصل الحق
فتصير كزيادة الولد والثمرة وله حق المشاركة،
ولكنه قبل المشاركة باق على مالك القابض، لأن
العين غير الدين حقيقة وقد قبضه بدلا عن حقه،
ج / 3 ص -197-
فيملكه
حتى ينفذ تصرفه فيه ويضمن لشريكه حصته، والدين
المشترك يكون واجبا بسبب متحد كثمن المبيع إذا
كان صفقة واحدة وثمن المال المشترك والموروث
بينهما وقيمة المستهلك المشترك. إذا عرفنا هذا
فنقول في مسألة الكتاب: له أن يتبع الذي عليه
الأصل لأن نصيبه باق في ذمته لأن القابض قبض
نصيبه لكن له حق المشاركة، وإن شاء أخذ نصف
الثوب لأن له حق المشاركة إلا أن يضمن له
شريكه ربع الدين لأن حقه في ذلك.
قال:
"ولو استوفى نصف نصيبه من الدين كان لشريكه أن
يشاركه فيما قبض" لما قلنا
"ثم يرجعان على الغريم بالباقي"
لأنهما لما اشتركا في المقبوض لا بد أن يبقى
الباقي على الشركة.
قال:
"ولو اشترى أحدهما بنصيبه من الدين سلعة كان
لشريكه أن يضمنه ربع الدين"
لأنه صار قابضا حقه بالمقاصة كاملا، لأن مبنى
البيع على المماكسة بخلاف الصلح لأن مبناه على
الإغماض والحطيطة، فلو ألزمناه دفع ربع الدين
يتضرر به فيتخير القابض كما ذكرنا، ولا سبيل
للشريك على الثوب في البيع لأنه ملكه بعقده
والاستيفاء بالمقاصة بين ثمنه وبين الدين.
وللشريك أن يتبع الغريم في جميع ما ذكرنا لأن
حقه في ذمته باق لأن القابض استوفى نصيبه
حقيقة لكن له حق المشاركة فله أن لا يشاركه،
فلو سلم له ما قبض ثم توى ما على الغريم له أن
يشارك القابض لأنه رضي بالتسليم ليسلم له ما
في ذمة الغريم ولم يسلم، ولو وقعت المقاصة
بدين كان عليه من قبل لم يرجع عليه الشريك
لأنه قاض بنصيبه لا مقتض، ولو أبرأه عن نصيبه
فكذلك لأنه إتلاف وليس بقبض، ولو أبرأه عن
البعض كانت قسمة الباقي على ما بقي من السهام،
ولو أخر أحدهما عن نصيبه صح عند أبي يوسف
اعتبارا بالإبراء المطلق، ولا يصح عندهما لأنه
يؤدي إلى قسمة الدين قبل القبض، ولو غصب
أحدهما عينا منه أو اشتراها شراء فاسدا وهلك
في يده فهو قبض والاستئجار بنصيبه قبض، وكذا
الإحراق عند محمد رحمه الله خلافا لأبي يوسف
رحمه الله والتزوج به إتلاف في ظاهر الرواية،
وكذا الصلح عليه من جناية العمد.
قال:
"وإذا كان السلم بين شريكين فصالح أحدهما من
نصيبه على رأس المال لم يجز عند أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله. وقال أبو يوسف رحمه الله
يجوز الصلح" اعتبارا بسائر
الديون، وبما إذا اشتريا عبدا فأقال أحدهما في
نصيبه. ولهما أنه لو جاز في نصيبه خاصة يكون
قسمة الدين في الذمة، ولو جاز في نصيبهما لا
بد من إجازة الآخر بخلاف شراء العين، وهذا لأن
المسلم فيه صار واجبا بالعقد والعقد قام بهما
فلا ينفرد أحدهما برفعه، ولأنه لو جاز لشاركه
في المقبوض، فإذا شاركه فيه رجع المصالح على
من عليه بذلك فيؤدي
ج / 3 ص -198-
إلى
عود السلم بعد سقوطه. قالوا: هذا إذا خلطا رأس
المال، فإن لم يكونا قد خلطاه فعلى الوجه
الأول هو على الخلاف، وعلى الوجه الثاني هو
على الاتفاق.
