الهداية في شرح بداية المبتدي

ج / 3 ص -213-       كتاب الوديعة
قال: "الوديعة أمانة في يد المودع إذا هلكت لم يضمنها" لقوله عليه الصلاة والسلام:
"ليس على المستعير غير المغل ضمان ولا على المستودع غير المغل ضمان" ولأن بالناس حاجة إلى الاستيداع، فلو ضمناه يمتنع الناس عن قبول الودائع فتتعطل مصالحهم.
قال: "وللمودع أن يحفظها بنفسه وبمن في عياله" لأن الظاهر أنه يلتزم حفظ مال غيره على الوجه الذي يحفظ مال نفسه، ولأنه لا يجد بدا من الدفع إلى عياله لأنه لا يمكنه ملازمة بيته ولا استصحاب الوديعة في خروجه فكان المالك راضيا به "فإن حفظها بغيرهم أو أودعها غيرهم ضمن" لأن المالك رضي بيده لا بيد غيره، والأيدي تختلف في الأمانة، ولأن الشيء لا يتضمن مثله كالوكيل لا يوكل غيره، والوضع في حرز غيره إيداع، إلا إذا استأجر الحرز فيكون حافظا بحرز نفسه.
قال: "إلا أن يقع في داره حريق فيسلمها إلى جاره أو يكون في سفينة فخاف الغرق فيلقيها إلى سفينة أخرى" لأنه تعين طريقا للحفظ في هذه الحالة فيرتضيه المالك، ولا يصدق على ذلك إلا ببينة لأنه يدعي ضرورة مسقطة للضمان بعد تحقق السبب فصار كما إذا ادعى الإذن في الإيداع.
قال: "فإن طلبها صاحبها فحبسها وهو يقدر على تسليمها ضمنها" لأنه متعد بالمنع، وهذا لأنه لما طالبه لم يكن راضيا بإمساكه بعده فيضمنه بحبسه عنه.
قال: "وإن خلطها المودع بماله حتى لا تتميز ضمنها ثم لا سبيل للمودع عليها عند أبي حنيفة وقالا: إذا خلطها بجنسها شركه إن شاء" مثل أن يخلط الدراهم البيض بالبيض والسود بالسود والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير. لهما أنه لا يمكنه الوصول إلى عين حقه صورة وأمكنه معنى بالقسمة فكان استهلاكا من وجه دون وجه فيميل إلى أيهما شاء. وله أنه استهلاك من كل وجه لأنه فعل يتعذر معه الوصول إلى عين حقه، ولا معتبر بالقسمة لأنها من موجبات الشركة فلا تصلح موجبة لها، ولو أبرأ الخالط لا سبيل له على المخلوط عند أبي حنيفة لأنه لا حق له إلا في الدين وقد سقط، وعندهما بالإبراء تسقط خيرة الضمان فيتعين الشركة في المخلوط، وخلط الخل بالزيت وكل مائع بغير جنسه

 