فصل: في التخارج
قال:
"وإذا كانت الشركة بين ورثة فأخرجوا أحدهم
منها بمال أعطوه إياه والتركة عقار أو عروض
جاز قليلا كان ما أعطوه إياه أو كثيرا"
لأنه أمكن تصحيحه بيعا. وفيه أثر عثمان، فإنه
صالح تماضر الأشجعية امرأة عبد الرحمن بن عوف
رضي الله عنه عن ربع ثمنها على ثمانين ألف
دينار.
قال:
"وإن كانت التركة فضة فأعطوه ذهبا أو كان ذهبا
فأعطوه فضة فهو كذلك" لأنه
بيع الجنس بخلاف الجنس فلا يعتبر التساوي
ويعتبر التقابض في المجلس لأنه صرف غير أن
الذي في يده بقية التركة إن كان جاحدا يكتفي
بذلك القبض لأنه قبض ضمان فينوب عن قبض الصلح
وإن كان مقرا لا بد من تجديد القبض لأنه قبض
أمانة فلا ينوب عن قبض الصلح
"وإن كانت التركة ذهبا وفضة وغير ذلك فصالحوه
على ذهب أو فضة فلا بد أن يكون ما أعطوه أكثر
من نصيبه من ذلك الجنس حتى يكون نصيبه بمثله
والزيادة بحقه من بقية التركة"
احترازا عن الربا، ولا بد من التقابض فيما
يقابل نصيبه من الذهب والفضة لأنه صرف في هذا
القدر، ولو كان بدل الصلح عرضا جاز مطلقا لعدم
الربا، ولو كان في التركة دراهم ودنانير وبدل
الصلح دراهم ودنانير أيضا جاز الصلح كيفما كان
صرفا للجنس إلى خلاف الجنس كما في البيع لكن
يشترط التقابض للصرف.
قال:
"وإذا كان في التركة دين على الناس فأدخلوه في
الصلح على أن يخرجوا المصالح عنه ويكون الدين
له فالصلح باطل" لأن فيه
تمليك الدين من غير من عليه وهو حصة المصالح
"وإن شرطوا أن يبرأ الغرماء منه ولا يرجع
عليهم بنصيب المصالح فالصلح جائز"
لأنه إسقاط وهو تمليك الدين ممن عليه
الدين وهو جائز، وهذه حيلة الجواز، وأخرى أن
يعجلوا قضاء نصيبه متبرعين، وفي الوجهين ضرر
ببقية الورثة. والأوجه أن يقرضوا المصالح
مقدار نصيبه ويصالحوا عما وراء الدين. ويجيلهم
على استيفاء نصيبه من الغرماء، ولو لم يكن في
التركة دين وأعيانها غير معلومة والصلح على
المكيل والموزون، قيل لا يجوز لاحتمال الربا،
وقيل يجوز لأنه شبهة الشبهة، ولو كانت التركة
غير المكيل والموزون لكنها أعيان غير معلومة
قيل لا يجوز لكونه بيعا إذ المصالح عنه عين
والأصح أنه يجوز لأنها لا تفضي إلى المنازعة
لقيام المصالح عنه في يد البقية من الورثة،
ج / 3 ص -199-
وإن
كان على الميت دين مستغرق لا يجوز الصلح ولا
القسمة لأن التركة لم يتملكها الوارث، وإن لم
يكن مستغرقا لا ينبغي أن يصالحوا ما لم يقضوا
دينه فتقدم حاجة الميت، ولو فعلوا قالوا يجوز.
وذكر الكرخي رحمه الله في القسمة أنها لا تجوز
استحسانا وتجوز قياسا. |