ج / 3 ص -214-       يوجب انقطاع حق المالك إلى الضمان، وهذا بالإجماع لأنه استهلاك صورة وكذا معنى لتعذر القسمة باعتبار اختلاف الجنس، ومن هذا القبيل خلط الحنطة بالشعير في الصحيح لأن أحدهما لا يخلو عن حبات الآخر فتعذر التمييز والقسمة. ولو خلط المائع بجنسه فعند أبي حنيفة ينقطع حق المالك إلى ضمان لما ذكرنا، وعند أبي يوسف يجعل الأقل تابعا للأكثر اعتبارا للغالب أجزاء، وعند محمد شركه بكل حال لأن الجنس لا يغلب الجنس عنده على ما مر في الرضاع، ونظيره خلط الدراهم بمثلها إذابة لأنه يصير مائعا بالإذابة.
قال: "وإن اختلطت بماله من غير فعله فهو شريك لصاحبها" كما إذا انشق الكيسان فاختلطا لأنه لا يضمنها لعدم الصنع منه فيشتركان وهذا بالاتفاق.
قال: "فإن أنفق المودع بعضها ثم رد مثله فخلطها بالباقي ضمن الجميع" لأنه خلط مال غيره بماله فيكون استهلاكا على الوجه الذي تقدم. قال: "وإذا تعدى المودع في الوديعة بأن كانت دابة فركبها أو ثوبا فلبسه أو عبدا فاستخدمه أو أودعها غيره ثم أزال التعدي فردها إلى يده زال الضمان" وقال الشافعي: لا يبرأ عن الضمان لأن عقد الوديعة ارتفع حين صار ضامنا للمنافاة فلا يبرأ إلا بالرد على المالك ولنا أن الأمر باق لإطلاقه، وارتفاع حكم العقد ضرورة ثبوت نقيضه، فإذا ارتفع عاد حكم العقد، كما إذا استأجره للحفظ شهرا فترك الحفظ في بعضه ثم حفظ في الباقي فحصل الرد إلى نائب المالك.
قال: "فإن طلبها صاحبها فجحدها ضمنها" لأنه لما طالبه بالرد فقد عزله عن الحفظ فبعد ذلك هو بالإمساك غاصب مانع فيضمنها، فإن عاد إلى الاعتراف لم يبرأ عن الضمان لارتفاع العقد، إذ المطالبة بالرد رفع من جهته والجحود فسخ من جهة المودع كجحود الوكيل الوكالة وجحود أحد المتعاقدين البيع فتم الرفع، أو لأن المودع ينفرد بعزل نفسه بمحضر من المستودع كالوكيل يملك عزل نفسه بحضرة الموكل، وإذا ارتفع لا يعود إلا بالتجديد فلم يوجد الرد إلى نائب المالك، بخلاف الخلاف ثم العود إلى الوفاق، ولو جحدها عند غير صاحبها لا يضمنها عند أبي يوسف خلافا لزفر لأن الجحود عند غيره من باب الحفظ لأن فيه قطع طمع الطامعين، ولأنه لا يملك عزل نفسه بغير محضر منه أو طلبه فبقي الأمر بخلاف ما إذا كان بحضرته.
قال: "وللمودع أن يسافر الوديعة وإن كان لها حمل ومؤنة عند أبي حنيفة وقالا: ليس له ذلك إذا كان لها حمل ومؤنة" وقال الشافعي: ليس له ذلك في

 

ج / 3 ص -215-       الوجهين، لأبي حنيفة رحمه الله إطلاق الأمر، والمفازة محل للحفظ إذا كان الطريق آمنا ولهذا يملك الأب والوصي في مال الصبي. ولهما أنه تلزمه مؤنة الرد فيما له حمل ومؤنة، والظاهر أنه لا يرضى به فيتقيد، والشافعي يقيده بالحفظ المتعارف وهو الحفظ في الأمصار وصار كالاستحفاظ بأجر.
قلنا: مؤنة الرد تلزمه في ملكه ضرورة امتثال أمره فلا يبالي به والمعتاد كونهم في المصر لا حفظهم، ومن يكون في المفازة يحفظ ماله فيها، بخلاف الاستحفاظ بأجر لأنه عقد معاوضة فيقتضي التسليم في مكان العقد "وإذا نهاه المودع أن يخرج الوديعة فخرج بها ضمن" لأن التقييد مفيد إذ الحفظ في المصر أبلغ فكان صحيحا.
قال: "وإذا أودع رجلان عند رجل وديعة فحضر أحدهما وطلب نصيبه منها لم يدفع إليه حتى يحضر الآخر عند أبي حنيفة، وقالا: يدفع إليه نصيبه" وفي الجامع الصغير: ثلاثة استودعوا رجلا ألفا فغاب اثنان فليس للحاضر أن يأخذ نصيبه عنده، وقالا: له ذلك، والخلاف في المكيل والموزون، وهو المراد بالمذكور في المختصر. لهما أنه طالبه بدفع نصيبه فيؤمر بالدفع إليه كما في الدين المشترك، وهذا لأنه يطالبه بتسليم ما سلم إليه وهو النصف، وهذا كان له أن يأخذه فكذا يؤمر هو بالدفع إليه. ولأبي حنيفة أنه طالبه بدفع نصيب الغائب لأنه يطالبه بالمفرز وحقه في المشاع، والمفرز المعين يشتمل على الحقين، ولا يتميز حقه إلا بالقسمة، وليس للمودع ولاية القسمة ولهذا لا يقع دفعه قسمة بالإجماع، بخلاف الدين المشترك لأنه يطالبه بتسليم حقه لأن الديون تقضى بأمثالها. قوله له أن يأخذه.
قلنا: ليس من ضرورته أن يجبر المودع على الدفع كما إذا كان له ألف درهم وديعة عند إنسان وعليه ألف لغيره فلغريمه أن يأخذه إذا ظفر به، وليس للمودع أن يدفعه إليه.
قال: "وإن أودع رجل عند رجلين شيئا مما يقسم لم يجز أن يدفعه أحدهما إلى الآخر ولكنهما يقتسمانه فيحفظ كل واحد منهما نصفه، وإن كان مما لا يقسم جاز أن يحفظ أحدهما بإذن الآخر" وهذا عند أبي حنيفة، وكذلك الجواب عنده في المرتهنين والوكيلين بالشراء إذا سلم أحدهما إلى الآخر. وقالا: لأحدهما أن يحفظ بإذن الآخر في الوجهين. لهما أنه رضي بأمانتهما فكان لكل واحد منهما أن يسلم إلى الآخر ولا يضمنه كما فيما لا يقسم. وله أنه رضي بحفظهما ولم يرض بحفظ أحدهما كله لأن الفعل متى أضيف إلى ما يقبل الوصف بالتجزي تناول البعض دون الكل فوقع التسليم إلى الآخر من غير رضا

 

ج / 3 ص -216-       المالك فيضمن الدافع ولا يضمن القابض لأن مودع المودع عنده لا يضمن، وهذا بخلاف ما لا يقسم لأنه لما أودعهما ولا يمكنهما الاجتماع عليه آناء الليل والنهار وأمكنهما المهايأة كان المالك راضيا بدفع الكل إلى أحدهما في بعض الأحوال.
قال: "وإذا قال صاحب الوديعة للمودع لا تسلمه إلى زوجتك فسلمها إليها لا يضمن. وفي الجامع الصغير: إذا نهاه أن يدفعها إلى أحد من عياله فدفعها إلى من لا بد له منه لا يضمن" كما إذا كانت الوديعة دابة فنهاه عن الدفع إلى غلامه، وكما إذا كانت شيئا يحفظ في يد النساء فنهاه عن الدفع إلى امرأته وهو محمل الأول لأنه لا يمكن إقامة العمل مع مراعاة هذا الشرط، وإن كان مفيدا فيلغو "وإن كان له منه بد ضمن" لأن الشرط مفيد لأن من العيال من لا يؤتمن على المال وقد أمكن العمل به مع مراعاة هذا الشرط فاعتبر "وإن قال احفظها في هذا البيت فحفظها في بيت آخر من الدار لم يضمن" لأن الشرط غير مفيد، فإن البيتين في دار واحدة لا يتفاوتان في الحرز "وإن حفظها في دار أخرى ضمن" لأن الدارين يتفاوتان في الحرز فكان مفيدا فيصح التقييد، ولو كان التفاوت بين البيتين ظاهرا بأن كانت الدار التي فيها البيتان عظيمة والبيت الذي نهاه عن الحفظ فيه عورة ظاهرة صح الشرط.
قال: "ومن أودع رجلا وديعة فأودعها آخر فهلكت فله أن يضمن الأول وليس له أن يضمن الثاني، وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: له أن يضمن أيهما شاء، فإن ضمن الآخر رجع على الأول" لهما أنه قبض المال من يد ضمين فيضمنه كمودع الغاصب، وهذا لأن المالك لم يرض بأمانة غيره، فيكون الأول متعديا بالتسليم والثاني بالقبض فيخير بينهما، غير أنه إن ضمن الأول لم يرجع على الثاني لأنه ملكه بالضمان فظهر أنه أودع ملك نفسه، وإن ضمن الثاني رجع على الأول لأنه عامل له فيرجع عليه بما لحقه من العهدة، وله أنه قبض المال من يد أمين لأنه بالدفع لا يضمن ما لم يفارقه لحضور رأيه فلا تعدي منهما فإذا فارقه فقد ترك الحفظ الملتزم فيضمنه بذلك، وأما الثاني فمستمر على الحالة الأولى ولم يوجد منه صنع فلا يضمنه كالريح إذا ألقت في حجره ثوب غيره.
قال: "ومن كان في يده ألف فادعاه رجلان كل واحد منهما أنها له أودعها إياه وأبى أن يحلف لهما فالألف بينهما وعليه ألف أخرى بينهما" وشرح ذلك أن دعوى كل واحد صحيحة لاحتمالها الصدق فيستحق الحلف على المنكر بالحديث ويحلف لكل واحد منهما على الانفراد لتغاير الحقين، وبأيهما بدأ القاضي جاز لتعذر الجمع بينهما وعدم الأولوية. ولو تشاحا أقرع بينهما تطييبا لقلبهما ونفيا لتهمة الميل، ثم إن حلف لأحدهما يحلف

 

ج / 3 ص -217-       للثاني، فإن حلف فلا شيء لهما لعدم الحجة، وإن نكل أعني للثاني يقضي له لوجود الحجة، وإن نكل للأول يحلف للثاني ولا يقضي بالنكول، بخلاف ما إذا أقر لأحدهما لأن الإقرار حجة موجبة بنفسه فيقضي به.
أما النكول إنما يصير حجة عند القضاء فجاز أن يؤخره ليحلف للثاني فينكشف وجه القضاء، ولو نكل للثاني أيضا يقضي بها بينهما نصفين على ما ذكر في الكتاب لاستوائهما في الحجة كما إذا أقاما البينة ويغرم ألفا أخرى بينهما لأنه أوجب الحق لكل واحد منهما ببذله أو بإقراره وذلك حجة في حقه، وبالصرف إليهما صار قاضيا نصف حق كل واحد بنصف حق الآخر فيغرمه، فلو قضى القاضي للأول حين نكل ذكر الإمام علي البزدوي في شرح الجامع الصغير أنه يحلف للثاني وإذا نكل يقضي بها بينهما لأن القضاء للأول لا يبطل حق الثاني لأنه يقدمه إما بنفسه أو بالقرعة وكل ذلك لا يبطل حق الثاني. وذكر الخصاف أنه ينفذ قضاؤه للأول، ووضع المسألة في العبد وإنما نفذ لمصادفته محل الاجتهاد لأن من العلماء من قال يقضي للأول ولا ينتظر لكونه إقرار دلالة ثم لا يحلف للثاني ما هذا العبد لي لأن نكوله لا يفيد بعدما صار للأول، وهل يحلفه بالله ما لهذا عليك هذا العبد ولا قيمته وهو كذا وكذا ولا أقل منه. قال: ينبغي أن يحلفه عند محمد رحمه الله خلافا لأبي يوسف بناء على أن المودع إذا أقر الوديعة ودفع بالقضاء إلى غيره يضمنه عند محمد خلافا له وهذه فريعة تلك المسألة وقد وقع فيه بعض الإطناب والله أعلم بالصواب.